بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد واله وصحبه ومن تبعه باحسان الى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا:
ومن مآثر العرب في الوفاء ما جاء في قصة النعمان بن المنذر؛ حيث كان قد جَعَل له يومين؛ يوم بؤسٍ من صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيمٍ مَن لقيه فيه أحسن إليه وأغناه .



وذات يوم خرج النعمان للصيد على فرسه، وقد انفرد عن أصحابه فأمطرت عليه السماء؛ وحال ذلك بينه وبين العودة إلى رفاقه؛ فطلب ملجأً يلجأ إليه، فوجد بناءً فإذا فيه رجل من طي ومعه امرأةٌ له؛ فقال لهما: هل من مأوى؛ فقال الرجل: نعم؛ فخرج إليه فأنزله ولم يكن للطائي غير شاة، وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة؛ وما أحراه أن يكون سيداً شريفاً؛ فما الحيلة؟



قالت: عندي شيء من طحين كنت ادخرته؛ فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين ملة؛ فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه ملة، وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها، وأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، وجعل يحدثه بقية ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيّ أطلب ثوابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله .



ثم لحق الخيل فمضى نحو الحيرة، ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وجَهْد وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لأحسن إليك. فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة فوافق يوم بؤس النعمان فإذا هو واقفٌ في خيله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عرفه وساءه مكانه فقال له: أفلا جئت في غير هذا اليوم؟. قال: أبيت اللعن، وما كان علمي بهذا اليوم .



قال: والله لو خرج ابني في هذا اليوم لم أجد بُدّاً من قتله، فاطلب حاجتك من الدنيا؛ وسل ما بدا لك فإنك مقتول؛ قال: أبيت اللعن، وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟!.



فقال النعمان: إنه لا سبيل إليها؛ قال: فإن كان لا بُد فأمهلني حتى ألمَّ بأهلي فأوصي إليهم وأهيئ حالهم، ثم انصرف إليك.



قال النعمان: فأقم لي كفيلاً إلى حين رجوعك، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو من بني شيبان، وهو واقف بجنب النعمان فقال له:



يا شريك بن عدي



ما من الموت انهزام



من لأطفال ضعاف



عدموا طعم الطعام



يا أخا كل كريم



أنت من قوم كرام



يا أخا النعمان جد لي



بضمان والتزام



ولك الله بأني



راجع قبل الظلام



فقال شريك بن عدي: أصلح الله الملك، عَلَيَّ ضمانُه؛ فأمر النعمان للطائي بخمسمائة ناقة، فمضى الطائي إلى أهله، وجعل الأجل حولاً؛ من يومه ذلك إلى مثله من العام المقبل.



فلما حال الحول؛ أصبح النعمان؛ وركب في خيله ورَجْله متسلحاً كما كان يفعل؛ وأخرج معه شُريكاً وأمر بقتله؛ فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه، فتركه، وكان النعمان يشتهي أن يقتل شريكاً ليُفْلت الطائي من القتل .



فلما كادت الشمسُ أن تغرب وقَرُب المساء؛ قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك فقم تأهب للقتل؛ فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلاً وأرجو أن يكون الطائي؛ فإن لم يكن فَأَمْر الملك ممتثل؛ فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عَدْوُه في سيره مسرعاً حتى وصل؛ فقال: خشيتُ أن ينقضيَ النهارُ قبل وصولي؛ ثم وقف قائماً وقال: أيها الملك مُرْ بأمرك؛ فقال له النعمان: ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل؟ قال: الوفاء .



فأطرق النعمان ثم رفع رأسه وقال: والله ما رأيت أعجب منكما؛ أما أنت يا طائي فما تَرَكْتَ لأحدٍ في الوفاء مقاماً يقوم فيه ولا ذكراً يفتخر به، وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء؛ ووالله ما أدري أيهما أوفى وأكرم أهذا الذي نجا من القتل فعاد أم هذا الذي ضمنه، واللهِ لا أكون أَلْأَم الثلاثة؛ ألا وإني قد رفعْتُ يوم بؤسي عن الناس؛ ونقضْتُ عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك؛ فقال الطائي:



ما كنت أُخلِف ظنَّه بعد الذي



أسدى إليَّ من الفِعال الخالي



ولقد دعتني للخلاف عشيرتي



فعددت قولهمُ من الإضلالِ



إني امرؤٌ مني الوفاءُ سجيةٌ



وفعال كلِّ مهذبٍ مفضالِ



فأحسن إليه النعمان ووصله بما أغناه؛ وأعاده مكرماً إلى أهله


lHzv lg; hgpdvi ],gi hglkh`vi hgkulhk fk hglk`v