بحث منشور في مجلة "مركز بحوث ودراسات المدينة"، العدد (35)، أكتوبر- ديسمبر 2010م)للمؤرخ الأستاذ : فائز بن موسى البدراني الحربي
تعريف بمنطقة الدراسة:
تقع منطقة وادي الفـُرْع على خط عرض 23 درجة، وطول 39 درجة(1)، إلى الجنوب من المدينة المنورة على بعد حوالي 130 كيلاً تقريباً على يمين طريق الهجرة وهو الطريق السريع بين مكة والمدينة للمتجه إلى مكة، واسمه القديم الفُرْع بدون كلمة (وادي)، ومن المتقدمين من ضبطه بضم الفاء وإسكان الراء (الـفُـرْع)، ومنهم من ضبطه بضمتين (الفُـرُع)، وينطق الآن (الفُرَع)، والكلمة على تنوعها اللفظي السابق تعني: جمع فَرْع، والمراد: فروع الأودية(2).
وصفها ياقوت الحموي بأنها: قرية من نواحي المدينة عن يسار السُّـقْـيـَا(3) بينها وبين المدينة ثمانية بُـرُد(4)، وأنها قرية غَـنـَّاء كبيرة. كما ذكر أيضاً أن فيها عدة قرى ومنابر ومساجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها أول قرية مارَت(5) إسماعيل وأمه التمر بمكة. كما ذكر أن فيها عينين يقال لهما الرَّبـْض والنـَّجـْف تسقيان عشرين ألف نخلة(6).
والذي يظهر أن المقصود هنا قرية أبو ضُبَاع، فهي التي ينطبق عليها هذا الوصف، وهي في أسفل وادي الفرع من جهته الغربية.
ووصفها البكـري بأنها مـن أشـرف ولايـات المـدينـة، وأن فيهـا مساجـد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزلها مراراً، وأقطع فيها لغِـفـَار(7) وأَسـْلـَم(8) قطائع، وأن صاحبها يَـجْـبـي اثنـي عشر منبراً، منها منبر بالفُـرْع، ومنبر بـمَضِيقهـا، على أربعة فراسخ منها، ويعرف بـمضيـق الفرع(9 ).
وقد سـمَّـى العينيـن "أبو الـرُّبـَْض والـنـَّجـَـفَـة" وذكر أنهما تسقيان أكثر من عشرين ألف نخلة، وأن عروة بن الزبير مات بها سنة 94هـ، وقال أيضاً: "وروى الزبير عن رجاله أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت لابنها عبدالله: يا بني اعمر الفرع. قال: نعم يا أمـَّـه قد عمرته، واتخذت به أموالاً". فعمل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه بالفرع عين الفارعة والسنام، وعمل عروة أخوه عين النهد(10) وعين عسكر، واعتمل حمزة بن عبدالله عين الـرُّبـْض والـنـَّجـَـفـَـة(11).
ونقل ياقوت الحموي عن أبي زيد البلخي وهو يتكلم عن وَدّان قوله: "وبها كان أيام مقامي بالحجاز رئيس للجعفريين ـ أعني جعفر بن أبي طالب ـ ولهم بالفرع والسائرة ضياع كثيرة، وبينهم وبين الـحُسَينيين حروب ودماء حتى استولى طائفة من اليمن يعرفون ببني حرب على ضياعهم ...إلخ"(12).
وذكر السمهودي: أن عين أم العِيَال تسقي أزيد من عشرين ألف نخلـة، وأنها صدقـة فاطمـة الزهراء وأن عليها قرية، وقال – أيضـاً – : "والعمـق وادٍ يصب في الفرع ويسمى عَمْقيـن، لبعض ولـد الحسين بن علي، وقيل هو عين بوادي الفرع"(13).
وروى السمهودي أيضاً: أن بالفُرْع ثلاثة مساجد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل الأكمة بالفُرْع فَقَالَ(14) في مسجدها الأعلى ونام فيه، ثم راح فصلى في المسجد الأسفل من الأكمة. وأن عبدالله بن عمر كان ينزل في المسجد الأعلى. وأورد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد بالبـرُود من مضيق الفرع وصلى فيه(15).
وتمتد منطقة وادي الفرع على امتداد الوادي الرئيس من الشرق إلى الغرب بطول 70 كيلاً تقريباً، وفيها عدد من القرى والتجمعات السكنية والزراعية، من أهمها: الريان، والسِّدْر ومسيطح، وشدَخ، والفَقِير، والمضيق، واليَسِيرة، وأم العيال، وأبو ضبـَاع، والحديقة، والملبنة، والبَـحْـرَة(16).
