النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: - الصومال في العصور القديمة والوسطى.

من أهم المراجع لتاريخ الصومال ما كتبه الأستاذ حمدي السيد سالم- الصومال : قديما وحديثا.الكتاب موسوعة معرفيّة متكاملة – عن الصومال: مواردها الطبيعيّة، اقتصادياتها، تاريخها في العصور القديمة والوسطى. –

  1. #1
    مشرف مجلس قبائل الصومال و القرن الافريقي
    تاريخ التسجيل
    19-04-2012
    المشاركات
    145

    افتراضي - الصومال في العصور القديمة والوسطى.

    من أهم المراجع لتاريخ الصومال ما كتبه الأستاذ حمدي السيد سالم- الصومال : قديما وحديثا.الكتاب موسوعة معرفيّة متكاملة – عن الصومال: مواردها الطبيعيّة، اقتصادياتها، تاريخها في العصور القديمة والوسطى. – وهذه النقطة الأخيرة هي سنقتبسها، لننشرها هنا مع مقدمة الكتاب لرئيس وزراء الصومال – في تلك الحقبة، وهذا البحث مهما يكون عميقاً ومثرياً - وهو كذلك – لا يخلوا كغيره من أعمال البشر عن هفوات وأخظاء من هنا وهناك، -- مما يسمح فرصة للتعليق والاستيضاح -- فإليكم الفصل الثالث من كتاب: الصومال قديماً وحديثاً، سننزله بطوله.- ومعه مقدّمة الكتاب. - وللفائدة الكتاب بأكمله نشر في موسوعة المعرفة .
    ملاحظة : الكتاب وإن هو باسم الصومال إلا أنّه يتناول تاريخ شعوب القرن الإفريقي، على غرار ما فعله الدكتور حسن مكي في كتابه : السياسات الثقافية في الصومال الكبير.


    الصومال : قديما وحديثا.


    الأستاذ حمدي السيد سالم


    وزارة الاستعلامات الصومالية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965.



    --------------------أبو عبد العزيز القطبي.


    مقدمة لصاحب السعادة عبدالرزاق حاج حسين رئيس وزراء الصومال
    أبناء الصومال الحبيب ..
    في الجمهورية الصومالية .. ويا من تزحفون من أجل تدعيم الاستقلال وتحقيق الوحدة . هذا كتاب علم ومعرفة ، يحمل إليكم صورة حية صادقة لأمتكم العزيزة عبر التاريخ القديم والحديث ..
    وهو يبحث في التاريخ الأنثروبولوجي للطلائع الجنسية التي وفدت إلى شبه جزيرة الصومال في هجرات ماردة أو قصيرة ، تبعا لضخامة عدد المهاجرين كمية ونوعا ، وقوة وضعفا ، وتأخرا وحضارة ، حتى أصبحت بلاد الصومال قاعدة التجمع والحشد لأجناس متباينة ، وحينما وصلت الموجات الحامية إلى الصومال دفعت أمامها الموجات السابقة وأصبحت البلاد قاعدة انطلاق للعناصر البشرية المتبانية التي أعطتلأفريقيا أغلب أجناسها ، كما أسهمت في تعديل الخصائص الجنسيةوالحضارية لكثير من شعوب هذها لقارة وفي الوقت نفسه ،استخلصت العناصر الحامية منطقةالصومال للصوماليين فقط ، وصهرتهم فيوحدة جنسية ولغوية وثقافية وحضارية ، وقد تدعمت هذه الوحدة باعتناق الصوماليين للدين الإسلامي الحنيف .
    وهذا الكتاب يحوي سجلا خالدا لأرضكم الطاهرة ، وأمجاد أجدادكم الأولين .. لماض مجيد برزت فيه أمة بونت ((الصومال)) منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد ، فعرفت بأرض الآلهة والعطور واللبان وكانت مركز أشعاع لشرق أفريقيا ، ومن ثم استطاعت أن تسهم في تمدين وتحضير أمم كثيرة ، بالإضافة إلى العلاقات التجارية والثقافية التي ربطتها بمواطن الحضارات القديمة .. كمصر الفرعونية ، وبابل ، وآشور ، وفينقيا ، والرومان ،واليونان وإمبراطورية بيكين ، والهند والمغولستان .
    وهذا الكتاب ينفرد بعمل رائع وجهد كبير في إبراز ماهية الصومال الإسلامية ، فمن الثابت أن الصومال أول بلد إفريقي دان بالإسلام وامتدت مراكز الدعوة الإسلامية فيه على طول السواحل الصومالية من (براوه) و (مقدشوه) على الساحلا لشرقي إلى (بربرة) و (زيلع) على الساحل الشمالي إلى (هرر) قاعدة الملك في عهد ملوك ، عدل – زيلع) ، ودول الطراز الإسلامي .
    وقد تصدى ملوك الحبشة لتيار الإسلام المتدفق في قلب الحبشة نفسها ، خلال قرنين من الزمن حتى ظهر المجاهد الأول (أحمد جرى) الصومالي في القرن السادس عشر الذي قال عنه المستشرق الفرنسي رينيه باسه : ((أن أشهر دور من أدوار التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة في أذهان الغربيين هو (أحمد جرى) الصومالي الذي كاد أن يحطم ويسحق النصرانية الحبشية ، ويعيدها كبلاد النوبة إلى الإسلام)) فإلى الإمام (أحمد جرى) الصومالي يرجع الفضل في نشر الإسلام في ثلثي الحبشة حتى وصل إلى بلاد النوبة ، حيث حدثت حالات كثيرة في التحول إلى الإسلام .
    وتعرضت الصومال للغزو الصليبي من جهة البحر ، والغزو الحبشي من جهة ألبر ، ولكن حفظ الله أرضنا الطاهرة وخرج الشرف الصومالي مصونا كريما ، وأصبحت المدارس القرآنية في كل بقعة من أرض الصومال إلى جانب جهاد أصحاب الطرق الصوفية فيا لزوايا والمساجد لنشر الدعوة وتثبيت العقيدة ومحاربة المبشرين .
    وقد تضمن الكتاب دراسات مشوقة ممتعة عن خبايا تاريخنا الحديث منذ امتداد الإدارة المصرية على ساحل الصومال الشمالي ، وظهور عهد السلاطين ، والانفصال ، وحركة الكشف والارتياد الأوروبي للصومال ، وما تلاه من تنافس وتطاحن ومناورات دولية من أجل السيطرة وبسط النفوذ ، ودخلت الحبشة في ميدان الاستعمار معتمدة على قوى الاستعمار الغربي ، وتم تقسيم الوطن الصومالي إلى خمس وحدات سياسية تئن تحت وطأة الاستعمار .
    وهذه الدراسات تحتوي على أكثر من سبعين اتفاقية ومعاهدة ووثيقة ، سواء أكانت فردية أم ثنائية أو جماعية بشأن الحماية والاستعمار ، والتفاوض والتنازل عن ممتلكات صومالية من جانب بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والحبشة ، وهذه الوثائق تعتبر ثروة عظيمة تظهر لأول مرة مجتمعة في كتاب واحد وهي وثائق فيها إدانة للاستعمار ، وتكشف بجلاء عما فعله في أرضنا الطيبة المسالمة من محاولات استعمارية يحطم فيها المقومات المادية والمعنوية لدى شعبنا الحر الكريم ، ليظل حكمه على البلاد ، ولكن سرعان ماقامت ثورات شعبية في الصومال الخمس ضد الظلم والطفيان لتحطيم الأغلال والقيود ، فتجمعت الأفئدة والقلوب متجهة نحو النضال المشترك ضد الاستعمار وعملائه من رجال التبشير وأعلن ((السيد محمد عبدالله حسن)) الحرب المقدسة ضد المستعمرين والدخلاء ، ودخلنا معارك الثأر والانتقام وانتصرنا في كل المعارك التي خضناها خلال الربع الأول من القرن الحالي .
    ومما تجدر الإشارة إليه تناول الكتاب للمؤامرات التي عقدت وتعقد من جانب واحد – بعد الحرب العالمية الثانية – وأهمها مؤتمر سان فرانسيسكو الذي تم فيه تقسيم البلاد غير المستقلة إلى نوعين لينفذ الاستعمار إلى غرضه وهو وضع بعضها تحت الوصاية وإشراف هيئة الأمم المتحدة ((مجلس الوصاية)) ، كما نوه الكتاب عن طريقة تشكيل للمناورات ومسرحا لبلبلة الأفكار ، ولكن خاب ظنهم لأنهم يعمدون إلى الشر ، فعادوا يتخبطون في دياجير الظلام ، ويأكل بعضهم بعضا . كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله . وسأترك الحديث لمن رأى الأحداث رؤية العين (( فما راء كمن سمعا ..))
    وفي الجزء الختامي من الكتاب ما أجل ما تناوله المؤلف عنحياة المجتمع من عادات وتقاليد وآداب ولغة ودين ، ولم تفته الإشارة إلى الحياة الديمقراطية التي نعيشها بعد الاستقلال ، فقد آرخ لحياتنا النيابية ، ونظم الحكم ، وسياستنا الخارجية ، بالإضافة إلى التاريخ لأعمال الحكومة منذ الاستقلال في جميع المجالات الاجتماعية والثافية والاقتصادية والصحية والإعلامية ... إلخ .
    ومما يسترعي النظر إشارته إلى الحركة القومية الصومالية ، ودورها في تغيير مجرى الأحداث بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد حمل راية الدعوة الوطنية وعمل على إظهار القومية الصومالية إلى حيز الوجود حزب وحدة الشباب الصومالي الذي ا‘لن منذ مولده كحزب سياسي في عام 1947 أنه قام تحقيقا لرغبة الشعب في الاستقلال والوحدة . وقد تمكن بفضل قوته الشعبية من أن يؤلف أول وزارة صومالية في عام 1956 ، ومازال الحزب محتفظا بزعامته الشعبية بفضل ما يتحلى به من مبادئ وطنية ولعمله الدائب في سبيل إنعاش الحركة القومية الصومالية ، والسهر على مصالح الأمة ، والسعي في غير هوادة نحو الاستقلال والوحدة . كما يمكننا أن نتعرف من هذا الكتاب على النشاط العظيم لمختلف الأحزاب السياسية في الصومال من أجل الاستقلال والوحدة ، وإقامة الحياة الديمقراطية السليمة في البلاد .
    ويتلاقى أبناء الوطن على هدف واحد تم إعلان الجمهورية الصومالية في أول يوليو عام 1960 ، وبذلك انتهى عهد المناورات والمؤامرات والدسائس وظهر عهد التآخي والمحبة ، فقد أصبحت البلاد في يد أبنائها ، وفي ذلك قوة بعد ضعف ، وفيه تضحية وبذل ، بعد أثرة ، وفيه بناء ومجد بعد سلب وتحطيم ، إذ دبت الحياة في الجذور وسرت في الفروع ونادي الشعب في الصومال الفرنسي ، وفي الأراضي التي تحتلها الحبشة ، وفي (أنفدى) بالعودة إلى الوطن الأم . فكان لابد لنا أن تستجيب لمطالب أخواننا فدخلنا في مفاوضات مع المستعمرين ، وطالبنا بحق تقرير المصير ، وأنكرت بريطانيا مطالب شعب (أنفدى) في الانضمام إلى الوطن الأم ، فكان لابد لنا من قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع بريطانيا في مارس 1963 ، واضطررنا أن ندافع ببسالة عن كيان وطننا ضد الاعتداءات الحبشية في أوائل عام 1964 ، وأن تندد بسياسة الحبشية ضد إخواننا الصوماليين في الأراضي التي احتلتها ، واستنكرنا الحلف الحبشي الذي أنشئ ضد جمهوريتنا ، وكان لابد لنا من أن نعلن في كل المؤتمرات العالمية والإقليمية مشكلاتنا مع جيراننا ، ورغبة شعبنا في حق تقرير المصير ، وجمع شمل الأراضي الصومالية .
    غير أنه اتضح لنا بعد الاتصالات التي أجريناها أخيرا مع الوفود المشتركة في مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عقد في القاهرة في 5 أكتوبر عام 1964 ، أن أكثر الدول تجهل جهلا تاما أغلب القضايا الصومالية ، ولا يعلم أحد بمشكلات حدودنا إلا عن طريق ما تتناقله وكالات الأنباء العالمية من مقتطفات عن حوادث الحدود ، وربما تكون مشوهة لا تظهر الحقيقة . ومن ثم أدركنا أن قضايانا تتطلب توضيحات ثابتة وسمتمرة للرأي العام العالمي .
    لهذا باركت هذا العمل الضخم الجبار الذي قام به الأستاذ (حمدي السيد سالم) الخبير العربي بوزارة الاستعلامات الصومالية ، فأعد هذا الكتاب عن تاريخ الصومال قديما وحديثا وجاء في معظم تفاصيله الدقيقة بيان واضح عن التنافس الدولي في تقسيم أراضي الصومال وكل ذلك في أسلوب سلس متماسك ، وعرض رائع في تحليله الأحداث وحقائق مدعمة بالأدلة الثابتة ، ويمكنني أن أقرر أن هذه المعاهدات والاتفاقات التي وردت في كتاب تعتبر ثروة عظيمة في معرفة ألاعيب الاستعمار وتفهم مشكلة الحدود الراهنة على حقيقتها .
    ولايسعني إلا أن أقدم التهنئة الحارة للمؤلف على ما بذله من جهد في خدمة قضايانا الوطنية بوضعه لهذا الكتاب . ونرجو أن يتابع أعماله المجيدة بكشف النقاب عن خبايا كنوز وطننا العزيز .
    واختتم هذه المقدمة القصيرة راجيا أن أرى قريبا إخواننا وأبناءنا الصوماليين قد طرقوا ميدان التأليف والتدوين لتراثنا الخالد ، ومشكلاتنا ، وقضايانا ، لإظهار المسألة الصومالية خالية من كل زيف فهي أمانة في أعناقنا جميعا تحاسبنا على تضييعنا الأجيال المقبلة . وفي مثل هذا العمل الجليل فليتنافس المتنافسون .

    ------------------------- انتهت كلمة رئيس الوزراء.


    الصومال : قديما وحديثا.


    الأستاذ حمدي السيد سالم



    الباب الثالث: الصومال في العصور القديمة والوسطى.
    الفصل الأول: التكوين الجنسي.
    الهجرات الجنسية إلى القرن الإفريقي
    تتصل القارة الإفريقية بقارتي العالم القديم – أوروبا وآسيا – عبر ثلاثة مداخل ، هي : مدخل مضيق جبل طارق ، ومدخل شبه جزيرة سيناء ، ومدخل باب المندب . وهذه المداخل تمثل حلقات الاتصال الجنسي بين أفريقيا وجاراتها ، فقد تخرج منها موجات جنسية وقد تأتي عن طريقها موجات جنسية ، غير أن أهم المداخل الجنسية إلى القارة الإفريقية هو طريق باب المندب ، فقد كان بوغاز باب المندب في الأزمة القديمة ضحلا غير عميق سهل العبور ، ومن ثم وفدت إلى أفريقيا أجناسها الرئيسية عن هذا الطريق ، بدليل أن البقايا القديمة للأجناس توجد في مناطق غير بعيدة عن ذلك المدخل .
    وكان كل جنس جديد يفد إلى منطقة القرن الإفريقي يدفع العناصر الموجودة دفعا قويا إلى داخل القارة الإفريقية حتى خلصت شبه جزيرة الصومال للصوماليين وحدهم في نهاية القرن الثالث عشر .
    وقد عرضت شبه جزيرة الصومال كقاعدة تجمع للعناصر الوافدة من القارة الأسيوية ، وبعد أن تستقر هذه العناصر فترة تبدأ في الحركة والانطلاق نحو تعمير القارة بأجناس جديدة وافدة بعد أن تكاثر عندها وقويت شوكتها ، وهذه الحركة من الهجرات المتتالية ، وتحركاتها البطيئة إلى الأجزاء الأخرى من القارة قد تركت لها آثار في جهات متفرقة من شبه جزيرة الصومال ، كما أن لهذه الهجرات المتتالية تأثيرا كبيرا في اختلاط الأجناس ببعضها .
    ومن المعروف أن أقدم العناصر البشرية في أفريقيا هي عناصر البوشمن والأقزام ، ويرجع عهدهم بالقارة الإفريقية إلى عشرات الآلاف من السنين ، ومن المرجح أن الفريقين تكونا في داخل القارة الإفريقية ، وكانت أول الطلائع الجنسية التي عمرت شبه جزيرة الصومال ، كما يقول أكثر علماء الأجناس ، هي العناصر الزنجية الخالصة التي قدمت من موطنها الأصلي في جنوب شرقي آسيا عن طريق شبه جزيرة ملقا ، وتابعوا سيرهم إلى آشور وبابل بالعراق ، ومنها إلى جنوب غرب آسيا ثم عبروا مضيق باب المندب إلى شبه جزيرة الصومال واستقروا بها فترة غير قصيرة . ولما تزايد عددهم تابعوا حجراتهم هجراتهم في اتجاهين رئيسين .. الاتجاه الأول صوب الغرب مباشرة إلى غانا ونيجيريا وسيراليون .. أما الاتجاه الثاني فكان إلى الجنوب الغربي حتى هضبة أفريقيا الشرقية والجنوبية . أما ناحية المشال فقد كانت الهضبة الحبشية حائلا دون متابعة سيرهم تجاه الشمال .
    وهذه الجماعات الزنجية العريقة عرفت بالبشرة الشديدة السواد ، والشعر المفلفل ، والقامة الطويلة التي تصل نحو 170 سم في المتوسط ، والرأس المعتدل الطويل ، والأنف الأفطس العريض ، والشفاه الغليظة المدلاة ، والفك البارز إلى حد كبير . وتوالت على شبه جزيرة الصومال عناصر حامية ، وخلال استقرار هذه العناصر الحامية في منطقة القرن الإفريقي امتزجت بالعناصر الزنجية القديمة التي سبقتها إلى هذه المنطقة ، ونشأ من هذا الامتزاج وهذا الجيل يسميه الانثروبولوجيون باسم (البانتو) ، أي الخليط من الدماء الزنجية والحامية . وأما الهجرات الحامية في فترة ما اضطرت عناصر البانتو أن تجلو عن منطقة القرن الإفريقي وتتجه نحو جنوب القارة الإفريقية .
    وتظهر التأثيرات الحامية واضحة عند بانتو الشرق والجنوب (شرق وجنوب أفريقيا) وهم من عناصر إما رعية محاربة وإما زراعية صناعية ، وكانت سلطة رئيس القبيلة في القبائل المحاربة ، كالزولو مثلا ، سلطة مطلقة . ولكنها في العناصر الزراعية والصناعية كانت سلطة محدودة ، فهو يخضع لرأي مجلس الزعماء كما في بلاد الباسوتو حاليا ، وإلى يومنها هذا نجد ظاهرة احتقار مهنة الزراعة واضحة في القبائل المحاربة .
    الخصائص العامة للعناصر الحامية الشرقية
    إذا غضضنا النظر عن التأثير السامي الحديث نسبيا وجدنا أن حضارات أفريقيا هي حضارات الحاميين ، وسواء جاء هؤلاء الحاميون من خارج القارة أو كانوا أصلا من أهل القارة فإن الأمر الذي لا اختلاف فيه هو أن تاريخ القارة الإفريقية إنما هو سجل لحركات هذه العناصر واحتكاكها بعنصري القارة البدائيين من البشمن والزنوج . ويظهر هذا التأثير فميا تركته الحضارة المصرية الزراعية أو حضارة الرعاة كما هو واضح اليوم عند قبائل البجة في السودان وعند الصوماليين .
    ومن الملاحظات الجديرة بالاعتبار أن اللغة الحامية يتكلم بها نحو خمس السكان في أفريقيا ، وقد تمكن برنارد سترك أن يحصر تلك اللغات في سبع وأربعين لغة أصلية ، وواحدة وسبعين لهجة وقرر أن للحامية أكبر مساحة من أفريقيا بما في ذلك العناصر السامية التي تأثرت بالإسلام .
    ومن الشائع أن المحاميين ، وهم من الجنس القوقازي الذي يتكون منه أغلب سكان أوروبا ، ويمكن أن تقسمهم إلى فرعين رئيسين هما : (1) الحاميون الشماليون من بربر طرابلس وتونس والجزائر وكثيرا ما يسميهم الأنثروبولوجيون باسم الليبيين ، وكذلك بربر مراكش ، والطوارق والتبو من سكان الصحراء ، والفولاني من سكان نيجيريا ، وأجناس الجوائش المنقرضة من سكان جزر كناريا . (2) الحاميون الشرقيون وهم يشملون كلا من المصريين القدماء والمصريين في وقتنا الحالي ، وفي هذه الحالة الأخيرة يراعى امتزاج الطبقات العليا بدماء الأجانب ، وجماعات البجة والبرابرة أو النوبيين والجالا والصوماليين والدناكل ، وبعض جماعات الحبشة في الشمال مع استبعاد الأحباش الجنوبيين لامتراجهم بعناصر زنجية .
    ويشير العالم الإنجليزي (سرجي) إلى وجود اختلافات شاسعة بين هذه الجماعات الحامية وخاصة بينالحاميين الشرقيين . وعلى الرغم من تفاوت الصفات الجمجمية عند الصومالين إلآ أنهم بوجه عام من عناصر أصيلة . ويظهر هذا واضحا في الوجه الذي يخلو تماما من الفك البارز ، كما أن الأنف مستقيم ، والشفاه غليظة نوعا ، ولكنها ليست مدلاة للخارج كما هو الحال في الزنوج . وغالبا ما يكون الشعر مجعدا ومع ذلك فقد يبدو هو مموجا أو مسترسلا في بعض الأحيان ، والذقن دقيقة عادة . أما البشرة فيتفاوت لونها فقد تكون صفراء أو نحاسية أو بنية أو سمراء وذلك تبعا لاختلاط الأجناس بعضها ببعض .
    ويتابع سرجي قوله بأن كلا من القسمين السابقين الحاميين يتشابها أصلا من الناحية التشريحية ، والتركيب العظمى وبناء على ذلك يكونان جنسية واحدة تختلف جماجمهم اختلافا بينا ، ولكنه اختلاف ثابت كما هو الحال في شأن تقاطيع الوجه .
    ومهما يكن الأمر فلا بد أن نعتبر الحاميين والساميين أجناسا متباينة منبثقة من جنس أصلي ، وأن هذا التباين أو الاختلاف لم يحدث منذ وقت بعيد ، والشاهد على ذلك وجود الآثار الثقافية والخصائص اللغوية المتشابهة بينهما .
    وسنقتصر في دراستنا هنا على الحديث عن الحاميين الشرقيين لوجود الصوماليين ضمن هذه المجموعة ، وهدفنا من ذلك هو التعرف على العلاقة الأنثروبولوجية بين العناصر الحامية الشرقية ، وأن نوضح السمات الجثمانية والعناصر اللغوية ، والعادات ، ونظم الحكم ، وغير ذلك من وسائل الارتباط الاجتماعي القائم على أسس أنثروبولوجية كوحدة مميزة قائمة بذاتها ، وتلك الدراسة هي من أنجح الوسائل لمعرفة الصوماليين باعتبارهم جزءا من الأمة الحامية في أفريقيا ، وهؤلاء الأفريقيون الأوائل هم :
    المصريون الأوائل
    (قبل عصر الأسرات وذلك حوالي عام 3200 ق.م.) الآثار التي تركها المصريون الأوائل في قبورهم هي العامل الأول في كوننا نبدأ وصفنا للحاميين الأفريقيين بعرض طرف من حياة المصريين الأوائل ، وقد وصفهم الأستاذ اليوت سميث بقوله (ينتمي المصريون الذين عاشوا قبل عصر الأسرات إلى هذه الجماعة التي تشتهر بشعرها القصير الأسود وعيونها السوداء تماما مثل سكان شاطئ البحر المتوسط وقد انشتر هذا الجنس حتى تعدى مصر العليا إلى بلاد النوبة جنوبا وامتد شرقا حتى بلع منطقة البحر الأحمر الواقعة في السودان واستمر في امتداده حتى بلغ بلاد الصومال لتنتهي هذه المجموعة المتجانسة جنسيا عند مصب نهر تانا) .
    والمصري الأول كان قصير القامة ، لا يكاد يزيد عن 64 بوصة والنسبة الرأسية 73 والنسبة الأنفية 5 كما هو الحال عند البجة والصوماليين .
    البجة (البجاه)
    وينقسم البجة أو البجاه إلى أربع مجموعات من الشمال إلى الجنوب وهي : العبابدة في صحراء مصر الشرقية ، وإلى الجنوب ومنهم جماعة البشارية إلى مسافة 80 ميلا في داخل حدود السودان ، ثم الهدندوه إلى الجنوب من البشاريين حتى خور بركة ، ثم بنو عامر إلى أرتريا .
    ولقبائل العبابدة لغة حامية هي التوبدوية وهي لغة البشاريين والهدندوة غير انهم تعدوا لسانهم القديم وهم يتكلمون الآن اللغة العربية بينما بنو عامر يتكلمون لغة سامية تسمى نيجرة . ورغم هذا الاختلاف في اللغة بين قبائل البجة إلا أن العادات متشابهة جدا ، وكان للثقافة وعاداتهم وإن كان بعض قبائل العبابدة ينتهجون أسلوبا قديما في الحياة بسب العزلة التي فرضتها الطبيعة عليهم في المنطقة المحصورة بين التلال والبحر الأحمر .
    وقد دلت الأبحاث التي أجراها الإحصائيون في حضارات عصر الأسرات في مصر على أن المصريين في بداية عصر الأسرات قد امتزجت بهم عناصر أكثر من العناصر التي كانت ممتزجة بهم في العصر الشالكوليتي . وكان سكان مصر الأوائل لهم سمات زنجية . وعلى الأقل يمكن أن نسميهم السكان الهمج البدائيين لمصر القديمة ، ثم وفدت عليهم عناصر جنوبية صومالية ذات رأس صغير وقسمات رقيقة تشبه ما عند الصوماليين اليوم ،ولهم حضارة ممثلة في الأسلحة والفخار والألواح ، ثم جاءت عناصر سامية ليبية وغيرها من الشمال ، ومنها العنصر ذو الرأس القصير الذي خلدته بعد ذلك تمثايل ممفيس التي نحتت لكبار الموظفين والحاشية وهو عنصر البحر المتوسط ، وعليه فالمصريون في عهد الأسرات المالكة كانوا جنسا امتزجت فيهم العناصر الصومالية والسامية المصرية والبيضاء المتوسطة .
    وبينما نجد الحضارة المصرية قائمة على أساس زراعي بالإضافة إلى تربية الحيوان والصيد البري والمائي ولهم صناعات نحاسية وفخارية قبل عصر الأسرات نجد أن حضارة البجة والصوماليين قائمة على أساس الرعي ، فالجمل الذي أصبح في حوذتهم منذ ألفي عام تقريبا قد ساعدهم في السيطرة على الصحراء أكثر مما استطاع أجدادهم عمل ذلك ، ولهذا احتلوا أماكن من الصحراء لم تكن مأهولة بالسكان فيما قبل ، وقد ظهرت لهم صناعات للأواني الفخارية ولو أنهم يستخدمون أقل أنواع الحجارة صلابة بحيث يستطيعون نحتها بالسكين.
    أما التنظيم الاجتماعي لدى البجة والصوماليين فله أهمية خاصة ، فمع أنهم الآن يكونون أكثر المسلمين تمسكا بالإسلام في شرق أفريقيا ، فإن الغالبية منهم كانوا وثنيين إلى عصر المؤرخ المقريزي (1216-1442) الذي وصفهم بأنهم (رعاة بدو ينتقلون بحثا عن المراعي ، ولكل قبيلة منهم رئيس ، ولا دين لهم ، والذكور والإناث يسيرون عراة إلا ما يستر العورة ، والكثير يملك قطعانا من الجمال والأغنام لا حصر لها تمدهم باللبن واللحم) .. وهذه الصورة التي صورها المقريزي مازالت موجودة على نطاق ضيق في هذه المناطق .
    وكان البجة والصوماليون بحكم بيئة المراعي التي يعيشون فيها يقدسون الماشية وخاصة لبنها ، وكانت هذه الصفة مميزة لهم ، ويمكن إرجاعها بالتحليل إلى تأثير الحضارة الحامية السامية . وحتى الوقت الحاضر نجد بعض الصوماليين إن لم يكن أغلبهم لا يميل إلى حلب اللبن في أوعية فخارية كما أنهم لا يسمحون بحلب ماشيتهم في أواني معدنية مستوردة ، أما الأواني التي يعتبرونها أفضل وأنجح وسيلة لحفظ اللبن فهي آنية القرع أو أوعية السلال التي يسميها الصوماليون (هن) وهي مصنوعة بطريقة لا تسمح مطلقا بتسرب اللبن منها . ومن العادات والتقاليد المتوازنة أنه لا ينبغي على أحد منهم أن يشرب اللبن الذي يحلبه إلا إذا تجرع شخص آخر منه بضع رشفات أولا .. ومما يشين الرجل أن تسول له نفسه بشربا للبن بعد حلبه ، ويوصف بعبارات لاذعة ، فيقولون (أنه حلب وشرب على التو) والبجة يحتقرون بعض القبائل العربية التي تسمح للنساء بحلب الماشية .
    وهذه الحقائق السابقة إنما تشير إلى أن اللبن عند الصوماليين والبجة ليس شيئا عاديا ، بل أنهم ينظرون إليه على أنه شيء مقدس ، وتنتشر هذه الفكرة أيضا عند بعض جيران الصوماليين مثل المساي ، والفاندي في شرق أفريقيا ، وبعض الجماعات التي تجري في عروقها دماء حامية .
    النوبيون
    ينتشرون حول النيل الغربي من الجندل الأول إلى الخرطوم ، ولهم لغة يقال أنها ترجع إلى العائلة السودانية ، ومن المرجح أنها لغة حامية كالصومالية غير مكتوبة ، وهناك تشابه كبير بين اللغتين .
    وقد دلت الأبحاث على وجود نقوش جنوبي أسوان تشير إلى أنه منذ 3000 عام ق.م. كان يقطن النوبة أناس يشبهون المصريين والصوماليين وجدوا قبل عصر الأسرات ، وكانت علاقة النوبيين متجهة نحو مصر في عصر الأسرات ، كما اختلط بالنوبة جماعات البجة فنشأت جماعات أصحاب أعمال وتجارة ، ولهم سرعة عظيمة في التقاط اللغات ، وكذلك الحال بالنسبة لجماعات السواحيلية في جنوب الصومال وللنوبيين مهارة فنية في صناعة الأواني الفخارية والسلال والحصر ، وهم يشرطون وجناتهم بندبات طويلة عمودية أو مائلة ، وكذلك يقومون بعملية ختان بناتهم كما يفعل العرب .
    الأرتريون
    الأرتريون لا يختلفون في خضائصهم الجنسية عن قبائل البجة شمالا وقبائل الصومال جنوبا ولا يوجد دليل على أن الزنوج قد استوطنوا أرتريا في وقت ما .
    الأحباش
    يقول سيجمان في كتابه (السلالات الجنسية في أفريقيا) : يعتبر السكان الأصليون للحبشة ، في العادة من العناصر الزنجية ومن الممكن رؤية سلالتهم في الشعوب الزنجية الدنيا ممن يشتغلون بالصيد في أماكن متفرقة من الحبشة . ومما لاشك فيه أن بعض العناصر الحامية القادمة من منطقة القرن الإفريقي قد توغلت في الأراضي الحبشية في فترات غير متنظمة منذ آلاف السنين قبل الميلاد ، ولذا تتسم في فترات غير منتظمة منذ آلاف السنين قبل الميلاد ، ولذا تتسم الحبشة بطابع الازدواج ويظهر هذا المزيج الجنسي في معايير الثقافة والتاريخ ، فقد ذكر أن ثمة علاقات قديمة قامت بين الحبشة واليهود ، وأن العائلة الملكية الحبشية تنحدر من سلالات ملوك سبأ ، ولذا اعتبرنا الإمبراطور السابق من الحاميين فإن خلفه بتميز الملامح الزنجية الواضحة المعالم ، علاوة على الخصائص الزنجية التي يتميزون بها ، فإن جماجمهم تشبه أيضا جماجم المصريين الأوائل ، ويمكننا أن نعتبر الحبشة متحفا جنسيا وثقافيا ولغويا ، إذ من الصعب أن تعطي صورة واضحة المعالم عن الخصائص الأنثروبولوجية للجماعات القاطنة في الحبشة .
    والحبشة لا تقتصر على الأجناس المختلطة الأصول ، وإنما هي أيضا خليط ديني ومذهبي . إذ بها الوثنيون والمسيحيون والمسلمون وحتى اليهود الذين يطلق عليهم اسم الفلاشا أو اليهود السود في الحبشة وقد نما عددهم في الوقت الحاضر . ومع تعداد العقائد الدينية لا يوجد بالحبشة مدارس أو مساجد أو جمعيات دينية كالتي يعني بها في شمال وشرقي أفريقيا .
    ومن المحتمل أن تكون المسيحية قد وصلت إلى الحبشة من سوريا فالسعودية فاليمن فاكسوم عاصمة الحبشة قديما ، فالملك أكسوم ملك الساميين اعتنق الديانة المسيحية حوالي عام 45 بعد الميلاد ، وتلا ذلك عصر مظلم خيم على الحبشة وتاريخها ، ولا بد أنها اتصلت بعصر في هذه الفترة حتى أن المسيحية تميزت بالطابع القبطي إلى اليوم . ومازالت الكنائس الحبشية تستعمل الطابع المصري القديم الذي لم يعد يستعمل في مصر نفسها .
    أما يهود الفلاشا في الحبشة أو اليهود السود فلا يعرف منهم الكثير ، وتروى القصص القديمة أن ملكة سبأ ، التي كانت أميرة في أكسوم تعلمت اليهودية عندما زارت سليمان ثم نقلتها عند عودتها إلى بلادها .
    وينقسم شعب الفلاشا إلى ثلاث مجموعات لكل منها حاخامها الأكبر ، ويصومون مرتين كل أسبوع وأربعين يوما قبل عيد الفصح ، وفي طقوسهم الدينية بعض المراسيم الوثنية وقد ألهوا شباط ، ويعتبر الفلاشا أنفسهم من سلالة النبي داوود ، وذلك راجع إلى عام 1800 ق.م. حينما خضعت بلادهم لمملكة الحبشة . وهم عمال اشتهروا بالزراعة وصناعة الأواني الفخارية ، وهم لا يتزوجون مطلقا من خارج أهلهم ، ويمتنعون عن زيارة منازل المسيحيين ، وإذا حدث ذلك فلا بد لهم أن يطهروا لطقوس خاصة ، وللكاهن حق الزواج مرة واحدة ، وإذا بنى مسكن جديد يسكب عليه دماء حيوان .
    وللأحباش عدة لغات ، منها الحبشة وهي وثيقة الصلة باللغة السبئية وتقترب من العبرية والعربية ، وقد ترجم بها الإنجيل في القرن السابع وفي القرن الثامن عشر أصبحت الأمهرية هي اللغة الرسمية للدولة ، وتكتب بحروف أثيوبية ، وقد بعدت عن أصلها السامي . أما لغة النيجر فيتكلم بها شمالي الحبشة وأرتريا بصفة خاصة ، وهي لغة سامية الأصل ، كما يوجد بجانب هذا عدد كبير من اللهجات المختلفة .
    الجالا
    ظهروا على مسرح التاريخ منذ القرن العاشر في الشاطئ الجنوبي من خليج عدن ، وقد امتدوا غربا بعد أن سهل الإمام أحمد جرى القائد الصومالي غزو الحبشة فاقتفوا أثره واحتلوا بعض المناطق الشرقية الجنوبية من الحبشة .. وبغض النظر عن لون البشرة الذي يختلف بين قبيلة وأخرى فإننا نرى لون البوران في لون بني فاتح للغاية ، على حين أن الواليجا والاينو يميلون إلى السواد ، وعلى أية حال فإن الجالا يوصفون بأنهم ذو أجسام متينة البنيان ، وجبهة عالية عريضة ، وتقاطيع الوجه متناسقة والغالبية العظمى منهم مسلمون بالرغم من اعتناق بعضهم الوثنية أو المسيحية .
    وإذا استثنينا قبائل البوران الرحل فإن الجالا من الفرسان الصناديد ولكنهم أقم ثورة وتحررا وميلا للحروب بالنسبة لجيرانهم من الدناقل . وأكثر الجالا من الزراعيين يستخدمون المحراث الذي تجره الجمال والثيران ، ومازالوا ينظرون إلى الماشية على أنها أحسن مظهر من مظاهر الثراء .
    وفي الوقت الحاضر لا نعرف الكثير عن دياناتهم قبل المسيحية والإسلام ولكنهم بلا شك البقية الباقية منالحاميين الوثنيين الذين يعبدون الواك (بمعنى السماء) كما كان عند الصوماليين فيما قبل الإسلام ، وإلى جانب ذلك إله أقل أهمية ، وكذلك إله يسمونه أتيتي ، وآلهة يسمونها أوجلى ويقدس بعض الجالا بعض الحيوانات كالثعبان والتمساح والبومة ، ولا توجد أدلة على اتخاذهم إياها بمثابة طواطم ، وكلما استدار القمر في دورته الكاملة وصدر في المحاق فإن رب الأسرة وهو يقوم بالأعمال الدينية يقدم ذبيحة للقمر سائلا إياه أن يجعل القمر الجديد يستمر في حراسة ماشيته ، وما أشبه ذلك . ويسمى الرئيس الديني (الواداجا) ويقصد به تلاوة الصلوات العامة ويلزمها وجبة غذاء أو ذبيحة ، ويقدم جزء منها إلى واك إله السماء ، وكانوا يحجون إلى (أبا مودا) أي أب العباد قبل أن يمنعهم الأحباش .
    ويبلس أفراد الجالا قميصا وثوبا من القطن عادة وفوق أكتافهم يتدلى جلد ماعز أو فهد ، وفي الحروب يحملون حريتين خفيفتين ورمحا ثقيلا ودرعا صغيرا مستديرا كماي فعل بعض الصوماليين .. وكانت لهم عناية بصناعة المنسوجات والمعادن ، وما زال بعضهم يسكن أعالي نهر جوبا إلى وقتنا هذا ومن عاداتهم دفع مهر العروس قطعانا من الماشية كما يفعل الصوماليون في بعض أنحاء البادية ، وإذا توفي الزوج ورث أخوه في ممتلكات المتوفي حتى زوجته وأولاده ، ويصبح له السلطة المطلقة عليهم في حياتهم أو مماتهم وله حق بيعهم في أسواق النخاسة ، والإبن الأكبر هو الوريث الوحيد ، والخيانة شيء نادر قبل الزواج ، وإذا حدث ذلك حال دون عقد الزواج .
    الدناقل
    لقبائل الدناقل لغة مماثلة للغة الصومالية ، وهم يسكنون الجزء المثلث الشكل من الأراضي الواقعة شمال الصومال وحدودها الشرقية البحر الأحمر ومن الغرب الحبشة ، وهم بوجه عام نحو نحاف البدون ذو قوام متوسد الطول يبلغ 64 بوصة ، ولهم قسمات وجه تشبه الجنس السامي في التناسق وحسن الخلقة ، ولون البشرة يشبه في سوداه لون بشرة الزنوج ، وشعرهم مجعد قليلا .
    وقد أخذ الدناقل بالديانة الإسلامية ، ولكنهم لا يقيمون شعائرهم الدينية بكل دقة ، كما هو الحال عند الصوماليين ، وكانوا في بداية حياتهم يميلون إلى التعاون مع الأحباش ، ولكنهم أصبحوا الآن من ألد أعداء الحبشة بفضل تعاونهم وانسجامهم مع الصوماليين الورعين .
    الصوماليون
    عرفنا أن مشكلة الأصل الصومالي تثير مسألة أصل الجنس الحامي الذي ينتمي الصوماليون إليه ، وهذه الجماعة الكبيرة من الناس التي تشمل المصريين الأوائل والبجة والنوبيون والأرتريون وبعض الأحباش والجالا والدناقل بالإضافة إلى شعوب كثيرة في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا . وهناك رأي يقول أن الحاميين وهم من سلالة حام ذلك الشيخ الكتابي الجليل الوقور الذي نشأ في آسيا وربما في الجزيرة العربية ، ثم انتقل مهاجرا إلى أفريقيا ، ويعتبر الصوماليون بذلك اتباعا بالانتساب للمهاجرين الحاميين الذين هاجروا حديثا إلى القرن الإفريقي ويحاول آخرون بحجج لا تقل أهمية عن الحجج السابقة إثبات أن أرض المهد للحاميين هي القرن الإفريقي نفسه ، ومثل هذا الدليل الإريكيولوجي (الذي يختص بالآثار) الذي يمكن إثباته إلى حد ما ، والحصول عليه في الوقت الحاضر وهو يقدم لنا شعبا شبيها من الناحية الجسمية بالسكان الحاليين للصومال باعتباره قد شغل إلى وقت طويل هذا الجزء من أفريقيا ، ومن المحتمل أن يكون أسلاف الصوماليين هم الذين سجلهم مؤلف (البيربلس) بأنهم يعيشون في المراكز التجارية على السواحل منذ ما يقرب من ألفي عام . وفي ذلك الوقت مارسوا التجارة قرونا عديدة مع أهل حمير في الجزيرة العربية .
    الآثار القديمة :
    وقبل أن نمر في عصور أقل قدما ، ولكي يكون يكون لدينا سجلات عنها أكثر وضوحا ، يجب أن نذكر تلك الصور الزيتية التي وجدت على الصخور والحفريات وعثر عليها في أجزاء متفرقة من شبه جزيرة الصومال ، ويحتمل أن يكون لهذه الصور قيمة أثرية كبيرة ، وهي معاصرة للآلات البسيطة الحجرية التي وجدت مقترنة بهم ، ويحتمل أن يكون غيرها حديثا بالنسبة لها .
    وينطبق ذلك تماما على الروابي الحجرية العجيبة التي تكون تضاريس من مناظر خلوية برية وأصقاع مرموقة في أماكن كثيرة ، وتتدرج هذه في طبقتين رئيسيتين ، فيوجد أولا مدافن مبعثرة رثة المباني مكونة من الأحجار ، بعضها فوق بعض على إطار داخلي بين أغصان الأشجار ، وتحيط بحجرة المدفن التي يوجد بداخلها رفات الميت ، كما يوجد أحيانا قطع من الأواني الفخارية وبعض الأشياء الأخرى .
    ومع أنه كثيرا ما يقال أن هذه الأشياء ترجع إلى عصر ما قبل الإسلام وأحيانا تنسب إلى شعب الجالا ، فإن كثيرا منها يبدو أنه حديث لا يعدو أن يكون عمره بضع مئات من السنين .
    والشكل الثاني من تلك الروابي أقل شيوعا ، ولكنه أكثر في انتشاره وهو أكثر مهابة وجلالا وأثرا في النفس . يبلغ ارتفاعها أحيانا عشرين قدما ذات شكل جميل ، وهذه المعالم لم تفحص إلى الآن فحصا دقيقا منظما ، ورما كان لها قيمة أثرية كبيرة .
    وقد عثر على أحجار وآلات مصنوعة في مغارات مجرتنيا تشير إلى أن السكان القدامى كانوا يملكون الآلات والأثاث ، ولهم علاقات مع دول العالم القديم ، وخاصة مع مصر الفرعونية التي كانت تتحصل على حاجياتها من البخور واللبان والأخشاب لمعابدها من بلاد بونت (الصومال) .
    وأرض بونت في التعريف المصري القديم كانت تشمل سواحل خليج عدن والسواحل الصومالية الشمالية حتى رأس غردفوي الذي أطلفوا عليه اسم أرض الآلهة .
    وكان سكان السواحل الشرقية للصومال يعملون بالتجارة والصيد البحري وعلى معرفة بصناعة المعادن ، وخاصة سكان مدينة سيربيون (مقدشوه) ومدينة بيكون (براوة) وكانت لهم تجارة واسعة مع جنوب شرقي آسيا (الهند والصين وأندونيسيا) .
    وكانت شبه جزيرة الصومال في اتصال دائم بشبه جزيرة العرب وخاصة أهل اليمن الذين كانوا يسيطرون على مياه خليج أباليتي (عدن) .
    كما كانت لهم علاقة بدول العالم القديم كبابل وآشور وفينيقيا ومصر الفرعونية ، وغيرها كما سنى فيما بعد .
    هجرة البانتو
    في الوثيقة العربية القديمة التي وجدت في براوه ، نجد جماعات من الزنوج البانتو يسمون وانيكا ، كانوا منتشرين في جوبا (الجب) ولهم ماشية وأغنام ودواجن ، ولهم زراعة في الذرة والموز ، وكانت أكبر قراهم قرية تدعى شونفاي ، وأسلاف الوانيكا التي تتحدث عنهم الوثيقة العربية كانوا يعيشون قرونا طويلة بين نهري جوبا وشبيلي فقد سهلت المجاري المائية في استقرارهم وقيامهم ببعض الأعمال الزراعية .
    ومن الأخبار التي وصلتنا عن سكان جوبا وشبيلي القدامى أن حياتهم كانت بدائية للغاية خالية من الترف ، وأن لهم تنظيمات إدارية وحياة اجتماعية هادئة مسالمة ، حتى أن القرى المتفرقة المتباعدة كانت تسودها المحبة والهدوء .
    وفي الشعر العربي القديم نجد حديثا عن اجتماع ملكي كان ينظم للبحث في الشئون العامة بين السكان وكانت مدينة شونفاي مركز الاجتماعات وكان لهؤلاء السكان القدامى ابتهالات واحتفالات بالأعياد التقليدية والعقائد الدينية ليتوسلوا إلى السماء أن تنزل المطر ، أو عندما يجنون الزرع ، وكان من عاداتهم الاحتفال بأبنائهم حين بلوغهم سن الرشد .
    ساب
    من المجموعات البشرية المعروفة في الصومال ، وتتضمن شعب ميدجان وشعب نومال وشعب جيبر وقد قال سليجمان العالم الأنثروبولوجي البريطاني أن هذه المنطقة المحيطة بنهر جوبا وشبيلي وخاصة في المناطق الوسطى كان يسكنها جماعات من الأقزام ، ومن المحتمل أن يكونوا أسلافا لقبائل البوشمن والبانتو والزنجي الصريح .
    ولكن إذا صح هذا بالنسبة لبعض الشعوب مثل شعب الساندوى في تنجانيقا حيث نجد في لغتهم بعض حروف قاطعة وقريبة من لغة البوشمن كما هو شأن السومانيا وشعب الدوروبور أو الأوجيك في كينيا ، فإنه لا يصح بالنسبة للساب لأنهم لا يحملون على الإطلاق قرائن تدل على أن أسلافهم كانوا من الأقزام ، ولأنهم في الواقع – رجالا ونساء – مكتملوا النمو تجري في عروقهم الدماء الحامية ، ولا ينبغي أن نعتبرهم بقية من سلالة قديمة ، فقد ثبت أنهم لم يتصلوا بالأقزام ، وإنما كان اتصالهم بالعناصر الصومالية الحامية ، فهم من الحاميين أصلا .
    وإذا دققنا النظر في طبقات الدوبي عند الباري في الجنوب الأقصى للسودان ، أن ثبت لنا صحة النظرية التي قال بها سليجمان ، إذ أن معظم هؤلاء الدوبي أقوياء البدن ذوو وجه عريض ، وأنف أفطس ، وبشرة سوداء ، وهم يخالفون في ذلك بعض السكان ذوي الوجه المستطيل والأنف ذي الفتحات الضيقة ، ويبدو أن الدرورويو يتكلمون لغة الناندي ، ولكنهم يختلفون عن هؤلاء الآخرين في أنهم لا يملكون من الحيوانات المستأنسة سوى الكلب ويحملون الحراب والسهام .
    ويمكننا أن نقطع برأي أن جماعات الساب من العناصر الحامية شأنهم في ذلك شأن الصوماليين وأن ما ذهب إليه سيجمان لا أساس له من الناحية الجنسية .
    وفي الوقت نفسه نتفق مع رأي سليجمان في أن الصوماليين – لا يختلفون كثيرا من إخوانهم من الجالا الحامين من حيث الصفات الجثمانية إلا أن الصوماليين يتميزون بعرض الجمجمة (حوالي 75) وأنهم أكثر طولا (حوالي 68 بوصة) ولون بشرتهم يتدرج من اللون البني إلى الأسمر الفاتح ، وأن الصوماليين جنود مهرة إذا وجدوا القيادة الرشيدة ، كما حدث حينما تولى زعامتهم الإمام أحمد جرى الصومالي والسيد محمد عبدالله حسن الأوجاديني .
    وقد ذكر سليجمان في معرض حديثه عن المجتمع الصومالي القديم أنه مجتمع قبلي والرياسة منحصرة في عائلة بمفردها لا يشاركها أحد من العائلات الأخرى ، ومع ذلك فإن سلطة الرياسة ضعيفة ، كما هو الحال عند القبائل الرحل بصفة عامة .
    هجرة الجالا
    في القرون الأولى للميلاد وفدت جماعات الجالا إلى شبه جزيرة الصومال ، وهي عناصر جديدة من أصل حامي ، ومعها سهام ونبال وأدوات حرب وكثير من الحبوب . وفي فترة وجيزة أمكنهم أن يستخلصوا شبه جزيرة الصومال لأنفسهم وأن يطردوا جماعات البانتو إلى الجنوب والشرق ، وقد تخلف بعض البانتو على ضفاف نهر جوبا ونهر شبيلي ، وفي المناطق المنعزلة النائية ، وعلى طول النطاق الكبير الذي يمتد من الجنوب لهضبة هرر فوادي شبيلي فوادي جوبا حيث تتلاشى العوائق الطبيعية في منطقة شاسعة من الشرق إلى الجنوب الشرقي .
    وفي هذا التاريخ كانت بلاد العرب في حرب مع الحبشة ، وكان من السهل على هؤلاء المتحاربين أن يعبروا البحر الأحمر ومضيق باب المندب إلى الحبشة ، وقد استمرت الحروب بين العرب والأكسوميين فترة طويلة وقعت خلالها بلاد اليمن تحت سيطرة الأحباش نحو خمسين عاما ، ثم طردهم العرب بعد استنجادهم بالفرس ، وذلك قبل الهجرة المحمدية بنحو خمسين عاما .
    والشاعر الفارسي فرووس يتغنى في شعر له بانتصار الفرس والعرب على الأكسوميين قائلا : وصلت جيوشنا الجرارة إلى بربره ...وأقاموا ، وحاربوا ، سادة كراما ...
    وكان لهذه الحروب العربية الحبشية الطويلة أثر كبير في تحرك جماعات الجالا عن الأراضي الشمالية التي كانت مقرا ومجالا لهذه الحروب ، واضطروا أن يبحثوا عن مناطق أخرى جديدة يستوطنونها بعيدا عن شبه الحروب ورغبة في الاستقرار والأمن .
    وكانت الظروف الطبيعية كالبحث عن موارد المياه والآبار – وعامل الجفاف أحيانا – من أشد العوامل الطبيعية المؤثرة في حياة قبائل الجالا الرعوية ، ولذا كانوا في حركة مستمرة دون استقرار ثابت . وهذه الحركة يمكن إجمالها في العصور الأولى للميلاد في محوريين : المحور الأول : وكانت الحركة من الجنوب بالأوجادين إلى وسط وشمال الصومال . والمحور الثاني : وكانت الحركة عكسية للمحور الأول ، بالإضافة إلى تحركات مستمرة على طول الأودية النهرية .
    ومن الثابت ، على ضوء القصص والروايات القديمة والتقاليد ، أن حركة الرعاة من قبائل الجالا بدأت بشكل واضح في الوقت الذي كان فيه التيار الإسلامي في طريقه إلى الظهور في مكة المكرمة . ولهؤلاء الرعاة حياة مرتبطة بالماشية التي كانوا يملكونها بكثرة ، وكانت مساكنهم عبارة عن أكواخ بدائية بسهل فكها وحملها ، وكانوا يستخدمون قرون النيران كأسلحة حربية . وكان لهم أقواس وسهام ، ولبعضهم خناجر ورماح من المعدن ، ولهم ملابس من الجلد ، والبعض له ما يستر العورة . وكان لرئيس القبيلة حق الطاعة العمياء من أفراد العائلة والرؤساء الآخرين الأقل منه شأنا ، فكان النظام العائلي مرتبطا بالعادات والتقاليد ونظام القربى وليس بينهم ملكية للأراضي كما كانت لهم عادات زنجية مثل الطقوس الدينية والاحتفالات بالأعياد الوطنية التي يشترك فيها الجميع ، وقد أخذ الجالا ببعض عادات الزنوج كنظام السن .. ففي سن 14 سنة هناك مسئوليات معينة وفي سن 21 (البلوغ) مسئوليات رياسة القبيلة . وقد حددت مدة الرياسة بسبع سنوات ، وكان تعيين الرؤساء طبقا للأعمار ، وفي العادة كانت كلمة الرؤساء نافذة في الشعب كما أخذ الجالا بعض نظم الزراعة والعادات الخاصة بالزواج من الزنوج أيضا ..
    ومن الممكن أن نوجز حركة الهجرة والاستقرارات الأولى للجالا في شبه جزيرة الصومال بأنها حركة لجماعات رعوية قادمة سواء من الجزيرة العربية أو من منطقة الصومال نفسها في الوقت الذي كانت شعوب أخرى من أصل وانيكا في الأزمنة القديمة تقطن على ضفتي نهر شبيلي وجوبا في استقرار زراعي حينما قدم عليهم هؤلاء الحاميون الرعاة (الجالا) ، ومن المرجح أنهم تفاوضوا سلميا من الزنوج في شأن تحديد مناطق كل جماعة ولا يجوز لنا أن نعتقد أن الجالا قاموا بحروب بمجرد وصولهم مع الحبشة ، فلا بد أن تكون الحياة في بداية المر سليمة لأن أهل الجالا لم يكونوا قادرين على خوض حروب مع جيرانهم خاصة الجماعات الحبشية المتزنجة . وإذا كانت قد حدثت حروب فعلا فإن علمنا بها ضئيل للغاية . ولكن مما لا شك فيه أن المنافسة بين الجالا والزنوج استمرت فترة طويلة ، وحدث بينهم احتكاكات قهرية ظهرت تأثيراتها في الجماعات الزنجية من الناحية الجنسية والثقافية والاجتماعية كما ظهر عند الجالا بعض العادات والتقاليد الزنجية كما أوردنا سالفا .
    ظهور الصوماليون
    خلال فترة التطاحن بين الجالا والزنوج وصلت موجة حامية أكثر نشاطا وحركة وأكثر عددا وميلا للحرب من جماعات الجالا والزنوج ، وهؤلاء القادمون الجدد من العناصر الحامية الخالصة وهم ما نسميهم الصوماليين الأوائل ، ومهما كانت الآراء حول المنطقة التي قدموا منها سواء عن طريق برزخ السويس أو باب المندب ، أو كانت نشأتهم في منطقة القرن الإفريقي نفسه فإن المستفاد من القول أن الطلائع الأولى للصوماليين ظهرت علىمسرح التاريخ في السنوات الأولى للميلاد ، وذلك في صورة جماعات مستقرة حول جيبوتي وعلى طول خليج تاجورة ، وتتابعت بعد ذلك الهجرات الحامية للصوماليين وزاد عددهم قبل وبعد ظهور الإسلام ، واتسعت المنطقة للحاميين الصوماليين الجدد حتى امتد نطاقهم من خليج تاجوره إلى هضاب مجرتينيا .
    وإن كنا لا نستطيع أن نحدد في الوقت الحاضر تاريخ وصول وامتداد العناصر الصومالية في شبه جزيرة الصومال فإنه يمكن القول بأن العناصر الصومالية كانت موجودة ومنتشرة في عهد واحد في مناطق الشمال والأوجادين وحول نهري جوبا وشبيلي ، ومن المحتمل أيضا أن بعض المناطق المذكورة كانت تحارب الجالا والبعض الآخر كان يعيش في سلم وهدوء مع الجالا .
    والأخبار التي نقلت على ألسنة الصوماليين تسمح لنا أن نحدد التاريخ العام للصومال بالإشارة إلى الفقرة السابقة التي قالوا أنها استمرت في المراكز السابق ذكرها واحدا وثلاثين جيلا ، أي سبعمائة عام تقريبا ، ويكون ذلك في منتصف القرن الثالث عشر .
    والحقيقة أن واحدا وثلاثين جيلا أو سبعمائة عام كما جاء في السفر الذي وجد في هرر وغيهرا من وثائق هرر يمكن اعتبارها مثلا ليس غير . فمن المحتمل أن الصوماليين كانوا في هذه الفترة في أواسط شبه جزيرة الصومال ، كما كانت المناطق الشمالية مشغولة بجماعات الجالا أما الأراضي الجنوبية بالنسبة لمنطقة التجمع الصومالي فكانت أيضا مشغولة بجماعات البانتو ، ومن المرجح أن تاريخ ظهور الصوماليين الأوائل أبعد من هذا بكثير .
    فالصورة الكاملة التي تنطبع في أذهاننا عن تاريخ الصوماليين ترجع إلى نحو ألف عام وتنطبع خاصة بالنسبة للقرن العاشر . ففي ذلك الوقت كانت المنطقة الساحلية لخليج عدن إلى الداخل يقيم فيها رعاة صوماليون ، ثم يأتي إلى الغرب منهم وإلى الجنوب جماعات مختلفة من قبائل الجالا الرعاة الذين انتشروا في الأراضي القريبة للصومال ، وقد شغل الصوماليون والجالا الأراضي الخصبة الواقعة بين نهري شبيلي وجوبا ، وكذلك عناصر صغيرة من البانتو الرعاة الذين نزحوا من أقصى الجنوب بالإضافة إلى عنصر آخر صغير من أناس يعملون بالصيد والتقاط الثمار وينتشرون في جهات مختلفة إلى الجنوب من نهر جوبا وفي جزر الباجون .
    هذا ماكان عليه التوزيع البشري في القرن التاسع والعاشر حينما كانت الأراضي الإفريقية مخلخلة السكان وكانت الأرض ملكا لمن يقطنها .
    وقيل أن نتتبع سير حركات الامتداد الصومالي يجب أن تعود باختصار إلى الحوادث التي وقعت على السواحل الصومالية .
    المسلمون الأوائل
    بعد القرن السابع جاء التجار المسلمون منا لعرب والفرس مع شروق فجر الإسلام إلى الساحل لإنشاء مراكز جديدة للتجارة ، ومواصلة عمل القديم منها ، وهؤلاء المستوطنون الجدد ، والداعون أيضا لعقيدتهم نصبوا أنفسهم حكام محليين ، وتزوجوا من نساء صوماليات ، ونتيجة الرضى النفسي بين الجديد والقديم والتآخي في الإسلام بين العرب والعجم (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) .. نتيجة لهذا كله تبلورت العلاقات ، ونبذت بعضا لتقاليد وظهرت في صورة جديدة ذات حضارة صومالية عربية .
    وعلى منط هذا الأثر الإسلامي لهذه المراكز على طول اساحل الصومالي الشمالي كانت مواني زيلع وبربره القديمة ، وقد ذكر اسم زيلع لأول مرة أحد الجفرافيين العرب في القرن التاسع ، أما بربره وهي الميناء الرئيسي اليوم في الشمال ، فيحتمل أن يكون لها عتاقة (قدم مشابهة غير أن تاريخها ظلل مغمورا خامل الذكر.
    وفي الفترة التي كان البرتغاليون يجوبون المحيط الهندي بحثا عن الطريق بين أوروبا والهند وصلت سفنهم إلى مياه خليج عدن ، وقاموا بغزو المدينة وقتها حوالي عام 1518 . ولكن ماعدا ذلك لا نعرف من أخبار المدينة التي سلبت أي معلومات ، كما يدل على ذلك الآثار القديمة للمدينة التي لم ينقب عنها بعد ولم يسجل عنها إلا القليل حتى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، وهناك غموض مشابه يكتنف ميناء (ميت) الجميل على ساحل إقليم عرجابو أحد المراكز الرئيسية للتوسع الصومالي قديما .
    نعود ثانيا فنقول : إن الآثار القديمة الشاملة لا تزال في انتظار آراء العلماء لأن الرمال حول المزار تغطى بالكثير من أحجار القبول القديمة المنقوش علهيا – على قشورها وعلى شقفاتها – كثير من الأدوات الصعبة الدقيقة الصنع .
    وتاريخ زيلع أقل غموضا ، وكان هذا الميناء ه المحور السياسي للمستوطنين المسلمين في الشمال ، وقد اكتسب رخاءه التجاري من موقعه كأحد المنافذ الرئيسية للتجارة بين الصومال وبلاد العرب والشرق . ومن زيلع تمر جلود الحيوانات المدبوغ منها والخام ، والصمغ القيم ، واللبان ، وريش النعام . ومن هضبات الحبشة يأتي العاج والخزف والفخار والمؤن مثل الحبوب . كل ذلك كان يستورد في مقابل غلات الصومال السابقة ، وينقل إلى الداخل في طرق منتظمة بواسطة قوافل الجمال التجارية بين الساحل والداخل القاري ..
    ومن الناحية السياسية كانت زيلع تعتبر أصلا مركزا لإمارة (عدل) وهي جزء من الدولة الإسلامية الواسعة المعروفة باسم (آفات ، وكانت تجمع بين العرب والصوماليين والدناقل وبعض العناصر الأسيوية التي تتناثر هنا وهناك .
    وبتقدم الأيام تطورت حضارة مدينة زيلع ، وأصبحت مميزة عن غيرها ، واشتهرت برقصاتها وأغانيها ، وبلهجتها الخاصة . ومن منتجاتها الحصر الملونة التي لا وجود لمثلها في مكان آخر ، وتزين بها حوائط المساكن الحجرية التي يسكنها أغنياء الناس ، بالرغم من أن الميناء يستعيد كيانه كمركز إداري فإننا لا نجد غير آثار مسجد واحد جليل ، ومقابر لبعض الشيوخ تشير إلى عظمة الماضي وجلاله ، وكذلك يرى الزائر عن بعد منظرا مرموقا من الجير الأبيض اللامع يبدو متألقا في حرارة السهول على الطريق إلى زيلع فيكون فكرة واضحة عما كانت عليه المدينة في الفترة التي تتكلم عنها .
    وبينما كان هؤلاء المستوطنون الشماليون في نمو وازدياد نهضت تقافات عربية مماثلة على طول الساحل الصومالي الجنوبي المواجه للمحيط الهندي وأهمها مدينة مقدشوه عاصمة الجمهورية الصومالية في الوقت الحاضر ، وبراوة ومركة وكلها مواني تستغل كمستودع للتجارة بين الصومال والعرب وأسواق الشرق .. وتبين الشواهد التي قدمها الجغرافيون العرب السابقون كما تدل المخطوطات المحلية والمستندات كيف أقام المستوطنون العرب والعجم في مقدشوه في النصف الأول من القرن العاشر ولذلك كان لعاصمة الجمهورية تاريخ أطول من المراكز القديمة على ساحل أفريقيا الشرقي .
    وبعض المخطوطات القديمة المعروفة للمدينة محفوظة في متحف الجاريزا (بمقدشوه) وترجع إلى 720م بينما يرجع تاريخ بعضها الذي لم يكتشف إلى الآن إلى أبعد من ذلك ، وذلك لأن الآثار عند حمر جب جب ، مثل الأماكن الأثرية الأخرى في الجمهورية لم ينقبعنها بعد ، وظل سرها غامضا . ويحتمل أن توجد شواهد مباشرة على تاريخ مقدشوه في الفترة الأخيرة من المساجد القديمة المتخلفة مثل المسجد الجامع في الحي القديم لحمروين ، وفوق المدخل المؤدي إلى المئذنة التي بنيت على شكل برج ، تبين إحدى المخطوطات العربية للزائر أن هذا البرج قد شيد في عام 1238م .
    ومسجد فخر الدين مكان آخر للعبادة شهير في نفس الحي مقدشوه ، وهو يحتويعلى مخطوطات تشير إلى أنه بني في عام 1269 م ، ويوجد في براوة ومركه مساجد ونقوش لها قيمة أثرية متشابهة ، ففي كل من الشمال والجنوب لشبه جزيرة الصومال توجد مراكز تجارية إسلامية قد نشأت في القرن العاشر وهذه المواني قد اكتسبت من الإسلام والتجارة مركزا مرمبوقا قويا مع الشرق وقد تدعمت هذه المراكز ، وعظم شأنها في القرون اللاحقة ، كما أصبحت أساس التوسع الإسلامي في شرق الصومال .
    حركة الانتشار للعناصر الصومالية
    إن العامل الرئيسي الأول لحركة الانتشار الصومالي تتواتره الأخبار في حوالي القرن الحادي عشر فتذكر أن أحد السلاف الصوماليين أقام فيا لركن الشمالي الشرقي من صومالند ، ثم الحادثة التي تلت ذلكف ي الأهمية هي استيطان الشيخ إسحاق مؤسس (الإسحاقيون الصوماليون) وكان من أكبر دعاة الإسلام في الإقليم الشمالي ، وقد امتد بدعوته إلى ناحية هرر وبعض نواحي الحبشة ويتزايد عدد الصوماليين من دارود وإسحاق ، وازدادوا في حركة الانتشار وبدءوا يتنافسون مع بعضهم البعض ومع الجماعات الصومالية الذين نزحوا بعدهم ومع جيرانهم من الجالا ، وبذلك نشأ اندفاع عام للعناصر الصومالية الحامية في الانتشار تجاه الجنوب والغرب من شبه جزيرة الصومال .
    وبدأت حركة الانتشار الصومالي تتخذ خطوات عملية اعتبارا من القرن الثالث عشر وكانت عنيفة في اندفاعها نحو طرد جماعات الجالات ، وكانت حركة الصوماليين تتسم بالطابع الجماعي المنظم من مراكزهم في الأوجاودين ومجرتنيا وصومالند نحو الأراضي الخصبة في المناطق الوسطى الجنوبية لشبه جزيرة الصومال ، وتحتم على الجالا الخوف من هذا التدفق العظيم من جانب المحاربين الصوماليين فاضطروا أن يطلبوا النجاة في مكان آخر أكثر آمنا واستقرارا ، فأخذ بعضهم يتجه نحو الغرب والشمال الغربي والبعض الآخر اتجه نحو الأودية والجنوب الأقصى للصومال .
    إن المصدر الوحيد الذي يحدثنا عن المعارك التي صاحبت هذه التحركات والتي دامت كما نقدر أكثر من ثلاثة قرون ، هو القصص الشعبية التي مازالت حتى الآن على ألسنة الصوماليين . إنها أناشيد حماسية تتحدث عن معارك وانتصارات الصوماليين الذين كانوا يتدفقون إلى داخل المناطق ، أنها أسماء موارد المياه والآبار التي استولى عليها القادمون الجدد والتي تركها الآخرون وأسماء قواد مظفرين استشهدوا في مساحة المعركة .
    بدراسة هذه الشعبية باهتمام يمكننا من جديد تكوين الخطوط التالية لتحركات الصوماليين : البقاء في مكانواحد لعدة أجيال بشرية .. الكمائن التي تصبها الجالا .. فترات الهدنة التي كانت تعقب الحروب ...
    الاستقرارات الصومالية
    ونستطيع أن نجزم برأي في أن الصوماليين كانوا في القرن الحادي عشر الميلادي (التاسع الهجري) قد جاوزوا نهر شبيلي عند نقاط مختلفة وأنهم كانوا يستوطنون ويعمرون أقاليم بنادر العليا التي هي بين النهرين يشهد بذلك أحد الجغرافيين العرب الأوائل الذي وصل إلى داخل أراضي مركه في القرن الثالث عشر .
    كما نستطيع أن نثبت بكل يقين أن جماعة أخرى كانت تتحرك من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي باتجاه السواحل الصومالية وكانت هذه الجماعات تستولي على الآبار التي تتابع وتتلاصق على شكل سلسلة بالقرب من التلال الرملية الساحلية واحدة بعد الأخرى .
    إن وجود الجالا جنوب مقدشوه ، وذلك حوالي القرن السابع الهجري حسبما نعتقد ، تذكره الأسطورة التالية : لقد لجأ سكان الساحل .. العرب والصوماليون القاطنون بالقرب من (جندرشه) حينما شعروا باقتراب المهاجمين من الجالا إلى صخرة أوجروين حيث يوجد الآن خرائب وآثار منازل قديمة كانت مبنية من الأحجار ، كما يوجد ضريح الشيخ عثمان جروين ، وفي إحدى الغزوات حاول فرسان الجالا أن يصلوا إلى الصخرة أثناء فترة الجزر ولكنهم لم يتمكنوا من تحقيق هدفهم لمداهمة المسد إياهم .
    أما في شمال الصومال فقد كان الصوماليون مسيطرين على أكثر الأراضي في مجرتنيا وصومالند وكانت المعركة الفاصلة في الحروب الصومالية مع الجالا في مدينة جالكعيو الخالدة التي لم تكن تسمي بهذا الاسم من قبل ، فكلمة جال كعيو تعني (باللغة الصومالية) هزيمة الجال أو طرد الجالا . وخلال فترة الانتشار أو الامتداد الصومالي كان هناك عدد من الإمارات الإسلامية قد نمت بشكل مذهل على أسس عسكرية متوعدة المملكة المسيحية للحبشة كانت القوى الصومالية تشكل ركنا هاما وأساسيا في هذه القوى العسكرية المسلمة ، وهذه الإمارات الإسلامية تمتد بين بربره وزيلع إلى الجنوب الغربي على صورة نطاق كبير إلى الغرب والجنوب الغربي لشبه جزيرة الصومال .
    وقد زعمت الحركة افسلامية (كما سنرى فيما بعد) دولة أوفات التي اتخذت من زيلع عاصمة لها وعملت على توحيد الجبهة الصومالية المسلمة واستمرت في حروب طويلة مع الحبشة .. وفي تلك الفترة ازدهرت مواني بربره وزيلع وميت ، ونحو عشرين مدينة أخرى في الداخل . وقد تركت هذه البلاد آثارا ذات شأن من مساجد ومقابر ومساكن وآبار وفي بعض الحالات شواهد زراعية قد دكت رسومها وانطمست معالمها الآن ، ويبدو أن بعض البلاد مثل عمود فيم قاطعة بورما في الشمال الغربي قد احتلت لقرون عديدة وربما يرجع ذلك إلى عصور أكسوم قبل دخول الإسلام ، وهذه المواقع مازالت تحافظ على الأدلة القوية للتاريخ القديم وهي مازالت تنتظر رأي العلماء والباحثين الأثريين .
    ويسجل التاريخ الأثيوبي أكبر نكسة حدثت في بلاد الحبشة ، وأعظم انتصار للقوى الإسلامية الصومالية ، وانتشارها داخل الأراضي الحبشية حتى خضعت أكسوم عاصمة الحبشة للمسلمين الصوماليين بقيادة الإمام البطل أحمد جرى (الأشول) الذي ألجأ الأحباش إلى الفرار حتى شمال أكسوم ، وإلى جنوب بحيرة رودلف ، وأمام الجيوش الصومالية الكاسحة التي حكمت ما يقرب من ثلثي الحبشة ، مات ملك ملوك الحبشة متأثرا بجراحه داخل الأدغال .
    واستعادت الحبشة بعض هيبتها حينما تدخل الجنود المرتزقة من البرتغاليين في النزاع الحبشي الصومالي ، وقدم ملك البرتغال جيشا على أحدث طراز في التسليح لمساعدة النصارى الأحباش ، وأمام القوى البرتغالية البحرية والقوى الحبشية البرية تراجع الإمام وجنوده الأبطال إلى أن توفي الإمام أحمد جرى حوالي عام 1542 . وهذا الانتصار البرتغالي الحبشي قد أوقف حركة الانتشار الصومالي داخل الحبشة بغية نشر الرسالة المحمدية ، والدعوة إلى الدين الحنيف .
    وفي الأعوام الأخيرة لنهاية القرن السادس عشر كانت هناك حركة انتشار للعناصر الصومالية نحو تعمير الأراضي التي حول نهر شبيلي بالاستقرار من أجل الزراعة ، وقد عبروا نهر شبيلي بالقرب من مدينة خلافو ، وأخذوا يجدون في سيرهم مقتفين أثر الجالا حتى وصل الصوماليون إلى نهر جوبا قرب مدينة دولو واستوطنوا الأقاليم الشمالية لجوبا ، وهي مناطق غنية بالمراعي الطبيعية والغابات والأراضي الصالحة للزراعة ، وكان مركز استقرارهم في المساحات الواقعة بين لوخ ووحز وتباس ... ثم حدث في نفس الوقت امتداد صومالي في نقط متعددة على نهر جوبا الجيدة في جوبا السفلى ، وانتشروا في مساحات واسعة إلى الجنوب من ضفاف نهر تانا والأراضي الواقعة إلى شمال النهر ، وهي التي نسميها اليوم باسم (انفدى) أو أراضي منطقة الحدود الشمالية .
    وخلال هذا الزمن كانت هناك حركة لتنقية شبه جزيرة الصومال من العناصر الدخيلة كالجالا ، ومن هذه الحركات تلك الحركة الصومالية المتجهة إلى شمال هرر شبيلي ، والحركة المتجهة نحور بور هكبه والأراضي الخصبة القريبة منها واستخلاصها من يد الجالا الذين رحلوا مسرعين صوب الجنوب الشرقي للحبشة إلى موطنهم الأصلي .
    ومن المحاربين القدماء للجالا القائد مونلى والقائد ورداي المسلمان اللذان انضما إلى القوات الصومالية الإسلامية وساندوا القضية الصومالية أمام المغيرين من جماعات الجالا ، وكانت المعارك الحربية بين الصوماليين والجالا لها أسماء مختلفة منها .. (حرث) أي الموقع الذي التحاموا فيه ، (لف قال) أي عظام الجالا .
    وكان لجماعات الجالا قائد فظ القلب لا يعرف في أحكامه إلا الحكم بالإعدام ، مما دفع العناصر الصومالية أن تظهر متحدة قوية حتى أمكنها التغلب عليه وطرد الجالا نهائيا بعد هزيمتهم في جالكعيو .
    وفي عام 1110 هـ (1700 م) ظهر الشيخ مؤمن عبدالله الذي كان يلقب بمسلم مقدشوه ، وكان المعلم الول للصوماليين نحو الاستقرار من أجل الزراعة ، وتسميد التربة ، وتحديد الملكيات بالأحجار والأشجار ، ومحاربة الافات الزراعية ... ولذا نعتبر الشيخ مؤمن عبدالله أول من علم الصوماليين الزراعة ، ودعا إلى الاستقرار والتنظيم الاجتماعي . وفي الوقت نفسه ، هو أول قاض سومالي ينظر في أحوال الشعب بالعدل على أساس التعاليم الإسلامية مما جعل منطقة بورهكبه تحتل الصدارة في تاريخ الاستقرار البشري من أجل الزراعة في شبه جزيرة الصومال ، ثم امتد أثرها إلى منطقة بيدوا وما حولها حيث ظهر فيها علماء صوماليون يعلمون السكان تعاليم الإسلام والاستقرار من أجل الزراعة . وتشكلت جماعات منظمة تعمل على الاستقرار للشعب وتحويل السكان من حرفة الرعي إلى الزراعة .
    وفي القرن السابع عشر كان تدفق المهاجرين الصوماليين له اعتبار كبير فقد اجتاحت سلطنة أجوران الصومالية القديمة على نهر شبيلي وأغارت على مقدشوه وأصبحت مقدشوه نفسها منقسمة إلى حيين متنافسين هما حمروين وشنغاني .
    وعلى أية حال استمر الانتشار الصوماي في الامتداد في الدخيل القاري من خليج تاجوره إلى أعلى نهري جوبا وشبيلي إلى بحيرة رودلف إلى نهر تانا جنوبا وذلك بإيجاد مراكز إدارية على النهر حوالي عام 1912.
    وقبل أن تنتهي من فترة الانتشار الصومالي يجب أن نشير إلى أن سير هذه الحروب كان ذا طابع خاص ، كانت تبدأ بمناوشات بدائية بين السكان ، ثم تتحول إلى حرب عصابات تكون فيها الحركة حسب ظروف المكان والزمان التي تحيط بهم . على أنه لم تكن لها طبيعة الحرب العامة المنظمة بل لها طبيعة الأحداث ، ومن سلسلة الأحداث المتصلة التي ذكرناها كان تاريخ الحركة التوسعية أو الانتشار العام للصوماليين حتى خلصت البلاد للصوماليين فقط في نهاية القرن الثالث عشر .
    ويحسن الإشارة إلى ما وجده الرحالة الألماني ديكن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي من أن جماعات من البوران على الضفة اليمنى لنهر جوبا بحذاء جومبو وخلف بارديرا تقابلوا مع جماعة من الجالا وهؤلاء هم بقايا الجالا الذين عادوا إلى المنطقة بعد الأحداث التي جرت في الصومال في القرن الماضي من وراء تقسيم الصومال إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والحبشة على نحو ما سنرى فيما بعد .

