[align=right]
وتحقق أمل الشيعة
وبغض النظر عن تلك (الجمرة )التى ألصقها الشعراني- دون غيره بالظاهر بيبرس ظلما وعدوانا وإثباتا لنفوذ مزعوم للأولياء الصوفية فإن الترجمة التى أوردها لخضر العدوي لم تخل من بعض الصدق كقوله عن علاقة الظاهر بخضر (وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته وحادثه بأسراره ويستصحبه فى اسفاره ) فقد أشار الكثيرون إلى نفوذ خضر الواسع فى دولة الظاهر الذى كان يعتقد بعلمه بالغيب ويستشيره ويسمع له ويطيع . وحين وصل الشعرانى إلى نكبة خضر أسندها إلى (أولاد الحلال ) وتدخلهم بين السلطان وخضر .والواقع أنه مهما قال (أولاد الحلال ) فى شأن الشيخ خضر فلن يكون ذلك سببا فى إصرار السلطان على قتله إلا إذا كان خضر متآمرا على السلطان ، فتلك هى الجريمة الكبرى فى نظر بيبرس والتى لا يعدلها إلا اعتقاده فى خضر ومعرفته بالغيب إلى درجة أنه أوسع لنفوذه فى الظهور فى دولته ،وهكذا عدل الظاهر بيبرس عن تصميمه على قتل خضر حين هدده الأخير بعلم الكشف أو الغيب أنهما متقاربان فى وقت الوفاة ..فكان أن اعتقله مكرماً إلى أن مات ،وتخلص خضر بهذه الحيلة وكان لابد أن ينجو بها . وجدير بالذكر أن النويري [23]أسهب فى الحديث عن انحرافات الشيخ خضر الخلقية مع النساء والصبيان وجعل منها سببا سياسيا فى نكبته ،وأشار إلى ذلك ابن كثير بايجاز[24]،ولعل الشيخ خضر وقد بلغ حينئذ من الكبر عتيا كان يموه بعلاقاته تلك عن حقيقته كداعية سرى فى مركز خطير بدليل أنه لم يدفع عن نفسه هذا الاتهام الذى جاء فى أخريات حياته ،وتلك عادة الشيعة المتصوفة كما رأينا مع الرفاعي ونسج القصة المنسوبة للبدوي مع فاطمة بنت بري ومع أبى العباس الملثم . وما كان للظاهر بيبرس أن يعول على هذا الاتهام ويجعل منه سببا لقتل شيخه العجوز الذى يعتقد ولايته واطلاعه على غيب الله فالسبب الحقيقى هام وخطير يتعلق بالسياسة والتآمر ، خاصة وأن المؤرخين اللاحقين للنويرى تجاهلوا هذا الاتهام بل أن النويرى نفسه ذكر أن من اتهم خضر العدوى بتلك التهم كانوا الأمراء القريبين من الظاهر بيبرس ولم يخل اتهامهم من محاولات التلفيق وقد استند إلى ماضى خضر أكثر من حاضره . والواقع أن ماضى خضر الخلقى لم يكن نظيفا ، إلا أن بعثه من مرقده فجأة ومحاسبته به حين اشتعل رأسه شيبا ليعد دليلا على محاولة متعمدة للتغطية على شئ أخطر ،ولما كان خضر لا يمانع فى هذه التغطية أيضا فقد شارك فيها بعدم الدفاع عن حاضره حرصا على بقاء الدعوة الشيعية وخوفا أن تمتد أصابع بيبرس لتصل إلى عنق البدوي فى طنطا وأتباعه فى الشام والحجاز.