وتعد قرية الفقِير – في هذا العصر – المركز الـرئيس لمنطقة وادي الفرع، إذ توجد فيه أهم الدوائر الحكومية، مثل مركز الإمارة التابع لإمـارة منطقـة المدينـة المنـورة، والمحكمة الشرعية، والبلدية، والمستشفى الحكومي، فضلاً عما فيها من الدوائر الحكومية الأخرى، ومدارس التعليم العام(17).
السـكــان:
تتسم منطقة الحجاز عامة، ومنطقة البحث خاصة بسمتين رئيستين، الأولى: أنها بلاد جبلية ذات أودية وعيون مائية تجعلها صالحة للاستقرار والزراعة وبناء التجمعات السكانية، كما هو الحال في خيبر والعلا وينبع وبدر والصفراء والفرع وما شابهها(18). والثانية: وقوعها على طرق الحج الرئيسة، وعلى طرق التجارة من وإلى البلدتين المقدستين.
ولهذا فإن التكوين السكاني في وادي الفرع لا يختلف كثيراً عن المناطق الجبلية في غرب الجزيرة العربية وجنوبها؛ إذ يمثل العنصر القبلي القسم الأكبر من السكان، يليه الأسر المتحضرة، سواء ذات الأصول العربية، أو الوافدة من آسيا وأفريقيا من غير أهل البلاد الأصليين(19).
ومع غلبة التكوين القبلي لسكان المنطقة، وأهمية دور القبيلة، وبروز الانتماء القبلي في الحياة السياسية والاجتماعية؛ إلاّ أن قسماً كبيراً من تلك القبائل كانت تعيش حياة أقرب إلى الاستقرار والتحضر في القرى والخيوف المتناثرة حول العيون المائية في مضايق الأودية وعلى سفوح الجبال، وتملك الأرض وتزاول مهنة الزراعة، ويسكن كثير من أبنائها في مساكن مبنية من الحجر أو الطين، ولم يكن يعكر صفو ذلك الاستقرار إلاّ الحروب القبلية والحملات العسكرية التي تشنها أطراف أخرى، تبعاً للصراعات السياسية المحيطة بالمنطقة.
أما بادية الحجاز الممثلة في من يعيشون الحياة البدوية، وتقوم حياتهم المعيشية على تربية المواشي ورعيها؛ فإنهم يتجولون في مساحة ضيقة لا تتجاوز – غالباً – حدود ديار القبيلة الأم(20). وهذا بخلاف القبائل النجدية التي تتميز حياتها بسكنى الخيام، وبالتنقل والترحال في الصحراء والقفار في مسافات متباعدة(21).
ويتألف سكان بادية الحجاز بشكل عام من القبائل العربية الحجازية التي عرفت في منطقة المدينة المنورة منذ العهد الجاهلي مثل الأوس والخزرج، وجهينة، ومزينة، وسُلـََيْم، وأسلم، وغفار، وغطفان، وغيرها(22)، أو من القبائل التي ظهرت في الحجاز، أو التي انتقلت إليه من مناطق أخرى، واشتهرت فيه بعد العهد النبوي بأسماء جديدة مثل الأشراف العلويين وقبائل حرب، ومطير، والظفير، وعتيبة، وغيرهما(23).
وتتكون القبيلة من تجمع بشري يرتبط أفراده بعلاقة نسب وقرابة، ويشكلون كياناً اجتماعياً يشترك أبناؤه في المصير والأهداف، ويتحِدُون في انتمائهم للقبيلة على حساب الانتماء السياسي للدولة، ويعيشون عادة في محيط جغرافي واحد، ولا يمنع ذلك من أن تكون القبيلة في أكثر من منطقة ولكن مع الاحتفاظ بولائها ونجدتها لبعضها البعض عند الحاجة(24).
وكان للأشراف الحسينيين والجعفريين تواجد قديم في وادي الفرع ربما تعود بدايته إلى العهد النبوي عندما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم بعض الإقطاعات لأناس من بني هاشم في خيف أبي ضباع المعروف إلى هذا الوقت، كما سبقت الإشارة إليه عند التعريف بوادي الفرع. وقد أشار المؤرخ أبو زيد البلخي إلى تملك الجعفريين ـ بني جعفر بن أبي طالب ـ ضياعاً كثيرة في الفرع والسائرة(25). وقد بقيت أسر من آل جعفر وآل حسين الأشراف في السكن والتملك في قرى وادي الفرع وخيوفه إلى عهد قريب، مثل آل راضي والخواطرة وآل عَمِيـْرة، وغيرهم(26).