    الباب الثاني
    الفصل الثاني الصومال والعالم القديم
    إن أنجع وسيلة لمعرفة التاريخ العام للصومال في العصور القديمة هو أن تعتمد على تلك العلاقات الصومالية بمواطن الحضارات القديمة في إفريقيا وآسيا ، وقد تكون هذه العلاقات الصومالية قوية مع دولة وضعيفة مع دولة أخرى ، أو متذبذبة بين قوة وضعف مع دولة ما على طول التاريخ القديم ،ولكن من مجموع هذه العلاقات والاتصالا والمسجلات الموجودة في تلك الدول ، ومل يتيسر تسجيلها في لاصومال نفسه ، يمكن أن تكونمن كل هذا صورة واضحة أو مدخلا إلى التاريخ العام للصومال في هذه العصور الغابرة .. ولذا رأينا أن نورد ما كتبته أوس جلته الأمم الأخرى على معابدة أو مخلفاتها الأثرية عن الصومال لإيجاد حلقة اتصال بين الصومال والأمم الحضارية القديمة من ناحية ، ومعرفة الحضارة الصومالية ومستواها أيضا قياسا بمفهومية هذه الدول عن الصومال أرضا وشعبا من ناحية أخرى .
    وتتناول هذه الدراسة المجالات التالية : 1- العلاقات القديمة بين الصومال ومصر الفرعونية .2- الصومال ودول جنوب شرقي آسيا . 3- الصومال ودول البحر المتوسط . 4- الصومال وبلاد العرب .
    العلاقات القديمة بين الصومال ومصر الفرعونية
    وسائل الاتصال : لعبت الصومال دورا كبيرا في الحركة التجارية والحضارية مع دول العالم المتحضر في العصور القديمة وكانت هذه الاتصالات التجارية والحضارية مع مصر الفرعونية لما بينهما من وحدة الجنس ووحدة الثقافة والمدنية الحامية بالإضافة إلى عوامل أخرى كانت كوسائل ربط وتدعيم بين الأمة المصرية والأمة الصومالية في العصور القديمة ، بل على طول التاريخ حتى يوم الدين ، وذلك هو وجود كل من الصومال ومصر على الطريق الملاحي التجاري العظيم وهو طريق البحر الأحمر ... فمصر تتحكم في المدخل الشمالي للبحر الأحمر – والصومال تتحكم في المدخل الجنوبي . ولم تكن أهمية البحر الأحمر في العالم القديم بأقل من أهميته الفائقة في العصر الحديث ، ويتصف هذا الطريق بالأهمية التجارية بين الشرق والغرب وكانت نقطة البداية البحرية في الشمال عندمدينة القصير ولم تكن مدينة السويس – وهذا لظروف جغرافية – في العصور القديمة ، وقد تغيرت أهميتها بالنسبية مع تطور الحياة البشرية ، ذلك أن العوامل الجغرافية الطبيعية في اعصةر القديمة كانت أشد تحكما في الإنسان ، بل إن قصة الحضارة في كثير من جوانبها لا تعدو تطور التفاعل بين الإنسان والبيئة وازدياد سيطرته عليها ، فالإنسان في بدء الحياة يتابع معالم التضاريس في انتقالاته البرية ، وإذا ما انتقل إلى البحر كان محاذيا للساحل دون الابتعاد عن اليابس ، ومع تطور الحياة والصناعة أمكن أن ينتقل إلى أواسط البحار والمحيطات دون خوف أو رهبة معتمدا على النجوم تارة ثم البوصلة والآلات الحديثة في عصر الحضارة والمدنية .
    والبحر الأحمر كان في جملته خطرا على الملاحة كما تشير قصة الملاح الفريق في بحر الصومال التي سنوردها فيما بعد .. ومع هذه المصاعب العملية فيا لملاحة كانت الملاحة في القسم الشمالي من البحر الأحمر أشد خطورة بسبب أعاصير البحر المتوسط التي تتعامد على اتجاه البحر الأحمر في فصل الشتاء ، ومن المحتمل أنها كانت في العصر الفرعوني أكثر حدوثا مما هي عليه في الوقت الحاضر مع مراعاة صغر خجم السفن ، وكانت منطقة الخطورة مركزة عند رأس محمد حيث تسير الرياح الجنوبية التي تجذبها الأعاصير في اتجاهين نحو خليج السويس والعقبة ، ولذلك تحاشى المصريون الأوائل هذه المنطقة بقدر الإمكان ، ومما شجع أيضا على اتخاذ القصير ميناء لمصر الفرعونية أن النيل عند ثنية قنا يقترب من البحر الأحمر فضلا عن الأودية الجافة ، كوادي الحمامات فهي تساعد على الحركة بين النيل والبحر الأحمر ، وفي الوقت نفسه ، وتمتاز هذه المنطقة أيضا بإنتاج بعض المحاصيل الزراعية بجانب عمليات البحث والتنقيب عن الذهب والنحاس والأحجار الثمينة ... ولذا كانت القصير الميناء لبداية الطريق إلى الصومال .
    ويذكر المؤرخون أن العلاقات المصرية الصومالية كانت تتأثر بالأحوال الطبيعية والسياسية والدينية بين قوة وضعف ، ففي الفترات السخية الأمطار في شمال بلاد العرب تتجه السفن المصرية إليها ، وفي الفترات الشديدة الجفاف التي تدعو إلى الإغارة على شمال مصر ، تضطر بعض الأسر المصرية القوية في مصر العليا لأن تقوي علاقاتها التجارية ببلاد الصومال والاتصال بها عن طريق البحر والبر ، وفي العادة كان الضعف السياسي في شمال مصر تقابله قوة سياسية في جنوبها بالإضافة إلى منزلة طيبة الدينية وهذا يزيد من حاجتها إلى البخور والعطور التي تستعمل في الطقوس الدينية ، وكانت بلاد بونت (الصومال) معروفة لدى الفراعنة منذ بداية العصر الفرعوني أي في عهد الأسرة الأولى ، وعرفت بلاد بونت أو الصومال بأنها الأراضي المقدسة ، أرض الإله حيث كان في اعتقادهم أن الإله رع يظهر أول ما يظهر في كل يوم على أرض بلاد الصومال ، كما عرفت بأنها بلاد البخور والعطور والأشجار الثمينة وغيرها من النفائس التي يحتاجون إلهيا في بناء معابدهم .
    العلاقات المصرية الصومالية في عهد الدولة القديمة والوسطى :
    من الثابت أن المصريين عرفوا ركوب البحر في أواسط عصر الدولة القديمة ، وكانت لهم صلة بالصومال ، فقد عثر على صور لموظف صومالي يدعى هرتيزي بجانب ابن الملك خوفو وقد عهد إليه بالإشراف على الرحلات البحرية بين مصر والصومال .
    وقد بدأ المصريون في إعداد الطرق والمواني لتسهيل حركة الملاحة بين مصر والصومال ، فأرسل الملك منتوحتب ضابطا يدعى سعنخ لإعداد الطريق إلى البحر الأحمر فذهب الضابط إلى وادي الحمامات بين قنا والقصير وقال في تقرير له .. (لقد حولت وديانه إلى حدائق خضراء وغناء ، ومرتفعاته إلى حياض من الماء ، وزودته بأولادي (العالمين في تعمير الطرق) على امتداد سعته حتى البحر الأحمر .
    وفي عهد الملك سمنخ كارع منتوحتب وجد نقش على لاحمامات يشير إلى أن الملك أرسل رئيس بيت المال ويدعى حنو إلى بلاد الصومال ، وقد خرجت الحملة من قفط إلى البحر الأحمر مكونة من ثلاثة آلاف رجل ومروا على أماكن نجهلها في الوقت الحاضر وعادت السفن مزودة بالماشية والثيران والغزلان وغيهرا من منتجات الأرض المقدسة (الصومال) .
    وأقدم مخطوط واضح عن العلاقات المصرية الصومالية يرجع إلى عهد الملك (ساحورع) الملك الثاني في الأسرة الخامسة (2763-2660 ق.م) ويذكر المخطوط أن الحملة البحرية عادت باحمال من المر والمعادن النفيسة ، والأشجار الغالية ، وأنها سلكت طريق البحر الأحمر أمام ثنية قنا ومنها إلى بلاد الذهب والعطور ، ومن المرجح أنها بلاد الصومال كما يقول ذلك الدكتور رويش .
    وإلى هذا العهد نفسه نجد نقشا على عامود في المتحف المصري عثر عليه في أبيدوس ، ويذكر هذا النقش خبر إحضار قزم من بلاد الصومال ، ويرى أكثر العلماء أن هذا الأثر يرجع إلى ساحورع الذي وصله من بلاد الصومال 80.000 مكيال من العطور وكمية من المعادن والأخشاب الثمينة .
    وكذلك أرسل الملك أسيس من الأسرة الخامسة حوالي عام 2470 ق.م ، بعثبة تجارية برياسة مستشاره المسمى أوردو إلى بلاد الصومال وقد عادت بالكثير من الهدايا الذي سر لها قلب الملك .
    ومن آثار مصر في عهد الدولة القديمة كان هناك قزم يدعى سنب يحمل لقب الحارس الأكبر لكافة البعثات الملكية ويرى الدكتور رويش أن هذا القزم لا بد أنه قادم عن طريق بلاد الصومال لأن منطقة الأقزام قريبة من الصومال فعلا ، فما زال بقايا الأقزام في تنجانيقا إلى الجنوب من بحيرة نياسا ، وكان جلب الأقزام إلى القصور الملكية في مصر عملا دينيا ، إذ أن ملوك مصر يعتبرون أنفسهم أبناء للإله رع الموجود في بلاد الصومال ، ولهذا كانت الأمتعة .. وإذا تعذر وجود القزم كان يختار الصومال ليحل في القصر الملكي كأمين القصر ، ولذلك كان شعار كل مصري قديم وأمله في الحياة أن يصاحبه صومالي .. ويدعو أن تتحقق له هذه العبارة فيقول : (ليت في بيتي صوماليا) أي أن كل خير يصبو إليه ويتمناه في دنياه أن يكون في بيته صومالي .. شعار الأمانة والشهامة والإنسانية .
    وقد جاء على جدران مقبرة حنوم حتب أحد أشراف أسوان في عهد الملك بيبي الثاني (أنه ذهب إلى بلاد الصومال إحدى عشرة مرة برفقة سيده المسمى حوى حاكم منطقة اسوان) .
    وبعد انقضاء حكم بيبي الثاني انتهت الدولة القديمة وسادت في البلاد فترة اضطراب ، وقام ملوك طيبة في جنوب مصر بتأسيس الدولة الوسطى فعاد إلى مصر عزها ومجدها فاستأنفت العلاقات بين مصر والوصمال في الأسرة الحادية عشرة حيث أمكن في عهد هذه الأسرة شق قناة سيزوستريس بين البحر الأحمر والنيل وبذلك أمكن لتجارة الصومال أن نجد طريقها إلى دول البحر المتوسط عبر الأراضي المصرية كما أمكن زيادة حجم التبادل التجاري بين مصر الفرعونية وبلاد الصومال ، وتعتبر هذه القناة أقدم اتصال مائي بين البحر الأحمر والبحر المتوسط عن طريق النيل وكان خط السير من ميناء القلزم على خليج القلزم (خليج السويس) فبحيرة التمساح ، فوادي الطميلات ، فالقرع الببلوزي (فرع النيل الشرقي) . وبالنيل إلى باقي أجزاء مصر أو إلى البحر المتوسط ، وكان من أثر شق القناة زيادة النشاط البحري في البحر الأحمر أكثر من ذي قبل .
    وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل الملك آمون محات (امنمنحعت) الثاني بعثتين إلى بلاد الصومال عام 1120 ق.م وقد سجلت أخبارهما على لوحتين وجدتا في وادي جاسوس (القصير) .
    كيف تصور المصريون حالة بلاد الصومال في عهد الدولة الوطسى :
    قد يسترعى النظر لأول وهلة أن المصريين حتى في عهد الدولة الوسطى كانوا يعتبرون بلاد الصومال بلادا عجيبة ، وهي البلاد التي ظل ملوك مصر على علاقات تجارية معها منذ عدة قرون . وتفسير ذلك واضح هين .
    فمن العسير على الإنسان البسيط أن يتصور أن النباتات العطرية الغريبة النادرة التي تجلب إليه من بعيد هي ثمار نباتات عادية لا تقتضي زراعتها جهدا أكثر ما تقتضيه ثماره الوطنية ، أو أن يتصور أن الأحجار الكريمة التي تبدو له ذات قيمة كبيرة أنها عادية في بلاد أخرى ، ولذلك كان من الطبيعي أن تصور له مخيلته أن تلك البلدان تقطنها مخلوقات من نوع خرافي تحرس تلك الذخائر وقد تكون أيضا من وصف المصريين الذين قاموا برحلات إلى بلاد الصومال وتغالوا في وصفها والتهويل من أخطار الرحلة حتى يظهروا بمظهر الأبطال المغاوير والفرسان الصناديد وهي على كل حال قد غذت باستمرار خيال الشعب الذي لم يغادر وطنه.
    ومما يتيح استجلاء التصورات التي تخيلها الشعب المصري عن بلاد البخور (الصومال) القصة التالية :
    قصة الملاح الفريق في أرض الصومال
    (هذه القصة حفظت لنا على إحدى برديات الدولة الوسطى المحفوظة الآن في بطرسبرج) . ففيها يقص أحد الحراس القصة التالية التي حدثت لسيد شريف عاد من رحلة بحرية طويلة من الجنوب ، وكان عليه أن يتقدم بتقرير عنها إلى الملك ، وفيها يصور مظاهر الحياة في بلاد الصومال . وأبطالها أسماء مستعارة .. وربما يكون في سرد قصته فرصة تشجعه على المقابلة الملكية .. فيقول في قصته : (لقد سافرت إلى منجم الملك ، فركبت البحر في سفينة طولها 120 ذراعا وعرضها 40 ذراعا وفيها 120 من أحسن ملاحي مصر وقد شهدوا السماء وشهدوا الأرض ، وكانت قلوبهم أثبت من قلوب الأسود ، وكانوا يتنبأون بالعاصفة قبل ثورتها ، وبالزوبعة قبل هبوبها . على أن العاصفة عصفت وكنا لا نوزال في البحر قبل أن نرسو على الأرض وقد اشتدت الريح حتى جاءت موجة (ارتفاعها 8 أذرغ) عصفت بالسفينة فقبضت على قطعة من الخشب تعلقت بها ، ومات كل من كان في السفينة سواي ، ولم يبق منهم أحد فألقتني موجة من البحر على جزيرة فيها قضيت ثلاثة أيام وحدي لا زميل لي غير قلبي ، وقد قمت ابحث عن الطعام لنفسي فوجدت تينا وعنبا وسائر النباتات والثمار العظيمة والأسماك والطيور ولم يكن هناك شيء لم يكن موجودا فيها فأكلت حتى شبعت وتركت ما كنت قد أفرطت في أخذه لنفسي ثم أخذت زندا وأشعلت نارا وأحرقت قربانا للآلهة .
    (وعندئذ سمعت صوت رعد فظننت أنها موجة البحر ، ولكن الأشجار تحطمت وزلزلت الأرض ولما كشفت عن وجهي وجدت أنها حية تقترب ، وكان طولها ثلاثين ذراعا ، وكانت لحيتها أطول من ذراعين ، وكان جسمها مموها بالذهب ، وحواجبها من الاردواز الحقيقي ، وكانت تتلوى زاحفة إلى الأمام ، ثم فتحت لي فمها ، وأنا راقد أمامها على بطني وقالت لي من أتى بك إلى هنا ؟ من أتى بك إلى هنا أيها الصغير ..؟ إن لم تقل لي في الحال عمن أتى بك إلى هذه الجزيرة فسأجعلك تفيق ثم تحرق حتى تصير رمادا ، وتستحيل إلى شيء لا يرى .
    (ثم أخذتني في فمها وجذبتني إلى حجرها حيث وضعتني بغير أن تمسني وقد بقيت سليما دون أنن ينقص مني شيء ثم فتحت لي فمها ، فانبطحت على الأرض وقالت من أتى بك إلى هنا ؟ من أتى بك إلى هنا أيها الصغير ؟ .. من أتى بك إلى جزيرة البحر هذه التي يقع شاطئها في الماء . فأجبتها وذراعاي مثنيتان أمامها .. لقد سافرت إلى المناجم بأمر الملك في سفينة طولها 120 ذراعا وعرضها 40 ذراعا وكان فيها 120 من أشهر ملاحي مصر .. لقد شهدوا الأرض ، وشهدوا السماء ، وكانت قلوبهم أثبت من قلوب الأسود ، وكانوا يتنبأون بالعاصفة قبل ثورتها بالزوبعة ولم يكن بينهم خامل ، ولكن العاصفة عصفت وكنا (لا نزال) في البحر قبل أن ترسو السفينة على الأرض واشتدت الريح .. وكانت معها موجة (ارتفاعها 8 أذرع) فقبضت على قطعة من الخشب ، ومات كل من كان في السفينة غيري ولم يبق منهم أحد سواي أنا الذي أقف أمامك .. وقد جاءت بي موجة إلى هذه الجزيرة . فقالت لي .. لا تخشى شيئا .. لا تخشى شيئا أيها الصغير ، لا تخشى شيئا ، لا تهتم (؟) بعد أن أتيت إلي .. ها قد منحك الآله الحياة .. لقد جاء بك إلى جزيرة الأرواح هذه .. التي يوجدف يها كل شيء يمكن تخيله ، والملأى بكل شيء طيب ، معا سنبقى شهرا بعد آخر حتى تنقضي أربعة شهور في هذه الجزيرة ، وستأتي سفينة من العاصمة وفيها ملاحون يعرفونك ، وستعود معهم إلى العاصمة ، وسنتحدث بقصتك في مدينتك ، لشد ما يبهج المرء أن يقص ما قاساه بعد أن يكون البؤس قد انقضى ، لذلك سأقصي عليك شيئا مماثلا حدث في هذه الجزيرة ... فقد كنت أعيش فيها مع أخوتي وكان بينهم (أيضا) أولادي وكنا جميعا 75 حية منهم أولادي وأخواتي ، عدا ابنة امرأة شامية ، جاء بها القدر (؟) وقد حدث أن هوى نجم فاستحال به هؤلاء (أي أقارب الحية) إلى لهب ولم أكن وقتئذ بجانبهم فاحترقوا ، ونجوت لنني لم أكن بينهم ، وقد كدت أموت حزنا عليه عندما وجدتهم كوما واحدا من الجثث وأنت إذا بقيت صابرا فإنك ستعانق أولادك ، وتقبل زوجتك ، وترى دارك مرة ثانية ، وهذا أفضل من كل شيء ، أنك سترجع إلى العاصمة ، وستعيش فهيا وسط إخوتك .
    (عند ذلك انطرحت على بطني ومسست الأرض أمامها وقلت لها سأقص على الملك نبأك هذا ، وسأخبره بعظمتك ، وسأجعل الناس يجلبون لك زيتا (أب وحكن وأديب وحاست) من أنواع البخور وبخور المعبد الذي يسر جميع الآلهة .. وسأقص ما حدث لي وسيقدم لك الشكر أمام البلاد بأكملها ، وسأذبح لك الماشية قربانا ، وسأذبح لك الوز ، وأجعل السفن تجلب إليك من سائر خبرات مصر ، كما يضع الإنسان للآلهة الذي يحب الناس وهو في بلد بعيد لا نعرفه .
    (عند ذلك ضحكت على ماقلته وقالت لي وفي قلبها سخرية ليس عندك مر ولا أنت أصبحت مالك البخور ، ولكنني حاكمة بونت (الصومال) ، وأملك المر ، أما زيت حكن ذلك الذي تريد أن تجلبه إلي فإنه أعظم شيء في هذه الجزيرة . ولكنك عندما ترحل من هذا المكان فإنك لن ترى هذه الجزيرة مرة أخرى لأنها ستصير ماء .
    (ولقد جاءت السفينة كما تنبأت فذهبت وصعدت على شجرة عالية وتبينت من كان فيها ثم ذهبت لأخبرها فوجدتها تعرف ذلك وقد قالت لي : لترجع سالما ، لترجع سالما إلى دارك أيها الصغير وسترى أولادك من جديد ولكن اجعل لي اسما حسنا في بلدتك ، هذا ما أطلبه منك .
    عند ذاك انبطحت على بطني أماما وذراعاي مثنيتان فاعطتني حمل سفينة من المر وحكن وأديب وحاست ومن خشب تشيس وشعاش ومن أصباغ الوجه وزيول زراف وكرات كبيرة من البخور ومن أنياب الفيل وكلاب الصيد وقردة ذات ذيول طويلة وسائر أنواع الأشياء الثمينة فحملتها على هذه السفينة .
    (وعندما انبطحت أرضا شكرا لها قالت لي .. ستصل العاصمة بعد شهرين ، وستعانق أولادك وسترجع شابا ، وستدفن هناك ، وهبطت إلى الشاطئ حيث كانت هذه السفينة وصحت على الجنود الذين كانوا في هذه السفينة وشكرت لها وهي على الشاطئ من هذه الجزيرة ، وشاركني كذلك أولئك الذين كانوا في السفينة وقد أبحرت شمالا إلى مقر الملك ، ووصلت العاصمة في شهرين تماما كما ذكرت الحية ، ثم دخلت على الملك وجئت له بالعطايا التي أحضرتها من هذه الجزيرة وقد شكرني على الملأ من موظفي البلاد كلها بأكملها) .
    مفهوم القصة
    في القصة عنصر الخيال لجذب أنظار وعطف الملك والشعب وفيها رموز الغرض منها أن تكون عناصر تشويق ، وبجانب هذا وصف لأخطار السفر وطول الرحلة (شهرين) ومهارة الملاحين في الأرصاد والملاحة والشجاعة .. ووصف لبلاد الصومال بكرم الضيافة والحماية للأجانب وتعبير عن العلاقة الروحية بين مصر والصومال وفض النزاع الذي تم بين أبناء البلاد (في الصومال) حينما وفدت عليهم قبيلة أخرى (امرأة) وأحدثت الفتن والنزاع فهلك الكثير مما أثر في نفسية الحاكم للبلاد حتى أنه شعر بنهاية حياته عقب عودة الملاح الغريق (ستصير الجزيرة كالماء) أي البلاد ستكون بلا حاكم وتدل على براعة الصوماليين في التنبؤ ويؤكد ذلك الملاح الغريق بقوله : (وصلت العاصمة في شهرين تماما كما ذكرت الحية (الاسم المستعار للحااكم على أرجح ما نرى) كما أن فيها تعبيرا عن الكرم الصومالي إذ عادت السفينة إلى مصر حاملة هدايا الصومال من أنواع البخور والمر والزيب (أب وحكن وأديب وحاست) ومن أصباغ وذيول الزراف وأنياب الفيلة والقردة وسائر أنواع الأخشاب الثمينة ، ومما يؤكد هذا أن هذه المنتجات تمثل عنصرا هاما من عناصر الإنتاج في الصومال في أيامنا هذه رغم مرور أكثر من خمسة آلاف عام وما زالت هذه الحركة التجارية قائمة بين الجمهورية العربية المتحدة وارثة مجد الفراعنة والجمهورية الصومالية وارثة حضارة بونت القديمة.
    وقد ظن مسبيرو أن القصة السابقة خرافية محضة ولكن نرد عليه بأننا إذ حذفنا الحية وأبدلنا بها رئيس قوم لصارت جغرافية محضة ، ولا ريب عندي أن لها أصلا حقيقيا ثم زيد عليها اختفاء الجزيرة لإخفاء الحقيقة كما كان يفعل الفينيقيون فيما يقصونه عن البلدان التي يجلبون بضائعهم منها .
    العلاقات المصرية الصومالية في عهد الدولة الحديثة
    كانت العلاقات بين مصر ولاصومال في عصر الدولة القديمة والوسطى تتسم بالغموض إلى حد ما ، ولكن في عهد الدولة الحديثة أصبحت هذه العلاقة على كثير من القوة والمتانة والوضوح ، ويرجع ذلك إلى تحرر مصر من قيود السيادة الأجنبية وإلى أنها أصبحت قوة في العالم قد حمل ملوكها أسلحتهم غازين وساروا حتى نهر الفرات في ىسيا والنيل الأزرق في السودان ، ونفضت عنها القناع الذي يحجبها عن العالم الخارجي ، ولم تعد بلاد الصومال في نظر الشعب المصري بلاد العجائب والخيال فقد بنت السفن الضخمة للقيام برحلاتها إلى بلاد الصومال في أمن ويسر وقد أطلق على هذه السفن اسم سفن الجبال إشارة إلى أنها من نمط السفن الفينيقية التي تستعمل أشجار الجبال في صناعة السفن .
    بعثة الملكة حتشبسوت إلى بلاد الصومال
    وقد جاء في الأثر المصري الرسمي أسباب إرسال البعثات التجارية إلى لاصومال في عهد حتشبسوت (لقد أوحى سيد الآلهة أمون في طيبة إليها بهذه الفكرة .. لأنه يحب هذا الحاكم (الصومالي) كثيرا أكثر من الملوك الآخرين الذين كانوا في هذه البلاد ..) .
    وهذا التعبير المصري تضمنته صورة على معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت وتنقلنا النقوش والصور من أسباب البعثة المصرية إلى بلاد الصومال .. إلى شاطئ أرض العجائب حيث وصل الأسطول المرسل توا إلى هدفه (الصومال) وهو مؤلف من خمس سفن بحرية لكل منها ثلاثون مجدافا وشراع ضخم ، وقد أنزل شراع سفينتين وشدت كل منهما إلى جذع شجرة على الساحل وهناك على وشك الوصول إلى لاشاطئ قارب صغير محمل بالسلع المراد استبدالها أما السفن الأخرى التي لا تزال على كل أهبتها فعلى استعداد لتلقي الأمر بجذب القلوع ولا تلبث حتى تكون أيضا في الميناء ، ويتجه قائد الأسطول الرسول الملكي ويصحبه ضابط وثمانية جنود إلى الأرض المقدسة (الصومال) .
    وكل شيء يبدو غريبا تماما في هذه البلاد الغنية بثروتها النباتية الاستوائية وسكانها القاطنين بالقربمن الشاطئ وفي ظلال أشجار الدوم والأشجار الأخرى الكبيرة تقع قرب الأهالي و م في أكواخ صغيرة على شكل المخروط أقيمت على أعمدة مغروزة في الأرض حماية لها من الأعداء والحيوانات المتوحشة ، ولها سلم يؤدي إلى فتحة بمثابة مدخل ، وبين الأكواخ ترقد أبقار ذات قرون قصيرة صغيرة أو حمير كان يستخدمها سكان الصومال للنقل أو للركوب ، وتدل ملابس الأهالي على وجود حضارة تسير ببطء فقد كانوا لا يزالون في عهد حتشبسوت يرتدون نفس النقبة ويضفرون شعورهم بشكل الضفائر نفسها ، ويتركون لحاهم على نفس الشكل المدبب كما كان الأمر في بلاد الصومال في عهد الملك خوفو ، وبذلك يكون قد انقضى أكثر من ألف سنة دون أن يتغير شيء جوهري من مظهر شعب الصومال .
    ويتجه (باروجو) عظيم الصومال وكذلك زوجته وأولاده يتبعهم بعض الخدم إلى المصريين يحيونهم بأذرعتهم المرفوعة أو على نحو ما عبر عنه المصريون بقولهم (ويقولون وهم يطلبون الأمان : لماذا جئتم إلى هذه البلاد التي لا يعرفها الناس .. ؟ هل مشيتم عن طريق السماء أو جئتم عن طريق الماء .) ويظهر من ذلك أن هذا الجيل لم يذكر العلاقات القديمة بين مصر والصومال ، تلك العلاقات التي ظلت مقطوعة عدة قرون .
    وعلى نقوش الدير البحري نجد الفنان المصري قد سجل بعض المداعبات اللطيفة من مشاهداته في أرض الصومال فرسم عظيم الصومال وولديه النحيفين وزوجته البدينة بدرجة مفرطة .. وكذلك شكل ابنتها التي تتبعها .. (البدانة شيء مألفو في أواسط أفريقيا في الوقت الحاضر) .
    وقد وصف الفنان المصري حرم عظيم الصومال بأنها سمينة وملابسها قصيرة شفافة من غير أكمام ولها قلادة سميكة تتحلى بها على صدرها . وأنها سمينة لدرجة أنها لا تسير على قدميها ، فرسم حمارا عليه بردعة وكان خلف زوجها وذكر أنه الحمار الذي يحمل زوجة عظيم الصومال .
    وقد حصل المصريون على ذخائر بلاد الصومال ، وأننا لنرى السكان يكومون أمام الرسول الملكي البخور وكذلك الذهب في شكل حلقات والأنياب الضخمة للفيلة في حين أقام المصريون على لاسواحل منضدة جعلوا علهيا السلع التي يشتاق إلهيا قلب كل فرد من أهالي الصومال وهي الخناجر وفئوس القتال والقلائد البهيجة الألوان ، وأننا لنرى أيضا إحضار القردة والفهود بينما يعمل الملاحون المصريون على قطع الأشجار والأبنوس التي كان الصناع المصريون يقدرون جذوعها الثمينة تقديرا خاصا ، أما أشجار البخور فتنزع جذورها وتربط وتحزم بعناية ، ويحملها أهالي الصومال والمصريون معا إلى السفن ، وعندما تنتهي المبادلة على ما يرضى الطرفين يستقبل المصريون عظماء هذه البلاد في خيمة الرسول الملكي ، ويقدم لهم الخبز والجعة والنبيذ واللحوم والفاكهة وسائر أشياء مصر الطيبة ، وذلك حسب ما أمر به البلاط .
    ومن هذا يبدو أن الأمر يتعلق بالتبادل التجاري على أحسن شكل ، وعلى نحو ما يجري الآن ، ولكن التقرير الرسمي المصري في الزمن القديم لا يعترف بذلك ، إذ كيف يشتري فرعون مصر شيئا وهو الذي تقدم إليه جميع البلاد هداياها حتى يتفضل فيمنحهم نعمة الحياة ، ولذلك يسمي البخور الذيحصل عليه المصريون عن طريق التجارة في الأسلوب المصري الرسمي القديم جزية أمير الصومال ، كما تعتبر السلع التي قد جيء بها قربانا يقدم للآلهة (حنور سيت الصومالي) ولذكرى ذا الحادث العظيم أمرت حتشبسوت بإقامة تمثال على ساحل بلاد البخور يمثلها مع الآله آمون (حاكم الصومال) الذي أبحرت بأمره سفنها إلى هذه البلاد البعيدة .
    ةتشتد حركة النقل على الألواح الخشبية إلى السفن إلى ارتفاع كبير بذخائر بلاد الصومال وسائر النباتات الجميلة في الأرض المقدسة وأكوام من الصمغ والمر وأشجار المر الخضراء وخشب الأبنوس والعاج النقي والذهب الأحمر من بلاد عامو والأخشاب ذات الرائحة الذكية وأنواع البخور وأصباغ العيون ، والقردة الكبيرة والقردة ذات الذيول الطويلة وجلود الفهد ، ولم يسبق أن جيء بشيء مماثل لذلك إلى أي ملك منذ القدم ، ويشرف أحد الموظفين على ترتيب هذه اسلع المختلفة في السفن بمثابة كبيرة حيث تكاد تبلغ عمود الشراع المستعرض السفلى . أما القردة فقد سمح لها أن تعدو وتروح حرة إلا انه كان يحلو لها أن تتعلق بالحبل القوي الذي عقد من فوق السفينة ، وتتطلع منه إلى ما يحيط بها ، مما كان يسري بالتأكيد عن البحارة .
    نتائج بعثة الملكة حتشبسوت إلى بلاد الصومال
    فإذا عاد جنود سيد القطرين بسلام إلى وطنهم وألقوا مراسيهم في طيبة فإن وصولهم يتخذ شكل موكب نصر ، فيدخلون المدينة في موكب بهيج ، وفي أيديهم أغصان خضراء ، ومن خلفهم عظماء هذا البلد ويقدمون هداياهم إلى الملكة وهي هدايا لم يجلب مثلها لأي ملك آخر .. وبينها فهدان حيان ، ومما أثار دهشة عظيمة إحدى وثلاثون شجرة بخور خضراء أحضرت من بلاد الصومال لجلالة الآلة آمون رع لم ير مثلها منذ نشأ العالم . ويبدو أن نتيجة هذا العمل الذي قامت به حتشبسوت قد أثار بصفة خاصة إعجاب رجال الدين ، وشجع المغامرين والتجار على أن يتجهوا إلى بلاد الصومال للارتياد والتجارة ، كما كان له الأثر الكبير في تقديم معلومات واضحة للشعب المصري والشعب الصومالي عن ماضيهم المجيد ، وعن العلاقات التي تربط بين البلدين منذ غابر العصور ممثلة في رابطة الدم والورح والتبادل التجاري ، كما أن تسجيل لفترة تاريخية قديمة لشعب الصومال وعاداته وتقاليده ونظم الحياة من طعام ومسكن وملبس ، ومظاهر البيئة من نبات وحيوان ، وحالة الجو ، والسلع التي كانت تتاجر فيها الصومال (الصادرات) والسلع التي كانت في حاجة إليها (الواردات) وغير ذلك من الصفات الكريمة كالكرم والأمانة التي يتصف بها الصوماليون .
    بعثات خلفاء الملكة كتشبسوت
    بعد وفاة الملكة حتشبسوت استمرت العلاقات بين مصر الفرعونية وبلاد الصومال وأشهر البعثات إلى بلاد الصومال هي : 1- وصل وفد صومالي إلى مصر حاملا هدايا من شجر البخور الخضراء و 1685 مكيالا من البخور للملك تحتمس الثالث وقد جاء هذا الخبر على نقوش رسمت على جدران مقبرة الوزير (رخميع) . 2- أرسل رمسيس الثاني سفينة كبيرة إلى أرض الصومال جلبت له كثيرا من البخور ، ويبدو من النقوش التي دونت أخبار البعثة أن رمسيس لم يستخدم قناة سيزوستربس وإنما رست السفينة في القصر تقريبا ، ومنها على ظهر الحمير إلى قفط ثم بالنيل إلى تأنيس شرقي الدلتا وكانت عاصمة مصر في ذلك الوقت ، مكانها الحالي – صان الحجر ، واستمرت القناة معطلة نحو ستة قرون حتى عهد نخاو فرعون مصر (409-593 ق.م) .3- آخر أنباء وصلتنا عن العلاقات بين صمر ولاصومال في العصر الفرعوني ما ذكره المؤرخ هيرودوت أبو التاريخ ، الذي ذكر أن نخاو ملك مصر أرسل بعثة كشفية بحرية مستعينا بالبحارة الفينيقيين دارت حول أفريقيا في ثلاث سنوات وقد جاء في تقرير البعثة مغامرات البحارة ووصف لكافة البلدان التي مرت عليها أرضا وشعبا ومن هذه البدان أرض الصومال حيث رست عليها السفن وتزودت بالطعام والشراب وتبادل التجارة مع أهل الصومال .
    أثر العلاقات الصومالية المصرية القديمة
    وهكذا كانت العلاقات بين مصر والصومال قديمة قدم التاريخ من أجل المصالح المشتركة ، وفي الوقت نفسه كانت السفن المصرية قد امتدت إلى الجنوب من نهر الزمبيزي ، وفي عام 1901 عثر على تمثال من الطين المحروق علهي صورة خاتم تحتمس الثالث في ماكلانجار . كما عثر على مبان قديمة في زمبيويه ومصنوعات في روديسيا ترجع إلى الأيدي المصرية التي كانت تعمل بالتعدين في هذه الجهات للبحث من الذهب .
    كما نجد التأثير الحضري للفراعنة في أوغندا سواء في تقاليد الحكم التي مازالت موجودة عند (الينورو) وكذلك عند الماساي في شرق أفريقيا (بكينيا) يحتفظون ببعض العادات المصرية القديمة في الزينة .
    غير أن أقوى العلاقات ماكانت بين مصر ولاصومال للعوامل التي ذكرناها آنفا ، وكان لهذه الرابطة القديمة أثر واضح في الملامح الثقافية واللغوية بين البلدين من حيث التشابه الشكلي والنطقي .. فمثلا السماء في المصرية القديمة (مو) وفي الصومالية (بيو) والشمس عند المصريين (رع) وعند الصوماليين (قرح) وكلمة نار عند المصريين (رب) وفي الصومالية (دب) كما نجد تشابها في الضمائر مثل ضمير الغائب في المصرية (سو) وفي الصومالية (أسوجا) وهكذا نرى تشابها كبيرا في اللغة والثقافة .
    ومن نتائج الاتصالات القديم ما تراه في الصومال الآن مثل الوسادة المصرية القديمة المصنوعة من الخشب المسماة (أروس أوبا أورس) ، وهي تشبه تماما الوسادة الصومالية المسماة (بارس أوباركي) .
    كما نلاحظ أن المقابر القديمة في مجرتنيا بنيت على الطراز المصري كالذي أقامه الفراعنة في جيزة مصر ، وأشرعة السفن الصومالية الحالية متطورة من الأشرعة الفرعونية القديمة التي كانت رباعية الشكل واصبحت عند الصوماليين الآن مثلثة الشكل ، وذلك بتقصير الجزء الأمامي من الشراع المريع ، وعلى مؤخرة السفينة ليأخذ قسطا أكبر من الريح .
    ونرى التأثير واضحا في الاحتفالات والأعياد الشعبية التي يقيمها الصوماليون في الوقت الحاضر ، ففي كل عام يحتفل الصوماليون بعيد فرعون (عيد رأس السنة) وعيد استن (اللعب بالعصى) يشبه التحطيب في ريف مصر .
    ومن الحفائر التي تمت في الصومال أمكن العثور على أسلحة حجرية في بورايبي (شمال بورهكبه) تشبه ما عثر عليه في حلوان مصر في العصر الحجري الحديث ، كما وجدت سهام مجوفة في بلدة جسوما في الصومال تشبه ما عثر عليه في الفيوم بمصر . وقد تكون مستوردة ويمكن أن نقطع برأي في أن العلاقة الفرعونية بالصومال قد كان لها تاثيرات لغوية وثقافية وصناعية وفنية كما كانت قائمة أساسا على التبادل التجاري مدعمة بروابط جنسية وروحانية .
    الصومال ودول جنوب شرق آسيا
    من الصعب تحديد العلاقات الصومالية بدول شرق آسيا في العصور القديمة ، وذلك لأن المحيط الهندي باتساعه العظيم حال دون حركة السفن الصغيرة بين مواني جنوب شرقي آسيا والصومال ، ومن جهة أخرى كانت الدول الحضارية الكبرى بابل ومصر وفينيقيا تتنازع على السيطرة على طرق التجارة في البحر الأحمر وشرقي أفريقيا ، وكانت هذه المنافسة الدولية عاملا هاما في اعتكاف دول جنوب شرقي آسيا واكتفائها بالنشاط في نطاقها دون التحرك إلى مياه البحار الصومالية .
    العلاقات الصومالية الصينية
    ويمكن أن نحدد فترة العلاقات الصومالية الصينية في القرنين الثالث والثامن الهجري أي في العصور الوسطى حيث وصلت سفن صينية إلى حمر (مقدشوه) وغيرها من المواني الصومالية ، وهي سفن ضخمة ذات أشرعة كبيرة قد رسم على جوانبها صور لعيون بشرية كبيرة لاعتقاد الصينيين أنها تبعد الأرواح الشريرة .
    ويذكر المؤرخون أن الصينيين وصلوا إلى ساحل بنادر ، وتعاملوا في التجارة مع سكانها ، وكانوا يأخذون البخور والجلود وريش النعام مقابل مصنوعات خزفية صينية وحرائر وأسلحة بسيطة .
    ومن الحفائر التي أجريت في سواحل مقدشوه أمكن العثور على أدوات وأسلحة صينية ترجع إلى عهد الإمبراطورية الزرقاء القديمة في الصين .
    وفي عهد مملكة سنج (إمبراطورية بكين) وجد مخطوط صيني قديم يذكر قصة مغامر صيني وصل إلى جزيرة باجون الصومالية (شرق كسمايو) وإلى ماليدي وغيهرا ، وأن الصين أرسلت بعثات إلى ساحل الصومال ، ومن أهمها بعثة الأسطول الصيني (شينج هو) Ceng Hwo .
    ويحدثنا البحار Fein-Sih في مذكراته عن مدينة مقدشوه فيقول : أن مدينة مقدشوه (Mu-Cu-Tu-Cih) حسب النطق الصيني تمتد على الاسحل ، ويحيط بها سور قوي ، وشعبها معتز بنفسه ، متمسك بآرائه ، وله غرام بالتدريب على رمي السهام ، وله منازل من أحجار ذات أشكال رباعية تقريبا ، وللرجال والنساء غطاء رأس ، وينتشر بين النساء التزين بخواتم في آذانهم ، وبلعضهن عقود من فضة حول رقابهن ، ويسرن خارج منازلهن وعلى وجوههن غطاء خفيف ، وقد ارتدين لباسا من قطعة واحدة (عمبور) .
    وفي مخطوط آخر يرجع إلى عهد (مملكة مينج) نجد وصفا للحيوانات الصومالية ، وقد ذكر صاحب المخطوط أن مدينة براوه Pulau (حسب النطق الصيني) تمتد على لاساحل ، وشعبها يعيش في صورة جماعات متفرقة ، وليس بها حقول مزروعة ، ولذلك يعملون في صيد الأسماك ، والنساء المتزوجات لهن زينة ذهبية في آذانهن ورقابهن . وفي هذه المدينة يمكن أن يشترى الحمار أو النمر أو الوعل أو الجمل أو البخور مقابل ذهب وحرير وأرز وخرز من الأسواق القريبة من (أربع ركن) (مسجد قديم في مقدشوه) .
    ومن السجلات الصينية القديمة أمكن معرفة قرار سلطان مقدشوه الذي يقضي بالسماح للصينيين بدخول الميلاد في القرن الرابع عشر في عهد مملكة الإمبراطور Tunglo (1818-1416 م) كما أن وفودا تجاية صومالية من مقدشوه وبراوه وماليدي قد وصلت سفنهم إلى امبراطور الصين لتمثيل بلادهم ، وقد زاروا بكين العجيبة ودهشوا من العمارة القائمة بها .
    العلاقات الصومالية الهندية
    ويذكر المؤرخون أن هجرات صومالية في صورة مجموعات كبيرة قد وصلت إلى الهند واستوطنوا بها منذ زمن بعيد وقد أمكن التعرف عليهم في القرن الثالث عشر ، وذكر عنهم أنهم يعملون بالجندية والبحرية الهندية بالإضافة إلى الأعمال التجارية .
    ولما تاسست دول المغل في هندستان عام 1526 كان الصوماليون قوادا للأسطول المغولي ، كما ينحدر من أصل صومالي زعماء جنجيرا وستشين ، وكما أن الصوماليين القيادة في البحر ، ففي نفس الوقت كانت القوى الصومالية بقيادة الإمام أحمد جرى لها القيادة البرية فقد امتدت إلى شمال الحبشة داعية إلى الإسلام وقاضية على أغلب البطارقة الأحباش واليهود .
    ويذكر التاريخ الهندي – أيضا – أن هجرات هندية متتالية تمت لأسباب سياسية وقد وصل المهاجرون إلى الصومال واستوطنوا بها خلال القرن الحادي عشر الميلادي .
    ومما يؤكد فكرة وجود جاليات هندية في الإقليم الشمالي في القرن الثالث عشر ما عثر عليه من الشواهد والآثار التي تمثل بقايا معابد هندية ، كما وجد العلماء والمتخصصون في اللغات تشابها عظيما بين لغة هؤلاء الصوماليين ولغة أهل الدكن في الهند . ولكن لم تنشر عنها أبحاثا إلى الآن ، ونرجو أن يمتد البحث إلى هذه الناحية وهو معرفة اللغة الصومالية وعلاقتها باللغات القديمة في مصر أو بلغة أهل الدكن .. إلخ .
    ويقال أن أمير مسقط العربي كان يدفع جزية لهؤلاء الهنود المسيطرين على ساحل الصومال ، ولكنه سرعان ما قام بنفسه على رأس جيش قوي وعبر خليج عدن وزحف إلى مواطن تجمعات الهنود في الصومال واحتل مناطقهم ، وشتت شملهم ، وحول معابدهم الوثنية إلى مساجد تتلى فيها آيات بينات من القرآن الكريم ، وتقوم فيها شعائر الدين الحنيف وحلقات العلم .
    الصومال ودول البحر المتوسط في العصور الوسطى
    بعد قضاء الإسكندر الكبر على إمبراطورية الفرس أصبحت مصر خاضعة لليونانيين وقامت بها دولة جديدة عرفت باسم دولة البطالمة ، وما أن توطد لهم الحكم حتى علوا على إنماء الحركة التجارية مع دول شرق أفريقيا وكان عليهم أن يدخلوا في صراع مع دولة الحميرين في اليمن ، تلك الدولة التي ورثت ملك سبأ وكانت لها تجارة واسعة في البحر الأحمر ، ومع دول شرقي أفريقيا بصفة خاصة حتى أطلق عليهم اسم (فينيقيو البحر الأحمر) بسيطرتهم على تجارة البحر الأحمر وخليج عدن بأسطولهم التجاري الضخم الذي احتكر أسواق الصومال وشرقي أفريقيا وفرضوا عليها الضرائب الباهظة مما دفع بعض الإمارات في شرقي أفريقيا إلى أن تقاوم الاحتكار التجاري لأهل حمير .
    وكان المنافس الأول للحميرين هم اليونانيين إذا أرسل الملك بطليموس الثاني (247-222 ق.م) القائد ساتيروس إلى الشاطئ الأفريقي على خليج عدن للبحث عن مكان الفيلة فقد كان اليونانيين في حاجة إلى الفيلة لاستخدامها في حروبهم .
    وفيما بين عام 222-205 ق.م استطاع صيادو الفيلة أن يصلوا إلى رأس غردفوي الذي أطلقوا عليه اسم نوتوس Notos وأنشأوا مواني جديدة لاستيراد الفيلة من الدخيل القاري لشبه جزيرة الصومال .
    وفي عام 100 ق.م تمكن الملاح الروماني هيبالوس من أن يكتشف طرق الإفادة من الرياح الموسمية في تسيير حركة السفن عبر المحيط الهندي بعد أن كان سره عند العرب فقط ، وبذلك تمكنت سفن دول البحر المتوسط كمصر واليونان والرومان وغيهرا من أن نجد طريقا سهلا عبر البحر الأحمر وخليج عدن إلى بلاد الصومال .
    وفي عهد الحكم الروماني لمصر خرجت السفن المصرية اليونانية إلى باب المندب ثم ساحله على شواطئ الصومال حتى رأس التوابل (غردفوي) وربما الوقوف عند جزيرة سوقطرة إلى لاشرق من الصومال ثم إلى الهند ، وقد ذكر اسطرابون أن البحارة اليونانيين في مصر كانوا يتجرون مع مواني ساحل الصومال حتى وصلت تجارتهم إلى أوبوني بعد رأس التوابل مباشرة ،وكانت أهم صادرات هذه المنطقة هي العاج والجلود .
    وأدرك الرومانيون أن القوى العربية تسيطر على هذه التجارة المارة في خليج عدن ولذلك أمر أوغسطس بإعداد حملة ايليوس جالوس (25 أو 24 ق.م) ليشعر العرب والصوماليين بقوة الرومان ، وربما كان من أغراضه أيضا احتلال عواصم بلاد العرب أو الصومال لتأمين طرق التجارة أو قطع الصلة التجارية بين العرب والصوماليين ، ولكنه لم يوفق في حملته إذ تحطمت سفنه قرب ليكومي كومي على لاساحل الشمالي الغربي – ناحية تاجوره – لشبه جزيرة الصومال .
    في عام 41-45 ق.م أي في عهد كلارديوس تمكن الرومان من احتلال ميناء عدن بهدف السيطرة على الطريق الملاحي العظيم واحتكار متاجر الصومال ، ويقدم لنا هذا المعنى قول بربيلوس (ولكن قيصر أخضعها قبل أيامنا بزمن طويل) والأقرب إلى اليقين أن روما كانت في عصر بربيلوس خليفة لأمير ظفار الحميري في جبال اليمن وكانت قبيلة حمير آخذة في تعلق سبأ على السيادة في جنوب الجزيرة العربية فكان من شأن التحالف مع حمير أن يكون مقرونا بوجود حامية رومانية في عدن للإشراف على التجارة مع مواني الصومال وخليج عدن بصفة عامة هو أمر يمكن أن يكون ضمانا كافيا لسلوك العرب الجنوبيين والصوماليين مسلكا طيبا مع التجار الرومانيين .
    وقد ظل الرومانيون حقبة من الزمن في شمال أفريقيا وبلاد العرب وتركوا في سجلاتهم الكثير من أخبار الصومال ، فقد كانوا على علم بمنتجات الصومال التي كانت في حوزة المصريين والفينيقيين والإغريق وتجار عالم البحر المتوسط منذ أزمنة بعيدة فكان الرومانيون يرسلون سفنهم إلى الصومال للقيام بعمليات التبادل التجاري .
    وخير ما وصلنا من المسجلات عن الصومال في هذه الفترة ما كتبه ملاح مجهول الاسم كان يعيش في الإسكندرية وقد أطلق على ما سجله اسم (الطواف حول البحر الأيتري) أي البحر الأحمر ، وقد جاء بوصف للمواني والمتاجر والشعوب الاقطنة في تلك الجهات وذكر البيانات التالية عن الساحل الجنوبي لخليج العرب (خليج عدن) ويقصد بها الصومال فيقول الملاح السكندري صاحب البربليوس .
    يميل ساحل الخليج العربي (خليج عدن) نحو الشرق ويضيق قبل خليج أفاليتس Avalites مباشرة وبعد الإبحار بمسافة 400 ستاد (مقياس إغريقي تغير عدة مرات خلال التاريخ الوسيط) يتجه الساحل صوب الشرق حيث توجد أسواق بلاد البربر (الصومال) وتعرف باسم المواني البعيدة ، وتبعد بعضها عن بعض بعدة مراحل بين قصيرة وطويلة وليس لهذه الأسواق مواني طبيعية ولكن بها مراسي ترسو بها السفن إذا كان الجو هادئا .
    وأول الأسواق هو سوق مدينة أفاليتس (زيلع الحالية) وهي أقرب ثغر من ثغور الصومال إلى بلاد العرب ومصر ، وسوقها صغير ويمكن الوصول إليها بالقوارب والأطواف ، وواردات هذا السوق هي الزجاج ونوعمن عصير العنب اللاذع يأتي من مدينة ديوسيوليس Diosolis (الأقصر في مصر) ، والأثواب المصنوعة خصيصا للبربر ، والقمح ، والنبيذ ، وقليل من معدن الصفيح .. أما صادراتهفهي البهار وقليل من العاج وصدفة السلحفاة ومقدار صغير جدا من المر ولكنه من أجود الأنواع .
    ويقوم البربر أحيانا ينقل هذه السلع في قواربهم إلى بلدتي أوسيلس Ocelis (عند مدخل البحر الأحمر) وموزا Muza وهما تقعان على شاطئ بلاد العرب . وسكان أفاليتس كثيرو الشغب والاضطرابات .
    وسوق ملاو Malao (بربره الحالية) كان لها تجارة واسعة مع مصر إذ كان يستورد منها المآزر والعباءات الملونة المصرية التي صنعت في مدينة ارسنوى Arsinoe قرب السويس في مصر وكذلك أنواع من أواني الشرب وألواح النحاس والعملات الأجنبية من ذهب وفضة ، كما كان يصدر البخور والقرفة والكركدان الهندي ، ولميناء ملاو مرسي مكشوف تحمية من ناحية الشرق نتوء والميناء على مسافة 800 ستاد بالبحر من سوق أفاليتس .
    سوق منديس Munrus وتقع على مسيرة يومين أوث لاثة تجاه الشرق من سوق ملاو ، وهي أكثر المواني أمنا إذ توجد جزيرة قريبة منها ترسو عليها السفن . وللسوق تجارة رائجة في السلع الموجودة في سوق ملاو بالإضافة إلى نوع جيد من البخور يسمى مكروتر Mocrotu .
    سوق موسيلوم Mosyllum (بندر قاسم الحالية) وتقع على مسيرة ثلاثة أيام من سوق منديس تجاه الشرق ولها مرسى رديء ومع ذلك هلا تجارة نامية لنفس عناصر الأسواق السابقة وتمتاز بتجارتها في رقائق الفضة والقليل من الحديد والزجاج والصموغ العطرية والبهارات وصدفة السلحفاة والبخور والعاج والمر ، ولكن بكميات قليلة .
    وفي الاتجاه الشرقي لمسيرة يومين نجد سوق رأس النيل حيث يتسع الخليج وتكثر النباتات الكثيفة وأجود أنواع البخور وبكميات ضخمة ، وهذه المنطقة الكثيفة بأشجارها هي مصب نهر صغيرة يدعى النهر الصغير .
    وبعد منطقة رأس النيل يتجه الساحل ناحية الشرق ثم يحدث انثناء كبير يتجه بعد ذلك صوب الجنوب ، وفي منطقة الانثناء توجد سوق البهارات (رأس غردفوي) وهو ذو جبل شديد الانحدار ناحية البحر ، وهو النهاية الشرقية لبلاد البربر (الصومال) والملاحة هنا صعبة لشدة الزوابع واضطراب المياه لذلك يتجه الملاحون إلى رأس تابى Tabae حيث يوجد ملجأ أمين وسوق رائجة في البخور والتوابل .
    وعلى مستفو 400 ستاد من تابى توجد قرية بانو Pano (رأس بنة الحالية) ولها شهرة واسعة في تجارة صدفة السلحفاة ، وما زالت كذلك .
    وبعد مدينة أوبوني يشتد ميل الشاطئ تجاه الجنوب ، وتنعدم المواني الطبيعية ، وتكون السلاسل الجبلية قريبة من الساحل ، وتسمى مرتفعات أزينا ، وتكون السلاسل الجبلية قريبة من الساحل ، وتسمى مرتفعات أزينا ، وقد تجد السفن بعض الأماكن الطبيعية لترسو فيها .
    وبعد مسيرة إثنى عشر يوما تظهر مواني أزينا (AZANIA) المشهورة باسم سيرابيون (Serapion) (مقدشوه الحالية) ، ثم ميناء نيكون (Nicon) (برواه الحالية) ومواني أخرى .
    ويحدثنا مؤلف البربليوس أن هذه البلاد لا يحكمها ملك واحد بل يعيش أهلها كجماعات منفصلة ، يخضع كل بلد لحاكم مستقل ، وكان التجار العرب والمصريون يشاهدون في كل مكان حتى (رهابتا) بالقرب من زنجبار ( قد يكون ميناء كسمايو الحالي) وقد ذكر – أيضا – من رهابتا أن أمير تعافر في اليمن كان يحكمها ، وأن المنطقة التي قبلها من المحيط لم تكتشف معالمها بعد .
    ويستحسن أن نشير هنا إلى ما كتبه استرابون الجغرافي عن ساحل الصومال الشمالي في القرن الأول قبل الميلاد إذ يقول .. (هذه هي بلاد البخور وبها رأس في البحر ومعبد يقع وسط دغل من شجر الحور وبداخل صقع يحف بشواطئ نهر يحمل اسم (ايزيس) وآخر يسمى تنيلوس ، وكلتا المنطقتين تنتجان المر والبخور ، كما توجد بحيرة تمتلئ بالمياه المنحدرة من الجبال ، وبعد ذلك تأتي نقطة مراقبة الأسد ، ثم منطقة بينانجلوس ، ثم عدة بقاع على التوالي تحف بشواطئ أنها رتنمو علهيا أشجار الثمور ، ثم أنهار تمتد حتى بلاد القرفة . والأنهار التي تحيط بهذه المنطقة ينمو على شواطئها نبات الحلفا بوفرة ، وبعد ذلك يأتي نهر آخر به ثغر (ديني) ووادي يدعى (أبولو) ولا ينمو به غير البخور والمر والقرفة ، وبعد ذلك يأتي جبل النيل وهو يبرز في البحر ، وبعد ذلك يأتي جبل النيل وهو يبرز في البحر ، وبعد جدول ماء ، ثم ميناء بسجموس الكبير . وآخر رأس جبلية في هذا الشاطئ هي ما يسمى بالقرن الجنوبي (يقصد رأس غردفوي) .
    ويتضح لنا بجلاء من وصف البربليوس واسترابون الجغرافي للبيئة الصومالية أن هناك أسماء مصرية مثل أزوريس وهو اسم آلهة مصرية مشهورة قد نقلها الرومانيون واليونانيون إلى بلادهم ، وقدسوها ، كما ذكر اسم مليوس أي النيل وهو نفس النهر الذي ذكره كلا المؤلفين كما ذكر استرابون اسم (دينى) وهو اسم مدينة مصرية كانتت قع جنوب بحيرة المنزلة وكان لها شهرة عظيمة في أواخر العصر الفرعوني وفي العصر الإغريقي الروماني .وغير ذلك مما يدعم وجود علاقات روحية ودينية وثقافية وتجارية بين مصر والصومال في التاريخ الوسيط .
    الفصل الثالث الصومال وبلاد العرب
    العلاقات الصومالية العربية : ارتبطت الأمة الصومالية بالأمة العربية منذ فجر التاريخ ارتباطا إنسانيا قائما على وحدة الأصول الجنسية وكلاهما في بيئتين متشابهتين من حيث الظروف الطبيعية . وقد دعم من تقاربهما سهولة الاتصال البحري ، فكان بين الأمتين تكامل بشري وطبيعي وجغرافي . وفي تبادل المنافع المشتركة ، وهي في مجموعها علاقات إنسانية سليمة ولكنهما تعرضنا إلى موجات من النهوض والمجد والاتحاد وإلى موجات من الخمود والركود والانحلال حينما كانت تتدخل في صداقتهما دولة أخرى تعمل للتفرقة بينهما ليطيب لها الحياة على الجانبين .
    ويذكر التاريخ الصادق أن العرب من أسبق أمم العالم معرفة بفنون الملاحة ، وقد شهد خليج عدن والبحر الحمر قيام حضارات عربية في جنوب شبه جزيرة العرب ، وكانت دولة سبأ قد تزعمت الحركة الملاحية في العالم القديم بعد عصر نخاو مباشرة ، واحتلت الصدارة في المحيط الدولي التجاري وعملت على أن تقوي علاقتها التجارية والثقافية والحضارية مع بلاد الصومال ، وكذلك السيطرة على الطرق التجارية بين الشرق والغرب وخاصة بعد ضعف مصر منذ الأسرة السادسة والعشرين ، فقد تمكن البابليون من هزيمة المصريين في معركة قرقميش ، وكان ملك اليهود قد انتهى في أورشليم عام 608 ق.م ، فانتهزت سبأ فرصة هذا الصراع بين البابليين ومصر واستولت على تجارة العالم القديم في مياه البحر الأحمر وخليج عدن ودعمت من تجارتها مع الصومال .
    وظلت العلاقات بين سبأ والصومال في قوة حتى عام 230 ق.م حينما ثارت بعض قبائل اليمن على زعامة سبأ .
    وخلال هذا الاضطراب السياسي نمت قوة حمير واستطاعت عام 115 ق.م أن ترث ملك سبأ وأن توحد القبائل اليمنية وتؤسس دولة حمير وتمثل فترة هذه الدولة – العصر الذهبي – للملاحة في البحر الأحمر وعلى شواطئ الصومال .
    لقد كانت اليمن تمثل نقطة تلاقي الطرق التجارية العالمية التي تربط دول جنوب شرق آسيا بدول البحر المتوسط ، ومن نقطة التلاقي هذه كان تخرج السفن اليمنية إلى مواني الصومال ، وخاصة ميناء زيلع (أكبر مواني الصومال في هذه الفترة) ، حاملة إلهيا توابل الهند ، وجواهر سيلان ، وقرنفل وحرير الصين ، ومسك مليار ، ومنسوجات مصر وأقمشتها الموشاة بالذهب ، وغيهرا من سلع الدول الأخرى .
    وفي الواقع حمل العرب في ركاب التجارة أسس الحضارات الشرقية القديمة ممثلة من المصنوعات والمنتوجات المنوعة وملامح من الثقافة والمدنية من بابل وآشور بالعراق وبلاد الفرس والرومان واليونان والفينيقيين والمصريين والهنود والصينيين وغيرهم ، وكان حامل هذه المدنيات ومنتجاتها أو الوسطاء بمعنى أدق هم ، عرب الجنوب من اليمنيين والحضارمة والعمانيين فهم يمثلون عمد الرباط التجاري والحضري بين الصومال ودول العالم القديم .
    وكان من أثر الاحتكاك الحضري والتجاري بين العرب الصوماليين أن اندفع الصوماليون بقوة نحو تحسين إنتاجهم وتنوعيه كمية ونوعا لتدعيم التبادل التجاري مع العرب ، والحصو على إنتاج الدول الحضرية الأخرى . وخرجت السفن الصومالية حاملة إنتاج الصومال من مسك ولبان وبخور وعاج وجلود وأخشاب ثمينة كالساج والطرفاء الذي يصنع منه أعمدة الخيام إلى بلاد العرب ثم امتدت سفن الصوماليين في تجارة واسعة إلى بلاد الصين والهند وجاوة شرقا وإلى مصر شمالا .
    ومن الصعب أن نحدد تاريخ الاستقرارات العربية الأولى على ساحل الصومال إذ أنها كانت مستمرة وطويلة منذ فجر التاريخ ، ولكن يمكن أن نقول أن تزايد الحركة التجاية بين العرب والصومال كان يتبعها في العادة تزايد في الهجرات العربية واستقرارات في المواني التجارية بهدف إعداد السلع التجارية حتى تصل السفن العربية أو تسويق منتجات الدخيل القاري للصومال وإيداعها في المواني ريثما يتم نقلها إلى الأسواق ثم تحولت إلى استقرارات من أجل الزراعة والصناعة وتحسين مستوى المعيشة ، وأحيانا تكون هذه الاستقرارات نتيجة لاختلاف مذهبي أو عقائدي أو لسبب آخر ، مما دفع بعضهم إلى الهجرة والاستيطان في الصومال فترة قد تكون طويلة أو قصيرة .
    وكان للصراع الديني الذي ظهر في بلاد العرب في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك قسطنطين ودخول المسيحية إلى بلاد العرب وإنشاء كنيسة في صنعاء باليمن وأخرى في نجران بالسعودية بمعد أن كانت اليمن في الأصل يهودية ، وكذلك السعودية . ويرجع إلى اليمن فضل دخول اليهودية والمسيحية إلى الحبشة ، وعلى أية حال كان من أثر النزاع بين اليهودية والمسيحية في البلاد العربية أن أظهر دولة الأحباش بمظهر النهازة للفرص بين تطاحن الديانات في بلاد العرب لتقوي من نفوذها ، فحاولت الحبشة المسيحية أن توجه أنظارها نحو الصومال للاستيلاء علهيا أثناء فترة التشاجن العربي ولتنفرد بالسيطرة عليها نظرا لأهميتها الحيوية كأكبر مساحة لأعظم مواني في شرق أفريقيا ، ومن ثم يستطيع الأحباش أن يسيطروا على متاجر الصومال من ناحية ، ويضمنوا تجارة خليج عدن في يدهم من ناحية أخرى .
    ولم يتحقق حلم الأحباش لن البحرية الصومالية كانت قد نمت ، وأصبح لها بحارة مهرة في فنون البحرية ، وأصبح للأسطول البحري التجاري الصومالي شأن في الأعمال التجارية ، وفي الضرب على يد قراصنة البحار ، فامتدت المتاجر الصومالية إلى أصقاع بعيدة في آسيا وأفريقيا .
    ولنمو البحرية الصومالية ، وظهور قواد حكما في البر والبحر ، واتساع الإنتاج وازدهار المواني الصومالية ، قام ترسبى ملك الفرس 292/302 بعقد أول اتفاق تجاري مع زندافريك شاه أي ملك الشعب الإفريقي والصومال وبازدياد قوة ونفوذ الصوماليين فيمياه المحيط الهندي والبحر الأحمر ما دعا الأحباش إلى البقاء داخل منطقة أكسوم دون الوصول إلى سواحل البحر الأحمر وظلوا في عزلة حول بحيرة تانا وهضاب جوجام حتى أوائل القرن الماضي .
    وخلال فترات الحروب الدينية والمذهبية في بلاد العرب حتى ظهور الإسلام وانتشاره في بلاد العرب تزايدت حركة الهجرة والاستيطان العربي على سواحل شبه جزيرة الصومال وامتدتمن مواني الشمال إلى المواني الشرقية حتى ظهرت جاليات عربية كبيرة في تعدادها في مراكز زيلع وبربره وغردفوي ومقدشوه وبراوة ومركا وغيهرا لأسباب دينية أو عقائدية أو شخصية أو تجارية ، وبهذه الاستقرارات الضخمة في تعدادها بدأ عهد جديد في تأفرق العرب وصوملتهم وانصهارهم في الشعب الصومالي على نحو ما سنى في دراستنا للصومال الإسلامية .
    وكانت آخر عملية لانصهار العرب في بوتقة الصومال ما حدث في عام 1924 حينما وصل بحارة عرب إلى جزيرة سوقطره بعد غرق سفنهم بالقرب من علوله على الساحل الصومالي وقام بإنقاذهم الصوماليون من سكان مجرتنيا وطابت لهم الحياة على ساحل مجرتنيا ، وعملوا في صيد الأسماك ، وأقاموا قرية سموها سوقطره قرب علوله ، وقد انصهرت هذه القرية مع الصوماليين ، وعملية الانصهار والاندماج في الواقع قديمةة قدم التاريخ وما زالت حتى يومنا هذا .
    الرواد العرب والمسلمون وبلاد الصومال
    ليس من السهل الحصول على أخبار الرحالة الأوائل من العرب الذين جابوا بلاد الصومال أو تحدثوا عنها في العصور القديمة والوسطى ، ذلك أن العرب قبل ظهور الإسلام كانت لهم سفريات ورحلات في سبيل التجارة ، وقد ساعدتهم الظروف الطبيعية على الاتصال بالصومال في وقت مبكر منا لتاريخ . فالرياح الموسمية كانتت سهل الحركة الملاحية للسفن الشراعية فتقوم برحلتين في العام بأقل جهد .. رحلة صيفية تدفع فيها الرياح الجنوبية الغربية السفن الآتية من خليج عمان إلى المحيط الهندي ، ثم تسير بمحاذاة الساحل الإفريقي الذي ينحني في اتجاه جنوبي غربي ، ورحلة في الربيع حيث تدفع تلك السفن رياح موسمية في اتجاه شمالي شرقي لتعود إلى قواعدها في بلاد العرب .. وهي نفس الرياح التي ساعدت الهند والصين للوصول إلى سواحل الصومال الشرقية .
    وتبعا للتطور الحضري التجاري في بلاد العرب اتسعت معرفتهم بالرفعة العربية وزادت الشواطئ طولا وأصبحت المدن المتباعدة يسهل الوصول إليها مما دفع العرب إلى الحركة في البحار على نطاق متسع . وقد أوضحت المخطوطات القديمة ان العرب كانوا أول من تعرف على الإبرة المغناطيسية ، وأنهم استعملوا البوصلة في أسفارهم ، ثم انتقلت منهم إلى أوروبا ، كذلك كانوا على دراية بالنجوم الثوابت ، والكلف الشمسية . وهم أول من جعل علم الفلك علما استقرائيا لا نظريا وأول من رسموا الخرائط على سطح الكرة وأول من ربطوا علم الجغرافيا بعلم الفلك فسبقوا في هذا العلماء المحدثين .
    وباتساع الرقعة الإسلامية من حدود الهند شرقا غلى المحيط الأطلسي غربا ، ومن جبا القوقاز وآسيا الصغرى شمالا إلى صحارى أفريقيا ووسطها جنوبا ، كان له أثر في إتاحة الفرصة للرواد العرب والمسلمين في الأسبقية للارتياد والكشف . ومما دعم من حركتهم الكثيفة طبيعة الدين الإسلامي الذي هو دين دعوة للناس كافة ، فاهتم العرب بالدراسات الجغرافية والفلكية والطبيعية والتجارية .
    وأشهر الرواد العب والمسلمين الذين تحدثوا عن الصومال من الناحية العملية والنظرية هم : ياقوت الحموي ، والمسعودي ، والإدريسي ، وابن بطوطة والقلقشندي ، والمقريزي ، وأبى الفدا ، وابن حوقل وغيرهم .
    ياقوت الحموي : هو الشيخ الإمامم شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي من أشهر الجغرافيين العرب ، وله قاموس جغرافي سماه (معجم البلدان) وهو معجم غني بالمعرفة ، وليس له نظير في سائر لغات العالم . ويتحدث الكتاب عن بعض المدن الصومالية وقد ذكر فيه عن مدينة مقدشوه أنها تقع قرب بداية بلاد الزنج ، وأن المدينة تقع في أرض بنادر ، وأهلها يختلفون عن البرابره الذين يقطنون في الغرب ، ومساكنهم من الأحجار على طول الساحل ، وتخضع المدينة لرئيس ومجلس إدارة ، ومن عادة سكانها إذا رسا تاجر على الساحل سأل عن صداقة لأحد الأشراف ، وكان للشريف الذي يغري هذا الضيف أن يدافع عنه ويبيع له ما أحضره من البضائع ، ثم يشتري له بضائع أخرى .
    المسعودي : مؤرخ جغرافي توفي عام 957م (346هـ) في الفسطاط بمصر ، وهو من مواليد بغداد (حوالي 900م) وله ولع بالرحلات ، زار الهند ، وسيلان ، وبحر الصين ، وزنجبار ، ومدغشقر ، والصومال . وقد وصف رحلاته وتجارية ومشاهداته في ثلاثين جزءا وسمى كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر .. وهو كتاب سياحة ومعرفة وجغرافية وعمران وعلم وأخبار وأساطير .
    ويذكر عن سكان الساحل الصومالي من نهر جوبا إلى تنجانيقا أنهم من الزنوج ، وسماهم زنوج جوبا ، وأنهم رحلوا أخيرا إلى نهر تانا حيث استقروا في كينيا ، وسبب هجرتهم ضغط العناصر الحامية النشطة عليهم .. ويصف البحار الصومالية فيقول : (لم أشاهد أهول من بحر الزنج ،وفيه السمك المعروف بالأوال ، طول السمكة نحو 100 ذراع بالذراع العمرية ، وهو ذراع ذلك البحر وربما بدأ بهذا البحر فيظهر طرف منه فيكون كالقلاع العظيم ، وهو الشراع . ورمبا يظهر رأسه ويتنفس الصعداء بالماء فيذهب في الجو أكثر من ممر السهم ،والماركب تفزع بالليل والنهار ، وتضرب له بالدبادب والخشب لينفر من ذلك) .
    وأخر رحلة للمسعودي في الصومال كانت عام 917 حيث يصف أمواج راس غردفوي بقوله (وموجه عظيم كالجبل الشاهق وأنه موج أعمى) .. يريد بذلك أنه يرتفع كارتفاع الجبال وينخفض كأشد ما يكون الانخفاض من الأودية – (لا يعكر موجة ، ولا يظهر من ذلك زبد كأمواج سائر البحار . ويزعمون أنه موج مجنون وهؤلاء القوم الذين يركبون هذا البحر من أهل عمان ، عرب من الأزر فإذا توسطوا هذا البحر حلوا بين ما ذكرنا من الأمواج) ويرتجزون في أعمالهم فيقولون :بربرا وحفونى وموجك المجنون حفونى وبربرا وموجها كما ترى
    الإدريسي : هو أبو عدبالله بن أدريس الصقلي العلوي المولود بمدينة سبتة عام 493هـ - 1099 وقد نشأ في قرطبة ، وقام بجولات واسعة في بعض بلدان آسيا وأفريقية وأوروبا ، ودون مشاهداته في كتابه (نزهة المشتاق ف ياختراق الآفاق) كما رسم خريطة للعالم المعروف في زمانه على سطح كروي لروجر ملك صقلية – بناء على طلب الملك – وهذا اعتراف من الغرب بعلوم العرب ، فقد كان وحيد زمنه في علم الجغرافيا والمساحة.
    وفي كتابه وصف شامل لطبيعة بلاد الصومال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودراسة للمدن . ذكر بعض المدن المعروفة كزيلع ووصفها بأنها أكبر ميناء تجاري على الساحل الشمالي كما ذكر كثيرا من المدن مثل منتوبة ، وغيهرا من المدن التي اندثرت الآن ، وكان أهلها يعملون في صيد الأسماك ، وتجارة اللبان والبخور والحيوانات والقليل من الحبوب .
    وذكر أن المسافة بين حافون ومقدشوه سبعة أيام عن طريق البحر ويحدثنا عن مقدشوه وبعض المدن الشرقية للصومال وعن الأسر التي تعيش فيها غير ذلك .
    ابن بطوطة : من مواليد طنجة (703/1304) وكان مولعا بالترحال ، عالما ، وافر النشاط ، مولعا بالحديث عن المجتمع والاقتصاد . قام برحلات في القرن الخامس عشر من طنجة إلى : مصر – الشام- الحجاز – فارس – بلاد العرب – شرقي أفريقيا – القلزم – حوض الفولجا الأدنى – القسطنطينية – الصين – جزر الهند الشرقية – الأندلس – السودان العربي ، تمبكتو . وقطع في ذلك مسافة تبلغ مائة وعشرين ألف كيلو مثتر ، فلا يعرف له مثيل في هذه الرحلات الواسعة قبل العصر الحديث .
    وبعد وفاته أمر السلطان أبو عثمان بن بني مرين المراكشي (952/957) بأن تدون رحلة ابن بطوطة فكتبها ابن جزى الكلبي وقد اقتبسنا حديثه عن مقدشوه التي زارها عام 1331م عن كتاب (مهذب رحلة ابن بطوطة) طبعت القاهرة 1938 ، المسمى (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) ، لما له من أهمية في وصف المدينة ، ونظم الحكم والمجتمع والعادات والتقاليد في هذه الفترة .. يقول ابن بطوطة .. ((وصلنا مقدشوه – وهي مدينة متناهية في الكبر وأهلها لهم جمال كثيرة . ينحرون منها المائتين في كل يوم ، ولهم أغنام كثيرة ، وهم تجار أقوياء ، وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها ، وتحمل إلى ديار مصر وغيرها) .
    (ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل مركب إلى المرسى تصعب إليه الصنابيق وهي القوارب الصغيرة ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها) .
    (فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام ويقدمه لتأجر من تجار المركب ويقول هذا نزيلي . وكذلك يفعل كل واحد منهم ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان ، إلا من كان منهم كثير التردد على البلد حتى عرف أهله فإنه ينزل ضيفا على من يشاء ، فإذا نزل عند مضيف باع له ما عنده واشترى منه ، وإذا باع شيئا بغير حضور مضيفه فهذا البيع مردود عندهم ، وله منفعة في ذلك) .
    (ولما صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إلى بعضهم فقال له أصحابي ليس هذا بتاجر ، وإنما هو فقيه ، فصاح بأصحابه وقال لهم هذا نزيل القاضي . وكان بينهم أحد أصحاب القاضي فعرفوه بذلك فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة وبعث إلى أحدثهم فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه وقال لي . باسم الله نتوجه بالسلام على الشيخ ، فقلت ومن الشيخ ؟ فقال السلطان .. وعادتهم أن يقولوا للسلطان الشيخ فقلت له إذا نزلت توجهت إليه .. فقال لي : أن العادة هي أن الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان فذهبت معهم إليه كما طلبوا) .
    ذكرى سلطان مقدشوه (سلطان مقدشوه) كما ذكرنا يقولون له الشيخ واسمه أبو بكر بن الشيخ عمر ، وهو في الأصل من البربر وكلامه بالمقديشي ، ويعرف اللسان العربي . ومن عادته أنه متى وصل مركب يصعد إليه جنود السلطان ويسأل عن المركب من أين قدم؟ ومن صاحبه؟ ومن ربانه؟ وما سعته؟ ومن قدم فيه من التجار وغيهرم ؟ فيعرف بذلك كله ، ويعرض على السلطان فمن استحق أن ينزل عنده أنزله ، ولما وصلت مع القاضي المذكور (وهو) يعرف بابن برهان المصري الأصل ، إلى دار السلطان خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي .. فقال له بلغ الأمانة .. وعرف مولانا أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز .. فبلغ ثم عاد .. وأتى يطبق فيه أوراق التنبول وقليل من الفلفل فأعطاني عشرة أوراق مع قليل من الفلفل وأعطى الفاضي كذلك وأعطى أصحابه ، وطلب القاضي ما تبقى في الطبق ، وجاء بقمقم من ماء الورد الدمشقي فسكب على وعلى القاضي وقال أن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة ، وهي دار معدة لضيافة الطلبة وأخذ القاضي بيدي وجئنا إلى تلك الدار وهي على مقربة من دار الشيخ مفروشة مؤثثة بما تحتاج إليه ، ثم أتى بالطعام من دار الشيخ ومعه أحد وزرائه وهو الموكل بالضيوف .. فقال مولانا يسلم عليك ويقول قدمت خير مقدم ثم وضع الطعام فأكلنا . وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن يجعلونه في صحفة خشب كبيرة ، ويجعلون فوقه صحاف الكوشاف وهو الأدم من الدجاج واللحم والحوت والتبول ، ويطبخون الموز قبل نضجه باللبن الحليب ويجعلونه في صحفة ويجعلون المريب في صحفة ، ويجعلون عليه الليمون وعناقيد الفلفل المخلل والملح والزنجبيل الأخضر والعنب والمانجو وهي مثل التفاح إلا أن بها نواة ، وهي إذا نضجت كانت شديدة الحلاوة ، وتؤكل كالفاكهة ، وقبل نضجها تكون حامضة كالليمون يصيرونها في الخل . وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخللات ، والواحد من أهل مقدشوه يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة ، وهم في النهاية من ضخامة الجسم والشحم ، ثم لما طعمنا الصوف منا القاضي وأقمنا ثلاث أيام يؤتى إلينا الطعام ثلاث مرات في اليوم ، وذلك عاداتهم) .
    (ولما كان اليومالرابع وهو يوم الجمعة جائني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ وأتوني بكسوة ، وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوضا عن السراويل فغنهم لا يعرفونهم وذراعة من المقطع المصري مقلمة ، وفرجية مبطنةمن القدس ، وعمامة مصرية مقلمة ، وآتوا لأصحابي بكساء) .
    (آتينا الجامع فصلينا خلف المقصورة ، فلما خرج الشيخ من باب المقصورة سلمت عليه مع القاضي فرحب متكلما بلسانهم مع القاضي ثم قال باللسان العربي قدمت خير مقدم ، وشرفت بلادنا ، وآنستنا ، وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده وهو مدفون هناك فقرا ودعا ثم جاء الوزراء والأمراء ووجهاء الأجناد فسلموا) .
    (وعاداتهم في السلام كعادة أهل اليمن ، يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأس ويقول أدام الله عمرك ، ثم خرج الشيخ من باب المسجد فلبس نعله وأمر القاضي أن ينتعل وأمرني ان أنتعل وتوجه إلى منزله ماشيا وهو بالقرب من المسجد ومشى الناس كلهم حفاة ورفعت فوق رأسه أربعة ثياب من الحرير الملون وأعلى كل ثوب صورة طائر من ذهب ، وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسية خضراء ، وهو متقلد بفوطة حرير ، ومعهم بعمامة كبيرة ، وحرجت من بين يديه الطبول والأنفار وأمراء الأجناد ، وأمامه وخلفه القاضي والفقهاء والشرفاء . ودخل إلى مشورة على تلك الهيئة فقعد الوزراء والأمراء ووجهاء الجنود في سقيفة هناك ، وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه عليه غير الفقهاء والشرفاء ، ولم يزالوا كذلك إلى صلاة المغرب فلما صلوا العصر مع الشيخ أتى جمع من الأجناد ووقفوا عند ضربها لا يتحرك أحد من مكانه ولا يتزحزح أحد عن مكانه ومن كان ماشيا وقف فلم يتحرك إلى الخلف ولا إلى الأمام فإذا فرغ من ضرب الطبلخانة سلموا بأصباعهم كما ذكرنا ، وانصرفوا . وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة) .
    وإذا كان يوم السبت ذهب الناس إلى باب الشيخ فيقفون في سقائف خارج الدار ويدخل القاضي ، والفقهاء ، والشرفاء ، والصالحون، والمشايخ ، والحجاج إلى المشور الثاني فيقعدون على دكاكين خشب معدة لذلك ، ويكون القاضي على دكان واحدة وكل صنف على دكان لا يشاركهم فيه سواههم ، ثم يجلس الشيخ بمجلسه فيبعث إلى القاضي فيجلس على يساره ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه ، وسائرهم يسلمون ويتصرفون ، ثم يدخل الوزراء ، ثم الأمراء ، ثم وجوه الأجناد وظائفة بعد طائفة أخرى فيسلمون ويتصروفن وإن كانوا ضيوفا جلسوا عن يمينه ويؤتى بالطعام فيأكل من يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس ويأكل الشيخ معهم . وإن أراد تشريف أحد من كبراء أمرائه بعث غيه فأكل معه ، ويأكل سائر الناس بدار الطعام وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ) .
    (ثم يدخل الشيخ إلى داره ويقعد الفاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات ، فما كان متعلقا بالأحكام الشرعية حكم فيه القاضي ، وماكان سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى وهم الوزراء والأمراء ، وما كان يقتضي مشورة السلطان كتبوا إليه فيخرج لهم الجواب في حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عاداتهم دائما) .
    وهناك عدد كبير من الرواد والمؤرخين العرب الذين ارتادوا بلاد الصومال ودونوا الكثير عنها كالمقريزي صاحب كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) وابن حوقل صاحب كتاب المالك والممالك (خاص بالممالك الإسلامية) وغيرهما الكثير مما لا يتسع المقام لسرده في هذا الكتاب على أن يتضمن ذلك بإذن الله كتابنا الجديد (الصومال الإسلامية) وهو الجزء الثالث لهذا الكتاب .
    الفصل الرابع الصومال الإسلامية
    الإسلام دين دعوة : بظهور الدعوة الإسلامية في بلاد العرب ، اندفع المسلمون بحماس ديني لنشر الدعوة الإسلامية للناس كافة ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ، لم يرسل للعرب وحدهم ، وإنما أرسل للناس كافة وجاء في كتابه الكريم : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من ألغى) (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)
    فالإسلام دين دعوةمن الناحية النظرية ، ومن الناحية التطبيقية ، فكان اندفاع العرب خارج الجزيرة العربة لنشر الإسلام فيه تحقيق للصفة العالمية للدين (للناس كافة) في أرض الله الواسعة . ويناقش ابن حجر هذا الرأي ، ويرى أن الرسول أرسل حتى للجماد نفسه .
    فهي دعوة تستوحي الخير فتأمر بالوحدانية ، وتعالج المشكلات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، ولكن قريشا الحريصة على زعامتها الروحية والاقتصادية ، لم تؤمن بهذه الدعوة ، بل وقفت في وجهها فكانت الهجرة للمدينة ، والهجرة في تاريخ الإسلام وتاريخ حضارته ، حدث بالغ للأهمية ، فقد مهدت الطريق لتطبيق المثل العليا ، في المعاملة والسلوك والأخلاق تمهيدا لتطبيقه عمليا ، فكانت ملائمة بين الدين والحياة ، كما مهدت لقيام دولة عربية إسلامية ، لأن الرسول عليه السلام أصبح على رأس جماعة ، فعلى الدين الجديد أن ينظم أمر هذه الجماعة ، وأن يضع لها التشريعات .
    نشر الدعوة الإسلامية : واتسعت الدولة الإسلامية ، وأصبح الرسول على رئاس دولة اتحادية كبيرة بزعامته ، وبدأت الدولة في نشر الدعوة الإسلامية ، ومما يؤيد التنفي العالمي للدعوة ، الغزوات التي قام بها الرسول عند أطراف الشام ، واستطاعت الجيوش الإسلامية أن تصل إلىب لاد ما وراء النهر شمالا ، بل تتخطى الحدود إلى الهند جنوبا وشمالا إلى مصر . وقامت متابعة لسير طارق بن زياد إلى الأندلس ، فعبرت حدود البرانس بين أسبانيا وفرنسا وتوغلت إلى الجنوب من فرنسا . وفي أفريقيا استمر الزحف الإسلامي إلى الجنوب من مراكش ، حتى حواف النطاقات الغابية متضمنا الأرض الشمالية للنطاق الساحلي لخليج ساحل العاج ، حتى تمبكتو عند أعالي نهر النيجر ، فالسودان الغربي ، فالأوسط ، فالسودان العربي ، فأعالي النيل .
    أسبقية الصومال في الإسلام : كانت الصومال في استقبال الدعوة الإسلامية ، أسبق من أي دولة أخرى أفريقية أو آسيوية ، ويرجح أن الصومال بحكم صلاتها القديمة ببلاد العرب ، ويحكم وجود جاليات عربية على ساحل الصومال منذ عهد انهيار سد مأرب في عام 120 ميلادية وما تلا ذلك ، سواء جاءت هذه الجاليات لأسباب مذهبية ، أم اقتصادية ، فإنه من المرجح أن الصومال عرفت الإسلام في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ، حينما خرج جعفر ابن ابي طالب من مكة إلى الحبشة لنشر الدعوة الإسلامية ، وفي طريقه أسس مراكز للدعوة في أرتريا والصومال ، بمساعدة الجاليات العربية المستوطنة في تلك الجهات ، وكان ذلك قبل هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة المنورة ، بنحو ثماني سنوات ، فكانت الصومال أسبق في الإسلام من المدينة المنورة ومن ثم فلا عجب إذا وجدنا أن الصوماليين صاروا فيما بعد من أكبر المتحمسين لنشر الدعوة الإسلامية ، وأصبحت البلاد إسلامية خالصة .
    وهذا الفتح الكبير للإسلام ، لم يكن عسكريا وإنما كان فتحا جنسيا ، وثقافيا ، ودينيا ، وقد حملت جيوش الفتح أو دعاة الإسلام إلى هذه البلاد حضارة ذات مظاهر ثلاثة : 1- طابع الحضارة العربية من حرية العقيدة ، وحرية الفكر ، وعدم الجمود . 2- ثقافة عربية إسلامية جامعة شاملة لمختلف العلوم والمعارف . 3- الدين الإسلامي نفسه الذي يتلاءم مع كل زمان ومكان .
    وظهرت الصومال الإسلامية بشكل واضح لا ريب فيه في أثناء العشرين سنة التي تلت وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ، حينما اتجه عرب الجزيرة في نشر الدعوة الإسلامية نحو العراق والشام شمالا ، وفارس شرقا ومصر غربا ، فكان طبيعيا أن عرب عمان ، بحكم موقعهم الجغرافي والعزلة الإقليمية ، يكون اتجاههم في نشر الدعوة الإسلامية تجاه الأراضي الصومالية وشرق أفريقيا .
    ومع ازدهار الإسلام كدين ودولة ونظام ، زاد النشاط البحري ، وتوافدت على سواحل الصومال مجموعات ضخمة ، من دعاة الإسلام من عرب وفرس وغيرهم ، لإنشاء مراكز ثابتة لنشر الدعوة ، وبث تعاليم الدين الإسلامي بين الصوماليين .
    ولاختلاف سادة العرب حول منصب الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان ، انقسم المسلمون إلى شيع في عهد علي بن ابي طالب ، وقامت بينهم معارك فاضطر بعض الشيعة إلى الرحيل إلى بلاد الصومال .
    وهكذا كان المهاجرون يحملون طابعا جديدا ، بالإضافة إلى نشاطهم التجاري القديم ، وهذا الطابع الجديد ، يتمثل في عقائدهم ومذاهبهم التي سادت في بلادهم ، نتيجة لظهور الإسلام وما تلاه من نشواء الفرق الإسلامية المتعددة ووصلت إلى الصومال نماذج من هذه الفرق والمذاهب . الواحدة تلو الأخرى لنشر الدعوة ، وتحكمت في ذلك عوامل اقتصادية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية ، إذ أنها جميعا لم تصل في وقت واحد ، ونذكر هنا أشهر دعاة الإسلام في الصومال خلال هذه الهجرات الإسلامية .
    دعاة الإسلام في الصومال
    هجرة سليمان وسعيد الجلنديين : من المرجح أنها أول حركة استيطان إسلامية عربية على سواحل الصومال ، وقد عرفنا بعض أخبارها في القرنا لسابع الميلادي ، وكانت لقسم من قبيلة الأزر العمانية تحت قيادة سليمان وسعيد ابني عباد الجلندي وهما حاكما عمان من 75-95 هـ ــ 507-685 م .
    وحينما اتبع عبدالملك بن مروان سياسة قبلية في الحكم ، وثار عليه شعب عمان ، كان لهم التوفيق في بداية الأمر ،ولكن الخليفة تمكن من إخماد الثورة ، فهرب سليمان وسعيد وأسرتاهما ، وبعض قبائلهما إلى الصومال ، بعد أن عين عبدالملك على عمان رجلا من أتباعه المخلصين ، وأبعد العمانيين عن الحكم ، فكان الأميران رسولي سلام ودعوة إلى الإسلام في الصومال .
    ويمكن اعتبار هذه الهجرة الإسلامية العربية إلى الصومال ، أكبر حدث تاريخي في شرق أفريقيا ، فهي تشير إلى معرفة العمانيين بأفريقيا الشرقية منذ زمن بعيد ، وهي الدعوة الأولى المنظمة للإسلام فيا لصومال ، وكانت في نجاحها داعية لأن يزداد عدد المهاجرين المسلمين إلى لاصومال ، لما يجدون فيها من ترحاب وحسن ضيافة ، ومناصرة لدينهم الحنيف ، من شعب الصومال .
    الزيديون : جاء في الوثيقة العربية التي وجدها البرتغاليون في مدينة كلوه عام 1505 ، أن أول من هاجر من العرب المسلمين ، هم جماعة الزيدية الذين نفوا من البلاد العربية ، لأنهم اتبعوا تعاليم كان يقول بها شخص يدعى زيدا من سلالة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد سموا (أمورزيديج) ولا يبعد أن يكون هو زيد بن علي حفيد الحسين ، أي أنه أحد أحفاد علي ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكنه هزم وقتل عام 122 هـ - 740م فخرج جماعة من أتباعه إلى الساحل الصومالي ، واستقروا بمنطقة بنادر ، وقد نجحت هذه الجماعة بالتدريج فينشر الدعوة الإسلامية على طول الساحل ، فظهرت منطقة بنادر كأول منطقة تأخذ بتعاليم الإسلام في الصومال .
    الإخوة السبعة من الإحساء : خرج سبعة أخوة من قبيلة الحادث ، على ثلاث سفن هاربين من اضطهاد ملك الإحساء ، ومعهم الكثير من سكان الشاطئ الغربي للخليج العربي قرب جزيرة البحرين في ولاية الإحساء ، وإلى هؤلاء المهاجرين يرجع الفضل في إنشاء مدينة مقدشوه ، التي مكنت فترة طويلة تتزعم الحركة الإسلامية على ساحل الصومال .
    ويذكر المسعودي أن مدينة مقدشوه ، يرجع تأسيسها إلى المهاجرين العرب قبل القرن الرابع الهجري ، وهم الذين وصولوا إلى بنادر وكذلك فإن مدينة براوة يرجع تأسيسها إلى العرب ، في أوائل عهد الفاطميين بمصر.
    ويذكر المؤرخون أن المواطنين الأوائل من أتباع زيد ، لا يتفقون مع حزب اللاجئين الجدد ، حيث كان الأولون من الشيعة والآخرون من أهل السنة ، فاضطرت جماعة الزيدية التي استقرت نحو 200 عام على سواحل الصومال ، أن تنسحب إلى داخل البلاد ، فكانت فرصة طيبة لحركة الاندماج والانصهار في الشعب الصومالي ، فتزوجوا منهم ، وتطبعوا بأطباعهم ، وتخلقوا بأخلاقهم ، ونشروا افسلام فيهم ، حتى قبائل الجالا ، وأصبح من الصوماليين فقهاء ، ووعاظ ، ورجال دعوة للدين ، أكثر من العرب أنفسهم ، وظلت مقدشوه مركزا للدعوة الإسلامية ، ومنارة لنشر الدعوة في الداخل سبعين عاما حتى ظهر حسن بن علي وأبناؤه الستة.
    حسن بن علي وأبناؤه : جاء إلى الصومال مهاجرون من الخليج الفارسي (الخليج العربي حاليا) ، برياسة حسن بن علي وأبناؤه الستة ،وهو أحد أبناء سلاطين شيراز ، وقد ازداراه أخوته ، لأن أمه حبشية ، فصمم على مغادرة البلاد حوالي سنة 975 م مع أبنائه ، ولا تعرف الحقيقة الواضحة في سبب هجرته ، غير أنه وصل مع أبنائه على سبع سفن ، إلى أربع مناطق على ساحل الصومال وهي : بمبا وممبسة وبراوه وكيلوه . والأخيرة كان عليها حسن نفسه .
    وقام هؤلاء المهاجرون بنشر الدعوة الإسلامية ، في منطقة جوبا العليا والسفلى ، وقد حمل المهاجرون المسلمون الفارسيون بعض مظاهر حضارة فارس التي تمت خلال القرون 10 و11و12 فعرف الصوماليون أسالبيهم في طرق البناء بالأحجار ، واستخدموا الجير والإسمنت في البناء ، وعرفوا النقش والحفر على الخشب والأحجار ونسج القطن .
    وقد شيد الشيرازيون عدة مساجد ومباني ، تمتاز باستخدام العقود المحدبة ، والنقوش البديعة . وقد عثر في الحفائر الأثرية على قطع من خزف صيني قديم ، وبقايا أوان من الزجاج السوري والعربي القديم وقطع من الحلى الذهبية . وقد ذكر مؤلف أخبار كيلوه العربية أسماء سلاطين ، تولوا الحكم بعد أن قام حسن بن علي بتأسيس الدولة في القرن العاشر ، كما ذكر بعض أخبارهم .
    الشيخ أبادير : تقول أسطورة صومالية قديمة ، أن عربيا عريقا في العروبة عبر البحر إلى مملكة عدل (زيلع) حيث دعا إلى الدين الإسلامي بين أجدادهم ، وقد يكون هذا الداعي ، هو الشيخ الكبير أبادير ، الذي دخل هرر في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وأصبحت قاعدة إسلامية لنشر الدعوة في الصومال والحبشة .
    ويذكر ابن حوقل ، أن أهالي زيلع ، كانوا مسيحيين في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي ، ولكن أبا الفدا يذكر أنهم كانوا مسلمين في القرن الرابع عشر ، وقد يكون هذا التحول إلى الإسلام بفضل الشيخ أبادير الذي نشر الإسلام ، ودعا إليه بين أهل زيلع في القرن العاشر .
    جماعة من سلالة عقيل : وصل إلى ساحل الصومال الشمالي ، جماعة من سلالة عقيل بن أبي طالب ، وقد استقر بهم المقام في أرض زيلع ، في مدينة تدعى جبرت (أوفات) وقد أطلق عليهم اسم (الجبرتية) ، وازداد نفوذهم في سهل زيلع ، حتى ظهورا في القرن الرابع عشر في سبع مماليك إسلامية ، سميت بدول الطراز الإسلامي ، وقد لعبت هذه الإمارات الإسلامية ، أكر دور في نشر الدعوة الإسلامية لا في النصف الشمالي من بلاد الصومال فحسب ، بل في الصومال كله ، وفي نحو ثلثي الحبشة .
    أربعة وأربعون شيخا من حضرموت : في القرن الخامس عشر وفد إلى لاصومال جماعة من حضرموت تتألف من أربعة وأربعين شيخا عربيا للدعوة الإسلامية ، ونزلوا أول الأمر في مدينة بربره ، على ساحل الصومال الشمالي ، واستقروا بها فترة صغيرة ، ثم انتشروا في البلاد ، واستطاع أحدهم وهو الشيخ الوقور إبراهيم أبو زرباي ، أن يسلك طريقه إلى مدينة هرر ، حوالي عام 1430 م حيث قام بنشر الدعوة ، وإنشاء المساجد ، ومازال قبره معظما في المدينة إلى يومنا هذا .
    وبالقرب من مدينة بربره ، مازال السكان الوطنية يعرفون جبل الأولياء ، تخليدا لذكرى هؤلاء الدعاة ، الذين يقال أنهم كانوا يجلسون هناك في خلوة مقدسة للعبادة ، قبل أن يقوموا بالدعوة في طول البلاد وعرضها .
    أحمد جرى الصومالي : من دعاة الإسلام الصوماليين ، في القرن السادس عشر ، وفي عهده حدثت حالات كبيرة للتحول إلى الإسلام في شرق أفريقيا – كما سنرى فيما بعد .
    الوهابيون : في عام 1830 ظهرت مستعمرة من الوهابيين النجديين في بلدة بارديرا ، وقاموا بتنظيم دعاية قوية كان لها النجاح في حالات كثيرة إلى الإسلام .