لقد كان الظاهر بيبرس يعتقد فى التصوف اعتقاداً زائدا ولم تؤثر نكبة خضر فى هذا الاعتقاد بشئ ..وإذا عرفنا أن الظاهر بيبرس ظل من سنة659 إلى 671 يسمع لخضر العدوي ويطيع ، ويستشيره ويستصحبه فى أسفاره لأدركنا أن محاولات بيبرس الخفية لكشف غموض البدوى ودعوته ذهب هباءاً .. حتى إذا حدثت نكبة خضر وانحصرت فيه وحده كان بيبرس قد تيقن تماماً كما أرادوا له من أن البدوي مجرد صوفي مجذوب ..وكان البدوي من ناحيته قد أيقن ان آماله مستحيلة فى وجود حاكم شديد التحرز والدهاء كالظاهر بيبرس كثير الشكوك والارتياب ، ميال للعنف والانتقام وبعد ذلك كله فهو شديد الاعتقاد فى التصوف ،إذن فتظل راية التصوف مرفوعة ولتتجمد الحركة السرية إلى حين .
وهذا ما حدث وموعدنا الان مع تفصيل لذلك

الظاهر بيبرس والبدوي :
فى أعقاب حركة الكوراني الفاشلة جاءت الأنباء للظاهر بيبرس باكتشاف شيخ صوفي مجهول فى طنطا تحيطه الأساطير والألغاز ومع تستره وغموضه فأتباعه منتشرون فيما بين القاهرة والاسكندرية والدلتا ، ولا شك أن ذلك الاكتشاف لم يأت دفعة واحدة فجائية ، ولم يتعرف أعوان الظاهر بيبرس على أتباع البدوي الموزعين فى الأمصار من أول نظرة ..وإنما تم ذلك على دفعات ومراحل يمكن أن نرصدها من محاولات بيبرس المتصاعدة لكشف هذا اللغز . وقد بدأت الأخبار ترد عن البدوي كداعية صوفى مجهول فى طنطا ..ولتخوف بيبرس من هذا الصنف فإنه أولا كلف القاضي تقى الدين بن دقيق العيد بأن يتحرى أمر البدوي ، ولما كانت السلطات لا تعرف الصلة بين البدوي والدريني فقد عهد ابن دقيق العيد للدريني بالذهاب للبدوي والكشف عن حاله ....ومن الطبيعي أن يرتب عبد العزيز الدريني الأمر مع البدوي ليقتنع ابن دقيق العيد ببراءة موقف البدوي ..
وقد رددت المصادر الصوفية تكليف الدريني من لدن ابن دقيق العيد بتحرى أمر البدوي فقالت (أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أرسل إلى سيدى عبد العزيز الدريني وقال له امتحن هذا الرجل الذى اشتغل الناس بأمره ).أو ( أن الشيخ تقى الدين قاضي القضاة لما سمع بسيدي أحمد البدوي واشتهر أمره أرسل اليه سيدي عبد العزيز الدريني ليخبره عن حاله ) ،أو أن قاضى القضاة ابن دقيق العيد ( كان ينكر على الشيخ أحمد البدوي فأرسل كتابا إلى الشيخ عبد العزيز الدريني يقول له .توجه إلى الشيخ أحمد البدوي واسأله عن العلم فإن أجابك فأساله الدعاء وعرفني بجميع أحواله فتوجه الشيخ عبد العزيز إلى ناحية طندتا وكان المتولي بها القاضي علاء الدين ،فلما وصلآ الشيخ إلى طندتا قصد القاضى علاء الدين وأعلمه بأن قاضى القضاة أرسل كتابا يسمى كتاب الشجرة وفيه أحاديث وفقه وأضمر فى نفسه أن الشيخ احمد البدوي إن قرأ هذا الكتاب وأخبر بما فيه فأنا أعتقده وأرد الجواب عنه إلى قاضي القضاة فقيل له : هو فى بيت الشيخ ركين مقيم على سطح البيت فتمشى الشيخ عبد العزيز حتى وصل إلى بيت الشيخ ركين واستأذن الشيخ عبد العال فأذن له فسلم على الشيخ فرد عليه السلام وقال يا عبد العزيز من وصل إلى مقام التسليم فاز برياض النعيم جئت تسأل عن العلم وفى كمك كتاب الشجرة ..إلخ[25])