وحرب قبيلة عربية كبيرة تعود أصولها إلى قبيلة خولان القحطانية اليمانية، هاجرت من بلاد صعدة في شمالي اليمن، واستقرت في المنطقة الواقعة بين الحرمين الشريفين في أواخر القرن الثاني الهجري على المشهور من أقوال النسابين(27)، ولم يأت القرن الرابع إلاّ وهي تسيطر على طرق الحج بين مكة والمدينة، إذ ذكر الهمداني (ت 360هـ تقريباً) أنه لا يسير أحد بين الحرمين الشريفين إلاّ بذمام من حرب(28).
ولعـل مما ساعد على تمكين قبيلة حرب من النزول في المناطق المحيطة بالمدينة المنورة، ومزاحمة القبائل القديمة فيها هو أن القبائل ذات الشوكة في العهد النبوي قد خرج معظمها من الحجاز مع جحافل الجهاد التي خرجت إلى الأمصار شرقاً وغرباً وشمالاً للمشاركة في حروب الفتوحات الإسلامية، وكذلك مصاهرة شيوخ هذه القبيلة للأشراف الحسنيين في المدينة المنورة، مما مكنهم من التغلغل ومزاحمـة القبائل الأخرى(29). وقد أشار ابن فضل الله العمـري (ت 749هـ) إلى قوة حرب في القرن السابع الهجري فقال: "وهم من أكثر العرب عدداً وأجراهم رجلاً باطشة ويداً، ومساكنهم الحجاز"(30). ويصفهم عبدالسلام الدرعي في رحلته إلى الأماكن المقدسة عام 1196هـ، بما يفيد أنهم أقوى قبائل الحجاز، وأن عددهم يقدر بمئة ألف(31).
ولا يوجد إحصاء دقيق لعدد أفراد قبيلة حرب خلال مدة هذا البحث، وإن كان الكثير من المؤرخين والرحالة يرى أنهم من أكبر قبائل العرب، وقدرهم الريكي بأربعين ألفاً، وذكر صبري باشا أنهم يبلغون خمسة وثمانين ألف نسمة على أقل تقدير(32).
أما بيرتون فقد أورد معلومات جيدة عن فروع حرب، مع ذكر أعداد بعض فروعهم في منطقة المدينة المنورة، فذكر أن جماعة ابن ربيق أهل وادي الفرع (10.000) نسمة.
وتنقسم حرب إلى جذمين رئيسين هما: بنو سالم، ومسروح، ويتفرع كل منهما إلى فروع كثيرة لا يتسع المجال لاستقصائها، ولعله من المهم هنا معرفة الفروع التي تدخل في التكوين السكاني لمنطقة البحث وهي وادي الفرع، إذ تكاد قبيلة بني عمرو المسروحية أن تنفرد بملكيته وسكناه، ويمكن ذكر أهم الفروع ومواقعهم باختصار، وذلك على النحو التالي:
- العطور: وهم جماعة الشيخ ابن رُبَيـْق العِطـْـري، وقد انتقلت إليه مشيخة بني عمرو أهل وادي الفرع في مطلع القرن الثالث عشر الهجري(33)، بعد أن كانت قبل ذلك في أسرة الشيخ ابن زيادة البلادي(34). والعطور تضم أفخاذاً عديدة يصعب حصرها، من أشهرها: الرَبَقة، والمشاعلة، وذوو شعَيْل، والبصايصة، والسمَان، والرزون، والفواويز، والشعافين، والحناحنة، والأشِدّة، والطرسان، والمواعزة، والخضران، والحوامضة ومنهم: العفشة، والجرابعة، والعروم، والضباعين، والقبيِّلات (ومنهم: الهماهمة والشمالين والمدنـّة والكراشمة والهواملة)، وغيرهم(35). وتقع أملاك العطور في مضيق وادي الفرع، وفي بعض خيوفه الأخرى مثل: خيف الريان، وخيف السدر، والفقير، وغيرها.