    السيد محمد عبدالله حسن : مجاهد صومالي في القرن التاسع عشر حارب المبشرين . ودعا إلى الكفاح المقدسي تحت راية الإسلام ، ووحد كلمة المسلمين في الجهاد . كما سنرى فيما بعد .
    أصحاب الطرق الدينية (الصوفية) : قد قاموا بنشر الدعوة وتفسير تعاليم الإسلام ، ومحاربة البدع ، والعمل على جعل المسلمين أخوة متحابين في الله . كما سنرى فيما بعد .
    من المشاهد أن الهجرات الإسلامية ظلت في تتابع مستمر إلى بلاد الصومال وإن كانت تحددها اللوائح القانونية الحديثة ، إلا انها عمل مستمر ، وسواء كان القادمون دعاة إسلام أم تجارا في القرون الأولى للهجرة ، فهم يكملون عمل الفاتح ، فالتاجر عربي أو فارسي أو مصري أو مغربي أو غير ذلك ، فهو يجمع بين سلعته ونشر الدعوة الإسلامية ، فإذا ما دخل قريبة وثنية لفت نظر الناس بوضوئه ، وأدائه أوقات الصلوات بانتظام ، وبعقليته الناضجة ، وخلقه الحسن ، وكل ذلك يجعله موضع ثقة عند الناس ، يتقبلون ما يقدمه إليهم من زاد العلم والمعرفة .
    ومن آثار دعاة الإسلام ، أن كثيرا من الصوماليين خرجوا لطلب العلم ، فطلبوا العلوم الدينية والمدنية في مكة والقيروان وفاس وطرابلس والقاهرة وصنعاء ، وإذا ما تحصلوا على علومهم ومعارفهم في أحوال المسلمين وتعاليم الإسلام ، عادوا إلى بلادهم كدعاة للإسلام ، وساعد على نجاح دعوتهم ، أنهم يعيشون بطابع بلادهم ، وبين بني جلدتهم حتى تحققت لبعضهم فرص عظيمة من التأييد الشعبي . ولنا في حياة الإمام الصومالي أحمد جرى ، والشيخ الجليل السيد محمد عبدالله حسن ، خير مثل لخير دعاة للإسلام في الصومال وشرق أفريقيا .
    وكان لابد أن تتطور مراكز الدعوة الإسلامية مع مرور الزمن ، وأن تزداد الهجرات العربية من ناحية ، ويزداد نشاط الدعاة الصوماليين من ناحية أخرى ، فهو عمل مشترك بين القادم الداعي وبين المستقر الموجهة إليه الدعوة، فتحولت المدن الصغيرة إلى مدن زاهرة ، واتسعت شوارعها ، وأصبحت مساكنها مباني حجرية ، ذات مداخل واسعة ونوافذ وأحواش فسيحة وحدائق غناء ، ولأبوابها ونوافذها الخشبية نقوش بديعة بين غائر وبارز ، وظهر عليها طابع الطراز العربي والفارسي ، فبدأ الحكام يبنون القصور ، ويحملون مواد البناء من جهات بعيدة ، كمصر وفارس وغيهرا لتنظيم وبناء العمائر الإسلامية ، وقصور الأعيان والحكام ، ثم يقتدي بهم غيرهم .
    ومن الثابت ، أن الكثرة العددية للمهاجرين إلى الصومال ، كانت للهجرات العربية المسلمة دون منازع ، فكان لها أن تضع أساس المراكز الإسلامية وأن تقوم ببناء وتعمير مدينتي مقدشوه وبراوه ، كما ساهمت في بناء مدن كثيرة وقرى عديدة ، كمركه وحافون وبربره ومنها ما صار قاعدة للحكم في الشمال كزيلع وهرر .
    ولاشك أن حركة الهجرات لدعاة الإسلام في الصومال لها تأثير في التزاوج والتصاهر بين العرب والصوماليين ، فكلاهما على دين واحد ولهما قبلة واحدة وهم من عنصر حامي واحد وذوو مصالح مشتركة وأماني واحدة في نشر الدعوة والإخاء بين المسلمين لصالح الوطن والمواطنين .
    وهناك حقيقة معروفة هي أن العرب في أول أمرهم بالحياة في الصومال ، أرادوا أن يحتفظوا بأساليب معيشتهم التقليدية إلى حد ما ، وأن ينفردوا بالرياسة والزعامة لأبناء عمومتهم ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحتفظوا بهذه السلطات فترة طويلة ، فسرعان ما غلبوا على أمرهم وتحولت الرياسة والزعامة إلى الصوماليين ، حينما دب التشاحن والنزاع الداخلي بين المستوطنين الجدد من ناحية وبين المراكز المجاورة من ناحية أخرى .
    وقد ظهرت بوادر الزعامة الصومالية في مدينة مقدشوه ، حينما تولى أمورها شيخ صومالي فوحد كلمتها ، وآخى بين سكانها ، وناشد المدن الصومالية الأخرى ، أن توحد كلمتها لاستكمال الوحدة الصومالية الإسلامية .
    مراكز الدعوة الإسلامية في الدراسة التالية أضواء خاطفة على مراكز الدعوة الإسلامية في الصومال ، وهي تمثل حلقة تمتد من مركز مقدشوه فبراوه ، فالإمارات الإسلامية السبع من (دول الطراز الإسلامي) فهرر .. ويمكن معرفة مدى انتشار الإسلام وتلاقي هذه المراكز ، في توحيد الجبهة الصومالية الإسلامية حتى أصبحت الصومال دولة إسلامية خالصة . وقد استبعدنا دور المراكز الإسلامية الأخرى ، كما في حافون ووار شيخ وعظلة وكسمايو وبارديرا ولوخ وبيدوه وبربره ، وغيرها على أن نتحدث عنها في مناسبات أخرى من هذا الكتاب .
    مقدشوه : من أقدم مدن الساحل الصومالي الشرقي وأعرقها قدما في الحضارة ، عرفها المصريون القدماء وأهل بابل وآشور في العراق ، . والفينيقيون والرومانيون من سكان البحر المتوسط ،وعرهفا الإغريق منذ أفي عام باسم مدينة سيرابيون ،وعرفت في العصور الوسطى باسم حمر ، وأصبحت في العصر الحديث عاصمة للجمهورية الصومالية منذ أول يوليو عام 1960 .
    وفي الوثيقة العربية التي عثر عليها البرتغاليون في مدينة كيلوة عام 910 هـ - 1505 م ، أمكن معرفة بعض الأخبار الهامة عن مدينة مقدشوه في القرون الأولى للهجرة ، منها أخبار البعثات العربية الإسلامية القادمة من مدينة الحسا على الخليج العربي على ثلاث سفن ، بقيادة سبعة أخوة نزلوا في ساحل الزاهية ، وقاموا بتأسيس مدينتي مقدشوه وبراوه .
    وتذكر الوثيقة العربية أن مؤسسي مدينة مقدشوه ، قد أقاموا عليها حكما شوريا بإثنى عشر رئيسا من ذرية إثنى عشر أخا . وفي عهدهم امتد نفوذ مقدشوه على طول ساحل الزاهية (بنادر) ، بما فيها من المدن العربية وغيرها .
    وذكرت الوثيقة أيضا أن سكان مقدشوه ، أول من وصولوا إلى بلاد سوفالة في موزمبيق ، وأن سفنهم كانت تترد على بلاد سوفالة لاكتشاف مناجم الذهب الموجودة في تلك الجهات واستغلالها .
    وأشارت الوثيقة أيضا إلى البعثات الفارسية المسلمة التي قدمت إلى مقدشوه حاملة معها معالم حضارة فارس القديمة .
    وكانت أكبر الهجرات هي التي وصلت إلى مقدشوه في عام 149 هجرية وكانت مكونة من تسع وثلاثين قبيلة ومن أكبرها قبائل الشاشيون والدرقية ، وجديني والإسماعيلية والقحطانيين وآل المخزومي ثم آل الأهول من حضرموت .
    وكان لعائلة قحطان مجلس القضاء بين الناس ، وخطبة الجامع والرياسة بمدينة مقدشوه ، وعقد الأنكحة وتوارثوا ذلك أبا عن جد ومن آثارهم المنارة الموجودة قرب الجمرك بمقدشوه (منارة عبدالعزيز) .
    وفي القرون الأولى للهجرة ، لم يكن لمقدشوه سلطان أو ملك ، وإنما كان لكل طائفة أن تخضع لشيخها الذي يتولى أمرها ويتولى إكرام الغرباء وقضاء حاجاتهم .
    وباتساع المدينة ، حدث ترابط بين السكان العرب والصوماليين وتكون اتحاد فيدرالي على صورة مجلس من الأشراف وأعيان القبائل الصومالية ، للنظر في أمور البلاد بعد أن أصبحت مقدشوه عاصمة لساحل بنادر ، الذي يتضمن مواني مركه وبراوه ووارشيخ وعظلة والأراضي المحيطة بها ، وكان يطلق عليها جميعا اسم مقاديش ، جمع لكلمة مقدشوه .
    وعرف أحيانا سكان هذه الجهات باسم سكان بنادر ، وبضائعهم باسم بضائع بنادر ، وقد استمر الحكم الفيدرالي الممثل في سلطة الشورى بين العرب والصوماليين نحو ثلثمائة عام ، حتى انتخب أبو بكر فخر الدين حاكما على البلاد بتعضيد بني قحطان ، وكان إعلان سلطنة (أبو بكر) فخر الدين الوراثية ، نهاية لعمر الإدارة الفيدرالية بين العرب والصوماليين وبداية لعصر الحكم الصومالي . وقد استمر حكم أبو بكر فخر الدين الصومالي ، سبعة عشر عاما حتى توفى في عام 1117 ميلادية .
    تفسير اسم المدينة وآثارها :
    تتضارب الآراء نحو تفسير اسم مدينة مقدشوه ، فمن قائل أنها من كلمتين : عربية وفارسية .. وهما – مقعد .. شاه ، إشارة إلى امكان المفضل الذي اتخذه شاه الحاكم الفارسي مقرا لحكمه ..ونطق الكلمتين معا .. مقدشوه . . والبعض يقول إن كلمة مقدشوه بالصومالية معناها المكان الذي تتجمع فيه الأغنام للبيع .. أما الرحالة الغربيةن فمنهم من قال : موجوديشيو ، موجودسكوا ، موجاديشوا ، مقدشيكو ، مقديكسو ، كل حسب نطقه ، غير أننا اخترنا الاسم الذي أطلقه الرواد الأوائل من العرب والمسلمين وهو الشائع إلى يومنا هذا .. مقدشوه .
    وكاننت مدينة مقدشوه في بداية نشأتها تتكون من ضاحيتين أساسيتين : هما ضاحية حمروين ، وضاحية شنغاني ، وكانت ضاحية حمروين ، تمتد على طول الساحل من كران غلى ساحل حمر ، أي المكان المعروف الآن باسم حمر جب جب .
    أما ضاحية شنغاني ، فهي مشتقة من اسم مدينة كانت في نيسابور ببلاد فارس ، وقد سميت بهذا الاسم تخليدا لذكرى علماء نيابور معناها ذهب ، وكلمة وين معناها بالصومالية (كبير) .
    وفي الأساطير الصومالية القديمة تفسير لكلمة حمروين ، وتروي الأسطورة أن رجلا عربيا وزوجته كانا على سفر على ظهر ناقة حمراء عرجاء وأتى علهيا الليل ، فنزل الرجل لقضاء فريضة صلاة المغرب في مكان يدعى المملمة إمام مسجد (أربع ركن) . وأدى فريضة الصلاة ، وما أن انتهى من صلاته ، حتى تقدم إليه أربعة غرباء من أولياء الله الصالحين ، ونزلوا عليه ضيوفا ، وتشاور الرجل مع زوجته في طعامهم فلم ير إلا أن يذبح لهم ناقته الوحيدة التي لا يملك غيرها ، وهي مصدر طعامه وشرابه ، ودابة السفر فأكل الضيوف من لحمها وافترشوا جلدها وناموا ليلتهم ، وفي الصباح كان الغرباء قد تركوا المكان ولما جاءت الزوجة لم تجد الضيوف وإنما وجدت أشياء لامعة براقة على جلد الناقة ولا شك أنها قطع ذهبية كبيرة ، وحينما حضر الزوج على صوت زوجته ، قال حمر ، حمر ، فقالت الزوجة وين ، وين (ذهب ، ذهب .. كثير ، كثير) فأصبح المكن يدعى منذ ذلك الحادث باسم حمروين .. وبعدئذ قام الزوج وزوجته بصرف الحمر (الذهب) في بناء مدينة في هذا المكان .. وفي أرجح الأساطير أن هذا البناء هو الأساس لمدينة مقدشوه.
    وعلى ضوء الحفريات والدراسات التي أجريت أخيرا في مدينة مقدشوه ، نستطيع أن نؤكد أن المدينة كانت أصلا في منطقة معسكرات المطار الحالية التي تسمى حمر جب جب ، فلا بد والحال هذه أن مياه المحيط الهندي ، والأعاصير المتربة ، قد طمست الآبار القليلة التي كانت تمتد في تلك الجهات ، وقد اتضح من الدراسة وجود بقايا مبان وآبار وقنوات ، لتوزيع المياه على الطريقة الفارسية ، مما يشير إلى امتداد العمران إلى هذه المنطقة . ومن آثار الفرس ذلك القبر الذي يحمل كتابة عربية على الوجه التالية : (أبو عبدالله النيسابوري الخرساني) أي أن المتوفي من نيسابور وهي مدينة اشتهرت بالثقافة الإسلامية في فارس . ومن الأبنية الضخمة ، ما نراه في برج مسجد الجامع في حمروين ، الذي هو نموذج للأبراج العظيمة في بلاد فارس . ويظهر الفن الفارسي في النقوش والزخرفة لكثير من المباني القديمة .
    وفي الكتب القديمة ، نجد صورا للأطلال القديمة في حمر جب جب ، ومن واقع الخرائط التي عثر عليها مدفونة في معسكرات المطار الحالي تبين لنا أن مدينة قديمة كانت في هذه المنطقة . ومن المرجح أنها مدينة مقدشوه القديمة ! التي بناها العرب في فجر الإسلام وسورها وخطوطها على النهج العربي ويتمثل ذلك في الأبنية الحجرية وزخارف الأبواب والشبابيك على الطراز العربي الصميم .
    براوه :
    عرفنا ان العرب أول من أسس مدينتي مقدشوه وبراوه في القرون الأولى للهجرة ، وقيل أن أول من سكن براوه في عام 900 ميلادية رجل من قرة يدعى (أوعلى) ، وكانت براوه في ذلك الوقت منطقة موحشة غابية لا تسكنها إلا الوحوش الضارية ، غير أن أوعلى أعجب بطيب هوائها على ساحل البحر فاستعان بالمواطنين الأوائل في قطع أشجارها وأعشابها ، وأقام بها عددا من المساكن وأطلق على المدينة براوه بن (أو على) (وين معناها الفضاء الكبير) .
    وبعد أن تأسست المدينة ، وفد عليها جماعة من التن سكان الساحل وعمروا المساجد وأقاموا كثيرا منها في داخل البلاد ، ثم توافد عليهم جماعات وردان أي الجالا من تيوبن وهم لا دين لهم ، وقد قدموا مع ملك يدعى براوات وأقام الجالا في برواه جنبا إلى جنب مع المسلمين مدة ثلثمائة عام .
    ويقال إن اسم المدينة جاء من اسم ملك الجالا باروات ، وعلى أية حالكان يطلق على المدينة اسم براوه بن أوعلى .
    وكان بالقرب من براوه ، جماعة الأجوران التي امتد نفوذها على بعض أجزاء براوه فأعلن التن الحرب عليهم ، وكان للتن الانتصار على الأجوران كما انتهت المفاوضات بين التن والجالا على أن يلزم الجالا الجانب الشرقي للنهر ، والتن الجانب الغربي للنهر ، وتعاهدوا فيما بينهم على ألا يدخل البلاد غير الحيوانات ، وعدا ذلك ، فكل قادم يكون مصيره القتل ، وكان شعارهم بالصومالية – سدح سموت – أي الجالا والتن والحيوانات وما عدا ذلك فله الموت .
    ولم تستمر هذه الاتفاقية طويلا ، إذ وصل جماعات مهاجرة من الحمرانيين على سفن إلى براوه ، من عائلة كران ووال وسكنوا مع التن في سلام ومحبة ، كا جاء جماعة من قبيلة حاتم الطائي المشهور بالكرم والجود في البلاد العربية ، وكان ذلك في عام 900 هجرية ، وقامت بالعمارة في براوه ، وأسست مساجد للعبادة ، وبدأ العمل في نشر الدعوة ففي ساحل الصومال يأتي إليها طلاب العلم من البوادي والأماكن النائية لشهرة علمائها ، وتفقههم في الدين . وقد حملت مساجدها أسماء الخلفاء . عمر وعلي وعثمان ، وانتشر بها معلمو الطرق الصوفية ، ومنها القادرية (الإدريسية والزيلعية) والأحمدية (رحمانية ورشيدية) ، وكذلك الطريقة الرفاعية . ومن ثم اعتبرت براوه ، كعبة المعرفة والهداية بالإضافة إلى روعة الفن العربي في زخرفة البناء والنقوش والكتابة العربية ، وأصبح بها أكثر من خمسة وعشرين مسجدا عدا الروايا فعددها كبير ، وكثير من العلماء والأدباء والشعراء ، كما نشطت بها حركة التعريب مما لم يتح مثله لمدينة أخرى .
    وتنقسم مدينة براوه حاليا إلى عدد من الأحياء هي بغداد ، اليمبا ، بيروني ، سابي ، بلو بازي ، وأكثر المنازل من الأحجار البيضاء ومن طابق أو ثلاثة أحيانا ، ومياهها عذبة .
    مركة :
    تتمتع مدينة مركة الجميلة النشيطة ، بمركز ممتاز لموقعها الجغرافي ، وكثرة خيراتها ، وفي الوقت نفسه تقع على الطريق البحري التقليدي بين زنجبار وبلاد العرب ، وقد ذكرها الإدريسي في عام 1154 بأنها على ساحل البحر بين حافون والبجة ، ويقول أن هناك نهرا يجري على مرحلتين من مركة ،وأنه خاضع لنظام الفيضان مشبها في ذلك نهر النيل في مصر ، وأن على ضفافه تزرع الذرة . ولعله يقصد به نهر شبيلي .
    وبعد عشرات السنين ، ذكر الجغرافي العربي ياقوت الحموي أن مركة مدينة واقعة على شاطئ الزنج ، وأن سكانها من البربر السود لا بالبربر المغاربة . وعلهي فإن مركة في عرف ياقوت الحموي مدينة للصوماليين لا العرب ، فقد كان الجغرافيون في العصور الوسطى يسمون الصوماليين بالبربر بالنسبة إلى موطن نشأتهم حول مدينة بربره الواقعة على خليج عدن ، ولكن شهادة ياقوت ، لا تحمل قرائن وأدلة كافية ، فمن الرواة عن الأنساب ، أن جماعةمن العرب ، أتوا على مراكب شراعية ورسوا على الساحل ،وشيدوا مسجدا ، صار فيما بعد مركزا لكثير من الأسر الصومالية ، وأن الهجرات العربية كانت متتابعة حتى أن الكثير من الأسر الموجودة حاليا تدعى نسبها إلى الجماعاتا لأولى التي جاءت إلى مركة من بلاد العرب ، كما هو الحال عند كثير من الأسر في الوقت الحالي في براوه ومقدشوه .
    ومن المحتمل أن مدينة مركة قامت كمركز تجاري يقع على الطريق بين شمال وجنوب الصومال ، وأن سكانها كانوا في بداية الأمر من العرب ، ثم من الذين يمتون بالإنساب إلى العرب ، ثم صارت تمتلئ بالعنصر الصومالي في كل مكان .
    وشعب مركة سواء من الصوماليين أو المنحدرين من العرب ، قد حقق مكاسب كثيرة للإسلام في شرق أفريقيا ، بالإضافة إلى مساهمته الفعالة في نشر الدعوة على طول الساحل الصومالي وفي الأقاليم الداخلية .
    هرر :
    دخل الإسلام إلى هرر في القرون الأولى للهجرة ، وعلى يد الشيخ أبادير في اقرن الرابع الهجري ، والشيخ أبو زرباي في عام 1430 م وظهرت هرر في القرن الثالث عشر ، كأقوى مركز إسلامي في شرق أفريقيا ، ومركز للفقه والتعاليم الإسلامية لشبه جزيرة الصومال وغيهرا ، وبلغت قيمتها في المجد من ناحية نشر الدعوة الإسلامية في القرن السادس عشر ، حينما اتخذها الإمام أحمد جرى الصومالي ، قاعدة للحكم ونشر الدعوة ، وقد امتد النشاط الإسلامي خارج حدود الصومال إلى ما يبلغ نحو 65% من مساحة الحبشة كلها .
    ومنطقة هرر هي القلب النابض بالدين والحيوية خلال العصور الإسلامية كلها ، وأصبح مركز التجمع لشعب الأوجادين ولسكان غرب الصومال بصفة عامة ، لما تتضمنه من خبرة العلماء والشيوخ والفقهاء ، وكثرة مساجدها ، وانتشار تعاليم الإسلام بين كافة ربوعها ، وما تحويه من مؤلفات وكتب ومخطوطات ، يندر أن يوجد مثلها في أي بقعة أخرى في الصومال ، حتى قيل أن هرر تمثل المجمع الإسلامي والمتحف الإسلامي والمنارة الإسلامية للصومال وجيرانها من دول شرق أفريقيا .
    وسنرى فيما بعد ما قدمته هرر من أبطال صوماليين صناديد ، وما حققته من إيمانها بنشر الدعوة الإسلامية ، وذلك خلال دراستنا لسيرة الإمام البطل أحمد جرى الصومالي وغيره ممن قادوا الحملة الإسلامية ضد النصارى الأحباش .
    دول الطراز الإسلامي (الإمارات السبع)
    ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي سبع دول إسلامية ، سميت بدول الطراز الإسلامي ، وذلك في عهد ملوك عدل وزيلع وهرر وشغلت سهل زيلع شمالا وأرض هرر جنوبا ، وتوغلت في الأراضي التي تحتلها الحبشة حاليا . وكان ملوك هذه الدول يسمون ملوك عدل أو ملوك زيلع .
    ويقول المقريزي : (إن هذه الممالك كانت في تشاحن مستمر مع الحبشة خلال قرنين من الزمان ، وأن أول من أقام هذه الدولة هم قوم من قريش قدموا من الحجاز ونزلوا أرض جبرة (جبرت كلمة حبشية بمعنى عباد الله – وهي جمع مفردها جبر أي عبد والنسبة إليها جبرتي) . من ولد عقيل بن أبي طالب ، وهي أرض زيلع واستوطنوها ، وأقاموا بمدينة أوفات ، وعرفت جماعة منهم بالخير واشتهروا بالصلاح ، إلى أن كان منهم عمر الذي يقال له (ملك ملوك الحبشة ) وقد تولى مدينة أوفات وأعمالها ، فحكم فيها مدة طويلة ، ومات وترك أربعة أولاد أو خمسة ملكوا أوفات من بعده واحدا بعد الآخر ، وتوفي آخرهم صبر الدين في حدود 700 هجرية) .
    ويؤكد الشيخ عبدالمؤمن الزيلعي الفقيه ، أن زيلع طولها برا وبحرا نحو شهرين وعرضها بمقدار أكثر من ذلك ، ولكن الغالب في عرضها أنه مقفر ، أما مقدار العمار فهو ثلاثة وأربعون يوما طولا وأربعون يوما عرضان وليست بذات أسوار ، ولا لها فخامة بناء ومع ذلك ففيها الجوامع والمساجد ، وتقام بها الخطب والجمع والجماعات ، وعند أهلها محافظة على الدين ، إلا أنه لا تعرف عندهم مدارس ولا رباط ولا زاوية ، وهي بلاد شديدة الحرارة وألوان أهلها إلى الصفاء وليست شعورهم في غاية التفلفل كأهالي مالي ، وفيهم الأذكياء والدهاة والأبرار والفقهاء والعلماء ، ويتمذهبون بمذاهب أبي حنيفة ، ما خلا أو فات فإن ملكها وغالب أهلها شافعيون .
    الفقيه الشيخ عبدالمؤمن الزيلعي ، يذكر الإمارات أو الدول الإسلامية السبع على النحو التالي :
    1- إمارة أوفات : والعام تقول وفات ويقال لها أيضا جبرة ، والنسبة إليها جبرتي ، وهي شرق شوا ، ومن ملحقاتها زيلع ، وهي في طول خمسة عشر يوما وعرضها عشرون يوما بالسير المعتاد ، وهي عامرة بالسكان وقرأها متصلة ، وهي أقرب أخواتها إلى الديار المصرية ، وهي أوسع الممالك السبع أرضا ، وعساكرها خمسة عشر ألف فارس ، يتبعهم عشرون ألفا فأكثر من الرجالة . وتمتد أوفات من شرق شو إلى شمال أديس بابا ، إلى وادي هواش ، إلى خليج عدن .وكانت تسيطر على طرق التجارة المتجهة إلى زيلع ، وأهل أوفات حنفية المذهب .
    2- إمارة دوارو :وطولها خمسة أيام ، وعرضها يومان . وهي تقع جنوب أوفات ، ولها جند كثير بالرغم من صغر حجمها (كانت تمتد بين نهر هواش وأعالي نهر شبيللي ، وتعرف الآن باسم (آتو) .
    3- إمارة أرابيني : يقال أنها في الشمال الشرقي من بحيرة تانا ، وطولها أربعة أيام وعرضها كذلك ، عساكرها عشرة آلاف فارس ، أما الرجالة فكثيرة للغاية ، وأهلها حنفية المذهب .
    4- إمارة هدية : تلي إمارة أوفات في الموقع ، وطولها ثمانية أيام وعرضها تسعة أيام ، وصاحبها أقوى إخوانه خيلا ورجالا رغم ضيق بلاده ، وله أربعون ألف فارس سوى الرجالة . وهي تمتد حول منابع نهر أومو الذي يصب في بحيرة رودلف ، وكانت تقع في الناحية الجنوبية وهي تعرف اليوم بالمناطق بوران وانفدى .
    5- إمارة شرخا : وطولها ثلاثة أيام وعرضها أربعة أيام وعساكرها ثلاثة آلاف فارس ، ورجالة مثل ذلك مرتين أو أكثر ، وهي تقع غرب أوفات (بين هدية ودوارو) .
    6- إمارة بالي : تلي شرخا ، غير أنها أكثر خصوبة وأبرد هواء ، وتقع جنوب دوارو ، ويحدها شمالا نهر شبيللي .
    7- إمارة دارة : تلي بالي وهي في طول ثلاثة أيام وعرضها كذلك ، وهي أضعف أخواتها بعساكرها الذين لا يزيدون على ألفي فارس ومن الرجالة كذلك .
    الحروب بين مسلمي الصومال وملوك الحبشة
    قبل أن نمضي في سرد أحداث الحروب بين مسلمي الصومال وملوك الحبشة ، سنلقي أضواء على الأحوال الدينية التي كانت علهيا الحبشة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر .
    ففي الواقع لم تكن للحبشة في هذه الفترة حكومة مركزية وإنما كانت عبارة عن إمارات بتولي شئون كل إمارة حاكم مسيحي ، ولكن كان أكثر هؤلاء الحكام من المسلمين ، ولم يجهروا بإسلامهم لأن قوانين البلاد تحتم أن يتولى كل إمارة حاكم مسيحي ، بالإضافة إلى السلطان الأعظم ، أي ملك ملوك الحبشة الذي كان يتصف عادة بالتعصب الشديد للمسيحية . ومع هذا كان أكثر الحكام يستخدمون نفوذهم في نشر الإسلام دون الجهر بذلك .
    ومما ساعد على انتشار الإسلامي في ربوع الحبشة ، أن الحبشة كانت في فوضى دينية ، وتعدد مذهبي ، بالإضافة إلى أن الأحباش كانوا يحقدون على أعمال اليسوعيين المبشرين والرومانيين الكاثوليك المبشرين ، لتدخلهم في الشئون السياسية والمدنية ، بالإضافة إلى الدين نفسه ، وكان العامة الأحباش يجدون عنفا وقوة من جانب الحكام والرهبان والقساوسة ، من فرض عقائدهم ورغباتهم بحد السيف في الوقت الذي يتمتع فيه المسلمون بالتسامح الديني ، وارتفاع مستواهم الثقافي والاجتماعي ، ويذكر أرتول تونبي عن ربيل أنه كثيرا ما لاحظ أثناء رحلاته في بلاد الحبشة (في العصر الحديث) أنه عندما كان يخلو منصب من المناصب التي تتطلب أن يكون الشخص الذي يشغله أمينا كل الأمانة موثوقا به كل الثقة ، كان الاختيار يقع دائما على شخض مسلم .. ويقول ربيل : (يرجع ذلك إلى أن المسلمين يعلمون أولادهم القراءة والكتابة ، مما لايستطيع أن يفعله الأحباش إلا إذا كان المراد القيام بأعمال تعود مرة ثانية إلى ذكر أحوال المسلمين في الإمارات الإسلامية السبع فنقول أن هذه الإمارات الإسلامية السبع ، كان الملك فيها لبيت محفوظ إلا إمارة بالي فإن الملك فيها صار لرجل ليس من بيت محفوظ فقد تقرب من سلطان أمحرا وسانده حتى ولاء مملكة فاستقل بها.
    وجاء في مسالك الأبصار ، (أن جميع هذه الممالك يكون الحكم فيها بالوراثة وكلهم متفقون على تعظيم صاحب اوفات) .
    ويحدثنا القلقشندي عن هذه الممالك فيقول : (إن الحطى ملك الحبشة قد أتى على معظم هذه الممالك ، وضربها ، ومثل بأهلها ، وحرق ما بها من المصاحف ، وأكره الكثير منهم على الدخول في دين النصرانية ، ولم يبق من ملوكهم سوى ابن سنار ، الذي كان يدفع أتاوة مقررة في كل عام ، والسلطان سعد الدين صاحب زيلع وملحقاتها ، وهو عاص له خارج من طاعته فكثرت بينهما الحروب التي كان النصر فيها دائما للسلطان سعد الدين والله يؤيد بنصره من يشاء) .
    دوالع العداء :
    ويذكر المقريزي أن أول من اساء معاملة المسلمين من ملوك الحبشة ، هو أيكونوا أملاك (1270-1285) الذي زعم أنهمن سلالة سليمان ابن داود عليه السلام ، وقد قم هذا الملك باضطهاد المسلمين ، ودفعهم إلى حروب طويلة ،استنفدت الكثير من الجنود ، وقاومه المسلمون مقاومة شديدة .
    ومن الغريب حقا ، وليس هذا غريبا على حكام الحبشة في الماضي ، أن (أيكونوا أملاك) قبل أن يصل إلى لاعرش الأثيوبي عقد معاهدة مع ملك أوفات ، على أن يساعده في الوصول إلى العرش الأثيوبي ، مقابل أن يترك له حق الامتداد إلى إمارة شوا الإسلامية ، وقد قام الملك المسلم بمساعدة أيكونوا أملاك بالقوات الزيلعية المسلمة ، حتى أصبح ملكا على الحبشة ، وأصبح الملك الصومالي عمرو لسمع حاكما على الأراضي فيما بين زيلع إلى شوا التي تقع قرب أديس أبابا الحالية .
    ولم يستمر أيكونوا أملاك طويلا في اعترافه بالجميل الصومالي وإنما تحول إلى أكبر مضطهر للمسلمين – وأعلن الحرب الصليبية ضد مسلمي الصومال ، في الوقت الذي ظهر فيه الود والمحبة تجاه ملك مصر المسلم ، الظاهر بيبرس الذي كرس حياته لمناصرة الإسلام ، ويريد أيكونوا أملاك أن يعزل القوى الإسلامية في الشمال ، على أن تساعد قوى الصومال المسلم ، فكتب أيكونوا أملاك رسالة إلى الظاهر بيبرس ملك مصر يظهر فيها الطاعة ، ويرغب في إرسال مطران للحبشة ، ويطلب من صاحب اليمن أن يتوسط لدى ملك مصر وهو يقول (أن سلطان الحبشة قد قصد الملوك إلى إيصال كتابه إلى السلطان) .. ويقول : (أن أقل المماليك محرا أملاك (تحريف أيكونوا أملاك) يقبل الأرض وينهي بين يدي السطلان ملك الظاهر خلد الله ملكه .. أن رسولا وصل من جهة قوص بسبب الراهب الذي جاءنا ، فنحن ما جاءنا مطران (فليأمر) مولانا السلطان ونحن عبيده ، فيرسم .. للبطريق يعمل لنا مطرانا رجلا جيدا عالما لا يحب ذهبا ولا فضة ، يسيره إلى مدينة عوان فأقل المماليك (يعني نفسه) يسير إلى نواب الملك المظفر صاحب اليمن ما يلزمه) وهو يسير إلى أبواب السلطان ، ويعتذر عن تأخر رسل السلطان بقوله ، (وما أخرت الرسل إلى الأبواب إلا اني كنت في بيكار (أي حرب) وعندي في عسكري مائة ألف فارس مسلم وأما النصارى فكثير لا يعد ، وكلهم غلمانك وتحت أوامرك ، والمطران الكبير يدعو لك . وهذا الخلق كلهم يقولون آمين) .
    وفي رسالة أيكونوا أملاك السابقة إلى السلطان بمصر نجد محاولة التقرب إلى قلب السلطان بلغة غربية سقيمة حافلة بالأخطاء ، ولكن لم تجد الرسالة أي إذن صاغية لدى السلطان المصري المسلم ، لعلمه أن الأحباش يقومون تحت رياسة أيكونوا أملاك بحرب صليبية ضد مسلمي الصومال .
    فالواقع أن الحبشة ، لم تكن على علاقة ثابتة مع الدول الإسلامية في مصر واليمن والصومال ، بل أنها تتتحسن فترة وتسوء أخرى ، فكانت نظرة حكام الحبشة نحو مصر ، على أنها مصدر رؤسائها الروحانيين وتنظر إلى الصومال على أنها تمثل الدولة العربية القديمة . دولة حمير ، وكان حكام الحبشة ، يوجهون حملاتهم إلى الصومال كما كانوا يفعلون قديما مع دولة حمير باليمن وفي الوقت نفسه زاد سخط الأحباش ، حينما اصبحت الصومال منطقة إسلامية وواسعة ، تمتد على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي حتى نهر تانا . ومعنى هذا أن الحبشة ستكون في معزلة تامة كجزيرة يحيط بها المسلمون شمالا وشرقا وغربا وجنوبا . فاندفع الحكام الأحباش ، إلى قطع الحصار الإسلامي من ناحية الصوماليين ، ولكن اليمن المسلمة كانت وراء الصومال المسلمة تناصرها وتؤيدها بكل ما تستطيع من قوة وعتاد ، فإذا ما أحس ملوك زيلع باضطهاد من جانب جيرانهم المسيحيين كاوا يفرن إلى ملوك اليمن فيجدون عندهم كل ترحاب وذلك ما لقيه السلطان سعد الدين أحد ملوك زيلع حينما لجأ إلى اليمن من اضطهاد حكام الحبشة له ، فأكرمه الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل ملك اليمن وأرسل فرقا من الجنود زحفوا لقتال ملك الحبشة حتى تم تدعيم سلطة ملوك زيلع المسلمين .
    وحقيقة أخرى ظهرت بعد هزيمة الصليبيين في الشرق الأوسط على يد الناصر صلاح الدين بمصر ، إذ تضاعف شعور حكام الحبشة في التعصب الديني ، حتى أصبحت الحبشة ملجأ للهاربين من القبط ، وتزعمت الحركة المسيحية في أفريقيا بغية تكوين إمبراطورية مسيحية على يد الملك الذي قال عنه الغربيون – أنه القسيس يوحنا ، الذي لم يحدد ميعاده أو مكانه وإنما قيل أنه في مكان ما بأفريقيا .. ويظهر هذا الدافع إلى الانتقام والتعصب الديني سافرا لدى حكام الحبشة في أسمائهم وأعمالهم وحروبهم واضطهادهم للصوماليين نوسنذكر طرفا منها على سبيل المثال لا الحصر :
    تغيير العاصمة من أكسوم إلى أمحر ، وتلقيب الملك باسم الحطى أي ملك الملوك ، وجعل اللغة الأمهرية وهي لغة سامية هي اللغة الرسمية للدولة بدلامن لغة الجز التي صارت لغة الكنيسة ، والمذهب اليعقوبي هو مذهب الدولة القائل بأن المسيح ذو طبيعة واحدة ، وارتباط السياسة بالدين والثقافة حتى أصبح على ملوك الحبشة أن يحملوا ألقابا مسيحية حينما يتولون حكم البلاد مثل جبريل ستل أي عبدالصليب ، وتأكلوا نولاب أي شكر اللآت ، نواي كرستوي اي إناء المسيح ، بئيد مريم لبناء دنجل أي بخور العذراء ، نيودور أي المحبوب من إله .. إلخ .
    أشهر الوقائع والأحداث بين الصومال والحبشة
    1- حينما تولى عرش الحبشة الملك ياجبعا صيون (1285-1924) كتب رسالة إلى السلطان قلاوون بمصر ، يؤكد فيها أنه سيتخذ نهجا جديدا غير الذي اتخذه والده من قبل ، وأنه سيحمي مصالح المسلمين ، وناشد السلطان أن يرسل له مطرانا مصريا وعبر عن شكواه من المطران السوري وختم رسالته بأن سيرسل لسلطان مصر الهدايا والدقيق في أقرب فرصة ، فاستجاب سلطان مصر لرسالة الملك الحبشي ، وطلب أن ينفذ وعده تجاه مسلمي الصومال ، وأن يحميهم من غارات الأحباش ويكف عن إيذاء مسلمي الصومال . 2- حينما تولى عرش الحبشة الملك عمد صيون (1314-1344) أرسل رسالة إلى السلطان حينما أشيع ان السلطان حول الكنائس إلى مساجد ، واضطهد المسيحيين وطلب ملك الحبشة من السلطان أن يعيد الكنائس ويحسن معاملته مع النصارى ، وإذا لم يستجب السلطان فإنه (أي ملك الحبشة) سوف يعامل مسلمي الصومال بالمثل فيحول مساجدهم إلى كنائس وأنه سيسد النيل ، فضحك السلطان وأخبر رسول الملك عن غضبه لهذا الهراء الفارغ .3- بعد عشر سنوات تقريبا قام الصوماليون بهجوم عنيف على الأراضي الحبشية ، وقتل وأسر من الأحباش عددا كبيرا ، وأعلن القائد خير الدين ملك أوفات أنه سيدخل الحطى (ملك ملوك الحبشة) في الإسلام أوي قتله ، وأنه سيجعل زوجة الحطى (ملك ملوك الحبشة) في الإسلام أو يقتله ، وأنه سيجعل زوجة الحطى (الملكة منجش) تطحن له حبا لتصنع له خبزا ، فلما سمع الحطى بذلك قام على رأس جيش كبير ،ودخل أوفات وأسر خير الدين وتولى من بعده أخوه جمال الدين . 4- وتتابعت الغزوات الحبشية ضد مسلمي الصومال ، فاضطر أمراء الصومال أن يبعثوا بالفقيه عبدالله الزيلعي على رأس وفد إلى مصر أثناء وجود رسول الحبشة بمصر ، وطلب عبدالله الزيلعي من سلطان مصر أن يكتب رسالة إلى بطريق الحبشة وملكيها ، ليكف أذاه عن مسلمي الصومال وأخذ حريمهم ، فأمر السلطان بكتابة رسالة إلى بطريق الحبشة ، وأخرى إلى الملك مستنكرا الأعمال الوحشية ضد مسلمي الصومال . 5- وحينما تولى عرش الحبشة الملك نواي كريستوي (1344-1372) ، أعلن الحرب على مملكة أوفات ، وتغلب عليها وأسر ملكها على بن خير الدين ، ثم أعدمه . ولكن حفيده صبر الدين بن أحمد ، قام بحرب طاحنة حتى مات ملك الحبشة ، وتولى حفيده مسألة محاربة مسلمي الصومال واستشهد صبر الدين ، وتولى أخوه سعد الدين الذي أعد جيشا صوماليا وجمع كل قواه ، ومعه الكثير من الفقهاء والعلماء وأهل البلاد ، وتحالفوا جميعا على إحدى الحسنيين (النصرة أو الشهادة) فكانت بين المسلمين والنصارى مواقع عديدة ، استشهد فيها من المشايخ الصالحين نحو أربعمائة شيخ وعدد كبير من الجنود ، واستمر القتال فترة طويلة استشهد خلالها سعد الدين والكثير من رجاله . 6- وحينما تولى حكم الحبشة الملك إسحق الأول 1414-1429 يقول المقريزي : (إنه شن حربا ضد المسلمين في الممالك الإسلامية ، وأوقع تحت يده من ممالك المسلمين ،وقائع شنيعة ، قتل فيها وسلب واسترق عالما لا يحصيه إلا خالقه سبحانه) . 7- وتصدى جمال الدين لملوك الحبشة ، وكان في جيش جمال الدين رجل حبشي قد أشهر إسلامه هو (حرب حوش) الذي صد هجمات النصارى في بالي ودارور ، وبفضله حدثت تحولات كبير من المسيحية إلى الإسلام ، كما قتل وأسر عددا كبيرا من نصارى الأحباش ، حتى امتلأت أسواق بلاد الهند واليمن والحجاز وهرمز والشام والروم وفارس برقيق الحبشة . وفي إحدى المعارك استشهد جمال الدين ، وتولى أخوه شهاب الدين الذي استرد إقليم بالي الذي احتلته الأحباش منق بل ، وغنم شهاب الدين كثرا وخرب كنائسهم ، مما جعل الملك إسحاق يفكر في القيام بحرب صليبية ضد مماليك مصر ومسلمي الصومال ، فكتب رسائل عديدة إلى ملوك فرنسا والبرتغال ، يستنجد بهم لإزالة الإسلام من أفريقيا ، ولكن رسائله لم تجد آذانا صاغية ، فمات حزنا على أثر ذلك في عام 1429 . 8- وحينما تولى حكم الحبشة الملك زرني يعقوب (1434-1468) تمكن من ان يقتل شهاب الدين في إحدى المعارك . 9- وتولى حكم الحبشة ملوك مثل بئيد مريم 1468-1478 واسكندر 1478-1494 وغيرهما ، وقد أجمعوا على محاربة المسلمين وإخلاء الصومال من المسلمين أو تنصيرهم . 10- وكان من أقصى ملوك الحبشة هو الملك ليناء دنجل 1508-1510 الذي شن حربا ضروسا ضد مسلمي الصومال ، وأعد حبشا عظيما وقام لغزو مملكة أوفات ، وأحرق المدن ، وضرب القلاع ، وهزم ملك أوفات ، وحصر المسلمين الصوماليين في مكن ضيق بين فطيجار وعدل ، وقتل ما يزيد على إثنى عشر ألفا نسمة ، واعتصم الباقون بالحبال ، حيث هلكوا جوعا وعطشا ، وانتزع الراية الخضراء ، وشعار ملك عدل ، كما غنم أشياء كثيرة . وكانت الملكة الينى تؤازر الملك في محاربة مسلمي الصومال ، ومن الغريب أن الملكة الينى ، هي نفسها رمانة العربية ، وكان أبوها محمد حاكم إقليم دوارو الإسلامي ، وكانت في بدء حياتها تحاول أن توفق بين النصارى والمسلمين ، ولكن بعد موت زوجها السابق على يد المسلمين أصبحت من أشد أعداء مسلمي الصومال والعرب معا . وحينما أدركت الملكة الينى قوة الصوماليين المتزايدة ، وعرفت أنهم باتحادهم وإيمانهم العميق بالنصر ، لا بد أن يجروا الخراب على الحبشة ، ويحولوا أهلها إلى الإسلام ، وخاصة أن بعض قواد الحبشة بدءوا في كتابة رسالة إلى الملك عمانويل ملك البرتغال . هذا نص الرسالة عن النسخة الخطية عن كتاب (علاقات الدولة المملوكية بالدول الإفريقية لحامد عمار) : بسم الله والسلام على عمانويل سيد البحر وقاهر المسلمين القساة الكفرة .. تحياتي إليكم ودعواتي لكم . لقد وصل إلى مسامعنا أن سلطان مصر جهز جيشا ضخما ليضرب قواتكم ويثأر من الهزائم التي ألحقها به قوادكم في الهند ، ونحن على استعداد لمقاومة الكفرة بإرسال أكبر عدد من جنودنا في البحر الأحمر ، وإلى مكة ، أو جزيرة باب المندب إذا أردتم نسيرها إلى جدة أو الطور وذلك لنقضي قضاء تاما على جرثومة الكفرة . ولعله قد آن الوقت لتحقيق النبوءة القائلة بظهور ملك مسيحي يستطيع في وقت قصيرب أن يبدد الأمم الإسلامية المتبربرة ، ولما كانت ملكتنا في الداخل وبعيدة عن البحر الذي ليس فيه قوة أو سلطان فإن الاتفاق معكم ضروري إذ أنكم أهل بأس شديد في الحروب البحرية) . وفي رسالة الملكة اعتراف صريح بأن الحبشة دولة داخلية ليسة لها حدود بحرية وأنها تسعى للسيطرة على الحدود البحرية وضمها لها بفضل مساعدة مسيحي أوربا لمسيحي الحبشة . وقد ماتت الملكة الينى متأثرة بالهزائم التي ألحقت بالحبشة ، والانتصارات التي حققها الصوماليون تحت راية زعيمهم الإمام أحمد جرى الصومالي حتى وصلت التعاليم الإسلامية وراء الغزو الصومالي إلى كسلا في السودان وإلى مصوع وأرتريا وغندره وأكسوم والولايات الجنوبية للحبشة وذلك قبل أن تصل القوات البرتغالية إلى البحرا الصومالية لمساعدة الأحباش في حروبهم ضد مسلمي الصومال . 11- وقد شاهدت الحبشة أكبر غزو في تاريخها القديم والحديث ، على يد الإمام أحمد جرى الصومالي فيما بين عام 1531 إلى 1553 ، فتدمرت كنائس أكسوم وغندره وجوجام ، وأصبح الصوماليون سادة على نحو ثلثي الحبشة . 12- تولى حكم الحبشة الملك جلاديوس 1540-1559 الذي جدد النداء إلى البرتغاليين لمساعدة الحبشة في حروبها المسيحية ضد مسلمي الصومال ، وكان الجنرال كونلهام رسول ملك البرتغال في الحبشة قد كتب رسالة أخرى إلى ملك البرتغال ، يطلب منه مساعدة صديقه ملك الحبشة ضد مسلمي الصومال . ولم يكتف الملك جلاديوس بطلب المساعدة من ملك البرتغال بل أرسل بعثة أخرى إلى البابا كلمنت السابع ، يعترف له بتبعية الكنيسة الحبشية للكنيسة الغربية وأن يقدم له المساعدة اللازمة للقضاء على القوات الصومالية الإسلامية الضاربة في مختلف بقاع الحبشة . 13- وصلت إلى البحار الصومالية حملة برتغالية حوالي عام 1542 بقيادة لب سوارز الذي دمر مدينتي بربره وزيلع وأحرقها . وحوالي ذلك الوقت أيضا كان الأتراك قد احتلوا مواني البحر الأحمر الواقعة جنوب شبه جزيرة العرب ، وفي نفس العام دخلت الجيوش العثمانية ،ب قيادة سليم الأول في مصر ، وهزم المماليك في معركة مرج دايق ، وأصبحت مصر ولاية عثمانية ، وبذلك صارت حماية العالم الإسلامي سواء في أفريقيا أو في آسيا على كاهل الدولة العثمانية ، وقد مارست نشاطها فعلا عن طريق القائد التركي ، حاكم زبيد وشريف مكة بمعاونة الصوماليين في كفاحهم ضد نصارى الحبشة . 14- وفي الوقت الذي كانت الإغارات البرتغالية على لاسواحل الصومالية قد بلغت ذروتها ، كانت الصلة بين الإمام أحمد جرى والحلفاء الثعمانيين قد بدأت تسوء ، ورفض الإمام المعونة العسكرية التي قدمها له العثمانيون . ويظهر أن الإمام أحمد كان متخوفا من علاقته بالعثمانيين ، فقد ظن أنه بعد الحرب الحبشية ، سيضطر أن يدخل في حرب أخرى مع هؤلاء الحلفاء ، ولهذا النتهز الإمام أحمد جرى فرصة انتصاراته الرائعة وتضخم مكاسبه البشرية والمادية في الحبشة ليقطع علاقته بالعثمانيين .
    ولم يستمر في جهاده طويلا ، إذ وصل إلى خليج عدن قوى حربية برتغالية بأحدث الأسلحة النارية مكونة من 450 جنديا من خبرة جنود البرتغال برياسة القائد البرتغالي كريستو مود جاما ومعه بعثة دينية برياسة الأسقف جان برمودز!!..
    وبات الأمير بين قوى الأحباش برا ، وقوى البرتغال بحرا ، في الوقت الذي قطع فيه علاقته بالقوى العثمانية في اليمن ، علاوة على أن سلاح البرتغاليين كان أحدث وأقوى مما يملكه الصوماليين ، وقد دفع به ذلك إلى حرب مميتة انتهت بوفاة الإمام أحمد جرى حوالي عام 1553 بعد أن سجل على الأرض وفي السماء أروع دور قام به داع صومالي للإسلام في شرق أفريقيا بل أكبر دعاة الإسلام عامة في أفريقيا .
    15- وخلف الإمام أحمد جرى في حكم البلاد ، أخوه الأمير نور الدين ابن مجاهد الذي سماه الصوماليون صاحب الفتح الثاني ، وقد هاجم الملك جلاديوس ،واستطاع أن يأخذ بتأثر الإمام أحمد ، فقتل الملك الحبشي في عام 1559 . 16- وتعرضت الحبشة لصراع ديني داخلي عقب موت الملك جلاديوس ، فقد كان البرتغاليون الذين استنجد بهم الملك ، ضد مسلمي الصومال قد جاءوا بمذهب جديد هو المذهب الكاثوليكي ، فثار بعض قواد الجيش ، وأعلنوا صراحة كما يقول أرنولد تونبي (إنه من الخير للأحباش أن يخضعوا لحكم المسلمين من أن يستمروا في مجالسة البرتغاليين) ، ولم يستمر بقاء البرتغاليين فترة طويلة إذ قام الأحباش أخيرا في عام 1632 بطرد البرتغاليين من البلاد . 17- وحينما تولى حكم الحبشة الملك يوهانس الأول (1667-1682) ، أعلن التعصب الديني مرة أخرى ، فقد عقد الملك مجلسا في العام الثاني من حكمه وقضى بمنع المسلمين من أن يعيشوا بجانب المسيحيين ، وأمرهم أن يسكنوا في أماكن نائية عن المسيحيين ، ثم تجدد هذا المنع مرة أخرى في عام 1678 ، ونتيجة لذلك قامت حروب دامية بين سملمي الصومال والحبشة ، وفي الوقت نفسه أدت هذه الحروب إلى انقراض عشائر إسلامية كثيرة في قلب الحبشة . 18- وفي عهد الرأس على ملك الحبشة (1855-1868) كانت العلاقات طيبة بينا لصومال والحبشة ، فقد كان الرأس علي يفضل المسلمين على المسيحيين ، فاعطى المناصب الحكومية للمسلمين ،وجعل لهم غنائم في الكنائس ، حتى قيل أنه في فترة حكمه قد دخل في الإسلام إلى فناء عشائر إسلامية كثيرة في قلب الحبشة . 19- وحينما تولى عرش الحبشة الملك كاسا الذي غير اسمه إلى ثيودور أي المحبوب من الإله أعلن الحرب الصليبية ، وأحرق الكثير من أحياء المسلمين في الحبشة نفسها ، وأقام عهد الإرهاب والتنكيل بالشيوخ المسلمين ، وطرد المبشرين البرتستنت وغيرهم ، مما دفع بريطانيا لأن ترسل حملة بقيادة سير روبرت نابير قائد القوات البريطانية في الهند لتأديب (المحبوب من الإله) ولكن حينما أحسن ثيودور أن الهزائم قد اشتدت أمام القوات البريطانية الزاحفة على الحبشة قرر الانتحار ، ومات منتحرا في عام 1868 . 20- في عهد الملك يوحنا الثاني (1868-1889) تقرر في عام 1878 بناء على قرار أعضاء الكنيسة الحبشية وجوب الاقتصار على دين واحد في كافة أنحاء المملكة وإنذار المسلمين بالجلاء عن أوطانهم على دين واحد في كافة أنحاء المملكة وإنذار المسلمين بالجلاء عن أوطانهم إذا لم يقبلوا التعميد (التنصير) في مدى ثلاثة أشهر ! وأرغم نحو 55 ألفا من المسلمين على التعميد في عام 1880 ، ولكن كما يقول أرنولد تونبي أن المسلمين في الوقت الذي تظاهروا فيه بالقبول والأذعان كانوا في الخفاء يكتمون ولاءهم للدين الإسلامي ، وقد شوهد بعض الصليبيين يخرجون من الكنيسة التي يعمدون فيها قاصدين شيخا مباركا من رجال دينهم ليمحوا عنهم مالحقتهم من التعميد الذي أجبروا على فعله .
    ولم تستمر سياسة التعصب للمسيحية كما أراد يوحنا إذ تعرض لغزو المسلمين من الشمال فقام على رأس جيش في عام 1889 لمهاجمة الدراويش في القابلات ، ولكنه فوجئ بقدوم جيش من المصريين المسلمين آت من الشمال للانضمام إلى الدراويش السودانيين وتمكن القائد المصري فرج الله من قتل يوحنا ، وأرسل رأسه إلى التعايشي في أم درمان ففرح الصوماليون لانتصار إخوانهم المسلمين في الشمال على الملك الحبشي . 21- وخلال ثورة المهدي في السودان ، ووقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني عام 1884 أن أجبرت مصر على جلاء الإدارة المصرية في بربره وزيلع وهرر في عام 1884 ، وكان على الحبشة ملك يدعى منليك الثاني قد استعان بالقوى الغربية (بريطانيا وإيطاليا وفرنسا) لتحقيق آماله في التوسع والاستيلاء على أراضي جديدة في شبه جزيرة الصومال ، وفي هذه الفترة كان الأمير عبدالله علي حاكم هرر ، قد أرسل إلى منليك ملك شو .. سجادة صلاة وكوزا وطستا للوضوء ودعاه إلى الإسلام وهدده بالمسير إذا لم يجب طلبه . فرد منليك يلاطفه بكلام لين ، حتى استجمع منليك كل قواه وتسلح بأسلحة الغربيين واستعان بالخبراء العسكريين الغربيين ، ودخل عدة معارك مع الأمير عبدالله في عام 1886 وانتهت بانتصار منليك واحتلال هرر التي اتخذت كقاعدة حبشية للتوسع واحتلال أراضي جديدة في الأوجادين وغرب الصومال وضعها للحبشة بمساعدة الأوروبيين . 22- حينما تولى حكم الحبشة الملك ليج اياسو (1913-1916) أنكر الدين المسيحي ، وزعم أنه ليس من سلالة سليمان ولا مملكة سبأ ، وإنما هو من سلالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، وأعاد بناء المساجد التي تهدمت في هرر وغيهرا ودعا الصوماليين للجهاد ولرفع راية الإسلام وارتدى ملابس المسلمين ، وتزوج منهم وكتب على علم الحبشة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، ولعل هذه النزعة القوية لدى الملك ليج أياسو مصدرها أنه من مواليد طنطا بمصر ، وأنه تلقى العلوم الإسلامية في مدارس مصر ، لذا شب مؤمنا بالله ورسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام .
    وكان من أثر هذا الاتجاه الجديد في سياسة الحبشة أن قامت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بمناورات لإعادة المسيحية إلى الحبشة ، وقامت عدة معارك حتى فر الملك ليج أياسو إلى واحة أوسا ، وقام الغربيون بمساندة الأميرة زوديتو خالة ليج ياسو وابنة منليك لتولي عرش الحبشة ، وأصبح الرأس تفرى الذي سمى نفسه عند اعتلاء عرش الحبشة باسم هيلاسلاسي وليا لعهد الملكة ، وعمت البلاد فتنة عمياء ، فأهل المشال ومعظمهم من الأمهارا المسيحيين يلتفون حول زوديتو ، وأهل الجنوب جلهم من المسلمين يناصرون الإمبراطور المخلوع . وقامت حرب أهلية . وفر ليج أياسو إلى واحة أوسا ولكن تمكن أهل الشمال ما القبض عليه في عام 1921 وسجن فترة قصيرة ثم صدرت الأوامر بذبحه . ومات ليج أياسو في معتقله ولم تلبث زوديتو أن تبعته وخلصت الحبشة للرأس تفرى (1916) وتوج علهيا امبراطورا ، باسم هيلاسلاسي وأضفى اللقب التقليدي (الأسد القاهر من سبط يهوذا ، المختار من الله ، ملك ملوك أثيوبيا) وذلك في حفل كبير لم تشهد الحبشة مثله .
    ولكن إيطاليا لم تنس هزيمتها في عدوة ، كانت لها بالمرصاد ، فهاجمتها واستولت عليها بل تجاوزت الحمالات الحربية الإيطالية في الحبشة .. حدود الحبشة نفسها .. فوصلت إلى كسلا وبعض جهات السودان (يوليو 1940) وإلى الصومال البريطاني (الإقليم الشمالي من الجمهورية الصومالية – حاليا) واستولوا على بربره عصامته في أغسطس 1940 .
    الفصل الخامس سيرة الإمام أحمد جرى وفتوح الحبشة
    نشأته : ولد أحمد بن إبراهيم الملقب بأحمد جرى (الأغسر) في مدينة هبت لعام 908 هجرية (1500 م) من أب وأم صومالية من كرائم العائلات بمقاطعة هرر ، ويروى عن نفسه أنه كان ابن أحد الساوسة بقرية ايجو المسيحية ، وأن أباه كان مسلما في بدء حياته ولكن الأحباش نصروه وجعلوه قسيسا في قرية ايجو ، وأن والده قد اختار له رفيقا في حياته هو الصديق عدولي الذي نشأ مه كأخ ، فأصبح مؤتمنه ، ثم زميله في السلاح فميا بعد ، ومن كبار دعاة الإسلام ، ومن قواده البارزين في شرق أفريقيا .
    تلقى أحمد بن إبراهيم مبادئ العلوم الإسلامية على يد شيوخ هرر وعلمائها ، ثم ارتحل في صباه إلى زيلع مع والدته وأخواله ، وفي زيلع سمع الكثير عن أحوال المسلمين خارج وداخل شبه جزيرة الصومال فدرس كتب السيرة والتفسير وحفظ ما شاء الله من القرآن الكريم وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتفوق على زملائه بذكائه الخارق وإدراكه السريع وحيويته في السؤال والجواب ، غير انه لم يستقر في زيلع طويلا بسبب المشاحنات على خلافة الحكم ، وانتشار روح المسيحية في بعض نواحيها ، وآثر أن يعود إلى هرر من موطن آبائه وأجداده وحيث الفقهاء والعلماء في كل المجالات الإسلامية من تشريع وتفسير وحكم ومتون ، وحيث تكتظ بالكتب العلمية والأدبية والدينية والمخطوطات النادرة فعاد إلى هرر ليشبع رغبة نفسه علما وهدى وتفقها في الدين . وبعد سنوات من التحصيل والدراسة صار شيخا عالما رغم حداثة سنه .
    وكان أحمد بن إبراهيم يتلقى دروس الفروسية والرياضة من أبناء عمومته فشب مكتمل الصحة بارعا في رمي السهام ، فارسا لا ينافسه أحد ، جريئا شجاعا في الحق ، متفانيا في خدمة دينه ووطنه .
    ظروف النشأة والتكوين الشخصي : شب أحمد بن إبراهيم ، فأحس ما يعانيه إخوانه الصوماليون المسلمون من اضطهاد وتفتت الوحدة الإسلامية التينادى بها الرسوم الكريم وتفشي الرشوة والمحسوبية بين الإمارات الإسلامية ، والتنافس على الحكم وإهمال حقوق الشعب ، والابتعاد عنا لمنهج السليم للدين ، والاقتراب من الرذيلة ، وعبث بعضهمب حقوق بعض ، حتى تدخل في أمر المسلمين حكام أجانب في أكسوم وأمحرا ، وفرضوا الأتاوات على الإمارات الإسلامية ، حتى أن بعض الإمارات كانت تقدم في كل عام علاوة على الهدايا للحطى ملك الحبشة امرأة صومالية مسلمة لكي ينصرها الحطى ويتخذها ضمن حريمه ، كما فرض الأحباش على المسلمين عدم لبس عدة الحرب أو ركوب الخيل أو إنشاء القوات المحافظة على الأمن والحدود .
    وأمام هذا النزاع الداخلي والفوضى في الدول الإسلامية الصومالية وتدخل نصارى الحبشة في شئون المسلمين اتخذ أحمد بن إبراهيم سياسة خاصة ، انفرد بها عن سائر إخوانه ، تتمثل هذه السياسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنصاف المظلومين ، وإعلاء كلمة الدين ، والمحافظة على استقلال وطنه ، والضرب على يد العابثين بتقدم الأمة الإسلامية بعد تثبيت أركان الإسلام في وطنه .
    فدخل أحمد بن إبراهيم معارك باسم الهلال كان له فهيا النصر دائما على الصليب . وسلاحه الأول الدعوة بالسلام والمحبة ، تحقيقا لقوله تعالى (لا إكراه في الدين) فلم يلجأ إلى المكر والخديعة وإنما سار وفق منهج الدعاة المسلمين ، فكان له من طبيعة نفسه الصافية لوجه الله خير سند معين لأن يحقق لأمته ما لم يحققه أحد من قبل ، فحق علينا أن نسميه صلاح الدين يوسف الحبشة لانتصاراته ونجاح دعوته ضد الحروب الصليبية التي شنها نصارى الأحباش ضد مسلمي الصومال ، وقد قال عنه المؤرخ الكبير رينيه باسه (مستشرق فرنسي) أن أشهر دور من أدور التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة في أذهان الغربيين ، هو أحمد جرى الصومالي الذي كاد أن يسحق النصرانية الحبشية ، وبعيدها كبلاد النوبة إلى الإسلام .
    وقد سجل المؤرخ العربي شهاب الدين عبدالقادر الملقب بعرب ففيه سيرة أحمد بن إبراهيم منذ نشأته إلى أن وافته المنية في إحدى المعارك في كتاب عظيم من جزئين باسم (فتوح الحبشة) ويمثل الكتاب في حد ذاته ثورة كبيرة في التاريخ الصومالي والتاريخ الحبشي ، إذ أنه سجل حافل بالأحداث كما رآها شاهد عيان ، وقد فقد الجزء الثاني من الكتاب ، أما الجزء الأول فقد قام المستشرق الفرنسي رينيه باسه بترجمته إلى الفرنسية ، وقد أمكننا أن نستكمل سيرة الإمام من الموجز الذي ورد عن سيرة أحمد بن إبراهيم في كتاب حاضر العالم الإسلامي (الجزء الثالث) وغيره .
    ظهور أحمد بن إبراهيم على مسرح الأحداث
    حين تولى حكم دولة (عدل – أوفات) الأمير منصور بن محفوظ بن محمد بن الجراد أوش أقام الحق ، وأمر بالمعروف ،ونهي عن المنكر ، وعمرت البلاد في زمانه ، وصلحت الأحوال ، واستقام أمر الرعية ، وقل تدخل النصارى في شئون البلاد ، فقد أعلن الأمير منصور أن لا جزية ولا هدية تقدم للحطى ملك الحبشة ، قائلا اتحدوا يا مسلمون من أجل وطنكم ودينكم .
    وكان أحمد بن إبراهيم يومئذ فارسا من فرسان (الجراد أبون) الذي أعلن عن تقديره لكل من يعمل من أجل وطنه وأخواته المسلمين ، وكان الجراد أبون بيحب أحمد بن إبراهيم حبا شديدا لما رآه فيه من صفات الشجاعة والبراعة في الحروب ، والصدق والأمانة في السلم ، ولشدة غيرته على الإسلام فاتخذه صديقا لرجاحة عقله ، ولما اشتهر به من رأي وسداد في حكمه وعقله .
    وحدث أن تولى شئون البلاد حاكم جديد هو السلطان أبو بكر من ذرية سعد الدين وأساء السيرة في الرعية ، وظهر قطاع الطرق وحدثت أمور أوجبت استنكار العلماء والفقهاء من المظالم وشرب الخمر .
    فأعلن الجراد أبون عصيانه لأوامر الحاكم الجديد ، وعدم رضائه عن أحوال البلاد ، مما ضايق السلطان ، وجعله يقوم على رأس جيش لمحاربة الجراد أبون وأتباعه . وخرج جيش الجراد أبون برياسة الجراد عمر الدين ومساعدة أحمد بن إبراهيم بقوة قدرها مائة فارس بأسلحتهم لمقاتلة السلطان وأتباعه غير أن الأنباء وصلت قبل اشتباك الطرفين ، وتشير إلى أن أحد البطارقة الأحباش ويدعى فانيل من أهل إمارة دواروا المسلمة قد وصل البلاد الإسلامية وأسر عددا كبيرا من المسلمين ونهب مواشيهم .. فاضطر أحمد بن إبراهيم أن يقنع من معه بوجهة نظره في القيام بغزوة سريعة على جيش النصارى فكان له ما أراد وتقابل المسلمون والنصارى في مكاني دعى عقم (نهر عظيم كثير المياه) وانتصر المسلمون وقتل من النصارى الكثير وغنم المسلمون غنائم كثيرة .
    وكان في هذا الانتصار الذي أحرزه جيش الجراد أبون على النصارى ما أغضب السلطان بقدر ما سمعه عن أحمد بن إبراهيم وبراعته في الحروب ،والتخطيط اللمعركة قبل الهجوم . والانتصار بقليل من الضحايا التابعين له . وضخم الرواة في أعمال أحمد ابن إبراهيم حتى عزم السلطان أن يقضي عليه في أول معركة خشية أن يزداد اتباعه لورعه وفروسيته ، فخرج على رأس جيش كبير وتقابل مع جيش الجراد أبون في مكان يدعى كداد وتمكن أحمد بن إبراهيم من أن يشتت جيش السلطان رغم كثرة عدد جنوده ، وأن يعود ضافرا بغنائم كثيرة إلى هرر .
    ومرة أخرى جمع السلطان كل قواه وحشد خلقا لا يحصيه حاسب ، وزحف بهم إلى هرر معقل جيش الجراد أبون فاضطر أحمد بن إبراهيم أن يخلي مدينة هرر من السكان وأن يجعلهم يعتصمون جميعا لدى جبل عظيم في هوبت ربرت حتى وصل جنود السلطان وأقاموا الحصار حول الجبل واستمرت المقذوفات بين الطرفين حتى قتل قائد جيش الجواد أبون (عمر الدين) وأصبح على (أحمد بن إبراهيم) أن يتولى قيادة الجيش ، وتدخل الفقهاء والعلماء والأعيان وأصلحوا بين الطرفين المتنازعين ، وقامت فترة هدنة وعادت الجيوش إلى ثكناتها.
    وخلال فترة الهدنة عمل السلطان على تجريد أحمد بن إبراهيم من أسباب القوة ، فسرح الجنود ، وانتزع أسلحتهم حتى طلب أن يجرد أحمد بن إبراهيم من سلاحه ، ففطن أحمد بن إبراهيم أن خديعة السلطان وهرب إلى بلدة زعكه ومعه ثلاثة من رفاقه وتقابل في طريقه مع غلام السلطان حمدوش بن محفوظ ومعه أربعة خيول فأخذها منه وواصل سيره إلى بلده شيخ ، وهناك انضم إليه الأمير جراد (أبو بكر بن إسماعيل) ومن معه من الجند كما انضم إليه الأمير (حسين الجاترى) ومن معه من الجند ، وقام أحمد بن إبراهيم بتدريب الجند على القتال وخطط الهجوم والدفاع وعاد أحمد بن إبراهيم إلى هرر بعد معارك طفيفة من أتباع السلطان وصاح المنادي في هرر (كل أحد يلزم بيته ، وكل على عادته ، ولا تخافوا ولا تحزنوا) وهذا النداء الذي وجهه إلى شعب هرر (أحمد بن إبراهيم) أراد من ورائه أن يعطي الأمان للشعب وأن يبين أن كل إنسان له حريته التي اعتاد علهيا ، وأن يزاول أعماله كالمعتاد دون خوف أو اضطراب . وفي الوقت نفسه منح العفو للجميع ، فكل على دينه دون أنيعمد إلى التدخل في شئون الآخرين .
    ووضع أحمد بن إبراهيم أسس الحكم في البلاد على أساس الشريعة الإسلامية ، وقام بتنظيم وحدات الجيش . وبعد استكمال تسليح الجيش زحف به إلى أرض السلطان الذي اعتصم بجبل اسمه حون ، ضيق عليه الخناق وتدخل الناس من فقهاء وعلماء ، وأصلحوا بينهما على أن يكون السلطان على حاله ، وأن يكون أحمد بن إبراهيم نائبا للسلطان ، والبلاد بينهما بالتساوي على أن يقيم (أحمد بن إبراهيم) في بلدة سيم ، والنصف الثاني من البلاد يكون خاضعا للسلطان مباشرة ، وأن ينقل مقره إلى مدينة هرر وذلك لحقن الدماء بين الطرفين ، وأن يلقب أحمد بن إبراهيم بلقب الإمام .
    تفسير لقب الإمام ولقب جرى :
    في أشهر الروايات أن تسمية أحمد بن إبراهيم بالإمام أحمد يرجع إلى القصة اليت يرويها رجل يدعى سعد بن يونس العرجي يقول : أنه رأى في منامه ، النبي صلى الله عليه وسلم وعن يمينه أبو بكر الصديق وعن يساره عمر بن الخطاب وبين يديه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وبين يدي علي بن أبي طالب أحمد بن إبراهيم .. فقال الرائي : لهذه الرؤيا . يا رسول الله من هذا الرجل الذي بين يدي علي بن أبي طالب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هذا الرجل يصلح الله به بلاد الحبشة .
    وكانت هذه الرؤيا والإمام حينئذ جندي في جيش الجراد أبون ولم يكن الرائي يعرفه من قبل فوصل هذا الرجل إلى هرر زمان الجراد أبون فقص رؤياه على أهلا لبلد ، فقالوا له هذا الذي رأيته في منامك (الجراد أبون) فقال الرائي : لا .
    وبعد فترة طويلة عاد الرائي إلى هرر في زمن أحمد بن إبراهيم فلما رآه عرفه وقال لأهل هرر هذا هوالرجل الذي رأيه في الرؤيا بين يدي علي بن أبي طالب فسماه الناس الإمام .
    وهناك رواية أخرى تقول أن بعض المشايخ الصالحين رأى في المنام الوالي الصالح أحمد بن حمد بن عبدالواحد القرشي التونسي والشريف الوالي أبا بكر بن العيدروس وهما يقولان لا تسموه السلطان أو الأمير ولكن سموه أمام المسلمين .
    أما عن تسمية جرى أى الأشول أو العسير بمعنى آخر فمن الرواةمن يقول أنه كان أعسر اليد ، والبعض يقول لأنه يجيد الطعن باليسرى ، والبعض يرجح أن التسمية جاءت لأنه كان يختار خبرة جنده من الصوماليين ، وأنهم كانوا دائما في الميسرة من جيش المسلمين وإن كان عددهم قليلا إلا أنهم صناديد وفرسان بارعون .
    شخضية الإمام أحمد جرى :
    كان الإمام من أشد الناس تدينا وإيمانا برسالته في الدعوة إلىدين الله ، مكرسا حياته وماله في سبيل نشر الدعوة الإسلامية وإعلاء كلمة الله ،وقد باع حلي نسائه وأثاث بيته وكل ما يملك لشراء السلاح والأدوات اللازمة لنشر دعوة الإسلام ، ضاربا بذلك المثل الأعلى في الجهاد في سبيل الله ورفع كلمته وحينما عرض عليه أهالي أنطوكية عشرين أوقية من الذهب كهدية رفضها ، وحينما أرادوا توجيه الهدية لزوجته رفض أيضا وقال لا يحل لنا هذا ، وأنفق الذهب في شراء السلاح وأدوات الحرب ، واشتهر الإمام بتسامحه مع من طلب العفو والأمان ، ولكنه قوي الشكيمة مع المعاندين والطاغين والفاسقين . ولنا عبرة في إكرامه للأمير راجح الذي تنصر وسار في فلك المسيحية فلما ناشده الإمام ، يعتدل في سيرته .. قال راجح للرسول المتجه إلى أرض الإمام : كم فعلت وقتلت ونهبت من المسلمين الصوماليين ، وأخشى إذا رجعت أن تأخذوني بما فعلته ، فلما نقل هذا الاعتراف إلى الإمام أرسل إليه رسولا يخبره بالعفو وأن يستغفر الله عن ذلك الذي فعل .
    وأروع مثل للتسامح ما قام الإمام به بشأن بكير بطارقة الحبشة (وسن سجد) فقد أعطاه الإمام الأمان حين وقع في يد جيش المسلمين ورغم ما قام به البطريق من أعمال سيئة للغاية فإن الإمام احتفظ بوعده ، وهكذا صدق من قال وعد الحر دين عليه .
    وكان الإمام قويا في غير عنف ، رحيما بالمذنبين في غير ضعف ، ومبيدا للكافرين أجمعين كما سنرى في سير الأحداث التالية .
    وكان واسع الأفق عالما بالتخطيطات الحربية ، فلا يدخل معركة إلا إذا رسم خط الهجوم والدفاع والتقهقر إذا لزم الأمر ، واضعا نصب عبينيه إعداد الجنود فنيا ، والعمل على تجديد نشاطهم في فترات السلم ، مقسما جيشه إلى مجموعات لا تعدو مجموعة منها على اختصاصات المجموعة الأخرى إلا بأمر القائد أو نائبه ، حريصا على أن يكون الجيش مزودا بأحدث الأسلحة والذخائر .
    ولم يكن هدف الإمام أن يصل إلى عرش الصومال ، أو أن يتوج ملكا أو سلطانا ، وإنما كان هدفه صالح الشعب والوطن . وظهر هذا حينما طفى السلطان على الرعية ، وانهمك في ملذاته مع ندمائه ، تاركا للنصارى الفرصة للقيام بأعمال الفساد في البلاد مما دفع الإمام إلى إعلان الحرب على السلطان ، وقامت حروب انتصر الإمام أحمد في النهاية ومات السلطان في إحدى المعارك ، فأصبح من حقه أن يتولى أمور البلاد بحكم أنه كان نائبا للسلطان ، ولكنه أبى أن يتولى السلطنة ورفض مطالب العلماء والقواد بأن يكون سلطانا عليهم ، لأنه لم يكن ساعيا للسلطنة في يوم ما ، وإنما كان هدفه تحرير البلاد ، ونشر الدعوة الإسلامية ، وضمان استقلال وطنه في عزة وكرامة .
    قام الإمام باستدعاء الأمير عمر بن أخي السلطان المقتول ، ونادى به حاكما على البلاد .
    ويمكننا أن نتعرف على شخصية الإمام خلال دراستنا لسيرته التالية في توحيد الجبهة الداخلية للمسلمين والاستعداد لبدء الجهاد في سبيل الله والوطن ،ودراسة حالات التحول إلى الإسلام وتصدي ملك الحبشة وكبير البطارقة لقوات المسلمين ، والزحف الأول للمسلمين نحو الحبشة ،وعودة الجيوش الإسلامية المنتصرة إلى هرر ، وحرب المرتدين ،والزحف الثاني للمسلمين نحو الحبشة ، ووصول الصوماليين إلى أرض النوبة ، والعودة ونهاية السيرة الخالدة للإمام أحمد جرى .
    توحيد الجبهة الداخلية للمسلمين :
    قام الإمام بتوحيد الجبهة الداخلية للمسلمين ، وأعطى الأمان وأعلن المساواة التامة بني الجميع لا فضل لعربي على صومالي إلا بالعمل والصالح ، واحترام كل مجاهد في سبيل الله . وحارب الفردية والرجعية والروح القبلية ، ودعا إلى الإسلام والمحبة في الله .
    وناشد الجميع العمل بجد ونشاط لبناء الاقتصاد الوطني وتدعيم النهضة وزيادة الإنتاج ، وفتح المدارس والمساجد لنشر الوعي الوطني بين المواطنين وإقامة الشعائر الدينية .
    وأرسل الوفود والفقهاء إلى مختلف المناطق للدعوة إلى الإسلام وتعليم الناس وأصول الدين وتعاليم الإسلام ودعاهم إلى حماية دينهم والقيام بنشر دعوة الرسول عليه السلام .
    وبعث الأمراء إلى سائر الإمارات الإسلامية يناشدهم الوحدة أمام العدو الذي ينبغي إذلال المسلمين ونهب خبراتهم ، وناشدهم ألا يدفعوا أتاوات أو خراجا أو هدايا للحطى ملك الحبشة .. وأن تكون جيوش هرر على استعداد تام للدفاع عن الإمارات الإسلامية إذا تعرضت لمكروه وابان لهم أن الوحدة الإسلامية أمر ضروري للبقاء والمحافظة علىدينمهم من أيدي العابثين من النصارى .
    ومن أجل توحيد الجبهة الإسلامية قام الإمام بعدة غزوات على التجمعات المسيحية والمقاطعات التي تقوم بغزو أراضي المسلمين ، وقد حدث في عهد السلطان عمر دين أن تعرض المسلمون في أرض الصومال لهجمات الأحباش بزعامة طريق كبير من الجبابرة الأحباش يدعى دجلجان صهر الحطى فضرب قرى كثيرة وامتدت أيدي المهاجمين من الأحباش بالسلب والنهب كما سبى أم أمير من أمراء المسلمين اسمه الأمير أبو بكر فطين .
    فخرج الإمام أحمد على رأس جيش لم يكن له الاستعدادات الكافية من ناحية التسليح ، ومع هذا حقق الإمام انتصارا عظيما في موقعه الدير وأسر نحو خمسمائة أسير وعاد الإمام إلى هرر منصورا مجبورا ، وكان عمر الإمام حينئذ واحدا وعشرين عاما .
    وتوالت انتصارات الإمام أحمد في غزوات الفطجار وتيجي ونبارية وحرر إمارة داوارو المسلمة من نفوذ النصارى ، كا اتجه إلى إمارات أوفات في شمالي الصومال وكان الأحباش يسيطرون عليها بحد السيف رغم أن أهلها من المسلمين إلا قليلا من النصارى ، ودخل الإمام في أوفات وطرد الأحباش منها ، وأعاد إليها الحكم الإسلامي ، وغنم المسلمون غنائم كثيرة وكان من بين الأسرى بنت خالة الملك الحبشي لبناء دنجل فوهبها الإمام إلى وزيره عدولي برغبتها ، ولكن ملك الحبشة قدم فدية لها تبلغ نحو خمسين أوقية من الذهب الأحمر .
    ثم اتجه الإمام إلى بلدة أنطوكية وضرب كنيستها ، ودخلها سالما ، وتابع سيره إلىب لدة جنديله التي يملكها ملك الحبشة بحد السيف ، وأغلب أهلها من المسلمين الذين قابلوا الإمام بافرح وأعانوه بعشرين أوقية من الذهب صرفها في شراء مائة سيف ، وشهدوا بها واقعة شيزكوره في أول رجب عام 935 هجرية .
    وقعد أن قام الإمام بتحرير الأراضي الصوماية من نفوذ النصارى والأحباش عاد إلى مدينة هرر قاعدة غرب الصومال ومنارة الإسلام في الصومال بل في شرق أفريقيا عامة .
    ومن هرر كرر الإمام دعوة كافة القبائل الصومالية المسلمة إلى الوحدة والترابط من أجل الوطن والدين ، فجامت القبائل والوفود الصومالية من كل إمارة قريبة أو بعيدة تعلن تأييدها لسياسة الإمام في الجهاد من أجل الدعوة المحمدية ، وكانت أول قبيلة لبت دعوته هي هبرمفدى بقيادة الزعيم أحمدب ، حسين الصومالي ، وقد وصل الجنود بخيولهم وسلاحهم وعتادهم وهم في عزيمة وإيمان برسالة الإمام ، ثم تتابعت القبائل الصومالية تيؤد الكفاح المشترك والوحدة أمام أعداء الوطن والدين . ومن هذ القبائل قبيلة جرى بزعامة متان بن عثمان بن خالد الصومالي وقبيلة زربة بزعامة محمد بن عمة الإمام ومعه من الفرسان الصناديد 1600 رجل ، وقبيلة مريحان 800 مجاهد بين فارس وراجل ، ومن قبائل يونس وتولجالا وجد برسى وأوجادين وغيرها ، وقد تجمع في هرر آلاف من الفرسان وآلاف من المشاة من صومالي و عربي كل منهم قد استقرت في نفسه الثقة بالإمام أ؛مد جرى الصومالي وافغيمان بأن لهم النصر على أعدائهم النصارى . وقد وهب الجميع أموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وأرسل الإمام ما تجمع لديه من المال مع وفد إلى اليمن لشراء الأسلحة والمعدات الحربية ، بالإضافة إلى استلام المساعدات التي وعد بها مسلمو اليمن والحاكم العثماني في الجنوب الصومالي من أسلحة وأدوات حربية ومواد التموين بالإضافة إلى الأسلحة التي جلبتها السفن الصمرية كهدية من مصر إلى إمارات أوفات (في زيلع) .. وعادا لوفد إلى هرر مع قافلة كبيرة تحمل السلاح العثماني والمصري ، وتحمل الغذاء ومواد التموين منا ليمن ، مما سر له الإمام وسر له الشعب ،وكان له تأثير كبير في نفوس الجنود لأنهم أدركوا ما يقومون به من حروب وغزو ليس لأنفسهم مكاسبه وإنما للعالم الإسلامي كله ، وأن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا .
    بدء الجهاد في سبيل الله والوطن :
    خرج الإمام من هرر في اتجاه الأراضي الحبشية لنشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين والكفرة ، وكان على رأس جيش قوى مدرب على أحسن وجه ، ودخل مدينة زيفه الإسلامية فرحب به الجرادوين ابن آدم باسم الله العلي القدير ، وتسبيح بحمد الله ، واستقر بها فترة حتى وضعت زوجة الإمام (دولنبرة) غلاما سماه محمدا ، ثم تركه مع امه في زيفه عند مؤنسة أخت الإمام وتابع سيره قاصدا ملك الحبشة ، وكانمن عادة الإمام أن يصطحب معه في مؤخرة الجند المجاهدات المسلمات .
    وصل الإمام إلى أرض بادتي التي اجتمع فيها الأحباش حول كنيستها قائلين ... (لايصل الإمام إلى الكنيسة حتى نقتل عن أخرنا) ... وكان تعداد الجنود الأحباش المرابطن في أرض بادتي نحو ستة عشر ألف فارس ونحو مائتي ألف راجل ، لذلك طالت وقائع الحرب بين الصوماليين والأحباش في معركة شيزكوره ، فكانت هناك أيام نصر للصوماليين المسلمين وأخرى قليلة للنصارى الأحباش ، ولما طالت المعارك بين الطرفين قام الإمام بتنظيم صفوف المجاهدين المسلمين على هيئة نصف دائرة أو كما نسميها في العصر الحديث على صورة كماشة ، جاعلا جناحا للميمنة وجناحا للميسرة وفي مركز القلب من الهجوم وضع قواته الرئيسية وأعيان الفرسان وأبطالها العظام أمثال الأمير حسين الجزائري والأمير زحرموي محمود وقد حشد الإمام في مركز الهجوم خمسمائة فارس ممن لهم دراية بفنون الهجوم السريع وانضم إليهم ثلثمائة فارس من قبيلة هرتي الصومالية وأربعمائة من قبيلة يبرى لشدة بأشهم ،ومن أهل السيوف ثلثمائة ، ومن أهل القسى أربعمائة .
    وحدث حينما عبر المسلمون نهر سموما أن وقع الرعب في قلب رجلين من المسلمين فانهزما أمام جيوش الحبشة وانهزمت بانهزامهما جميع الفرق ،وعبرت النهر على غير اهدى ، عند ذلك وقف الإمام في وجه الهاربين وصاح قائلا : (أين تفرون من الجنة ؟ وما هو إلا أجل قد كتب) . فقال له أحد أعوانه : (اضرب ضحيتك هنا ونحن نقاتل دونك) فقال عرب فقية : (أبشر فذلك واقعة أحد) فضرب ضحيته واجتمع المسلمون حوله وثبتوا في أماكنهم وقد خسروا بعض رجالهم .
    ثم رأى الإمام أحمد أن هذه البقعة ضيقة ولا تصلح للقتال فرحل بعساكره متقهقرا وتبعهم عساكر الحبشة حتى لحقوا بهم عند (صمبر كورى) . فلما رأى المسلمون أن الأحباش لاحقون بهم استشار الإمام أصحاب الرأي في عساكره فقالوا ، (أما نحن فالقتال يقيننا ومنانا ولا نزال نصر لهم على الضرب والطعن والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ، ففرح بهم ودعا لهم ،وباتوا يعدون العدة للصباح . فلما أصبحوا خطب فيهم الفقيه أبو بكر المكني (بارشونة) وبشرهم بالجنة ،وحذرهم من الفرار ، وتلا عليهم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) .
    وقام الإمام يخطب في المسلمين ويدفعهم إلى الجهاد في سبيل الله وقرأ قوله تعالى (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) .
    وحينئذ قال له المسلمون دعنا نحمل عليهم فمنعهم الإمام من الحمل وقال لهم : (أثبتوا مكانكم ولا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم به ، وأشرعوا الرماح ، واستتروا بالدرق ، ولا تخطوا بأرجلكم خطوة واحدة إلا وأنتم تذكرون الله ، اذكروا الله ولا تنظروا إليهم ، وانظروا إلى الأرض واستعينوا بالله عليهم ، وصابروا والله معكم وناصركم) .
    ولما اقترب الأحباش من جيش المسلمين كانت سحابة من فوقهم تظللهم والمسلمون في حر الشمس فتضرع الإمام ودعا وقال في دعائه – (يا الله يا حي يا قيوم ، يا بديع السموات والأرض ويا ذا الجلال والإكرام ، إن هؤلاء أعداء نبيك وأعداء رسلك يأكلون رزقك ويعيدون سواك تظللهم ونحن المسلمين في حر الشمس) .. فما استتم الإمام كلامه حتى زالت تلك السحابة على رؤوس الأحباش إلى رؤوس المسلمين ، وقد حمل الأحباش على جيش المسلمين من جهة الميمنة ، حملة رجل واحد قصار إليهم السملمون ولكنهم عادوا فحملوا على الميسرة بعنف وشدة وقتلوا منهم الكثير فانحازت الميمنة للميسرة إلى القلب واندفعوا جميعا بقوة وعزيمة وإيمان من الضحى حتى العصر ، فارتد الأحباش إلىداخل أرض بادتي وتبعهم الإمام أحمد وقتل منهم ألوفا وامتلأت الأرض بجثث القتلى في معركة شيزكوه لأول رجب عام 935 هجرية ، وجهر المسلمون بالتهليل والتكبير ، وولى الأحباش الأدبار ، والمسلمون وراءهم يكبرون بصوت جهوري (الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر والنصر للإسلام) .
    في هذه المعركة الخالدةفي تاريخ الانتصارات الصومالية على الأحباش قتل البطريق روبيل بطعنة سيف من يد الإمام أحمد فاخترق السيف صدر روبيل الذي كان من أشد أعداء المسلمين لا يفرق في تعذيبه وقسوته بين الطفل والشيخ والرجل والمرأة فكان جزاءه النار خالدا فيها أبدا .
    ومن البطارقة الذين قلتوا في هذه المعركة البطريق شيري شوم ، والبطريق زبيجان والبطريق محفظي . وكان أول من قتل بسهم رماه أحد الأبطال الصوماليين هو البطريق زونجبيل وتلاه البطريق البنين والبطريق عمد وغيرهم وكلهم من كنيسة بادتي الشهيرة في التعصب المسيحي . وقتل من الأحباش نحو عشرة آلاف وغنم المسلمون ستمائة فرس وغنائم كثيرة من سلاح وعتاد ومؤن ، واستشهد من المسلمين نحو خمسة آلاف ختم لهم بالشهادة وكان من الأسرى البطريق تخلى موجن صهر الملك ففدى نفسه بخمسمائة أوقية من الذهب .
    وبعد هذا الانتصار الرائع للقوة الصومالية المسلمة عاد المجاهدون الأبطال إلى مدينة هرر للراحة طوال منتصف شهر رجب وشهر رمضان المعظم ونصف شوال ثم العودة إلى أرض الحبشة لنشر الإسلام فيها . وخلال فترة إقامتهم في هرر قاموا بإعداد أراضيهم لإنتاج حبوب الطعام وإعداد قوات أكبر لمعارك كبرى داخل أرض النصارى ، وقد وصلتهم أسلحة ومواد تموينية من الجنوب العربي المسلم تبرع بها أهالي حضرموت واليمن وكان الشيوخ والمعلومن قد تكفلوا برعاية البلاد أثناء جهاد الجنود في خارج الحدود .
    حالات التحول إلى الإسلام :
    زحف الإمام أحمد بجيوشه إلى أرض إمارة دوارو المسلمة من الجهة العليا لنهر شبيلي ، وقد تصدى له بطريق جواثر ويدعى أول مبرق وقام نزاع خفيف بين جيوش الإمام ورجال بطريق جواثر ، وأنهى النزاع رجل صومالي يدعى فكيه بأن دبر حيلة قبض بها على البطريق رغم أن هذا الصومالي كان مقطوع اليد اليمنى بحق الله تعالى بواسطة حكم القضاء ومجلس الإمام ، غير انه لم يعتكف في داره بل خرج مع جيش الإمام لنصرة دين الله .
    وبعد مدينة جواثر استمر القتال حتىمدينة مي فلج التي كان عليها رجل يدعى راجح أصله مسلم نصره الحطى ملك الحبشة وأعطاه ملكا بعدها صار يغير على بلاده المسلمين وأسر من الصوماليين أعدادا لا حصر لها ، فأرسل الإمام رسالة إلى راجح يدعوه إلى الإسلام والكف من إيذاء المسلمين ، قال فيها (أنت مسلم وابن مسلم ومجاهد ابن مجاهد من أول الزمان ، وكان قدر الله ماكان ، فتب ، وارجع إلى الإسلام ، وكن أخانا ، ولا تقنط من رحمة الله) .
    ولما وصلت الرسالة إلى راجح قال للرسول .. (كم قتلت ونهبت من المسلمين الصوماليين ، وأخشى إذا رجعت أن تأخذوني بما فعلته) .. فعاد الرسول إلى الإمام برسالة راجح فأرسله الإمام مرة ثانية قائلا له .. (قد عفونا عنك) .. فاطمأن راجح وقال للرسول ابعثوا إلي أميرا على رأس جيش كبير حتى أدلكم على مواضع كنوز العدو وطرق سيرهم .
    أرسل الإمام جيشا قويا تحت زعامة صديقه في الكفاح وفي حياة الصبي وزميله في رفع راية الإسلام وهو القائد الكبير الأمير عدولي الذي قابله راجح بكل ترحاب وخرجا معا إلى مناطق تجمع الأعداء ونشبت معارك كان الانتصار فيها للهلال على الصليب . وبلغ عدد القتلى من البطارقة الكبار 130 ومن الفرسان نحو ألف ، وغنم المسلمون خمسمائة فرس .
    وعادت الجيوش الإسلامية إلى هرر للراحة وتوزيع الغنائم على الفقراء ، وتحسين أحوال البلاد ، واستجلاب السلاح من بلاد العرب وبناء عمارة هرر .
    وقد حدثت حالات كثيرة من التحول إلى الإسلام نذكر منها مدينة أنطاكية التي خربت كنائسها وخضعت لحكم المسلمين ، قد تحول كل شعبها إلى الإسلام حتى أن بطريق شرخا دخل الإسلام هو وزوجته وأولاده وحسن إسلامهم . ومن البطارقة العظام ، بطريق مرجاي الذي أشهر إسلامه بعد أن حرقت أعظم كنائس غندرة وانضم إلى صفوف المجاهدين المسلمين وشهد معارك كثيرة أظهر فيها حسن سلامه .
    تصدى ملك الحبشة وكبير البطارقة الأحباش لقوات المسلمين :
    بعد أن سيطرت الجيوش الإسلامية الصومالية على البلاد ، وبعد ما حدث من تحولات كبيرة إلى الإسلام وجد الإمام أن يدخل في حرب مع ملك الحبشة مباشرة إذا لم يقبل الدخول في الإسلام ، فخرج على رأس جيش يضم كافة أبناء الأمة الصومالية ووصل بهم حتى نهر هواش إلى الغرب من خليج تاجورة ، ثم عبر النهر إلى أرض المايه وبها كنيسة ضخمة أحرقها المسلمون ، وكان ملك الحبشة لبناء دنجل على مسيرة يومين من أرض المايه فاضطر الملك إلى الهروب إذ كان هدف الإمام هو أسر الملك كما وصلت الأخبار إلى الملك الحبشي ، فكان هروبه على صورة تنكرية فاعتقد الإمام أن الملك خشي الحرب وأنه اتجه إلى بادتي فزحف إليها الإمام بجنده ووقفوا على مشارف المدينة منتظرين خروج جيش الملك ولكن الجند شاهدوا نيرانا لافحة تتصاعد إلى السماء من وسط أرض بادتي فاستفسر الإمام عن سبب النيران ، فأجابه بطريق حبيب الذي أعلن إسلامه وانضم لجيش المسلمين في بادتي ، أن هذه القرى التي تندلع منها النيران هي قرى الملك ، وهنا أقبل تاجر مسلم منناحية الحريق فسأله الإمام عن سبب الحريق فقال التاجر أنا لملك لبناء دنجل كان بأرض جيرجي حينما علم بوصول جيش الصوماليين إلى ما بعد نهر هواش ، فاستدعى الملك بطريقا حبشيا وقال له سر الآن إلى بادتي وأحرق مساكنها كلها ومساكن أخواتي قبل أن يسبقك المسلمون الصوماليون إليها فهم يحرقونها ويقولون حرقنا بيت الملك ، أما الكنيسة فلا تحرقوها إذ لا يحل حرقها في كتبنا .
    فاتجه الإمام بجنوده إلى اندونته وهي قرية الملك وحرقها المسلمون وكان الملك قريبا من قريته فشاهد النيران تأكل قريته كما شاهدالهزائم المتتالية على يد الصوماليين فرأى أن لا يتصدى للقوات الإسلامية وقرر الهروب متنكرا للمرة الثانية دون أن يفصح عن شخصيته وسط جنده المشتتين واتجه الملك إلى الشمال ليستجمع قواه استعدادا للحرب ضد المسلمين .
    تمكن ملك الحبشة من أن يجمع جيشا كبيرا وأن يحشد جموعهم على الضفة الشمالية مننهر هواش منتظرا قدوم الإمام وجنده ، وما أن وصل جيش المسلمين حتى توقف على الضفة الثانية للنهر لأن مياه النهر كانت مرتفعة ، وعسكر الطرفين عدة أيام وشهر على ضفتي النهر لأن أسلحتهما أضعف من أن يكون لها تأثير متبادل على جانبي النهر وتنابذوا بالكلام دون أن يصل أحدهما إلى الآخر ولم تحدث حوادث قتل أو أسر .
    وحين انخفض منسوب مياه النهر قليلا اندفع الإمام بجنده مرة واحدة فعبروا النهر إلى أرض جيرجى فدهش الملك وجنده لهذا التيار الجارف من المسلمين في أرض الحبشة ولم يتمكن الملك من صد قوات الإمام فولى الأدبار إلى نزار جح من أرض الدانوت .
    واتجه الملك الحبشي إلى الاستنجاد بكبير بطارقة الحبشة في نزار جح وكان يدعى وسن سجد وابا المساكين وكان معظما لدى سائر الأحباش يخشون قوته أكثر مما يخشون الملك نفسه وقد عرض عليه الملك أنباء تقدم الصوماليين في أرض الحبشة لنشر الإسلام وتحطيم النصرانية . فخرج البطريق إلى الجنود الأحباش قائلا لهم .. (كيف ترضون أن يفعل بكم المسلمون هذه الكوارث كلها ، وقد مات منها آباؤكم وأجدادكم ؟ ما فعل أحدمن لمسلمين مثل ما فعل هذاالرجل (يقصد به الإمام أحمد جرى الصومالي) .. وما هذا إلا من ظلمكم وجوركم فسلط الله عليكم هؤلاء المسلمين ، خربوا عليكم بلادكم ، دوارو وفطجار وبادتي ونزار حج وحرقوا الكنيسة التي بها بطريقكم والتابوت الذي فيه جسد البطريق الأكبر) .. فقالوا : (مر بما شئت ، فنحن نقاتل المسلمين ، ونموت بين يديك) . فقال لهم (نترك ما مضى ونكون بعد الآن رجالا) .
    وأرسل البطريق وسن سجد رسالة إلى الإمام أحمد جاء فيها .. (أنتم المسلمون ونحن النصارى وقد كنا نسير إلى بلادكم ونخربها والآن قد أدلاكم الله علينا ، والنصر لا يدوم كل يوم ، والآن يكفيك ما فعلت فارجع إلى بلادك ، وأنت تقول في نفسك هزمت الملك في صمبر كورى وتقول فعلت في أنطاكية وفعلت في أزرى فلا تغتر بنفسك فإن الملك صارت عنده جيوش كثيرة ما رأيت مثلها وما سمعت هبا ، فارجع إلى بلدك لتفوز بنفسك وذهبك وإلا فالميعاد بيننا وبينك يوم السبت فأن الذي قتلت أخاك الجراد أبون ابن الجواد ابراهيم وهو أكبر منك ، وهزمت جيشه وفعلت ذلك مرارا ، ولا تظن أنني مثل من لقيت من البطارقة) .. وصلت الرسالة السابقة إلى معسكر الإمام مع رسول خاص غير ان الإمام كان يعاني مرضا شديدا فلم يتمكن الرسول من مقابلة الإمام ، فتسلم الكتاب أمراء المسلمين وأدركوا ما به ، وعقدوا مجلس الشورى وتباحثوا في الأمر وقرروا مواصلة الزحف المقدس ، وقالوا لرسول البطريق وسن سجد . أخبره (إن ما خوفتنا به من لقائنا يوم السبت هو منيتنا ومرادنا وهذه البلاد لسنا بتاركيها حتى نأخذ الحبشة بأسرها بإذن الله) .
    وما أن سمع البطريق وسن سجد بقرار أمراء المسلمين حتى داخله الخوف والفزع من شدة بأس المسلمين وإيمانهم العميق برسالتهم وأنهم لا بد منفذون رغبتهم لاعتقادهم فيما يقومون به من أعمال ، لذلك أرسل وسن سجد رسولا آخر إلى الإمام أحمد ومعه رسالة ثانية جاء فيها .. (إنني ما تكلمت بكلامي الأول إلا خوفا من الملك والبطارقة ، وقد أعلمني الرهبان أنني سأقع في يدك ، فإذا وقعت فارحمني ولا تقتلني) . وكان الإمام أحمد قد شفاه الله واستقبل رسول (وسن سجد) ورسالته باسما وقال للرسول بلغ البطريق (وسن سجد) أنه إذا صار في أيدينا رحمناه .
    قتل كبير البطارقة الأحباش :
    قام الإمام في 23 رمضان عام 937 هجرية – وقد عوفي الإمام تماما من مرضه – على رأس الجيوش الإسلامية إلى أرض دانوت للقضاء عل الملك الحبشي وقواته ، وسار جيش المسلمين في أرض دالوت ، وعسكروا في بلدة زرارة وهي بلدة كبيرة يسكنها بعض النصارى التجار من مصر والشام لطيب هوائها وكثرة خيراتها ، وأرسل الإمام فرق الاستطلاع والتجسس لمعرفة مكان الملك وقواته ، وبلغته الأخبار فيا ليوم التالي أن الملك وقواته مرابطون في أرض الدانوت وأن كبير البطارقة (وسن سجد) قد تراجع إلى أرض (وج) فقام الإمام إلى أرض الدانوت حيث حاصر الملك وقواته في جبل عظيم الارتفاع ، كثير الوديان العميقة ، وعر التضاريس ، لذلك تسلق بعض المسلمين الجبل ولكن الملك الحبشي (لبناء دنجل) استطاع للمرة الثالثة أن يهرب ومعه أربعون شخصا من الأجانب (الإفرنج) إلى حيث يجدون الحماية والأمن عند كبير البطارقة (وسن سجد) الذي حصن نفسه وجنده في أرض (وج) .