ومع أن المصادر الصوفية تتجاهل الصلة المعروفة بين الدريني تلميذ أبى الفتح الواسطي والبدوي خليفة أبى الفتح الواسطى ومع أنها حوّلت الموضوع إلى اختبار لعلم البدوي بالغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وأنهم جعلوا من البدوي فائزا فى هذا الاختبار .. مع ذلك كله فإن رائحة الأتفاق المسبق بين البدوي والدريني تبدو من خلال السطور وتنبئ عن أن ذلك اللقاء الذى تم بحضور القاضي المحلى كان مرتبا معدا له من قبل ليخدع قاضى القضاة ابن دقيق العيد وممثله علاء الدين فى الناحية ،واقتنع ابن دقيق العيد مؤقتا . ولكن الظاهر بيبرس كثير الشكوك لم يقتنع فقد جاءته أخبار عن أتباع آخرين للبدوي فكلف ابن دقيق العيد بأن يذهب بنفسه لاختبار البدوي ..وكان البدوي مستعدا للقائه ، وتم اللقاء وخرج منه ابن دقيق العيد وقد سلم للبدوي بحاله .
وتختلف المصادر فى إظهار الصورة التى قابل بها البدوي ابن دقيق العيد ، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (نزح ابن دقيق العيد إلى طندتا ،واجتمع بالسيد البدوي فوجده رجلاً عالماً فاضلاً ولم يجد لما نقل إليهم عنه من الضلالات أثراً ولم يشم رائحة الدعوة السياسية لأن البدوى وصحبه كانوا أهل حذق ومهارة وحيطة فعاد ابن دقيق العيد إلى الملك مثنيا على الرجل وكانت هذه الزيارة من أكبر أسباب ترويج الدعوة الأحمدية البدوية[26]) أى أن البدوي ظهر له بمظهر العالم الورع .
ولكن كتب المناقب تظهر صورة أخرى للبدوي ، صورة المجذوب تارك الصلاة ، يقول عبد الصمد عن كرامات البدوي (ومما وقع لسيدي أحمد البدوي من الكرامات أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وكان قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله فنزل إليه واجتمع به بناحية طندتا وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور فإنه مخالف للشرع الشريف فإنك لا تصلي ولا تحضر الجماعة وما هذه طريقة الصالحين [27]) .
وقد يبدو هناك تناقض بين الصورتين ،صورة العالم وصورة المجذوب . وقد يدفع هذا التناقض البعض لتصديق رواية دون أخرى، ولكننا نرى أن الصورتين معا تعبران عن شخص واحد بالغ الدهاء ، فهو مجذوب حين يريد وعالم صوفي حين يرغب فى ذلك ، وقد ظهر بالصورتين معا للفقيه المسكين ابن دقيق العيد فسلّم له بحاله حين يكون عالماً وحين تأخذه الجذبة فينقلب إلى النقيض تماما ، وترك البدوى ابن دقيق العيد وقد انشغل عن القضية الأساسية وهى الشكوك فى الدعوة السرية إلى محاولة الحكم على البدوي وشخصيته المتناقضة بين العلم والجذب ، وبينما أثنى على علمه وحديثه عاتبه برفق على جذبته وتركه الصلاة .وعلى الرغم من أن تقى الدين كان قاضيا للقضاة ومنتظرا منه كفقيه ألا يسامح فى ترك الصلاة فإنه ترفق بحال البدوي وجذبته المزعومة فلم يشتد فى الإنكار عليه فى هذه التهمة الخطيرة التى كان شاهدها الأول.ومعنى ذلك أن البدوي قد نجح تماماً مع ابن دقيق العيد فقد جذب انتباهه إلى قضية جديدة لم تكن تدور فى خلده وترك البدوي وقد اقتنع تماماً بسلامة موقفه من الناحية السياسية السرية .