- أولاد عبدالله، وهم أربعة أفخاذ كبيرة: البدارين، وبنو جابر، والعياضات، والمعامرة، وتقع أملاكهم أيضاً في مضيق الفرع، وفي السدر، ومسيطح، والشفية، وغيرها(36).
- الخيارية: وهم الـروثان، والسـرارنـة، والشعَـب، والمحاميـد، وتقـع أمـلاكهم – أيضاً – في المضيق، والفقير، والسدر، وما حولها(37).
- مناش: والنسبة إليهم: مناشي، وهم البطن الثالث من بني محمود، وتنقسم قبيلة مناش في الأساس إلى: (الضَّـبَـعَـة) واحدهم: ضُـبَـيـْعِـي ومنهم: الفايزي والحاسري والخليفي والمسيحلي، و(الفُـضَـلَـة) واحدهم: فُـضَـيـْلي ومنهم: المريبطي، والمسهري، والعفيفي(38). وتقع غالبية أملاكهم في مضيق وادي الفرع، واليسيرة، والفقير، وما حولها.
- البلادية: والنسبة إليهم بلاَدي، قبيلة قديمة من بني عمرو من مسروح، قاعدتهم قرية أم العيال بوادي الفرع، ومنهم: الروقة، والسمنات، والشمسة، والزيادات، والعرادات، وذوو غنيم، والفضول، والخفارية، والحرجة، والكوامل، والرزوق، والدروع، وغيرهم. ومعظم أملاكهم القديمة في خيف أم العيال أحد أهم وأكبر قرى وادي الفرع(39).
- الشيوخ: في قرية أم العيال، وينقسمون إلى الشيوخ آل فروة ومنهم: ذوو عبدالله، وذوو عواد، وذوو عبدالحسن، وذوو عبدالنبي، وغيرهم. ثم الشيوخ الهواشم، ومنهم: ذوو طلحة(40).
- الجهوم: وديـارهم في أسافـل وادي الفـرع، في أبو ضباع والبَعِيـْث والقاحـة، وما حولها، ومن أشهر فروعهم: البغالية (بغولي أو بغلي)، والثميرات (ثميري)، والجراجرة (جراري)، والحمران (حمراني)، والجعافرة (جعفري)، والعبـَدَة (عُبـَيـْدي)، والعلالسة (عَلاَّسي)، والفوايد (فايدي)، والموالك (مالكي)، وغيرهم(41).
كما عرفت أودية وأرياف منطقة المدينة المنورة بأنها منطقة جذب للسكان الوافدين من غير أهلها، مما جعلها تحتضن أجناساً أخرى من الأسر المتحضرة من غير القبائل السابق ذكرها، ويمكن إرجاع ذلك إلى عوامل من أهمها: وقوعها على طرق الحج، مما أدى إلى الاتصال بين أهلها والحجاج من مختلف البلدان والجنسيات الإسلامية الأخرى، فاختار بعض المارين عبر تلك الأودية الإقامة والسكنى في تلك المناطق لقربها من الحرمين الشريفين، وزاولوا العمل في الزراعة بالأجرة، أو التجارة مع الحجاج والقوافل التجارية وفي الأسواق المحلية(42). ومن ذلك أيضاً: خصوبتها وصلاحيتها للزراعة، إذ تتميز تلك المناطق بكثرة عيونها وينابيعها، مما جعلها مناطق قابلة للزراعة؛ خاصة زراعة النخيل والحبوب والفواكه(43). ولهذا فقد استقر كثير من الأسر القادمة من داخل الجزيرة أو خارجها وزاولوا التجارة وامتلاك الأرض وزراعتها. وأخيراً؛ فإن حصانة موقع تلك الأودية والقرى الجبلية الوعرة وبعدها عن المدن الرئيسة التي تسيطر عليها الدولة سيطرة كاملة، قد جعلها ملاذاً آمناً للمناهضين للسلطة، أو المطلوبين للسلطان أو لغيره من الخصوم(44)، في زمن كان يعج بالخلافات والملاحقات السياسية أو الثارات الشخصية.
وقد كان لتلك الأسر دور اجتماعي بارز تمثل في مشاركة السكان الأصليين في الحياة العامة، كما برز من تلك الأسر علماء مارسوا الكتابة والقضاء وإمامة المساجد.
lghlp hgH,qhu hgh[jlhudm td ,h]d hgtvu oghg hgkwt hgH,g lk hgrvk 13iJ
مواقع النشر (المفضلة)