    وقرر الإمام ومجلس شورى المسلمين متابعة جهادهم حتى يتم القضاء على رأس الفساد في الحبشة ، فسار جيش المسلمين إلى أرض شوا وضموها إلى الممتلكات الإسلامية الصومالية ، وقدم أهالي ورب الجزية . ورغم غزارة الأمطار واشتداد العواصف ودعورة الطرق فإن الفرسان الصناديد من المسلمين تابعوا مسيرهم دن أن يستقروا للراحة حتى وصلوا إلى مشارف أرض (وج) حيث خرج إليهم البطريق (وسن سجد) على رأس جيش كبير ، ومعه الملك وأربعون رجلا من الإفرنج يخططون لهم أساليب الهجوم والدفاع ووسائل النجاح ، وعلى أية حال تقابل جيش المسلمين وجيش النصارى في (وج) ودارت المعركة عدة ساعات وقام البطريق وسن سجد بمبارزة أمير صومالي هو الجراد عابد وقد سدد البطريق طعنة قوية للأمير عابد حتى دخل السيف في يد الأمير الصومالي بعد أن كسر طوفه الأمامي فما كان من الأمير الصومالي إلا أن ضربه ضربة مميتة على رأسه ثم أسقطه عن جواده .. فقال البطريق (لات تقتلني أن وسن سجد) فصاح الجراد عابد (أيها المسلمون .. لقد سقط وسن سجد ) وصاح المسملون في الأحباش أن وسن سجد وقد قتل .. فانهزموا وتقهقروا .. وقال البطريق وهو غريق في دمائه (لا .. لا.. أنا حي) فأجهز عليه الجراد عابد فكان أن عاتبه الإمام فيما بعد قائلا له : (لم قتلته قبل أن أنظره وقد أعطيناه الأمان) فأجاب الأمير الصومالي : قلت له (أريد أن أوصلك إلى الإمام ولكنه قال اقتلني في مكاني هذا .. وشتمني وأهان شرفي فقتلته) ..
    وكان عدد الأسرى في هذه المعركة نحو ثلاثين بطريقا واستطاع شاب من عائلة متان أن يصرع أكثر البطارقة تعصبا ضد الملمين وهو البرطيق قاسم الذي كان في الأصل مسلما ونصره الحطى وولاه على التيجرى والعنقوت وقد تلى وفاة البطريق قاسم أن تحول كل اتباعه من كهان وجنود وغيرهم إلى الإسلام جملة واحدة .
    ويحدثنا شهاب الدين أحمد الملقب بعرب فقيه صاحب كتاب فتوح الحبشة عن معارك كثيرة وعن الأثر الكبير الذي أحدثه قتل وسن سجد والبطريق قاسم ، ويقول (إن فتح البلاد كان سهلا ودون مقاومة ، وزاد التحول غلى الإسلام بأعداد ضخمة ومن المدن التي دخلت الإسلام باجمعها جان زلق ، ورقاله ، ولال ، وبلادهواش ، وطيعوا انطيط ومن أشهر البطارقة الذين أسلموا البطريق ولوويلي وجيز وقد حسن إسلامهم .
    الزحف الإسلامي نحو عاصمة الحبشة :
    بعد أن انهزم الأحباش في أرض (وج) تمكن الملك من الهروب إلى بيت أمحرا وهي عاصمة الحبشة وأن يجمع حوله مابقى من جنده وبحشدهم جميعا لحماية قاعدة الملك من أيدي المسلمين . وبعد أن قطع الملك (لبناء دنجل) كل أمل في استرجاع الأراضي التي دخلتها الجيوش الإسلامية بعد أن تحول سكانها إلى الإسلام ، وأصبحوامن الدعاة له مثل مدينة أيونة التي أسلم أهلها دون مقاومة وأصبح بطريقها المدعو اسلامومن من دعاة الإسلام المتحمسين .
    وكانت أمحرا في ذلك الوقت عاصمة الحبشة ومركز الثقل فيها من الناحية السياسية والاقتصادية وبها كنيسة أمحرا التي وضع أساسها والدا لملك لبناء دنجل وكان طولها مائة ذراع وعرضها مائة ذراع وارتفاعها مائة وخمسين ذراعا ، وكانت مبطنة بصفائح المذهب الخالص ، ومرصعة بخصوص الجواهر واللؤلؤ والمرجان كإنما هي متحف للنفائس والمجوهرات .
    وقام لبناء دنجل بزيارة الكنيسة ومعه كبار رجال الحبشة وكبار القواد، وما أن دخلها حتى أخذ ينظر يمينا وشمالا .. ثم بكى وبكى .. وقال لمرافقيه : (إن هؤلاء المسلمون يريدون حرق كنيسة أمحرا بعد أن حرقوا الكثير من الكنائس ، ولكن امحرا هي دار ملكي ودار الملوك المتقدمين) فقال له رجال حاشيته : (إن المسلمين لا يصلون إلى هنا أبدا . ونحن نقاتل دونها حتى الموت) .
    وأمر الملك بترك فرق من الجنود البارعين بخير سلاح لحراسة أبواب الكنيسة ، وأمر أن تحصى مدينة أمحرا بكل أسباب القوة والمناعة ، وخلال هذه الفترة التي يجري فيها الملك وقواد جيشه عمليات تحصين أمحرا ، وينادون بدعوة البلاد إلى الحرب المقدسة ضد المسلمين ، كانت بلدة جن قد أعلنت إسلامها وانضمامها إلى الفرق الإسلامية ، كما انضم إلى قوات المسلمين البطريق وسن جان ومعه خمسمائة من أهل الدرق الأبيض وأعلنوا إسلامهم جميعا وأنهم سيحاربون بجانب المسلمين لنصرة الرسالة المحمدية في أرض الحبشة .
    وكانت قوات المسلمين تزداد عددا يوما بعد يوم ، وإيمانا برسالتهم فأمر الإمام في اليوم السادس عشر من شهر ربيع الأول عام 938 هـ بأن يسير جيش المسلمين في طلب ملك الحبشة ، وتحركت الجيوش الإسلامية ودخلت معارك عديدة ضد جنود الملك الحبشي حتى إذا ما أحسن الملك بالهزيمة وخذلان جنده ، وانتصار المسلمين في كل معركة هرب للمرة الرابعة وحيدا شريدا متنقلا في الغابات والأحراش .. وقد شوهد وهو يسير على أقدامه ومعه خمس حقائب على بغال في طريق وعر للغاية وهو ينهر البغال للسير سريعا ، وهو من خلفها حافي القدمين . وحينما دخل المسلمون أرض المعركة وجدوا خيمة الملك في وسطها وذلك حينما دخل المسلمون أرض المعركة إذ وجدوا خيمة الملك في وسطها وهي فارغة تماما ماعدا سريره وسلاحه وبعض ملابسه ، فنادى الإمام في الجند بطلب السير غلى كنيسة أمحرا ، واتجه جيش المسلمين إلى لاكنيسة بعد هزيمة فرق الحرس .. ودخل الإمام ومعه كبار القواد من المسلمين إلى صالة الكنيسة ، ودهشوا جميعا مما شاهدوه من روعة المسلمين إلى صالة الكنيسة ، ودهشوا جميعا مما شاهدوه من روعة البناء وبدائع الصنع وجمال النقش ووفرة الكنوز ، في الوقت الذي كانوا يرون فيه طبقات الشعب الكادحة تعيش من اليد إلى الفم ، والأمراض تنتشر بينهم بشكل مخيف ، فلا طعام ولا كساء .
    استدعى الإمام من كان معه من التجار المصريين والعرب وسألهم : هل رأوا مثل هذا في بلاد مصر أو الروم أو الهند أو غيهرا ؟ . فأجابوه : لا نظن ف الدنيا كلها مثل هذه الكنيسة .
    وقام الجنود بحمل ما بها من كنوز ونزعوا جدرانها الذهبية ومحتوياتها الثمينة ، وتحول أحد القصور الضخمة الثلاثة التي كانت للملك إلى مسجد يسبح فيها بحمد الله ، والقصر الثاني مقرا للإمام وكبار المجاهدين ، والقصر الثالث لرؤساء الفرق الإسلامية .
    وكان من عادة ملوك الحبشة أن يرسلوا بأبنائهم إلى جبل العنبا القريب من أمحرا للحياة بعيدا عن الناس وأن يتعلموا في كنيستها المرتفعة على قمة الجبل فإذا مات الملك أنزلوا من الجبل من يحل محله في حكم البلاد ، ولذا كان طابع ملوك الحبشة الجفاء ، وغلاظة القلب ، وشدة التعصب للمسيحية ، والتعالي على الشعب ليظهروا بمظهر الآلهة العظام ، ووكلاء الرب في توزيع الرزق على العباد .
    وحينما عرف الإمام بهذه العادة ، أرسل خيرة قواده ، وهو القائد الصومالي الذي حقق انتصارات إسلامية كبيرة في أرض الحبشة ، وذلك هو البطل القائد الجراد متان صهر الإمام أحمد ، على أن يقوم على رأس جيش إلى جبل العنبا ويحضر أولاد الملك إلى مقر الإمام أحمد .
    وكان احتلال جبل العنبا من المسائل الصعبة فلا توجد طرق معبدة للصعود إلى الجبل لأنه وعر ، شديد الانحدار ، فاضطر القائد الجرادمتان أن يتجه ناحية الشرق من الجبل رغم أنه طريق ضيق لا يتسع إلا لفرد واحد دون آخر وهكذا سار الجيش على صورة طابور مفرد وسار الجراد في هذا الطريق على رأس الجند وانتهزت الحامية الحبشية الموجودة في أعلى الجبل الفرصة السانحة وأخذوا يلقون بالحجار الصغيرة والكبيرة وزادت حركة المفتتات الصخرية والانهيارات الشديدة حتى استشهدت الفرقة كلها وقائدها البطل في 24/ ربيع الآخر عام 938 هجرية .
    وأراد الإمام أن يعاقب الجنود الذين تراجعوا عن متابعة الجراد في صعوده إلى الجبل ، غير أن العلماء والشيوخ تدخلواف ي الأمر لعلمهم أنه من الصعب فتح جبل العنبا ، وحتى إذا فتح الحصن فلن يكون هناك إلا أبناء الملك .. فخضع الإمام لمشورة الفقهاء والعلماء وعفا عن الجنود كما عدل عن فكرة القيام بحملة واسعة لفتح حصن جبل العنبا .
    عودة الجيوش الإسلامية المنتصرة إلى هرر :
    بعد أن تحطمت القوى الحبشية في أمحرا عاصمة الحبشة ، وأحرقت كنائسها ومدنها عادت الجيوش الإسلامية إلى هرر لتوزيع الغنائم على المسلمين من ذهبوفضة وتحف وجواهر وللعمل على تعمير البلاد فيالمجال العمراني والزراعي وغيره من ضروب الاقتصاد والاجتماع .
    وخلال سير الجنود في أرض فطجار طلب الوزير عدولي من الإمام أن يقوم الجيش باستعراض عام في أرض الفطجار لمعرفة متطلباته وتنفيذها عقب الوصول إلى هرر ، فاستجاب الإمام لطلب الوزير وخاصة أنهم في أواسط أرض الحبشة ، وقد آل إليهم أكثر من نصف الأراضي الحبشية ، وعليهم جواسيس كثيرةمن الأجانب ، فكان لا بد من تنظيم أمور الجيش وشئون البلاد الإسلامية الجديدة التي دخلت الإسلام ، ووضع قوات حامية في هذه البلاد التي دخلت في الإسلام لحمايتها .
    ولقد قام القواد المسلمون بتنظيم وحدات الجيش الإسلامي في أرض الحبشة على الصورة التالية : قوة أولى : وهي بمثابة قوى الطلائع والهجوم ، وتتألف من العناصر الصومالية الخالصة ، وهي أكثرها عددا وأعظمها قوة .
    قوة ثانية : وتتكون من مواطني الفطجار والماية وشوا وغيرهم من العناصر الصومالية والعربية والجالا ومن الأحباش الذين دخلوا الإسلام .
    الرياسة الأولى : على رأسها قوة الإمام أحمد ، وهي من خمسة آلاف فارس يلبسون الدروع .
    الرياسة الثانية : على رأسها الوزير عدولي وهي من ثلاثة آلاف فارس يلبسون الدروع .
    رؤساء الفرق الإسلامية : وهم من الأمراء المسملين وعددهم خمسون أميرا .. ويتقدم كل فرقة إسلامية رأيتها (شعارها) ، ويتبع كل أمير خمسون وحدة إسلامية محاربة .
    وفي نهاية العرض عشرون ألفا من أصحاب التروس ، وثلاثة آلاف فارس يلبسون عدة الحرب ، ومن أهل العصى الغليظة نحو عشرين ألفا .
    وبعد أن وصف المؤرخ (عرب فقيه) مواضع الجند وقلاعهم ، قال أن الإمام سر من القوى الإسلامية النامية بشكل مثير ، وقام بتوزيع الغنائم على الجند ، وحثهم على العمل الصالح في كل خطوة من أجل وطنهم ودينهم الحنيف .. وأمر بتوزيع بعض القوى على المدن التي دخلت الإسلام حديثا لحمياتها من هجمات الأعداء .
    وبعد الاستعراض والتنظيم عاد المسلمون إلى هرر ، وابتهجت المدينة ، وأقيمت الأفراح ، وأتى المسلمون الصوماليون من كل مكان ليهنئوا الأبطال الصناديد المدافعين عن الوطن والدين ، وزاد عدد المدارس والمساجد ما جعل هرر تتزعم الحركة التعليمية والدينية في شرق أفريقيا بلا منازع ، وكذا الوافدين إليها من العلماء والأدباء والشيوخ وطلاب العلم ، وأصبح التعليم للجميع بعد أن كان حكرا لرجال الدين وتعليم التلاميذ مبادئ الحساب والعلوم ، وأصبحت العربية لغة التعليم وقدم معلمون من الحجاز ومصر واليمن لنشر اللغة والدين بين أبناء الأمة وظهرت المصاحف المصرية في الأسواق بعدد السكان وبدأ تدريس التاريخ والأحداث بجانب علم الفقه والسيرة والتشريع مما جعل هرر كعبة للمخطوطات والمدونات التي ليس لها مثيل في شرق أفريقيا كلها .
    ولكثرة العملات الذهبية والفضية في يد الجنود والمسلمين عامة ارتفع سعر الحاجيات وأصبحت الكماليات ضروريات فوردت الصناعات المصرية والإسلامية وخاصة تلك التي يظهر فهيا الفن الإسلامي وفد ضرب لنا عرب فقيه راوي سيرة الإمام (أنه من كثرة النفوذ أصبح البغل الواحد يساوي أربعين أوقية من الذهب بعد أن كان ثمنه منذ عامين لا يصل إلى ربع الأوقية الواحدة) .
    حرب المرتدين :
    بعد أن استقرت الأحوال في أكثر من نصف الحبشة ، وبدأ المسلمون في تنظيم أمور دولتهم في هرر ، وإرسال البعوث إلى كافة اتجاه الصومال لإدماج القوى الصومالية في دين الله الحنيف ، والعمل الجماعي من أجل الوطن . وبعد هذا كله وزردت أبناء بأن أهل (وج) و (رب) قد ارتدوا عن الإسلام ، وأن الملك الحبشي توجه بقواته إلى إمارة (أوفات) المسلمة ناحية زيلع للقيام بنثورة ضد الإمام وجنده وامتدت الفتن إلىب قاع مختلفة من صنع عملاء الملك الحبشي .
    فاجتمع الإمام بقواد الجيوش ، وعرض عليهم الحالة الثورية التي يديرها الملك وأعوانه ، وضرورة قيام وحدة عسكرية بصفة دائمة في إمارة أوقات المسلمة لمنع تسلل جنود النصارى ناحية شمال الصومال . غير أن مجلش الشورى من قواد الإمام عبروا عن وجهة نظرهم بأن يكون الاتجاه نحو تدعيم أركان الإسلام في المنطقة المحصورة من أعالي نهر شبيلي ونهر هواش ، وكذلك في مناطق (بالي) (الجينز) و (وج) بترك حاميات صغيرة مع فريق من الشيوخ والدعاة إلى الإسلام .
    فأصدر الإمام تعليماته على الوجه التالي : 1- إعداد جيش برياسة القائد عبدالناصر إلى أرض جينز ولبقائهم حتى يعلنوا إسلامهم أو يدفعوا الجزية. 2- إعداد جيش برياسة القائد الوزير مجاهد إلى أرض وج وجيرجي وأن يقاتلهم ، ولا يخشى شيئا ، ويتبعه الإمام على رأس جيش قوي . 3- إعداد جيش برياسة القائد الوزير المجاهد إلى أرض (وج) و (جيرجي) .
    وتحركت الجيوش الإسلامية نحو أهدافها لتحقيق رسالتها السامية . وتقدم شعب (وج) و(جيرجي) بدون مقاومة إلىق ائد قوات المسلمين بإعلانهم الطاعة ودفع الجزية وأشهر بطريقهم إسلامه كما أسلم ابنه ومن معه من الأتباع وتقدم أهل جائر إلى الوزير عدولي والأمير حسين وأعلنوا إسلامهم كما أن القائد يعقيم الصومالي هزم أهل (ورب) وفرض الجزية على سكانها .
    وحدث أن جاء صاحب هدية (إمارة هدية الإسلامية) وهو مسلم وكان عليه أن يدفع جزية سنوية لملك الحبشة بالإضافة إلى تقديمه بنتا بكرا جميلة تكون محظية للملك بعد أن ينصرها . ولما دخل صاحب هدية إلى أرض جيرجي ومعه جنده تقدم إلى الإمام قائلا له : (أنا مسلم وأنتم مسلمون) .. وكان هذا كفيلا بالأمان له ، وقد رحب به الإمام وأكرمه في دار الضيافة وطلب الإمام من صاحب هدية أن يصف حالهم في إيجاز ، وما كانوا يفعلون .. قال صاحب هدية : (إنه حكم على آبائنا الأولين وحكم علينا ألا نلبس عدة الحرب ولا نمسك السيف ولا نركب الخيل بالسروج وحكم أن نصطفى له بنتا كل عام ، وكنات نفعل ذلك مخافة أن يقتلنا ويخرب مساجدنا ، وكنا إذا جاء الذي يريد أخذ البنت غسلناها وكفناها بثوب ، وحسبنا أنها ميتة وأعطيناه إياها ، فكما وجدنا آبائنا يفعلون ذلك فعلنا ، والآن أتانا الله بكم وقد هزمتم الذي يحكم علينا وقتلتم جيشوه فنحن نجاهد معكم) . وتأثر الإمام من حالهم وقال له : (ديننا الحنيف لا يسمح بهذا ، فنحن أخوة ، وقد سوى الدين بيننا ، ومنع السخرة والاستعباد ، وجعل الحرية شعارنا ، وهو بإذن الله ناصرنا على القوم الفاسدين) .
    وفي ذلك الوقت أيضا وصلت الأنباء أن الوزير عدولي بجد مقاومة شديدة في أرض (بالي) لمتانة تحصينها ، وكثرة الحباش فيها بالإضافة إلى قوات الملك الحبشي الذي استنجد به صاحب بالي ، فأمر الإمام أن يتحرك القائد عبدالناصر وجنوده ، وأن يكون اتجاههم جميعا نحو أرض بالي ومساعدة الوزير عدولي في نشر الإسلام بها كما عين الإمام الدليل إلى غزو أرض (بالي) وهو أن يصطحبوا معهم (صبر الدين) البطريق سابقا الذي أشهر إسلامه حتى يرشدهم إلى أقصر الطرق وأنجع الوسائل إلى غزو أرض (بالي) بأقل خسائر في الأرواح .
    وصلت الجيوش الإسلامية السابقة إلى مشارف أرض (بالي) وانضمت إلى قوى الوزير عدولي وبعثوا برسالة إلى بطريق بالي ينصحونه بالتسلمي والدخول في الإسلام أو دفع الجزية .. ولكنه رفض كلا الأمرين ، فكانت المعارك الحامية في بلدة (زله) حيث قتل البطريق وفر الأحباش إلى خارج البلاد يطلبون الحياة في الغابات والأحراش ، كما كانوا يعيشون منذ غابر العصور ، وقد تبعهم جيوش المسلمين وقتل من الأحباش الآلاف .
    والجدير بالذكر ان المرأة الصومالية المسلمة لعبت أكبر دور في هذه المعارك فكانت تقوم بعمليات الإسعاف للجنود المسلمين في صفوف القتال وقد قمن بأسر عدد كبير من الأحباش .
    وقد بلغ عدد من قتل من الرهبان والبطارقة نحو مائة وأسر نحو مائتين ، وما أن بلغ الإمام هذا الانتصار العظيم لقوى المسلمين وانتشار الإسلام في هذه البلاد حتى خرج إلى الخلاء ، وصلى ركعتين شكرا لله كعادته في كل انتصار للمسلمين على قوى البطش والطغيان والمستبدين من النصارى .
    وأمر الإمام بان تقام الأفراح وتدق الطبول ابتهاجا بانتصار الجيوش الإسلامية على أرض (بالي) وانتشار الإسلام في ربوعها ، وكان ذلك في يوم الحج الأكبر لعام 938 هجرية وبذلك ظهر نور الإسلام وانتشر في بلاد (دوارو) و(بالي) و(هدية) و(جينز) و (وج) و(رب) و(فطجار) و (أوفات) وما حولها – أي البلاد الجنوبية والشرقية للحبشة – بمقدار ثلثي الحبشة ، وقد هزم الإمام وقواد الجيوش الإسلامية على متابعة الفتح الإسلامي حتى يصل الإسلام إلى أرض السودان وبلاد النوبة وبذلك تتكون الكتلة الإسلامية الكبرى في أفريقيا لدول شرق أفريقيا الإسلامية تمهيدا للأجيال القادمة لاستكمال الدعوة في كافة ربوع القارة الإفريقية .
    والحقيقة التاريخية الصادقة أنه كان من المرجح وجود هذه الكتلة الإسلامية الضخمة لتشمل كل حوض النيل وشرق أفريقيا وخاصة بعد انتشار الإسلام في شبه جزيرة الصومال وثلثي الحبشة من ناحية وامتداد الإسلام من مصر إلى لاسودان ،ولكن الظروف كما سنرى غيرت مجرى الأحداث .
    الزحف الإسلامي الاثني نحو عاصمة الحبشة :
    قام الجيش الإسلامي بقيادة الإمام أحمد بالغزو الثاني لعاصمة الحبشة لتدعيم الإسلام بها وفتح الممالك الشمالية الغربية للحبشة ، وكان هناك رأى يراه الإمام أحمد وهو أن تكون هناك فترة راحة لمدة عام ثم مواصلة الحرب ، غير ان مجلس الشورى من القواد وافق على رأي عبدالناصر والوزير عدولي والوزير مجاهد على متابعة الحرب . فوافق الإمام على رأي مجلس الشورى ووصلت الجيوش الإسلامية إلى بيت أمحرا بعد انتصارها على القوات الحبشية في عدة معارك وكانا لملك الحبشي قد حشد جيوش التيجرى كلها حول حصن العنبا الذي سبق أن ذكرناه في الفتح الأول .
    وقامت معارك طويلة بين المسلمين والنصارى عند قاعدة جبل العنبا وقد دامت نحو شهرين كاملين فتح المسلمون خلالها الحصن الأول عند قاعدة الجبل ، غير أن الحصن الثاني كان على ارتفاع كبير من الحبل وهو شديد التحصين ، وقد استعمل النصارى الأحجار والصخور الضخمة التي انهارت فوق الجنود بكثرة فاستشهد عدد كبير من المسلمين .
    وكانت القوات الحبشية تستخدم الأسلحة الحديثة الضخمة والبنادق التي وصلتهم من القوى البحرية البرتغالية التي قدمت إلىمياه خليج عدن لمد الأحباش بالسلاح والاشتراك معهم في القضاء على القوى الإسلامية الضاربة في أرض الحبشة والقضاء على القوى الإسلامية العربية لامسيطرة على تجارة شرق أفريقيا والبحر الأحمر وتجارة الهند بصفة عامة .
    فاضطر الإمام أن يبعث بوفد صومالي إلى اليمن وزيلع لمقابلة أمراء المسلمين والحاكم العثماني على اليمن ، والاستنجاد بهم ضد نصارى الحبشة وصلاح البرتغاليين الذي وصل إلى أرض التيجرى .
    وعاد الوفد ومعه قافلة من الجمال تحمل الأسلحة الحديثة من بنادق ورصاص ومدافع صغيرة وكبيرة ، ونظرا لصعوبة المواصلات قام الجنود المسلمون بحمل الأسلحة من جندبله حتى أمحرا ، ونصبت المدافع على الهضبة ووزعت البنادق على الجنود وأرادوا غزو الحصن الثاني لجبل العنبا غير أن فرق الاستكشاف والطلائع أبلغت الإمام أن الملك وجنوده قد ارتحلوا إلى قراره ، وفي أرض أرعده سمع الإمام من مسلمي بلاد التيجري من قبيلة بلوان أن الأحباش مجتمعون في قرقاره فأمر الإمام بأن يتحرك المسلمون إلى أرض التيجرى لفتح قرفاره على أن يسيروا في طريقين ليتجمعوا جملة واحدة على مشارف قرقاره ودارت معارك بين الطرفين أسفرت عن فناء أكثر الأحباش على سهول قرقاره وغنم المسلمون غنائم لا تحصى مما دعا الملك (لبناء دنج) أن يتجه إلى أكسوم عاصمة الملك ، حيث قام فيها ليحشد كل قواه ، وجمع كافة البطارقة الأحباء ودخل بهم كنيسة أكسوم ، وأخرج الصنم الأكبر من الكنيسة ، وهو من الحجر الأبيض المرصع بالذهب والجواهر الثمينة ، واتجه الصنم الأكبر إلى حصن تابر خشية أني قع في يد المسلمين الذين حرقوا كنيسة أمحرا في الفتح الأول . ولم يستقر الملك كثيرا في أكسوم إذ أن القوات الإسلامية دخلت المدينة ومعه الصنم الأكبر إلى أرض مزجه .
    وصول الصوماليين إلى بلاد النوبة :
    أثناء القتال بين الصوماليين المسلمين والأحباش في أكسوم وصلت أخبار عن أحوال المسلمين في أرض النوبة (جنوب مصر) بأنهم يعاونون من قسوة الأحباش ، كما وصلت رسالة من أمير مزجة ويدعى مكنز وهو مسلم من أهل النوبة – يقول في رسالته (أدركني قبل أن يقتلوني) فنادى الإمام على الجنود المسلمين إلى أرض مزجة لنصرة سلطانها مكنز المسلم ، وحماية إخواننا النوبيين من الأحباش .
    أسرع الفريق الأول من المسلمين برياسة الإمام أحمد إلى أرض مزجة ، فقد وردت الأنباء أن الملك لبناء دنجل قد اتجه إليها ، وخلال سير السملمين تقابلوا مع قوات حبشية كانت في طريقها إلى أكسوم لمساعدة الملك الحبشي غير أن قوات المسلمين إبادتهم جميعا وتابعت سيهرا حتى أشرفوا على أرض مزجة وقد خرج السلطان رغم ما كان يعانيه من آلام المرض ، على رأس جيش من خمسة عشر ألف مقاتل من أهل النوبة البواسل ، وتعانق الصومالي والنوبي والمصري على أرض النوبة للعمل من أجل نشر الدعوة الإسلامية وحماية أراضي المسلمين ومكث الإمام وجنوده عشرة أيام في ضيافة سلطان مزجة .. وكان (لبناء دنجل) ملك الحبشة قد ترك مزجة بعد أن وصلها الإمام أحمد واتجه إلي لأرض قجام ، فسار الإمام والجنود المسلمون إلى أرض التيجري فدخلها ولكنها كانت في رعب وفزع ومجاعة مخيفة وأمراض فتاكة ، وانتشر الدمار بين سكانها حتى أن الجيوش الإسلامية قد تأثرت كثيرا من انتشار الطاعون بين أفرادها وكثرة الوفيات لسوء الصحة والتغذية . ويقول عرب فقيه : (دخلت الجيوش الإسلامية إلى أرض التيجرى ، وكان مع كل مسلم خمسون بغلا محملا بالغنائم الثمينة وحينما غادر المسلمون أرض التيجري لم يكن مع كل مسلم إلا بغل واحد أو بغلان على الأكثر) .
    أما الفريق الثاني من جيوش المسلمين فكان تحت قيادة الوزير عباس الذي دخل أرض السراوي بعد أن استنجد بفرقة إسلامية من الجيوش المسلمة المرابطة في أرض التيجري بقيادة الوزير عدولي ، وكان للوزيرين أثر كبير في تحويل أهل السراوي كلهم إلى الإسلام .
    واستمر الوزير عدولي في كفاح عنيف مع البطريق تسفولو الذي يدافع عن حصن السراوي وقد تمكن البطريق أن يسحب المسلمين إلى مكان كثيف النبات والغابات بين جبلين عظيمين ولا يتسع الطريق به إلا لمرور فارس واحد يتبعه الآخر .. وهكذا يمتد الوزير عدولي وفرقة من المسلمين على طول الطريق خلف البطريق وجنوده .. وفي الثلث الأخير منالطريق رمى أحد النصارى بسهم مسموم من أعلى الجبل فأصاب الوزير عدولي في باطن الوادي ، فتراجع المسلمون وأخذ النصارى رأس الوزير عدولي وبعثوا بها إلى الملك الجديد جلاديوس .
    علم الإمام أحمد بما جرى في أرض السراوي فبكى بكاء شديدا على وفاة الأمير عدولي الذي قاد المسلمين في معارك كثيرة نحو النصروله الفضل في حالات كثيرة من التحول غلى الإسلام كما أنه زميله الذي اعتاده والده ليكون أخا له في كفاح الحياة .
    وقد دق الأحباش الطبول ثمانية أيام وأمرهم الملك باللهو والمرح وشرب الخمر ثمانية أيام نخب الانتصار على الوزير عدولي وجنوده البواسل ..
    ولم يدم فرح النصارى إذ بعث الإمام بالوزير عباس إلى أرض السراوي وانتصر على قوات البطريق (تسفولو) وأرسل رأسه إلى الإمام مع رؤوس أولاده وقواده جميعا ، أخذا بالثأر ففرح الإمام بالنصر .
    العودة ونهاية السيرة الخالدة للإمام أحمد جرى :
    وجد الإمام أحمد جرى أن قوات المسلمين تعاني أزمات حادة في بلاد التيجري وقد كثرت الوفيات بين الجنود بسبب الطاعون فقرر العودة إلى أرض بقى مدر لكثرة واعتدال جوها ، فاتجه أولا إلى مزجة ومكث بها شهر رمضان المعظم لعام 941 هجرية ثم ارتحل إلى أرض بقي مدر واستقر الجنود بها وبدأ العمران للمساجد والمدن وأقام الإمام عدة مشروعات زراعية بهدف التشجيع على الاستيطان وفلاحة الأرض . واستمر الإمام محتفظا بالقوى الإسلامية كقوى مسيطرة على ثلثي الحبشة نحو عشر سنوات .
    وحوالي عام 1551 كان الإمام يعاني من الحزن الشديد لوفاة الوزير المقدام والصديق المجاهد عدولي ومن قبله الوزير القائد الجراد عبدالناصر وامرأته المسلمة المجاهدة بلقيسة ووفاة ابنه المجاهد محمد ووفاة زوجته دلونبرة .. وفي الوقت نفسه كان الإمام أيضا متخوفا من علاقته بحلفائه العثمانيين يخشى أن يتحول إلى حرب معهم بعد الحرب مع الأحباش ولذا انتهز فرصة انتصاراته على النصارى الأحباش وموت الملك القاسي لبناء دنجل وقطع علاقته مع مسلمي اليمن والعثمانيين معا ، وفي هذا الوقت أرسلت البرتغال قوة عسكرية مؤلفة من 450 جنديا بالسلاح الحديث لمناصرة وتأييد مطالب الملك الحبشي جلاديوس . فكان حصار بحري من نصارى البرتغال وكان حصار بري من نصارى الحبشة بالإضافة إلى الأزمات الداخلية التي كان يعانيها الإمام أحمد مما أضعف من قوته الحربية ، ومع هذا قام بعدة معارك انتهت بأن أطلق عليه ألف طلقة نارية ذهبت فيها روحه الطاهرة إلى ربها في عام 1553 م وقد استطاع ابن أخته الأمير نور الدين الذي تولى حكم هرر والذي سماه الصوماليون (صاحب الفتح الثاني) أن يقتل الملك جلاديوس الحبشي سنة 1559 وأخذ بثأر الإمام أحمد الذي سجل على الأرض أروع سيرة إنسانية لدعاة الإسلام في القرن السادس عشر .
    وقد ذكر كتاب فتوح الحبشة أن الإمام أحمد قام بحروبه في الحبشة ثلاثة عشر عاما من 937 إلى 950 هجرية الموافق 1540 إلى 1553 ميلادية .
    الفصل السادس الظواهر الخاصة للإسلام في الصومال
    الإسلام دين الدولة :
    عرفنا فيما سبق خبر تلك الموجات السامية التي قدمت من شبه جزيرة العرب في العصور الأولى لفجر التاريخ الصومالي ، وما جرى بشأن التزاوج والاختلاط ، وما أحدث كل ذلك من تعديلات في المعايير الجنسية والثقافية لسكان الصومال . ومن الثابت أيضا ان الساميين وهم أهل زراعة وتجارة ، قد استقر بعضهم في المواني الصومالية من أجل التجارة ، والبعض الآخر توغل في البلاد نحو الجنوب أو جنوب بغرب إلى هرر . سواء أكانت هذه الهجرات قبل أو بعد الإسلام ، فمما لا شك فيه من تاريخ الهجرات السامية في الصومال أن هؤلاء القادمين الجدد مهما كان عددهم صغيرا أو كبيرا لا بد أن يحدثوا تغييرا في حياة السكان ونظم المعيشة .
    ومما لا شك فيه أن الدين في القرون الأولى للهجرة كان في هذه المناطق أقرب إلى الممارسة من كونه عقيدة وإيمانا ، فإن أول ما كان يعني به المسلمون والمسيحيون على السواء أن يقضوا الحياة ف الصورة التي تضمن معاونة القوى المجهولة لهم ، ويخيفهم غضبها عليهم ، وذلك من المؤثرات الوثنية القديمة التي لم تذهب بعد من أذهان الناس حتى القرن الثالث عشر .
    فالمسيحية عرفت كدين رسمي لمملكة أكسوم اعتبارا من عام 350م بتأثير الثقافة الواردة إليها من الشام وكان مركزها حول أكسوم ولم تتعد الهضاب الشمالية للحبشة حتى القرن التاس عشر حين أتاح الاستعمار الغربي فرصة أمام حكام الحبشة ليتوسعوا في احتلال أرض لم تكن لهم من قبل .
    أما الإسلام فقد بلغ الأراضي الصومالية في عهد الرسول عليه السلام وأصبح دينا رسميا للمراكز الإسلامية على طول السواحل الصومالية وامتد إلى الداخل في القرن العاشر ، فأصبحت الحبشة في عزلة عن التطورات التي حدثت في العالم المسيحي منذ القرون الأولى للهجرة ولذا استمرت الوثنية متعلقة بالمسيحية إلى حد كبير حتى أن رجال الدين من الأحباش ظلوا يعتقدون بسطوة هذه الآلهة الوثنية ويعملون كأساطين للسحر .
    وقد ذكر الدكتور (سيروللي) : (أن القبائل الكوشية في جنوب الحبشة وهي الأراضي التي غزاها الأحباش قد ظلوا هم والغزاة يعتقدون في الآلهة الوثنية ، وكأنها تابعة للإله الأكبر الذي يؤمن به الغزاة ، بل الأكثر من ذلك أن المسيحيين ظلوا يتبعون تعاليم الموسريين وخاصة في مسائل التفرقة بين الذبائح ، وفي وجوب تزوج الرجل من أرملة أخيه ، وفي احترام (السبت) كاحترامهم ليوم (الأحد) .. فالحقيقة أن المسيحية في الحبشة كانت تسير في الإطار العام وليست المسيحية الحقيقية ، ويدفع بها الحكام ورجال الدين في الوثنية والعصبية لتحقيق آمال شخصية) .
    سرعة انتشار الإسلام في الصومال :
    وما أن ظهر الإسلام حتى قبلت دعوته في الصومال وسرعان ما انشتر فيها ، حتى انفردت به في وقت قصير ، دون أن تدخل معه شعائرها بالوثنية أو المعتقدات الخارجة عن الدين نفسه ، وترجع سرعة انتشار الإسلام في الصومال أنه بلغة قريبة إليهم ، ومن شعب قريب إليهم فقد عرفوا اللسان العربي والشعب العربي في المعاملات التجارية والرحلات القديمة والاستقرارات المتبادلة في كل الوطنيين منذ فترات طويلة قبل ظهور الإسلام نفسه ،ولذا فحين قام العرب بالدعوة كان الصومال أسرع الدول الخارجة عن شبه جزيرة العرب إلى قبول الدعوة وأصبح من الصوماليين معلمون ودعاة للدين . ويقول روبيل الألماني في عام 1848 عن سرعة انشتار الإسلام في الصومال وعن انشتار المسيحية في الحبشة (إن المسلمين في القرن السادس عشر كانوا أ:ثر نشاطا من المسيحيين ، وكان أغلب أطفال المسلمين يجيدون القراءة والكتابة على النقيض من أطفال المسيحيين الذين لا يتلقون نصيبا من التعليم إلا إذا وجهوا إلى العمل في الكنيسة ، وإذا كان هناك احتياج إلى من يتولى عملا هاما رئيسيا في البلاد فإن الاختيار كان يقع دون تردد على مسلم) .
    ورغم الصراع الديني بين الصوماليين والأحباش أي بين الإسلام والنصرانية في شرق أفريقيا الذي ظل طاهرا قويا في القرن التاسع عشر حينما ظهرت دول بحرية مسيحية تعمل مع القوى المسيحية الحبشية مما دفع بعض الدول الإسلامية أن تقف بجانب كفاح مسلمي الصومال ، وهنا بدأت مرحلة جديدة في شبه جزيرة الصومال وهذه المرحلة ترتبط بالسياسة والحرب والاستعمار ، بدأتها بريطانيا حينما أقامت يوحنا الخامس ملكا على الحبشة فكان رد فعل تلك الحملات الحربية لامصرية على الحبشة لحماية مسلمي الصومال من تدخل الأحباش في شئونهم الداخلية ، كما كانت ثورة المهديين ثي السودان ضد التعصب المذهبي في الحبشة .
    وفي القرن التاسع عشر بدأ التنافس الدولي في احتلال أجزاء من الوطن الصومالي لتحطيم قواه ، وفي الوقت نفسه وجدت الدول الإسلامية نفسها مضطرة إلى الكفاح ضد الدول المستعمرة الجديدة بدلا من الاتجاه ناحية الحبشة فقط ، فتعرض مسلمو أرتريا للاحتلال الإيطالي ومسلمو الصومال (الإقليم الشمالي للجمهورية الصومالية حاليا) للاستعمار الإنجليزي وصوماليا (الإقليم الجنوبي للجمهورية الصومالية حاليا) للاستعمار الإيطالي (وإقليم جيبوتي الصومالي) للاستعمار الفرنسي . وقد نشأ الاحتلال في صورة مقنعة تحت ستار المصالح المشتركة والتبادل التجاي وحماية الاستقلال حتى إذا ما تمكنت الدول من تقوية نفوذها في هذه المناطق أعلنت الحماية عليها . وأصبح الاستعمار سافرا منذ أن أنشئت الدول الاستعمارية جمعيات تبشيرية مسيحية للعمل في الصوماليات بغية تغيير الوضع الديني في الصوماليات ،وتقريب وجهات النظر الدينية مع الحبشية ريثما يحين الوقت لضمها إلى الحبشة ، وبذلك يكون الاستعمار قد أوجد الصومال المسيحي وأنهى حركة التكتلات الإسلامية التي تبديها الدول الإسلامية للدفع بالصومال المسلم نحو الحرية والاستقلال . ورغم هذا لاصراع المذهبي الذي نشأ في المحميات الصومالية فإن الصومال خرج من هذه التيارات المشحونة ضد معتقداته وهو أقوى ما يكون إيمانا بدينه الحنيف لما له من سمات رائعة في البساطة والتسامح .
    ويشير إحصاء ترمنجهام عن توزيع الديانات في شرق أفريقيا أن أغلب مسلمي الصومال يكونون أكبر مجموعة إسلامية في شرق أفريقيا رغم أن الإحصاء لا يضم الصوماليين المسلمين في الصومالند (الإقليم الشمالي من الجمهورية الصومالية) ، ولا في منطقة الصومال الفرنسي (إقليم جيبوتي) ، ولا في أنفدى ، فإذا ما وضعنا في اعتبارنا الأراضي الصومالية في داخل الجمهورية الصومالية ، وفي الأراضي المحتلة من قبل دول أجنبية فإن تعداد السكان قد يصل إلى خمسة ملايين نسمة تقريبا وهذه المجموعة الضخمة م السكان تدين بالإسلام عدا فئة قليلة تأخذ بالمسيحية لا تصل أكثر من مائة أو مئتي نسمة ، وهم هؤلاء الذين التحقوا بمدارس التبشير الأجنبية .
    وإحصاء ترمنجهام لا يمثل الواقع في ذاته ولعله اعتمد على الرواة في تحديد عدد السكان دون الاعتماد على الإحصاءات الرسمية ، فذكر أن عدد المسلمين في الحبشة يصل إلى 360 ألف نسمة على حين أن التقارير الرسمية للحبشة تشير أن عدد المسلمين يصل إلى 40% من سكان الحبشة تقريبا . كما أن ترمنجهام لم يذكر يهود الحبشة من جماعة الفلاشا الذين يقدر عددهم بنحو 350 ألف نسمة .
    أما عن الوثنية في هرر فهذه ظاهرة حديثة جدا ربما تكون قد قدمت مع الاستعمار الحبشي لهرر لأن هرر كانت طوال التاريخ الوسيط دولة إسلامية وبلغت القمة في القرن الثالث عشر ، كما أنها تزعمت الحركة الإسلامية ، وتبنت الدعوة في شرق أفريقيا ، في القرن السادس عشر على يد أحد أبنائها الأبطال ، الملقب بأحمد جرى الصومالي .
    ويزعم ترمنجهام أن سكان شبه جزيرة الصومال رغم أنهم جميعا مسلمون إلا أنهم يختلطون معا اختلاطا نموذجيا في مجتمع متماثل في الطابع والاتجاهات ، فكل مجموعةمن الناس في قرية أو مدينة لها أولياؤها وزعماؤها وأماكن العبادة الخاصة بها مما يعط من وحدة الزعامة الدينية ووحدة التبعية المذهبية بين مختلف الطبقات الثقافية .
    وهذا الادعاء من جانب ترمنجهام لا أساس له م الصحة ، فالدين الإسلامي الحنيف وحد كلمة المسلمين فلم يجعل للقبيلة أو المذهب اعتبارا ما ، فالمسلمون أخوة متساون أمام التشريع الإسلامي وأحكامه ، والإسلام وحد بين أبناء الأمة ، وجعل قبلتهم واحدة ، وأعباءهم واحدة ، ودعا إلى العمل المشترك وتبادل المنافع ، على أن يكون الوطن أسمى الأماني للجميع ، وارتبط الصوماليون جميعا بمذهب واحد هو الشافعية فأسس الترابط الاجتماعي موجودة لدى الصوماليين كشعب مسلم له مبادئ وتشريع وقانون إسلامي ، أما اختلافهم في زيارة الأولياء أو زعماء الطرق الدينية ، فهذه اعتبارات ثانوية تتفق وحال شعب مكون من أعداد كبيرة ، وكل ما يعنيه أن يكون تحت راية واحدة هي راية الإسلام ، ويظهر هذا واضحا حينما يظهر مصلح ديني أو داع للإسلام كالإمام أحمد جرى أو زعيم ديني كالسيد محمد عبدالله حسن وغيرهما ، فإننا نجد الشعب الصومالي في كل مكان يؤيد هؤلاء الزعماء الوحانيين تأييدا لا نجد له مثيلا في دولة أخرى .
    ومانراه من اختلاف المعايير الثقافية لدى الصوماليين بين مكان وآخر ، فإن هذا مظهر حديث من نتائج الاستعمار الذي أصاب البلاد في أوائل القرن الماضي وقرض ثقافاته على الدولة المستعمرة .
    على أن المظهر الإسلامي في شبه جزيرة الصومال يتضح في الموظفين الرسميين كالقضاة والوعاظ والطلاب الذين درسوا الدين في هرر وزيلع وهرجيسه وبرعو ومقدشوه وبراوه ومركه ودانوت ودقحبور وايسالو وهرسبت وغيهرا من المدن الصوماية . والذين تلقوا العلوم الدينية في القاهرة والحجاز والقيروان وبغداد ، وكل هؤلاء حينما عادوا أنشأوا المدارس لتحفيظ القرآن بالإضافة إلى الأسر العربية التي ترجع في إنسابها إلى العرب وإلى المهاجرين الذين وصلوا شبه جزيرة الصومال من اليمن وبلاد الفرس وغيرها من البلاد الإسلامية ، لهؤلاء جميعا أثر كبير في تقوية الدين الإسلامي وفي استخدام رجال الدين الذين يعرفون أبناءهم أمور الدين ، فنشأ مجتمع إسلامي صومالي قائم بذاته قد أخذ بالديانة الإسلامية في قوة وإيمان وعمل على المحافظة عليه بكل عزيمة صادقة فلم يستطع الاستعمار بأساليبه وحيله ولا الرهبان والمبشرون أن يخرجوه عن دينه بل زاد تمسكهم بالدين وامتهانا لهؤلاء الغرباء من النصارى الدخلاء ، فالصوالي في المجتمع الإسلامي الجديد يعتبر نفسه مجاهدا ومسئولا عن نشر الدعوة المحمدية ، فتراه في كل مكان يعدد مناقب الإسلام ، ويتفقد تعاليم الإسلام ، وقد يتزوج الصومالي المسلم بامرأة مسيحية ولكن سرعان ما يحول زوجته هذه إلى الإسلام ، فالمسلمون لهم ميزة كبرى هي حب الاختلاط مما لا نراه في الديانة المسيحية وخاصة لدى الشعوب الأوروبية التي تأخذ بالتفرقة والتمييز العنصري .
    والدين الإسلامي يتلاءم مع المجتمع الصومالي من حيث نظام الزواجا لذي يتفق مع تقاليد البلاد من حيث الزواج بأكثر من امرأة مما لا يتمشى مع المسيحية ، كما أن من طبيعة الصومالي الميل إلى الحرية التامة فلا يخضع لأي قوى مهما كانت ، ومن هنا وجد الإسلام طريقه إلى نفوس الصوماليين ، فلا إكراه في الدين .
    ويتمسك الصوماليين بتنفيذ الصيام للصغار والكبار والاهتمام بالصلاة والأعياد الإسلامية ونحو الضحايا في الأعياد ومساعدة الفقراء في المواسم الدينية . ومن الظواهر الكبرى في الصومال الإسلامي كثرة المدارس القرآنية والمساجد والزوايا والجوامع والمحافل الدينية حتى بلغ عددها في العاصمة ما يقرب من خمسمائة مكان للعبادة ، وتعتبر أكبر نسبة في العالم الإسلامي بالنسبة لعدد السكان .
    ويتخذ الصوماليون من المساجد أماكن لإقامة الشعائر الدينية والاجتماعات والحلقات التعليمية في الدين والفقه والتفسير كما كان عليه الحال في الأزهر الشريف ، وفي المساجد نجد المتخصصين في العلوم الإسلامية بجانب الأدباء والشعراء والخطباء .
    ومن عادة معلمي الدين والشيوخ الصوماليين أن يذهبوا إلى الحجاز لزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وبيت الله الحرام ، ويسمى رجال الدين باسم الشيخ أو الكبير أو الوداد أو الفقير .. ومهما تعددت القرآن الكريم .. وفي البوادي قد يكون معلم الدين لهمزرعة خاصة قد يزرعها له طلابه .
    عادات وتقاليد :
    وقد تظهر بعض الآثار الوثنية المتبقية بعد ظهور الإسلام وذلك كان يقوم الشيخ بتعليم الأبناء أصول الدين ولكنه يمارس أعمالا أخرى كالسحر ، أو عمل الأحجبة لشفاء المرضى ، أو الاتصال بأرواح السلف الصالح من الأولياء . وقد يكون مظهر هذه الآثار الوثنية في مثل القيام بزيارة المقابر كمزار الشيخ حسين في جوبا بالجنوب الشرقي من جبل القاسم عند ملتقى مقاطعة بالي وأوجادين بالجنوب الغربي من مقاطعة هرر وفي بربره ومقدشوه وبراوه وبيولي وغيرها .. وزيارة قبور السلف الصالح تختلف وجهة النظر في معناها ، فترمنجهام يذكر أن المسلم يؤدي الصلاة لله مع إيمانه بقوة الأولياء الصالحين وفي العادة نجد هؤلاء الأولياء كما هو الحال في بعضا لبلاد الإسلامية قد أتوا من بلاد بعيدة واقد اشتهروا بالتقوى والعلم والدين وإظهار الخوارق كشفاء المريض أو إنزال المطر ومنح البكرة مع تعليم مبادئ الدين وقواعد الصلاة وتفسير القرآن الكريم وبعد وفاة هؤلاء الأولياء يرى الناس أن بركتهم تنفع الأبناء .
    وكان من عادة الصوماليين المريدين للأولياء بصفة خاصة أن يقوموا بزيارة الأضرحة ليتبركوا بها . وهي قبور ذات جدار أبيض يلمع في السهول الواسعة أو على قمم الجبال او المرتفعات ، وفي داخل المزار قبر الولي الصالح مع بعض آيات من القرآن الكريم فوق القبر وعلى الجدار الخارجي .. وبعض هذه المقابر والمزارات توجد في القرى والمدن الهامة على حد سواء ، كما هو الحال على النطاق الساحلي بين مقدشوه ومركه .
    وما ذكرناه من عادات السحر وكتابة التعاويذ ومزار القبور قد وجدت مقاومة شديدة من رجال الدين في العصر الحديث ، وهم يقومون الآن بمحاربة البدع وتوعية الشعب وتوجيهه نحو عبادة الله وحده ومحاربة التقاليد والعادات القديمة التي غرسها الاستعمار وعملاؤه بغرض التفرقة بين السكان وتقوية الخلافات المذهبة بين الصوماليين عن طريق ترويج المذاهب الهدامة أو الإشادة بذكرى شيخ وتفضيله على شيخ ، وقد قطن الصوماليين إلى هذه الألاعيب وقامت اللجان الإسلامية كلجنة محمد التابعة للمؤتمر الثقافي بمقدشوه والرابطة الإسلامية ، وجمعية حماة الإسلام وغيهرا من الهيئات الدينية في الصومال لمحاربة هيئات التبشير والقضاء على الدعوة البهائية التي ظهرت في مقدشوه عام 1957 وانتهت في نفس العام ، فظاهرة الجمعيات الإسلامية من الظواهر الإسلامية الهامة المنتشرة في كل مكان من البوادي إلى المدن الكبرى ، وإن كانت كلها تدور حول الطرق الصوفية ..
    وقد جاء في دستور الجمهورية الصومالية في البند الأول من المادة 61 (الإسلام دين الدولة) .
    وعلى المادة الخمسين .. نص على أن (الفقه الإسلامي مصدر أساسي لقوانين الدولة) .
    الطرق الدينية في الصومال
    عرفنا مدى تماسك الصوماليين بعقيدتهم الإسلامية ، وحبهم لكتاب الله ، وعنايتهم بتثقيف أبنائهم وأنفسهم بالعلوم القرآنية وشرائع الإسلام ، وشدة محافظتهم على الشعائر الدينية وإيمانهم العميق بإله واحد لا شريك له ، فكان تعاونهم الأخوي أمرا ضروريا وتوجيها دينيا لا بد منه ، فهو واجب على كل مسلم ومسلمة .
    وقد عبر الصوماليون عن تعاونهم الأخوي بطرق شتى ، وهذا التعاون الأخوي يجعل جميعا الأعضاء أخوة متعاونين متحابين في الله ، فالتعاون الأخوي في الإسلام هو العنصر الأول من عناصر الدين ، وهو المحور الأساسي في عقيدة المتصوفين التي تنتشر في كافة أنحاء الوطن الصومالي الكبير ، والطرق الدينية من أهم الظاهرات الإسلامية في الصومال ، وإن كانت كلها تدور حول الطرق الصوفية .
    وهدف الطرق الصوفية هو التقدم المادي والمعنوي ، ومساعدة الضعفاء ، ونشر العلم والدين ، وقد وضع أسسها وأركانها الشريف العيدروس في كتابه (بغية الآمال في تاريخ الصومال) على النحو التالي :
    أسس الطرق الصوفية ستة هي : التوبة ،والعزلة ، والزهد ، والتقوى ، والقناعة ، والتسليم . أحكامها ستة هي : العلم ، والحلم ،والصبر ، والرضى ، والإخلاص ، والأخلاق الحسنة . وغاياتها ست هي : المعرفة ، واليقين ، والسخاء ، والصدق ، والشكر ، والفكر . وواجباتها ستة هي : ذكرى رب العالمين ، وترك الشهوات ، وترك الدنيا ، واتباع الدين ، والإحسان إلى المخلوقات ، وفعل الخيرات . وخصائص أهل الطرق ست وهي الخلفاء ، والرؤساء ، والشاذون ،، والنقباء المنشدون ، والخدام .
    وآداب الذكر عشرون .. خمسة قبل الشروع فيه (غسل ، وضوء ، توبة ، صمت ، سكون ، التقرب من الشيخ) .. واثنتا عشر أثناء الذكر (طهارة المكان ، استقبال القبلة ، وضع اليد على الفخذين ، أغماض عينيه ، الإخلاص ، وثلاثة وسط الذكروهي الامتناع عن شرب الماء بعد الذكر إلا بساعة ونصف ساعة ، والسكوت ، والخضوع) .
    على أن الفكرة وراء الطرق المتصوفة كما يقول ترمنجهام ، (إن المؤمن الذين يرغب أن تكون له صلة بالله جل شأنه يحتاج توجيه من شخص له سابق صلة بالله ، ويكون الله سبحانه وتعالى قد منحه البركة ، ومن ثم يستطيع أن يكون وسيطا بين الله وبين مريدي الطريقة . وتنتقل البركة من منشئ الطريقة إلى ابنه بالوراثة . ويستمر انتقال البركة وتتابع الرياسة على نظام الوراثة أبا عن جد وإبنا عن أب) .
    على أن القصد من الذي حدث في شبه جزيرة الصومال لم يعد يتطلب أي مطالب خاصة ، قبل الانضمام للطريقة وأن ما يحتاجه الفرد هو أن يحفظ أصول الطريقة وأن يقسم يمين الولاء للشيخ ، ولم تعد حاجة للقيام بطقوس خاصة ولا أداء صلوات معيشة ، ولا صيام أيام محدودة ، وكانت حلقات الذكرتعقد وتؤدي لأهداف نفسية بدنية .
    نبذة تاريخية عن الطرق الصوفية في الصومال :
    يقول صاحب كتاب (مسالك الأبصار) الذي جمع حقائق عن طرق المتصوفة في شرق أفريقيا (1332 – 1378 هـ ) أنه لم تكن في الممالك الإسلامية السبع (دول الطراز الإسلامي) مدرسة واحدة ولا جامع ولا ربطة ولا زاوية ، وأن القادرية هي أول طرق المتصوفة جاء بها إلى البلاد مهاجرون من اليمن وحضرموت ، وانشترت في مصرع وزيلع ومقدشوه حتى وطدت أقدامها في المدن الساحلية عامة ، والذي جاء بالمتصوفة إلى هرر رجل من الأشراف يدعى عبدالله العيدروس الذي مات في عدن سنة 909 من هجر سيد الخلق الموافق 1503 ميلادية .
    ولم تعرف طرق دينية أخرى في الصومال عدا القليل حتى القرن التاسع عشر حينما وفدت على الصومال طرق دينية أخرى ، ولكنها بصفة عامة قليلة الاتباع في الوقت الحاضر .. ومن أهم الطرق الصوفية :
    1- القادرية : مؤسسها السيد عبدالقادر الجيلاني المتوفي في بغداد عام 556 هجرية . ويقول الشريف العيدروس أن السيد عبدالقادر الجيلاني قد أطلعه الله على اللوح المحفوظة وهو في الرابعة عشر من عمره فوجد فيه كتابه بخط أخضر فاختار أن يكون الأخضر علامة له ولأتباعه ، وهو العلم الذي يحمل في مقدمة الجيش وعليه قد كتب (لا إله إلا الله القوي المتين ، محمد رسول الله تاج المسلمين ، السيد عبدالقادر الجيلاني في تاج المتحنفين) .
    وقد انشتر أتباع السيد عبدالقادر الجيلاني في بلاد المغرب وغرب أفريقيا بصفة خاصة ثم انحدر مريدوه إلى السودان الغربي ، وبعضهم ذهب إلى شبه جزيرة الصومال .
    وتعتبر الطريقة القادرية من أشد الطرق حماسة لنشر الدعوة الإسلامية بكافة الطرق والوسائل . عن طريق التجارة مثلا أو فتح مساجد أو زوايا لتعليم القرآن الكريم والكتابة ، وإرسال الفقهاء والنبغاء من الشبان لتلقي التعاليم الإسلامية في معاهد مصر وشمال أفريقيا ليعودوا بقلوب مؤمنة بربها وبالرسالة المحمدية وليكونوا قادرين على مقاومة التبشير المسيحي الذي جاء في ركاب الاستعمار الأوروبي .
    وينتشر أصحاب الطريقة القادرية ومريدوهم فميا بين هرجيسه إلى هضبة الحبشة غربا ، وكذلك القطاعات التي يشغلها جماعات الدارووت والهاوية ومرفله .
    ومن شيوخها البارزين المرحوم الشيخ عثمان نور في الإقليم الشمالي ، فقد كان سياسيا ماهرا ومتدينا عفيفا له سلطة قوية على قلوب أتباعه ، وكان دائما يحث أتباعه على تعليم أولادهم .
    ومنهم أيضا الشيخ عبدالله آدم صاحب الكلمة المسموعة والأمر المطاع ، وله فضل كبير في حث أتباعه على تعليم أبنائهم أصول الفقه والنحو .
    وأدخل هذه الطريقة الشيخ إدريس محمد محيي الدين القادري البراوي في جوبا العليا ، وأقام مسجدا في بيولي عام 1909 ، ويحتفل بذكراه كل عام مدة ثلاثة أيام ، وقد أخذ عنه الشيخ صوفي بن عبدالله الشاسي والشريف علوي خليفة ، والشيخ عبدالله بن يوسف القلنقولي الذي قام بنشر الدعوة القادرية في مجرتنيا .
    وأول من أدخل القادرية في داخل البلاد هو الشيخ إبراهيم حسين جرو ، وكان مركزها في بارديره على نهر جوبا والشيخ أوني في بيدره .
    ومن أشهر المتصوفين في صوماليا الشيخ محي الدين ابن الشيخ موسى والد الشيخ الوالي عبدالرحمن عبدالله الشامي صاحب المكارم والأخلاق الطيبة . وقد ولد في عام 1245 هجرية ووفاته كانت في شهر صفر 1322 هجرية .
    وكان الشيخ صوفي رحمة الله عليه في أيام حياته يسكن في مدينة مقدشوه في حي حمراوين وكاني درس العلوم الإسلامية والنحو والفقه والتوحيد ، وكان مواظبا على عبادة ربه ، وقد زهد في الدنيا ابتغاء مرضاة الله وظل في زهده خمسة عشر عاما في آخر عمره إذ علم أن الدنيا ليست دار قرار ، وكان من صفاته أنه لا يخرج من بيته إلا يوم الجمعة لتأدية فريضة الله ، وكان سمحا ، وقد لقب بالشيخ الصوفي لأنه كان يلبس لباس العلماء والأولياء أيام حياته ، وكان شافعي المذهب ، وقد صرف كل أمواله في سبيل مواساة المساكين والفقراء وفي صلة الأقارب والأرحام ، وكان من جملة من قال الله فيهم (الا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
    وقد أدى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام ، وهو متحدث لبق باللسان العربي الفصيح واللغة السواحلية واللغة الصومالية ، ألف فيه الشيوخ كتبا عديدة وكان ملما بتاريخ الإسلام وأحوال المدن الإسلامية في زمانه ، وكان لإرشاداته وعظاته أكبر الأثر في نفوس الناس .
    2- الصالحية : هي نوع من الطريقة الأحمدية المنسوبة إلى أحمد بن أدريسي الفاسي المتوفي في بلاد عسير بالسعودية سنة 1837 وينسب إلى محمد بن صالح وهو ابن أخ إبراهيم الرشيد أحد تلاميذ أحمد بن إدريس مؤسس الطريقة الأحمدية ، وقد توفي محمد بن صالح عام 1919 .
    وأصحاب الطريقة الصالحية فيا لإقليم الشمالي من الجمهورية الصومالية لهم سياسة وحكمة لا توجد في غيرهم ، ومن شيوخها الكبار الشيخ عثمان عمر وله مكانه عظمى في نفوس مريديه ، والشيخ الحاج محمود عثمان ، وفي الإقليم اجنوبي الشيخ حسن بن عبدالواحدمحمد جوليد بالحواتله قرب مقدشوه والشيخ على مؤسس الصالحية في جنوب برديرا والسيد محمد عبدالله حسن من الأوجادين أبا الكفاح الوطني ضد الاستعمار في أوائل القرن العشرين . والشيخ سيد محمد يون الثائر ضد الحبشة في عام 1917 ميلادية ، وغيرهم من أبناء الإقليم الجنوبي ومراكزهم الكبرى ما بين جوهر ودافيت والأكثرية في الأوجادين .
    3- الإدريسية :وهي طريقة مشهورة في الصومال باسم الطريقة الأحمدية المنسوبة للشيخ أحمد بن إدريس الفاسي المتوفي في عسير بالسعودية سنة 1837 والذي أدخل هذه الطريقة إلى بلاد الصومال هو الشيخ عبدالواحد الأبقالي والعلامة الوالي الشيخ أبو بكر بن مختار المدفون في وارشيخ ومن تلاميذه الشيخ الصوفي بن عبدالله الشاسي ، والشيخ أحمد بنمحمد المقدشي (الصومالي) وغيرهم وأتباع هذه الطريقة يتركزون في مقدشوه وبورهبكه وقليل منهم في الإقليم الشمالي .
    4- الدندرية : تنسب هذه الطريقة إلى والد الشيخ أبو العباس الدندري من أهل دندره بصعيد مصر ، وله أتباع في الإقليم الشمالي ما بين بربره وادوين وشيخ وهرجيسه ، وإذا ما وصلهم نائب الشيخ أقاموا الاحتفالات لمقدمه كان قدومه ليلة القدر ، وفي هذه الليلة يتحدث نائب الشيخ عن الزعيم الأكبر والد أبي العباس الدندري الذي يعتقدون أنه المهدي المنتظر وأنه سيحيا مرة أخرى يهدي الناس ويقود أتباعه ، كما يعتقدون أن الأقدار التي تجري مع الناس من خير أو شر عند وجوده راجعة إلى رضاه أن كانت خيرا وإلى سخطه إذا كانت شرا .
    5- الرفاعية : أتباعها قليلون ومن أشهر شيوخها الشريف العيدروسي الناضري العلوي من العرب القدامى في الإقليم الجنوبي ، وهو أول من أقام احتفالا بمناسبة ذكرى مولد الرسول عليه أطيب الصلاة والسلام ، وأغلب أتباعها من العرب المستوطنين ، ومن شيوخها الحاليين الحاج علمي بمقدشوه .
    6- المرغانية : وسماه بالختمية ، وقد أدخلها إلى الصومال الشيخ رمضان المصوع ومن بعده جاء الشيخ نور حسين المصوعي .
    وهذه الطرق الست التي أوردناها بإيجاز شديد ، لكل منها مساجد وزوايا خاصة بأتباعها في اجتماعاتهم للصلاة وإقامة حلقات الذكر وتلاوة الأدعية والأوردة الخاصة بكل منها . وقد وجدت هذه الطرق رغبة في نفوس الصوماليين المسلمين نحو التصوف وحسن اعتقادهم في الله والصالحين من أولياء الله والتوسل بهم إلى الله ، وعقيدة بعضهم في ظهور المهدي المنتظر .
    دور المتصوفين في المجتمع الصومالي
    أولا – بالنسبة للتبشير المسيحي : لقد كان لظهور الطرق الصوفية في الصومال منذ عام 1750 ميلادية على أيدي شيوخ عظماء أثر في مناهضة الحركة التبشيرية المسيحية وتحذير المسلمين منها ،والدعوة إلى الجهاد باسم الإسلام ونشر تعاليم الإسلام ، فقد أقاموا المدارس والكتاتيب (الدكسيات) والمساجد لتحفيظ القرآن الكريم وتفسير آياته الخالدات ، وقام أصحاب الطرق الصوفية في الصومال بالدعوة إلى التمسك بالدين والأخلاق السامية الإسلامية ، والتعاون الأخوي وحببوا إلى مريديهم التضحية بالنفس والمال في سبيل الدين والعقيدة فاحتلوا بذلك مكانة عظيمة عند تلاميذهم .. وكانت أوامرهم ومذاهبهم موضع الامتثال والتقدير وكانت حياة الإمام أحمد الجرى الصومالي صورة صادقة للدعوة إلى الإسلام وتدعيمها والقضاء على الحروب الصليبية التي شنتها الحبشة والبرتغال ضد الصومال الإسلامية في القرن السادس عشر .
    ولنا في السيد عبدالله حسن الثائر الصومالي مثل طيب في تدعيم الإسلام ومناهضة التبشير المسيحي والاستعمار بمختلف ألوانه وأشكاله في العصر الحديث .
    وظهر من بين المتصوفين بعض ذوي النفوس الضعيفة الذين اتخذوا من الصوفية وسيلة إلى استغلال الناس وابتزاز أموالهم ، فمنهم من فرض الأتاوات ، وأشبع شهواته ، وعمل على جمع الأموال والنساء باسم الدين ،والدين منه بريء ومنهم من كان متزوجا بأربعزوجاتوعنده من نساء السوق كثيرات ، من أمثلة ذلك رجل يدعى سليمان من جنوب عروسي عند أعلى نهر جوبا وشبيلي .. يقول بتناسخ الأرواح ، ويدعى أن الله أسقط عنه وعن أتباعه تكاليف الشريعة من صلاة وصيام وزكاة وحج ، وأباح له الزواج بمن يشاء بدون عدد . ولكن مثل هذا ونحوه لا يجدون آذانا صاغية في الصومال بل يقوم بالصوماليون بوي من أنفسهم وبخاصة المتعلمون منهم ، بالتنفير من دعوى هؤلاء بكل الوسائل .
    ولا نقصد من وراء هذا البيان أن الطرق الصوفية في الصوال تعاني مشاكل كثيرة ، وإنما قصدنا الإشارة إلى بعض المشاكل ، وهذا لا يمنع من أن نقول أن الطرق الصوفية في الصومال لها الأيادي البيضاء في كثير من شئون الصومال من مناهضة الرذائل ومحاربة التبشير المسيحي والاستعمار .
    ومن أمثلة هذا الوعي الإسلامي الصومالي ما نراه في الإقليم الشمالي من الجمهورية الصومالية الذي حارب التبشير المسيحي في البلاد ، فقد حدث في عام 1897 حينما نزل جماعة من المبشرين في البلاد وأقاموا مدرسة في بربره تحت إشراف مبشر مسيحي وأخرى في قرية ديمولي وعليها بمشر مسيحي وقد حاول المبشران ومن معها تحت الحماية البريطانية تحويل الناس عن عقائدهم الإسلامية عن طريق الإحسان وتوزيع الملابس والطعام والعلاج والماديات وغيرها من شتى وسائل الإغراء فاستطاعوا أن يجمعوا خمسين طفلا من اللقطاء ومن الأيتام وحملوهم على الدخول إلى المسيحية وأدرك الصوفيون الخطر الداهم على الإسلام ومعتقداتهم من أعمال المبشرين ، فبدأ الجهاد ضد المبشرين المسيحيين ومن معهم من رجال الحامية البريطانية .
    وقد تمكن الصوفيون من تهديم مدرسة مبشر ديمولي الذي هرب بنفسه إلى زميله في مدرسة بربره التي كانت تحت حماية القاعدة بنفسه إلى زميله في مدرسة بربره التي كانت تحت حماية القاعدة البريطانية في بربره ، وكانت الشرارة الأولى في الكفاح الشعبي المقدس حينما أطلق المبشر المسيحي في بربره رصاصة على مؤذن المسجد القريب من منزله بحجة أنه يؤذن لصلاة الفجر ويزعجه من نومه ، وإن كانت الرصاصة لم تصب المؤذن بالقتل إلا أنها أوجدت في قلوب الصوماليين انفجارا نفسيا كبيرا ، وبدأ الكفاح من أجل العقيدة والحرية والكرامة وقادهم في الكفاح الزعيم الوطني السيد محمد عبدالله حسن . فأدرك البريطانيون خطورة الموقف فسمحوا للمبشرين ومن معهم من الأطفال بالهروب إلى عدن تحت حراسة السفن البريطانية ، حفظا للأمن وتحقيقا لرغبات الشعب الصومالي المسلم ، وحفظا للمصالح البريطانية في الإقليم الشمالي من أن تنهار ، فقد أصدرت الحكومة البريطانية مذكرة إلى شعب الصومال أذاعتها السلطات الاستعمارية في هرجيسة ، وهي تحتوي على ضرورة خروج المبشرين من أي جنس بصفة عامة ، وعدم السماح لهم بعد ذلك بدخول البلاد أو بناء كنيسة أو أديرة في البلاد كلها ، وعدم فتح محلات للخمور أو السماح بتعاطي الخمور . وتعهدت بريطانيا بتنفيذ مضمون هذه النقاط السابقة لما فيها من مصالح للشعب ولبريطانيا .. وقد استمر هذا التعهد سائر المفعول حتى عام 1950 حينما أنشئت كنيسة صغيرة للجنود والضباط البريطانيين في دال المعسكر كما فتحت خمارة صغيرة في هرجيسة للأجانب .
    ولا يقل جهاد المتصوفين في الإقليم الجنوبي عن إخوانهم في الإقليم الشمالي ، فلم يعرف الإقليم الجنوبي المبشرين إلا حينما تعرضت البلاد للاستعمار الإيطالي ، وكان المبشرون يجدون مقاومة شديدة من الصوفيين والشعب الصومالي المسلم .
    وفي خلال فترة الوصاية الإيطالية على صوماليا حرضت الإدارة الإيطالية بعض الإرساليات المسيحية على إيجاد مناطق للتبشير في صوماليا وإنشاء مدارس وملاجئ ، وإن كانت هذه الإرساليات قد نشأت تحت إدارة وحماية الإيطاليين على أن تضم عددا من اللقطاء والأبناء غير الشرعيين وحولتهم إلى المسيحية ، كما وجدت في الإدارة خير مساند لها للقيامب أعمالها بصفة شرعية إذ أصدرت الإدارة الوصية قانونا يسمح للهيئات التبشيرية أن تقوم بأعمالها تحت شعار الحرية الدينية للجميع .
    وقد ظهر صراع جديد بين المبشرين وبين العشب الصومالي حنيما ظهر التبشير المسيحي على يد المبشرين الأمريكيين في أثر الضغط الاقتصادي ومع النقطة الرابعة وشركات البحث عن البترول والخبراء ومكتب الدعاية الأمريكية وغيرها . وكانت البعثة الأولى برياسة المبشر الأمريكي مورد يكروبد ، وبدأ نشاطهما في مقدشوه عن طريق تدريس اللغة الإنجليزية ، ثم تشويه معتقدات الطلاب ، والإشارة إلى المسيحية كدين للمدنية . وأراد المبشرين أني فتحوا مدارس للتبشير في مهداي وجوهر ، غير أن الشعب الصومالي في تلك المناطق رفض السماح لهيئات التبشير الأمريكية أن تزاول عملها ، وقاد حركة الكفاح ضد المبشرين الأمريكيين الشيخ الشريف محمود عبدالرحمن رئيس الرابطة الإسلامية الذي خطب في جوهر ومهداي وحث المواطنين على مقاطعة التبشير الأمريكي ومناهضة التبشير الأمريكي ومناهضة الدخلاء .
    وحينما وجد المبشران رفض السكان لإقامة مراكز التبشير اتجهوا إلى الإدارة الوصية بطلب السماح لهما بشراء قطعة أرض استنادا إلى مادة من اتفاقية الوصاية التيوضعتها الأمم المتحدة بإشراف إيطاليا والتي تنص على حرية دخول بعثات التبشير ومباشرة نشاطها في البلاد ، وقد حولت الإدارة طلب المبشرين إلى الجمعية التشريعية الصومالية للموافقة عليه ولكن المشروع رفض بأغلبية ساحقة .
    وقد ذكر الشهيد كمال الدين صلاح ملاحظتين على نشاط البعثات التبشيرية البروتستنتية الأمريكية .
    الملاحظة الأولى : (إن كل البعثات التبشيرية والشركات والهيئات الأمريكية التي تعمل في الصومال تخضع لإشراف ورياسة سفير الولايات المتحدة في أديس أبابا الذي كان في الأصل قسيسا من رجال التبشير) .
    أما الملاحظة الثانية : (فهي أن أماكن البعثات التبشيرية تتفق ومناطق البحث عن البترول مما يشير إلى أن عمل المشرين يتعلق بخبراء النقطة الرابعة ومندوبي شركات البترول) .
    ومن المؤسف أن البعثات التبشيرية الأمريكية استطاعت أن تشتري أرضا ، وأن تقيم عليها مباني ومراكز تبشير ، وعلى أية حال فنشاطهما محدود للغاية .
    ويوجد في الصومال إرسالية كاثوليكية من الإيطاليين عددها 135 عضوا وتدير نحو عشرين مؤسسة في مقدشوه من مدارس وملاجئ ومستشفيات ومطبعة ولها مراكز في أفجوى ، جوهر ، بلدوين بيدوا ، مركه بروه ، جلب ، دافيت ، وكسمايو .
    والجدير بالاعتبار أنه منذ عام 1952 أي منذ سمح لأساتذة مصريين وشيوخ من الأزهر الشريف بالعمل في الصومال في الحقل المدني والتعليم الديني ، اتسعت المدارس الإسلامية والعربية حجما وعددا مما كان له الأثر الكبير في أن تغلق بعض هيئات التبشير أبوابها وترحل من البلاد .
    ثانيا – بالنسبة لحركة التعريب : كان من أثر انتشار الإسلام في الصومال وما تلاه من ظهور الطرق الصوفية واختلاط العرب بالصوماليين أن نشأت بين أهالي الصومال فكرة التعريب ، أو إيجاد رابطة أيا كان لونها بين الصوماليين والعرب .. ومن أمثلة ذلك ما يذكره الصوماليون في كل مكان وفي أساطيرهم القديمة من أنهم من سلالة عقيل بن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تقول بذلك قبائل البشارين بين لانوبة والبحر الأحمر من أنها من سلالة عربية ويربطون نسبهم برجل يقال له بشر ، ويفسر الأحباش اسم جماعات الجالا .. فيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل رسولا إلى جدهم الأكبر (ولاب) يدعوه إلى الإسلام فرد ولاب وقال (لا) فسمى (قال لا) أو (جال لا) ومن ثم أطلق على هذه القبائل الجالا .. وقد أخذت ضد القبائل بالإسلام بعد ذلك .
    وقد رأينا الملك الحبشي ليج أياسو حينما تولى عرش الحبشة 1913 – 1916 ينكر دينه المسيحي ، ونسبة الوطني ، وينتمي إلى فاطمة بنت النبي عليه السلام ويعلن ذلك أمام الصوماليين مما دفعهم إلى لانظر إليه على أنه المهدي المنتظر ، ولكن خاب ظنهم بعد فترة قصيرة حينما تدخل الأجانب الغربيون في الشئون الداخلية للحبشة وعملوا على توطيد المسيحية في الحبشة كما رأينا من قبل .
    على أن فكرة لاتعريب ارتبط بها الصوماليون أشد الارتباط فقد كانت أكسوم عاصمة الحبشة عربية ومليكها عربيا كما كانت الإمارات الإسلامية في شبه جزيرة الصومال عربية ، وأول حكامها كانوا من العرب أيضا ، ولا أدل على شدة تعلق الصوماليين بالعربية من السيد محمد عبدالله حسن الذي كان ينتمي إلى قبيلة أوجادين باه جيري الصومالية ، فقد كان يغضبه أن ينسبه أحد إلى قبيلته ، ويجب أن يلقبه الناس بالهاشمي نسبة إلى قول الصوماليين بأنهم من سلالة عقيل بن أبي طالب ، وكان يرغب في إزالة التعصب الديني ويعمل على توحيد كلمة المسلمين والمؤاخاة بينهم ، والتأليف بين قلوبهم .
    وللسيد محمد عبدالله حسن أشعار جيدة في الفخر والبخث على الجها والاتحاد وذكر النبي عليه الصلاة والسلام ، ورسائل تعد من الرسائل القليلة في الأدب العربي . وقد أوردناجزءامنها في حديثنا عن سيرته . على أن الجدال والتنافس بي الطرق الصوفية في الصومال قد أتاح الفرصة للتعريب أن ينمو ويظهر بشكل واضح ومن ذلك الصراع الجبار بين القادرية والصالحية الذي وصل في بعض الأحيان إلى صراع دموي عنيف ، على أنه من ناحية أخرى أدى إلى قيام حركة علمية في الصومال فألف علماؤها باللغة العربية كتبا ورسائل ونظموا قصائد أكثرها من المسائل الصوفية ومن أهم ما دونوه من رسائل التصوف تلك المجموعة التي جمعها الشيخ عبدالله بن يوسف أحد أهالي بيمال وطبعها في القاهرة وهي خمس رسائل ، منها رسالة بعنوان (السكين الذابحة على الكلاب النابحة) ، وأخرى نصر المؤمنين على أهل الردة الملحدين) ، وكلتاهما تتناولان الرد على الصالحية .
    ومن القصائد العربية الممتازة التي نظمت ذلك الديوان الذي جمعه الشيخ قاسم بن محي الدين احد أهالي براوة لعدد من شعراء الصومال ، وفي هذا الديوان قصيدتان من نظم الشيخ أويس محمد البراوي الذي قتل عام 1959 على أثر النزاع الذي شب بين القادرية والمتمردين من الصالحية ، وكان قائدا متحمسا شافعي المذهب براوي المولد أشعري القصيد ، بيولي المرقد ..
    وللشيخ أويس قصيدة بعنوان حادية الأنام إلى قبرة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقول في مطلع قصيدته : إذا ما شئت تيسير المراد فصل على رسولك خير هادي وقل مستنجدا في كل ناد صلاة الله ما نادى المنادي على المختار مولانا الحماد حبيب الله أفضل من ترقى وقبره فاق كرسيا ومرقى وكان مواضع الخيرات صدقا يفوح المسك والريحان حقا لقبر محمد نور الفؤاد
    ويختم قصديته بقوله : ورحمتنا ونعمتنا وبشرى وعصمتنا بذي الدنيا وأخرى وتسلمي عليه يفك عسرا وخص الآل والأصحاب طرا مع الاتباع ما نادى المنادي
    ومن قصيدته له في جماعة الشيطانية : صلى على محمد وآله وأصرف بهم من كل سوء داهية من اقتدى محمدا بشرعه لا يقتدي جماعة شيطانية هم المبيحون دماء العلما والمال والحريم هم إباحية ويمنعون الدرس للعلوم كالفقه والنحو ، هم الكرامية
    ومن قصيدة له في مدح الرسول وقد رآه في الرؤيا :إن شئت نيل الشفا تعد من كل شر بإذا وتوجد فصل دوما على الممجد يارب صلي على محمد نبينا أشرف الأنام وأنه قائد الأماثل وأشرف الرسل الأفاضل ومعدن الجود والفضائل وكان جالسا في المحافل والناس خلفه بازدحام يارب سلم على الممجد المصطفى المجتبى المؤيد مع الصلا تفشاه سرمد يارب صلي على محمد ماغدرت فحول الحمام
    ومن شعراء الصومال العظام الشيخ عبدالرحمن الزيلعي وله قصائد صوفية رائعة منها (سراج العقول والسرائر) في التوسع بالشيخ عبدالقادر الجيلاني .. يقول في مطلعها . يا غوث أعظم قم لنا غوثا مددا يا بان أشهب هب لنا خيرا أبد يا محيي الدين أحينا يا معتمد يا سيدي كن لي ظهيرا بالمدد يا سيد السادات عبدالقادر
    ويختم قصديته التي تضمنت ثمانية وثمانين بيتا بقوله : فضل رسول الله خير من عفا محمد خير الأنام المصطفى مظهر دين الله طه من صفا وآله وصحبه أهل الصفا من ذكرهم أمن لهول محاشر
    وللشيخ عبدالرحمن الزيلعي قصائد أخرى من أهمها قصدية روح العاشقين في مدح سلطان العارفين محيي الدين عبدالقادر الجيلاني وللرد على المنكرين .
    وللشيخ عبدالرحمن الشاشي نسبا لامقدشي مولدا القادري طريقة الشافعي مذهبا ، الأشعري عقيده من قصيدة له (مرفأ الرسول إلى حضرة الرسول) قال في مطلعها : إن دهاك الهم أو خطب جرى قم ولذ بالمصطفى خير الورى وينظم الصلحا تلق القرى و صل يارب على عالي الذرى سؤدد أفضل من داس الثرى
    وهذه القصيدة تحوي مائة وثلاثين بيتا من الشعر الجيد . وله عدا ذلك قصيدة بعنوان (الشوق لأهل الذوق) وقصيدة (مهيجة الأفراح) مترجمة إلى لاشعر السواحلي بالإضافة إلى القصائد التي نظمت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أو الرد على لاكافرين أعداء الصوفية فإن هناك أغراضا كثيرة قال فيها شعراء الصومال في الفخر والرثاء والمدح والوصف والغزل وغير ذلك مما نعتزم البحث عنه والإفاضة فيه في كتاب خاص بالشعراء والأدباء الصوماليين باللسان العربي .
    ومن الأشعار الخفيفة الوزن لشاعر صومالي يتحدث عن الصوماليات من بنات زيلع قائلا : يا ملى عن زيلع وعن طريق الحبشة صحبها زصيفة بحسنا مشربشة تذكر ان أصلها من فتيات الأنجشة وعمها الخال فينا طوبي لمن تدخشه وخدها لو مر فيه الوهم يوما خدشه
    وبجانب الشعراء الصوماليين نجد الكثير من الأدباء الصوماليين باللسان العربي كالفقيه البليغ فخر الدين أبى عمرو عثمان بن علي بن محمد البارعي الزيلعي الذي قدم القاهرة في القرن الرابع عشر ونشر الفقه فيها ومات بها وله شرح كنز الوثائق في كتاب سماه (تبين الخافقين في شرح كنز الوثائق) ومن المؤرخين الصوماليين باللسان العربي شهاب الدين الملقب بعرب فقيه وله كتاب (فتوح الحبشة) ومن الأدباء البارعين عبدالله منير الزيلعي وغيهر كثير ممن كانت كتبهم تحملها الجمال غلى الخلفاء في اليمن .
    وقد ظلت اللغة العربية هي لغة التسجيل والتدوين والمراسلات في العهود والاتفاقيات وغير ذلك سواء في داخل البلاد أو مع الدول الخارجية منذ فجر التاريخ حتى القرن الماضي . والقلم العربي هو القلم المعروف لدى الصوماليين دون غيره قبل ظهور الاستعمار في الصومال .
    وفي ركاب الاستعمار ظهرت لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والأمهرية ، ومع هذا فالغلبة للسان والقلم العربي .
    فالمجتمع الصومالي الإسلامي يحمل بعض انطباعات الثقافة العربية في كثير من أشكاله وألوانه ، وخاصة ان الدين الإسلامي أصبح أساسي التشريع والقضاء في الحياة الصومالية ، ومصدر القيم الروحية . وبما أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع وتنظيم المجتمع كانت لغة القرآن أمرا ضروريا لتفهم أركان الدين الحنيف ومن ثم صارت اللغة العربية ضرورة تحتم على كل صومالي مسلم أن يلم بها لبناء مجتمع إسلامي أفضل ، يتفهم دينه الحنيف ، وقد ظهر من الشيوخ والشعراء والأدباء وغيرهم من اتجه إلى كتابة اللغة الصومالية بالحروف العربية ، ومن زعماء هذه النهضة الشيخ أويس بين شيخ حاج محمد البراوي ، البيولي المرقد في منطقة حدر وقد كتب قصائد ورسائل متعددة باللغة الصومالية (بالحروف العربية) منذ نصف قرن مضى ومن أشهرها وأقيمها ما قاله عن فترة الاستعمار الصوماي الإيطالي في الصومال ، وقد سماها بعجائب الظهور وقدم لها بشروح عربية وهي توضح لنا جانبا من جوانب كفاح الشعب الصومالي ضد الاستعمار في بداية دخوله الراضي الصومالية وفيها وصف للمعارك الحربية وما جرى من الأحداث بين لاقبائل والدراويش على نحو ما ستراه في الجزء الثالث لهذا الكتاب ، وقد راينا أن نسجلها من النسخة الخطية الوحيدة للشيخ أويس للذكرى والتاريخ والتعريب ومنها :أحذ شيكي إيطاليان وأمحى أبو مالند\ليدى خميس حربين مهما هي دنمالكي أنتوا حربين انتوفير مينا نضاعي يل ين
    والقصيدة التالية عن كتاب المستشرق الإيطالي ماتبنو م. مورينو بنصها العربي في كتاب (صومالية صوماليا) ، وهي للشيخ عويس وهذا نصها :النص الصومالي معناه بالعربية لا إله الهكليتوماب يالو لا إله سواه إلا الله لا أبوكي وبين ماي لا إله إلا الله .. ربنا الكبير إيمان الوكا ، إيمان ملايكا ، إيمان كتابكا الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه إيمان رسولك ، إيمان قيامكا ، قدر لهاي الإيمان بالرسول ، ويوم القيامة وقدره بني إسلامك شهادة إقرارك رب مينين بنى الإسلام على الإقرار بالشهادة بالرب فرض صلاتك واجب لها يا سو صلاننين فرض الصلاة واجب ، نصوم ونصلي إسلام شيغنين ، شرع أو غينين كدلينين ننشر الإسلام ، نعرف الشرع ، ونحرص عليه إسلام لعاتنا كفر فاجر كأساس لشيفو الإسلام يلعن الكافر الفاجر ، هكذا قيل عجب لها يا أبو جهلك صلاه كروري عجب أن أبا جهل يفر من الصلاة دارتو جحيما كهرومادي أي كروري؟ يدع إلى نار الجحيم فأين المفر؟ ذكاه ليبنين ، زيادا دونين ، زور طائفتين لندفع الزكاة لنلتمس الزيادة لتجنب الزور زوجة ويلنين ، زيونك طورنين كاركاقاتنين لنتزوج ، لتحس الصحبة ، لتلبس الملابس أنيقينينا ، توحيد نورمشو كفول طواني شيء مؤكد ، نور التوحيد ، تمسح به وجهنا تسبيح طورنين رب جنادا تلابسداني المواظبة على التسبيح تعني السير إلى رياض الجنة
    وللشاعر والأديب المجاهد السيد محمد عبدالله حسن الذي شن حربا شعواء من أجل الاستقلال خلال ربع قرن من الزمان ، قصائد ورسائل تعد من الأدب البليغ قد كتبها باللغة الصومالية وبحروف عربية وسنذكر هنا بعض أبيات من قصيدة له مع ما يقابلها بالعربية : النص الصومالي معناه بالعربية أف يكيل كفرك أرى أيكي نيء لقد جذبتني رائحة المستعمرين القذرة أخباز في طريق كومي أولح أقادي إلى أفيكيل وما فعلوه بالمجاهدين الأحرار ألوف أيو الون كوى أخوتي ييء يالله ! كم ذبحوا الوفا والوفا من الصبية والبنات ومن إبل وأغنام أي ادون كيك صفى أرى أيوء جيليبا كان هذا ! وأسفاه بمساعدة بعض الخونة اختيارك نمنكا كفرك اجواد يجاجة الذين يساعدون المعتدين باختيارهم وليسوا مكروهين على ذلك آن لجوء اكراهين كلجعل جفر ابرارية لابد من قتل الخونة مهما نطقوا بالشهادتين الشهادة آن جرن كد أي أن سح مي سوء لأن الإسلام بريء من الخونة العملاء
    وتلمح في هذا الشعر مدى إيمانك هذا الزعيم الشاعر بوطنه ومواقفه الصارمة من الخونة مهما احتموا بالإسلام ونطقواب الشهداتين كما تصور لنا الأبيات مدى يقظته إلى أن وجود الاستعمار في أي منطقة كفيل بأن ينبه حاسة خفية عند الشاعر تجعله لا يلوي على شيء ، ثم هذه اللمحة الذكية إلى طبيعة الخونة وأنهم لا يجبرهم أحد على الخيانةوإنما هي صفة نفسية واستعداد دنيء ، وهذا ما يدفعهم إلى مساعدة المستعمر ضد أبناء بلدهم ووطنهم .
    موقف الإدارة الإيطالية (أثناء فترة الوصاية) من حركة التعريب :
    عرفنا شيئا عن حركة التعريب وعن لغة الكتابة التي كانت معروفة في سائر البلاد لدى الصوماليين منذ الأزمنة القديمة حتى دخول الاستعمار إلى شبه جزيرة الصومال وما تلاه من تقسيم الوطن الصومالي إلى خمس وحدات سياسية تتكلم الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والأمهرية مع المستعمر الذي جعل هذه اللغات هي لغة الإدارة والوظائف بجانب اللغة الصومالية والعربية .
    وتحول التيار العربي بعد أن كان لغة الإدارة والتسجيل والمراءلات والعهود قبل الاستعمار إلى لغة التخاطب والتفاهم والمكاتبات بين الصوماليين والعرب ، وكان هذا التحول لا عن رغبة من الصوماليين أو اتجاههم ،وإنما عن مخطط استعماري الهدف منه تحويل التيار الثقافي العربي الإسلامي في الصومال إلى تيار ثقافي غربي سواء بالإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية بغية ضم المنطقة إلى نفوذ أوروبا والثقافة الأوروبية وأن يتجهوا بعقولهم وقلوبهم إلى أوروبا ريثما تتهيأ الفرص السانحة للمبشرين لتحويل الشعب من الإسلام إلى المسيحية ، وبذلك تصل أوروبا إلى هدفها وهو خلق مجتمع إفريقي مكمل للمسيحية الحبشية وتكون وسيلة لاندماج الصوماليين والأحباش في دولة مسيحية كبرى في أفريقيا ، يمكن الاعتماد عليها في تحقيق آمالها في أفريقيا وأبعادها عن العالم الإسلامي والكتلة الشرقية الإسلامية بصفة خاصة .
    وحينما أدرك المستعمر أن ربط الشعب الصومالي المسلم بعجلة الغرب سواء في التبعية الثقافية أو اللغوية أو الديانة أصبح شيئا مجالا وأن الشعب أعلن في مناسبات عديدة عن تصميمه على اتخاذ اللغة العربية لغة أساسية للتعليم في المدارس وفي الإدارة ، كما كان عند أجدادهم السابقين بجانب لغة الأم وهي الصومالية – فتحول خبراء الاستعمار الثقافي إلى غاية أخرى هدفها أيضا ربط الثقافة الصومالية بالغرب وهي أن تكتب اللغة الصومالية بحروف لاتينية ، غير أنهم وجدوا أيضا مقاومة شديدة من جانب زعماء البلاد واستمرت الحياة الصومالية في تخبط وتعثر بين اللغات الدخيلة القادمة مع الاستعمار واللغة العربية الوافدة مع الدين الإسلامي الذي يدين به الشعب ، وهي لغة القرآن الكريم وسيرة الرسول والفقه والشريعة والعلوم الإسلامية وغيرها .. وبين حنينهم إلى كتابة لغة الأم (الصومالية) لتكون لهم لغة مكتوبة . واستمر هذا الصراع الثقافي واللغوي منذ (حوالي 1884) حتى إنشاء أول مجلس إقليمي في صوماليا في يناير 1951 ، إذ ناقش المجلس الإقليمي في جلسة 7 فبراير مشكلة اللغة على ضوء الاستفتاء المقدم بشأن اللغة العربية كلغة رسمية للدولة ، فأعلن الحاكم الإداري أن الإدارة ستأخذ بالإيطالية والعبية في المدارس والمكاتب واستعمال الصومالية في المعالمات – ولكن كان إعلان الحاكم عن اللغة العربية يكتنفه الغموض ، لذلك تقدم المستشارون : معلم حسن – دعاله فهمي – شيخ عبدالله شيخ محمد – حاج مسن أحمد – حاج عبدالله – أمين محمود أحمد – وجاني عمر – عبدالرحمن علي عيسى – إمام عمر علي – حاج موسى بفر .. بطلب تصريح واضح في صورة قرار بأن اللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم ومكتوب بها دين الصوماليين يجب أن تكون اللغة الوحيدة بجانب اللغة الإيطالية في المدارس وفي المكاتبات الرسمية . فوافق المستشارون جميعا على ان تكون العربية لغة صوماليا الرسمية نظرا لأهمية اللغة العربية في القطر الصومالي بالنسبة للغات الأخرى سواء من الوجهة الدينية أو من الوجهة العملية في الحقل الدولي .
    غير أن رئيس المجلس أعلن أنه سيفحص تدريجيا كل وسيلة ليخرج من اللهجات الصومالية المختلفة لغة يمكن أن يتكلم بها الشعب ، لتكون لغة رسمية قومية ،وكان هذا داعيا لأن يثور الشعب خارج المجلس الإقليمي وامتدت الثورة إلى أنحاء كثيرة خارج العاصمة مما جعل رئيس مجلس الإدارة الوصية يقول في حفل افتتاح الدورة الثانية للمجلس الإقليمي في 4 اكتوبر 1951 (إنني أعجب من التشويش الذي يراد ترويجه في حدود مسألة من هذه المسائل التي أجرى عليها البحث من قبل في المجلس الإقليمي وحلت من طرف الإدارة إلا وهي مسألة اللغات – فاللغات التي خصصت للتدريس شيء بينما اللغات الرسمية شيء آخر) . ثم قال (أن اللغة الإيطالية هي اللغة الوحيدة التي يمكن للصوماليين بواسطتها أن يتعاملوا مع الإدارة الإيطالية والتقدم في شتى فروع الحياة العمومية ، والتخصص فيها ، وفي الخلاصة القيام بإدارتها . وأما اللغة العربية فإنها لغة الدين التي يمكن للصوماليين بها التفاهم مع إخوانهم العرب .. وفيما يخص اللغة الرسمية للدولة فعلى الجمعية الشتريعية المقبلة (1956) أن يختار لغة صومالية وستحل المسائل المتعلقة باللغة الصومالية من قبل منظمة الأمم المتحدة لليونسكو) .
    وبذلك فرض الحاكم العام الإداري اللغة الإيطالية كلغة الإدارة والأعمال الحكومية والرسمية وما أشبه بذلك . أما العربية فهي للتفاهم بين العرب والصوماليين .. وأن خبراء اليونسكو سيقومون بكتابة الصومالية بالحروف اللاتينية .. وأن هناك فرقا بين لغة الإدارة ولغة التدريس .. أي أن لغة الحكومة وملحقاتها هي الإيطالية ، أما في التدريس فإن العربية سيكون لها شأن آخر ، وفي الوقت الذي يفهم فيه الزعماء بأن التدريس سيسير وفق مطالبه نرى الحاكم يرسل منشورا دوريا في اليوم التالي إلى كافة حكام الأقاليم والنواحي وهم من الإيطاليين ... تحت رقم سري وعاجل .. بأني قوموا بمراقبة المدارس التابعة للإدارة الإيطالية وأن تكون اللغة العربية لغة ثانوية ليس لها تأثير على ثقافة التلاميذ ، وفيالوقت نفسه ، يكون التعليم في المدارس التابعة للإدارة الإيطالية وأن تكون اللغة العربية لغة ثانوية ليس لها تأثير على ثقافة التلاميذ ، وفي الوقت نفسه ، يكون التعليم في المدارس مقصورا على أبناء الحكام ورجال الدولة والشخصيات البارزة الموالية لإيطاليا التي يمكن أن تحتل مراكز هامة في الحكومة المقبلة ، وإذا اضطر الأمر فلا مانع من دخول طالب أو اثنين من أبناء العامة بهدف إظهار أن العلم للجميع ، وإجراء ذلك بما ينساب من وسائل على أن تكون هذه النشرة سرية للعلم والتنفيذ (ونص الرسالة موجود في كتاب : Punkhurst, E.S. : Ex-Italian somaliland, 1951
    ومن هذا العرض الموجز للخطط التي وضعتها الإدارة الإيطالية من تدعيم نشر الإيطالية وجعل العربية لغة ثانوية وفي الوقت نفسه تعمل على خلق جبل جديد من الموظفين والإداريين ذو الثقافة الإيطالية على أن تقوم نزعة جديدة بدافع الإلهام والإحساس الوطني بأن اللغة الوطنية يجب كتابتها بحروف لاتينية لتسير وفق الثقافة الغربية من ناحية ، ولبلبة الأفكار من ناحية أخرى ، ولا مانع من تشجيع كتابة اللغة الصومالية بحروف عثمانية أو عربية على أن يكون ذلك مجالا للتنافس خلال فترة الوصاية ، وينتهي الوضع بمحور جديد بتسمم بالقق يكون مضادا لرغبات المحور الأول الذي تثقف وتشبع باللغة الإيطالية فتكون النتيجة اختيار الحروف اللاتينية أو فوضى ثقافية بمعنى أدق تكون منار القلق الدائم لحكومة المستقبل .
    وفي عام 1955 قبل أن يظهر المجلس التشريعي الأول لصوماليا ظهرت نزعة جديدة لكتابة الغة الصومالية بحروف عثمانية ، هذه لنزعة دخلت إلى مجال الدعاية الحكومية والإدارة ، نحو استعمال الحروف العثمانية في كتابة اللغة الصومالية ، حتى إذا ما تكون المجلس التشريعي كان الجو اللغوي الجديد يتسم بعدم الاستقرار ، واستمر الحال كذلك حتى أعلن قيام الجمهورية الصومالية في أول يوليو عام 1960 .
    وفي أكتوبر 1960 تكونت لجنة اللغة الصومالية وبدأت أعمالها في 2 نوفمبر من نفس العام ، وهي من ثمانية أعضاء صوماليين فقط لهم خبرة فنية في معرفة اللغة الصومالية ، وانقسمت اللجنة إلى من يؤيد الكتابة بالحروف العربية ومن يؤيد الكتباة بالحروف اللاتينية .