والواقع أن اختيار تقى الدين ابن دقيق العيد بالذات لفحص حالة البدوى كان بمشورة خضر العدوى مستشار الظاهر بيبرس وأمينه على أسراره ، وقد كان اختياراً موفقاً من جميع النواحى ، فلابن دقيق العيد جهد سابق فى حرب الشيعة بالصعيد ومن هذه الناحيه فترشيحه للظاهر بيبرس لاغبار عليه إطلاقاً ..ومن الناحية الأخرى كان ابن دقيق العيد من الفقهاء الميالين للتصوف المؤمنين برجاله ومن هنا يمكن خداعه والتمويه عليه وخداع الظاهر بيبرس من خلاله، وكانت لإبن دقيق العيد صلات بالصوفية المتورطين فى الدعوة الشيعية بدليل أنه لجأ أولا للدريني جاهلاً بالصلة بينه وبين البدوى.
وقد أوسع له الصوفية اللاحقون مكانا فى التراجم الصوفية وعدوه من ضمن الصوفية لارتباطه بقصة البدوي وعلاقته بالدريني .
والجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت كان المقدم من بين القضاة هو تاج الدين ابن بنت الأعز ، وكان منتظرا أن يقوم بالمهمة دون ابن دقيق العيد الذى انحسرت عنه الأضواء لولا أن خضر العدوى كان فى عداء مستمر مع ابن بنت الأعز كما تدل على ذلك المراسلات بينهما [28].
ومع ذلك فإن بعثة ابن دقيق لم تفلح فى إزالة الشكوك عند بيبرس ،تلك الشكوك التى أكدتها اكتشافات متتالية عن أتباع للبدوي منتشرين فى الأسكندرية وطنطا والقاهرة وما حولها ، ولكى يقطع بيبرس الشك باليقين عزم على التحقق من الأمر بنفسه وبطريقة التخفى أو التنكر التى اشتهر بها .وبدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على الأسكندرية مهبط أبى الفتح الواسطى ومدرسته والشاذلى وصديقه عز الدين بن عبد السلام ،وحيث أعدم حصن الدين والسرسناوى ،وفى 661 زار الأسكندرية(فأصلح من شأنها وعامل أهلها بلطف ) وهى نفس السياسة التى سار عليها مع القاهرة فى أعقاب حركة الكوراني ..ولم يكن إصلاح الحال فى الاسكندرية هو الهدف الوحيد للظاهر بيبرس فقد قابل الصوفي أبا القاسم القباري ثم مضى لزيارة الشيخالشاطبي وعين لدنه قاضياً للثغر وصف بالتصوف والزهد [29]. والملاحظ أن الشاطبي والقباري لم ينتميا إلى مدرسة التشيع الصوفي المستتر ، والمنتظر أن بيبرس فى لقائه الغامض بهما قد حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفى فى الأسكندرية وما حولها وسمع الشئ الكثير عن البدوى فعزم على التوجه إليه بنفسه سرا.
ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 662(وفيه سار السلطان إلى أوسيم ومضى إلى الغربية فصار يسير منفردا فى خفية ويسأل عن والى الغربية الأمير ابن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه فذكرت عنه سيرة سيئة فقبض عليه وأدبه وأقام غيره ...)[30]. أى أن بيبرس خص منطقة الغربية حيث البدوى وطنطا بزيارته متخفيا وتصرف بحزم مع واليها وعزله وأقام واليا جديدا ينفذ السياسة الجديدة التى ارتآها فى رحلته السرية ..
ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 663 أن السلطان طاف بالقاهرة متنكرا ليعرف أحوال الناس[31]. ثم يذكر المقريزى ما يفيد أن الظاهر بيبرس مر على البدوى فى السنة التالية سنة 664 عند ما خرج إلى الإسكندرية لمباشرة حفر خليجها[32]. فمن المحتمل ألا يكون حفر الخليج هو السبب الأهم فى حضور بيبرس بنفسه مع كثرة مشاغله وأسفاره وأن يكون مجرد ساتر لغرض أهم ، خاصة وأنه عاد للقاهرة عن طريق أبيار (وطنطا تقع على الطريق بين أبيار والقاهرة )[33].