    وفي شهر مارس عام 1962 ظهر كتاب الصومالية بلغة القرآن (محاولة وطنية لكتابة لغة الأم وضع الأستاذ إبراهيم حماش محمود .. وقد جاء في الفصل الأول بعض الكلمات المشتركة بين الصومالية والعربية المأخوذة من كتاب الله العزيز وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا ذلك آيات قرآنية وأحاديث شريفة وقدم لها شروحا بالعربية والصومالية .
    ثم تعرض المؤلف إلى لاكلمات والعبارات والجمل المشتركة في اللغتين فيما يشبه القاموس المشترك ، وهو لا شك مجهود جبار ومحاولة وطنية ناجحة لكتابة اللغة الوطنية بلغة القرآن الكريم .
    وفي مقدمة الكتاب .. أشار المؤلف إلى الأسف الشديد لضياع كثيرمن التراث الفكري والحضري لعدم وجود لغة مكتوبة وطنية ، وناشد أبناء وطنه الإسراع نحو كتابة لغتهم الوطنية بلغة القرآن الكريم للمحافظة على القومية الصومالية والنهوض بها إلى مستوى رفيع من الحضارة والمدنية .
    ويشير المؤلف إلى لابواعث والدواعي لاختيار الحروف العربية لكتابة اللغة الصومالية .. قائلا (إن اللغة الأمهرية ليست لغة ثقافة ، فلم تكتب بها علوم ولا آداب كما أنها لغة ميتة مقصورة على بلاد الحبشة لا تتعداها حتى إلى أقرب البلاد إليها علاوة على أن دراستها لم تبلغ بعد المرحلة العالية من التعليم . أما اللاتينية فعلاقة الصومال بها علاقة استعمار ، فالاستعمار هو الذي أتى لنا بها ، وفرض علينا دراستها فرضا ، واليوم وقد تخلصنامن شبح الاستعمار السياسي وجب أن نتخلص من آثاره ورواسبه ، واللاتينية تذكرنا دائما بأعمال الاستعمار وبقاء سيطرته علينا فكريا وغير فكري فضلا عن أن التبشير والكنائس ترعى اللاتينية وتروجها فكريا وغير فكري فضلا عن أن التبشير والكنائس تحت ظروف الإغراء واستغلال الحاجة إلى المال ، ولا فائدة من اختراع كتابة جديدة تستغرق تسويتها وبحث حروفها سنوات طويلة في هذا الوقت الذي نريد أن نسابق الزمن في السير إلى الأمام ، كما أن هذه الحروف الجديدة تكلفنا القيام بأعمال وجهود صعبة لسنا في حاجة إليها . ولذا اخترنا لكتابة لغتنا حروفا جاهزة معدة بأدواتها وآلاتها ومطابعها وسائر حاجاتها الأخرى) وعليه فإن الحروف العربية هي أنسب الحروف لكتابة لغة الأم للأسباب التالية علاوة على الأسباب السابق ذكرها :
    1- إن شعبنا مسملم يحتاج دائما إلى دراسة الدين وقراءة القرآن الكريم بلغة الدين وهي العربية ودراسة الدين واجبة بنص الدستور . 2- إن كل الأقطار الصومالية إلى العربية أقرب منها إلى أي ثقافة أو لغة أخرى فالعربية موجودة ومألوفة على حد سواء بها يتلى القرآن في الكتاب (الدكسي) وبها تدارس أحكام الشريعة الإسلامية وسنة النبي السكريم . 3- إن كتابة الصومالية بالحروف العربية يجعلنا على صلة وثيقة بالثقافة الإسلامية بسبب التشابه الخطي بين الكتابتين . 4- إن وعينا بالقرآن بالحديث الشريف يظل باقيا دائما في ذاكرتنا طالما تكتب الحروف العربية ، يخلاف أي لغة أخرى فقد يؤدي هذا على مر السنين إلى الابتعاد التدريجي عن لغة ديننا . 5- إن اللغة العربية تعتبر عبر اللغات الحية في العالم ومن هنا كان من السهل الحصول على مطابعها وسائر أدوات الكتابة بها يسر وسهولة ، الأمر الذي يوفر لنا مجهودات ضخمة ونفقات باهظة يتحتم علينا القيام بها لو أننا شرعنا في اختراع حروف جديدة . 6- إن أي مثقف صومالي لا بد أنه تعلم مبادئ العربي وعرف كتابتها وعلى هذا يمكننه أن يكتب لغته بنفس الحروف التي تعلمها في (الدوكسي) وهو صغير وبذلك يوفر على نفسه المجهود الذي يضيعه في تعلم لغة أخرى لا يتكلمها هو ولا شعبه . 7- إن هناك شعوبا إسلامية تكتب لغتها بالحروف العربية مثل الباكستان وإيران والملايو وغيرها لنفس السبب . 8- إن اختيار الكتابة العربية يجعل علاقتنا مع العالم الإسلامي باقية ودائمة باعتبارها لغة المسلمين أثر مما لو أخذنا كتابة حروف أخرى . 9- لو كتب الصومالية باللاتينية لاحتجنا إلى جيش يعد بالآلاف من المعلمين الأجانب هذا وفضلا عن أن ذلك يحمل الخزانة الصومالية نفقات باهظة جدا تجعل من الصعب تحقيقها وتحتاج لفترة طويلة جدا تستغرق أكثر من ثلاثة أجيال لأن تكون مفهومة بمراجعها وقواميسها ... إلخ . 10- لو اختيرت حروف غير العربية في كتابة الصومالية فمعنى هذا أن الطفل في المدرسة الابتدائية سيقتصر في دراسته عليها ، لأنه لايمكن أن يقوم بدراسة لغتين في وقت واحد في مرحلة الطفولة ، كما يقول التربويون ومعنى هذا أننا سنحرف الأطفال عن دراسة الدين الإسلامي بالعربية أي أن الجيل التالي سيكون بعيدا عن الدين الإسلامي وهذا مايهدف إليه الاستعمار والمبشرون .
    الفصل السابع الصومال ومصر في القرن التاسع عشر
    لعب البحر الأحمر دورا كبيرا في الحركة التجارية في القرن التاسع عشر ، نيتجة لاكتشاب قوة البخار وزيادة عدد السفن التجارية ، وخاصة بعد شق قناة السويس في نوفمبر 1869 كأقصر طريق ملاحي بين لاشرق والغرب .. ومن ثم ظهرت اتجاهات دولية جديدة نحو السيطرة وسط النفوذ على هذا الطريق التجاري ، فنشأ صراع بين الدول الأوروبية الاستعمارية والدول التي تشرف أو تسيطر على هذا الطريق المائي العالمي .
    وكانت الدولة المصرية منذ عهد محمد علي باشا تعمل على خضوع هذا الطريق المائي العظيم للدول الإسلامية التي تشرف عليه ، وكان الوصول إلى هذا لاهدف يستدعي إقامة وحدة إسلامية حتى يمكن التغلب على المناورات الأجنبية وأي اعتداء خارجي .
    وقد اتضحت هذه السياسة بصفة خاصة في عهد اسماعيل باشا حين ظهر اتجاه نحو تحقيق الوحدة الإسلامية بطريقة عملية لدول شمال شرق أفريقيا ، المتصلة بحوض النيل وسواحل البحر الحمر وشبه جزيرة الصومال ، على أنه مما يدعم هذه الوحدة الإسلامية طبيعة الدين الإسلامي نفسه ، الذي يدعو إلى الوحدة والتآخي في سبيل الله والوطن ، بالإضافة لوحدة الأصول الجنسية ووحدة المعايير الثقافية والاجتماعية واللغوية والمصالح المشتركة في مجالات الاقتصاد والثقافة الإسلامية وغيرها ..
    وكانت الخطوة الأولى في سبيل تنفيذ مشروع الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا ، أن امتدت الحدود المصرية على طول حوض النيل حتى هضبة البحيرات . وحينما ضم ميناء سواكن وميناء مصوع على لاحبر الأحمر إلى الإدارة المصرية في ذي الحجة 1281 بالاتفاق بين مصر والدول العثمانية .
    ولمي كن الهدف من تنفيذ هذا المشروع الإسلامي أن تضم مصر مساحات جديدة لممتلكاتها بالتوسع الحربي ، أو إنها حركة سيطرة أو بسط النفوذ أو وضع يد على مصادر الثورة في البلاد ، أو فتح سوق لها ، أو إيجاد مكان لامتصاص الأعداد الزائدة من أبناء الشعب عن حاجة البلاد المصرية . وإنما كان الهدف إيجاد وحدة إسلامية تحافظ على لادين من ناحية ، ومن ناحية أخرى لتحول دون الاحتكار الأجنبي لمصادر الثروة في البلاد ، أو السيطرة على الطريق البحري القصير من الشرق والغرب عبر أراضي الدول الإسلامية . وهي حركة إسلامية إنسانية قائمة على علاقات أصلية قديمة قدم التاريخ ، ممثلة في العلاقات الروحية والإنسانية والتعاونية المشتركة ، كما تنص عليه روح الدين الإسلامي ، وفيها إنكار للذات ، وفيها نشر للمدنية ، وبذل المال والجهد في سبيل التقدم الحضري للدول الاتحادية الإسلامية .
    وفي 8 أكتوبر عام 1867 أعلن عن امتداد الإدارة المصرية الإسلامية على طول النيل وسواحل البحر الأحمر حتى رأس حافون في شبه جزيرة الصومال وانشترت الأعلام المصرية دليلا على بدء المرحلة التفنيذية العملية لمشروع الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرقي أفريقيا .
    الإدارة المصرية في بربره وملحقاتها
    بدأ عمل الإدارة المصريةف ي بربره وملحقاتها تحت ظروف تتسم بطابع الدسائس والمؤامرات ، فقد أدركت بريطانيا أن وجود الإدارة المصرية على سواحل الصومال تحد من نشاطها ، فن عدن من ناحية ، وتحول دون احتلال مراكز استراتيجية أو تجارية علىس احل الصومال من ناحية أخرى .
    فأسرع المقيم السياسي البريطاين في عدن بإرسال بعض أعوانه إلى بربره لإيقاع الفساد بين القبائل الصومالية من ناحية والمصريين من ناحية أخرى بغية إبعاد المصريين عن ساحل الصومال الشمالي ، وقتل فكرة الوحدة الإسلامية في مهدها قبل أن تترعرع ويصعب ضبطها أو السيطرة عليها .
    ومن رسالة بعث بها الحاج أمان أغا معاون محافظ مصوع إلى الخديوي إسماعيل في محرم 1285 هـ - 11 إبريل 1868 يمكن أن نتفهم سياسة الدسائس والمؤامرات التي تقيمها بريطانيا على ساحل اصومال . يقول الحاج أمان أغا في رسالته : إن (تاجرا من أهل بربره يقيم بعدن قد أرسله الإنجليز إلى بربره وقال لأهلها : كيف قبلتم رفع علم السلطان مع أن تجارتكم مع عدن التابعة لإنجلترا ، وكان الأولى بكم أن ترفعوا العلم الإنجليزي بلاد من علم السلطان ، ولو فعلتم لبنيت لكم مدينة بربره بناء حديدا وإن التاريخ يدل على أن هذه البلدة لم تتبع الدولة العثمانية ، وعليكم أن تنزلوا علم الدولة العثمانية وأنا أبني لكم مساكنكم ، وأجعل منكم حكاما عليها ، وقد خدعوا بكلماته ، ورضوا أن يكون عليهم شخص يدعى حسن عينه الإنجليز ، وأعطى التاجر لأهل بربره 60 جملا و120 قرشا نقدا وثلاثين جوالا من الأرز الأبيض إعانة لهم ، ثم أخذ العهد عليهم ، وسافر إلى عدن حيث سلم العهد المكتوب إلى واليها) .
    ونتيجة لهذه المؤامرات البريطانية انقسم سكان بربره إلى مجموعتين : مجموعة بزعامة قبيلة (بهوه) التي رفضت وضع أي علم على بربره ، ومجموعة بزعامة قبيلة (بعيلة) التي ترغب في رفع علم السلطان المسلم . ونشب شجار عنيف بين المجموعتين ، أسفر عن قتل ثمانية أفراد من قبيلة (بهوه) الذين استنجدوا بالقوى الإنجليزية الموجودة في عدن ، غير أن أكثر شعب بربره وهم من قبيلة (بعيلة) قالوا للمندوب الإنجليزي : (عليكم بإنزال العلم إذا كان في مقدوركم) . فقام عملاء الإنجليز بمهاجمة طابية بربره والاستيلاء عليها وأنزلوا العلم .
    وفي نفس الوقت كانت السفن المصرية تحمل جمالي بك لتهدئة الحالة في بربره ، وإعادة الروابط المتينة بين القبيلتين ، وقام فور وصوله بدفع دية القتلى وآخى بينهما ، ويذكر جمالي بك أثناء إقامته في بربره أن سفينة إيطالية قدمت الميناء ، وأهالي بربره حالوا دون وصولها إلى غايتها فاتجهت إلى ميناء عصب حيث استوى جنودها على الميناء بقوة لتكون نواة لنشاطهم الاستعماري في شرق أفريقيا .
    وفي مصر كان شريف باشا يرد على احتجاج المقيم السياسي البريطاني في عدن على وجود المصريين في بربره بقوله (إن هذه البلاد تتمتع بالتبعية التركية ، وأنها ضمن تنازل الباب العالي عن مديرتي مصوع وسواكن وملحقاتهما ، وإن حقوق مصر على هذه البلاد ثابتة لا شك فيها) . وكان منهج الحزب الوطني المصري بزعامة مصطفى كامل المطالبة بزيلع ومصوع وهرر .
    حالة المواني الصومالية
    اهتمت الحكومة المصرية بالإشراف على حدود الدول الاتحادية الإسلامية ، وتقوية العلاقات بين مصر والصومال بصفة خاصة ، ومن أجل ذلك أرسلت الحكومة المصرية بعثة برياسة أحمد باشا مختار الذي عين محافظا لسواحل البحر الأحمر – من مصوع إلى بربره – لزيارة المواني الصومالية ومعرفة حاجياتها ، ووسائل الإنماء لها على صورة تقرير بأخذ به أثناء إجراء التحسينات والتنظيمات المناسبة . وقد قام مختار باشا من مصوع إلى رأس حافون وقدم تقريره إلى خديوي مصر في 24 محرم 1288 هـ الموافق 16 مارس 1871 . ويذكر التقرير (الوصول إلى بلهارا الميناء الصومالي في 23 رجب 1288 وكانت حركة الميناء حركة موسمية ففصل الشتاء هو موسم العمل والنشاط في الميناء ، أما في فصل الصيف فإن السكان يتجهون إلى الجهات المرتفعة في داخل البلاد التي تحيط بالميناء تقريبا ، وكان أهلها في شجار دائم ، لذلك أتجه إليهم جمالي بك وأصلح بين القبائل . ودفع دية القتلى لعجزهم عن أدائها ، وصرف لهم 772 ريالا معونة لهم وخصص 216 ريالا سنويا كراتب لستة وثلاثين شخصا يقومون بحماية العلم المصري في ميناء بلهار) .
    (وميناء بلهار يعتبر مركزا ممتازا ، تأتي إليه السفن العربية بأعداد كبيرة ، وكذلك سفن حضرموت واليمن حاملة الأرز الهندي ، والتمر البصري ، والأقمشة ، والتمباك والحديد والخام ، والنحاس ، وأنواع الخرز ، والقصدير حيث يقوم الأهالي بتصنيع بعض الأدوات البسيطة كالسيوف ورأس السكين وغيرها) .
    ويرد إلى ميناء بلهار إنتاج الدخيل القاري من جهات هرر والحبشة ، محملة بسن الفيل ، وريش النعام ،والأقمشة ، من شغل هر والصمغ والمسلى واتلتمر واللبان والمواشي ، كالأبقار ، والأغنام ، والخيول ، والبغال ، والحمير . (ويقدر عدد سكان بلها نحو خمسة آلاف نسمة) .
    وجاء في التقرير عن ميناء بربره أنه أكبر مواني ساحل الصومالي على خليج عدن ، ويبلغ طول المدينة ميلا ، وعرض المنطقة الخلفية نحو ميلين ، وأن مدينة بربره تقع في مقابل عدن ، والمسافة بينهما نحو 150 ميلا في خط أفقي ، وقد قدر عدد السكان بأربعمائة نسمة ، ولولا الخلافات بين السكان لزاد عددهم إلى الضعف . وقد قام جمالي بك بدفع دية بين 72 شخصا بواقع 60 ريالا لكل قتيل من القبائل وأصلح بين السكان .
    وجاء في التقرير أن ميناء (تجره) على خليج تجره ، وأن له مدينة متسعة تقع في منتصف الساحل الشمالي للخليج ، وبها منازل من القش وسبعة مساجد مبنية بالحجر ، وبئر ذات مياه عذبة ، وأراضيها تنتج النخيل والقطن ، ويقدر عدد سكانها بألف نسمة يعملون في التجارة مع اليمن .
    وقد قام جمالي بك بدفع استحقاقات شيوخها ، ونظم حراسة العلم بها بمرتب لثلاثة أفراد ، وصرف إعانات للفقراء وعلماء البلاد .
    ويشير التقرير إلى تعهد الأهالي من قبائل بلهار وبربره وشيخ تجره وشيخ رهيطة بقبول الصلح فيما بينهم ، وأن تسود المحبة والعمل المشترك فيما بينهم ، على أن تتعهد مصر بدفع استحقاقات الشيوخ بواقع مرتبات منظمة لهم وللفقراء والمحتاجين ، وكذلك بالنسبة للقائمين بحفظ علم الحكومة وحمايته .
    من أجل تعمير بربره وملحقاتها
    تعليمات الحكومة المصرية وأعمالها : أولا ..صدرت أوامر من الحكومة المصرية في 18 من جمادي الأول 1290 هجرية 15 يولية 1873 ميلادية إلى مدير عموم شرق السودان ومحافظ سواحل البحر الأحمر ، لإرسال رضوان بك سواري وأبور الصاعقة إلى جهة بربره تمهيدا لإرسال جنود وموظفين لتعميرها وتنظيم شئونها وبث الأمن والطمأنينة بين سكانها .
    النص ..دفتر 1246 أوامر عرابي ص 66 رقم 14 في 8 جماد الأول 1290 هجرية
    ((أمر صادر إلى .. مدير عموم شرقي السودان ومحافظ سواحل البحر الأحمر)) (قد عرض لطرفنا إنهاكم الرقيم 29 ربيع الأول 1290 هـ غرة 9 والمكاتبتان الورادتان لطرفكم من مشايخ (بربره) والحاج (أأمان عبدالقادر) وكيل مشايخ وعمدة الجهة المذكورة بالتضرر من الأتعاب الحاصلة لهم من العربان ، وعدم الأمنية لعدم وجود عساكر للمحافظة على جهنم وإنهم متحصلون على بيرق الحكومة السابق إعطاؤه لهم بمعرفة (جعفر باشا وممتاز باشا) ويلتمسون إنجاز ما وعدوا به سابقا والمحافظة على جهتهم لآخر ما أوضحوه . وحيث أن هذه المسألة واردة بأفكارنا ومنظور في تجهيز وتعيين المأمور والعساكر اللازمة لمحافظة وأمنية تلك الجهات ، ومنع تعدي العربان علىب عضهم ووجود الأمنية التامة هناك ، فلأجل معلومية واطمئنان مشايخ وأهالي الجهات المذكورة بلك ، ينبغي إسال (رضوان بك) سوارى وأبور الصاعقة بالوابور سواريه مخصوص إلى (بربره) والتنبيه عليه بأنه بحال وصوله يجتمع مع أولئك المشايخ ووكيلهم ، وعمد وأهالي تلك الجهة ، وتبليغهم السلام من طرفنا ويبدي لهم الامتنان من جهتنا على ما حصل منهم من الاجتهاد والصداقة في حافظة بيارق الحكومة المنصوبة بتلك الجهات ويخبرهم بأنهم عن قريب سيحضر مأمور مخصوص وعساكر للإقامة بتلك الجهات للمحافظة عليها ، ومنع التعديات الواقعة من العربان على بعضهم ، حتى تدخل تلك الجهة في مسلك المعمارية ،ويحصل الأمن الكلي لأهاليها وسكانها الواردين والمترددين عليها كما ينبغي . وفي مدة وجود المومأ إليه هناك بها يباشر ويلاحظ حسن إدارة هذه المواقع ومحافظتها وتأمين أهاليها ، ومنع التعديات الواقعة منهم وعليهم ، حتى تصدر له الأوامر اللازمة فيما بعد بما يقتضي ولزم إصداره لكم للإجراء كما ذكر) .
    ثانيا ..
    صدرت تعليمات في نهاية شوال 1290 إلى ميتز نجر بك من الخديوي إسماعيل ، بأن يحقق آمال أهالي (بلهار) و (بربره) بالانضمام إلى الإدارة المصرية ، وتأمينهم من الأجانب لوضع حد لحبائل الدول الاستعمارية . وقد قام مينز نجر بك ومعه رضوان بك والحاج أمان عبدالقادر بزيارة بربره ، ودراسة أحوالها ، ومدى إمكانيات التوسع في العمران وإنشاء العمارة الحديثة بها .
    وقد كتب مينز نجر في تقريره المقدم في 21 من ذي القعدة 1290 إلى الحكومة المصرية ، بأن ميناء بربره عظيم ، وله إمكانيات استقبال جملة مراكب ، وبخلال المياه الموجودة بساحلها الممتزجة بالمرارة ، توجد مياه عذبة في مكان يقال له دوباره على مسافة ثمانية أميال وارتفاع 300 قدم عن البحر ، وأشار إلى ضرورة توصيل المياه العذبة إلى بربره من دوباره عن طريق أنابيب ، وأن ظروف البيئة تسمح بذلك ، فالأرض مستوية تساعد على إقامة هذا المشروع ، وأن رضوان بك قام بوضع العلم المصري على رأس كرم كطلب الأهالي في الاندماج مع مصر الإسلامية ، وقد رتب له غفيرا بماهية مستقلة لحراسة العلم .
    أما عن ميناء بلهار ، وهو غرب بربره على مسافة أربعين ميلا وأهلها في بسط من العيش ، ولهم تجارة رائجة مع هرر ويمكن فرض ضريبة بواقع 1% على البضائع الموجودة فيها للقيام بمشروعات التحسين بها .
    وتحدث عن هرر فوصفها بأنها (مدينة عظيمة ، ولها جملة أماكن وصوامع ، وحولها سور ، وبها شربخانة لك النقود ، وتجري الخطبة لأميرها في الجوامع في أيام الجمع والأعياد) .
    وأشار ميتزنجر إلى رغبة شعب هرر في الاتحاد مع كتلة الدول الإسلامية لشمال شرق أفريقيا ، غير أن (المشكلة كانت في وجود البريطانيين في عدن والعثمانيين في زيلع .. فالإنجليز لا يرغبون في وجود المصريين في بربره ، ولا في امتداد الإدارة المصرية إلى هرر ، لأن هذا سيكون له أثر كبير في شل الحركة التجارية والتموينية لعدن ، حيث أن جميع لوازمها من لحوم ومسلى ترد إليهم من جهة بربره ، فإذا تمكنت مصر بالاتفاق مع الإنجليز على استمرار حركة تموين عدن بالطعام والتموين بدون جمارك ، كان من السهل تحاشى دسائس الإنجليز في بربره) .
    (أما عن العثمانيين في زيلع بحكم تبعيتها للحديدة باليمن فهي تدفع سنويا سبعة آلاف من الرايالات ، وهذا شيء بسيط للغاية بالنسبة لما يحصل عليه بدون تكاليف باهظة . وفي الوقت نفسه ادعى الشيخ أبو بكر شيخ بندر زيلع أن يندر تجره تابع لزيلع وإن سعادة جعفر باشا قد وضع العلم المصري عليها من قبل ، فإذا تمكنت مصر من إدماج زيلع كان أكيدا أن يكون بندر تجرة معها بدون شجار بين القبائل) .
    وختم مقترحاته بضرورة إنشاء (إسكاله) بساحل الميناء (بربره) لتسهيل عملية الشحن والتفريغ .
    وقد أدركت الإدارة المصرية ما يجب أن يكون على ضوء مقترحات ميزنجر ، فكان على الحكومة المصرية أن تقوم بعدة مشروعات ، لتعمير الأراضي الصومالية مساهمة منها في التطور الحضري والنهوض بمستوى المعيشة بين الصوماليين المسلمين ، وزيادة الحركة التجارية ، وغير ذلك مما يدعم المرحلة العملية لتنفيذ مشروع الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا .
    وقامت مصر بإرسال بعثة فنية ، في 19 من ذي الحجة (1291) تتألف من : اثنين من المهندسين المصريين برفقة أركان حرب ومهندس مختص هو مسيو يورا سوف ايكنجي الموظف بالحكومة المصرية لدراسة مشروع مياه دوباره – بربره ، وقام المهندسون بمسح الأرض ، وتقديم تقرير للحكومة المصرية التي قامت باستيراد المهمات اللازمة ، والأنابيب لمشروع مياه الدوباره ، وإرسالها على الباخرة دسوق إلى مصلحة مياه بربره ، ومعها الخبراء المصريون لإتمام المشروع عمليا .
    وقام الصوماليون بالتعاون مع الجنود المصريين في بناء المشروع الذي يبلغ طوله 12123 مترا ، بين الدوباره وبربره عدا الفروع الجانبية إلى الجامع والديوان والجمرك والمستشفى ، وتم تنفيذ المشروع في 21 يونيه سنة 1876 ، وقد احتفل بافتتاحه رسيما في حضور السادة الشيوخ الصوماليين والأعيان والتجار وموظفي الحكومة ، وبهذا المشروع أصبحت حركة ميناء بربره مستمرة طول العام بفضل مشروع المياه العذبة بعد أن كانت الحركة فصلية من أكتوبر إلى مارس من كل عام ، وباقي العام تتعطل حركة الميناء ، مما كان يؤثر في ارتفاع الأسعار ، وقلة المواد الغذائية في عدن ما بين إبريل إلى نهاية سبتمبر من كل عام ، كما أن إتمام المشروع وتنفيذه دعا أهالي بربره إلى الاستقرار طول العام حول الميناء ، وما تلا ذلك من حركة التعمير خلف الميناء ، وزيادة الحركة التجارية مع عدن وتطور الإنتاج الصومالي تبعا لهذا التغير في نظام العمل .
    وفي 15 رمضان سنة 1292 صدرت الأوامر المصرية إلى مدير وابورات البوستة بتنظيم حركة المواصلات من بربره وزيلع وعدن وتخصيص وأبور المنصورة لهذا الغرض .
    وفي 17 رمضان من نفس العام ، صدرت أوامر أخرى إلى جمالي باشا المقيم في بربره أثناء سفر رضوان باشا ، بأن يبدأ العمل في بناء مخازن للفحم والمهمات ومتعلقات الجمارك ، وجامع للصلاة ومستشفى لعلاج المرضى ، وقسم للبوليس لحفظ الأمن ، وبناء دور للحكومة وإرسال أحد المهندسين إلى عدن لمقابلة حسن بك علي ، لإحضار لوازم العمارات من عدن إلى بربره .
    وبعثت مصر بالكتاب والحساب ، وبصراف لمنطقة بربره ومأمور للوزن ومكاييل وموازين لضبط عملية البيع والشراء في بربره وملحقاتها .. كما أرسل طبيبان مصريان لبربره ودوباره لعلاج الأهالي بالمجان ، وغير ذلك من الأعمال المجيدة في إدارة المحافظة ، مع اهتمام بالأحوال الاجتماعية والتعليمية والصحية ، على أن يتألف جنود الحامية من صوماليين ومصريين .
    ومن أجل تشجيع الاستيطان والاستقرار في محافظة بربره ومحلقاتها ، صدرت أوامر بتأمين الطرق وحمايتها ، والتصريح لأي فرد أجنبي يرغب في الاستيطان أو أخذ قطعة أرض للبناء أو غير ذلك على شرط أن يعمل علىعمارة البلاد حسب النظام الجاري مع الأهالي ، بدون فرق ولا تمييز ولا استثناء .
    وبعثت الحكومة المصرية بتعليمات إلى رضوان باشا محافظ بربره ، وبتأمين الطرق وعمل إسكاله أخرى في بربره ، وعدم القسوة في معاملة الأهالي ، والإبقاء على القاضي والمفتي الصومالي وغير ذلك من الأعمال الجليلة .
    النص ..
    دفترة رقم 10 أوامر عرابي ص 75 أمر رقم 156 في 9 ربيع الأول عام 1293 هجرية أمر صادر إلى رضوان باشا : (عرضت لطرفنا تفصيلات إنهاءاتكم الواردة مؤخرا وكل ما ذكرتموه منها علمت لدينا تفصيلاته .. والذي افترضه إرادتنا هو كالآتي إيضاحه ..
    أولا : ما أوضحتموه من حيث الحاصل من عربان قبائل (عيسى موسى) من قطع الطرق ، ومنع مرور القوافل من (بلهار) إلى (بربره) كما تعودوا ذلك ومع منعهم لم يرجعوا عما هم عليه ، ولهذا تستأذنون في مجازاة ومعاقبة من يتجاسر ويقدم على هذه الأفعال حسب قوانين السياسة لروح واعتبار الغير ، وتأمين الطرق لآخر ما ذكرتموه في هذا الموضوع ، فاللازم في ذلك هو الاهتمام ما أمكن واتخاذ التدابير المقيدة لفتح الطرق من بربره إلى بلهار ، تستمر مفتوحة بدون معارضة كما أشير عن ذلك بالتعليمات السابق إصدارها إلى المرحوم (جمال باشا) وتأكد عليكم بإجراء مفعولها بالتلغراف السابق صدوره إليكم .
    وأما مادة المجاراة فحيث إنه كما هو معلومكم ، أن هذه الجهات مستجدة وإذا صار التشديد على أهاليها دفعة واحدة من أول الأمر ربما نشأ عن ذلك نفورهم وعدم إصلاحهم ، فالأولى صرف النظر عن المجازاة واستعمال الحزم بقدر الإمكان ، والأخذ في تأمينهم تارة بالمصالحة ، وأخرى بالإنذار بالتلطف حتى ينقادوا ، وطبعا إنهم لا شك متى رأوا حسن المعاملة وأنصاف المظلوم ممني يعتدي عليه ، يحسن سلوكم ويؤثروا هذه الحالة على ما اعتادوا عليه من شن الغارة على بعضهم . ومع هذا إذا اقتضى الحال لمعاملة بعض الأفراد بجرأة حسبما يتراءى لكم من وقائع الأحوال لا بأس من إجراء ما ترونه مناسبا .
    ثانيا : ما ذكرتموه عما تراءى لكم نحو ضرورة عمل إسكالة أخرى صغيرة بجهة البندر الأصلي ، خلاف الإسكاله السابق عملها ويكون طولها ثمانية أمتار واستعدادها لنزول وطلوع الأفراد والعساكر علهيا عند الاحتياج ، وذلك بقاء على رغبة التجار وأنه بإتمامها إما تعطي لأحد التجار بمبلغ معلوم سنويا بتعهد ، أو تبقى على ذمة الميري ، ويتقرر على الطالع والنازل قدر معين ، وتستأذنون أيضا في تشغيل العساكر في إنشائها بمساعدة شباب الصومال ، على أن يترتب لكل عسكري قرش ونصف يومي لزيادة الترغيب فهذا جميعه في محله ، ولا بأس من تشغيل العساكر بالأجرة التي قدرتموها ، لما في ذلك أيضا من الفائدة بتمرين الصوماليين على الأشغال وتدريبهم عليها . وعند إتمام تلك الإسكالة تنظرون فيما يوافق عمله فيها سواء أكان إدارتها تجري على ذمة الميري ، أو تعطي تعهدا كما أوصيتم ، إنما تشغيل العساكر يكون بالمناوبة والدور .
    ثالثا : ما أجريتموه من تدارك المسلى اللازم للعساكر ، مدة ثمانية شهور بالاثمان التي بينتموها وإنكم كتبتكم للجهادية والبحرية بعدم إرسال هذا الصنف من ضمن التعيينات بالنسبة لما تراءى لكم من الأرجحة فالذي أجريتموه في هذا الخصوص في محله .
    رابعا : ما أوضحتموه بخصوص جلب المياه من دوباره ، وإنكم أجريتم إقامة نصف العساكر هناك للمناسبات التي بينتموها ، وترغبون إنه إذا كان منظورا تأخير إرسال المواسير ترسل لكم المهمات التي أوضحتم عنها ، من أمثال عربات وبراميل ونحوه ، لأخذ الاحتياجات اللازمة لجلب المياه .
    فحيث أنه سبق جلب المواسير المقتضى وضعها وامتدادها لتوصيل المايه من منبع دوباره إلى البندر منها ، هي مرسلة طرفكم في هذه الدفعة بوابور دسوق فبهذه الواسطة ليس هناك لزوم لإرسال المهمات المسبوق ذكرها ، إنما أمور تركيب المواسير عند وصولها ، وإتمام المشروع المرسلة من أجله الذي جل ثمراته حضور المياه . بالسهولة رهين صرف همتكم أنتم .
    خامسا : ما ذكرتموه من الاكتفاء بما صرف للأربعين نفرا من رجال القبائل الذين قد طلبوا ترتيب ماهية لهم في مدة المرحوم (جمالي باشا) ، وإنكم فميا بعد كل ماتراءى لكم صداقته واستعداده يرتب له ماهية من ثمانية ريالات إلى عشرين ريالا فهذا في محله ، وما أجريتموه من ترتيب عشرة ريالات لكل من القاضي والمفتي الموجودين حاليا طرفكم لإجراء الأحكام ، وطلبكم إرسال قاضي ومؤذن بالجامع من هنا ومعهم الكتب اللازمة .
    فمن حيث أنه معلوم لكم ، أن القاضي الذي يلزم تعيينه لهذه الجهة طبعا يجب أن يكون ممن يعرفون عادات وأخلاق أهاليها وعربانها ، وإذا أرسل قاض من هذا الطرف لم تكن له معرفة ولا معلومات عن عوايد وطبائع السكان فحينئذ يكون الأولى وجود القاضي والمفتي المقيمين بطرفكم لكونهما أدرى بما يناسب أحوال الأهالي وأدرى بما يلائم أخلاقهم وطبائعهم ، ولا بأس إذا أجريتم زيادة ماهية الواحد منهم إلى خمسة وعشرين ريالا حسبما يتراءى لكم استنسابه ، أما مؤذن الجامع والكتب فهذا بعد إتمام الجامع واستعداده ، حينذاك ننظر فيما يقتضيه الحال من المواد الخبرية ، وإقامة الشعائر ومع هذا أرسلوا كشفا ببيان الكتب اللازمة للنظر فيه .
    سادسا : بخصوص الموظفين الذين طلبتم تعيينهم ، وإرسالهم من هذا الطرف ، فالذي افترضت إرادتنا إرساله هو إثنان من الكتاب مستعدان ، ومعهما الدفاتر والأوراق اللازمة ، وطرف واحد ختم للمحافظة وختم للجمرك ، وأما المخزنجي ومأمور الضبطية وناظر العمارة ، فهؤلاء يستدرك ترتيبهم من الضباط الموجودين بطرفكم ، وكذلك ترتيب واحد ذي دراية من الضباط المذكورين لمأمورية الوزن ، عوضا عن إرسال واحد قباني كما طلبتم ، بحيث إذا كان الضباط الموجودين معكم الآن فيهم من يغني فلا مانع من العرض عند نقد اللازم لإكمال البعض ليرسل إليكم .
    سابعا : الطلبات التي طلبتها لعمل سقالات لنزول مهمات الفنار ، حيث إنه كما هو معلوم لكم سبق التوصية على إسكالة جديدة يرسم تركيبها في بربره ، لطلوع المثقلات وقد حفرت وما هي مرسلة لكم بوابور دسوق ، فبوصولها تصير الهمة في تركيبها وتوضيبها وبذلك يستغني الحال عن الطلبات التي طلبتوها من أجل ذلك .
    ثامنا : العشرون كسوة والعشرة سيوف التي طلبتموها مثل السابق أخذها برسم الإحسان منها على ما يستحق من المهمتين في أشغال الحكومة ، وقد صار تشغيلها وها هي مرسلة لطرفكم ، وكذلك الموازين والمكاييل التي طلبتموها لضبط حركة البيع والشراء والثلاثين كيس فضة ونحاس كتب للمالية بإرسالها لطرفكم .
    تاسعا : الخيمة التي طلبتموها لأجل استقبال مشايخ القبائل فيها أيام المواسم المائتا صندوق ضبخانة للبنادق ورصاص دانتون نحو العشرة آلاف دستة هوائي للتعليم ، وتعيينات العساكر مدة شهرين كتب للجهادية بإسال جميع ذلك لطرفكم على الوابور دسوق ، وتبين بأن الخيمة من حيث لزومها ، إنما هو لقبول مشياخ القبائل وغيرهم الذين يحضرون للمقابلة في الولائم والمواسم ، فلأجل إظهار رونق وشرف الحكومة سيكون لونها أخضر ومنسقة ومعتنى بها ، وفيها خزنة ويكون بوسطها عامود عال يركب فوقه سنجق بحري في أوقات اللزوم ، وفقد طاقم الموسيقى وخمسون عسكري خيال الذين طلبتموها ، هؤلاء بمشيئة الله تعالى عند انتهاء مسألة الجيش يجري إرسالهم لطرفكم .
    عاشرا : بمناسبة ما ذكرتموه من لزوم جانب نقود للصرف على العساكر لتحصلواعلى حتياجاتهم قبل نهاية الموسم ، قد صدر أمرنا إلى محافظ زيلع بأن يرسل لطرفكم خمسة آلاف ريال من النقود الموجودة بالمحافظة طرفه على وجه السرعة ، وبورودها يجري الصرف على وجه ما ذكرتم .
    الحادي عشر : ما طلبتموه من إرسال صندل فرش جديد لتفريغ وشحن الفحم ، ومركب لجعلها مخزن للفحم والمهمات للمناسبات التي بينتموها ، فهذا وذاك لم ير لزومها لإرسالها بما أنه حار بناء مخزن للفحومات وغيهرامن ضمن المباني الجاري عملها ، وطبعا أنه متى حصلت الهمة والسرعة في أشغاله يتم تقريبا بهذه الواسطة ، يستغني الحال عن الصندول وعن تعطيل المركب التي طلبتموها من أجل ذلك .
    وحيث الذي تعلقت به إرادتنا في كل نوع من الخصوصيات التي توضحت ، هو كما سلف الذكر لزم إصدار أمرنا هذا لكم لكي تجري معلوما لكم بما يجري العمل بموجبه كما هو مطلوبنا ...) .
    وهذه الوثيقة السابق ذكرها ، توضح بجلاء سياسة الحكومة المصرية تجاه الكثير من المسائل بإدارة بربره فقد وضحت الحكومة المصرية لممثليها على ساحل الصومال بان يعاملوا الأهالي بلطف ، وأن ينصفوا المظلوم وألا يلجئوا للقوة إلا للضرورة القصى ، ولتدعيم حسن نوايا مصر في الوحدة الإسلامية ، قامت بعدة مشروعات على حساب الخزانة المصرية من أجل النهوض بالبينة الصومالية ، ومساعدة الصوماليين لزيادة تحسين الإنتاج والأخذ بيدهم نحوا لمدنية ، لما في هذا من تقوية أواصل الإخوة في المجتمع الإسلامي الكبير.
    وفي ربيع الأول 1293 هجرية صدرت الأوامر من حكومة مصر إلى ممثليها على ساحل الصومال ، بتعيين رضوان باشا على بربره وزيلع بعد انفصالها عن حكمدارية هرر ، وأن يبقى الشيخ محمد بيومي المصري بعض الوقت في بربره حتى يوجه القاضي الصومالي إلى ماتقضي به الشريعة الإسلامية وأصول الدين الحنيف ، على أن يعود إلى مصر بعد أن يتولى القاضي الصومالي محله في الأعمال . وقد لجأت مصر إلى ذلك لأن الصوماليين لم يعرفوا كيفية تقسيم المواريث في هذا الوقت ، فقد كانوا يحرمون الزوجة والذرية من حقوقهم الإرثية ويحلون الميراث للعم وابن العم وأقارب المتوفي ، فكان وجود مشايخ من الأزهر الشريف فيا لصومال فيه تحسين في طباع السكان ، وتعديل العادات والتقاليد التي تتنافى مع الإسلام ، وتحويل أحوالهم عن الأمور المخالفة لسنة النبي عليه السلام نحو عقدالزواج والطلاق ، ومنع المواد غير اللائقة بالشرائع الدينية ، وتأدية الصلوات الخمس وتثقيف الشعب بالثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية .
    وكان من نتائج تحسن أحوال بربره ، وإيجاد المواصلات المنتظمة بين بربره وزيلع ، أن ضمنت عدن مصادر دائمة من دهون ولحوم حتى أصبح سعر الرطل من اللحم (قرشا مصريا أي ما يوازي اثنين كومي صومالي) بعد أن كان في عدن بعشرة قروش في بعض الأوقات ، وخاصة فترة إغلاق ميناء بربره ، وقد اعترف العدنانيون والإنجليز والصوماليون بما حدث من تقدم عظيم في بربره خلال فترة قصيرة .
    وقامت مصر بتحسين أسواق بلهار ، وتأمين الحدود ، وإنشاء الطرق بين بلهار وبربره ، وعملت على تشجيع الاستيطان في بلهار ، وحماية التجار والأهالي بها ، حتى يكون هناك تكامل بين المواني الصومالية بعضها وبعض .
    ومع هذا التقدم الملموس بدرجة عظيمة على ساحل الصومال وما تلاه ، من اندماج الصمريين بالصوماليين من تزاوج واختلاط وترابط أخوي ، فإن السلطات البريطانية في عدن كانت تدبر المؤامرات والمكائد والدسائس بهدف إبعاد المصريين من ساحل الصومال ، وإيجاد مراكز لها على لاساحل لضمان تموين عدن بالمواد الغذائية من ناحية ، ولتكوين قواعد استراتيجية للدبء في مرحلة الاحتلال للأراضي على صورة مناورات كشفية حول ميناء بلهار ، غير أن الحكومة المصرية عن طريق محافظ بربره أحبطت المناورات البريطانية بأن أعلنت التجارة الحرة في ميناء بلهار .
    وبفشل المناورات البريطانية ، اتجهت السايسة الإنجليزية إلى الدسائس وخلق الفتنة والاضطرابات بين الصوماليين أنفسهم ، ثم بين الصوماليين والمصريين ، حتى يمكنها أن تدخل الميدان على ضحايا الطرفين . ولكنها فشلت أيضا ولم تتمكن من السيطرة أو بسط النفوذ أو احتلال أي بقعة على الساحل الصومالي في عهد الإدارة المصرية .
    الإدارة المصرية في زيلع وملحقاتها
    ظهرت اهمية زيلع كمركز تجاري وقاعدة إسلامية على ساحل الصوال في التقارير التي قدمها جمال بك ممتاز باشا وميتزنجر ، كما أنها (زيلع) منفذ هام إلى داخل شبه جزيرة الصومال ، ويربطها بهرر خط قوافل متظم إلى حد ما . فكان لا بد لمصر وفق سياسة الكتلة الاتحادية لدول شمال شرق أفريقيا ، أن تضم زيلع وملحقاتها إلى الاتحاد الإسلامي ، ومن أجل هذا تفاوضت مصر مع الباب العالي (تركيا) من أجل التنازل عن إدارة زيلع وملحقاتها للإدارة المصرية ، وكانت زيلع تابعة للوالي العثماني المقيم في الحديدة ، فوافق السلطان العثماني على ضم زيلع وملحقاتها – مقابل خمس عشرة ألف ليرة عثمانية سنويا – للإدارة المصرية ، وأصدر السلطان فرمانا بذلك الشأن في يوليه عام 1875 .
    وفي 3 جماد الثاني 1292 أصدر الخديوي إسماعيل أمرا إلى رضوان باشا بالاتجاه إلى زيلع ، وتسلمها من المأمور الذي يرسله وإلى اليمن ،والعمل على إدارتها مع الجهات التابعة لها .
    وصدرت تعليمات أخرى ، إلى محافظ شرقي السودان وسواحل البحر الأحمر ، بالاتجاه إلى زيلع لبحث حالة المواقع والطرق وما يلزمها من استكشافات والوقوف على حقائقها ، وما يكون لازما لها من الإجراءات والاستعدادات ونحوه ، وكتابة تقرير شامل عن أحوالها .
    كما صدرت تعليمات الخديوي إلى محمد رؤوف باشا في 12 جمادي الثانية 1292 هجرية ، بأن تكون زيلع وملحقاتها تابعة له قائلا : (حيث أن جهة زيلع وما يتبعها من البلاد والعربان صارت من ملحقات حكومتنا فمن الأوفق تأمين الأهالي والعربان المقيمين بها وتأليف قلوبهم ، وتسهيل وتأمين الطرق فيها إلى هرر لراحة الواردين والمترددين ، واستمرار ذهاب وإياب قوافل التجار بغير مشقة ولا تعب) .
    وكان في انضمام زيلع للإدارة المصرية مرحلة هامة في تنفيذ مشروع الدول الاتحادية الإسلامية وخدمة التجارة العلاقات التجارية ، وفرصة لمحاربة تجارة الرقيق التي تخذ من ميناء زيلع منفذا لها .
    التنظيمات الإدارية والإنشائية لزيلع وملحقاتها
    كانتم سأل التنظيم الإداري والإنشائي لمحافظة زيلع أمرا هاما بالنسبة لتدعيم الوحدة الإسلامية وقد بدأت التظيمات الإدارية بأن عين أبو بكر شحيم الصومالي وكيلا لمحافظة زيلع وملحقاتها في 16 أكتوبر سنة 1875 ، وقد وصفه رؤوف باشا (أبو بكر شحيم) بأنه إنسان محب للمصريين ،ويعمل على جذب قلوب الأهالي وتآخيهم ، وقد أعطى مثال الإنسان المسلم المؤمن بالرسالة الوحدوية للإسلام ، حين تنازل عن إمارة زيلع في سبيل الوحدة الإسلامية ، وأن لأبنائه أيادي بيضاء في جهاز الدولة الإسلامية الاتحادية فإبنه برهان كان معاونا لرؤوف باشا في هرر ، وإبنه إبراهيم معاونا لمتزنجر باشا في حملته التأديبية للحبشة ، وإبنه موسى في خدمة الإدارة المصرية في تاجورة وإبنه الرابع ويدعى محمد كان موظفا في شئون زيلع نفسها .
    وفي 11 نوفمبر 1875 ، أصبح أبو بكر شحيم الصومالي محافظا على زيلع وملحقاتها ، كما أنعم عليه برتبة البشوية ، وقام بزيارة مصر مع بعض الشيوخ والأعيان الصوماليين ، حيث حرب بهم الشعبا لمصري والحكومة الخديوية .
    وفي 19 ربيع الأول 1293 صدرت أوامر بفصل إدارة زيلع وبربره عن حكمدارية هرر ،وجعهلا تحت إدارة رضوان باشا وأبى بكر باشا محافظ زيلع ، بعد أن كانت زيلع ملحقة بحكمدارية هرر .
    وكان هذا الفصل بين زيلع وهرر سببا في أني قدم رؤوف باشا حاكم هرر عددا من الشكاوي للخديوي ، يناشده إعادة زيلع لحكمدارية هرر ، فيقول في رسالة له .. (ومن وقت فرز زيلع من الحكمدارية حاصل عطل للتجارة ولأشغال الحكمدارية حتى أنه طلب من زيلع 12 ألف ريال لزوم صرف ماهيات العساكر لعدموجود تعيينات لهم خلاف صنفي الذرة واللحم .. وبالبلاد كانت تذبح يوميا زيادة عن 120 بقرة ، وهي الآن لا يذبح فيها في اليوم إلا ثماني بقرات أو عشر ، وهذا من عدم وجود العملة) .
    وفي الواقع كان هناك خلاف بين أبى بكر باشا شحيم الصومالي محافظ زيلع ، ورؤوف باشا حاكم هرر ، مما استدعى فصل الإدارتين عن بعضهما وقد عبر الخديوي بأسلوبه الخاص في 26 من رجب 1293 في رسالة إلى رؤوف باشا يقول فيها : (مادامت هرر وزيلع وكلاهما من ملحقات الحكومة فليست هناك مناسبة للتشبث بإلحاق زيلع بهرر ، بل اللازم هو مراعاة الانتظام وحسن الإدارة ، ورفع ما يوجب النفور فيما بينكم وبين محافظ زيلع ، وما دمتم الإثنان من مأموري الحكومة ، فمن الواجب عليكما الاتحاد والاتفاق لما فيه حسن سير تحسين الأشغال بدون اتخاذ بواعث للتنافس) .
    من أجل تعمير زيلع وملحقاتها :
    بعثت الحكومة المصرية الخبراء المصريين للنظر في شأن تعمير محافظة زيلع وملحقاتها والمساهمة في الأعمال الإنشائية الساري مفعولها في زيلع ، وكلف أحمد نشأت بك وعبدالقادر باشا وعلي رضا باشا بدراسة البيئة الصومالية في منطقة زيلع وملحقاتها ، وإمكانيات تعميرها وتطويرها اقتصاديا واجتماعيا .
    وبعثت نظارة الجهادية (الحربية) السفينة سنار وعلهيا من أرباب الصنائع من بنائين ونجارين وحدادين وخياطين وغيرهم ، ومن الأدوات الازمة لهم ، كما أرسلت السفينة المصرية المنصورة 5612 بندقية ريمنجتون وتعيينات (مواد غذائية) وملبوسات للجنود والأهالي .
    وقامت الإدارة المصرية بتوحيد المكاييل والموازين وتعميمها وتداول العملة بين السكان ، بدلا من طريقة المقايضة التجارية التي كانت سائدة ، كما عين مفتش للأسواق للتأكد من أن التعامل يسير بين الناس بنظام وأمانة ، مما ادى إلى ازدهار التجارة ورواجها في الأسواق الصومالية .
    وكانت التعليمات الصادرة إلى (أبى بكر باشا) الصومالي محافظ زيلع ، تنص على استبدال العملة القديمة بعملة جديدة ، ووقف عوائد الدخولية في تاجورة مادامت تضر الأهالي ، وإنشاء برج مراقبة على جهة الملاحة الموجودة في زيلع ، والعمل على زيادة إيرادات الملاحة سنويا ، وأن تتولى الحكومة مسألة بيع الدخان لمنع الاحتكار .
    (نص تعليمات خديوي مصر) دفتر 10 أوامر عرابي ص 105 رقم 245 في 12 رجب عام 1292 هجرية
    أمر صادر إلى .. أبى بكر باشا (الصومالي) محافظ زيلع
    عرضنا لطرفنا تفصيلات المذكرة التي قدمتموها عن الخصوصيات المرغوب استحصال أمرنا عنها .. والذي اقتضيته إرادتنا هو كالآتي أدناه :
    أولا : من جهة النقود المقال عنها أنها بقيت مع تجار زيلع من المضروبة باسم أمير هرر وقدرها 3.000 لغاية 5.000 ريال ، ولمناسبة تتبع هرر للحكومة ، وإبطال تداول العملة المذكورة ، ترغبون أخذها منهم وصرف بدلها إليهم فهذا في محله ، إنما من حيث فيما سبق كان رؤوف باشا الحكمدار أرسل عينات العملة المذكورة فضة ونحاسوجرى بحثها بالضربخانة وجد أن كل 321 ملحق فضة تساوي ريالا واحدا فقط ، فإذا كان أولئك التجار يرغبون استبدال العملة الموصى عنها على هذا الاعتبار ، فلا بأس من جمعها منهم وصرف بدلها لأربابها بواقع كل ريال واحد 321 ملحقا فضة وإرسال العملة المذكورة إلى ديوان المالية لأجل كسرها بالضربخانة .
    ثانيا : عوائد الدخولية التي صار ترتيبها بجهة (تاجورة) فمع عدم كفاية إيرادها لماهيات الخدم المرتبين لها ، فإن حاصل منها مصاريف للأهالي وتستأذنون في رفها للمناسباتا لمذكورة فلا مانع من صرف النظر عنها الآن ، ورفت الخدم المرتبين لها لتضرر الأهالي منها .
    ثالثا : البرج الذي ترغبون بناءه بجهة الملاحة الموجودة في زيلع لإقامة عساكر خفر لمنع العربان من أخذ المصلح ، وحصول الضبط والربط وتزياد إيراد تلكا لملاحة سنويا ، لامانع من بنائه حسب استنسابكم وعند إتمامه يتعين فيه الخفر اللازمين لمنع العربان وغيرهم من أخذ المصلح منها .
    رابعا : محمد عمر المحضر معكم لهذا الطرف وترغبون تقييده بوظيفة سرتجار زيلع بدل سرتجارها المتوفي لمناسبة عدم وجود من يليق خلافه قد وافق لدينا فعين المذكور لهذه الوظيفة كاستنسابكم .
    خامسا : ما أوضحتموه من أن أغلب أهالي جهات طرفكم من عاداتهم استعمال مدغة الدخان ، وبمناسبة الفوائد المفروضة عليه باعتباره 7% انقطع وروده وحصل مضايقة للأهالي من ذلك لآخر ما ذكرتموه .. فيما أن الرسوم والعوائد غير ممكن تعديلها فلراحة الأهالي وعدم تضررهم من ذلك ، اقتضت إرادتنا أن تجارة الدخان المذكورة تكون في يد واحد بمعنى أن بيعه تكون بمعرفة الميري . ويكون منهم من أعراضكم شفاها أن الذي يلزم منه في السنة (750 قنطارا) تقريبا ، وأن أثمانه في عدن من أربعة ريالات إلا ربع لأربع ريالات للقنطار المصري خلاف نولونه ، وأن أسعار مبيعه هي من 6 ريالاتإلى سبعة ريالات ونصف للقنطار ، فلا بأس من مشتري اللازم من ذلك من جهة عدن على ذمة الميري ، وإحضاره إلى جهة تجره وزيلع وبيعه للأهالي من طرف الميري بالأثمان المعتاد ببيعه بها لما في ذلك من راحة للأهالي وعدم تضررهم كما سلف الذكر .
    سادسا : النقود التي طلبتموها لتعمير ديوان المحافظة والجمرك وسور البلد ، فأولا السور ليس هناك لزوم إلى تعميره كما صدرت المذكرة معكم شفاها ، أما تعمير ديوان المحافظة والجمرك بأنه وإن كان لازما كما أوضحتم ، إلا أنه ليست هناك ضرورة لاستعمال إجراء العمارة في آن واحد ، بل في الإمكان إجراؤها شيئا فشيئا بمراعاة خفة المصاريف .
    ومن جهة الأنفار اللازمين للعملية تجرون تشغيل الموجود بطرفكم من الأنفار ، وبما أنه موجود بطرفكم 150 نفرا عسكر نظامي بيادة خلاف 30 نفرا عسكر من الأهالي كما عرضتم شفاها ، فإذا أمكنكم إبقاء 50 عسكريا أو 60 أو 70 نفرا فقط أي عبارةعن بلوك واحد تجرون انتخابه من العساكر الأقوياء والأشداء المعتادين على أهوية ذلك الطرفة ، والباقي ترسلونهم إلى مصر ليرسل لكم بدلا منهم أنفار لتشغيلهم في المباني المذكورة بدلا من العساكر النظاميين المذكورين يستحصلون على العساكر من جهتهم من الأهالي ، لما في ذلك من خفة المصاريف وتسهيل إجراءات العمارة يكون أفضل ، وأما الأخشاب التيت لزم لسقف المباني فاعمروا كشف بيانها ومقاساتها وما تساوي من الأثمان في عدن ، وترسلونه لهذا الطرف لمقارنة الأثمان على أسعار هذا الطرف والذي ينظر في الأرجحية ، يجري التدارك منه وهكذا ما يلزم من الأبواب والشبابيك ترسلون كشفا ببيانها وأوصافها ومقاساتها للنظر في تداركها وإرسالها لطرفكم .
    سابعا : الشعير الذي طلبتموه لمئونة مواشي العمارة ، ولو أنه كتب للجهادية بإرساله حسب طلبكم إلا أنه من حيث أنا لمواشي المذكورة بطرفكم كما أنهيتم شفاها هي نحو الأربعين رأسا ، منها اثنتا عشرة بقرة والباقي خيول وبغال ، وعلم من قولكم أن نصف الشعير تعذر وجوده بجهتكم بالكلية ولم يبق زراعته أيضا بذلك الطرف فلأجل عدم التكاليف بإرساله في المستقبل ، يمكنكم الاستغناء بالكلية من الخيول والبغال وتشغيل بدلها صنف الثيران الموجودة بكثرة بجهتكم بواسطة تدارك اللازم منها وتمييزها وتعلميها على الأشغال الجارية الآن ، ومتى كانت مواشي العمارة ثيرانا ، يمكن إعطاؤها مؤنة من صنف الذرة المتيسر وجوده عندكم ، والمواشي المذكورة معتادة علهيا وهذا في وقت التشغيل والعمل وأما في وقت البطالة تجري إرسالها إلى المراعي بالجبال كما هي عادة مواشي الأهالي بجهتكم .
    ومع ما ذكر لا بأس من أنكم ترسلون قدر خمسة أرداب شعير من المرسل إليكم الآن بطرف رؤوف باشا في هرر لزراعته بتلك الجهة بنوع التجربة ، كما تحرر له أن يفيدنا بما يلزم عن ذلك في تاريخه . هذا الذي افترضته إرادتنا ولزم إصداره لكم للعلم ، والعمل بمقتضاه كما هو مطلوبنا) .
    وبعد مرور نحو ثلاثة شهور صدرت أوامر من خديوي مصر إلى عبدالقادر باشا للقيام بأعمال المساحة والتعمير وتشغيل الصوماليين كما يتضح من النص التالي :
    (دفتر رقم 34 عربي 86 في 25 ذي القعدة 1292 هجرية)
    تعليمات صادرة إلى (عبدالقادر باشا)
    أولا : الهدايا الموجودة في وابور سنار ، والنقود الموجودة داخل صندوقين مغلقين ، إبقاؤها في الوابور المذكور في محله . ومن حيث ان النقود الموجودة داخل الصندوقين المحكى عنهما هي مغلق الحكومة استلموها وأفتحوها وأجردوا ما بها من النقود ، وأبقوا بطرفكم في عهدتكم للصرف منها في لوازم العمارات الآتي ذكرها . وأما باقي الأشياء فلا بأس من إبقاؤها على ما هي عليه .
    ثانيا : حيث أنه حاصل صعوبة في نقل الشحونات الجاري إرسالها بالوابورات إلى زيلع من البحر إلى البر نظرا لوجودالمد والجزر على الدوام ، وتسلط الجزر هناك مسافة جسيمة على البر ، وتعذر وصول القطار والفلايك إلى البر ، كما علم لكم وشاهدتم نحوه بوجودكم في زيلع ، ويكون جمالي باشا أجرى عمل إسكاله في ميناء بربره طولها 350 متر وعرضها سبعة أمتار ، منها رصيف من الحجر متر ونصف في كل من الطرفين والعرض الداخل بدكة من الرمل والأحجار بارتفاع من متر ونصف إلى مترين ، فمن الضروري عمل إسكالة مثلها في ميناء زيلع بحسب اللزوم ليسهل بذلك نقل الشحونات من الوابورات إلى البر بدون صعوبة ، ولكون أهالي الصومال هم شيء بكثرة ، وكما علم من محرراتكم أنهم يتوجهون من أنفسهم إلى عدن وموجود منهم هناك نحو 20 ألف نفر يشتغل بعضهم بالمئونة فقط ، والبعض أجره قليل ، فيمكنكم ترغيب وتشويق الأنفار اللازمين منا لصومال المحكى عنهم لهذه الأشغال وتقدرون لهم الأجرة اللازمة ، لأنهم مادامو والحالة هذه يتركون بلادهم ويتوجهون إلى عدن للاشتغال رغبة في العيش والأجرة ، فم باب أولى يرجعون بقاءهم وشغلهم في زيلع بالأجرة أفضل لهم من التوجه إلى عدن .
    فيلزم اهتمامكم بهذه المسألة وصرف أفكاركم لما فيه تنجيزها بهذه الطريقة ، وما يلزم لكم من النقود في ههذ الأشغال علاوة على مايوجد بالصندوقين المحكى عنهما قبل ، أعرضوا بطلبها ، وبالمثل إذا رأيتم لزوم إرسال مبلغ من العملة الصغيرة من فضة ونحاس للصرف على أولئك الأنفار فكذلك أطلبوا ما يلزم لكم لإرساله .
    ثالثا : يقتضى إجراء عمارات ضرورية في المحل المقتضى عمله في زيلع ، مثل ديوان حكومة ومحل جمرك واسبتالية (مستشفى) ومخازن ومحلات أيضا لإقامة للعساكر ، خصوصا في زمن الصيف وذلك لوقايتهم من الحر الموجود هناك فمن الآن تباشرون هذه العمليات ، إنما محل المحافظة القديم الموجود ، والحالة هذه لا بأس من ترميمه على قدر الإمكان وإعداده حتى تتم المباني المستجدة في المحل الجديد .
    وقد سبق إرسال عساكر صناعية من هذا الطرف برسم تشغيلهم في هذه العمليات ، وكما هو معلوم من أي جهة زيلع يوجد بها أخشاب بكثرة للبناء ، حتى إنه في مدة تتبعها للدولة العلية كان يستجلب منها أخشاب التلغراف التي تلزم لجهات الدولة القريبة من هناك .
    وإذا كانت محلات الأخشاب المذكورة قريبة من البندر يمكن قطعها بمعرفة الأهالي ونقلها على جمال أو عربات ، حتى أن لزم إرسال عربات من هنا لتحمل الأخشاب المذكورة لا بأس من طلبها ، وإن كانت تلك المحلات بالبعد عن البندر ويخشى من إرسال العساكر لقطعها ، فيمكن تأجير ما يلزم من الأهالي المعتادين على قطع الأخشاب المذكورة لجلب اللازم منها للعمارات ، وبالمثل الأحجار توجد هناك بسهولة فيلزم الاهتمام الكلي في مباشرة هذا وذاك ، وإدارة العملية شيئا فشيئا بوجود العساكر الصناعية واستثمار من يلزم من الصوماليين كما ذكر لكم في الباب المتقدم ، للحصول على إنجاز تلك العمارات وإنهائها في وقت مستقرب ، إنما مسألة الإسكالة أهم وألزم فباشروها بحسب أهميتها .
    رابعا : ما ذكرتموه عن المكالمة التي صارت بينكم وبين مشايخ قبائل (تجرة) ، وما علم من أقوالهم من أنهم متخوفون من (الحنفري) شيخ (أوسة) لسبق العداوة بينهم ، وأنهم مع ذلك أظهروا الطاعة للحكومة وأخذتم عليهم مكاتبة بذلك ، فالذي صار هو في محله إنما مع كل هذا يلزم عدم الاعتماد والاتكال على إظهار الصدق والطاعة من المذكورين ، بل من الضروري زيادة الاحتراس والتيقظ على الدوام فتؤكدون على سواري وابور سنار بذلك ، وتفهمون أولئك المشايخ بأن المفروض عليهم إنما هو فقط إطاعتهم وصدقهم للحكومة وبذلك لا تخشون بأس (الحنفري) المذكور وخلافه .
    خامسا : وابور الصاعقة عند عودته من مأمورية مكيلوب باشا نخصص للإقامة على الدوام في ميناء تاجورة مع وابور سنار ، كما أمرنا مكيلوب باشا ورضوان باشا ، فبحضوره يجري إقامته هناك وإذا ما اقتضي الحال قيام وابورات من تاجورة في مأموريات أو بوستة أو غيره فالذي يرسل هو وابور سنار ، أما وابور الصاعقة فيقيم على الدوام للمحافظة على هذه الجهة .
    سادسا : العساكر المقيمون الآن في تجرة بما أنهم يقيمون والحال هذه بمحل الاستحكامات الموجودة خارج البلد والجبخانة موجودة معهم أيضا لو أنه سيرسل عن قريب مائة عسكري للإقامة أيضا هناك ، ولكن أفكارنا هو أنه من حيث أن هذا الأوان فصل الشتاء والبرودة على العساكر ، فالأوفق أن الذي يقيم من العساكر بالاستحكامات المذكورة هو فقط قدر أربعين عسكري بصفة قره قول (بوليس) بأسلحتهم وجبخانة على قدر ما معهم من الأسلحة ، وباقي العساكر والجبخانة جميعا يصير وضعهم وإقامتهم بوابور الصاعقة لوقاية العساكر من البرد في فصل الشتاء ، ولا بأس من تشويق وترغيب أهل الصومال أيضا للإقامة مع عساكر القره قول المذكور ، وبمشيئة الله تعالى في المستقبل سيرسل مقدار من العساكر للإقامة في الجهة المذكورة إنما في الحالة الراهنة بكتفي الحال بذلك .
    سابعا : جهة تجرة المحكى عنها مقتضى عمل استحكامات بها من التراب إنما يكون وضعها بالقرب من الإسكالة في اتجاه مسرى الوابورات القريب ، ليسهل الوصول منها إلى الوابورات يعمل بداخلها المحلات اللازمة ، ومخازن لوضع الجبخانة وغيره وينتظر ما لزم لها من المدافع ، ويطلب من هذا الطرف ، كما أنه يلزم بناء طابونة هناك لأشغال والبقسماط والخبز ، ويكون بنؤها في البدروم وما يلزم لها من الأنفار الشغالين فيحصلون عليه من أهالي الصومال بالكيفية المحكى عنها أولا ..
    كما أنكم تنظرون فميا يلزم فتحه من الآبار والواقي للسقية وما يمكن زراعته بأراضيها من أصناف الخضراوات والذرة وغيره ، حسب التعلميات التي تنبه بها عليكم أولا ، بما أن أراضيها فيها قابلية للزراعة كما ذكرتم بتحريراتكم السابقة .
    على الوجه المشروع بمقتضى المبادرة بإجراء التعليمات حسب الإرادة السنية في 25 ذي القعدة 1292 .
    تحسينات عامة في ناحية زيلع
    وقامت الإدارة بضبط إنتاج الملح وبيعه بسعر منخفض ، فأرسلت المختصين لدراسة الملاحات الصومالية ، وإحضار عينات منها للإعلان عنها في أسواق عدن وغيرها لإيجاد الملح الصومالي في الأسواق التجارية الخارجية ، وكان استغلال الملاحات ينحصر في خمس مناطق في ناحية زيلع وهي : 1- ملاحة الهلو وتعطي محصولين من الملح أحدهما أبيض شفاف . 2- ملاحة زوري ، ومحصولها من نوع واحد أبيض شفاف . 3- ملاحة فروين ، ولها إنتاج ضخم ولونه أبيض . 4- ملاحة بداوي ولى وهي كالسابقة تماما . 5- ملاحة تجرة وهي تقع خلف جبل تجرة .
    وقامت الإدارة بالأعمال جليلة في مجال الصحة العامة بجعل العلاج بالمجان للجميع والمساهمة في بناء عدد من المنازل الصحية ، وتزويد زيلع بالمياه العذبة ، وذلك بالاهتمام بصيانة عين تخشه القريبة من زيلع وضمان عدم تلوثها بالجراثيم .
    وحينما انتشر مرض الجدري في رمضان عام 1298 ، الذي بلغ فيه عدد الوفيات نحو ثلاثين حالة بعثت مصر في الحال كمية كبيرة من الأمصال ، ومادة التطعيم لتحصين الشعب ، وتزويد المستشفيات الحكومية بالدواء والأطباء .
    وهكذا نالت زيلع إصلاحات عمرانية بالغة الأهمية ، مما أثر في تطوير معيشة السكان نحو الاستقرار والعمل لزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة بين الأهالي .
    الإدارة المصرية في هرر وملحقاتها
    عملت الحكومة المصرية على امتداد الإدارة المصرية ، من الساحل الصومالي الشمالي إلى قلب شبه جزيرة الصومال ، حيث مدينة هرر الإسلامية ، تلك المدينة الخالدة في تاريخ الإسلام والتي كانت منبعا للثقافة الإسلامية ، وتعاليم الإسلام في القرن الثالث عشر ، وأصبحت أكبر منارة للدعوة الإسلامية في القرن السادس عشر ، فكان ضم هرر إلى منظمة الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا انتصارا عظيما للوحدة الإسلامية ، لما تمتاز به من حيوية ومركز استراتيجي هام ، يحول دون التوسع الحبشي من الناحية الغربية إلى أرض الصومال المسلم ، وفي الوقت نفسه كانت سياسة مصر ترمي إلى عدم تدخل منليك ملك شوا في أمور هرر ، فتحالفت معه ضد خصمه الإمبراطور يوحنا ملك الحبشة الذي أقامه البريطانيون على حكم الحبشة بعد أن قاموا بمحاربة الملك كاسا أي المحبوب من الإله (ثيودور) حتى انتحر الملك . وفي الوقت نفسه كانت مصر تخشى أن تقع هرر الإسلامية في يد الحبشة بوسيلة ما ، من تلقاء نفسها ، أو بمساعدة غربية ، لذلك بعثت الحكومة المصرية في 12 من جمادي الثانية 1292 هجرية اوامر إلى محمد رؤوف باشا للقيام على رأس بعثة لشق طريق بين زيلع وهرر .
    وكانت التعليمات كالتالي .. إذا ما سأل الإنجليز عن البعثة والاستعدادات الجارية في زيلع تكون إجابة رؤوف باشا والمسئوين المصريين كالتالي : (إننا نعمل على كشف منبع نهر ستيب وسنسير من هنا لتمهيد الطريق وتنظيم خرائطها ، ومعنا ضباط أركان حرب ومهندسون ، وسيأتي من غندوكرو غردون باشا مأمور خط الاستواء ،وقد عهد إليه بمحافظة جهة زيلع ، والقيام من هنا لإيجاد منبع النهر المذكور ، وسيأتي من بعدي بعثة علمية أيضا) .
    وخلال هذ1ه الفترةمن العمل والترتيبات والتحركات للبعثة المصرية إلى هرر كانت حملة مصرية بقيادة متزنجر متجهة من مصوع إلى تاجورة فأرض شوا خلال إقليم الأوسا .
    الرحلة إلى هرر :
    بدأت البعثة المصرية رحلتها في 18 من سبتمبر عام 1875 مؤلفة من قوات مصرية وسودانية وعلماء وخبراء ومهندسين وشيوخ وعمال مهرة برياسة محمد رؤوف باشا ، وذلك بهدف إيجاد طريق بين زيلع وهرر وتأمين المواصلات ، ومعرفة احتياجات البلاد ومحاولة إصلاحها على أن تأخذ فترة للراحة والدراسة لمعرفة شئون كل بلد ، وقد سارت البعثة من زيلع إلى تخشا أو حاجرة ثم ولع ولع ، وأداب ، ودرب عسا وفي هنسا قدم وفود رؤساء قبائل الصومال (عيسى) والعربان للإعراب عن اتجاهم مع الدولة الإسلامية الإفريقية لحمايتهم من غارات الأحباش فطمأنهم رؤوف باشا كل طمأنينة ، وصرف لهم الهدايا والملابس .
    وتابعت البعثة سيرها إلى مراكز : أبى بكر علي وبير كوهلي وجججة وعرمالي مجن وكوتر وبوصة حتى جلديسيا ، وفي قرية الشيخ شاربي وصل الحاج يوسف نجل أمير هرر والقاضي عبدالله بن عبدالرحمن قاضي ثان مدينة هرر ومن الأعيان يوسف والسيد أحمد ونقيب الأشراف ومحمد عبدالقادر الترجمان لديوان الأمير ، وقد أحضروا معهم خطاب الأمير يعلنون عن سرورهم بانضمامهم إلى مصر الإسلامية .
    ودخلت البعثة إلى مدينة بالارا ثم افتوج ، وهنا تصدى لها بعض قبائل الفولى ، والجالا ، وكانوا على معرفة بفنون الحرب فضلا عن كونهم مسلحين خيالة وبيادة ، وقد رفضوا الصلح فقامت معارك بين البعثة وجماعات الجالا استغرقت ساعتين وخمسا وأربعين دقيقة ، وانتهت بالصلح وأخذوا علم الحكومة المصرية لعرضه على أراضيهم رمزا للتعاون والاتحاد مع دول شمال شرق أفريقيا الإسلامية .
    وما أن وصلت البعثة إلى أرض ايجو في 9 أكتوبر 1875 حتى تصدى لها قبائل الجالا فولي . ويقول رؤوف باشا : (كانوا عبارة عن سبعة وثلاثين ألف نسمة منهم خيالة وبيادة ، وهم مسلحون بالمزارق والنبال ، وقد ساروا شاهرين لنا علامة الحرب متملكين للدربندات ، فأرسلنا لهم ننهاهم عن بغيتهم وطغيانهم فأبوا إلا القتال ، وأرادوا أن يهجموا علينا بغتة فأجبرنا على قتالهم ولم تمس عليهم تلك الليلة حتى أرسلوا إلينا طالبين الأمان . وكانت هذه أطول المعارك إذ استغرقت نحو سبع ساعات وكانت آخر المعارك أيضا ، فقد تقدم شيوخ الجالا فولي وعثمان ياور وعلى كارور ورؤساء القبائل طالبين الأمان وأعلام مصر الإسلامية لرفعها على البلاد) .
    وصلت البعثة إلى سيبو ، ومنها إلى سكورجه حيث قدم أمير هرر لاستقبالهم ورفع العلم على باب المدينة وباب قصر السلطان في الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الإثنين 12 من رمضان المبارك لعام 1292 هجرية الموافق 11 أكتوبر 1875 م .
    وبعد رحلة ثلاثة وعشرين يوما من زيلع إلى هرر ، أمكن تأمين الطريق وإحلال الأمن في البلاد والقضاء على عصابات قطاع الطرق ، وانضمام 62 قبيلة مسلحة إلى الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا .
    التنظيمات الإدارية والإنشائية لهرر وملحقاتها :
    في 12 شوال لعام 1292 هجرية صدرت أوامر بالتشكيلات التالية لحكمدارية هرر :
    أولا 1- رؤوف باشا حكمدارا لهرر وملحقاتها (تاجوره وزيلع وبربره) . 2- جمالي باشا محافظ بربره (مؤقت ، غير مرضي عنه) . 3- أبو بكر باشا شحيم الصومالي محافظ زيلع . 4- محمد بن عبدالشكور الهرري محافظ هرر . 5- عبدالوهاب بك وكيلا لمحافظة هرر ورئيسا لمجلس الحكمدارية في أثناء غياب الحكمدار .
    ثانيا مجلس الحكمدارية يتكون من : القضاة ، العلماء ، التجار ، الأعيان (وظيفة مجلس الحكمدار هي النظر في الدعاوي المتعلقة بالحكمدارية سواء كانت شرعية أو سياسية) .
    فرمان لأهالي هرر
    أصدر الخديوي فرمانا لأهالي هرر ، وفيه تعهد مع الحكومة المصرية نحو نشر التعليم ، وتحسين الإنتاج الزراعي ، والحركة التجارية ، ونشر العدل وفق الشريعة الإسلامية ، ومعاملة الصوماليين كالمصريين في المزايا والحلوق ، والدعوة إلى التعاون الأخوي .
    فهو فرمان جامع لسياسة مصر في الكتلة الاتحادية الإسلامية ، مما بذل على رغبة صادقة في انهوض بالدول الإسلامية وجعل السيادة للقانون والعدالة والشريعة الإسلامية السمحة ، وهو مقياس الوفاء والعمل المشترك ، وهذا نصه : (فرمان لأهالي هرر منذ فتحها)دفتر رقم 10 أوامبر عرابي ص 26رقم 2 في 12 شوال عام 1292
    إلى حكمدار هرر وملحقاتها .. (إنه بناء على ما أوضحتموه بمعروضكم المتقدم لطرفنا فيما يتعلق بفتح هرر ، وأن أميرها والقضاة والعلماء والأعيان والتجار بتلك المدينة وعمد القبائل وغيرهم : حصل منهم الإقدام والرغبة في طاعة حكومتنا الخديوية وإظهار صداقتهم لها .
    قد أصدرنا من لدنا أمرا عموميا خطابا لجميع من ذكروا ومبعوث على هذا ، فبوصوله لطرفكم تجروا عمل آلاي عسكري وتجمعوا الأمير والقضاة والعلماء والوجوه والأعيان والتجار وكبار القبائل ومن ترون اقتضاء وجوده في هذا المحفل ، وبحضور الجميع يصير تلاوة الأمر المشار إليه عليهم حرفا بحرف ، وتفهيمهم منطوقة مفصلا ، وبعد تلاوته تجرون ضرب المدافع المعتادة كما ينبغي في مثل ذلك .
    ولزم إصداره لكم بما ذكر لإجراء إجابته وهذا حسبما تتطلب منه إرادتنا) .
    الفرمان إلى أهالي هرر وملحقاتها من القبائل والأقوام .. (نحمدك يا من تحب له الطاعة ، ومن ينبغي له الشكر على قدر الاستطاعة ، ونصلي على رسولك الذي خص بالرسالة العظمى والشفاعة القائل وأقواله حكم .. يد الله مع الجماعة .. وعلى آله وأصحابه أولي بأس في إعلاء كلمة الله وحماسته وشجاعته .
    وبعد .. فهذا خطاب عام مع إصدار السلام إلى أهالي هرر وملحقاتها من القبائل والأقوام .. فعندكم أنه بفضل المولى الرؤوف الرحيم قد انضم إلى ملك مصر الجسيم تلك المداين والبلدان ، وانتظم في سلك حكمنا أهليها والسكان . فانضمام مملكة مثل بلادكم العظيمة إلى ما معنا من المماليك الجسيمة نعمة من الله جليلة القدر ، لا تقدر على القيامب واجبها من الشكر .. رب أوزعني أن أشكر نعمتك وألهمني في أمري وحكمتي حكمتك .. فاعلموا أن مرجعنا إلى الشريعة المحمدية وهي السعادة الأبدية السرمدية ، فالشرع الشريف الأقدار يأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ، فأصول حكومتنا مبنية على العدل والإنصاف ، ليستوي في الحقوق الأداني والإشراف ، والمعاملة بالتلطف والإحسان إن اختلفت الأديان ، وقوانيننا المبنية على ذلك الأساس التي شملت أجناس تشمل أيضا بلادكم أحكامها ، وتتبع بها أنواع الأهالي وأقسامها ، فقد سرنا أنكم علمتم بهذه المزايا الجميلة ، وتعطفتم لما فيها من المنافع الجليلة ، وسلمتم أمركم إلينا ، واعتمدتم في الحكمة والسياسة علينا ، ودخلتم في سلك الرعية ، وامتثلتم لنا بالطوع والاختيار وحسن التثبيت ، فقد صرتم كأهالي الديار المصرية من كافة الرعايا متمتعين بالأمن وسائر المزايا يتساوى الضعيف في الحقوق والقوى ، والكل يسلكون المنهج القويم السوي .
    وإن شاء الله تعالى تجتهد في تعميم التعليم ونشر العلوم في ذلك الإقليم ، لأنه لولا العلوم والفنون لما وصل إلى الحد المطلوب الأمم المحدثون ونسعى أيضا في تكثير الزراعة ، وتوسيع دائرة التجارة والصناعة ، فأراضيكم خصبة المزارع ، وبلادكم منبع البركات والمنافع ، والكاسب حبيب الله ،وهو يتولى تسهيل أمره وإيتاء حقه ، فقد قال تعالى (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) ونحن لا نقصر في المساعدة والمعاونة وإن اجتهدتم في مساعي الخير فسيؤتيكم الله أضعافا مضاعفة ، وعليكم بالتعاون في استخراج خيرات الأرض ، فالمؤمنون كأسناس المشط بالنسبة بعضهم لبعض ، فعلينا الاجتهاد وحسن السياسة والسعي الموقور ، وعليكم الطاعة لنا في كافة الأمور كقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) .
    والرغبة مادامت مطيعة ، يجب مراعاة أحوالها وجلب مشافعها وصوالح مصالحها وأعمالها . جعلنا الله موفقين إلى حسن الإدارة والسياسة ، وبني الأمر على الحقووضع عليه أساسه ، نسأل الله العون والنجاح والتوفيق لما فيه الخير والصلاح إنه هو الباطن والظاهر وهو الأول والآخر) ..
    من عابدين
    من أجل تعمير هرر وملحقاتها
    تعليمات وأعمال :أولا : أصدر رؤوف باشا حكمدار هرر وملحقاتها عدة تعلميات بشأن إدخال شباب الجالا في الجندية أسوة بإخوانهم الصوماليين ، وتعليمات أخرى بما فيها من مراعاة لصالح السكان كالتعليمات الصادرة للجنود بحسن معاملة الأهالي وإجراء عمليات الشراء من أسواق المدينة لترويج التجارة الداخلية ، والمؤاخاة بين الصوماليين والمصريين ، والسماح بالاختلاط والتزاوج في نظام الأسرة الإسلامية ، ويقول رؤوف باشا (إن كل واحد من الأهالي كان يعتبر نفسه سعيد الحظ إذا ظفر بتزويج إحدى بناته لجندي من الجنود المصريين).
    دفتر نمرة 2414 وارد حكمدارية هرر ص 8 رقم 28 في 18 رمضان 1292
    النص : تعليمات صادرة من محمد رؤوف باور خديوي إلى ضباط القوات المصرية الموجودين بهرر (بما أن الأمير محمد أمير مدينتنا هذه عرض لنا أن بعض العساكر جاويش يشتري بعض الأشياء من الخارج ، ووصف هذا بأنه مما يسبب قلة الوارد ولا سيما أن المدينة لها سوق مخصص للبيع والشراء .
    فيقتضي بموجب أمرنا هذا تفهم جميع أفراد العساكر والصف ضباط وجميع ضباط الأورطة بعدم شراء شيء من خارج البلدة بل الشراء يكون من السوق المعد لذلك بالمدينة وكذا التنبيه عليهم بعدم اغتصاب بيع أو شراء من الباعة كما هي القوانين السياسية .
    ومن يتجارى ويتجاسر على المخالفة يكون معلوما بانه سيصير مجازاته بأشد الجزاء مع معاملة الأهالي باللطف والحسنى حتى تنجذب قلوبهم إلى حب العساكر) .
    ثانيا : قدم رؤوف باشا في 22 ربيع الثاني 1293 تقريرا إلى خديوي مصر عن جهات الحكمدارية ، قدم عدة اقتراحات هامة من أجل تحسين هرر لتحتل المكانة السامية في قلب الصومال ومن أهم هذه المقترحات ما يأتي : 1- تغير العملة القديمة المغشوشة بالنحاس إلى عملة الدول المتحابة والعملة المصرية . 2- منح أمير هرر ثلثمائة ريال ، ونجله مئتين وبعض الهدايا من ساعات ذهبية وملابس لبيت الأمير والشيوخ . 3- مكافأة أربعة عشر شخصا من أفراد القوات المصرية والسودانية لشجاعتهم وإخلاصهم في العمل . 4- إرسال بعض الفرق العسكرية مع فرقة موسيقية من السواري مع الجنود ، لأن تعداد المدينة أكثر من ثلاثين ألفا لحماية المدينة والطريق من زيلع إلى هرر من غارات الأحباش . 5- أمير هرر يحتكر زراعة وتجارة البن والموز والتباك له وللأسرة الحاكمة ، ولا يعطي الأهالي رخصة للزراعة أو التجارة ، والصالح العام يقضي بحرية الزراعة للأهالي ومنع الأمير من هذا الاحتكار الزراعي أو التجاري . 6- من الأفضل أن تكون التجارة في يد الحكومة لتنظيمها ، ويقوم التجار بالشراء على أن يكون نصف الأثمان بضاعة والنصف الآخر عملة لأن تداول العملة في أيدي الأهالي ومعرفتهم إياها هو السبب الموجب عليهم الطاعة للحكومة وحب وطنهم .
    المقترحات التي وافقت عليها الحكومة المصرية : 1- استعمال العملة القديمة بقيمتها التي ظهرت في فحصها باعتبار أن الريال الواحد يساوي 321 محلقا ، وقد ارسلت مصر بعض العملات المصرية لتحل محل العملة القديمة بالتدريج ، مع عدم مبادلة البضائع في تجارة البن ، وأن تقوم الحكومة بشراء البن من الأهالي بالثمن بعملة نقدية حتى تكثرالنقود في أيدي الأهالي ويتداولونها . 2- إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين باعتبار ألف فدان للعمدة وخمسمائة فدان لشيخ البلد وتشجيع الأهالي على ملكية الأراضي وزراعة البن . 3- تنظيم المدفوعات من ضرائب على الإنتاج الحيواني والمحصولات على أني تبع ذلك بالتدريج وليس دفعة واحدة وإنما يصير جمع الضرائب كالمعتاد حتى يألفوا الإدارة الجديدة . 4- العمل على استغلال مناجم الفحم التي على الحدود مع شوا ، وخاصة أن مصر كانت تعمل على عقد معاهدة مع راس شوا (منليك) . 5- إرسال عدد من المهندسين العسكريين للقيام بأبحاث ودراسات لأقاليم الحكمدارية ، ورسم خرائط وتحديد الطرق والعمل على تأمين الطرق حتى شوا لتسهيل حركة التبادل التجاري . 6- رسمت خرائط لمنطقة هرر وضواحيها بمعرفة المهندسين محمد مختار وعبدالله فوزي . 7- قام أحمد وعدلي وعبدالكريم عزت برسم خرائط متعددة الطرق لاستكمال أعمال عبدالرزاق نظمي في رسم الأرض بين بربره والدوبارة ، وقام محمد عزت بكشف المناطق التي بين تاجورة وإقليم الأوسا . 8- أعيد الإعلان والتراخيص العمومية لسائر الأهالي وغيرهم من السكان بزراعة البن بدون معارضة ، وترغيب الأهالي في الزراعة ، وتحسين الإنتاج ، والاستعانة بالخبراء الأجانب لإرشاد السكان لأنجع الطرق لزراعة البن وزيادة إنتاجه . 9- تحمل مدينة هرر وتشييد مباني حكومية كالديوان العام (الحكمدارية) ، البوليس ، المستشفى ، وغيرها . 10- بناء مركز (قشلاق) للعساكر فوق الجبل المسمى (حاكم) ، وإنشاء مراكز على مفارق الطرق ومن أهمها مدينة جلديسيا التي أنشئت عند تقاطع طرق هرر ورشوا زيلع .
    تلك هي مبادئ وزوايا النهضة في هرر كما وصفتها ونفذتها الإدارة المصرية من أجل النمو الاقتصادي والسكني والاجتماعي ، ولاستكمال الوحدة الإسلامية بطرق عملية قوية الدعائم .
    مشروع توحيد الأراضي الصوماالية
    بعد استتاب الأمن في الجزء الشمالي من شبه جزيرة الصومال اعتبارا من جنوب عصب (أرتريا) ، بما في ذلك منطقة خليج تاجورة والساحل الشمالي الصومالي حتى رأس حافون في شرق مجرتينا على ساحل المحيط الهندي ، وفي الدخيل القاري لشبه جزيرة الصومال ، حتى مدينة هرر ، في كل هذه المساحة الضخمة التي تقرب من نحو ثلث شبه جزيرة الصومال ، بدأ عهد جديد من عهود الوحدة الإسلامية المتسمة بطابع الإخاء ، والمحبة ، والعمل المشترك دون أهداف ذاتية .
    ولتقوية هذا الرباط الروحي بين دول الكتلة الاتحادية الإسلامية عملت مصر على استكمال الوحدة الصومالية ، باعتبارها جزءا هاما من إ<راء العالم الإسلامي ، ومما شجع مصر على توحيد الأراضي الصومالية أن الإدارة الصمرية قد امتدت على طول النيل إلى ما بعد السودان جنوبا حتى هضبت البحيرات ، وأصبح لحكمدارية خط الاستواء اعتبارا هاما في الكتلة الاتحادية الإسلامية منذ عام 1869 ، حينما أصبح صمويل بيكر حاكما عليها ،وبدأ النشاط في محاربة تجارة الرقيق ، وتسهيل حركة المواصلات البرية والملاحية بين مصر ، وأعالي النيل ، وذلك بإقامة حاميات مصرية ومراكز تجارية على طول النيل في قلب أفريقيا .
    وكانت منطقة السدود والأعشاب التي بين جنوب السودان ، وهضبة البحيراتمن العوامل الكبرى في تعطيل الحركة بين مصر وهضبة البحيرات . فكان لا بد من إيجاد طريق مأمون إلى هضبة البحيرات ، وبعد دراسة عميقة في القاهرة ، اتضح للمسئولين المصريين حقيقة هامة هي توحيد الأراضي الصومالية ، وإيجاد طريق مأمون سهل إلى هضبة البحيرات مسألة واحدة ، أي أن توحيد الصومال المسلم ، وشق طريق مأمون إلى هضبة البحيراتيمكن تحقيقها ، إذا شق طريق من ميناء ممبسة المسلمة في شرق أفريقيا إلى هضبة البحيرات.
    وصدرت تعلميات سرية ، إلى الكولونيل بيردي الأمريكي ، وكان موظفا لدى الحكومة الصمرية ، أن يقوم برحلة استطلاعية وكشفية للاتجاه من ممبسة إلى بحيرة فكتوريا ، بحجة إنقاذ صمويل بيكر حكمدار المنطقة الاستوائية الذي أشيع أنه اختفى من مديرية خط الاستواء ، غير أن هذا السر ،وتلك الإشاعة انكشف أمرها ،ولمي قدر لهذه الفكرة النجاح .
    واتجهت السياسة المصرية إلى تدعيم الحلف الإسلامي مع شمال الصومال من ناحية ، والعمل على تويع الجبهة الصومالية من ناحية أخرى ، ولتحقيق ذلك أنشأ خط ملاحي منتظم بين المواني الصومالية الشمالية والمواني الجنوبية حتى ميناء ممبسة ، بالإضافة إلى شق عدد من الطرق البرية الداخلية مع المواني الساحلية ، بجانب خطوط أقاليم شوا – الكافا ، والكاف – هرر ، إلى المواني الصومالية الشمالية .
    وفي عام 1875 عين غردون باشا حاكما على مديرية خط الاستواء بعد صمويل بيكر ، وطلب غردون من مصر أن تحمي مشروع الوحدة الصومالية ، وأن تعمل على شق طريق إلى بحيرة فكتوريا من ميناء ممبسة الواقع على المحيط الهندي ، ونبه إلى ضرورة إيجاد قاعدة عند ممبسة لتسهيل الحركة التجارية ، وذلك لتفادي منطقة السدود ، وخاصة أن المسافة بين أراضي ميتسا صديق مصر (ملك أوغنده) لا تزيد عن أربعمائة ميل . وأوصى غردون أن يقوم ميكلوب بقيادة الحملة البحرية فوافقت مصر على هذا المشروع الذي أطلف عليه مشروع جوبالند بهدف تحقيق الوحدة الصومالية الإسلامية .
    الاستعدادات للبعثة المصرية :
    1- صدرت أوامر في 17 سبتمبر 1875 بشأن تكليف غردون باشا بأن يمد إدارته من وسط أفريقيا وهضبة البحيرات ، إلى الأراضي الممتدة بين ساحل المحيط الهندي وجونالند ليتقابل مع ميكلوب باشا على الساحل . 2- أوامر إلى ميكلوب باشا أن يقوم على رأس بعثة بحرية إلى نهر جوبا وإيجاد مراكز على الساحل لتكون قواعد الانطلاق نحو الداخل ، وربط الساحل بالأقاليم الداخلية إلى بحيرة فكتوريا حسب تعلميات غردون باشا الذي يتقابل معه على الساحل . 3- أوامر إلى ميكلوب باشا ، وقواد البعثة البحرية بالمحافظة على حقوق الصوماليين ، حتى لو اضطروا إلى محاربة سلطان زنجبار الذي يفرض نفسه على الساحل الجنوبي للصومال ، وأن تكون القيادة العامة في البعثة لغردون بااش بعد وصول البعثة إلى نقطة التلاقي . 4- تعيين رضوان باشا ، وعبدالرزاق بك ناظر المدرسة البحرية معاونين لميكلوب باشا . 5- تنظيم البريد بين مراكز البعثة البحرية وبربره حيث يقوم جمالي باشا المقيم في بربره بتنظيم حركة البريد لنقله إلى مصر . 6- تزويد البعثة بألف بندقية لتسليح من يرغب من الصوماليين وكذلك بعشرين ألف ريال للصرف منها.
    سير البعثة البحرية المصرية :
    تحركت البعثة البحرية المصرية في 17 من رمضان 1292 من بربره على أربع بواخر وهي باخرة محمد علي ، ولطيف ، وطنطا ، ودسوق وعلهيا خمسمائة وخمسون جنديا ، فوصلت في 26 من رمضان إلى رأس حافون حيث استقبلهم مرسي محمد عم سلطان منطقة حافون المسمى السيد عثمان محمود ، وكان برفقته شيخ بندر حافون وثمانية عشر شخصا من أهالي حافون ، وقاموا بزيادة بندر حكدة حيث رفع عليها العلم المصري.
    واستمرت البعثة في سيرها حتى توقفت في مدينة براوة لإمداد السفن بالمياه اللازمة ، وقدم مشايخ براوه وعلماؤها شكواهم مما يفعله سلطان زنجبار ، وأنه استولى على براوة بالقوة من أيديهم ، وأقام عساكره ، ومع هذا لا يمنع عنهم تعدى أهل البادية ولا ينصفهم . فطيب ميكلوب باشا خاطرهم ووعدهم بالمساعدات وتحسين أحوالهم ورفع العلم المصري رمز الوحدة الإسلامية على مدينة براوة .
    وتابعت الرحلة سيرها حتى مصب نهر جوبا الذي تتجه مياهه إلى المحيط ، وفي نهاية رمضان المعظم وصلت الحملة إلى كسمايو ، (في الوقت الذي وصلت فيه رسالة الخديوي إلى غردون باشا بأن يتحرك لمقابلة البعثة البحرية المصرية على الساحل) وأشعلت المصابيح الزيتية بالعيد السعيد ، عيد الوحدة الإسلامية والتلاقي بين الصومالي والمصري ، وإرهاب أعداء الإسلام . وفي الصباح حضر عدد كبير من العلماء والشيوخ للتهنئة بالعيد وقال المهنئون بالعيد : (إنه لما أطلقت المدافع وقع الرغب في قلب الحاكم المسمى أحمد بن حميد العدوى الذي من طرف زنجبار ، وكذلك عساكره البالغ عددهم ستون جنديا ، فتأهبوا للفرار ليلا ، وخرجوا قاصدين زنجبار هم وأولادهم) .
    وقد سمي ميناء كسمايو باسم بورت إسماعيل ، تخليدا لهذه الذكرى ، وكانت مدينة كسمايو ذات مساكن من الخشب ، وأوراق الجزر الهندي المجلوب إليها من بندر لامو الواقعة قبلي كسمايو ، وكانت كسمايو في تجارة رابحة ياتي إلهيا من الهند الأرز ، والبصل ، وقصب السكر ، ومن مسقط التمر ، ومن زنجبار الذرة ، كما يصل السمن والصمغ ، وريش النعام ، والعاج من البر . والجمال معدومة وإنما وسيلة النقل هي الحمير والثيران .
    وقام رضوان باشا في بورت إسماعيل كمحافظ ، وعمل على تنظيم شئونها ، وسمح لمشايخ براوه وغيرهم بالسكن في ناحية كسمايو ، وطرد جنود برغش الذين ظلوا يحكمون المدينة نحو خمسة وعشرين عاما ، ويأخذون الضرائب على المتاجر بدون أن يقوموا بحماية الأهالي .
    واتجه ميكلوب باشا ساحلا لجوبالند ، فكشف عن ساحل لامو وجزيرة فورموزا .
    ويحدثنا عبدالرزاق بك أن جماعة من مركة وشيخهم الشيخ ابو بكر ابن الشيخ يوسف ، قد طلبوا الانضمام إلى الكتلة الإسلامية ، وكذلك هذا ماكان من وفود من جزر الباجون وغيرها من الجزر الساحلية .
    وأقام المصريون مخازن لحفظ الطعام ، وأصلحوا من حال الأهالي وقام عمل مشترك في الحدائق والبساتين ، واستخدم الشادوف في اري لأول مرة ، وأدخلت العملة في التجارة بدلا من المبادلة بالقماش والخرز ، وأرسل ميكلوب باشا بطلبات من القاهرة منها مهندسون وبناءون ونجارون وفلاحون بعائلاتهم ، لتعمير هذه الجهات وتدريب إخوانهم الصوماليين على الزراعة الحديثة ، وكذلك الأدوات الضرورية لإصلاح المواني ، ولكن لم تتح فرص لتحقيق هذه المطالب لظهور المؤامرات والدسائس البريطانية ، مما كان له تأثير كبير في عدم تحقيق الهدف الذي من أجله جاءت البعثة البحرية المصرية إلى منطقة جوبالند وهو توحيد الأراضي الصومالية في إطار مجموعة الدول الاتحادية الإسلامية .
    موقف بريطانيا من المشروع :
    لو قدر نجاح المشروع لظهرت نتائجه الأولى في توحيد الأراضي الصومالية ، تحت قيادة حكام صوماليين بصرف النظر عن مدى نجاح الوحدة للكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا ، وما كانت تحدث تلك التقسيمات الاستعمارية التي خلقها الاستعمار في أوائل القرن العشرين ، وكانت البلاد تجنبت إراقة الدماء في سبيل إعادة وحدة الوطن .
    وكانت بريطانيا رأس المؤامرات الاستعمارية وراء فشل المشروع وقد شعرت بريطانيا منذ الوهلة الأولى لقدوم المصريين ، بما يسمونه (الخطر المصري) إن وراء هذه الحركة المصرية خطرا داهما لمنطقة شرق أفريقيا ، إذ أن اتحاد مسلمي مصر ومسلمي الصومال ، معناه إحاطة الحبشة بدول إسلامية قد تكون حلقة لحصار المسيحية الحبشية من ناحية ، وقد يمتد أثرها إلى كافة أقاليم أفريقيا الشرقية من ناحية أخرى ، وفي الوقت نفسه قد تكون الوحدة الصومالية سببا في أن تمتد الثورات إلى أراضي كينيا وزنجبار ، مما جعل مركز بريطانيا الاستعماري في شرق أفريقيا في خطر ، إن لم يكن في قلق مستمر .
    وقد بدأ القنصل البريطاني في زنجبار ويدعى (كريك) برحلة بحرية على ظهر باخرة حربية في أوائل نوفمبر إلى مدينة براوة ، وأارد دخول الميناء ، غير ان قائد الحامية المصرية منعه من الدخول ، فعاد القنصل مرة أخرى بعد أن استجمع قواه مهددا الحامية المصرية بأن بريطانيا لها حقوق في أملاك سلطان زنجبار ، ولها أن تنتقل على طول الساحل كما تشاء ، ولم يقبل الحاكم المصري التهديد الإنجليزي قائلا : (لن أسمح لأي فرد أجنبي مهما كانت منزلته بدخول البلاد بدون تصريح من الحاكم العام للإقليم ، والحامية المصرية مضطرة أن تستخدم القوة دون تردد إذا حاول أي مخلوق دخول البلاد) .
    وأجريت مفاوضات ، أسفرت عن السماح لكريك القنصل البريطاني منفردا أن يقوم بزيارة التجار الهنود في براوة تحت الحراسة المصرية ، وفي الحقيقة كان هدف كريك ، معرفة مدى القوى المصرية في براوة قبل أن يقوم بأي إجراء عسكري ، ولما أدرك في زيارته لبراوة مدى التمسك الأخوي بين المصري والصومالي في الداخل ، وأنهم جميعا بقلوب مؤمنة على استعداد للرد على أي معتد ، لاعتقادهم أن في ذلك استشهادا من أجل الوطن وأن لهم الجنة .. فما كان من كريك إلا ان أبرق إلى وزير خارجية بريطانيا يفيده بخطورة الموقف على سواحل الصومال الجنوبية ، وأن وجود المصريين بجانب الصوماليين ، معناه تهديد لمصالح بريطانيا في شرق أفريقيا ، وأن الظروف تحتم أبعاد ماسماه الخطر المصري .

    واتجه كريك إلى السلطان برغش في زنجبار ، واستكتبه رسائل وبرقيات إلى وزير خارجية بريطانيا يشكو من الانقلاب المصريعلى ساحل الصومال الجنوبي التابع له ، وإلى المقيم السياسي البريطاني في عدن بشأن نجدته بقوة عسكرية بحرية لإبعاد المصريين من ساحل الصومال ، وإلى السلطان الإنجليزية في الهند بشأن مساعدته للتخلص من المصريين أصحاب الفتن والثورات على ساحل الصومال ، وإلى ميكلبو باشا يطلب منه الرحيل من السواحل الصومالية من جنوده في الحال . وفي الوقت نفسه كان كريك يدفع بسلطان زنجبار للقيام بثورات مسلحة ضد المصريين ، غير أن هذه المحاولات جميعا لم تثمر مع القوات المصرية المصممة على استكمال الوحدة الصومالية من ناحية ، والوحدة الإسلامية من ناحية أخرى .
    وحينما أحس كريك أن خططه الأولى قد فشلت ، اتجه إلى القنصل الفرنسي يستنجد به لطرد المصريين من ساحل الصومال ، وفي الوقت نفسه بعث بعملائه إلى جنوب لامو لمنع توغل المصريين أكثر من ذلك .
    وكانت القوات المصرية تعاني من ازمة نقص وقود الفحم اللازم للسفن القائمة بحمل البريد ، والطرود بين كسمايو وبربره ، لذلك أرسل سفينة إلى زنجبار للتزود بالفحم حتى يمكنها السفر إلى بربره لطلب إمدادات من الفحم للسفن المصرية الراسية في كسمياو ولكن عادت السفينة فارغة .
    وكتب ميكلوب باشا رسالة إلى غردون باشا يناشده سرعة الوصول إلى الساحل ، غير أن الخطاب وقع في يد البريطانيين ، ورغم أن الخديوي طلب من غردون أن يتجه إلى الساحل فإنه لم يفعل وذكر أن الخديوي لم يسمع نصيحته بانتظار ميكلوب باشا عند مصب نهر الجويا وليس خليج فرموزة . وفي رسالة أخرى بعث بها غردون باشا إلى لندن ، أعلن أسفه لاشتراكه في هذا المشروع وأنه يجهل حدود أملاك سلطان زنجبار في الصومال .
    والحقيقة أن غردون باشا ، وهو إنجليزي يعمل في خدمة الحكومة المصرية لم يكن مخلصا للدولة المصرية التي يعمل فيهاوإنما كان مخلصا لمصالح وطنه الأصلي في لندن ، ولذلك كانت مسئولية فشل المشروع أولا وأخيار تقع على غردون نفسه ، ويرجع إلى غردون ضياع أوغنده من يد مصر ، فقد كان ميتسا صديق مصر (ملك أوغنده) قد طلب من السلطات مصرية في أعالي النيل أن يرسلوا إليه عالمين ليعلماه وشعبه تعاليم الإسلام ، ولكن غردون بدلا من أن يطلب شيوخا من مصر ، بعث أرنست دي ملتون (المبشر المسيحي) الذي أقنع ميتسا بعظمة أروبا المسيحية ، وأمكن تحويله إلى المسيحية غير ان المبشر قتل في إحدى المعارك وعثر في جيبه على رسالة من مسئول بريطاني يطالب لندن بإرسال بعثة تبشيرية لضمان لنفوذ الأوروبي في مجاهل أفريقيا قبل أن يدخلها الإسلام .
    وهكذا كان غردون عاملا فينشر المسيحية في أواسط أفريقيا ، كما أنه عامل أساسي في فشل مشروع الوحدة الإسلامية الذي تزعمته مصر .
    وكانت مصر تحس بالأخطار التي يتعرض لها مشروع الكتلة الاتحادية الإسلامية من موقف بريطانيا ، والدول الغربية الاستعمارية ، وموقف الحبشة المسيحية التي لا تميل لوجود حلقة إسلامية حولها مما يحول دون تحقيق شهوتها الاستعمارية والتوسعية في الأراضي الصومالية . وبالإضافة إلى المصروفات الباهظة التي تكبدتها مصر في محاربة تجارة الرقيق ، وفتح أقاليم خط الاستواء مما كلف الخزانة المصرية الكثير من الماديات والأرواح ، وفي الوقت نفسه كان من حق الصومال المسلم أن يكون دولة متحدة ضمن القطاع الإسلامي الأفريقي ، ومن حق هذا القطاع الإسلامي أن تكون له مواني تصله بمسلمي أوغنده وأعالي النيل ، مما دعا إسماعيل باشا خديوي مصر أن يعرض مبلغ من المال كتعويض لسلطان برغش الذي يدعى ملكية سواحل الصومال ، ولكنه رفض تحت ضغط كريك القنصل البريطاني .
    وقد بعثت كريك برسالة إلى بريطانيا يعارض مسألة شراء ميناء كسمايو ، وأي ميناء لضمه إلى مصر لأن العلاقات البريطانية الزنجبارية تحتم على بريطانيا حماية ممتلكات السلطان ، ومن الأفضل أن يكون لبريطانيا مواني صومالية لخير وصالح بريطانيا .. أليس المصريون هم الذين دفعوا ميتسا ملك أوغنده على طرد الهنود من بلاده .
    وافقت بريطانيا على مطالب كريك لإبعاد الخطر المصري من سواحل الصومال الجنوبي لأن برغش أطوع لها من خديوي مصر ، وبسبب الإرتباك المالي الذي كانت فيه مصر ، بسبب ديون إسماعيل باشا قامت بريطانيا بالضغط على الخديوي حتى أصدر تعليمات بشأن جلاء القوات المصرية من براوة وكسمايو وغيرها من المناطق في أوائل يناير 1876 على أن ترفع الأعلام المصرية من السواحل ، وتبقى الأعلام والنفوذ المصري فيما بين خليج تاجورة ، ورأس حافون وعادت البعثة البحرية المصرية إلى مصرع في 21 محرم 1293 .
    وبذلك تضافرت قوى الاستعمار الممثلة في بريطانيا وعملائها أمثال غردون باشا ، ورجال التبشير ، وسلطان زنجبار على جلاء الإدارة المصرية من السواحل الجنوبية للصومال في 20 يناير 1876 ، وبعدها بأسبوع كان كريك القنصل البريطاني في زنجبار يحمل رسائل من سلطان زنجبار إلى حكام المدن الساحلية بأنهم أصبحوا تحت أمر كريك ، وهكذا تمكنت بريطانيا باسم سلطان زنجبار ، وبقوتها البحرية والمؤامرات ، أن تجلى المصريين لتحل محلهم على ساحل الصومال ، ولتحول دون إيجاد الوحدة لشعب الصومال .
    المعاهدة المصرية الإنجليزي بشأن ساحل الصومال :
    في 8 شعبان 1294 الموافق 7 سبتمبر 1877 أبرمت بريطانيا معاهدة مع مصر بخصوص سواحل الصومال ، واعترفت بريطاينا بسيادة مصر علىس واحل الصومال لغاية رأس حافون .. وهذا نص الاتفاقية ..
    مقدمة : (إنه لما أرادت كل من الحكومة الخديوية وحكومة بدولة الإنجليز عقد اتفاق فيما بينهما بشأن إقرار دولة الإنجليز على تسلط الحكومة الخديوية بالنسبة لتبعيتها إلى الدولة العلية ، على سواحل بلاد الصومال لغاية رأس حافون رخصت حكومة دولة الإنجليز لجناب المسيو (فيفان) قنصل جنرال الدولة المشار إليها بالقطر المصري ، والحكومة الخديوية لدولتلو (شريف باشا) ناظر خارجيتها بعقد الشروط الآتية وهي :
    بند أول : مع حفظ وإبقاء الاشتراطات المعبر عنها بالبندا لخامس من هذه المعاهدة ، تتعهد الحكومة الخديوية بانهمن تاريخ تنفيذ هذه الشروط ومن تاريخ إقرار حكومة دولة الإنجليز رسميا على تسلط الحكومة المصرية على أراضي سواحل الصومال تبقى مينة (بربره) ومينة (بلهار) بصفة مينئين ممتازتين إذا لم يكن سبق اتخاذ التدابير اللازمة لغاية الآن لذلك ..
    وكذلك تتعهد الحكومة الخديوية بألا تعطي في هاتين المينيئين أي احتكار أو أي التزام كاف لأحد ما ، ولا ترخيص بإجراء شيء مما يعطل حركة التجارة فيهما ، وألا تؤخذ عوائد جمارك على البضائع الواردة إليها زيادة من خمسة في المائة – وعلى البضائع الصادرة إلى جهتي تاجورة وزيلع ، وكذلك في سائر سواحل بلاد الصومال زيادة عما هو جار أخذه في مينتي بولهار وبربره ، وبشرط أن يكون التابعون لدولة الإنجليز وسفنها معاملين كتبعية دولة متتازة في جميع جهات تلك البلاد التي تدخل تحت تسلط الحكومة المصرية .
    بند ثاني :يتعهد حضرة خديوي مصر الأفخم عن نفسه ، وعمن يخلفه بألا يرخص بإعطاء أية قطعة كانت من هذه البلاد التي تدخل في حوزة حكومته بطريق الوراثة ، إلى أية دولة كانت من الدول الأجنبية .
    بند ثالث : يكون لدولة الإنجليز حق في تعيين مأموري قنصليات في جميع المين والجهات الموجودة علىس احل البلاد المذكورة ، ويكون مأمور القنصليات السابق ذكرهم متمتعين بجميع الامتيازات والمعافات .. وسائر المزايا المعطاة ، والتي يمكن إعطاؤها إلى سائر مأموري قنصليات أي دولة ممتازة ، ولا يسوغ تعيين مأموري قنصليات من أهالي تلك البلاد أو من أهالي البلاد المجاورة لها ..
    بند رابع : أما بخصوص تجارة الرقيق ، وأمور الضبط والربط في عمدية تلك البلاد فالحكومة الخديوية تقضي بمنع تصدير رقيق من الجهات المذكورة وتمنح تجارته كما في سائر أقطارها .
    وأن نلاحظ أمور الضبط والربط فيها لغاية بربرة ، وكذلك ليس على الحكومة الخديوية من الآن ، لغاية ما تنظم أمور إدارتها في جميع الجهات من بربرة إلى رأس حافون ، سوى أن تلتزم بإجراء جميع ما في إمكانها لمنع تجارة الرقيق ، وحفظ أمور الضبط والربط .
    وقد قبلت الحكومة الخديوية أن تكون سفن الإنجليز أيضا مأمورة بملاحظة منع تجارة الرقيق ، وأن تضبط وترسل إلى المجالس المختصة بهذا الأمر جميع السفن التي نراها مشتغلة بهذه التجارة ، أو تكون مشبوهة بالاشتغال بهذه التجارة ، وفي جميع السواحل الموجودة بالصومال التابعة للقطر المصري .
    النبد الخامس ..تعتبر هذه الشروط متممة وواجبة التنفيذ ، عندما تتعهد جلالة الحضرة الشاهانية إلى حكومة دولة الإنجليز تعهدا رسميا تاما بأن لا تعطي بأي وجه كان إلى أي دولة كانت من الدول الأجنبية ، أي قطعة من سواحل بلاد الصومال ، أو من سائر البلاد التي أدخلت في حوزة الحكومة المصرية ، وصارت جزءا من ممالك الدولة العلية المعطاة إلى الحكومة المصرية ، أو أية نقطة من القطر المصري ، أو من البلاد التابعة له بطريقة الوراثة إلى أية دولة أجنبية ، وعلى ذلك صار عقد هذه الشروط ، ووضع كل من الطرفين إمضاءه . شريف ، فيفان تحريرا بالإسكندرية في 7 سبتمبر 1877
    مسئولية غردون في تحطيم الوحدة الصومالية
    في مقابل توقيع الاتفاقية السابق ذكرها عين غردون حكمدارا على السودان ، لكسب ود بريطانيا ، ولكن إسماعيل خديوي مصر بسياسته في تعيين الأجانب في المراكز الهامة من البلاد قد أساء إلى مصر ، بل أساء إلى نفسه .
    واعتبارا من 4 صفر 1294 أصبح غردون حكمدارا رسميا للسودان ، وبعد إثنى عشر يوما أضيفت إليه زيلع ، وبربره ، وهرر ، وتجرة ، مع بقاء مديري هذه الجهات كما هم (رؤوف باشا على هرر ، أبو بكر باشا شحيم الصومالي على زيلع ، ورضوان باشا على بربره) وكل منطقة وملحقاتها من المدن والقرى على أن يتعاون الجميع لما فيه الخير للأمة الصومالية ، وتدعيم الوحدة الإسلامية .
    وما أن تولى غردون حكمدارية السودان وملحقاتها ، حتى قام بسلسلة من الأحداث التي تشير إلى أنس ياسته لخدمة المصالح البريطانية أولا وأخيرا ، واتضحت هذه السياسة حينما قام بعزل الحكام المصريين المسلمين لتعيين حكام أجانب مسيحيين في داخل السودان ، ثم اتجه إلى الصومال فطلب عزل الحكام الموثوق بهم وتعيين حكام جدد ، فبدأ عمله بعزل رؤوف باشا حكمدار هرر في 12 مايو 1878 ، وجعل رضوان باشا مديرا عاما على هرر والسواحل ، وعين أحمد رامي بك وكيلا له في هرر كما عين يوسف ابن الأمير أحمد مديرا على مديرية هرر .
    ومن الغريب حقا ان غردون باشا سبق له أن كتب خطابا في مدح رؤوف باشا حينما كان يعمل معه في مديرية خط الاستواء وكان الخطاب إلى نوبار باشا في القاهرة بتاريخ 5 سبتمبر 1874 ، غير انه بدأ يذم رؤوف باشا حينما أدرك أن رؤوف يحتل مكانة ممتازة في قلوب الصوماليين ، وخشي أن يمتد نفوذه ويدعم من قوة الصوماليين كدولة مسلمة يمكنها ان تعرقل أي سياسة استعمارية تقوم بها بريطانيا على ساحل الصومال ، إذا ما أرادت احتلال أي جزء من أراضيها ، وظهر الأمريكي مديرا على هرر ، فقامت البلاد بثورة وأعلنت أنها لا توافق على أن يكون رئيسهم مسيحيا وأنه لا حاكم غير رؤوف باشا .
    وفي 7 أكتوبر قام غردون بطلب فصل رضوان باشا وعودته إلى مصر ، رغم أن غردون نفسه هو الذي رشح رضوان باشا من قبل لهذه الوظيفة (حكمدارية هرر) ، كما طلب فصل (أبى بكر باشا) شحيم الصومالي وإرساله إلى الحديدة (نفي) .
    ولكي يثبت غردون أن الصومال عبء على الخزانة المصرية كتب تقريرا عن أحوال الصومال يقول فيه أن بربره لا مستقبل لها ، وبلهار لا تصلح لأن تكون ميناء للتصدير ، ويجب إغلاقه ، وتاجورة لا ينتج من إدارتها أي شيء ، وأشار إلى أهمية بربره بالنسبة لعدن ، وأنه يجب فرض ضرائب على الصادرات الصومالية من مواشي وأغنام وبضائع . ولعله أراد أن يظهر الصومال الفقير في ظروفه الطبيعية ، وفي إنتاجه وفي الوقت نفسه يطالب بفرض ضرائب على الصوماليين لكي تقوم ثورة شعبية لكثرة الضرائب مما يتيح فرصا لبريطانيا للتدخل في شئون بربره .
    (نص) ترجمة تقرير غردون عن بربره وزيلع وتاجوره وهرر محافظ الF.O. يوليو 1877
    بربره : مدينة لا تبشر بمستقبل زاهر .. طالما أن عدن موجودة كميناء هام في مدخل البحر الأحمر وقد صرف على بربره منذ وجود المصريين بها المبالغ التالية (بالجنيه المصري) : 21.000 جنيه (الفنار) ، 24.000 جنيه (عملية توصيل المياه)9.000 جنيه (المرسى) ، 1.000 جنيه (الجمرك)1.300 جنيه (الجامع) ، 1.000 جنيه (ديوان الحكومة) 8000 جنيه (صهاريج المياه) ، 1.200 جنيه (المستشفى)1.000 جنيه (أفران الخبز) إجمالي المصاريف 60.300 جنيه
    وإذا أضفت إلى هذا مصاريف صيانة الباخرتين بها ومقررها 14.000 جنيه ومصاريف الحامية المكونة من 6 بلوكات وقدرها 25.000 جنيه تصبح التكاليف العامة 99.300 جنيه ويصرف شهريا على الفنار مبلغ 65 جنيه لماهيات العمال ومصاريف الصيانة ، ويقال أن الرسوم التي حصلت على الفنار منذ إنشائه لم تتعد سنويا 100 جنيه .
    وإذا أنقصنا الحامية بربره إلى 250 رجلا .. واستبدلنا الوابورين البخاريين بباخرة صغيرة – تنخفض المصاريف السنوية إلى 8.000 جنيه ولكن يجب ألا يشتري اللوازم الأميرية عن طريق (علي بك حسن) بعدن لارتفاع الأسعار التي يوردها .
    هذا على أن صادرات بربره إلى عدن تبلغ من الأغنام والمواشي سنويا 60.000 خروف ، 10.000 بقرة ، فإذا وافقت الحكومة وبريطانيا على تحصيل 3 قروش على كل خروف و 25 قرشا على كل بقرة تحصل على 1.800 جنيه ضريبة على الخراف ، 2.500 جنيه على البقر ، فيكون المجموع المحصل 4.400 جنيه في حين أن الدخل الحالي لبربره من الجمرك لا يتعدى سنويا 200 جنيه .
    وأعتقد أنه غير مجد الاستمرار في الاحتفاظ ببلهار كميناء ثاني للتصدير – وحتى تجار عدن أنفسهم اعتقدوا أنهم يفضلون قفل بلهار على أن تبقى بربره فقط كميناء لتصدير ..
    زيلع :
    ميناء له بعض الأهمية ، ومصاريفه الآن مع وجود بلوك كامل به تصل إلى 3.600 جنيه سنويا ولكن إذا أخفضنا الحامية إلى نصف بلوك – كما يرى ذلك أبو بكر باشا ورضوان باشا تنزل المصاريف إلى 2.400 جنيه سنويا . والمتحصل من زيلع سنويا 4.218 جنيها .
    ولذلك يمكن أن يكون فائض الإيراد السنوي على المنصرف ما يقرب من 1.800 جنيه وهذا المبلغ يمكن صرفه في تحسين حال المدينة وبناء المديرية وفي عملية مد مواسير المياه ، التي تبعد عن المدينة بما يقرب من 4.000 متر .
    تاجورة :
    تدخل مصاريفها في ميزانية زيلع ، لكن لا ينتج عنها إيراد في حين أن مصاريفها السنوية تبلغ 800 جنيه .
    هرر :
    كما أعتقد ستصبح من أهم الأقاليم إذا مهد الطريق بينها وبين زيلع ، فهذا الطريق مفزع ومتعب ، ولذا فقد أمرت بصرف 200 جنيه فورا لتحسينه .
    وحامية هرر تقرب من 3.000 عسكري وهم في حالة حسنة من حيث المسكن والمأكل ، وقد أخذت على عاتقي مسئولية الأمر بأن لزوجات العساكر المتزوجين الذرة من الحكومة ، وذلك بقصد تشجيع العساكر على الزواج لأن ذلك يجعلهم أحسن حالا ..
    ومصاريف الحكومة على هرر تبلغ سنويا 13.000 جنيه والإيرادات السنوية 17.500 جنيه وهذا يحقق وفرا سنويا قدره 4.500 جنيه
    وأرى أن تصرف الزيادة على تحسسين حال هذه البلاد وتتكفل الحكمدارية السودانية بسداد العجز الناتج من زيادة مصاريف بربره عن إيراداتها .
    غردون والقوى الإسلامية :
    اتخذ غردون سياسة هدامة لتحطيم القوى الإسلامية في الصومال ، كذلك اتخذ هذه السياسة في السودان ، فقام بتعيين امين بك الألماني على مديرية خط الاستواء والإيطالي رومولو جيس في بحر الغزال والإيطالي ساواليا في دارفور والنمساوي سلاتين في كردفان (وكان عمره 25 عاما) ، وبذلك أنشأ شبكة من القوى المسيحية في السودان كما هو الحال في الصومال ، وهو يهدف إلى تحطيم الحلقة الإسلامية الوحدوية التي تبنتها مصر ، وسخرت كل قواها البشرية والمادية في سبيل إنجاحها .
    ويذكر المؤرخ Hell's في كتابه (غردون في وسط أفريقيا) (1874/1879) أن غردون قال في 9 أغسطس 1878 ق (إنني أوجه كل وم ضربات مميتة ضد تجار الرقيق ، وقد أنشأت من أجل ذلك نوعا من حكومة الإرهاب ، فحكمت بالإعدام شنقا ، وأني لن أطلب الإذن بذلك من أحد ولا يهمني أن يوافق الخديوي أو يعارض) .
    فالواقع أن سياسة غردون تسير وفق مخطط سياسي من عزل الحكام المسلمين ، وتعين حكام مسيحيين ، ومنح الامتيازات للأجانب وخاصة المبشرين ، وعمد إلى سياسة القتل داخل ماسماه حكومة إرهابية وغير ذلك مما يدعو الناس إلى الثورة ضد الحكم المصري ، ومما يعطي بريطانيا فرص العمل لإخراج مصر من هذه الدول ،وقتل الوحدة الإسلامية بتدخل بريطانيا في صورة المنقذ والداعي للسلام ، والمحافظ على الاستقلال . ومن أجل تبادل المنافع . فإذا ما استوى لها الأمر أعلنت الحماية على هذه البلاد ، وهذا فعلا ما سنراه في الدراسة القادمة .
    ويذكر المؤرخون أن إبرام المعاهدة البريطانية المصرية بشأن سواحل الصومال لم يكن عملا حكيما من جانب مصر ، لأنها كانت السبب الرئيسي في ضياع الصومال وتمزيق الوحدة الإسلامية في مهدها . كما كان تعيين غردون باشا الإنجليز حاكما على السودان والصومال هو المرحلة العملية لضياع الصومال والسودان ، وتمزيق الوحدة الإسلامية ، وغن كان الخديوي قام في عام 1879 بعزل غردون وعين محمد رؤوف باشا خلفا له على السودان وعين محمد نادي باشا حاكما على زيلع ، وبربره ، وتجرة ، وهرر فقد كان ذلك بعد فوات الأوان . وأدركت بريطانيا أن التقسيم الإداري الجديد الذي أطاح بغردون وجعل من هرر حكومة قائمة بذاتها لتكون قاعدة للوحدة الصومالية تحت إمرة محمد نادي باشا ، مما يضر بالمصالح البريطانية في عدن نفسها ، ولذا أرسلت مندوبا عنها إلى الخديوي تطلب أنيصدر أوامر مشددة صارمة بخصوص تجارة الرقيق ، قبل إجراء تعيين أحخد لمنصب الحاكم العام وأرادت من وراء هذا الستار المقنع بمنع تجارة الرقيق أن تقوم بحملات تفتيشية للسفن أيان كان نوعها .
    وعلى أية حال لم تستمر الإدارة المصرية في سياستها الوحدوية لدول الإسلامية الإفريقية التي نادت بها ، وقامت من أجلها بصرف مبالغ طائلة منذ القرن التاسع عشر ، ويرجع فشل الأماني المصرية إلى سوء الإدارة في مصر ذاتها ، أو في الدول الإسلامية التابعة لمصر ، لاحتلال الأجانب لأهم المراكز في الدولة الاتحادية الإسلامية ، فثورة المهديين في السودان ، وثورة العرابيين في مصر ، وتدخل الإنجليز في شئون السودان ، وعودة الحكم الرجعي في مصر ، بكل هذا أصبحت البلاد الإسلامية التي كانت متحدة مع مصر بدون حامية مصرية مسلحة مما مكن لبريطانيا والدول الاستعمارية الأوروبية ، أن تقوم بمناورات على الساحل الصومالي لإجلاء المصريين ، وإيجاد مناطق نفوذ على ساحل الصومال ، ونشر التعاليم المسيحية فيها .
    جلاء الإدارة المصرية عن ساحل اصومال وهرر
    بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر ، بدأت المناورات البريطانية على ساحل الصومال ، منها ذلك الادعاء الصادر من الميجر هنتر المقيم السياسي البريطاني في عدن ، قال في ادعائه الكاذب :أن منيلك ملك شوا مع قبائل الجالا يعملون على احتلال هرر وأن القبائل الصومالية في زيلع ، وبربره ، تنادي بإخراج الحاميات المصرية منها ، ولذا رأى هنتر أن تتدخل بريطانيا في جنوب عدن والساحل الصومالي ، بهدف إيجاد وسيلة لضمان موارد ثابتة لعدن .
    وفي القاهرة ظهر ادعاء آخر من جانب القنصل العام في مصر مؤيدا لادعاءات هنتر قال فيه : (إن حكومة الخديوي لا تستطيع الاحتفاظ بالأقاليم التابعة لها في أفريقيا سواء في الصومال أو على حوض النيل) .
    وقامت بريطانيا بإرسال بعض وحدات الأسطول البحري غلى مواني بربره ، وزيلع ، لإجراء مناورات بحرية ، وعللت بريطانيا موقفها في 29 مايو 1884 بأن سواحل الصومال كانت تحت الإدارة المصرية بدليل رفض تركيا التصديق على معاهدة 1877 ، وأن الباب العالي قد باشر حقوقه وسيادته على الجزء الممتد من باب المندب إلى زيلع ، أما القسم الذي يبدأ من زيلع إلى رأس حافون فلم تعترف به بريطانيا . مع أن بريطانيا نفسها اعترفت بذلك في اتفاقية 1877 مع مصر بسلطة مصر تحت السيادة العثمانية على كل السواحل الغربية للبحر الأحمر ، والجنوبية لخليج عدن حتى رأس حافون .
    وقامت بريطانيا باقتراح دعوة الباب العالي ، أن يباشر سلطته بعد انسحاب الإدارة المصرية ، على أن يتعهد بإلغاء تجارة الرقيق ، وعدم أخذ رسوم جمركية في تاجور ، وزيلع ، أكثر مما حددته الاتفاقية المصرية الإنجليزي في عام 1877 ، غير أن الباب العالي رفض الشروط البريطانية التي تحد من سلطة تركيا كدولة مستقلة ذات سيادة ، وكان رد الفعل أن أعلنت بريطانيا أن اتفاقية عام 1877 تعتبر ملغاة . وفي نفس الوقت قامت باحتلال الجزء الممتد من زيلع ، إلى رأس حافون ، بحجة المحافظة على النظام ، وحماية المصالح البريطانية في بربره ، وعهدت إلى الميجر هنتر بأن يقوم بالترتيبات اللازمة لجلاء الإدارة المصرية عن ساحل الصومال ، والقيام بعقد اتفاقيات مع شيوخ القبائل الصومالية ، قبل رحيل الإدارة المصرية ، رغم ما في ذلك من مخالفة للقانون الدولي ، فكيف يمكن عقد معاهدات أو اتفاقيات قبل أن يحصل الشعب على استقلاله وسيادته .
    وأراد هنتر أن يغزو بربره ، بعد أن زودته السلطان البريطانية في الهند بسفينتين بريطانيتين ومائة رجل مسلح ، ولكنه شعر بتكتل الشعب الصومالي والحامية المصرية في بربره واستحالة غزو بربره ، فعاد إلى عدن وجمع ساريتين من المشاة الهنود ، وبطارية مدافع ومائة من الخيالة بذخائر ومهمات حربية ، وأقام معسكرا على ساحل عدن في انتظار الأوامر من لندن لغزو بربره ، والدخول في حرب مسلحة مع المصريين والصوماليين على حد سواء .
    وفي رسالة بعث بها المسيو برتران نائب القنصل الفرنسي في عدن إلى المسيو جول فيري في 31 يوليو سنة 1884 (إن ثلاثة من الشيوخ الخمسة من قبيلة هبر أول الذين تحدثوا مع الميجر هنتر بشأن الاتفاق مع بريطانيا ، قد اتجهوا إلى القلعة ، وأنزلوا العلم البريطاني الذي كان قد رفع أخيرا عليها وأعلنوا بمجرد وصولهم إلى الصومال ، أنهم لن يوافقوا أبدا على رؤوية الأجانب في بلادهم) .
    غير أن بريطانيا لجأت عن طريق سفيرها في القاهرة السير ايفلين بارنج بالضغط على مصر – التي كانتت حت الاحتلال البريطاني – لكي تصدر الأوامر بإجلاء الإدارة المصرية عن بربره ، تمهيدا لإقامة الاحتلال البريطاني على الساحل .
    أما عن هرر فقد كان نوبار باشا يعارض فكرة إخلائها ، ولكنه وجد أن الحكومة المصرية قبلت إخلاء السودان ، وتحت ضغط بريطانيا طلبت مصر من الحامية الموجودة في هرر الانسحاب من هرر تحت إشراف الميجر هنتر .
    وتقدم أهالي وتجار هرر باحتجاجات وطلبات بشأن بقاء الإدارة المصرية وهذا نص الاحتجاج :
    عريضة مقدمة إلى حكمدار عموم هرر في 16 أغسطس 1884-شوال 1301 من الأعيان والعلماء والأهالي والتجار الوطنيين بهرر (حكمدار عموم هرر وملحقاتها عطو فتلوا أفندم حضرتلي)
    يقدم هذا أعيان ، واهالي ، وتجار مدينة هرر لعطوفتكم أفندم – وهو أنه منذ يومين من تاريخه بلغنا إشاعات محزنة لا نؤمن ولا سمح الله بوقوفها – بأنه في عزم الحكومة إخلاء هذه البلدة وملحقاتها ، والحال أننا نعرض لخفامة عطوفتكم – بأنه لو حصل ذلك يكون سببا لإراقة الدماء ، وعدم وجود الأمن في الأرواح والأموال ، وذلك لعدم وجود المنصف الذي يأخذ حق الضعيف من القوي ، وفي الأزمان السالفة بقيت هذه البلاد نحو خمسين سنة لغاية استيلاء الحكومة علهيا على يد أمراء في حالة التوحش ولم يكن ينقطع منها سفك الدماء ولا السلب والنهب ، ولم يكن أحد يستطيع الوصول إليها من الجهات المتمدنة ، حتى أن المولى سبحانه وتعالى من علينا بالحكومة الخديوية فكانت سببا في انتظام أحوالنا حتى صرنا في عصرنا نأمن على أرواحنا ، وأموالنا ، وعيالنا ، وانقطع النهب والسلب وإزهاق الأرواح ، وانتظمت لنا الحالة وصارت هذه المدينة مركزا تجاريا يهرع إليه التجار من كافة الأقطار فزدنا التشكر لمولانا الكريم على ذلك .
    وكنا على الدوام ولم نزل نرفع الدعوات الصالحة لولي نعمتنا الخديوي الأفخم ولأنجاله الكرام ، ورجال دولته بدوام العزو والنصر والتأييد ، ولما بلغتنا هذه الإشاعات صرنا في غابة من الأسف وحرنا في أمرنا وما سيطرا علينا ، ونفزع مما نتوقع حصوله في المستقبل من إعدام أرواحنا ، وعيالنا ، وسلب متاعنا ، وخراب هذه المدينة ، وهدمها بالكلية . وعلى ذلك لا يكون لنا ملجأ سوى أن نلجأ للحكومة الخديوية التي كانت السبب في نظام بلادنا من تسع سنوات من مدة استيلائها علهيا ، فلا يمكن أن تتركنا هباء منثورا لأنه لو تحقق هذا الأمر تكون الحكومة هي المتسببة في إهراق دمائنا وإعدامنا بالكلية .
    بناء عليه .. قد تجاسرنا بالعرض للنظر فيما يتسبب حفظ أرواحنا ومتاعنا ، وأملاكنا ، وأعراضنا طالبين عدل الحكومة ، وإحسانا من عدالة ولي نعمتنا الخديوي الأعظم التكرم علينا بما يطمئننا في هذه المسألة المعكرة لأفكارنا وإلا فسنكون مضطرين للمهاجرة ضمن العساكر للأقطار المصرية ، وأن عدل الحكومة السنية ، يمنحنا ما نحتاجه لمعيشتنا حيث أننا سنترك أموالنا وأملاكنا التي ورثناها من آبائنا ، وأجدادنا .
    وفي تاريخه عرضنا عن ذلك للأعشاب الكريمة ولدولة أفندم رئيس مجلس النظار ولديوان الداخلية والحربية والحقانية .. وهذا لعطوفتكم أفندم .
    إمضاءات
    تنفيذ جلاء الإدارة المصرية
    صدرت الأوامر من الحكومة المصرية (التي أصبحت تحت الاستعمار البريطاني) إلى ممثليها على ساحل الصومال ، وفي هرر بالجلاء فورا ، فقام رضوان باشا في 19 فبراير بتسليم إدارة هرر إلى الأمير المنتخب عبدالله محمد (الأمير السابق) كما انتخب مجلس عام للنظر في القضايا بين الأهالي من إثنى عشر شخصا كماتعين أربعة أشخاص لإدارة الجمارك وعساكر البلدية والناحية المالية .
    ويصف لنا رضوان باشا حالة البلاد والأسى الذي عم الجميع أثناء إخلاء الإدارة المصرية فيقول : (وأخذنا العهود على الأمير للسعي في تنمية المصالح وحماية التجار وتأمين الطرق ، وقدم الأمير عريضة بالشكر على توجيه الإمارة .
    وتقدم لنا محرر فرنساوي من عموم التجار الأوروبيين وغيرهم من الأجانب القاطنين بهرر ، وبترجمته عام أنه بروتستو (احتجاج) على الحكومةالخديوية ، بطلب التأمين على متاجرهم وعقاراتهم لأنهم لا يأمنون على حياتهم ومتاجرهم ، ولكن وكيل القنصل الإنجليزي أخبرهم بأنه سيقيم ثلاثة أشهر لتأمين حياتهم ، وأن من يرغب في الإقامة باختياره فله الحق وإلا فليرحل .
    وبعد الاستعداد للرحيل قمنا من هناك في 26 مايو 1885 (12 شعبان 1302) تاركين المدينة في حالة أمين ، وكنا نرى حالة الأسف الكلي من الأهالي والهلع يساورهم ، وكانوا يأتون للتوديع أفواجا ، ويسيرون من يوم لغاية ثلاثة أيام ..إلخ .
    الفصل الثامن عهد السلاطين في صوماليا
    تحدثنا في الفصول السابقة عن الهجرات العربية قبل وبعد ظهور الإسلام وانتشاره في المدن الصومالية وما حدث من تطور بهذه المدن الإسلامية حتى ظهرت الصومال كدولة قائمة بذاتها لها علاقات مع العالم الإسلامي بصفة خاصة والعالم الخارجي بصفة عامة . ثم تحدثنا عن عهد ملوك عدل وزيلع وهرر أو دول الطراز الإسلامي وأعمالها ودورها في الدعوة الإسلامية وتوحيد قوى الصوماليين إلى أن اشتركت بلاد الصومال وخاصة نصفهاالشمالي فترة غير قصيرة مع الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرقي أفريقيا .
    وننتقل الآن إلى الحديث عن الساحل الشرقي الصومالي أو النصف الجنوبي للصومال في عهد السلاطين ، فمن الثابت أن المدن الصومالية قد نمت وازدهرت في صورة دول مستقلة في داخل حدود المدن وفي الغالب كان لكل مدينة مرفأ طبيعي على ساحل المحيط الهندي وكان حكام هذه المدن غالاب من الأسر المحلية الوطنية ، أو تلك التي هاجرت من بلاد العرب واستوطنت في هذه المدن الساحلية ، فكان لابد أن يمتد أثر هذه المدن ونظمها السياسية والاجتماعية من النطاق الساحلي إلى الأجزاء الداخلية في شبه جزيرة الصومال .
    ومن الثابت في القرون الأولى للهجرة المحمدية أن هذه المدن الساحلية الصومالية كان لها نظام اجتماعي وسياسي يتسم بالطابع العربي ، والطابع الفارسي ، وإن كان بسيطا ، فإن له آثارا واضحة فيما تركوه من فتون وآثار . ولا بد أن هذه المدن الصغيرة كانت تأخذ بنظم وأشكال من الحكومات الاتحادية .
    ويكفي أن نذكر ما يروى عن سبعة أخوة أو عشرة أو إثنى عشر نزلوا البر فمن المحتمل أن يكون لهذا بعض الحقيقة وأن يكون كل منهم رئيس أسرة يتساوى في الحقوق والواجبات مع كل واحد من الآخرين . ثم بتميز احدهم برجاحة العقل وقوة الشكيمة والشجاعة والغنى فينصب نفسه أو ينصبوه رئيسا على المجموعة ومن ثم يصبح في وقت قصير تماما أو سلطانا .
    ولا نستطيع أن نحدد بالتأكيد القاطع الزمن الذي ظهرت فيه هذه السلطنات العربية ، ولا مقدار نموها وسلطانها ، ولكننا على أية حال نستطيع أن نثبت استنادا إلى المحررات التاريخية الصومالية دون أن نبتعد كثيرا عن الحقيقة أن هذه السلطنات قد ظهرت حوالي عام 700 هجرية (1300 ميلادية) ومن أشهرها سلطنات الجرين والأجوران والمجرتين (هذه الأسماء ليس لها دلالتها الخاصة ولا توضح لنا حدد هذه الدويلات ، وإنما نذكرها هنا لمجرد الدلالة على وجود هذه الدول .
    سلطنة الجرين والاجوران :
    تقول إحدى الروايات التي جمعت في إقليم الأوجادين أن الجرين من أصل عربي ومن المحتمل ان أسر من قبيلة الجرين قد وصلت إلى ساحل الصومال الشمالي وانتشرت بسرعة فائقة في الأراضي الشمالية وامتدوا داخل الأوجادين حتى بلغوا نهر شبيلي .
    وقد أقاموا جيشا عظيما لمحاربة الجالا وكان لهم الانتصار على الجالا بعد معارك قليلة وقاموا بتأسيس دولة يتولى أمورها سلطان .
    وكانت لهم أعمال تجارية واسعة كما كانوا مهرة في نشر الدعوة الإسلامية وبعد مضي فترة من الزمن تركوا المنطقة ونزحوا إلى الغرب من الحوض الأعلى لنهر شبيلي .
    وواضح جدا أن الحديث يدور حول جماعة من العرب تلقب بالجرين وربما تكون هذه الكلمة مأخوذة من كلمة أجر الصومالية التي معناها (حق) أي أنهم قوم أجانب حاربوا وانتصروا فقالوا الحق ، أو ربما كان هؤلاء العرب بعد أن استولوا على السلطنة باشروا الحكم بين الناس فقضوا بالأجر أي بالحق لمن يجب أن يكون له.
    وتقول قصة شعبية أخرى سمعت في الأوجادين أن الدولةالتي أقامها الجرين هي نفسها تلك التي تدعى سلطنة أجوران .. فقد كان السلطان يسمى في قديم الزمان (جرين) ولكنه في وقت ما غير اسمه بكل بساطة إلى أجوران .
    ويجد لسلطنة أجوران ذكريات وآثارا في كل أنحاء الصومال نرى أطلالا ، وآثار منازل ، وقبورا منسوبة إلى الأجوران ، كما أن هناك آبارا يقال أنها حفرت بأمر من سلاطين أجوران ، ويظهر من بعض القصص أن الرؤساء الذين كانوا يقومون بأمور الدولة لم يكونوا من اتباع الدين الإسلامي وإنما كانوا ما يزالون وثنيين ، ولكن هناك أكثرية من القصص والروايات تشير إلى أنهم كانوا مسلمين ، ومن أجل هذا كانوا يذكرون بألقاب هي نائب ، سلطان ، إمام .
    ومن تاريخ أسرة بني قحطان التي كانت قد استوطنت مقدشوه نعثر على خبر هام جدا ، فقد كانت لها علاقات تجارية مع سلاطين الأجوران الذين احتلوا المقاطعة التي تقع حول مقدشوه كما سيطروا على سهول شبيلي وذلك في القرن الخامس عشر الميلادي والتاسع الهجري ويظهر أن بعضهم قد استوطن في بلد غير بعيد عن مريري (أود يقلى) الحالية على نهر شبيلي .
    ومما سبق عرضه نستطيع أن نفترض على أية حال أن دولة عربية إسلامية كانت تدعى دولة الجرين قد انقسمت فيما بعد إلى قسمين أو تغيرت فيها الأسرة الحاكمة فأصبحت تدعى أجوران ومن المحتمل أن حاشية سلاطين هذه الدولة كانوا من المسلمين ، على حين كان هناك بعض السكان الآخرين مايزالون على الوثنية .
    ومن الممكن ان نفترض ظهور سلطنة أجوران في بداية ظهورها في الصومالي الشمالي ، ثم غيرت من مقرها بعد أخضعت لسلطانها المناطق الجنوبية والغربية ، وبعد أن فقدت المناطق الشمالية والشرقية نتيجة لظهور القوى الصومالية ، وبعد أن بسطت نفوذها في شبه جزيرة الصومال .
    سلطنة المجرتين :
    في الوقت الحاضر ليس لدينا المراجع الحقيقية التي يمكن بمقتضاها أن نجدد تاريخ نشأة سلطنة مجرتنيا إذ أنها ولا شك سلطنة قديمة ، وكل ما نستطيع أن تؤرخه لها أنها كانت عظيمة الامتداد ، وأن لا نفوذا قويا شمل كافة المدن الصومالية للساحل الشمالي للصومال وأنها تتمتع بشخصية طبيعية خاصة بها تميزها عن السلطتين اللتين أشرنا إليهما من قبل واللتين يحتفظ الصوماليون بذكرى حية لهما .
    ولقد كان سلاطين المجرتين في يسر وثراء وحالهم أكثر امتيازا وفائدة بالنسبة للسلطنتين السابقتين ، ولعل هذا سبب قربها الشديد من البحر وسهولة اتصالها بالخارج وبالداخل معا ، بالإضافة إلى الطبيعة الجبلية التي اكسبتها الحماية ضد أي هجوم طارئ .
    ومن المحتمل أن سلطة سلاطين المجرتين كانتفي بداية نشاطها سلطة إسمية فقط وأن مختلف المراكز الإسلامية الساحلية كان تدير شئونها بنفسها ، وأنها كانت تتمتع على الأقل بشيء من الاستقلال الشخصي .
    وعلى أية حال فإن السلطنة كانت قد نظمت وحسنت إدارتها في الأزمنة التالية القريبة من عهدنا هذا فأصبح يتولى أمر السلطنة سلطان كامل السلطة والنفوذ يتوارث الحكم من بعده أفراد أسرته .
    وكان السلطان في مجرتنيا يطلق عليه اسم بوغر حتى آخر القرن الماضي وله مجلس من الأشراف والرؤساء لإدارة مرافق البلاد وكان لها قضاة للمحاكم الشرعية وللسلطان رياسة محكمة العدل وتقرير الدستور للشعب .
    سلطنة هوبيا :
    ظهرت سلطنة هوبيا حوالي عام 1870 بفضل المجرتيني يوسف على الذي استحق لشجاعته وجرأته لقب كنديد أي التأثر على الظلم ، وقد وصفه الرحالة روبيكي بريكيني الذي عرفه شخصيا في كتابه (صوماليا وبنادر) بعبارات لطيفة ووصفه بأنه ذو عقل جبار وصاحب مبادئ قوية وشجاع في الحق .
    ولد في علولة عام 1845 وبدأ نشاطه كتاجر وكان يبحر على قوارب (سمبوكه) والده وحماه محمد حسن الذي كان من التجار الأغنياء في علوله ولكن جرأته وشجاعته جعلناه يعادي سلطان مجرتنيا ، وبالرغم من المساعدات والتأييدات التي وجدها من سكان علوله فقد اتجه إلى المكلا على الساحل الجنوبي لشبه جزيرة العرب ، وبعد فترةمن الزمن عاد إلى علوله بالقارب وشن هجوما على علوله بالليل ، وانتصر على عساكر السلطان واحتل البلدة وبدأ يدير شئونها بمساعدة أحد القضاة وكان يدعى حاج محمود فاهي .
    وفي ذات يوم قرأ عليه صديقه الحاج علي حرسي الذي كان يعرف جميع سواحل البلدان العربية وأفريقيا الشرقية .. الخطاب التالي : (حقا إنك الحاكم في علوله .. ولكن أعداءك في البلدان المجاورة ينتظرون الفرص السانحة ليرموك في البحر . لماذا لا تنتقل بعون الله إلى مكان أعرفه أنا ويسمى هوبيا وتكثر فيه المياه ؟ .) ومصدر اسم هوبيا كما تشير المرويات أن الجماعات الصومالية قد استرعى انتباهها وهي تنتقل على خط مواز للساحل من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي وجود مياه . فصارت كلمة .. هو .. بيو . أي ها هو الماء . عندما اكتشفوا على شاطئ المحيط منبعا للمياه ومن هنا سميت تلك المنطقة باسم هوبيا .
    بدأ يوسف علي مغامراته الكبيرة في احتلاله هوبيا بأن قام ومعه حاج على حرسي وعدد قليل من الجنود المسلحين بالبنادق وبناء واحد على ثلاثة قوارب ، وكانت القوارب تحمل مواد غذائية وأدوات البناء وكان من عادة أهل هوبيا وغيرها من المدن الساحلية الصومالية حينما تأتي سفن إلى الميناء يخرج التجار لاستقبالها للقيام بعمليات التبادل التجاري ، ثم ينصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله .
    وحينما دخل يوسف علي ورفاقه إلى مدينة هوبيا لم يحدث أي احتكاك حربي إلا عندما بدأ البناء بأمر من يوسف علي وكان البناء عبارة عن متحف صغير وكان العمل يجري فيه سرا في الماء دون أن يعلم أحد من أهل البلد الذين على عدة كيلومترات من هوبيا ، والجدير بالذكر أن المتحاف كانت تعتبر منذ عهد البرتغاليين وسلاطين زنجبار كدليل إثبات وسيطرة للملك صاحب المتحف .
    وعندما شعر الأهالي بنشاط البناء داخلهم الشك واتخذوا موقفا معاديا ووقعت حوادث بين الطرفين ولكن يوسف علي كانت له سياسة الصداقة والمحبة مع إخوانه الصوماليين ، ففي إحدى الفترات الحرجة جاء عدد كبير من الأهالي في طلب المساعدة لانتشار المجاعة ، فقام يوسفعلي بتوزيع التمر وسميت تلك السنة كما هي العادة المحلية (تمر علي) أي أكل التمر ومازال عجائز هوبيا يذكرون هذه القصة .
    وفي عام 1889 وسع سلطان هوبيا من مملكته على طول الخط الساحلي من عيل دارت إلى رأس عوض إلى الأوجادين غربا .
    وكانت هوبيا عبارة عن قصرين متواضعين من الحجر وعدد من المساكن ومئات من العرائش (أكواخ) ، وكان من عادة السلطان أن يستضيف الغرباء في قصره ومنهم المهندس لويجي روبيكي الذي زار البلاد في شهري مايو ويونيه عام 1891 .
    وفي عام 1936 ارتفعت مياه البحر وطمست معالها ، ولم يعد لها أثر على الإطلاق .
    وكان السلطان يوسف علي ذا شخصية قوية ونفوذ على اتباعه ، ورغم أنه في شيخوخته فقد نظره إلا أن سلطته كانت تامة على اتباعه فقد كان حاميهم ضد أي اعتداء أجنبي .
    وقد وضع السطلان يوسف علي نظاما لحكم البلاد وقسم القطر إلى أربعة أقسام محتفظا له بإدارة منطقة هوبيا ووضع على رأس كل إقليم من الأقاليم الثلاثة الباقية نائبا عنه . وكانت مراكز الأقاليم الثلاثة هي : هرر وبرى ، عيل هرر ، عيل دير ، وعين ابن عمه المدعو عثمان شرماركي قائدا عاما للقوات العسكرية ، والذي كان مشهورا محبوبا من القبائل كلها .
    ولم يكن للنواب سلطات ثابتة لكونهم أجهزة كان يستخدمها السلطان عند الضرورة ، وأحيانا كان السلطان يبحث في المشاكل مباشرة دون الاستماع إلى النائب ، وكان هذا النقض في الاختصاصات يأتي بنتائج غير مرضية أحيانا .
    وكانت التجارة في مجموعها في يد السلطان وأبنائه وكان محصول القطن هو البضاعة الوحيدة المطلوبة من الرعاة في السواحل لاستبدالها بالجلود ، وكانت الضرائب تدفع لسلطان هوبيا ، ولم يكن هناك قوانين معينة لتحديد الضرائب ، فكان السلطان يبعث بين فترة وأخرى إلى الأهالي لدفع الضريبة التي كان يحددها يوسف علي شخصيا وكان دخل الضرائب على الواردات والصادرات ضئيلا للغاية لا يتجاوز 10% من قيمة البضائع وإن كانت الثروات الاقتصادية لقطر هوبيا ضعيفة ولكن وعى السكان وحاجاتهم المحددة لم تأت بفوارق خطيرة بين الواردات والصادرات .
    وقد خلف السلطان يوسف علي عند وفاته في ديسمبر 1911 ابنه علي يوسف وكان علي يوسف سخيا وعطوفا على الفقراء ، متوازنا في أعماله متمسكا بدينه الحنيف ، وعرف كيف يكسب من حوله الشعب الصومالي وأكثر من عدد النواب في الإقليم وبعث بنوابه إلى جالكعيو وغيرها ومن نوابه علي فارح نائب هوبيا السابق واسماعيل فاهي نائب جالكعيو السابق . وفي 5 إبريل كان الداهية الإيطالي فيلوناردي قد حصل على توقيع السلطان على معاهدة الحماية ، ثم أصبح القنصل الإيطالي في عدن مأمورا على هوبيا من تاريخ 5 إبريل 1908 ، وأصبحت السلطنة خاضعة للحكم الإيطالي مباشرة في 25 أكتوبر 1945 .
    سلطنة مقدشوه :
    ظهرت سلطنة مقدشوه حوالي عام 1100 ميلادية حينما اجتمع مجلس القبائل لأول مرة للتشاور على انتخاب رئيس لهم وانتخبوا لأول مرة سلطانا للبلاد يدعى أبو بكر فخر الدين على رأس حكومة اتحادية من مجلس أعيان القبائل على أن تكون السلطنة ورائية من بعده لعائلة بني قحطان .
    استمر السلطان أبو بكر فخر الدين يدير شئون البلاد جاهدا في تطويرها اقتصاديا واجتماعيا خلال سبعة عشر عاما من حكمه . وقد خلفه في السلطنه محمد شاه الحلواني من بلاد حلوان بالعراق واستقر في مقدشوه ، وكانت العاصمة قبل عهد محمد شاه في مدينة مركه لخروج الأوامر منها أي (أمرك .. ياه) .
    وقد وصف المؤرخون حكم دولة حلوان على مقدشوه بالبخل والشح رغم كثرة الذهب والقطن عندهم وإنهم يقتاتون يابس الخبز ويلبسون خشن الثياب حتى ضرب بهم المثل فيقال للغنى الذي يدعى الفقر ، أنت حلواني يا أخي .
    ولم تستمر دولة حلوان في مقدشوه طويلا إذ تعرضت البلاد لقحط شديد أتى على كل أخضر حتى هلك معظم الحيوان من الجوع والعطش .
    وفي منتصف القرن الخامس عشر تولى سلطنة مقدشوه وملحقاتها حكومة زوزان التي استمرت في الحكم نحو نصف قرن ولم تتقدم البلاد وإنما اتصفت بالخمول التام والفوضى الصارخة . وتلاها حكومة أسوأ حظا من حكومة زوزان ، وهي حكومة الشيرازي التي عجز عن إيجاد الضروريات كالطعام للشعب مما أدى إلى هلاك عدد كبير من السكان من الجوع وكثرة الأمراض .
    وتولى حكم مقدشوه بعد الشيرازيين الأمير محمد علي الذي اهتم بنشر التعاليم الإسلامية وبناء المساجد التي من أشهرها ما تم بناؤه في عام 667 ، كمسجد محمد الأول ومسجد محمد الثاني ومسجد أربع ركن ، كما أقام ثمانية عمارات في مقدشوه وكان المهندسون والبناءون من المصريين .
    وفي عام 730 هجرية كان على سلطنة مقدشوه الشيخ الصومالي أبو بكر عمر الذي يجيد العربية بجانب لغته الصومالية ، وفي عهده انتظمت أمور البلاد وزادت الخيرات ، وقد وصفه الرحالة المراكشي ابن بطوطة الذي زار مقدشوه في عهده تقلد الحكم في البلاد ، وبعض الطرائف عن البيئة الصومالية . وفي عهده كانت مقدشوه مركزا تجاريا يضم نوابا عن وأرشيخ ، وجلب ، ومركه ، وبراوة وغيرها .
    وفي عام 1292 كتب الرحالة البرتغالي مركوبولو عن مدينة مقدشوه بأنها جزيرة كبيرة تقع إلى الشمال من جزيرة زنجبار ، ويبدو أنه سمع هذا من العامة دون أن يرى المدينة بنفسه مما جعل مارين بهام برسم مصوره الجغرافي في عام 1941 واضعا مقدشوه في صورة جزيرة إلى الشمال من زنجبار .
    وفيما بين عام 1400 – 1425 كانت سلطنة مقدشوه تتعامل مع دول جنوب شرق آسيا فوصلت مقدشوه سفن صينية من أشهرها رحلة الضباط البحري شينج وهو مبعوث الامبراطور الصيني مونج .. وقام البحار الصيني بدراسة مقدشوه وبراوه ومجرتنيا وغيرها من البلاد الصومالية .
    وفي عام 906 هجرية 1499 أصبحت مقدشوه مستعمرة برتغالية بعد أن احتلها الرحالة فاسكودي جاما بواسطة الآلات الحربية الحديثة والسفن الضخمة ، وانهار الحكم في السلطنة ، فقد كانت السلطنة تحت يد إثنى عشر شيخا على منطقة بنادر .
    وفي عام 1506 حاول لورنسوفاسكو واليوكوك غزو مقدشوه ولم يتمكنا من فتحها وفشلت محاولتهما كما فشلت محاولة البحرية البرتغالية بقيادة راكونها من الاستيلاء على مقدشوه مما دعاه إلى غزو براوه التي كانت بها حامية صغيرة من الصوماليين ، ولكن لم يتمكن من الوصول إلى براوة إلا بعد تحطيم المطينة بالمدافع البحرية .
    وتتابع البرتغاليون في محاولة لفتح المدن الساحلية للصومال في الوقت الذي تضافرت فيه جهود المسلمين من صوماليين وعرب نحو إبعاد الدخلاء عن أرض الوطن ، فقد كان هدف البرتغاليين بجانب نشر المسيحية عن طريق المبشرين أن يحتلوا المراكز التجارية وأن يحتكروا تجارة الشرق المارة عن طريق البحار الصومالية والعربية وبذلك يمكنهم القضاء على أسباب القوى الإسلامية في شبه جزيرة العرب وفي شبه جزيرة الصومال.
    ولتزايد الضغط البرتغالي على الصوماليين بعث الشيوخ ورؤساء القبائل برسائل إلى سلطان عمان ، صاحب أقوى قوة بحرية في مياه البحار الشرقية ، يطلبون منه حق الإسلام والجوار ، فكان الرد سريعا وحازما ، إذ قدمت قوى بحرية عمانية تحت قيادة الأمير سالم الصارمي في عام 1067 هجرية إخوانهم مسلمي الصومال وإبعاد النصارى البرتغاليين عن السواحل الصومالية ، فكان أو اتحاد عربي صومالي ضد الاستعمار وكان الانتصار لقوى المسلمين والهزيمة للقوى البرتغالية .
    وقام أهل مقدشوه بتنصيب الأمير سالم الصارمي سلطانا على مقدشوه وملحقاتها فترة صغيرة من الزمن لنظيم أمورها وبدأ الأمير أعماله بتكوين مجلس الأعيان من رؤساء القبائل ، وقام المجلس بانتخاب حاكم عليهم من شيوخ كل قبيلة ، كما قام الأمير بتنظيم شئون البلاد الإدارية والعسكرية ، ثم عاد الأمير سالم الصاري إلى عمان رافعا إلى سلطان عمان تقريرا عن الاتحاد الأول للعرب والصوماليين ضد الاستعمار البرتغالي وطرده من مياه البحار الشرقية وساحل الصومال الجنوبي ،وعن تنظيم أمور مقدشوه .
    وقد ارتبطت سطلنة مقدشوه بسلطنة عمان اقتصاديا وسياسيا وحربيا فترة طويلة من الزمن إذ كان لأئمة مسقط وسلاطينها نفوذ في منطقة بنادر وعاصمتها مقدشوه ولم تكن هناك أفكار ثورية في مقدشوه ضد رياسة مسقط لبلادهم ما دامت تحميهم وتحمي تجارتهم من خطر التدخل الأجنبي ومراعاة التعاليم الإسلامية في البلاد وفي الوقت نفسه كانت الدول الإسلامية في مسقط تتكلف نفقات الجنود وتموين السفن والحروب .
    صوملة سلطنة مقدشوه :
    في أوائل القرنا لثامن عشر بدأ الغزو الصومالي العملي لسلطنة مقدشوه واحتلالها مع سائر ملحقاتها ، منذ ظهر حول مقدشوه جماعة الأجوران التي تطمع في احتلال مقدشوه أثناء حكم الملك المظفر علهيا ، وقد أساء إلى الرعية ، مما دعا قبيلة هوية أن تحاربه وأن تقيم الإمام عمر بن هلول اليعقوبي سلطانا على مقدشوه .
    ويقال في رواية أخرى عن احتلال الصوماليين لسلطنة مقدشوه أن السلطان السابق أساء إلى أحد المواطنين الصوماليين فخرج من المدينة إلى الإمام الصومالي عمر بن هلول وعرض عليه صوملة مقدشوه ووضح له سهولة السيطرة علهيا إذا قام بنفسه على رأس جيش صومالي لمحاربة السلطان واتباعه .
    وقامت موجة حامية للصوماليين في كافة المدن الساحلية لاستعادة نفوذهم على البلاد ، ويرجع ضعف السلاطين سواء كانوا من أصل عربي أو فارسي إلى كثرة التشاحن حول الرياسة من ناحية والاهتمام بجمع الأموال من ناحية أخرى .
    ولما تولى حكم سلطنة مقدشوه الإمام عيسى امتد سلطاته إلى ناحية لوخ وبارطير وهوبيا وبراوه وغيرها من المدن الساحلية والداخلية ويقال أن الإمام عيسى من جماعة الأجوران وأن الذين قتلوه جماعةمن قبيلة هراب عند بئر وعل في ربيع الآخر عام 1097 هجرية فصار السلطان هراب حاكما على مقدشوه وملحقاتها .
    تبعية مقدشوه لزنجبار :
    خلال فترة الاضطرابات السياسية التي عاشت فيها المدن الصومالية بعد السلطان هراب كان سعيد بن سلطان مؤسس الدولةالعبية في زنجبار يعمل على تشجيع الحركات التجارية بين زنجبار وساحل الصومال (بنادر) فأقام عددا من النواب عن السلطان في مواني بنادر للقيام بأعمال تجارية وسرعان ما أصبح لهؤلاء النواب قوة وسلطة الحكام في البلاد ، وكان أول نائب للسلطان في مدينة مقدشوه يسمى سليمان بن أحمد الذي لقبه الصوماليون باسم الدوين (أبو عيون كبيرة) وكان ذلك في عام 1807 أي 1287 هجرية .
    وخلال فترة وجيزة أقام سعيد بن سلطان نظاما سياسيا واقتصاديا للنهوض بالبلاد على أساس تعيين حكام للمدن الهامة مع وجود حامية تدعم سياسة الحكم وتسهر على الأمن ، وأعطي لكل مدينة حرية التصرف في أمورها الداخلية مع فرض رسوم جمركية على لاصادرات والواردات بنحو 5% وبذلك دعم السلطان من نفوذه على المدن الساحلية الصومالية .
    وأبرم سعيد بن سلطان عدة اتفاقيات ومعاهدات تجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1833 ، ومع بريطانيا في عام 1839 ، ومع فرنسا في عام 1844 وهي تنص على حرية التجارة مع مواني الصومال وإقامة قنصليات في زنجبار وبذلك اتسعت التجارة بين الصومال والعالم الخارجي عن طريق سلطنة زنجبار ، وكان لهذه الأعمال أثر كبير في الإنماء التجاري لزنجبار مما دعا السلطان إلى نقل عاصمة الملك من مسقط إلى زنجبار ..
    وأرادت فرنسا شراء ميناء براوة أو ممبسا لإنشاء مستعمرة فرنسية في شرق أفريقيا فرفض السلطان بتحريض القنصل الإنجليزي الذي أقنعه بأنه صديق وفي ومرشد أمين ، وقام بعقد اتفاقية إنجليزية زنجبارية لمنع تجارة الرقيق وإعطاء بريطانيا حق مراقبة وتفتيش السفن من أي نوع ومن أي جنسية .
    وفي الحقيقة أن بريطانيا ما كانت تهدف من منع تجارة الرقيق لا مجرد العمل الإنساني الخالص ، ولكنها أرادت أن تحرم الولايات المتحدة الحديثة النمو من الأيدي العاملة التي كان لها أثر عظيم في ظهور عظمة الولايات المتحدة ومنافستها لبريطانيا في إنتاج القطن والقصب ، وفي الوقت نفسه فإنها بتحريم تجارة الرقيق تضعف اقتصاديات فرنسا وهولنده وأسبانيا والبرتغال لافتقارهم إلى الأيدي العاملة عن طريق شحنات العبيد المستوردة إليهم ، والحد من توسعهم في امتلاك أراضي جديدة في أفريقيا والعالم الجديد . كما أن إلغاء تجارة الرقيق فيه إضعاف للأمراء المحليين في الهند الذين يعتمدون في قوتهم الحربية على عبيد أفريقيا ، كما أن بلاد الصومال ستعاني من نقص العبيد وهم عمد الزراعة والتجارة على سواحل الصومال فهي فرصة طيبة لبريطانيا لكي تقضي على التجار العرب في المحيط الهندي بعد أن فشل الهولنديون والبرتغاليون من قبل ، ليخلو لها الميدان فتتمكن من فتح أرض جديدة باسم التجارة ، ثم تتحول إلى امتلاك الأرض والناس في صورة مستعمرات بريطانية .
    ثورات الصوماليين : ظهرت ثورات صومالية بين الحين والآخر ، بسبب السياسة التي اتخذها سلطان زنجبار في تفويض بريطانيا شئون الدفاع عن الساحل الصومالي المسلم .
    وأرادت بريطانيا أن تتدخل في شئون الصوماليين عقب وفاة سعيد ابن سلطان وتولى السلطان مجيد علي زنجبار ، فثار الشعب الصومالي بزعامة البطل الجريء السلطان أحمد بن يوسف الصومالي الذي شن حربا شعواء على الإفرنج وأتباعهم ومد نفوذه على مقدشوه حتى نهر الجوبا ، وكانت مدينة براوه تخطب ود السلطان الصومالي وتدفع له الجزية السنوية لحمايتها من نفوذ أئمة زنجبار .
    وتحولت بريطانيا إلى سلطان زنجبار تطلب منه إرسال قوات مسلحة إلى ساحل الصومال لتأديب الصوماليين ، على أن تضمن له نجاح جيوشه ، ولكن السلطان رفض أن يدخل في حرب مسلحة بين مسلم ومسلم مهما كانت جنسيته ونوعه . واعتذر السطلان عن الدخول في حرب مع الصوماليين الثائرين على طول سواحل بنادر . وكانت زنجبار تمر بأزمة اقتصادية لاتنشار الطاعون وكثرة الوفيات وعرق أسطول السلطان ، وكانت العواصف قد دمرت حقول القرنفل التي هي الدعامة الأولى في اقتصاديات زنجبار .
    الاتحاد ضد الغزاة :
    وكان الزعيم الصومالي الثائر أحمد بن يوسف الصومالي يدافع عن سلطنة مقدشوه وأقام الحصون في مناطق مختلفة ومعه خلق كثير من المؤيدين لسياسته التحررية ، فقد تجمع الشعب كله من حوله ونشأ اتحاد صومالي عربي وكان هذا نتيجة حتمية للعرب الموجودين في الصومال إذ أن متاجرهم وأملاكهم وحياتهم في الصومال ، فلا غرابة إذ وجد العرب أن الخير كل الخير أن يكون الصومال للصوماليين وأن يكونوا متحدين ضد أي غزو خارجي حتى ولو كان غزوا عربيا ، فالمثل العربي يقول (العشرة لا تهون إلا على ابن الزانية) ومن ثم اعتبر العرب انفسهم كأبناء البلاد الأصليين في أحزانهم وأفراحهم .
    فأدرك القنصل الإنجليزي أن السياسة البريطانية لا تنجح في عهد السطلان مجيد الذي يؤمن بالسمو الديني للإسلام ، فانصرف القنصل الريطاني عن غرضه ، حتى تولى سلطنة زنجبار السلطان برغش الذي صار ألعوبة في يد القنصل الإنجليزي .
    بنادر في عهد السلطان برغش :
    أوعز القنصل الإنجليزي إلى السلطان برغش بضرورة احتلال ساحل بنادر وانتزاع السلطة من يد الصوماليين فأرسل السلطان قوة حربية على سفن صغيرة وتناصرها البواخر الإنجليزية بحجة أنها تحافظ على أملاك السلطان على ساحل بنادر .
    وبعد أن تمكنت السفن الحربية الزنجبارية من محاصرة السواحل الصومالية والسيطة على المدن الساحلية وضع السلطان برغش نظاما لحكم مقدشوه ينص على أنه على كل قادم من البادية إلى السلطنة أن يضع السلاح عند الباب ، كما وضع نظام التعامل بالريال الفرنساوي ، واتخذ من ضاحية شنغاني مركزا تجاريا لأه بنادر .
    وأقام حاكما على مقدشوه (نائب للسلطان) لمراقبة الحالة التجارية ومنع تسليح أي صومالي مهما كان ،وقد أقام الحاكم نظاما لإدارة مرافق البلاد ، وشيد قصرا على لابحر ليكون مقرا للسلطان أثناء زيارته للصومال (أصبح الآن متحفا للآثار الصومالية) . ويقال أن برغش لم يرى مدينة مقدشوه رغم أن القصر قد خصص فيه جناح للحريم وحجرة نوم كاملة للسلطان .
    وفي هذا الوقت كانت البعثة البحرية المصرية قد وصلت إلى السواحل الجنوبية للصومال وساتقرت حول كسمايو بهدف إيجاد طريق من ممبسة على الساحل إلى هضبة البحيرات لتوحيد الأراضي الصومالية الإسلامية واستكمال مشروع الكتلة الاتحادية الإسلامية لدول شمال شرق أفريقيا ، تلك الكتلة التي تضم مصر والسودان وأعالي النيل والصومال وأرتريا ، ومعنى نجاح هذه الكتلة كما يرى البريطانيون هو انصهار للمسيحيين بين دول العالم الإسلامي الإفريقي والآسيوي وفي ذلك خطر على المصالح البريطانية في أفريقيا الشرقية والحيلولة دون إيجاد أي مناطق نفوذ لبريطانيا او غيرها مما يكون له الأثر الكبير في الاحتكار التجاري لأفريقيا الشرقية وجنوب شرقي آسيا في يد المسلمين .
    وتضافرت القوى الإنجليزية والفرنسية والألمانية في شرق أفريقيا على إبعاد المصريين عن الساحل الجنوبي للصومال ، وإن تكللت القوى الاستعمارية بالنجاح في إبعاد ما سمون بالخطر المصري عن جنوب الصومال (كما رأينا في الفصل السابق) فإنهم بعد جلاء المصريين وجدوا أنفسهم أمام ثورات شعبية صارخة على طول الساحل الصومالي وقد اتخذت هذه الثورة مراكز حساسة على طول الساحل في وأرشيخ ومقدشوه ومركه وبراوه وكسمايو ، ومما لاشك فيه أن الذي ساعد على نشوب تلك الثورة تلك الأسلحة الحديثة التي تحصلوا علهيا إبان وجود البعثة البحرية المصرية على السواحل الجنوبية للصومال ، وظهور شعارات جديدة تنادي بالوحدة الإسلامية ، وطرد كل دخيل أجنبي ، وإعلان الحرب المقدسة ضد الإفرنج .
    نهاية عهد السلاطين في صوماليا :
    وأمام هذه الثورات التي اجتاحت المدن الصومالية في كل مكان ، والمناداة بالحرية والاستقلال والوحدة الإسلامية ، كان لابد أن تمتد شرارات الثورة إلى أراضي كينيا وتنجانيقا ، فأسرعت بريطانيا إلى إنشاء حلف عسكري مسلح مع فرنسا بهدف حصار السواحل الصومالية منع نور الحركات التحررية من أن يخرج بعيدا عن الصومال وإلا كانت الكارثة في كينيا وتنجانيقا .
    وبعد إعلان سياسة الحصار البحري للصومال دفعت بريطانيا صديقتها الحكومة الإيطالية أن تدخل معها في سياسة الحصار للسواحل الصومالية ولم تتردد إيطاليا ، بل اندفعت إلى تدعيم سياسة الحصار بكل قوة وعتاد حتى تتاح لها فرصة – على حد تعبير القنصل الإنجليزي – لكي تتحصل على عقود واتفاقيات مع السلاطين الصوماليين تحت ضغط الحصار البحري والإغراء بالهدايا ومعسول الأماني وحماية استقلال الصومال وبذلك مكنت بريطانيا للحكومة الإيطالية أن تتدخل في شئون الصومال حتى أمكنها (إيطاليا) في فترة وجيزة من أن تمحو عهد السلاطين الصوماليين وأن تقيم الحماية الإيطالية على صوماليا .
    وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تقيم الوسائس والمؤامرات وتبرم المعاهدات والاتفاقيات مع إيطاليا وفرنسا وأثيوبيا لتعميم الأراضي الصومالية إلى مناطق نفوذ حتى تكون مانسميه الصوماليات الخمس في النصف الأول للقرن الحالي (الصومال البريطاني ، الصومال الفرنسي ، الصومال الحبشي ، الصومال الكيني) على نحو ما سنرى ذلك من واقع الأحداث التاريخية والوثائق الصومالية والمعاهدات والاتفاقيات الأوروبية والحبشية ، وما قام به السيد محمد عبدالله حسن من جهاد ضد الاستعمار من أجل توحيد الجبهة الصومالية ، ونضال الشعب الصومالي بعد الحرب العالمية الثانية وخلال فترة الوصاية (50-1960) من أجل الحرية والاستقلال حتى قيام الجمهورية الصومالية في أول يوليو 1960 .
    --------------------------------------------------------