وإذا كان المؤرخون المعاصرون لم يذكروا عن رحلات بيبرس السابقة إلا للغرض المعلن فقط فلم يكن منتظرا منهم أكثر من ذلك وهم يؤرخون لسلطان داهية بارع فى التخفى والتنكر والتعمية ،ثم إن طنطا فى ذلك العهد ورجلها القائم فيها لم يستحوذا بعد على أى انتباه للمؤرخين المشغوفين بالمدن الكبرى والرجال الظاهرين من الأمراء والقضاه ومشاهير الصوفية والعلماء. ولذلك اكتفوا بتعليل سفره إلى طنطا بأنه لمعاقبة أمير الغربية ،وعودته إلى الأسكندرية بأنه لمباشرة حفر خليجها وهو ما يعلنه السلطان الداهية..
ويذكر الشعراني أن الظاهر بيبرس اجتمع بالبدوي يقول(وكان الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات يعتقد فى سيدي أحمد اعتقاداً عظيما وكان ينزل إلى زيارته [34])، ومن المرجح أن يكون ذلك قد تم أثناء مروره على طنطا متخفياً وانتشر ذلك وردده المريدون الأحمدية حتى وجد طريقه لكتاب الشعراني .
ومع الأسف فان كتب المناقب وطبقات الشعراني إحداها لم تسعفنا بأخبار تلك المقابلة على الرغم من أنها المصدر الوحيد وكنا نأمل أن نعرف بأي صورة تبدى البدوي بها للظاهر بيبرس.
ولكننا نكتفي بالقول بأن الظاهر بيبرس لم يقتنع تماما ولم تهدأ شكوكه إذ يبدو أن مصادره السرية أوضحت له أن مكة هي النقطة الأساسية للدعوة ومنها أتى البدوي مبعوثا ، وربما أتت للظاهر بعض المعلومات عن التحركات الشيعية الصوفية في الشام حيث كان يقيم عز الدين الصياد، والظاهر بيبرس كان كما نعرف طوافا بين الشام وحلب والحجاز ومصر، ومع أن رحلاته للحجاز كانت شيئا عاديا لا يثير الريبة لأنها تابعة له ، إلا أنه في سنه 667 قام بزيارة سرية مفاجئة لمكة أعد لها إعداد خاصا، ونصطحب المقريزي ليحدثنا عن هذه الرحلة فيقول عن بيبرس وكان في الشام وقتها: ( وصل للسلطان عيسى بن مهنا فأوهمه السلطان أنه يريد الحركة للعراق ،وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز ثم تحرك بهم للكرك كأنه يتصيد ولم يخبر أحد أن يتحدث بأنه متوجه للحجاز وذلك لأن الأمير جمال الدين بن الداية الحاجب كتب للسلطان (إني أشتهي أن أتوجه في صحبة السلطان الى الحجاز) فأمر بقطع لسانه فما تفوه أحد بعدها بذلك، ووصل إلى الكرك (ألأردن ) وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره ووصل إلى المدينة المنورة ورحل منها فدخل مكة وأعطى خواصه من المال ليفرقوها سرا وفرق كساوى على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس لايحجبه أحد،وهو منفرد ،وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين وأحسن إلى أميري مكة وينبع وقضى مناسك الحج ثم عاد للكرك ولم يعلم أحد بوصوله)[35].