    المراجع العربية
    1- إبراهيم حاشي محمود : الصومالية بلغة القرآن (1964) مقدشوه . 2- إبراهيم حاشي محمود : التعليم في الصومال (1959) مقدشوه . 3- إبراهيم حاشي محمود : كفاح الحياة (1961) مقدشوه . 4- إبراهيم رزقانه ، الدكتور : العائلة البشرية (1950) القاهرة . 5- إبراهيم نصحي ، الدكتور : دراسات في تاريخ مصر في عصر البطالمة (1959) القاهرة . 6- أبو عبدالله محمد الطنجي : مهذب رحلة ابن بطوطة (جزء أول – 1938) القاهرة . 7- أحمد بهاء الدين : مؤامرة في أفريقيا (1957) القاهرة . 8- أحمد شيخ موسى الأزهري : الثروات الضائعة في الصومال (1959) القاهرة . 9- أحمد كامل محمد كامل : القطن ووسائل النهوض به بالجمهورية الصومالية (1963) مقدشوه . 10- أحمد صوار : الصومال الكبير (1959) القاهرة . 11- جامع عمر عيسى : الصومال الكبير (1959) القاهرة . 12- جمنال حمدان ، الدكتور : أنماط من البينات (القاهرة) . 13- جلال يحيى ، الدكتور : الصراع الدولي على الصومال (1959) القاهرة . 14- جلال يحيى ، الدكتور : التنافس الدولي في شرق أفريقيا (1959) القاهرة . 15- جلال يحيى ، الدكتور : العلاقات المصرية الصومالية (1960) القاهرة . 16- حامد عبدالقادر : الإسلام وانتشاره في العالم – القاهرة . 17- حسن إبراهيم ، الدكتور : بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية (ترجمة القاهرة – الدعوة إلى الإسلام) لتوماس أرنولد توينبى . 18- حسن محمد جوهر : الحبشة (1947) . 19- حمدي السيد سالم : آذن عبدالله عثمان – رئيس الجمهورية الصومالية (1963) مقدشوه . 20- حمدي السيد سالم : خطب وتصريحات الدكتور عبدالرشيد علي شرماركي رئيس وزراء الصومال (1963) مقدشوه . 21- راشد البراوي ، الدكتور : الصومال الكبير حقيقة وهدف (1961) القاهرة . 22- رمزي يس : أرض الوجوه السمراء (ترجمة) 1963 القاهرة . 23- سليم حسن ، الدكتور : مصر القديمة – القاهرة .24- سليم حسن ، الدكتور : الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة (1946) القاهرة . 25- سيد يعقوب ، الدكتور : العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى (ترجمة) 1958 . 26- شوقي عطا الله الجمل ، الدكتور : الوثائق التاريخية لسياسة مصر في البحر الأحمر . 27- شكيب أرسلان (الأمير) : حاضر العالم الإسلامي (جزء ثالث – 1352 هـ) ترجمة . 28- صلاح العقاد ، الدكتور : زنجبار . 29- عبدالفتاح هندي : جغرافية الصومال (1960) القاهرة . 30- عبدالفتاح هندي : تاريخ الصومال (1960) القاهرة . 31- عبدالله المشد ، (الشيخ) : تقرير عن أحوال المسلمين في بلاد الصومال وأرتيريا والحبشة (1950) القاهرة . 32- عبدالرحمن الجبرتي : عجائب الآثار في التراجم والأخبار 1188 هـ القاهرة . 33- عبدالرحمن ذكي ، الدكتور : أفريقيا الإسلامية (جزئين) القاهرة . 34- عبدالصبور مرزوق : أضواء على الصومال (1959) القاهرة . 35- عبدالصبور مرزوق : تأثر من الصومال .. الملا محمد بن عبدالله حسن (1964) القاهرة . 36- عبدالمجيد عابدين : بين الحبشة والعرب – القاهرة . 37- عبدالمنعم أبو بكر : مصر والحياة المصرية في العصور القديمة (ترجمة) القاهرة . 38- عبدالمنعم عبدالحليم : الجمهورية الصومالية (الإقليم الجنوبي) (1960) القاهرة . 39- عبدالمنعم يونس : الصومال (1962) القاهرة . 40- عبدالملك عودة ، الدكتور : السياسة والحكم في أفريقيا – القاهرة . 41- علي إبراهيم ، الدكتور : المنافسة الدولية في أعالي النيل (1958) القاهرة . 42- علي إبراهيم ، الدكتور : مصر وأفريقيا في العصر الحديث (1962) القاهرة . 43- محمد الغزالي : كفاح دين . 44- محمد المعتصم سيد ، الدكتور : دول إسلامية في شرق إفريقيا (هرر والصومال) ، 1964 القاهرة . 45- محمد المعتصم سيد ، الدكتور : السيد محمد عبدالله حسن (1963) القاهرة . 46- محمد صبري ، الدكتور : مصر في أفريقيا الشرقية (هرر – زيلع – بربره) . (1939) القاهرة .47- محمد صبري ، الدكتور : الإمبراطورية السودانية في القرن التاسع عشر (1948) القاهرة . 48- محمد صفي الدين : القطن في صوماليا (1959) مقدشوه . 49- محمد فؤاد شكري ، الدكتور : تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر (1820-1899) . 50- محمد عزيز رفعت : في طلب التوابل (ترجمة) 1957 – القاهرة . 51- محمود كامل المحامي : الدولة العربية الكبرى . 52- نقولا زياد ، الدكتور : الرحالة العرب (1956) القاهرة 53- وهيب كامل ، الدكتور : استرابون في مصر (1953) القاهرة .54- يوسف أحمد : الإسلام في الحبشة (1935) . 55- يوسف كامل : القبطان جيان ، وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية عن أفريقيا الشرقية (ترجمة) 1927 . 56- الشريف عيدروس : بغية الآمال في تاريخ الصومال (1954) مقدشوه . 57- المسعودي ، أبو الحسن علي بن الحسيني الشافعي : مروج الذهب ومعادن الجوهرة (1283 هـ) القاهرة . 58- المقريزي ، تقي الدين أحمد بن علي : الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام (1895) القاهرة . 59- سلسلة أعلام المقتطف (1927) : الرواد .. جزء ثاني . 60- مصلحة الاستعلامات ج.ع.م : مجلة نهضة أفريقيا .. عدد أغسطس 1959 – القاهرة . 61- مصلحة الاستعلامات ج.ع.م : مجلة نهضة أفريقيا .. عدد سبتمبر 1959- القاهرة . 62- مطبوعات المحمية البريطانية (نشرات هرجيسة من 1956 إلى 1958) . 63- مطبوعات الإدارة الإيطالية في صوماليا (باللغتين .. العربية والإيطالية) (نشرة المجلس الإقليمي 1950 ، 1951 ، 1953 ، 1952 ، 1954 ، 1955) .
    مطبوعات وزارة الاستعلامات الصومالية
    1- الرأي العام البريطاني حول إقليم الحدود الشمالية (مقدشوه 1963) . 2- انفدى (مشكلة على الحدود) مقدشوه 1963 . 3- الكتاب الأبيض (مقدشوه 1964) . 4- إعداد صحيفة بريد الصومال (1950-1963) . 5- إعداد صحيفة صوت الصومال (مارس 1964- مارس 1965) . 6- وثائق دار الآثار الصومالية (الجريزا) .7- محاضر جلسات الجمعية التشريعية (الأولى والثانية) 1956-1959 . 8- محاضر جلسات الجمعية التأسيسية من 1959 إلى مايو 1960 . 9- محاضر جلسات الجمعية الوطنية من يوليو 1960 إلى يوليو 1963