ومن الحمق أن يقال أن الحج كان السبب الوحيد الذى حمل بيبرس على كل هذا التخفى والتحرز إلى درجة أنه يقطع لسان حاجبه حين صرح برغبته فى أن يصحب السلطان فى تلك الرحلة السرية ،والمعقول أن تخفيه فى هذه الرحلة لسبب يتصل بقضية تشغل باله حين زار الأسكندرية ثم الغربية متخفيا. فأسلوبه واحد فى تلك الرحلات .الإحسان للعامة ومقابلة الصالحين والأهتمام بأمر الحكام المحليين ، ثم الغموض الزائد والتعمية عن كل تلك المقابلات بالحج أو حفر الخليح أو تتبع حاكم ظالم وعزله .
وقد ورد فى كتاب المناقب أن الظاهر بيبرس ورد مكة متخفيا فقابل شقيق البدوى ، يروى عنه عبد الصمد (فبينما نتحدث وإذا برجل راكب على هجين وهو متنكر فى زى بدوى وهو ملثم فقلت للعبيد : على بهذا الرجل الراكب على الهجين فجاءوا به فسلمت عليه وقلت له فى أذنه .أهلا وسهلآومرحبا بالملك الظاهر بيبرس فكاشفته بأمارات مخفية بينى وبينه فتبسم ضاحكا وقال : نعم أنا الملك الظاهر بيبرس[36]) وقد أورد عبد الصمد هذا النص بعد حديثه عن الحسن وهو يتتبع أخبار شقيقه البدوي فى مصر . ويبدو أن الظاهر بيبرس تحقق فى هذه الرحلة السرية من صدق تصوف البدوي وتيقن من أنه لا يخفي هدفاً سياسياً سرياً فكتب المناقب تفيض بما ينم عن اعتقاد الظاهر بيبرس فى البدوي وأخيه الحسن إلى درجة الحفاوة والكرم المتبادل بينهما.
آ آ لقد استغل الشيعة المتصوفة نقطة الضعف عند الظاهر بيبرس ألا وهى اعتقاده فى التصوف ورجاله فظهروا له بالوجه الصوفي وتوقفوا عن دعوتهم السرية خوفا من جواسيسه ودهائه وعقابه.آ آ وقد سبقت لهم الأمثلة فى الكوراني وحصن الدين والسرسناوي ،ثم زاد الأمر حين اكتشف بيبرس أن شيخه خضر ليس بالمخلص له وكانت نكبته سنة 671 وكانت أيضا النهاية لأحلام البدوي وشركائه .

[1]السلوك 1/540 ، 565
[2]السلوك 1/540 ، 565
[3])نفس المرجع السابق 1 / 567 : 574
[4] السلوك 1/ 583 ، 584
[5]السلوك 1/ 583 ، 584
[6]نفس المرجع السابق 637/1
[7]السلوك 1/442 ،452
[8]الكتبى :عيون التواريخ : مخطوط مصور 2/256 :257آ
[9]السلوك 1/440،420
[10]السلوك 1/440
[11]ابن حجر الهيثمى .تاريخ الخلفاء مخطوطورقه126ب
[12]النويرى .نهاية الأرب .مخطوط 38/28
[13]الكتبى.عيون من التاريخ 256/2 مخطوط
[14]السلوك 1/420
[15]) ابن حجر .رفع الاصر 351 ،352 ،اليافعى مرآه الجنان 1/153 :154
[16]السلوك 1/416
[17]) الطبقات الكبرى 1/15.
[18])مجلة السياسة 11
[19]الطبقات الكبرى للشعرانى1/140،2/3
[20])المختصر فى أخبار البشر 3/200
[21]حسن المحاضرة 1/521. تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم
[22]الطبقات الكبرى 2/2
[23]نهاية الأرب مخطوط 28/42:41 119 :120
[24]تاريخ ابن كثير 13/2">[30]نفس المرجع 1/505
[31]نفس المرجع 1540
[32]نفس المرجع 1543
[33]نور الدين .البدوى100
[34]) الطبقات الكبرى 1160
[35]السلوك 1580: 582
[36]الجواهر السنية 61
[/align]