    المراجع الأجنبية Bibliography


    1- A.C. HADDON: Races of Man, Cambridge 1924. 2- ANDRZEYEWSKI B.W. and LEWIS. 1.M.: Somali Poetry, Oxford, 1963. Times to the Persian Conquest, 1952. 3- BREASTED, 1.H.: A History of Egypt from the earliest times to the persian Conquest, 1952. 4- BRITISH ADMIRALTY,: Red Sea and Gulf of Aden pilot, London, 1944 5- BURTON, R.F.: First footsteps in east Africa, 1856. 6- CARASELLI, F.S.: Ferro e Fuoco in Somalia, Rome 1931. 7- CERULLI, E.: Somalia; scriti uari, edited inditi Vol, 1, II Rome 1917, 1959. 8- CERULLI, E.: Peoples of South West Ethiopia, tr. 1950, (Rome). 9- CLARK, T.D. Prehistoric cultures of the horn of Africa, Cambridge 1954. 10- COUPLAND, R.: East Africa and its invaders, Oxford 1956. 11- CURLE A.T.: The Ruined Towns of Somaliland, Antiquity, 1937. 12- DARK BROCKMAN R.E.: British Somaliland, London, 1923. 13- DOUGLAS COLLINS: A tear for Somalia, London 1960. 14- FERANDI, N.: Lugh emporio Commirciol Sul Guba, Rome 1906. 15- HARGEISE: Mineral and rocks of Hargeise and Borama Districts 16- HARGEISE: Annual reports of the Geological survey Department. 17- HARGEISE: British Somaliland and it's gribes 18- HOLLING'S WORTH L.W.: A short history of east coast of Africa, London, 1956. 19- JARDINE DOUGLAS: The Mad Mulah of Somaliland, London, 1923. 20- JOHN DRYSDALE: The Somali Disput, London 1964 (1). 21- JOHNA HUNT: A general Survey of the Somaliland Protectorate 1944-1950. 22- LATHEM BROWN D.J.: The Ethiopia – Somaliland Frontier Disput (International and Comparative Law Quarterly, April 1959. 23- LEWIS I.M.: Peoples of the horn of Africa, Somalia, Afar and Saho, London, 1959. 24- LEWIS I.M.: A pastoral Democracy, London, 1961. 25- LEWIS I.M.: the so-called Galla Graves of Somalilan, man 1961, P.P. 163-106. 26- LEWIS I.M.: The Somali Conquest of the horn of Africa. Journal of African History 1960 P.P. 213, 229. 27- MOGADISHU: First Five year plans 1963-1967. 28- MOGADISHU: National Bank of Somalia (Report and Balance 1961) 29- MOGADISHU: Annual Trade Report (Northern Region) 1961-1962. 30- MOGADISHU: Somali republic and Africa Unity. 31- MOGADISHU: The issue of the Northern Frontiers District 32- MOGADISHU: Collection of (Documents of International Act.) edited by ministry of foreign affairs. 33- MOGADISHU: Statistica Del Commercio con I'Estero 1960-1963. 34- MOGADISHU: Statistic data of Foreign Trade. 35- MOGADISHU: (Health Bulletin of Somalia) 36- MOGADISHU: (Somali Peninsula) : edited by the Presidency of the Council 1961 37- MOGADISHU: The Somalia Republic and the Organisation of African Unity 1964. 38- MOGADISHU: Bulletion unfficiale della Repubblica Somalia 1961-1963. 39- MOGADISHU: White Paper on N.F.D. December 1964. 40- MOGADISHU: Government Activities from independence ntil to day, July 1, 1960 December 1964. 41- MOGADISHU: Lineamenti Di una storia Della Somalia 1958. 42- MOGADISHU: Museo Della Garesa Catalogo 43- UGO FUNAIOLI: Fauna e Caccia in Somalia 1957. 44- NAIROBI, 1963: East African Meterological Department Memoir Vol. II No. 10. 45- PUNKHURST, E.S.: Ex-Italian Somaliland 1951. 46- PEEL. C.A. : Somaliland. 47- PIRONE, M.: Appunti di Storia sulla Somalia 1960 (Mogadishu) 48- PIRONE, M.: Appunti di Storia dell'Africa, II, Somalia, Rome 1961. 49- RODD, LORD RENNEL: British Military Administration of ocuupied of Perritories in Africa London 1946. 50- RODD, LORD RENNEL: Social and Deplomatic Memories London 1923. 51- SERGI, G.: African Anthropologia 1877. 52- SELIGMAN C.G.: The Races of Africa 1939. 53- SHOFF, W.H.: The periplus of Erythrean, London 1912. 54- TRIMINGHAM, 1, SPENCER,: Islam in Ethiopia, London 1952. 55- SWAYNE H.G.C.: Seventen trips through Somaliland 1895. 56- UNITED NATIONS,: Rapport du Gouvernment italian a l'assemblee Generale des Nations Unies sur l'Administration de tutelle de la Somalie 1956-1957 (8 Vols.) Rome. 57- U.N. Educational Sciengific and cultural Organization Report of the educational planning group on their first mission to Somalia, March 6 May 26-1962. 58- WASHINGTON: Inter River-Economic and exploration. (The Somalia Republic. – International Cooparation Administration) – January 1962.



    - hgw,lhg td hguw,v hgr]dlm ,hg,s'n>

    التعديل الأخير تم بواسطة أبوعبد العزيزالقطب ; 05-06-2012 الساعة 09:40 PM

  2. #2
    مشرف مجلس قبائل موريتانيا و الصحراء الكبرى الصورة الرمزية يحي الحساني الجعفري
    تاريخ التسجيل
    30-12-2010
    الدولة
    موريتانيا(أزويرات)
    العمر
    43
    المشاركات
    2,087

    افتراضي

    جزاك الله أحسن الجزاء مجهود كبير و موضوع مفيد

  3. #3
    مشرف عام مجالس قريش و كنانة - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية حازم زكي البكري
    تاريخ التسجيل
    27-03-2011
    الدولة
    القدس
    العمر
    64
    المشاركات
    9,330

    افتراضي

    [frame="1 98"]الشيخ أبادير : تقول أسطورة صومالية قديمة ، أن عربيا عريقا في العروبة عبر البحر إلى مملكة عدل (زيلع) حيث دعا إلى الدين الإسلامي بين أجدادهم ، وقد يكون هذا الداعي ، هو الشيخ الكبير أبادير ، الذي دخل هرر في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وأصبحت قاعدة إسلامية لنشر الدعوة في الصومال والحبشة .[/frame]

    طرح قيم

  4. #4

    افتراضي

    لا اله الا الله

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اللغة المصرية القديمة و علاقتها باللغات السامية و العربية القديمة
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس قبائل العرب القديمة و البائدة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 19-02-2017, 06:02 PM
  2. - الصومال في العصور القديمة والوسطى.
    بواسطة أبوعبد العزيزالقطب في المنتدى مجلس قبائل السودان العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-06-2012, 10:41 PM
  3. حملة اغيثوا الصومال (لننقذ اخواننا في الصومال
    بواسطة حنان حسن في المنتدى الاسلام باقلامنا
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 11-08-2011, 02:53 AM
  4. إحياء علوم مصر القديمة - طارق عبدالمعطي - حقيقة اللغة المصرية القديمة
    بواسطة خليل المطيري في المنتدى التاريخ الفرعوني
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-12-2010, 06:04 AM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum