النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: كتاب يتحدث عن أخطاء المؤرخ ابن خلدون

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اخوتي الكرام هذا الكتاب يتحدث عن أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة -دراسة نقدية تحليلية هادفة- الدكتور خالد كبير علال

  1. #1

    Icon1 كتاب يتحدث عن أخطاء المؤرخ ابن خلدون

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اخوتي الكرام
    هذا الكتاب يتحدث عن
    أخطاء المؤرخ ابن خلدون
    في كتابه المقدمة
    -دراسة نقدية تحليلية هادفة-
    الدكتور
    خالد كبير علال
    - حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر-
    دار الإمام مالك الطبعة الأولى
    -البليدة- الجزائر- -1426ه/2005م-
    الإهداء
    إلى أهل العلم المنصفين ، الطالبين للحق ،

    …و المتحررين من التعصب للأشخاص و المذاهب ،

    …إليهم أهدي هذا الكتاب
    .................................................. ........................
    ……بسم الله الرحمن الرحيم
    المقدمة
    الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على الرسول الكريم و على آله و صحبه أجمعين ، و بعد : أفردت ُهذا الكتاب للبحث في أخطاء ابن خلدون و مجازفاته في كتابه المقدمة ، و قد قررتُ الكتابة في هذا الموضوع لثلاثة أسباب رئيسية ، أولها أن أخبارا غير صحيحة ، و مفاهيم خاطئة ، نجدها رائجة بين كثير من أهل العلم ، استقوها من مقدمة ابن خلدون ، دون أن يتنبّهوا لها .
    و ثانيها أن كثيرا من أهل العلم –عل اختلاف تخصصاتهم- مبالغون في موقفهم من ابن خلدون و سلبيون تجاهه ، حتى أصبح قوله عندهم حجة بذاته ، يُحتج به و لا يُحتج له .
    (1/1)
    ________________________________________
    و ثالثها أن الجانب الرائع و الإيجابي من المقدمة حظي باهتمام كبير ، فأُشبع دراسة و قُتل بحثا ، لكن جانبها السلبي المليء بالأخطاء و النقائص ، لم يأخذ حقه من البحث و الاهتمام ، كالذي أخذه الجانب الأول ، فجاءت دراستنا هذه لتركز على الجانب السلبي المُهمل ، و تساهم في إكمال نظرتنا لمقدمة ابن خلدون ، و لتأخذ-أي المقدمة- مكانها الصحيح و المناسب لها ، بلا إفراط و لا تفريط ، و في انتقادنا لها لا ننكر جانبها الإيجابي الرائع .
    و عبد الرحمن بن خلدون هو عَلَم غني عن التعريف ، لكننا نعرّف به بكلمة موجزة لمن لا يعرفه : هو الأديب الفقيه المؤرخ الناقد ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد الحضرمي الأشبيلي التونسي المالكي الأشعري ( 732-808ه) ، ولد بتونس و نشأ بها ، و تقلّد عدة مناصب سلطانية عند حكام عصره ببلاد المغرب و الأندلس ، ثم ترك السياسة سنة 776ه و اعتزل بقلعة بني سلامة بتيهرت-غرب الجزائر- لتأليف كتابه : العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، و ضمّنه مقدمته التاريخية ، و كتابه في العمران البشري ، و تاريخه عن العرب و البربر و العجم ، و في سنة 780ه خرج من عزلته و عاد إلى تونس ، و في سنة 784 ارتحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج ، ثم استقر به المقام بالقاهرة ، فتولى بها قضاء المالكية ،و مشيخة المدرسة البيبرسية ، و ظل بالقاهرة إلى أن وافته المنية سنة 808هجرية . ( ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج9 ص: 114-115. و الشوكاني: البدر الطالع ، ج 1 ص: 337-338 ) .
    و المقدمة التي نحن في صدد دراستها لا تتضمن المقدمة التاريخية فقط ، و إنما تتضمنها هي أيضا و الكتاب الأول الخاص بالعمران البشري ، و هذا هو المعنى المقصود بمقدمة ابن خلدون عند الباحثين المعاصرين ، و إن كان ابن خلدون قد فرّق بين المقدمة التاريخية و كتاب العمران البشري .
    (1/2)
    ________________________________________
    و ليعلم القارئ الكريم إن النقد هو من أساسيات البحث العلمي في كل العلوم ، و قد مارسه علماء المسلمين قديما و حديثا انطلاقا من ديننا الحنيف ، فالقرآن الكريم فيه انتقادات كثيرة لليهود و النصارى و المشركين ، و فيه أيضا معاتبات و تأنيبات و انتقادات للصحابة الكرام . و فيه حث على نقد الأخبار و تمحيصها بمختلف الوسائل الممكنة ، في قوله تعالى (({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} - سورة الحجرات/6- .
    و كذلك الأمر في السنة النبوية ، فقد كان رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ينتقد أصحابه و يُقوّم سلوكياتهم عندما يراهم جانبوا الصواب . و على هذا المنهاج سار الصحابة -رضي الله عنهم – فكانت لهم ردود و انتقادات فيما بينهم ، في مختلف المسائل الفقهية و كتب فقه السلف فيها كثير من ذلك . و على منهاجهم سار السلف الصالح من بعدهم ، فمصنفاتهم في علوم الشريعة مليئة بالنقد و الردود العلمية ، من ذلك كُتب الجرح و التعديل ، فهي قامت أساسا على النقد ، لذا سمى الحافظ شمس الدين الذهبي كتابه في الجرح و التعديل : ميزان الاعتدال في نقد الرجال .
    و للنقد العلمي النزيه فوائد كثيرة ، منها إنه طريق للوصول إلى الحقيقة عندما تتضارب الروايات و تختلف الآراء . و إنه وسيلة لطالب العلم يجعله يحتكم دوما إلى النصوص و الأدلة قبل النظر إلى الأشخاص . و إنه أيضا يساعد أهل العلم على الابتعاد عن التعصب المذموم ،و تقديس الشخصيات و اعتقاد العصمة فيها ؛ و الله سبحانه و تعالى يقول (( و فوق كل ذي علم عليم ))-سورة يوسف/76-
    (1/3)
    ________________________________________
    على أن يُمارس ذلك النقد في إطار من الضوابط الشرعية و العلمية ، كالتجرد للحق ،و التزام الأمانة العلمية ،و عدم تحميل الأقوال تفسيرات و تأويلات لا تحتملها ،و البعد عن التعصب المذموم للمذاهب و الأشخاص . و من أخطأ في حق عيره فليعترف بذلك ،و يستغفر الله و يتوب إليه .
    و أخيرا أسأل الله تعال أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم ، و أن ينفع به كاتبه و قارئه و كل من سعى في إخراجه و توزيعه ، إنه تعالى سميع مجيب ، و بالإجابة جدير ، و على كل شيء قدير .
    د/ خالد كبير علال
    -الجزائر 1426/2005-
    الفصل الأول
    أخطاء في منهج النقد التاريخي الخلدوني
    أولا : عرض منهج النقد التاريخي لابن خلدون
    ثانيا : أخطاء و نقائص منهج النقد التاريخي لابن خلدون
    .................................................. ............
    أخطاء في منهج النقد التاريخي الخلدوني
    قبل أن يدوّن ابن خلدون تاريخه كتب مقدمة تاريخية انتقد فيها المؤرخين المسلمين الذين سبقوه ، و طرح منهجا تاريخيا نقديا بديلا لمنهجهم ، فما هي خطواته و معالمه و قواعده ؟ ، و ما هي نقائصه و أخطاؤه ؟ .
    أولا : عرض منهج النقد التاريخي لابن خلدون :
    يقوم منهج ابن خلدون في النقد التاريخي على جملة قواعد يجب الالتزام بها في تحقيق الروايات التاريخية و نقدها ، منها إرجاع الأخبار و الآثار إلي طبائع العمران و أحواله ، فهي من أحسن الوجوه و أوثقها ، في تمحيص الأخبار و تمييز صحيحها من سقيمها(1).و ذكر على ذلك أمثلة متنوعة سنعود إليها لاحقا إن شاء الله تعالى .
    __________
    (1) ابن خلدون : المقدمة ، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1993، ص: 4، 28 ، 29 .
    (1/4)
    ________________________________________
    و منها –أي القواعد- تحكيم العادة و قواعد السياسة و الأحوال في الاجتماع الإنساني ، و قياس الغائب بالشاهد و الحاضر بالذاهب ، و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار ، و إخضاعها للعقل من حيث الإمكان و الاستحالة ، مع ضرورة تطابقها مع طبائع العمران(1) .
    و منها أيضا التركيز على نقد متون الأخبار و تقديمها على نقد الأسانيد-تتضمن رواة الأخبار- ، و قال إن النظر في المتن من حيث الإمكان و الاستحالة سابق على نقد الإسناد- أي نقد الرواة جرحا و تعديلا- ، فلا يُرجع إليه-أي الإسناد- حتى يُعلم الخبر في نفسه ، أهو ممكن أم ممتنع ، فإذا كان مستحيلا فلا فائدة من النظر فيه ، فأصبح ذلك أهم من نقد الإسناد و مقدما عليه(2) .
    ثم فرّق ابن خلدون بين الخبر الشرعي و الخبر البشري ، و جعل نقد الإسناد خاصا بالأول –أي الخبرالشرعي- ، و جعل نقد المتن خاصا بالثاني-أي الخبر البشري- ، و في ذلك يقول: (( و إنما كان التعديل و التجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية ، لأن معظمها تكاليف إنشائية – أي أوامر و نواه- أوجب الشارع العمل بها ، حتى حصل الظن بصدقها ، و سبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة و الضبط ... و أما الإخبار عن الواقعات –أي أخبار البشر- فلا بد من صدقها و صحتها من اعتبار المطابقة ، فلذلك وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه ، و صار أهم من التعديل و مقدما عليه ، إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط ، و فائدة الخبر منه و من الخارج بالمطابقة ))(3) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 4، 28 ، 29 .
    (2) نفسه ، ص: 28 ، 29 .
    (3) نفسه ، ص: 29 .
    (1/5)
    ________________________________________
    كما أنه انتقد المؤرخين المسلمين انتقادا لاذعا ، و قال إن الفحول منهم لم يرفضوا تُرهات الأحاديث و لا دفعوها ، و التحقيق عندهم قليل و طرف التنقيح في الغالب كليل(1) . ثم قال إن الكبار - من هؤلاء - الذين ذهبوا بفضل الشهرة و الإمامة المعتبرة هم عددهم قليل ، منهم : محمد بن إسحاق ( ت150ه) ، و سيف بن عمر التميمي(ت 200ه) ،و محمد بن الكلبي( ت204ه) ،و محمد بن عمر الواقدي(ت 207ه) ،و ابن جرير الطبري(ت310ه) ، و المسعودي(ت346ه ) ، ثم قال : (( و إن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن و المغمز ما هو معروف عند الأثبات ، و مشهور بين الحفظة الثقات ، إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم ،و اقتفاء سننهم في التصنيف و اتباع آثارهم ))(2) .
    ثم أشار ابن خلدون إلى أنه جاء بعد هؤلاء الكبار مؤرخون أرّخوا لمدنهم و أقطارهم و دولهم ، كأبي حيان مؤرخ الأندلس(ت 469ه) ، و ابن الرقيق القيرواني(ت بعد:417ه) مؤرخ إفريقيا و الدول التي كانت بالقيروان ، ثم قال : (( ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد و بليد الطبع و العقل ، أو متبلّد ينسج على ذلك المنوال ، من يُحتذى منه بالمثال ، و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال )) ، و هؤلاء- دون ذكر لأي منهم- جمعوا الروايات جمعا دون بحث عن الأسباب في ذكرهم للأخبار(3).
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 3 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 4 .
    (3) نفسه ، ص: 4 .
    (1/6)
    ________________________________________
    و قال أيضا إن كثيرا من المؤرخين و المفسرين و المحدثين المسلمين غلطوا في روايتهم للأخبار ، لاعتمادهم على مجرد النقل دون أن يُحققوها ، و ذكر أن بعض المؤرخين ذكروا المستحيلات في مصنفاتهم و لم يُمحّصوها ، كالمسعودي الذي روى أخبارا مستحيلة ، منها رواية تمثال الزرزور بمدينة روما ، الذي تجتمع عنده الزرازير كل عام و هي حاملة للزيتون ، تأتي به إلى هذا المكان . و منها أيضا حكاية وجود مدينة مبنية كلها بالنحاس بصحراء سجلماسة جنوب المغرب الأقصى(1) .
    و ذكر أيضا أن من أسباب غلط المؤرخين في تدوينهم للتاريخ ، منها أنهم يذهلون عن تبدّل الأحوال و الظروف و الملابسات في حياة الأمم و الأجيال ، بتبدل الأعصار و مرور الأيام ، فلا يتفطنون لتلك التحولات و التغيرات ، فيقعون في الأخطاء(2) .
    و منها ولوع النفس بالغرائب ، و سهولة التجاوز على اللسان ، و الغفلة عن المتعقب و المنتقد ، حتى إن أحدهم لا يُحاسب نفسه على الخطأ ، و هذا هو الذي أوقعهم في الغلط في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر ، و المبالغة فيها(3) .
    و منها أيضا التشيعات للآراء و المذاهب ، و الثقة بالناقلين ، و التقرّب إلى ذوي السلطان و الجاه ، و الجهل بطبائع الأحوال في العمران البشري ، فإذا كان الراوي عارفا بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود و مقتضاها ، أعانه ذلك في تمحيص الأخبار من حيث الصدق و الكذب ، و هذا أبلغ في التمحيص من كل وجه(4) .
    ثانيا : أخطاء و نقائص منهج النقد التاريخي لابن خلدون :
    لا نتطرّق في مبحثنا هذا لإيجابيات منهج النقد الخلدوني ، فهي كثيرة ، و إنما نتطرّق لأخطائه و نقائصه ، التي هي كثيرة أيضا ، لأنها هي صلب بحثنا هذا ، نتناولها فيما يأتي إجمالا و تفصيلا .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 8 ، 29 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 22 ، 24 .
    (3) المقدمة ، ص: 8، 9 ، 10 .
    (4) نفس المصدر ، ص: 27 .
    (1/7)
    ________________________________________
    أولا إنه –أي ابن خلدون – بالغ كثيرا في الدعوة إلى الاعتماد على قانون المطابقة بين الروايات التاريخية ، و الثابت من التاريخ ، و الواقع الطبيعي ، فدعا إلى استخدامه كقانون أساسي ، و أهمل استخدام الإسناد في النقد التاريخي ، و نحن لا ننكر ما لقانون المطابقة من أهمية في النقد التاريخي ، و لكننا ننكر عليه مبالغته في الاعتماد عليه ، و سكوته عن نقائصه من جهة ، و ازدرائه بطريقة نقد الأسانيد من جهة أخرى . فقد غاب عنه أن قانون المطابقة محدود و لا يصلح لتحقيق كثير من الأخبار التاريخية ، التي تدخل في إطار الإمكان العقلي و الواقعي ، و المتعلقة بالسلوكيات و التصرفات العادية ، و بالحِكَم و الأمثال ، و الأوامر و النواهي ، فهذا النوع من الحوادث التاريخي لا يمكن تحقيقها –في الغالب- إلا عن طريق نقد الأسانيد لا المتون ، و سنذكر على ذلك أمثلة كثيرة في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
    و ثانيا إن ما قاله من أن النظر في الأخبار من حيث الإمكان و الاستحالة لتمييز صحيحها من سقيمها هو طريق برهاني لا مدخل للشك فيه(1) ، هو قول مبالغ فيه ، و لا يكفي لنقد الأخبار و تمحيصها ، لأن قانونه هذا يُدخل الروايات التاريخية في إطار الامكان العقلي و الواقعي ، و لا ينقدها و لا يُصححها بالضرورة ، و إنما هو يستبعد الروايات المستحيلة ، و يُبقي الروايات الممكنة الحدوث، تنتظر النقد و التمحيص ، لأنه ليس كل رواية ممكنة الحدوث بالضرورة أنها حدثت في الواقع ، فقد تكون مكذوبة و مزوّرة ، و هذا يعني أنه قد تجتمع لدينا روايات ممكنة الحدوث و هي مكذوبة ، و لا يمكن كشفها بالإمكان و الاستحالة ، و إنما يتم ذلك بنقد الأسانيد و المتون معا ، مما يعني أن ما قاله ابن خلدون من أن قانونه يُوصل إلى التمييز بين الحق و الباطل بطريق برهاني لا شك فيه ، هو قول مبالغ فيه ، و لا يصح على إطلاقه ، و لا يصدق على كل الروايات .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 29 .
    (1/8)
    ________________________________________
    و قد غاب عنه أيضا أن قانون الإمكان و الاستحالة ليس مطلقا يصدق على كل الناس و في كل أحوالهم ، ففيه جانب نسبي يختلف من شخص لآخر ، فقد يكون خبر ما مستحيلا في حق شخص ، و لا يكون كذلك في حق شخص آخر . و الذي هو ممكن في حق الملوك قد لا يكون ممكنا في حق عوام الناس . و الذي يكون مستحيلا بالنسبة للفقير ، فقد لا يكون مستحيلا بالنسبة للغني . و الذي يكون ممكنا بالنسبة للعالم قد لا يكون ممكنا بالنسبة للأمي ، فهذا النوع من الروايات التاريخية ، لا يمكن تحقيقها بمجرد النظر العقلي ، من حيث الامكان و الاستحالة ، و إنما يتم تحقيقها بدراسة أسانيدها و متونها معا .
    و ثالثا إن موقفه من النقد عن طريق الإسناد-أي عن طريق الرواة- ، يتضمن أخطاء كثيرة ، أولها إنه زعم أن التحقيق بنقد الأسانيد-أي الجرح و التعديل- هو خاص بالأخبار الشرعية ، -أي الأحاديث النبوية- و هذا زعم غير صحيح ،لأن الإسناد يخص كل الأخبار التاريخية دون استثناء ، فنحن إذا أردنا تحقيق خبر ما تحقيقا كاملا فلابد من تحقيقه إسنادا و متنا ، لأن الخبر الذي لا إسناد له هو خبر لا أصل له و لا مصدر ، فكيف نقبل خبرا هذا حاله ؟ ! .
    و ثانيها إنه زعم أن نقد الإسناد هو المعتبر في صحة الأحاديث النبوية ، و هو السبيل الموصل إلى ذلك(1) ، و هو زعم باطل ، لأنه لم يذكر لنا دليلا على هذا التخصيص ، و لا يُوجد في علم مصطلح الحديث أن الأحاديث النبوية تُنقد من أسانيدها دون متونها ، و إنما الموجود فيه هو أنها تُنقد إسنادا و متنا ، مع التركيز على جانب دون آخر حسب طبيعة كل رواية ، و قد ردّ المحدثون أحاديث صحيحة الأسانيد لأن متونها منكرة ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، سنذكر بعضا منها لاحقا إن شاء الله تعالى .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 29 .
    (1/9)
    ________________________________________
    كما أن زعمه هذا فيه قدح بعلماء الحديث المحققين ، و إغفال لجهودهم الكبيرة في نقد متون الأحاديث ، و مصنفاتهم في هذا الموضوع شاهدة على ما بذلوه في نقد المتون و الأسانيد معا ، منها كتاب الموضوعات في الأحاديث المرفوعات، و كتاب العلل المتناهية ، و هما لابن الجوزي ، و ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي، و نقد المنقول لابن قيم الجوزية ، و هذه المصنفات مطبوعة و متداولة بين أهل العلم ، و سنذكر نماذج كثيرة لهؤلاء و غيرهم ، نقدوا فيها متون الأحاديث قبل أسانيدها ، نوردها في مبحث لاحق بحول الله تعالى .
    و ثالثها إن قوله بأن نقد المتن مقدم على نقد الإسناد هو قول غير صحيح على إطلاقه ، و لا يصح إلا في حالة ثبوت استحالة الخبر ، و أما في حالات دخول الخبر دائرة الإمكان العقلي و الواقعي فإن الأمر يتغير تماما و تصبح طبيعة الخبر هي التي تفرض نفسها في التقديم و التأخير ، أو الجمع بينهما-أي الإسناد و المتن- ، فقد يكون عندنا خبر ممكن الحدوث يتناول جانبا عاديا من الحياة اليومية لشخص ما ، لكنه يصعب علينا تحقيق نسبته إليه من حيث متنه ، و لا يتأتى لنا ذلك إلا عن طريق نقد إسناده .
    كما إن قوله بأنه لا فائدة من النظر في الإسناد إذا كان الخبر مستحيلا ، فهو قول صحيح بلا شك ، لكنه مع ذلك تبقى لدراسة الإسناد في هذه الحالة فائدة كبيرة غفل عنها ابن خلدون ، هي أن دراستنا لإسناد خبره مستحيل ، تمُكننا من التعرّف على الراوي أو الرواة الذين كذبوا ذلك الخبر ، و هذا يساعدنا على تصنيف هؤلاء الكذابين ، و استبعاد رواياتهم ، أو التعامل معها بالشك و الحذر و الحيطة .
    (1/10)
    ________________________________________
    و رابعها –أي الأخطاء- إنه فرّق بين الخبر الشرعي و الخبر البشري ، و هو تفريق غير صحيح من حيث الأصل ، لأن الفوارق الموجودة بينهما هي فوارق جزئية ، و لا تلغي الأصل المشترك بينهما ، نعم هناك فرق واضح بين متن الخبر الشرعي و هو الحديث النبوي ، و بين متن الخبر البشري ، فالأول – إن صحّ- هو قول رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، و الثاني هو قول لإنسان عادي ، لكن الذي يجمعهما هو أن خبر كل منهما هو حدث تاريخي متعلق ببشر ، سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا ، فكل منهما ورد إلينا بكيفية واحدة ، و كلاهما يدخل في دائرة الرواية التاريخية إسنادا و متنا ، فالحديث في محصلته النهائية هو خبر ، لكن ليس كل خبر حديث ، لذلك وجدنا بعض كبار المحدثين المؤرخين يدرجون السيرة النبوية –و هي أفعال و أقوال رسول الله- ضمن تدوينهم للتاريخ الإسلامي ، كما فعل الطبري في تاريخه ، و ابن الجوزي في منتظمه ، و ابن كثير في بدايته ، و كذلك البخاري و مسلم فإنهما أدرجا جانبا من تاريخ الدعوة الإسلامية و السيرة النبوية في صحيحيهما مع الحديث النبوي الشريف .
    و أي فرق بين روايتنا لخبر مسند لرسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، فنقول : أخبرنا فلان عن فلان أن رسول الله قال : ، و بين روايتنا لخبر آخر مسند للخليفة عمر بن عبد العزيز ، فنقول : أخبرنا فلان عن فلان أن عمر بن عبد العزيز ، قال : ، فلا يوجد أي فرق بين الروايتين من الناحية الشكلية ، و لا الكيفية التي ورد بها كل خبر ، فإذا أردنا نقدهما أخضعناهما لنقد الإسناد و المتن معا ، مع مراعاة الفوارق الجزئية الخاصة بكل متن ، فقد تختلف طبيعة المتن بين الحديث النبوي و الخبر البشري العادي ، فيُنقد كل نوع حسب طبيعته ، فالذي يجوز في حق الرسول ، قد لا يجوز في حق الخليفة عمر بن عبد العزيز ، و الذي يجوز في حق الخليفة ، قد لا يجوز في حق رسول الله –عليه الصلاة و السلام- .
    (1/11)
    ________________________________________
    كما إن قوله بأن الخبر الشرعي معظمه تكاليف إنشائية – أي أوامر و نواه- هو تقسيم لا دخل له فيما نحن بصدده ، لأن الروايات سواء كانت خبرا أو إنشاء أو هما معا ، تدخل كلها في دائرة الرواية التاريخية ، و ترد إلينا كلها بكيفية واحدة .و الخبر البشري هو أيضا يتضمن الخبر و الإنشاء ، و كلاهما يندرج في إطار واحد ، و الحديث النبوي - سواء كان إنشاء أو خبرا – هو في المحصلة النهائية رواية تاريخية .
    و من أخطائه أيضا إنه-أي ابن خلدون- جعل الخبر البشري هو الذي يخضع لقانون المطابقة من حيث الإمكان و الاستحالة ، و استبعد الخبر الشرعي من أن يخضع لذلك القانون ،و خصّه بالنقد من حيث الإسناد جرحا و تعديلا ، و هذا تخصيص غير صحيح ، ليس فيه لابن خلدون دليل نقلي و لا عقلي . كما أنه من الثابت أن كبار المحدثين المحققين نقدوا الأخبار النبوية و البشرية بمنهج واحد جمعوا فيه بين نقد المتون و الأسانيد معا ، دون تفريق بينهما ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، سنذكر منها طرفا في موضع لاحق من هذا المبحث إن شاء الله تعالى .
    و أيد الباحث فاروق النبهان ما ذهب إليه ابن خلدون ، و دافع عنه ، و قال إن (( الروايات الشرعية ليست خاضعة لمنهج عقلي ، لأنها تدخل في التكليف الشرعي ، و هو لا يخضع لقانون العمران من حيث تحكيم العقل في صحته و سلامته ، لأن ذلك يُلغي دور الشرائع السماوية ، و يجعلها تصورات عقلية محدودة ))(1) .
    و ردا عليه أقول : إن دين الإسلام جاء بما يتفق مع العقل الفطري السليم تمام الاتفاق ، و نوّه بأرباب العقول و الألباب و النُهى ، و حثهم على استخدامها و مدحهم عليها ،و الآيات في ذلك كثيرة جدا . كما أن الله تعالى قد أنزل أحكامها متفقة مع العقول الصريحة و الفطر السليمة ، و لا يُوجد في أحكام الإسلام ما يتناقض معهما مطلقا .
    __________
    (1) محمد فاروق النبهان : الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ، ط1 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1998 ، ص: 112 .
    (1/12)
    ________________________________________
    و أما قوله بأن الروايات الشرعية ليست خاضعة لمنهج عقلي ، لأنها تكاليف لا تخضع لقانون العمران ، من حيث تحكم العقل في صحتها و سلامتها فهو قول مجانب للصواب ، لأن الشريعة أنزلها الله تعالى موافقة لطبيعة الإنسان و فطرته و عقله ، قال تعالى : (( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون )) - سورة الروم/30 - .
    و الله سبحانه و تعالى لم يُنزل ما يتنافى و يتناقض مع طبائع العمران الفطرية الصحيحة ، لأنه تعالى أنزل كتابه موافقا للعقل الصريح و الفطر السليمة ، و لم يُنزّله مناقضا لهما ، لكنه سبحانه أنزل فيه أمورا لا يُدركها العقل البشري ، لكنه لا ينفيها و لا هي تتناقض معه ، فدين الإسلام جاء بما يتفق مع العقول السليمة ، و بما هو فوقها و لا تدركه ، لكنه لم يأت بالمستحيلات و المتناقضات التي تتنافى مع العقول و حقائق العمران و الطبيعة ، و كلامنا هذا تشهد له نصوص شرعية كثيرة ليس هنا مجال ذكرها ، لكن ما قلناه معروف من دين الإسلام بالضرورة .
    و قال أيضا –أي فاروق النبهان- إن الخبر الشرعي (( ليس حادثة تاريخية ،و إنما هو رواية قولية أو فعلية تخضع لمعايير الرواية من حيث التعديل و التجريح ، و لهذا فإن صحة السنة النبوية تخضع لمعيار التعديل و التجريح ، و لا يمكن رفض الرواية لمخالفتها لطبائع العمران ، لأن السنة تكليف إنشائي ،و ليست إخبارا عن واقعة تاريخية))(1) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 112 .
    (1/13)
    ________________________________________
    و قوله هذا عير صحيح في معظم جوانبه بدليل المعطيات و الشواهد الآتية ، أولها إن تفريقه بين الحادثة التاريخية و الرواية هو تفريق غير صحيح ، لأن الرواية هي نفسها حادثة تاريخية، لأنها تُخبرنا عن أفعال و أقوال و تقريرات الرسول-عليه الصلاة و السلام- ، و هي في النهاية إخبار عن حقائق صدرت عن رسول الله ، في الماضي ، و بهذا فهي حوادث تاريخية ، لا تختلف عن أي حادثة تاريخية أخرى ، و الرواية في حقيقتها إخبار عن وقائع ماضية ، و هذا هو معنى الحادثة التاريخية .
    و ثانيها إن قوله بأن الرواية الشرعية تخضع لمعايير الرواية من حيث الإسناد جرحا و تعديلا ، هو قول غير صحيح ، و لا يوجد دليل عقلي و لا شرعي يخص الرواية الشرعية بذلك المعيار . و لا يوجد في علم مصطلح الحديث ما ينص على تخصيص نقد الرواية الشرعية بالإسناد فقط دون المتن ، بل الصحيح هو أن المحدثين المحققين نقدوا الأحاديث النبوية و الروايات البشرية بمنهج واحد ، جمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و سنذكر على ذلك أمثلة كثيرة في موضع لاحق من هذا الفصل إن شاء الله تعالى .
    و ثالثها إنه لا يُوجد في السنة النبوية الصحيحة ما يتناقض مع طبائع العمران و الطبيعة ، لأن دين الإسلام ما جاء ليُناقض ذلك ، و إنما جاء ليجمع بين العقل و الفطرة و قوانين العمران و الطبيعة ، على هدى من نور الوحي ، الذي يُنير الطريق و يُبدد ظلماته ، و عليه فإن افتراض التناقض بين تلك العناصر هو افتراض خاطئ من أساسه .
    (1/14)
    ________________________________________
    و رابعها إن قوله بأن السنة النبوية هي تكليف إنشائي ،و ليست إخبارا عن واقعة تاريخية ، هو قول غير صحيح ، لأن الأحاديث فيها الإنشاء و الأخبار ، و كثيرا ما اجتمع الأمران في حديث واحد ، و الإنشاء هو نفسه خبر و حادثة تاريخية ، فإذا وصلنا حديث يقول فيه الرسول-عليه الصلاة و السلام- : (( خذوا عني مناسككم )) ، يكون قد وصلنا قول هو نفسه خبر و حادثة تاريخية ، مفاده أن رسول الله أمرنا بذلك الفعل هذا فضلا على الرواية نفسها جاءت بصيغة الخبر التاريخي، و عليه فإن كل من الخبر و الإنشاء يدخل في دائرة الحادثة التاريخية .
    و رابعا إن نظرة ابن خلدون لنقد الأخبار من خلال الإسناد كانت قاصرة ، تضمّنت أخطاء كثيرة ، أولها إنه نظر لمنهج النقد عند المحدثين من خلال الجرح و التعديل، بمعنى أنه نظر إليه من خلال نقد الإسناد فقط ، و هذه نظرة جزئية و هي خطأ ، لا تنطبق على منهج أهل الحديث الذين أقاموا منهجهم النقدي على الجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أبدعوا فيهما أيما إبداع(1) . لكن العجب من ابن خلدون ، كيف غاب عنه ذلك ؟ ! فلا ندري أكان يجهل ذلك ، أم نسيه ، أم تجاهله ؟ .
    __________
    (1) سنذكر من ذلك نماذج كثيرة ، في موضع لاحق من هذا الفصل .
    (1/15)
    ________________________________________
    و ثانيها إنه لم يدرك أهمية استخدام الإسناد في نقد الروايات التاريخية ، فاستبعده في نقدها ، و حصره في نقد الأحاديث النبوية ، و هذا موقف خطأ ، لأن نقد الإسناد مطلوب في كل الروايات ، فهو يُوصلنا إلى الرواة الذين نقلوها إلينا ،و يُعرفنا بأحوالهم و مراتبهم ، من حيث عدالتهم و ضبطهم في روايتهم للأخبار ، لذا وجدنا كثيرا من السلف يُركزون على الإسناد ،و يحثون على استخدامه ، فقال عنه صالح بن أحمد بن حنبل : (( الحديث بلا إسناد ليس بشيء )) ،و شبّه سفيان بن عُيينة الذي يُحدث بلا إسناد كالذي يصعد إلى سطح البيت بلا درجة ، بمعنى أن الإسناد هو السلم الذي يُوصل إلى المتن(1) .
    و لا يغيب عنا أن هناك روايات كثيرة مكذوبة ، يصعب و قد يستحيل تحقيقها من المتن إلا من طريق الإسناد ، لأنها من صنف الروايات التاريخية الممكنة الحدوث المتعلقة بأقوال و أحوال الناس العادية اليومية ، و هذا النوع موجود أيضا في الأحاديث النبوية ، فأحاديث كثيرة حكم عليها نقاد الحديث بالوضع أو بالضعف ، مع أن متونها معانيها صحيحة ، كحديث : (( من لم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم )) ،و حديث (( جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، و بغض من أساء إليها )) ، الحديث الأول ضعّفوه ،و الثاني قالوا إنه باطل ، بالاعتماد على نقد الإسناد(2) .
    __________
    (1) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ، حققه حمدي المدني ، المدينة المنورة ، المكتبة العلمية ، د ت ، ج 1ص: 395 .
    (2) الشوكاني: الفوائد المجموعة ، حققه عبد الرحمن المعلمي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1995 ، ص: 82، 83 .
    (1/16)
    ________________________________________
    و ثالثها إنه –أي ابن خلدون- لم يتخذ موقفا صحيحا من مسألة الإسناد و المتن ، فقد مال إلى التركيز على نقد المتن ، و ازدرى بالإسناد و حصره في نقد الحديث النبوي ، و أبعده عن نقد الروايات البشرية ، و هذا موقف غير صحيح ، فكان عليه أن يجمع بين نقد الإسناد و المتن معا في كل خبر ، دون تفضيل أحدهما عن الآخر ، لأنهما متكاملان لا متناقضان ، ثم تبقى بعد ذلك طبيعة الرواية هي التي تفرض على المحقق التركيز على أحدهما أو عليهما معا .
    و رابعها إن نظرته للإسناد غير الصحيحة، هي التي ربما صرفته عن استخدامه في تاريخه العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ، فجاء تاريخه ناقصا لخلوه من الأسانيد التي هي توثيق للمادة التاريخية التي أوردها في تاريخه ، فبسب عدم ذكره لها –أي للأسانيد- حرمنا من إمكانية تحقيق رواياته باستخدام الأسانيد . كما أن غياب الأسانيد من الأخبار التاريخية ، يُؤدي إلى اختلاط كلام الرواة بكلام المؤلفين ،و يصبح التفريق بينهما صعبا ، و تسهل أمام المؤلف غير الأمين عملية التزوير و التحريف ، و التصرّف في الروايات كما يحلو له ، لأننا في هذه الحالة يصعب التفريق بين كلامه و كلام الرواة من جهة ، و ليست لدينا أسانيد لمعرفة مصدر تلك الروايات من جهة أخرى .
    و خامسا إنه-أي ابن خلدون- وقع في أخطاء كثيرة فيما قاله عن المؤرخين المسلمين ، أولها إنه قال إن فحول المؤرخين المسلمين لم يرفضوا تُرهات الأحاديث ولا دفعوها ، و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، فإن منهم من كان ناقدا بارعا محققا ، نقد الأخبار و الأحاديث ،و رد كثيرا من الخرافات و المستحيلات ، على رأسهم : المؤرخ الناقد شمس الدين الذهبي (ت748ه) ،و الحافظ المؤرخ أبو الفدا ابن كثير (ت774ه) ، و يلحق بهؤلاء الناقد المؤرخ الخطيب البغدادي (ت463ه) ، و الناقد عبد الرحمن بن الجوزي (ت597 ه) ، و سنذكر من انتقاداتهم و تحقيقاتهم أمثلة كثيرة في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
    (1/17)
    ________________________________________
    و ثانيها إنه زعم أن كبار المؤرخين الذين ذهبوا بفضل الشهرة و الإمامة المعتبرة ، هم قليل لا يكادون يُجاوزون عدد الأنامل ، و على رأسهم : محمد بن إسحاق (ت156ه) ، و سيف بن عمر التميمي(ت200ه) و محمد بن الكلبي (ت204ه) ،و محمد بن عمر الواقدي (ت207ه) ،و ابن جرير الطبري(ت310ه) ،و المسعودي(ت346ه)(1) . و قوله بأن هؤلاء هم الذين ذهبوا بالفضل و الإمامة المعتبرة ، هو قول غير صحيح و لا يصدق إلا على الطبري ، و أما الباقي فهم و إن نالوا الشهرة ، فلم ينالوا الفضل و لا الإمامة المعتبرة عند العلماء النقاد المحققين من أهل الجرح و التعديل ، فقالوا عن محمد بن إسحاق إنه لم يكن في مستوى النقد و النقل و لا التحقيق ، فكان يُدلّس في الأخبار ،و يروي عن أي إنسان ،و لا يتورّع و لا يُبالي عمن يروي أخباره ، و فروى عن المجهولين الأباطيل ، و الواهيات ،و المناكير ، و الأخبار المنقطعة ، و اختلف النقاد في توثيقه ، فمنهم من جرّحه ، و منهم من وثّقه(2) .
    و قالوا عن سيف بن عمر التميمي إنه كان ضعيفا مُتهما بالزندقة ، و وضع الأحاديث ، و الرواية عن الكذابين و المجهولين ، و قال عنه يحيى بن معين : فِلس خير منه(3) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 4 .
    (2) و أنظر خلاصة كلام الذهبي في ميزان الاعتدال ، ج3 ص: 475، رقم : 7197 . و سير أعلام النبلاء ، حققه شعيب الأرناؤوط ،و نعيم العرقسوسي ، ط 9 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ،1413، ج 7 ص: 35، 38، 39، 42، 46، 50، 52، 54 .
    (3) ابن الجوزي: الضعفاء و المتروكين ،حققه عبد الله القاضي ، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1406 ، ج2 ص: 35 . و الذهبي: ميزان الاعتدال ، حققعه علي معوض، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1995، ج 3 ص: 353. و المغني في الضعفاء ، حققه نور الدين عتر ، د م، دن ، دت ، ج 1 ص:292 .
    (1/18)
    ________________________________________
    و قالوا عن محمد الكلبي أإنه كذاب ، له كتاب في التفسير ملأه بالأكاذيب ، رواه عن الكذاب أبي مسلم مولى أم هانئ ، وقال أحمد بن حنبل عن تفسيره : لا يحل النظر فيه(1) .
    و قالوا –أي النقاد المحققون- عن الواقدي إنه يروي المناكير عن المجهولين ، و لم يكن أمينا فيما يرويه ، و ليس بثقة و متهم بالكذب ، و كان حاطب ليل في مؤلفاته الكثيرة ، خلّط فيها الغث و السمين ، و الخرز بالدر الثمين ، لذا طرحه العلماء و لم يحتجوا به ، و قال الإمام الشافعي عن مؤلفاته : : كُتب الواقدي كذب . و قال الحافظ علي بن المديني : كُتب الواقدي كتبها عن الكذاب إبراهيم بن يحيى . و اتهمه كبار المحدثين بوضع الأحاديث و رواية المناكير عن المجهولين(2) .
    و أما المسعودي فقال ابن تيمية عن تاريخه : فيه أكاذيب كثيرة ، لا يحصيها إلا الله تعالى ، و كتابه هذا معروف بكثرة الكذب(3) . و قال الحافظ الذهبي إن المسعودي كان معتزليا صاحب ملح و غرائب و عجائب(4) .
    و أما الطبري فهو الوحيد الذي وثّقه علماء الجرح و التعديل ، و مع ذلك فإن تاريخه مليء بالأكاذيب و الروايات الباطلة ، لأنه رواها كما وصلته عن الكذابين دون نقد و لا تمحيص لها(5) .
    __________
    (1) الذهبي: ميزان الاعتدال ، ج2 ص: 431، ج6 ص: 161 . و ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ط1 ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ،1952، ج 7 ص: 270 .
    (2) الذهبي: السير، ج 9 ص: 455، 469 ، 462- 464 . و ابن أبي حاتم : المصدر السابق، ج 9 ص: 461.و ابن حجر: لسان الميزان ، ط3، بيروت ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، 1986 ، ج 3 ص: 13 .
    (3) ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 94 .
    (4) سير أعلام النبلاء، ج15 ص: 596 .
    (5) عن ذلك أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، ط1 ، الجزائر ، دار البلاغ ، 2003، ص: 90 و ما بعدها .
    (1/19)
    ________________________________________
    فهل يصح بعد الذي ذكرناه عن هؤلاء ، أن يُقال إن هؤلاء نالوا الإمامة المعتبرة في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ؟ ، و كيف ينالونها و هم كلهم-ما عدا الطبري- مجروحون و متهمون بالكذب و الرواية عن المجروحين و المجهولين ؟ ،و أليس ما قاله ابن خلدون في مدح هؤلاء هو خطأ ،و مجازفة لم يلق لها بالا ؟ .
    و هو –أي ابن خلدون- قد اعترف بأن المسعودي و الواقدي قد طعن فيهما المحققون الحفاظ الثقات ، ثم زعم أنه رغم ذلك فإن الكافة قد اختصتهما بقبول أخبارهما(1) . و هذا زعم باطل فيه قدح و طعن في علماء الحديث الثقات المحققين ، فكيف يُجرّحونهما ، و يُحذّرون منهما ، و يتهمونهما بالكذب ، ثم يقبلون أخبارهما بإجماع منهم ؟ ؟ أليس هذا هدم لعلم الجرح و التعديل ؟ ، و متى كان علماء الحديث يقبلون روايات الكذابين ؟ ، و هذه كتبهم شاهدة على أمانتهم و دقتهم و حرصهم على التحقيق ، و قد سبق أن ذكرنا بأن الذهبي قال صراحة إن العلماء طرحوا الواقدي، و قال الشافعي إن كتبه –أي الواقدي- كذب . و انتقده الذهبي في روايات كثيرة ، و قال عنه في إحداها : (( و الواقدي لا يعي ما يقول ))(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 4 .
    (2) السير ، ج 3 ص: 122 ، ج 7 ص: 49 .
    (1/20)
    ________________________________________
    و كيف يقبلون روايات المسعودي ، و هو معروف برواية الأكاذيب و الأباطيل بشهادة ابن خلدون نفسه(1) ؟ . و كيف يقبلون أخباره و قد كان معتزليا شيعيا رافضيا ؟ و المعروف في علم الجرح و التعديل عدم قبول روايات الكذابين من أهل البدع و الأهواء ، كالمعتزلة و الرافضة ، فقد قال الإمام مالك في الرافضة : لا تكلّموهم و لا ترووا عنهم ، فإنهم يكذبون . و قال عنهم الإمام الشافعي : لم أر أشهد بالزور من الرافضة .و قال شريك : أحمل العلم من كل من لقيت إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث و يتخذونه دينا . و قال يزيد بن هارون : يُكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية لها ، إلا الرافضة فإنهم يكذبون . و قال الذهبي : أكثر ما ترويه الرافضة كذب ، فإن دأبهم رواية الأباطيل ،و رد ما في الصحاح و الأسانيد ، و تكفير الصحابة و التدثر بالتقية و النفاق . و قال ابن قيم الجوزية : إن الرافضة أكذب خلق الله ،و أكذب الطوائف . و قال ابن حجر العسقلاني : الشيعة لا يُوثق بنقلهم(2) .
    فهل من كان هذا حاله ، يُقال إن الكافة اختصته بقبول أخباره ؟ أليس ما قاله ابن خلدون كلام باطل ، و افتراء على النقاد المحققين ؟ ، هذا فضلا على أنه في زعمه هذا لم يذكر أي دليل لدعم زعمه ، و لم ينقل لنا أي قول من أقوال علماء الجرح و التعديل لتأييد ما ادعاه .
    __________
    (1) انظر : المقدمة ، ص: 7 و ما بعدها .
    (2) انظر : الذهبي : ميزان الاعتدال ، ج 1 ص: 118، 119 ، 146 .و السير ، ج 10 ص: 93 . و ابن القيم : المنار المنيف ،حققع عبد الرحمن المعلمي، ط2 ، الرياض ، دار العاصمة ، 1998 ، ص: 52، 57، 152 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج 2 ص: 119 .
    (1/21)
    ________________________________________
    و ثالثها –أي الأخطاء- إنه عندما ذكر كبار المؤرخين المسلمين أغفل طائفة من كبار النقاد المحققين المؤرخين المتأخرين ، منهم : الذهبي ، و ابن كثير ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و ابن قيم(1) ، و هؤلاء يمتازون بخصائص(2) كثيرة لم تتوفر في المؤرخين الأوائل الذين سماهم ابن خلدون فحولا ، و لا ندري السبب الذي صرفه عن ذكر هؤلاء .
    __________
    (1) يُعد كل من ابن تيمية و ابن القيم من المؤرخين الثانويين ، فهما قد كتبا كثيرا عن التاريخ الإسلامي، و الدعوة الإسلامية ، و مصنفاتهم شاهدة على ذلك .
    (2) أهمها التوسع في النقد إسنادا و متنا ، و سنذكر لهم أمثلة كثيرة على ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى .
    (1/22)
    ________________________________________
    ثم إنه عندما ذكر كبار المؤرخين المتقدمين ، و من جاء بعدهم ، زعم أنه لم يأت بعد هؤلاء إلا (( مقلد و بليد الطبع و العقل ، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ، و يحتذى منه بالمثال ، و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال))، و هؤلاء جمعوا الروايات جمعا بلا تحقيق(1) . و زعمه هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، فإنه لا يصدق على كل المؤرخين المتأخرين ، و إنما يصدق على طائفة منهم . كما أن في قوله هذا ذم و قدح ، و وصف لطائفة من كبار محققينا و مؤرخينا ، بالتقليد و البلادة ،و الجمع دون تحقيق ، و وصفه لهؤلاء بتلك الأوصاف فيه ظلم و إجحاف و طمس للحقائق ، لأننا نعلم أن في المؤرخين المتأخرين طائفة من كبار المحققين ، كانت قمة في الذكاء و الاجتهاد و التحرر ، و التحقيق و النقد ، و الجرأة في الحق ، و الزهد في الدنيا ، على رأسها : عبد الرحمن بن الجوزي، و تقي الدين بن تيمية ، و محمد بن عبد الهادي، و الذهبي، ابن قيم الجوزية ، و ابو الحجاج المزي، و ابن كثير ، و هؤلاء كلهم كانوا محقيقين محدثين مؤرخين، ماتوا كلهم قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته ، و كانت لهم تحقيقات و تمحيصات رائدة في النقد التاريخي ، سبقوا بها ابن خلدون في مجال نقد الأخبار ، سنذكر منها طائفة بشيء من التفصيل في مبحث لاحق نخصصه لمنهج النقد التاريخي عند المؤرخين قبل ابن خلدون ، و نقارنه مع منهجه هو ، إن شاء الله تعالى .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 4 .
    (1/23)
    ________________________________________
    و هنا نتساءل : لماذا أغفل ابن خلدون ذكر تلك الطائفة ؟ ، ثم إنه لم يكتف بذلك ، و إنما حمل عليها حملة شعواء ، فوصفها بالتقليد ، و بلادة الطبع و العقل ، و البعد عن التحقيق ، فهل نسيها أم تناساها ؟ ،و هل كان يجهلها أم تجاهلها ؟ ، و الأرجح إنه لم ينساها ، و لم يكن يجهلها ، لأنه ذكر بعضهم في تاريخه العبر و ديوان المبتدأ و الخبر(1) ، و هؤلاء أعلام مصنفاتهم مشهورة ، و كانت متداولة بين أهل العلم في عصر ابن خلدون ، و عليه فإنه يبدو لي إنه تناسهم و تجاهلهم ، و ألحقهم بالطائفة المقلدة البليدة عمدا ، ليُظهر لنا و ليوهمنا أن المؤرخين و المحدثين المسلمين الذين سبقوه ، كانوا بعيدين عن التحقيق التاريخي القائم على نقد المتن باستخدام قانون المطابقة و غيره . و أنهم حصروا نقدهم في الإسناد من جهة ، و أنه هو –أي ابن خلدون- صاحب المنهج النقدي التاريخي الجديد ، الذي اكتشفه و اهتدى إليه ، و أُلهم إياه إلهاما من جهة .
    و سادسا إنه سبق أن ذكرنا إن ابن خلدون اتهم المؤرخين و المحدثين بعدم استخدامهم لقانون المطابقة في نقد المتون ، و أنهم ركزوا على نقد الأسانيد ، و رووا المستحيلات في مصنفاتهم ، لاعتمادهم على مجرد النقل ، و ابتعادهم عن النقد و التمحيص ، فأوقعهم ذلك و غيره ، في كثرة الأخطاء و رواية الخرافات ، فهل ما قاله يصدق على كل المؤرخين الذين سبقوه ؟ و هل صحيح أنه هو مكتشف منهج النقد التاريخي الذي عرضه في مقدمته ؟ .
    __________
    (1) انظر مثلا ، ج 5 ص: 473 .
    (1/24)
    ________________________________________
    و إجابة عن ذلك أورد الحقائق و الشواهد الآتية ، أولها أنه وُجدت في التاريخ الإسلامي طائفة من كبار الحفاظ المؤرخين المحققين ، لم يكن أفرادها عاجزين عن نقد الروايات التاريخية و تمحيصها ، لما كانوا يتمتعون به من علم غزير ، و قدرات علمية مبدعة ، منهم : الخطيب البغدادي، و ابن عساكر ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و محمد بن عبد الهادي، و الذهبي، و ابن قيم الجوزية ، و أبو الحجاج المزي، و ابن كثير ، و هؤلاء لهم مصنفات تشهد لهم على مهارتهم في نقد الأخبار و تمحيصها ؛ منها: كتاب الموضوعات في الأحاديث المرفوعات ، و كتاب العلل المتناهية ، و هما لابن الجوزي ، و كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، للذهبي نقد فيه كثيرا من الروايات إسنادا و متنا(1) .
    و منها أيضا كتاب المنار المنيف في الصحيح و الضعيف ، لابن قيم الجوزية (ت751ه) ، و يُعرف أيضا بعنوان آخر هو : نقد المنقول و المحك المميز بين المردود و المنقول ، و هو كتاب قيم للغاية ، خصصه مؤلفه لنقد الأحاديث و تمحيصها من خلال المتن فقط ، ردا على سؤال ورد إليه ، يقول : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع-أي المكذوب- بضابط من غير أن يُنظر في سنده ؟ ، فأجاب ابن قيم : (( هذا سؤال عظيم القدر ، ... ثم شرع في الإجابة عليه ، و وضع ضوابط و قواعد لذلك(2) ، نذكر بعضها في موضع لاحق إن شاء الله تعالى ، فجاء السؤال و الجواب ردا دامغا على اتهامات ابن خلدون ، فالسؤال فيه إشارة إلى أنه وُجد قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته ، من فكر في موضوع نقد الأخبار من متونها دون أسانيدها .و الكتاب هو رد علمي قاطع و مفصل ، لدور بعض المحدثين المحققين في الاهتمام بمنهج نقد المتون و التأليف فيه ، قبل أن يكتب ابن خلدون منهجه التاريخي .
    __________
    (1) انظر مثلا : ج 1 ص: 430 ، ج 3 ص: 439 .
    (2) المنار المنيف في الصحيح و الضعيف، حققه عبد الرحمن المعلمي، ط2 ، الرياض، دار العاصمة ، 1998، ص: 35 و ما بعدها .
    (1/25)
    ________________________________________
    و ثانيها أنه وُجد بين العلماء المسلمين طائفة من النقاد تميزت بالروح النقدية ، و كانت لها انتقادات لغيرها من الحفاظ و المؤرخين و الفقهاء و الكتابيين ، مما يدفع عنها اتهامات ابن خلدون التي كالها للحفاظ و المؤرخين المسلمين ، فمن هؤلاء النقاد : الإمام مالك بن أنس (ت179ه) ، قال عن المحدث عبد الملك بن جريج الأموي(ت149ه) : كان حاطب ليل ، قال عنه ذلك رغم أنه كان عدلا ثقة(1) .
    و منهم المحقق المؤرخ ابن حزم الأندلسي (ت456ه) ، انتقد اليهود في روايتهم للخرافات و الأباطيل في كتبهم المحرفة ، منها انهم رووا أن لحية فرعون كان طولها 700 ذراع . و أن طائرا باض و هو في السماء ، فوقعت البيضة على 13 مدينة فهدمتها كلها(2) .
    و منهم المؤرخ الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463ه) ، انتقد طائفة من محدثي زمانه ، قال إنها جاهلة لا علم لها و لا فهم ، و تزعم أنها على منهاج علماء الحديث المحققين ، و هي قد خالفت مسلكهم في نقد الأحاديث و تحقيقها على مستوى الأسانيد و المتون ، و اكتفت بجمع المصنفات و تحمل المشاق ،و ركوب الأهوال في الأسفار ، و الأخذ عن كل من هب و دب(3) .
    __________
    (1) ابن حجر: تهذيب التهذيب ، ج 6 ص: 359 .
    (2) ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ،مكتبة الخانجي ، القاهرة ، دت ، ج1 ص: 162 .
    (3) الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ، ص : 4 و ما بعدها .
    (1/26)
    ________________________________________
    و انتقد أيضا الكوفيين و الخُراسانيين بأنهم يكثرون رواية الأكاذيب ، و قال إن لديهم نسخا كثيرة في الأحاديث الموضوعة ، و الأسانيد المصنوعة ، و ذكر من الكوفيين راويا رافضيا كذابا يُسمى عيسى بن مهران المعروف بالمستعطف (ق: 4ه ) ، قال إنه صنف كتابا في الصحابة ، ملأه طعنا فيهم ، و تضليلا و تكفيرا لهم ،و أودع فيه كثيرا من الأحاديث الموضوعة ، و الأقاصيص المختلقة ،و الأنباء المفتعلة ، رواها بأسانيد مظلمة عن سقاط الكوفة ، من الكذابين و المجهولين(1) .
    و منهم أيضا المتكلم المؤرخ القاضي أبو بكر بن العربي المالكي( ت ق: 6ه) انتقد طائفة من المؤرخين بشدة في كتابه العواصم من القواصم ، و اتهمها برواية الأباطيل من الأخبار و قال إنها من سفهاء المؤرخين ، و دعا إلى ترك سخافاتها فيما ترويه من أخبار(2) .
    و منهم الحافظ المؤرخ عبد الرحمن بن الجوزي ، انتقد بعض المؤرخين في أنهم يروون أخبارا مستهجنة عند ذوي العقول ، و أخرى تجري مجرى الخرافات ، و أخرى حوادث لا معنى لها و لا فائدة(3) . و انتقد أيضا الحافظ أبا نعيم الأصفهاني في أنه ذكر في كتابه حلية الأولياء ، أحاديث كثيرة باطلة و سكت عنها ، و لم يذكر أنها موضوعة ، أراد بها تكثير حديثه ،و ترويج رواياته(4) .
    __________
    (1) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، د ت ، ج1 ص: 44 ، 167 .
    (2) العواصم من القواصم ، ص: 102 ، 247 ، 266 .
    (3) ابن الجوزي: المنتظم ، ط1، بيروت ، دار صادر ، 1358 ،ج 1 ص: 116 .
    (4) ابن الجوزي: صفوة الصفوة ،حققه محمود فاخوري ، ط2 ، بيروت ، دار المعرفة ، 1979 ، ج1 ص: 24 .
    (1/27)
    ________________________________________
    لكن ابن الجوزي نفسه تعرض للانتقاد على يد الحافظ المؤرخ ابن حجر العسقلاني، فقال إن ابن الجوزي روى أن المتكلم ثمامة بن أشرس المعتزلي قُتل سنة 213 ه ، و كان ممن سعى في قتل المحدث أحمد بن نصر الخزاعي البغدادي ؛ فعقّب عليه ابن حجر بقوله : هذا تناقض ، لأن أحمد بن نصر قتله الخليفة الواثق سنة بضع و عشرين و مائتين ، و ثمامة قُتل سنة 213ه ، فكيف يسعى لقتله ؟ ! ثم قال : (( و دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل ، لا ينقد ما يُحدث به ))(1) .
    و واضح إن ابن الجوزي أخطأ فيما رواه ، لكنه لا يدل بالضرورة على ما ذهب إليه ابن حجر ، من أنه لا ينقد ما يحدث به ، فقد يكون ذلك الخطأ من باب السهو و الغفلة و النسيان ، لأن الرواية التي رواها ظاهرة البطلان ، لا تغيب عن أصغر الناس علما إذا كان ملما بمعطياتها ، فكيف تغيب عن ابن الجوزي ؟ ، لكن قولنا هذا لا يعني أن ابن الجوزي لم يكن يروي الضعيف و الموضوع في مصنفاته ، و إنما المقصود من ذلك أن ابن الجوزي كان يتمتع بنزعة نقدية تمحيصية ، طبقها في روايات ، و عطّلها في روايات أخرى ، و سنذكر له قريبا طائفة من الروايات نقدها نقدا تاريخيا صحيحا .
    __________
    (1) ابن حجر : اللسان ، ج 2 ص: 83 .
    (1/28)
    ________________________________________
    و منهم أيضا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية(ت728ه) ، انتقد بعض الحفاظ المؤرخين و قال إنهم يتعمدون ذكر أحاديث ضعيفة في مصنفاتهم ، كأبي نُعيم الأصفهاني، و الخطيب البغدادي، و ابن عساكر ، و ابن الجوزي(1) . و انتقد الشيعة الرافضة في روايتهم للأكاذيب ،و قال إنهم من أكذب الناس في النقليات و من أجهلهم في العقليات ، يُصدقون من المنقول ما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل ، و يُكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر عن الأمة جيلا بعد جيل ، و لا يُميزون في نقلة العلم و رواة الأحاديث و الأخبار ، بين المعروف بالكذب ، أو الغلط ، أو الجهل بما ينقل ، و بين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم و الآثار(2) .
    و كان ابن تيمية في ردوده على الرافضي ابن المطهر الحلي و مناقشاته المطولة له ، يُطالبه في البداية بصحة النقل فيما يرويه من أحاديث و أخبار تاريخية ، قبل الانتقال إلى مسائل أخرى(3) . لأنه لا فائدة من مناقشة قضايا شرعية و غيرها انطلاقا من أحاديث غير صحيحة . كما أن المطالبة بصحة النقل أولا ، تكشف الخصم و تعطل حجته و تقوّضها من أساسها ، إذا كان قد بنى دعواه على نقل غير صحيح ، أو هو الذي أخفاه ، أو لا علم له به .
    __________
    (1) ابن تيمية: الرد على البكري ، حققه محمد عجال ، ط1 ، المدينة المنورة ، مكتبة الغرباء الأثرية ، 1417 ، ج 1 ص: 78 .
    (2) ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج 1 ص: 8 .
    (3) انظر مثلا : نفس المصدر ، ج 7 ص: 9 .
    (1/29)
    ________________________________________
    و منهم المؤرخ الناقد شمس الدين الذهبي(ت748ه) ، هو من أكثر المؤرخين الحفاظ توسعا في نقد و تمحيص الأحاديث و الروايات التاريخية ، فقد طبق منهج النقد الحديثي التاريخي في كتابه سير أعلام النبلاء على كثير من الشخصيات التي ترجم لها ، و لم يحصره في المحدثين فقط ، و توسع في النقد توسعا كبيرا ، حتى أنه نقد و محّص مئات الروايات إسنادا و متنا(1) .
    و انتقد أيضا المحدثين و الفقهاء في روايتهم للموضوعات في مصنفاتهم و سكوتهم عنها ، كأبي نعيم الأصفهاني ، و الخطيب البغدادي، و عبد الرحمن بن مندة الأصفهاني (ت470ه) الذي وصفه بأنه كان حاطب ليل في مصنفاته ، يروي الغث و السمين ، و ينظم رديء الخرز مع الدر الثمين(2) . و قال عن القاضي عياض ( ت ق :6ه ) إنه روى في كتابه الشفا أحاديث غير صحيحة ، و لم يكن له نقد في فن الحديث ، و لا له فيه ذوق ، ثم قال –أي الذهبي - : (( فلماذا يا قوم نتشبع بالموضوعات ، فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل و الحسد ))(3) .
    __________
    (1) ج 1 ص: 118، 119، 129، 121، 124، 126 ، 127، ج4 ص: 306 ، 337 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 1 ص: 124 ، ج 11 ص: 255 ، ج 17 ص: 461 ، ج 18 ص: 354 .
    (3) نفس المصدر ، ج 20 ص: 216 .
    (1/30)
    ________________________________________
    و انتقد أيضا الحافظ علي بن يوسف الشطنوفي المصري (ت ق: 7ه ) ، في أنه جمع أخبار الشيخ عبد القادر الجيلاني في نحو ثلاثة مجلدات ، كتب فيها عمن أقبل و أدبر ، فراجت عليه حكايات كثيرة مكذوبة(1) . و نقد أيضا محدثي زمانه ، فقال إنهم يُكثرون من رواية الغرائب و المناكير ،و في رواياتهم كثير من الوهم و الغلط ، حتى وصل بهم الأمر إلى رواية الموضوعات و الأباطيل و المستحيل في الأصول و الفروع ، و الملاحم و الزهد ، ثم حثّهم على التوبة عما يفعلونه ،و تنقية مروياتهم ، و من لم يفعل ذلك يُستتاب ، و إلا فهو فاسق ، لأنه ظلم نفسه و جنى على السنن و الآثار(2) .
    و آخرهم الحافظ ابن كثير (ت 774ه) ، تميز بروح نقدية تمحيصية عالية ، فمن ذلك انتقاده لأهل الأهواء من الشيعة و غيرهم ، فقال إن هؤلاء رووا أحاديث مختلقة ، و أخبارا موضوعة ، تناقلوها فيما بينهم ، و إذا دُعوا إلى الحق الواضح أعرضوا عنه ، و قالوا : لنا أخبارنا و لكم أخباركم . ثم قال : و نحن نقول لهم سلام عليكم لا نبتغي الحاهلين(3) . و قال أيضا (( و للشيعة الرافضة في صفة مقتل الحسين كذب كثير ، و أخبار باطلة )) ، هم الذين وضعوها ،و لا يصح منها شيء(4) .
    __________
    (1) الذهبي : تذكرة الحفاظ ،حققه حمدي السلفي ، ط1، الرياض، دار الصميعي ، 1415 ، ج 2 ص: 743 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 2 ص: 433-434 .
    (3) البداية و النهاية ، ج 7 ص: 247 .
    (4) نفس المصدر ، ج 8 ، 201 ، 202 .
    (1/31)
    ________________________________________
    و انتقد أيضا بعض كبار المحدثين و المفسرين في روايتهم للموضوعات و الأباطيل و سكوتهم عنها، فانتقد منهم أبا القاسم بن عساكر (ت571ه) في روايته للأحاديث الضعيفة ، و تعجّب منه كيف أنه مع حفظه و اطلاعه ، يرويها و يسكت عنها ،و لا يُنبّه على نكارتها ،و ضعف رجالها(1) . و انتقد المفسرين في روايتهم لأخبار بني إسرائيل المعروفة بالإسرائيليات ، و قال إن في الكتاب المجيد غُنية عن ذلك ، و أن هؤلاء ليس بهم احتياج إلى تلك الأخبار . لذلك ضرب هو –أي ابن كثير- صفحا عن الإسرائيليات في تاريخه و تفسيره ، و قال إن غالبها مُبدل مُصحف ، مُحرّف مُختلق ، و لا حاجة لنا فيه ، مع خبر الله تعالى و رسوله –عليه الصلاة و السلام- و قد دخل منها على الناس شر كثير و فساد عريض(2) .
    و ثالثها- أي الحقائق و الشواهد- هي أنه وُجدت طائفة من الحفاظ المؤرخين أنكرت رواية الخرافات و المستحيلات ، و عليه فإنه لا يصدق عليها ما قاله ابن خلدون في انتقاده للمؤرخين المسلمين في روايتهم للمستحيلات . و يجب أن لا يغيب عنا أنه وُجدت في التاريخ الإسلامي طائفة من الزنادقة كانت تختلق الروايات الباطلة المستحيلة و تنسبها لأهل الحديث ، ليُشنّع بها عليهم بأنهم يروون المستحيلات في أخبارهم(3) .
    و من الذين رفضوا رواية المستحيلات الخطيب البغدادي ،فإنه انتقد أحد محدثي بغداد بأنه روى خبرا منكرا مستحيلا(4) . و انتقد أيضا المقرئ الحسن بن غالب البغدادي(ت458ه) ، في أنه اختلق روايات و جعل لها أسانيد باطلة مستحيلة(5) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ج 8 ص: 120 .
    (2) ابن كثير: نفس المصدر ، ج 1ص: 311، ج 2ص: 26 . و تفسي القرآن العظيم ، بيروت ، دار الفكر، 1401 ، ج 3 ص: 102 ، ج 4 ص: 222 .
    (3) ابن حجر : فتح الباري، حققه محب الدين الحطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، 1379 ، ج 2 ص: 239 .
    (4) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ، ج 3 ص: 168 .
    (5) نفس المصدر ، ج3 ص: 400 .
    (1/32)
    ________________________________________
    و الثاني هو الحافظ الذهبي انتقد كثيرا من الحفاظ لروايتهم للموضوعات و الخرافات و المستحيلات ، كأبي نعيم الأصفهاني ، و أبي القاسم إسماعيل التميمي المعروف بقوام السنة(ت535ه) ، و غيرهما من المحدثين(1) . و أشار أيضا إلى أن الكتاب الذي أُلف في سيرة الأمير القائد أبي محمد البطال( ت112ه) ، هو كتاب مُختلق ، فيه أشياء مكذوبة مستحيلة(2) .
    و الثالث هو أبو الفدا بن كثير ، انتقد رواية مفادها أن نهر النيل ينبع من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس فرأى فيه هولا عظيما ، و جوار حسانا ،و أشياء غريبة ، و أن الذي اطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد ذلك ، فقال ابن كثير إن هذه الرواية هي من خرافات المؤرخين ، و هذايانات الأفاكين(3) . و انتقد أيضا المفسرين في روايتهم للخرافات و المجازفات الكثيرة الباطلة ، منها أنهم رووا عن القصاص و الأخباريين أن ذا القرنين سار في الأرض مدة ،و الشمس تغرب من ورائه ، و هذه الرواية هي عند ابن كثير لا حقيقة لها ، و من خرافات أهل الكتاب اختلقها زنادقتهم(4) .
    و يلتحق بهؤلاء اثنان من كبار المؤرخين هما : ابن الجوزي، و ابن الأثير ، الأول انتقد بعض المؤرخين في روايتهم للخرافات(5) . و الثاني روى أخبارا خُرافية عن الفرس ، ثم ذكر أنه كان قد عزم على تركها ، لأنها أخبار خُرافية تمجها الأسماع ، و تأباها العقول و الطباع ، و لكنه مع ذلك رواها و نبّه عليها ،و لم يذكرها اعتقادا لها(6) . و هذان المؤرخان و إن لم يتوسعا في نقد ما ذكراه ، فقد كان لهما وعي تاريخي و حِس نقدي في تدوين التاريخ .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 2 ص: 433، 602 ، ج 11ص: 255 ، ج17 ص: 461، ج20 ص: 81 .
    (2) نفس المصدر ، ج 5 ص: 269 .
    (3) ابن كثير : البداية ، ج1 ص: 27 .
    (4) نفس المصدر ، ج1 ص: 278 . و تفسير القرآن العظيم ، ج 3 ص: 103 .
    (5) ابن الجوزي: المنتظم ، ج 1 ص: 116 .
    (6) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ، ج 1 ص: 54 .
    (1/33)
    ________________________________________
    و رابعها هي أنه وجُدت طائفة من النقاد المحققين المسلمين كان لها وعي و إدراك و تصوّر لتعدد طرق-مناهج- النقد و التحقيق في مجال النقد التاريخي على مستوى المتون و الأسانيد ، مما يعنى أن ما زعمه ابن خلدون من أن المحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين ، أهملوا نقد المتون و ركّزوا على الأسانيد هو زعم غير صحيح على إطلاقه ، و إنما هو يصدق على طائفة منهم ، و لا يصدق عليهم كلهم ، و منهم الفقيه أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني(ت403ه) ، كان يقول أن من دلائل الوضع في الحديث ، أن (( يكون مخالفا للعقل ، و بحيث لا يقبل التأويل ، و يلتحق به ما يدفعه من الحِس و المشاهدة ، أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي ، و أما المعارضة مع امكان الجمع فلا ))(1) . و قوله هذا غاية في الأهمية جمع فيه طائفة من طرق تحقيق الأحاديث و تمحيصها من خلال متونها لا من أسانيدها ، محتكما في ذلك إلى العقل و النقل ، و الحس و المشاهدة .
    __________
    (1) السيوطي : تدريب الراوي ، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة ، دت ، ج1 ص: 276 .
    (1/34)
    ________________________________________
    و الثاني هو عبد الرحمن بن الجوزي ، كان يقول : (( ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يُباين المعقول ، أو يُخالف المنقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع )) ، و معنى مناقضته للأصول أن يكون الحديث خارجا عن دواوين الإسلام ، من المسانيد و الكتب المشهورة (1) . و قوله هذا غاية في الأهمية يُشبه كثيرا قول الباقلاني الآنف الذكر ، و هو-أي ابن الجوزي- و إن كان حكاه عن غيره ، فهو قد استحسنه ، و أيده ، مما يعنى أنه كان يقول به و يعتقده ، و مما يزيد ذلك تأكيدا بأنه –أي ابن الجوزي- انتقد بعض المؤرخين في أنهم يذكرون أخبارا مستهجنة عند ذوي العقول ، و أخرى تجري مجرى الخرافات ،و أخرى حوادث لا معنى لها و لا فائدة(2) . و قوله هذا يستبطن منهجا نقديا متعدد الطرق ، قائما على نقد المتن .
    و الثالث هو المؤرخ عز الدين بن الأثير (ت630ه) ، إنه عندما روى أخبارا عن الفرس ، قال إنها من الأشياء التي تمجها الأسماع ،و تأباها العقول و الطباع(3) . و قوله هذا هو أيضا يستبطن منهجا نقديا متعدد الطرق ، يقوم على استخدام الأسماع و العقول و الطباع في نقد الروايات التاريخية و تمحيصها .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ج 1ص: 277 .
    (2) ابن الجوزي : المنتظم ، ج 1 ص: 116 .
    (3) ابن الأثير : الكمل في التاريخ ، حققه عبد الله القاضي، ط2، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1995 ، ج 1 ص: 54 .
    (1/35)
    ________________________________________
    و الرابع هو الشيخ تقي الدين بن تيمية ، ذكر صراحة أن هناك طرقا متعددة يُعلم بها كذب الأخبار من غير طرق أهل الحديث ، فتارة تُعرف (( بالعقل ، و تارة بما علم بالقرآن ،و تارة بما علم بالتواتر ،و تارة بما أجمع الناس كلهم عليه ، و من المعلوم أن الأخبار المخالفة للقرآن ،و التواتر و الإجماع ، و المخالفة للعقل ، يعلم بطلانها ))(1) . و قوله هذا هو أيضا غاية في الأهمية يُشبه قول الباقلاني ، و قولهما فيه رسم لمنهج تاريخي نقدي متعدد الطرق ، قائم على نقد المتون ، لكن في قوله-أي ابن تيمية- إن هناك طرقا يُعلم بها كذب الأخبار من غير طريق أهل الحديث ، فيه إشكال ، فهو إما أنه يقصد أن منهج أهل الحديث يقوم على نقد الأسانيد فقط دون المتون ، و هذا قول غير صحيح قطعا ، لأنه هو شخصيا يعلم أن منهج أهل الحديث يجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أن لأهله روايات كثيرة نقدوها من متونها ، و قد سبق أن ذكرنا كثيرا من أقوالهم في نقد المتون ،و سنذكر لهم شواهد أخرى كثيرة نقدوها من متونها .
    و إما أنه -أي ابن تيمية- صدر عنه ذلك القول غفلة و سهوا و نسيانا . و إما أنه كان يقصد أن أغلب نقد المحدثين للأخبار إنما هو للأسانيد . و إما أنه كان يقصد أن طريق أهل الحديث يقوم على الجمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، دون إلغاء لأحدهما ، و على الاحتمالين الأخيرين يكون قوله صحيحا .
    __________
    (1) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 112 .
    (1/36)
    ________________________________________
    و الخامس هو المحدث محمد بن جماعة الدمشقي (ت 733ه) ، ذكر في كتابه المنهل الروي أن مما يُعرف به الوضع في متن الحديث : ركاكة اللفظ و المعنى ، و مخالفته للمعلوم المقطوع به(1) . و قوله : المقطوع به ، يندرج فيه المقطوع به في الشرع و العقل ،و الإجماع و المشاهدة ، و هو قول صريح في أن مؤلفه كان مدركا لتعدد طرق نقد الأحاديث إسنادا و متنا ، و قد خصّ نقد المتن بما نقلناه عنه.
    و السادس هو الحافظ شمس الدين الذهبي ، انتقد محدثي زمانه بكثرة الغلط و الوهم ، و روايتهم للغرائب و المناكير ، و الموضوعات و الأباطيل ، و المستحيلات ، في الفروع و الأصول ،و الملاحم و الزهد(2) . و قوله هذا يستبطن هو أيضا منهجا نقديا متعدد الطرق ،قائما أساسا على نقد المتون و تمحيصها ، لأنه ما كان في مقدوره أن ينتقدهم في تلك الأمور ، لو لم يركز على نقد المتون بعرضها على صحيح المنقول ، و صريح المعقول ، و حقائق الطبيعة و العمران ، و سنذكر له على ذلك أمثلة كثيرة ، في موضع لاحق إن شاء الله تعالى .
    __________
    (1) المنهل الروي ، ط2 ، دمشق ، دار الفكر ، 1406 ، ص : 54 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 2 ص: 433، 602 .
    (1/37)
    ________________________________________
    و السابع هو المحقق ابن قيم الجوزية ، صنف كتابا في تمييز الأحاديث و نقدها من خلال المتون فقط ، ردا على سؤال ورد إليه ، فوضع أكثر من 13 معيارا ضابطا لتمييز صحيح الأحاديث من سقيمها ، منها احتواء الأحاديث على المجازفات ، و ركاكة الألفاظ و سماجتها ، و تكذيب الِحس و المشاهدة لها ، و مناقضتها للسنة الصحيحة ، و مخالفتها لصريح القرآن الكريم ، و بطلانها في ذاتها ، و عدم مشابهتها لكلام الأنبياء ، و مخالفتها للشواهد الصحيحة(1) . و هذه المعايير الضابطة-و غيرها- هي أدلة قاطعة على أن ابن قيم الجوزية كان عالما بتعدد طرق النقد في الروايات الحديثية و التاريخية على مستوى الأسانيد و المتون ، و هي أيضا قواعد ذهبية أبدع فيها ابن قيم مستعينا بالذين سبقوه وبما حباه الله تعالى به من علم و روح نقدية عالية .
    و آخرهم –أي الثامن- الحافظ المؤرخ عماد الدين بن كثير ، ردّ روايات كثيرة لأنها تخالف النقل و العقل(2) . و عندما تعرّض لموضوع الإسرائيليات رد معظمها ، و قال إنها من خرافات بني إسرائيل اختلقها بعض زنادقتهم ، و أشار إلى أن الذي يجوز روايته من أخبارهم هو ما يُجوّزه العقل ، فأما ما تُحيله العقول ،و يُحكم فيه بالبطلان ،و يُغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل الذي تجوز روايته(3) . و كلامه هذا صريح في تبنيه لمنهج نقدي متعدد الطرق ، قائم على نقد المتن ، اعتمادا على صحيح المنقول و صريح المعقول .
    __________
    (1) انظر المنار المنيف ، ص: 35، و ما بعدها ، و 42 و ما بعدها .
    (2) انظر : البداية ، ج 1 ص: 278، ج2 ص: 107 . و تفسير القرآن العظيم ، ج 4 ص: 222 .
    (3) تفسير القرآن العظيم ، ج 4 ص: 222 .
    (1/38)
    ________________________________________
    و يتبين من أقوال هؤلاء النقاد المحققين أنهم ركزوا على نقد المتون انطلاقا من معرفتهم بتعدد طرق نقد الروايات الحديثية و التاريخية ، و عدم انحصارها في نقد الأسانيد . و واضح من أقوالهم أيضا أنها كانت غاية في الأهمية ، أقاموها أساسا على قانون المطابقة الذي جعله ابن خلدون أحسن المعايير و أهمها في النقد التاريخي ، فذكرنا أنهم حرصوا على ضرورة مطابقة الأخبار المروية للمنقولات ، و المعقولات ، و للمحسوسات ، و المشاهدات ، و للإجماعات ، و طبائع العمران، الأمر يثبت قطعا أنهم سبقوا ابن خلدون في تقرير و تقعيد منهج النقد التاريخي القائم على نقد المتون و الأسانيد معا ، و لم يكن هو مكتشفه .
    و سابعا إننا في هذا الموضع نذكر نماذج كثيرة لطائفة من العلماء النقاد ، حققوا من خلالها روايات حديثية و تاريخية متنوعة ، نذكرها شواهد تطبيقية لممارستهم للنقد التاريخي إسنادا و متنا ، و إدراكهم لتعدد طرقه ، و لتكون أيضا ردا على ابن خلدون فيما زعمه من أن المحدثين و المؤرخين المسلمين أهملوا النقد التاريخي ،و اهتموا بنقد أسانيد الأحاديث على حساب متونها . و نذكرها-أي الشواهد – في النماذج الآنية :
    أولها يخص نقد الأسانيد و المتون معا ، و يتضمن طائفة من الأمثلة المتنوعة ، منها ما ذكره الإمام مسلم (ت261ه) من أنه كانت للمحدث ابن لُهيعة أوهام فاحشة ، منها إنه روى أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- احتجم في مسجده ، فعقّب عليه مسلم بقوله : (( و هذه رواية فاسدة من كل جهة ، فاحش خطؤها في المتن و الإسناد معا جميعا )) ، وذلك أن ابن لُهيعة مُصحّف في متنه و مُغفل في إسناده ، ثم بيُن أن معنى الحديث هو أن رسول الله احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيه ، و ليس معناه أنه احتجم فيه )) (1) .
    __________
    (1) مسلم بن الحجاج : التمييز ، حققه مصطفى الأعظمي، السعودية ، مكتبة الكوثر ، 1411 ، ، ص: 187 .
    (1/39)
    ________________________________________
    و المثال الثاني مفاده أن الحافظ أبا داود السجستاني (ت275ه) انتقد الواعظ غلام الخليل البغدادي(ت275ه) ، و وصفه بأنه دجال بغداد ، ثم قال إنه نقد 400 حديث رواها غلام الخليل فوجدها كلها كذب بمتونها و أسانيدها(1) .
    و المثال الثالث يخص ما قاله الحافظ عبد الله بن عدي الجرجاني (ت365ه) عن مرويات محمد بن سليمان بن مسمول، من أن عامتها لا يُتابع فيها ، من حيث أسانيدها و متونها(2) . و عندما نقد الراوي محمد بن عبد الرحمن القسري ، قال إنه مجهول ، روى أحاديث بأسانيده كلها مناكير ، و منها ما متنه منكر(3) .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 13 ص: 283 .
    (2) ابن الجوزي: الضعفاء و المتروكين ، ج3 ص: 69 .
    (3) ابن عدي : الكامل في ضعفاء الرجال ، ج 6 ص: 257 .
    (1/40)
    ________________________________________
    و المثال الرابع يتضمن نقد ابن الجوزي لرواية مفادها أن الصحابي أبا ذر الغفاري دخل على الخليفة عثمان بن عفان-رضي الله عنهما- و عنده كعب الأحبار(1) ، فقال الخليفة : يا كعب إن عبد الرحمان بن عوف مات و ترك مالا فما ترى فيه ؟ فقال : إن كان يصل فيه حق الله تعالى ، فلا بأس به . فرفع أبو ذر عصاه و ضرب بها كعبا ، و قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يقول : (( ما أحب لو أن لي هذا الجبل أنفقه و يتقبل مني ،و أذر منه ست أواقي )) ، ثم قال لعثمان : أنشدتك الله يا عثمان ، أسمعت هذا-قالها ثلاث مرات- قال: بلى(2) . وهذا عند ابن الجوزي خبر لا يصح ، و ضعه الجهال ، لأن في إسناده المحدث عبد الله بن لهيعة(ت 174 ه/890م) و هو مطعون فيه و لا يحتج بحديثه . و لأن أبا ذر الغفاري توفي سنة خمس و عشرين للهجرة/645م قبل وفاة عبد الرحمن بن عوف(ت32 ه/625م) بسبع سنين ، فكيف يقال إن أبا ذر كان حيا عند وفاة ابن عوف ؟ ! ثم تساءل ابن الجوزي-عن سبب الخوف على ابن عوف- ألم يبح الشرع جمع الأموال عن طريق الحلال ؟ أليس من قلة الفقه و الفهم أن يقال : الشرع يأمر بجمع الأموال ثم يعاقب عليه ؟ ! و لماذا يخص ذلك عبد الرحمن بن عوف دون غيره ؟ ! ألم يسر سيرة إخوانه من الصحابة ؟ و أليس من المعروف أن كثيرا من الصحابة ، جمعوا أموالا معتبرة و تركوها بعدهم ، كطلحة ، و الزبير ،و ابن مسعود- رضي الله عنهم- و لم ينكر عليهم أحد ؟ (3)
    __________
    (1) كان يهوديا من بلاد اليمن ، ثم أسلم في زمن الخليفة أبي بكر الصديق ، و توفي في سنة 35ه . ابن العماد الحنبلي: المصدر السابق ج 1 ص :201 . ط د .
    (2) ابن الجوزي : تلبيس إبليس ، حققه نخبة من الباحثين ، دم ، دار النور الإسلامية ، دت ، ص : 203-204 .
    (3) نفسه ، ص : 203 ، 204 .
    (1/41)
    ________________________________________
    فيتبين من ذلك أن ابن الجوزي جمع بين نقد الإسناد و المتن معا ، و أنه كان يتمتع بعقلية المؤرخ المحدث الناقد ، فبين أن في إسناده من لا يحتج به ،و أن متنه يتعارض مع الثابت من التاريخ ،و مع الشرع الحكيم و العقل الصريح ، مما يثبت أنه كان صاحب منهج نقدي تاريخي متعدد الطرق ، لكنه أخطأ في سنة وفاة أبي ذر فإنه توفي سنة 32ه (1)و ليس سنة 25ه ، و هذا خطأ في معلومة تاريخية ، و ليس خطأ منهجيا .
    و المثال الخامس يتضمن أحاديث نقدها الحافظ عبد العظيم المنذري (ت656ه) ، قال في أحدها : (( في إسناده من لا يُعرف حاله ، و في متنه غرابة كثيرة ، بل نكارة ظاهرة )) . و قال في آخر : (( إسناده حسن و في متنه غرابة )) .و قال في آخر : (( و إسناده حسن و في متنه نكارة ))(2).
    __________
    (1) انظر مثلا : ابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب ، ج1 ص: 196 .
    (2) المنذري : الترغيب و الترهيب ، ج1 ص: 245، 282 ، ج4 ص: 250 .
    (1/42)
    ________________________________________
    و المثال السادس يتضمن نقد الشيخ تقي الدين ابن تيمية لحديث : (( أنا مدينة العلم و علي بابها )) ، قال فيه إن هذا حديث غير صحيح ، يُعد من الموضوعات المكذوبات ، و أن جميع طرقه لا تصح ، ثم قال : (( و الكذب يُعرف من نفس متنه ، لا يُحتاج إلى النظر في إسناده ))(1) ؛ ثم توسع في نقد متنه ، مبينا أن مما يدل على بطلانه أنه يسد كل طرق العلم إلا طريق علي ، و لا يجوز- باتفاق المسلمين- أن يكون مبلغ العلم عن الرسول واحد ، بل يجب أن يكون المبلغون عنه أهل التواتر الذين يحصل بهم العلم بخبرهم للغائب ،و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن(2) . كما أن الثابت من التاريخ ينقض الدعوى من أساسها ، إذ من المعروف أن المسلمين في جميع الأقطار بلغهم العلم عن الرسول-عليه الصلاة و السلام- من غير علي بن أبي طالب ، وإنما بلغهم على يد صحابة آخرين ، كما في المدينة و مكة و الشام ،و البصرة ، و حتى في الكوفة التي كثر فيها علمه ، فإن أهلها تعلموا القرآن و السنة في عهد الصديق و عمر و عثمان –رضي الله عنهم- فبل أن يأتيهم علي-رضي الله عنه(3)- .
    __________
    (1) ابن تيمية : الفتاوى الكبرى ، حققه حسنين مخلوف، ط1، بيروت ، دار المعرفة ، 1386 ، ج 1 ص: 473 .
    (2) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 4 ص: 410 . و منهاج السنة ، ج 7 ص: 515-516 .
    (3) نفسه ج 4 ص: 473 . و نفسه ، ج 7 ص: 515، 516 . .
    (1/43)
    ________________________________________
    و المثال السابع يتضمن ثلاث روايات نقدها الحافظ الذهبي ، أولها حديث مفاده أن صحابيا اسمه عُيينة دخل على رسول الله –عليه الصلاة و السلام- و معه عائشة –رضي الله عنها- قبل ضرب الحجاب ، فقال : من هذه الحُميراء يا رسول الله ... إلخ فنقد الذهبي هذا الحديث و بيّن إن إسناده لا يصح ، لأنه مرسل ،و من رجاله يزيد بن عياض ، و هو متروك ، و أما متنه فهو أيضا لا يصح ، لأن عُيينة لم يسلم إلا بعد فرض الحجاب على زوجات الرسول-صلى الله عليه وسلم-(1) .
    و الرواية الثانية مفادها أن زين العابدين علي بن الحسين اقترض مالا من الخليفة الأموي مروان بن الحكم ، فلما احتضر مروان أوصى بأن لا يُؤخذ منه –أي زين العابدين- ذلك المال . فقال الذهبي أن هذه الرواية لا تصح ، لأن إسنادها منقطع ، و متنها مردود ، لأن مروان بن الحكم لم يحتضر عندما مات ، لأن امرأته غمته بوسادة هي و جواريها فمات ، لأنها أضمرت له الشر عندما صرف الخلافة عن ابنها خالد بن يزيد إلى غيره من بني أمية(2) .
    و الرواية الثالثة مفادها أن الإمام أبا حنيفة النعمان –لما كان صغيرا- تخيّر العلوم التي يطلبها ، و سأل عن عواقبها ، فقيل له : إن تعلمت القرآن و حفظته ، أقرأت الصبيان في المسجد ، ثم لم يلبث أن يخرج منهم من هو أحفظ منك أو مساويك ، فتذهب رئاستك . و إن سمعت الحديث و حفظته ، اجتمع عليك الأحداث و الصبيان ، و لم تأمن الغلط فيرمونك بالكذب ، و يصير ذلك عارا عليك في عقبك . ثم اقترحوا عليه النحو و الشعر ، فلم يعجباه ، و اقترحوا عليه أيضا علم الكلام و حذّروه منه . ثم سألهم عن الفقه فقالوا له : يسألك الناس و تفتيهم ، و تطلب القضاء ، فاختار الفقه و لزمه و تعلمه .(3)
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 1 ص: 126 .
    (2) نفس المصدر ، ج 3 ص: 479 ، ج4 ص: 390 .
    (3) الذهبي : السير ، ج 6 ص: 395-396 .
    (1/44)
    ________________________________________
    هذه الرواية حكم عليها الذهبي بالوضع و الاختلاق ، لأن في إسنادها من ليس بثقة ، و متنها شاهد على بطلانها لأنه لا يتطابق-لاحظ قانون المطابقة- مع الثوابت التاريخية المعروفة ، و ذلك أن الرواية زعمت أنه قيل لأبي حنيفة : إن تعلمت الحديث علمّت الصبيان ، و هذا غير صحيح ، لأن السنة التي طلب فيها أبو حنيفة الحديث هي سنة 100ه ، و لم يكن الصبيان يسمعون الحديث في هذا الزمن، فهو أمر متأخر ظهر بعد 300 سنة ، و إنما كان يطلبه زمن أبي حنيفة كبار العلماء . و كذلك علم الفقه فعندما طلبه أبو حنيفة لم تكن كتبه قد دُونت أصلا ، و لم يكن للفقهاء في ذلك الزمن علم إلا القرآن الكريم . و اقتراحهم عليه طلب علم الكلام هو دليل آخر على أن الرواية خرافة ، لأن علم الكلام في ذلك الوقت ( سنة100ه ) لم يكن ظهر أصلا (1) .
    و المثال الأخير-أي الثامن- يتضمن ثلاثة أحاديث نقدها المؤرخ ابن كثير إسنادا و متنا ، قال عن الأول : (( في إسناده ضعف ،و في متنه نكارة )) ، و قال عن الثاني : (( ضعيف الإسناد ، و متنه فيه نكارة )) ، و الثالث قال فيه : (( في إسناده غرابة ، و في متنه نكارة شديدة ))(2) .
    __________
    (1) نفسه ، ج6 ص: 395-397 .
    (2) البداية و النهاية ، ج 5 ص: 38 ، ج6 ص: 50 ، ج9 ص: 279 .
    (1/45)
    ________________________________________
    و زيادة على ما ذكرناه من الأمثلة التطبيقية لنقد الأسانيد و المتون ، هناك أقوال لبعض نقاد الحديث نصت على نقد الإسناد و المتن ضمن علم مصطلح الحديث ، فمن ذلك أن الخطيب البغدادي نص على أن المحدثين المتقدمين كانوا ينظرون في حال الراوي و المروي –أي الإسناد و المتن- ، و يميزون بين المرضي و المرذول(1) . و كذلك الحافظ أبو عمر بن الصلاح فإنه نص على أن النقد لمعرفة الحديث الموضوع ينصب على قرائن من الإسناد و المتن معا(2) .
    و منها قول للحافظ محي الدين النووي (ق: 7ه) في نقد الإسناد و المتن و الاهتمام بهما ، و هو في غاية الأهمية ، يقول فيه : (( إن المراد من علم الحديث تحقيق معاني المتون ،و تحقيق علم الإسناد و المعلل ، و العلة عبارة عن معنى في الحديث خفي ، يقتضي ضعف الحديث ، مع أن ظاهره السلامة ، و تكون العلة تارة في المتن ،و تارة في الإسناد ))(3) .
    و يتبين مما ذكرناه أن طائفة من كبار الحفاظ و المؤرخين و النقاد قد مارست النقد و التحقيق و طبقته على الروايات الحديثية و التاريخية على حد سواء ، معتمدة على نقد الأسانيد و المتون معا ، و هو نقد متكامل نتائجه صحيحة في غالب الأحيان .
    __________
    (1) الخطيب البغدادي : الكفاية عي علم الرواية ، ص : 3 .
    (2) ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، حققه ديب البغا ، الجزائر ـ دار الهدى ، دت ، ص: 59 .
    (3) النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ط2، بيروت ، داتر إحياء التراثالعربي ، 1392 ، ج1 ص: 47 .
    (1/46)
    ________________________________________
    و النموذج الثاني يخص نقد المتون لوحدها ، و يتضمن شواهد تاريخية كثيرة و متنوعة ، نذكرها ردا على ابن خلدون في اتهامه للحفاظ و المؤرخين و المفسرين المسلمين بإهمالهم نقد المتون ، أولها –أي الشواهد- ما قاله الحافظ أبو جعفر العقيلي (ت322ه) عن الأحاديث التي رواها سعيد بن دهشم المقدسي ، قال إنها غير محفوظة ،و لا يصح في متنها شيء(1) .
    و الشاهد الثاني يتضمن روايات نقدها الخطيب البغدادي ، الأولى مفادها أن الخليفة العباسي المعتضد بالله ( 279-289ه) هو الذي طلب من بوران بنت الحسن بن سهل أن تُسلّمه دار الخلافة التي ورثتها عن أبيها ، فتنازلت له عنها و سلمتها له ، لكن الخطيب يرى أن هذا الخبر غير صحيح ، لأن بوران لم تعش إلى وقت الخليفة المعتضد ، الذي تولى الخلافة سنة 279ه ، و هي قد تُوفيت سنة 271ه ، غير أنه ربما كانت قد سلمت الدار للخليفة المعتمد الذي تولى الخلافة ما بين : 265-279ه ، و ليس للمعتضد(2) .
    __________
    (1) العقيلي : الضعفاء ، حققه أمين قلعجي، ط1 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1404 ، حققه سامي الدهان ،و هنري لاوست ، ط1، دمشق، المعهد الفرنسي للدراسات العربية ـ 1951، ج 2 ص: 104 .
    (2) تاريخ بغداد ، ج 1 ص: 99 .
    (1/47)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية مفادها أنه عندما ادعى اليهود ببغداد ( سنة 447ه) أن معهم كتابا من الرسول-صلى الله عليه وسلم-فيه أمر بإسقاط الجزية عن يهود خيبر ، بشهادة بعض الصحابة ؛ ثم حملوه إلى الوزير العباسي أبي القاسم علي(ت463 ه/1070م، فسلمه هو بدوره للخطيب البغدادي فتأمله و قال : هذا مزوّر ، لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان(ت60 ه ) و هو لم يسلم إلا في عام الفتح (سنة8ه ) ، وفتح خيبر كان في سنة 7ه .و فيه شهادة سعد بن معاذ ، وهو قد مات يوم بني قريضة قبل فتح خيبر بعامين ، فكشف بذلك تزوير اليهود للكتاب و فضحهم أمام الوزير(1) . فبنقده للمتن و اعتماده على قانون المطابقة –حسب التسلسل الزمني- تمكن الخطيب من كشف تزوير اليهود للكتاب.
    و الرواية الثالثة تتضمن نقد الخطيب البغدادي للأحاديث التي رواها المحدث أبو القاسم برية بن محمد البغدادي ، قال إنها أحاديث موضوعة –أي مكذوبة- منكرة المتون جدا (2) .
    __________
    (1) السخاوي : الإعلان بالتوبيخ ص : 25 .
    (2) ابن الجوزي: الضعفاء ، ج 1 ص: 138 .
    (1/48)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث مفاده أن الوزير عون الدين بن هبيرة (ت560ه) ، كان قد قرأ الحديث بالروايات على المحدث مسعود بن الحسين الحنبلي البغدادي (ت664 ه ) مدعيا أنه قرأها على المحدث ابن سوار البغدادي(ت496 ه ) فأسند الوزير القراءات عنه عن ابن سوار في كتابه الإفصاح .و في أحد مجالس قراءة هذا الكتاب توجه القارئ إلى الوزير و قال له: وأما رواية عاصم(1) فإنك قرأت بها على مسعود بن الحسين-و كان حاضرا- فقال مسعود : قرأت بها على ابن سوار ؛ فقام المقرئ على بن عساكر البطائحي الضرير(ت572 ه) و قال بصوت مرتفع : هذا كذب و خرج ؛ فبلغ خبره الوزير فطلبه و أحضر مسعود بن الحسين ،و حاققه و تبين له كذبه ، لأنه لم يدخل إلى بغداد إلا في سنة 506 ،و ابن سوار كان قد توفي في سنة 496 ه . ثم أحضر البطائحي نسخة من كتاب المستنير بخط مؤلفه ابن سوار ،و قابله مع الخط الذي عند مسعود فبان الفرق بينهما ؛ وتبين أن الخط الذي معه ليس لابن سوار ،و إنما هو مزور بخط الكاتب أبي رويح(2) الذي يشبه خط ابن سوار(3) . فهذا التزوير تم اكتشافه بالاحتكام إلى قانون المطابقة باستخدام الزمن و التحقق من الخط .
    __________
    (1) لم أجده .
    (2) لم أجده .
    (3) الذهبي : معرفة القراء الكبار ج 2 ص : 430-431 . ابن رجب : الذيل على طبقات الحنابلة ، ج1 ص : 336-337 .
    (1/49)
    ________________________________________
    و الشاهد الرابع مضمونه أن الصوفي أبا عبد الله بن أبي الخير الهمذاني(ت626ه) ادعى أنه عندما دخل اليمن حضر عند المسند أبي الوقت بن عيسى السجزي ثم الهروي(ت 553 ه) ،و سمع منه شيئا من صحيح البخاري و أجاز له ، و عندما سُئل عن مولده قال: إنه كان مترعرا في سنة 569ه –أي قرب سن البلوغ- و هذا يعني أنه ولد ما بين سنتي :551-554ه ، فتبين للمحدثين كذبه ، لأن سنه لا يسمح له بالسماع و لا بالإجازة ، من أبي الوقت المتوفى في عام 553ه(1) ، مستخدمين في ذلك قانون المطابقة .
    و الشاهد الخامس يتضمن ثلاث روايات نقدها ابن الجوزي بالاحتكام إلى قانون المطابقة ، أولها أنه روي أن أحد الفقهاء قال : اجتمع الشبلي و القاضي شريك ،و هذا عند ابن الجوزي غريب صدوره من هذا الفقيه ، فكيف لا يدري بُعد ما بين الرجلين من الفارق الزمني ؟!(2)و اجتماعهما من المستحيل لأن القاضي شريك بن عبد الله الكوفي توفي سنة 177ه ،و الصوفي أبو بكر الشبلي ولد في سنة 227 ه ،فبينهما سبعون سنة فكيف يلتقيان ؟!
    __________
    (1) الفاسي أبو الطيبل : العقد الثامين في تاريخ البلد الأمين ، القاهرة ، مطبعة السنة المحمدية، دت ، ج 1 ص : 224 –225 .
    (2) ابن الجوزي صيد الخاطر ص 438 .
    (1/50)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية مفادها أن الفقيه أبا المعالي الجويني ( ت478 ه )روى في كتابه الشامل في الأصول أن طائفة من الثقات المعنيين بالبحث عن البواطن ذكروا خبر اجتماع الصوفي أبي منصور الحلاج البغدادي (ت 309 ه )بأبي سعيد الجبائي القرمطي (ت 301 ه ) بالأديب عبد الله بن المقفع ،و تواصوا على قلب الدول و إفسادها ، و استعطاف قلوب الناس ،فاتجه كل منهم إلى قطر فحل الجبائي بالأحساء ببلاد البحرين ،و توغل ابن المقفع في بلاد الترك ،وسكن الحلاج بغداد (1).و هذا الخبر عند ابن الجوزي لا يصح، لأن الحلاج لم يدرك ابن المقفع و بينهما فارق زمني كبير ،فابن المقفع مات في سنة 144ه ، و الحلاج قتل في سنة 309ه ،و أما الجبائي فقد كان معاصرا للحلاج(2) ، و واضح من نقده أنه استخدم قانون المطابقة ، الذي لم ينطبق على هذه الرواية من الناحية الزمنية .
    و الرواية الثالثة مضمونها أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال : (( عبدت الله عز و جل ، مع رسول الله –صلى الله عليه و سلم-قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع )) ،و هذا الرواية عند ابن الجوزي باطلة ، لأن إسلام خديجة ،و أبي بكر الصديق ،و زيد بن حارثة-رضي الله عنهم- كان منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية(3) .
    __________
    (1) نفس المصدر ص :439 .
    (2) نفسه ص :439 .
    (3) ابن الجوزي : الموضوعات في الأحديث المرفوعات ، ط1 ، المدينة المنورة ، المكتبة السلفية ، 1966 ، ج 1 ص : 342 .
    (1/51)
    ________________________________________
    و الشاهد السادس يتضمن رواية نقدها الشيخ تقي الدين بن تيمية ، مفادها أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- عندما هاجر إلى المدينة تآخى مع علي بن أبي طالب ، و آخى بين أبي بكر و عمر – رضي الله عنهما- لكن ابن تيمية أنكر هذا الخبر ، و قال إنه من الأكاذيب ، لأن الثابت هو أن رسول الله لم يُؤاخ عليا و لا غيره ، و إنما آخى بين المهاجرين و الأنصار، و لم يُؤاخ بين مهاجر و مهاجر (1) .
    و الشاهد السابع يتضمن روايتين نقدهما الحافظ الذهبي ، الأولى مفادها أن العباس بن عبد المطلب أسلم قبل غزوة بدر ، و أن الرسول-صلى الله عليه و سلم- طلب منه البقاء في مكة ، فأقام بها بأمره ، لكن الذهبي أنكر هذه الخبر ، لأنه لو حدث ما طُلب الفداء من العباس يوم بدر(2) . بمعنى أنه يخالف الثابت من التاريخ ، و لا يتطابق معه .
    و الرواية الثانية مضمونها أن معاوية بن أبي سفيان أسلم عام الحديبية سنة 6ه ، و أخفى إسلامه حتى أظهره يوم فتح مكة سنة 8ه ، و شهد مع رسول الله –عليه الصلاة و السلام- غزوة حنين ، و أعطاه من الغنائم 100 من الإبل ، و أربعين أوقية . لكن الذهبي كذّبها-أي الرواية –لأنه لو كان معاوية أسلم قديما ما جعله رسول الله من المؤلفة قلوبهم حديثي العهد بالإسلام ،و ما أعطاه ذلك العطاء الجزيل حسب هذه تلك الرواية . و الدليل الثاني على بطلانها ، هو أن لو كان الرسول-عليه الصلاة و السلام- أعطى ذلك المال لمعاوية ، لما قال عنه –عندما خطب فاطمة بنت قيس- : (( و أما معاوية فصعلوك لا مال له ))(3) .
    __________
    (1) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 5 ص: 71 .
    (2) الذهبي : السير ، ج1 ص: 21 .
    (3) نفس المصدر ، ج3 ص: 122 .
    (1/52)
    ________________________________________
    و الشاهد الثامن مفاده أن المحدث عفير بن معدان الكلاعي (ق: 2ه) روى أن المحدث عمر بن موسى قدم إلى مدينة حمص و حدث الناس في المسجد ، فكان يقول : حدثنا شيخكم الصالح ، فلما أكثر من ذلك ، قال له عفير : من هذا الشيخ الصالح ؟ فقال له : خالد بن معدان ، فقال له عفير : في أي سنة لقيته ؟ قال : في غزوة أرمينية ، فقال له عفير : اتق الله ياشيخ و لا تكذب ! فقد مات خالد بن معدان سنة 104ه ، و أنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين ! ، و أزيدك أنه لم يغز أرمينية قط ، و إنما كان يغزو الروم(1) .
    و هذا نموذج رائع للغاية في نقد الروايات و تمحيصها ، قام على أساس قانون المطابقة بالاحتكام إلى الثابت من التاريخ ، زمانا و مكانا و أفعالا ، و هو أيضا نموذج مبكر للنقد التاريخي عند المحدثين في القرن الثاني الهجري .
    و الشاهد الثامن هو ما رواه الخطيب البغدادي من أن المحدث محمد بن عبيد المنادي (ق: 3ه) قال أنه دخل مدينة واسط بالعراق ، و بها المحدثان هشيم بن بشير ، و أبو هدبة ، فلزم أبا هدبة ، و لم يلتحق بهشيم ، . لكن الخطيب البغدادي حكم على هذه الرواية بالبطلان ، لأن هشيما انتقل من واسط إلى بغداد قديما ، و سكنها إلى أن تُوفي بها سنة 183ه ، و لم يكن لابن المنادي إلا 12 سنة ، و هو لم يسمع من أبي هدبة إلا ببغداد بعد موت هشيم بمدة طويلة ، و لا يُعلم له – أي ابن المنادي- سماع إلا بعد سنة 190هجرية(2) . فالخطيب في هذه الرواية استخدم في نقدها و إبطالها قانون المطابقة ، القائم على الاحتكام إلى الثابت من التاريخ ، زمانا و مكانا و حالا .
    __________
    (1) الخطيب البغدادي : الكفاية في علم الرواية ، ص: 119 .
    (2) تاريخ بغداد ، ج 3 ص: 410 .
    (1/53)
    ________________________________________
    و الشاهد العاشر يتضمن طائفة من الروايات التاريخية نقدها شيخ الإسلام ابن تيمية ، معتمدا في ذلك على قانون المطابقة بشتى وجوهه ، منها خبر يقول إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعا لعلي بن أبي طالب بقوله : (( اللهم اخذل من خذله و انصر من نصره )) فيرى أن مما يبين بطلانه أن الذين قاتلوا عليا لم يخذلوا ،و كان النصر في النهاية حليفهم ؛و أن الذين كانوا معه خذلوا و لم ينصروا(1) .
    و منها رواية تدعي أن قبر علي بن أبي طالب يوجد بمدينة النجف(2) .لكن ابن تيمية أكد أن المعروف من التاريخ أن عليا دفن بقصر الإمارة بالكوفة ،و عُمي قبره لكي لا تنبشه الخوارج ؛و بعد أكثر من 300 سنة قيل إن قبره بالنجف ،في مكان فبر الصحابي المغيرة بن شعبة(3)(ت50 ه).و مما يدعم قوله أن المؤرخ ابن كثير ذكر أن غالبية المؤرخين قالوا إن قبر علي بن أبي طالب يوجد بدار الإمارة بالكوفة ،منهم : محمد بن عمر الواقدي(ت207ه) ،و ابن جرير الطبري(ت310 ه)، وأبو بكر الخطيب البغدادي(ت 463 ه) .و أما الادعاء بأن قبره بالنجف ، فلا دليل عليه و لا أصل له(4) .
    __________
    (1) نفس المصدر ج 4 ص : 17 .
    (2) تقع إلى الجنوب من الكوفة ، و المدينتان تقعان إلى الجنوب الغربي من بغداد . أطلس العالم الصحيح ص : 56 . عبد المنعم ماجد : الأطلس التاريخي ، الخريطة رقم : 8 .
    (3) ابن تيمية : منهاج السنة ، ط دار الكتب العلمية ، ج4 ص : 12 .و التفسير الكبير ج 7 ص : 559 .و بدر الدين الحنبلي : مختصر فتاوى ابن تيمية ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، دت ، ص : 207-208 .
    (4) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص : 330-331 .
    (1/54)
    ________________________________________
    ومنها القول بأن قبر الحسين بن علي-رضي الله عنهما- يوجد بالقاهرة ، وهذا-عند ابن تيمية- كذب باتفاق أهل العلم ، لأن الحسين قتل بكربلاء في العراق ، فدفن جسده في مكان مقتله ،و أخذ رأسه إلى الكوفة حيث الأمير عبد الله بن زياد(ت67 ه/686م) ،و لم يحمل إلى الشام كما روى بعض الناس ،و إنما أخذ إلى المدينة ودفن بها وهذا هو الراجح و الأقرب .و أما الذي حمل إلى القاهرة فهو رأس قيل إنه لراهب جيء به من عسقلان بفلسطين ، في أواخر الدولة الفاطمية(1) .
    ومنها قبور مكذوبة يزورها الناس بدمشق ، كقبر زوجة النبي(عليه الصلاة و السلام) أم سلمة بنت أبي أمية(ت62 ه) ،و قبر الصحابي أبي بن كعب(ت19ه)،و قبر التابعي أويس بن عامر القرني)ت37 ه) ،و هؤلاء الثلاثة لم يقدموا إلى دمشق فكيف يقال إنهم دفنوا فيها(2) ؟ ! ثم أشار ابن تيمية إلى أن أكثر المشاهد-هي مساجد على القبور- التي على وجه الأرض مكذوبة ،و قد قال غير واحد من العلماء أنه لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد-عليه الصلاة و السلام(3)- .
    و الشاهد الحادي عشر يتضمن ثلاث روايات نقدها الحافظ الذهبي ، الأولى مفادها أن بعض المؤرخين ذكروا أن الصحابي سلمان الفارسي-رضي الله عنه- تُوفي سنة 36ه ، و قيل سنة 37ه ، لكن الذهبي أنكر ذلك و قال إنه وَهم ، و أن سلمان مات قبل ذلك التاريخ ، لأنه لم يدرك معركتي الجمل و صفين(4) في سنتي: 36،37ه .
    __________
    (1) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، الجزائر ، الدار الملكية للإعلام ، 1994 ، ص : 286 .و التفسير الكبير ، حققه عبد الرحمن عميرة ، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية ، 1988، ج 7 ص : 558 . و بدر الدين الحنبلي : المصدر السابق ص : 210 .
    (2) ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم ص : 286 .و منهاج السنة ج 4 ص : 12 .
    (3) اقتضاء الصراط المستقيم ، ص : 288 .
    (4) الهبي : السير ، ج1 ص: 555 .
    (1/55)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية مضمونها أنه رُوي أن يزيد بن معاوية كان أميرا لأبيه على قطر من الأقطار –كان والده واليا على الشام- فكتب إليه يقول له إن التابعي جبير بن نفير (ت نحو:75ه) تسبب له في مشاكل في إمارته ، بنشره لحديث نبوي بين الرعية ، فطلبه معاوية و هدده بالضرب ، فتدخل الصحابي أبو الدرداء و قال لمعاوية إن حبيرا أخذ ذلك الحديث عنه ، و أنكر عليه –أي على معاوية- ما أراد فعله بجبير . لكن الذهبي أنكر هذا الخبر و قال : (( لم يكن لجبير ذكر بعدُ في زمن أبي الدرداء (ت 33أو 35ه ) ، بل كان شابا ، يتطلب العلم ،و أيضا كان يزيد في آخر مدة أبي الدرداء طفلا عمره خمس سنين ))(1) .
    و الرواية الثالثة مفادها أنه لما وُلدت فاطمة-رضي الله عنها- سماها رسول الله –عليه الصلاة و السلام- المنصورة ، فنزل عليه جبريل يقول له : إن الله قد اختار لها اسما خيرا من الاسم الذي سميتها به ، و هو فاطمة ، لأنها تفطم شيعتها من النار . فعقّب الذهبي على ذلك بقوله : (( هذا كذب صريح ، لأنها وُلدت من قبل البعثة بخمس سنين أو نحوها ! ! ))(2) .
    و زيادة على الشواهد التطبيقية التي ذكرناها ، أورد هنا شواهد أخرى لبعض كبار أئمة الحديث في الاهتمام بنقد المتون ، منها أنهم أفردوا لنقد المتن و دراسته مباحث في علم مصطلح الحديث ، ، و ميزوا بين قولهم : حديث صحيح الإسناد ، و حسن الإسناد ، و بين قولهم : حديث صحيح ، و حديث حسن ، لأنه (( قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن ، لشذوذ أو علة ))(3) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ج 4 ص 77 .
    (2) ميزان الاعتدال ، طبعة البجاوي ، ج 3 ص: 439 .
    (3) ابن جماعة : المنهل الروي، ص: 33، وما بعدها ، و 37 و ما بعدها . و ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، ص: 23 .
    (1/56)
    ________________________________________
    و أفرد الإمام مسلم في كتابه التمييز مبحثا لتمييز الأحاديث التي في متنها أوهام ، و قال عن حديث تطرق إليه ، إنه سيذكره لاحقا و يبين مواضع العلل في متنه . و كثيرا ما رد متونا ضعيفة فيها أوهام-أي أخطاء- بمتون أخرى صحيحة(1) . و كان سفيان الثوري يقول : لما استخدم الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ(2) . و هذا يقتضي استخدام قانون المطابقة القائم على الثابت الزمني .
    و يتبين مما ذكرناه- من روايات النموذج الثاني –الكثيرة و المتنوعة- أن المحدثين و المؤرخين الذين نقدوها من متونها ، اعتمدوا أساسا على قانون المطابقة القائم على الاحتكام إلى التطابق بين ما يُروى من أخبار الأفراد و الجماعات ، و بين ما هو ثابت من أخبارهم ، مما يُعد ردا قويا دامغا على مزاعم ابن خلدون في اتهامه للمحدثين و المؤرخين و المفسرين بإهمال نقد المتون .
    و النموذج الثالث يخص نقد الأخبار بالاحتكام إلى سنن-قوانين- الاجتماع و الطبيعة ، و قد مارسته طائفة من النقاد و المحققين المسلمين ، و لهم في ذلك روايات كثيرة محققة ، نذكر منها جملة من الشواهد هي بمثابة عينات نموذجية ، نوردها ردا على ابن خلدون في اتهامه للمؤرخين و المحدثين برواية الأباطيل و إهمال النقد القائم على الاحتكام إلى سنن الطبيعة و المجتمع . و نذكر من رواياتهم الشواهد الآتية .
    __________
    (1) مسلم : التمييز ، ص : 187 و ما بعدها . 190 و ما بعدها ، 199 .
    (2) الخطيب البغدادي: الكفاية ، ص: 119 .
    (1/57)
    ________________________________________
    الأول يتضمن ثلاث روايات نقدها ابن تيمية ، الأولى مفادها أن جماعة من الأعراب قدموا إلى المدينة المنورة ، فأرسل إليهم الرسول-عليه الصلاة و السلام- 700 مقاتل بقيادة أبي بكر الصديق ، فلما وصل إليهم قالوا له : أرجع نحن في جمع كبير فعاد من حيث أتى ، ثم بعث النبي عمر ابن الخطاب ، فقيل له ما قيل للصديق ، فرجع إلى الرسول-صلى الله عليه و سلم- الذي أرسل في الأخير عليا فقاتلهم و هزمهم في موقعة عرفت بغزوة السلسلة،و أنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ، أقسم فيه بعلي في قوله : (( و العاديات ضبحا و الموريات قدحا ))(1)-سورة العاديات /1-2- و هذه الرواية باطلة في نظر ابن تيمية من عدة وجوه ، أولها أنه ليس لها إسناد يحقق فيه ،و ليس لها ذكر في كتب الحديث و المغازي و السير.و ثانيها أن هذه الغزوة- أي السلسلة-ليست هي سرية ذات السلاسل التي حدثت بالقرب من الشام بقيادة عمرو بن العاص و أبي عبيدة بن الجراح .و ثالثها أنه يمتنع (( عادة وشرعا أن يكون للنبي-صلى الله عليه و سلم- غزاه تجري فيها مثل هذه الأمور ،،و لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك)) ،و كيف ينصح الكفار المسلمين بالرجوع مرتين بحجة أنهم في قلة و هم في كثرة ؟ و (( معلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين )) . و رابعها إنه من الثابت في التاريخ أن أبا بكر الصديق و عمر بن الخطاب لم ينهزما قط في أية معركة خاضاها .و أنه لم يقصد أحد المدينة المنورة ، إلا في غزوتي الخندق و أحد ،و لم يقربها أحد من العدو للقتال إلا في هاتين الغزوتين(2) .
    __________
    (1) منهاج السنة ج 4 ص : 173 .
    (2) نفس المصدر ج 4 ص : 174 .
    (1/58)
    ________________________________________
    و أقول : فهل يعقل أن ينصح الكفار المسلمين بالرجوع و هم أحرص الناس على قتلهم ، و جاؤوا إلى المدينة لقتالهم ؟ ! و كيف يفوّتون الفرصة على أنفسهم لقتل المسلمين و فيهم الصديق و عمر ، ثم ينتظرون جيشا آخر فيه علي، ربما ينتصر عليهم ؟ ! و واضح من هذه الرواية أنها مسرحية مكشوفة مختلقة ، لم يتقن مخرجها أدوارها ، لأن همه الوحيد منها كان هو الوصول إلى القول بأن الله-عز و جل- أنزل قرآنا في علي و أقسم به لشجاعته و فضله ،و لم يكن همه الخبر في ذاته ، من حيث معقوليته ، و اتفاقه مع الثابت من التاريخ .و قد أجاد ابن تيمية في نقده لهذه الرواية الباطلة ، معتمدا على الثابت من التاريخ ، و إلى الاحتكام إلى بعض سنن المجتمع التي تحكم سلوكيات الكفار في مقاومتهم للمؤمنين ، و قد عبر عنها بالعادة التي تحكم سلوكيات الكفار المحاربين .
    (1/59)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية مضمونها أنه لما قُتل الحسين بن علي –رضي الله عنهما- رُوي أن السماء أمطرت دما ، و ما رُفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم .و ظهرت في السماء حُمرة ثم اختفت بعد ذلك كلية(1) . فيرى ابن تيمية أن هذه أخبار غير صحيحة ، و أنكر كون السماء أمطرت دما ، لأن هذا الأمر لم يقع في قتل أحد ، فكيف يقع له فقط ؟ كما أن الادعاء بظهور الحمرة في السماء و اختفائها نهائيا فهو من الترهات(2) ؛ لأن الحمرة ما تزال و لم تختف نهائيا ، و هي سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق(3) .و القول بأنه ما رفع حجر في الدنيا إلا و وجد تحته دم فهو أيضا كذب بيّن(4) . و ابن تيمية في نقده لهذه الأخبار عن مقتل الحسين ، واضح أنه احتكم إلى العادة ،و السنن التي تسير عليها الظواهر الطبيعية , و هذا مظهر من مظاهر الاحتكام إلى قانون المطابقة على المستويين الاجتماعي و الطبيعي .
    __________
    (1) منهاج السنة ، ج 2 ص : 249-250 .
    (2) الترهة هي الباطل ،و أصلها فارسي معرب . محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح ص : 57 .
    (3) الشفق هو حمرة تظهر في الأفق وقت غروب الشمس . علي بن هادية : قاموس الطلاب الجديد ص : 527 .
    (4) ابن تيمية : المصدر السابق ج 2 ص : 249-250 .
    (1/60)
    ________________________________________
    و الرواية الثالثة مفادها أنه لما عُرج بالنبي –عليه الصلاة و السلام- إلى السماء و كذّبه معظم قومه انقض نجم-و قيل كوكب-على مكة ، فقال الرسول : (( انظروا في دار من وقع فهو خليفتي من بعدي )) فوجدوه في دار علي بن أبي طالب ، فأنزل الله سورة النجم . فقال ابن تيمية إنه لا واحد من المفسرين قال إن سورة النجم نزلت بسبب انقضاض نجم على دار أحد بمكة . كما أن التاريخ الثابت المعروف لم يحدثنا قط عن كوكب سقط على مكة ، و لا على المدينة ،و غيرهما من المدن . و سقوط كوكب على الأرض ليس هو من جنس الخوارق المعروفة .و لا يروي هذا الخبر إلا أوقح الناس و أجرأهم على الكذب و أقلهم حياء ،و لا (( يروّج إلا على من هو أجهل الناس وأقلهم معرفة و علما ))(1) .
    و لابن تيمية قول في غاية الأهمية عن سنة الله في نقل الأخبار ، مفاده أن سنة الله مضت في عباده أنهم لا يتواطئون على الكذب في الأمور المتواترة ، و المنقولات المستفيضة ، لأن الله تعالى قد جبل جماهير الأمم على الصدق و البيان في المتواترات ، دون الكتمان و الكذب ، كما جبلها على الأكل و الشرب و اللباس ؛ و النفس تصدُق إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح ، و ُتخبر بالأمور المتواترة و لا تكتمها . و المتواترات يُعلم أن الناس لم يتواطئوا على الكذب فيها ، وأنهم في الأخبار الشاذة لم يتواطئوا على كتمانها(2). فيتبين من هذه الطرق التي ذكرها ابن تيمية- لتحقيق الأخبار -، أنه لجأ إلى بعض السنن الطبيعية التي تتحكم في النفس و العمران البشري ، مستعينا بالعقل و قياسه و ضربه للأمثال ، ليتخذ من هذه الطرق وسيلة للنقد و التمحيص .
    __________
    (1) نفس المصدر ج 4 ص : 19 .
    (2) ابن تيمية : خلاف الأمة في العبادات و مذاهب أهل السنة ، ضمن مجموع من هدى المدرسة السلفية ، الجزائر ، دار الشهاب ، 1988 ، ص : 119 .
    (1/61)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني يتضمن نقد الذهبي لقصة الراهب بحيرى ، فقد حققها و محصها ، و انتهى إلى إنكارها أصلا ، معتمدا على جملة من المعطيات ، و تفصيل ذلك هو أن القصة تقول إنه لما خرج الرسول –قبل النبوة- إلى الشام مع عمه أبي طالب و أشياخ من قريش ، و أشرفوا على الراهب بحيرى و نزلوا عنده ، عرف أن الذي معهم – أي الرسول- هو النبي المنتظر ، فتعرّف عليه و نصح عمه أبا طالب بإرجاعه إلى بلده خوفا من أن يقتله الروم ، فردّه أبو طالب ، و أرسل أبو بكر مع رسول الله بلالا . و تقول الرواية إن الراهب لما طلب الرسول-عليه الصلاة و السلام- وكان هو و أشياخ قريش جالسين تحت ظل شجرة ، و قدم إليهم الرسول كانت غمامة تُظله ، فلما دنا منهم و جلس معهم اتجه فيئ الشجرة إليه ، فقال لهم بحيرى انظروا فيئ الشجرة قد مال.(1) ثم ذكر الذهبي أن هذا الخبر انفرد به قراد عبد الرحمن بن غزوان و هو ثقة ، و ذكر أن الترمذي حسّن هذا الخبر ، أما هو –أي الذهبي- فقال : هذا حديث مُنكر جدا(2) ، معتمدا على الأدلة الآتية :
    __________
    (1) الذهبي: تاريخ الإسلام ، ج1 ص: 55-56 .
    (2) حسّن الألباني هذه الرواية ،و قال أن ورود اسم بلال في الحديث مُنكر . و قال ابن القيم أن ورود اسم بلال هو خلط واضح . و قال ابن حجر نفس الكلام ،و قال لعلها مدرجة في الحديث . لكنهم لم يردوا على اعتراضات الذهبي الأخرى التي ذكرها تغليقا على الرواية . ابن القيم : زاد المعاد ، حققه شعيب الأرناؤوط ،و عبد القادر الأرناؤوط ، ط14 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1986 ، ج1 ص: 76 . و الترمذي : السنن ، بتحقيق الألباني ، رقم الحديث : 3620 . المباركفوري : تحفة الأحوذي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، دت ، ج10 ص: 65.
    (1/62)
    ________________________________________
    أولها إن ذكر أبي بكر و بلال في الرواية لا يصح ، لأن أبا بكر كان ابن عشر سنين ، و هو أقل من رسول الله –عليه الصلاة و السلام- بسنتين و نصف ، و بلال لم يشتره أبو بكر إلا بعد البعثة ، بل لم يكن بلال وُلد بعدُ .
    و الدليل الثاني هو أنه كيف يُتصوّر أن يميل فيئ الشجرة –أي ظلها- لأن ظل الغمامة يُعدم فيئ الشجرة التي نزل تحتها ؟ (1) . بمعنى أن المفروض أن فيئ الشجرة يختفي نهائيا ، لأن ظل الغمامة يُذهبه كليا ؛ و دليله هذا هو غاية في القوة ، أقامه الذهبي معتمدا على الاحتكام إلى قانون طبيعي لا يُحابي أحدا ، فذِكر ما يخالف هذا القانون في هذه الرواية دليل على ضعفها ، و تلاعب الرواة بها .
    و الدليل الثالث هو أنه لو كان الخبر صحيحا لحكاه شيوخ قريش الذين رأوا الحادث ، و لتذاكرته قريش و لاشتهر بينهم ، فإنه من الأخبار التي تتوافر الهمم و الدواعي على حكايته .(2)
    و الدليل الرابع هو أنه مما يدل على عدم صحة هذا الخبر ، هو أن رسول الله – عليه الصلاة و السلام- لم يذكره ، و لو حدث بالفعل لذكره ، و لبقي عنده حس من النبوة ، و لما أنكر مجيء الوحي إليه أولا بغار حيراء ، و لما أتى زوجته خديجة-رضي الله عنها- خائفا على نفسه(3) .
    و الدليل الخامس هو أن ذلك الخوف لو أثر في أبي طالب على ما ذكرته الرواية في رده لرسول الله ، ما كانت تطيب نفسه أن يُمكّنه من السفر إلى الشام بعد ذلك عندما كان يخرج إليه تاجرا لخديجة(4) .
    __________
    (1) الذهبي : تاريخ الإسلام ، ج 1 ص: 56 .
    (2) نفس المصدر ، ج1 ص: 57 .
    (3) نفسه ، ج1 ص: 57 .
    (4) نفسه ، ج1 ص: 57 .
    (1/63)
    ________________________________________
    و واضح من أدلته – التي رد بها قصة الراهب بحيرى – أنها كانت أدلة قوية ، احتكم فيها إلى قانون المطابقة بجوانبه المتعددة ، بالاحتكام إلى الثابت من التاريخ ، و إلى بعض قوانين الاجتماع و الطبيعة ، و هي أدلة دلت على أن الحافظ الذهبي كان متمكنا من النقد التاريخي و متضلعا فيه ، له فيه نظرة واسعة شملت الإسناد و المتن معا .
    و الشاهد الثالث يتضمن روايتين نقدهما الحافظ ابن كثير ، الأولى مفادها أنه يوم قُتل الحسين بن علي –رضي الله عنهما- حدثت اضطرابات كونية ،و أمور غريبة ، فكسفت الشمس ، و ضربت الكواكب بعضها بعضا ، و ظهر الدم تحت الأحجار و غيرها كثير . لكن ابن كثير كذّب ذلك ،و قال إنها روايات مكذوبة لا يصح منها شيء ، هي من وضع الشيعة ، ثم استدل برد تلك الأكاذيب ، بأنه قد مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- و أبو بكر ، و قُتل عمر و عثمان و على-رضي الله عنهم- ،و هم أفضل من الحسين ، و لا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم أو قتلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين ، من الأمور التي ذكرناها آنفا(1) . و هو في رده لهذه الأكاذيب احتكم إلى قانون المطابقة ، فوجد أن ما رُوي يوم مقتل الحسين ، لا يتطابق مع ما هو معروف و ثابت لدي الناس منه انه قد مات رسول الله و صحابته ، و قُتل بعضهم غدرا ، و هم أفضل من الحسين بكثير ، و لم يحدث أي شيء من تلك الأمور التي رُويت في مقتله ، فهي إذن لا تصح لأنها مخالفة للعادة المألوفة في حياة البشر ، و لا تتطابق معه .
    __________
    (1) ابن كثير : البداية ، ج 8 ص: 201-202 .
    (1/64)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية مفادها أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- كان يوما نائما على ركبة علي بن أبي طالب ، ففاتته صلاة العصر ، فلما استيقظ رسول الله دعا له برد الشمس ، فرُدت الشمس ، و صلى علي صلاة العصر(1) . هذه الرواية أنكرها ابن كثير إسنادا و متنا ، فذكر أن كل أسانيدها لا تصح ، سرقها الرافضة عن بعضهم بعضا ، و عددوا طرقها . و أما متنها فترده أمور ، منها أن الأئمة في كل عصر أنكروا تلك الرواية ، كابن عساكر ، و ابن الجوزي، و أبي الحجاج المزي ، و ابن تيمية . (2)
    و الأمر الثاني هو أن هذه الحادثة لا وجود لها في دواوين الإسلام الحديثية المعتبرة ، من الصحاح و المسانيد و السنن ، و حتى الحفاظ السنيين الذين فيهم تشيع كالحاكم النيسابوري، و النسائي لم يذكروها ، مما يدل على أنها مفتعلة مأفوكة(3) .
    و الأمر الثالث هو أن الاحتكام إلى العادة يُثبت بطلانها ، و ذلك كيف يقع حدث مثل رد الشمس جهارا نهارا ، ثم لا يُروى إلا من طرق ضعيفة منكرة ، و أكثرها مركبة موضوعة ، و هو أمر لو حدث لتوافرت الهمم و الدواعي على نقله(4) .
    و الشاهد الرابع يتضمن رواية نقدها ابن قيم الجوزية ، مفادها أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- عندما رجع من حجة الوداع ، و في الطريق و بمحضر من الصحابة كلهم ، أخذ بيد علي بن ابي طالب ، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ، ثم قال : (( هذا وصيّي و أخي ،و الخليفة من بعدي، فاسمعوا له و أطيعوا ))، ثم تقول الرواية إن الصحابة كلهم اتفقوا على كتمان الوصية و مخالفتها ، و هذا عند ابن قيم دليل على أن هذه الرواية مكذوبة(5) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ج 6 ص: 85 .
    (2) نفسه ، ج6 ص: 85 .
    (3) نفسه ، ج6 ص: 85 .
    (4) نفسه ح6 ص: 85 .
    (5) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 50 .
    (1/65)
    ________________________________________
    و معنى دليله هو أنه بالاحتكام إلى العقل و العادات التي تحكم سلوكيات الناس و أخلاقهم ، يتبين أنه لا يُعقل أن يتفق جمع كبير من الناس على الكذب و الكتمان ، خاصة و أن هذا الأمر متعلق بكل الصحابة الكرام ، و هم معروفون بالصدق و الوفاء و الشجاعة ، و قد زكاهم القرآن الكريم ، و شهد لهم بالإيمان و العمل الصالح ، فهذا الصنف من الناس لا يصح في حقه أن يُقال أنه كتم وصية رسول الله –عليه الصلاة و السلام- .كما أن اختلافهم-أي الصحابة- حول مسألة الخلافة بعد وفاة رسول الله ، دليل قاطع على أنه عليه الصلاة و السلام ، لم يُوص بالخلافة لأحد من بعده .
    و النموذج الرابع يخص نقد المتن بالاحتكام إلى النقل و العقل، و قد مارسته طائفة من علماء المسلمين المحققين ، و كانت لهم في ذلك روايات نقدوها و محصوها ، نذكر بعضها شواهد على ممارسة هؤلاء للنقد و التحقيق ، و ردا على اتهامات ابن خلدون للمحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين بإهمالهم النقد عامة و نقد المتون خاصة .
    و الشاهد الأول يتضمن ثلاث روايات نقدها بعض علماء الإسلام ، الأولى مفادها أن الصحابية فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها ثلاثا ، ذهبت إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- و أخبرته بحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيه إسقاط نفقتها و سكناها ، و قد كانت هي امرأة صالحة ، فلم يقبل منها عمر ، و قال : (( ما كنا لندع كتاب ربنا و سنة نبينا ، لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا ))(1) .
    __________
    (1) أبو داود السجستاني: السنن ، بيروت ، دار الفكر ، دت ، ج2 ص: 288 . و سنن أبي داود من تحقيق الألباني ، رقم : 2291 . و الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ، ص: 83 .
    (1/66)
    ________________________________________
    و هو –أي عمر- قد رد خبرها لأنه وجده يخالف ما في الكتاب و السنة ، من خلال نقده لمتن خبرها ، الذي وجده لا يتطابق –لاحظ قانون المطابقة- مع ما هو ثابت في القرآن و السنة النبوية ،و هو لم يُجرحها و لا اتهمها في عدالتها ، و إنما رد خبرها لما وجده مخالفا لما هو ثابت في الشرع ، و علل ذلك بضعف ضبطها ، في قوله : (( لا ندري أحفظت ذلك أم نسيت )) . كما أنه يتبين من ذلك أن عملية نقد الأخبار قد ظهرت مبكرا عند المسلمين ، بالاعتماد على نقد الإسناد و المتن معا ، فعمر عندما رد الخبر رده لأن متنه يخالف الثابت في الشرع ، و أرجع ذلك إلى إمكانية أن تكون المرأة قد نسيت ، و هذا يخص الضبط ،و هو متعلق بالإسناد .
    و الرواية الثانية تتضمن نقد ابن قيم الجوزية لأحاديث فيها مدح لمن اسمه محمد و احمد ، و أن كل من تسمى بهما لا يدخل النار . فقال إن هذه أحاديث غير صحيحة ، لأنها تناقض لما هو معلوم من دين الإسلام من أن النار لا يُجار منها بالأسماء و لا بالألقاب ، و إنما النجاة منها لا يتم إلا بالإيمان و الأعمال . ثم نص ابن قيم الجوزية أن كل حديث يشمل على فساد أو ظلم أو عبث أو مدح لباطل و ذم لحق و نحوه ، فهو حديث غير صحيح(1) .
    __________
    (1) ابن القيم : المنار المنيف ، ص/ 49 .
    (1/67)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية ، مضمونها حديث نقده ابن القيم أيضا ، و مفاده أن مقدار الدنيا (( أنها سبعة آلاف سنة )) ، ثم قال ابن القيم (( و نحن في الألف السابعة )) ، و أن هذا من أبين الكذب لأنه يخالف صريح القرآن و السنة النبوية ، في أنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تعالى ، قال سبحانه (( قل إنما علمها عند الله ))-سورة الأحزاب /63- ،و قال رسول الله –عليه الصلاة و السلام (( لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ))(1) . كما أنه بناء على ذلك الحديث فإن كل إنسان يعلم متى تقوم الساعة ، و كم بقي لها ، ثم ذكر ابن القيم بقي من زمانه هو 251 سنة لكي تقوم الساعة ، على حد زعم الحديث ، و هذا من أبين الكذب(2) . و نقده هذا للحديث ، هو صحيح بلا شك ، لأنه مرت 251 سنة المتبقية –حسب الحديث المكذوب- و أكثر من ذلك بكثير ، و لم تقم الساعة بعدُ .
    __________
    (1) البخاري: الصحيح ، ج 4 ص: 1733 .
    (2) نفسه ، ص: 68 .
    (1/68)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني يتضمن روايتين ، الأولى نقدها عبد الرحمن بن الجوزي ، و مفادها أنه لما عُرج برسول الله –عليه الصلاة و السلام- إلى السماء ، و حدّث الناس بما رآه ، فكذّبوه و صدّقه بعضهم ، انقض نجم و قيل كوكب على الأرض ، فقال لهم رسول الله (( انظروا في دار من وقع ، فهو خليفتي من بعدي)) ، فوجدوه في دار علي بن أبي طالب ، فكان هذا سبب نزول سورة النجم . هذا الحديث أنكره ابن الجوزي ، و جعله من الأحاديث الموضوعة ، بعدما نقده إسنادا و متنا ، ثم تعجب من غفلة واضعه كيف (( رتب ما لا يصلح في العقول من أن النجم يقع في دار ،و يثبت إلى أن يُرى ))(1). و نقده هذا غاية في البراعة ، أقامه على أساس الاحتكام إلى العقل و طبائع الأشياء ، فلا شك أنه لو سقط نجم بمكة لأحرقها و ما حولها ، فإنه عندما سقط مذنب –مادة غازية شديدة الانفجار- بمنطقة سبيريا سنة 1908 أحدث انفجارا هائلا سُمع من مسافة1000 كلم ، و أطاح بمساحات شاسعة من الغابات التهمتها النيران ، قُدرت ب 2000كلم مربع(2) .
    و الرواية الثانية مضمونها أن المؤرخ ابن الأثير ذكر أخبارا عن الفرس القدماء ، و قال إنها من خرافاتهم ، لأنها ممن تأباه العقول و الطباع ، و تمجه الأسماع(3) . و هذا يعني أنه نقد متونها بالاحتكام إلى العقول و الطباع و الأسماع القائمة الفطرة السليمة .
    __________
    (1) ابن الجوزي: الموضوعات ، ج 1 ص: 374 .
    (2) عبد المحسن صالح ، قزم يقترب ، و مذنبات تندفع ،و حياة تنقرض، مجلة الدوحة ، عدد فبراير ، 1985 ، ص: 56 .
    (3) الكامل في التاريخ ، ج 1 ص: 54 .
    (1/69)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث يتضمن روايتين نقدهما ابن كثير ، الأولى مفادها أن كثيرا من المفسرين ذكروا أحوالا و أشكالا غريبة عن الجبارين الذين سكنوا القدس ، فأمر نبي الله موسى-عليه السلام- ، قومه بمقاتلتهم ، فمما رواه هؤلاء المفسرون عن الجبارين ، أن الجبار الواحد منهم كان يجعل في كمه و سراويله 12 رجلا من بني إسرائيل . فأنكر ابن كثير ذلك ، و قال إنها خرافات و هذايانات لا حقيقة لها ، و إن فيها مجازفات باطلة يدل العقل و النقل على خلافها (1) .
    و الرواية الثانية مضمونها أن بعض القصاص زعموا أن ذا القرنين في رحلته جاوز مغرب الشمس ، و صار يمشي بجيوشه في ظلمات مُددا طويلة . فقال ابن كثير إن راوي هذا الخبر قد أخطأ ، و قال ما يخالف العقل و النقل (2) .
    و يُلحق بهذا النموذج –أي الرابع- أقوال كبار المحققين المسلمين في تأكيدهم على الجمع بين نقد الإسناد و المتن في التحقيق التاريخي ، و قد ذكرنا منها طائفة عندما تطرقنا لتعدد طرق النقد التاريخي عند هؤلاء ، و أضيف إليها هنا قولا غاية في الأهمية لابن تيمية في تركيزه على أهمية العقل في النقد التاريخي ، فيقول : (( باعتبار العقل و قياسه ،و ضربه للأمثال يُعلم كذب ما يُنقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها و انتشارها ، لو كانت موجودة (3) . و هو هنا يؤكد على أهمية الاحتكام إلى العقل و إلى السنن الإلهية التي تحكم العمران البشري .
    و يتبين من عرضنا لشواهد النموذج الرابع أن النقد التاريخي الذي مارسه النقاد الذين ذكرناهم ، هو دليل دامغ على اهتمامهم بنقد المتون من خلال الاحتكام إلى النقل و العقل ، الذي هو يدخل ضمن قانون المطابقة ، الذي يتم فيه التأكد من تطابق الأخبار المروية ، مع النقل الصحيح و العقل الصريح .
    __________
    (1) البداية و النهاية ، ج1 ص: 278 .
    (2) نفس المصدر ، ج 2ص: 107 .
    (3) ابن تيمة : خلاف الأمة ، 119 .
    (1/70)
    ________________________________________
    و النموذج الخامس يخص نقد المتن باستخدام الإحصاء و علم الأنساب ، و المظاهر الجغرافية، و قد مارسته طائفة من النقاد المسلمين في نقدهم لبعض الروايات التاريخية ، نذكرها شواهد تطبيقية على ممارسة هؤلاء لنقد المتون ، و ردا على انتقادات ابن خلدون للمؤرخين و المحدثين و المفسرين .
    فالشاهد الأول يتضمن أربع روايات نقدها ابن حزم الأندلسي(ت 456ه) ، الأولى مفادها أن بعض كتب اليهود ذكرت أن النبي سليمان –عليه السلام- كانت جبايته السنوية 636ألف قنطار من الذهب ، لكن ابن حزم كذّب هذه الرواية ، و قال إن اليهود قالوا إن مملكة سليمان كانت تضم القدس ،و الأردن ، و الغور ، و لم تكن تضم رفح ،و لا غزة ، و لا عسقلان ،و لا صور ، و لا صيدا ، و لا دمشق و لا عمان ، و لا البلقا ، مما يعني أنها كانت دولة صغيرة ، لو جُمع ذهب أهلها لم يبلغ ما بلغته تلك الجباية – السابقة- المقدرة ب 636 ألف قنطار من الذهب(1) .
    و الرواية الثانية مضمونها أن اليهود ذكروا أنه كانت توضع يوميا في قصر سليمان-عليه السلام- مائة مائدة مصنوعة من الذهب ، على كل مائدة صفحة ذهب ، و 300 طبق من ذهب أيضا ، و على كل طبق 300 كأس من ذهب . هذه الرواية كذّبها ابن حزم ،و قال إننها من الكذبات الباردة ، و إن الذي وصف ذلك كان ثقيل الذهن في الحساب و مقصرا في المساحة ، لأن المائدة الواحدة كانت من الذهب ، و هو معدن من أثقل المعادن ، و عليها أطباق و كؤوس من الذهب ، ما قيمته 3000رطل ذهب على الأقل ، فهي بهذا الوزن لا يُحركها فيل ! ! ، فمن يرفعها ، و من يضعها ، و من يغسلها ، و من يمسحها ، و يُديرها ؟ ؟ ، و هذا الذهب كله ،و هذه الأطباق كلاها من أين(2) ؟ ؟.
    __________
    (1) ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ، ج1 ص: 162 .
    (2) نفس المصدر ، ج 1 ص: 163 .
    (1/71)
    ________________________________________
    و الرواية الثالثة مفادها أن اليهود رووا في بعض كتبهم أن ملك السودان زارخ غزا بيت المقدس في ألف ألف مقاتل-أي 1مليون - ، فتصدى له اليهود و هزموه ، و كانوا في 350 ألف مقاتل . فيرى ابن حزم أن هذا كذب فاحش ، و خرافة مكذوبة ، لأن هذا ممتنع في رتبة الجيوش و سير الممالك ، فلا يمكن أن يتحرك جيش بهذا العدد الكبير من بلد السودان إلى مصب النيل -بالبحر المتوسط- ، ثم يتحرك ثانية في الصحاري إلى بيت المقدس ، بذلك العدد الكبير ، فهذا العدد لا تحمله إلا البلاد الواسعة المعمورة ، و لا تحمله الصحاري الجرداء(1).
    و الرواية الرابعة مضمونها أن ابن حزم عرض ما قالته التوراة عن تزايد سكان قبائل بني إسرائيل ، و بيّن خطأ حساباتها في تزايد أعدادهم ، وقال إن أرقامها هي مجرد أكاذيب و مجازفات ، ذكر منها خبرا يقول إن 51 رجلا من بني إسرائيل بلغ نسلهم في ظرف 217 سنة ، أزيد من 2مليون نسمة ، و هذا الرقم عند ابن حزم هو غاية المحال الممتنع(2) .
    و واضح من انتقاداته لتلك الروايات أنه كان ناقدا محققا بارعا ، في استخدامه للإحصاء و العوامل الجغرافية ،و بعض سنن المجتمع في التزايد السكاني ،و تحركات الجيوش ، لرد تلك الأخبار المكذوبة .
    و الشاهد الثاني يتضمن رواية نقدها الحافظ الذهبي ، مفادها أن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- قالت إن مال أبيها أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- بلغ في الجاهلية ألف ألف أوقية ، -أي 1 مليون أوقية- . لكن الذهبي ضعف إسنادها ، و قال عن متنها : (( و أعتقد أن لفظة ألف الواحدة باطلة )) ، فيكون ما عنده 40 ألف درهم ، و في ذلك (( مفخرة رجل تاجر ، و قد أنفق ماله في ذات الله تعالى ، و لما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم ، فأخذه صحبته ، و أما ألف ألف أوقية ، فلا تجتمع إلا لسلطان كبير ))(3) .
    __________
    (1) نفسه ، ج1 ص: 163 .
    (2) نفس المصدر ، ج1 ص: 131-132 .
    (3) الذهبي: السير ، ج 1 ص: 127 .
    (1/72)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو رواية نقدها الشيخ تقي الدين بن تيمية ، مستخدما فيها علمي الإحصاء و الأنساب ، مفادها أنه لما نزل قوله تعالى : (( و أنذر عشيرتك الأقربين ))-سورة الشعراء/214- جمع رسول الله –عليه الصلاة و السلام- بني عبد المطلب فكانوا أربعين رجلا ، و امرأتين ، فقدم لهم طعاما وأبلغهم الدعوة ، ثم أخبرهم أن علي بن أبي طالب ، هو وصيه و وزيره ، و وارثه و خليفته من بعده . هذه الرواية ردها ابن تيمية ، لأن إسنادها لا يصح ، و لأن متنها باطل ، فبنو عبد المطلب –عندما نزلت تلك الآية- لم يبلغوا أربعين رجلا ، و قد أحصاهم ابن تيمية صغارا و كبارا فلم يصل مجموعهم إلى عشرين نفسا ، فأين الأربعون رجلا و المرأتان(1) ؟ ! .
    و الشاهد الرابع هو خبر نقده ابن الجوزي ، و قال إن أبا حامد الغزالي ذكره في كتابه المستظهري في الرد على الباطنية ، و مفاده أن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (96-99ه )بقي ثلاثة أيام لا يأكل ،ثم أفطر على نخالة مطهية من فطور أحد الزهاد ،ثم جامع أهله فجاءت له بولده عبد العزيز ،ثم لما تزوج هذا الأخير ولد له عمر .وهذا الخبر عند ابن الجوزي هو تخليط قبيح من أبي حامد لأن عمر هو ابن عم سليمان و ليس ابن ولده ،فما ((هذا حديث من يعرف من النقل شيئا أصلا ))(2).و بمعنى آخر أن والد عمر هو عبد العزيز بن مروان ( ت 85ه )و والد سليمان هو الخليفة عبد الملك بن مروان (3)(69-86 ه )،فسليمان هو ابن عم عمر وليس جده .
    __________
    (1) ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 80 .
    (2) نفسه ص :439 .و المنتظم ج9 ص:170 .
    (3) ابن العماد الحنبلي :المصدر السابق ج1 ص: 348 ،398 ،ج2 ص:5 ط د .
    (1/73)
    ________________________________________
    و واضح مما ذكرناه من انتقادات هؤلاء لتلك الروايات ، أن اعتمادهم على الإحصاء و علم الأنساب في تحقيقها و تمحيصها ، هو خطوة بارعة و موفقة تستحق الإعجاب و التنويه . كما أن استخدامهم لذلك كان قائما أساسا على الاحتكام إلى العقل و سنن الاجتماع و الطبيعة ، و كل ذلك يرجع إلى قانون المطابقة بمفهومه الواسع . فأوصلهم ذلك إلى نتائج كمية حاسمة لا تقبل الجدل ؛ و حتى إذا افترضنا أن بعضهم أخطأ في استخدامه للإحصاء و علم الأنساب ، فهذا أمر هيّن و لا يهم ، لأن الذي يهمنا هنا هو أنه كانت لهؤلاء نظرة واسعة للنقد التاريخي ، أقاموها على أساس تنوع و تعدد طرق نقد الأخبار و تمحيصها ، قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته في علم التاريخ ، و منهجه النقدي فيه .
    و أما النموذج السادس فيخص نقد المتن بالاعتماد على الأحوال و القرائن المتضمنة في الحوادث و المصاحبة لها ، و قد مارسته طائفة من النقاد المسلمين في نقدهم لبعض الروايات التاريخية ، نذكرها شواهد تطبيقية على ذلك ، و ردا على اتهامات ابن خلدون التي وجهها للمحدثين و المؤرخين و المفسرين الذين قال إنهم أهملوا نقد المتون .
    فالشاهد الأول مضمونه رواية نقدها الحافظ الخطيب البغدادي (ت463ه) ، و مفادها أن المحدث أبا محمد بن درستويه الفارسي(ت347ه) جاءه بعض المحدثين و قالوا له حدثنا عن المحدث عباس الدوري ، و نعطيك درهما ، فحدثهم عنه ، و هو لم يكن سمع منه أصلا . لكن الخطيب رد هذه الحكاية ، و قال إنها باطلة معتمدا على ما يعرفه من أحوال هذا الرجل و أخلاقه ، فقال : (( و هذه الحكاية باطلة ، لأن أبا محمد بن درستويه ، كان أرفع قدرا من أن يكذب لأجل العرض الكبير ، فكيف لأجل التافه الحقير ))(1) . و حجته –في رد الخبر- قوية ، لأن الذي ثبت أن نفسه تأبى الكذب لأجل المال الكثير ، فإنها لا تكذب أيضا لأجل المال القليل .
    __________
    (1) تاريخ بغداد ، ج 9 ص: 428 .
    (1/74)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني يتضمن رواية نقدها ابن تيمية ، و مفادها أن ما يردده الشيعة ، من أخبار تطعن في أبي بكر الصديق و خلافته ، هي في نظر ابن تيمية ، أخبار آحاد شاذة ، تناقض الروايات المتواترة عن عدله و استقامته ؛ لذا فهي لا تصح ، و مما يدل على بطلانها كذلك ، أن المتدبر بالعقل في خلافته ، يتبين له أن الصحابة لم يقدموه لغرض دنيوي ، لأنه ليس لهم فيه ذلك ، كما أن قبيلته بني تميم هي من أضعف القبائل ، ليس لها القوة لتأثر في بيعته ، مما يؤكد أن الصحابة قدموه لأنه أفضل منهم ،و سيدهم ،،و أحبهم إلى الله و رسوله ، لأن الإسلام يقدم الناس بالتقوى لا بالنسب ،و الصديق كان أتقاهم(1) و لو كان علي أحق بالخلافة و أبو بكر ظلمه و أخذها منه كما يدعي الشيعة ، فإن العقل و العادة و الشريعة توجب أن يكون الناس و الصحابة مع علي و لما بايعوا الصديق ،و لاسيما أن النفوس تنفر من مبايعة من (( ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها من أهل البيت المطاع ؛ فالدواعي لعلي من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق بها ، و هي من أبي بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما ))(2) .
    و زيادة على ما قاله ابن تيمية ، فإنه لو نص الشرع على الخلافة لعلي بعد الرسول-صلى الله عليه وسلم- لما حدث عليها خلاف ،و لما قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير ، ولما تولاها الصديق ؛ و إنما سيتولاها علي و الناس كلهم معه ، و لا يحتاج إلى المطالبة بها ،و حتى لو افترضنا أنها أخذت منه ، فإنه لن يسكت عنها و سيطالب بها ،و جماهير المسلمين معه ، لكن كل ذلك لم يحدث ، فدل ذلك على أن الخلافة لم تكن لعلي-رضي الله عنه- .
    __________
    (1) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 4 ص : 123 .
    (2) نفس المصدر ج 4 ص : 124 .
    (1/75)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث مضمونه رواية نقدها الحافظ الذهبي مفادها أنه اختلفت الأخبار عن عمر الصحابي سلمان الفارسي- رضي الله عنه- ، فقيل أنه عاش 250 سنة ، و قيل 350 سنة ، وذكر الذهبي أنه هو شخصيا قال إنه عاش 250 سنة ، في تاريخه الكبير تاريخ الإسلام ، ثم تراجع عن ذلك ، و قال : (( و أنا الساعة لا أرتضي ذلك ،و لا أصححه )) ،و قد مات قبل سنة 36ه ، ثم قدّر عمره ببضع و سبعين سنة ، و قال : و ما أراه بلغ المائة . و قدر ذلك معتمدا على أمرين ، الأول هو أنه لم يجد في ذلك شيئا يُركن إليه . و الثاني هو أنه نظر في أحواله و القرائن التي صاحبت أفعاله مع رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ، فقال عنه : (( و مجموع أحواله و غزوه و همته ، و سفّه للجريد ، و أشياء ما تقدم ، يُنبئ بأنه ليس بمعمر و لا هرم ، فقد فارق وطنه و هو حدث ، و لعله قدم الحجاز و له أربعون سنة أو أقل ، و هناك اعتنق الإسلام(1) .
    و بناء على ما ذكره الذهبي يكون عمر سلمان عندما توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما بين : 50-55 سنة ، ثم عاش بعده إلى ما قبل سنة 36 ه على أكبر تقدير ، فيكون عمره عندما توفي –رضي الله عنه- ما بين : 70-75 سنة ، و الله أعلم . و بذلك يكون الذهبي قد ضرب مثالا رائعا للمؤرخ المحدث الناقد ، الذي يجتهد في تمحيص المتون و تحقيقها ، بالاحتكام إلى الأحوال و القرائن ، عندما تعوزه الأدلة التاريخية الكافية .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 1 ص: 555-556 .
    (1/76)
    ________________________________________
    و الشاهد الرابع يتضمن رواية نقدها المحقق ابن قيم الجوزية ، و هي تتعلق بالكتاب الذي أظهره اليهود و زعموا فيه أن رسول الله خصّ فيه يهود خيبر برفع الجزية عنهم ، و قد أظهروه زمن الخطيب البغدادي(ت463ه) ، فاطلع عليه و أثبت بطلانه ، و ثم أظهروه ثانية زمن ابن القيم ( ت751ه ) ، و أخذوه إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، و هم حوله يزفونه و يُجلونه ، و قد غشّوه بالحرير و الديباج ، فلما فتحه و تأمله بزق عليه و قال : هذا كذب من عدة أوجه و ذكرها ، فقاموا من عنده بالذل و الصغار(1) .
    و هذا الكتاب المزعوم توسع ابن القيم في إبطاله ، معتمدا على القرائن المذكورة فيه و المصاحبة له ، فقال إنه –أي الكتاب- كذب من عدة وجوه ، ذكر منها عشرة أوجه ، أولها أن فيه شهادة الصحابي سعد بن معاذ –رضي الله عنه- و هو قد تُوفي في غزوة الخندق ،و هي قبل فتح خيبر سنة 7 للهجرة . و ثانيها أن فيه (( و كتب معاوية بن أبي سفيان )) ،و هذا خطأ بيّن ، لأن معاوية أسلم عند فتح مكة ،و كان من الطلقاء . و ثالثها أن الجزية لم تكن فُرضت عندما صالح الرسول-صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر ، فقد صالحهم سنة7هحرية ، و الجزية نزلت عام تبوك سنة 9هجرية ، فبدأ بفرضها على من لم يتقدم له معه صلح(2) .
    __________
    (1) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 81، 84 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 82، 82 .
    (1/77)
    ________________________________________
    و رابعها أن الكتاب –أي المزعوم- ذكر أن رسول الله وضع عنهم-أي اليهود- الكُلَف و السُخَر ، و هذا غير صحيح ، لأنه لم يكن زمن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- كُلَف و لا سُخَر ،و لا مكوس . و خامسها أن رسول الله لم يجعل لهم عهدا لازما ، بل قال لهم : (( نُقركم ما شئنا ))،و لم يرفع عنهم الجزية ، التي يصير لأهل الذمة بها عهد لازم مؤبد . و سادسها هو أنه لوكان الرسول-عليه الصلاة و السلام- قد رفع عنهم الجزية ، فإن هذا أمر مما تتوافر الدواعي على نقله ، فكيف يحدث ذلك ،و لا يعلم به حَمَلة السنة من الصحابة و التابعين ، و أئمة الحديث ،و ينفرد بعلمه ونقله اليهود(1) .
    و الوجه السابع هو أنه ليس لأهل خيبر وجه إحسان ، في تعاملهم مع المسلمين ، حتى يرفع عنهم رسول الله الجزية التي فرضها الله تعالى عقوبة لمن لا يدين منهم بالإسلام ، فهم قد حاربوا الله و رسوله و المؤمنين ، و تعاونوا مع أعدائهم ، فمن أين يقع هذا الاعتناء بهم حتى يسقط عنهم الجزية ؟ ! .
    و الوجه الثامن هو أن الرسول-صلى الله عليه و سلم-لم يُسقط الجزية عن الأبعدين عنه مع عدم معاداتهم له ، كأهل اليمن و نجران ، فكيف يضعها عن جيرانه الأدنين –أي اليهود- مع شدة معاداتهم له ،و كفرهم و عنادهم ، فهم أحق بالعقوبة ، لا بإسقاط الجزية(2) .
    و الوجه التاسع هو أنه لو كان النبي-عليه الصلاة و السلام- أسقط عن يهود خيبر الجزية ، لكانوا أحسن الكفار حالا ، و لا يحسن بعد ذلك أن يشترط عليهم في -صلحه معهم – أن يُخرجهم من أرضهم و بلادهم متى شاء ، فإنه لا يجوز إخراج أهل الذمة من ديارهم ما داموا ملتزمين بأحكام أهل الذمة . و آخره-أي العاشر- هو أنه لو كان ذلك الكتاب حقيقيا ، لما أجمع الصحابة و التابعون و الفقهاء على خلافه ، فلا يوجد فيهم من قال لا تجب الجزية على يهود خيبر، بل جعلوهم و غيرهم في الجزية سواء(3) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 82 .
    (2) نفسه ، 83 .
    (3) نفسه ، ص: 83 .
    (1/78)
    ________________________________________
    و يتبين من الشواهد التي ذكرناها أن النقاد الذين أوردناهم فيها ، قد وُفقوا في تحقيقهم للروايات التاريخية التي ذكرناها ، و كانت أمثلة نموذجية رائعة ، دلت على قدراتهم النقدية الفائقة ، في البحث عن الأحوال و القرائن المتضمنة في الحوادث و المصاحبة لها ، لاستخدامها في نقد المتون و تمحيصها .
    و النموذج السابع يخص نقد المتن بالاحتكام إلى الحِس و المشاهدة ، و قد مارسته طائفة من النقاد المحققين المسلمين ، في نقدهم لبعض الروايات التاريخية ، نذكرها شواهد تطبيقية ، و ردا على اتهامات ابن خلدون للمحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين بأنهم كلهم أهملوا نقد المتون .
    و الشاهد الأول يتضمن نقد ابن قيم الجوزية لطائفة من الأحاديث و رده لها ، عن طريق الاحتكام إلى الحِس المجرّب في الواقع ، فنص على أن الحديث الذي يُكذّبه الحِس المُشاهَد هو حديث باطل ، فمن ذلك حديث (( إذا عطس الرجل عند الحديث فهو صِدق )) ، فقال إن هذا الحديث و إن صحح بعض الناس إسناده ، فإن الحِس يشهد بوضعه ، فإنا نشاهد العُطاس و الكذب يعمل عمله ، و لو (( عطس منه ألف رجل عند حديث يُروى عن حديث عن النبي-صلى الله عليه وسلم- ، لم يُحكم بصحته بالعُطاس ، و لو عطسوا عند شهادة زور لم تُصدّق ))(1) .
    و منها أبضا حديثان ، هما : (( الباذنجان لما أُكل له )) ،و (( الباذنجان شفاء من كل داء )) ، فقال ابن القيم : قبّح الله واضعهما فإن هذا لو (( قاله بعض جهلة الأطباء لسخر الناس منه ، و لو أُكل الباذنجان للحمى ، و السوداء الغالبة ، و كثير من الأمراض ، لم يزدها إلا شدة ، و لو أكله الفقير ليستغني لم يفده الغنى ، و جاهل ليتعلم لم يفده العلم ))(2) .
    __________
    (1) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 44 .
    (2) نفسه ، ص: 44 .
    (1/79)
    ________________________________________
    و منها أيضا حديث (( أكذب الناس الصباغون و الصواغون )) ، فقال فيه ابن القيم : (( و الحِس يرد هذا الحديث ، فإن الكذب في غيرهم أضعافه فيهم ، كالرافضة - فإنهم أكذب خلق الله – و الكهان ،و الطرقية ، و المنجمين ))(1) .
    و الشاهد الثاني هو قول للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني (ت 403ه)، نص فيه على أن من جملة دلائل معرفة الحديث الموضوع –أي المكذوب- هو أن يكون مما يدفعه الحِس و المشاهدة (2) .
    و النموذج الثامن يخص رد الإسناد الصحيح بنقد متنه ، و قد مارسته طائفة من المحققين المسلمين ، في نقدهم لبعض الروايات التاريخية ، نذكرها شواهد تطبيقية على اهتمام هؤلاء بنقد المتون و ردها حتى و إن صحت أسانيدها ، و هي بحق نماذج رائعة ، و أدلة دامغة ترد مزاعم ابن خلدون في اتهامه لكل المحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين ، بإهمال نقد المتون و التركيز على الأسانيد .
    و الشاهد الأول يتضمن روايتين نقدهما الخطيب البغدادي ، الأولى مفادها أنه رأى حديثا لبعض الشيوخ ، فاستنكره –أي الحديث- ، و قد كان متنه طويلا موضوعا-أي مكذوبا- مركبا على إسناد واضح صحيح ، عن رجال ثقات أئمة في الحديث(3) .
    و الرواية الثانية مفادها أن للمحدث محمد بن الفرحان الدوري البغدادي أحاديث قال عنها الخطيب البغدادي إنها منكرة بأسانيد واضحة عن شيوخ ثقات(4) . و واضح من الروايتين أن الخطيب حكم على تلك الأحاديث بأنها منكرة غير صحيحة ، رغم أن أسانيدها صحيحة ، رجالها ثقات .
    __________
    (1) نفس المصدر ، 45 .
    (2) السيوطي: تدريب الراوي ، ج1 ص: 276 .
    (3) تاريخ بغداد ، ج 3 ص: 98 .
    (4) نفس المصدر ، ج3 ص: 168 .
    (1/80)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني يتضمن روايتين نقدهما الذهبي ، الأولى مضمونها أن الصحابي عبد الله بن عباس-رضي الله عنه- قال إن الله تعالى أوحى إلى محمد –صلى الله عليه وسلم- : إني قتلتُ بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، و إني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا و سبعين ألفا )) ، فقال الذهبي : (( هذا حديث نظيف الإسناد ،و منكر اللفظ )) ، و قال أيضا : غريب(1) .
    فهذا الحديث أنكره الذهبي على نظافة إسناده على حد قوله ، لأن متنه منكر ، فقد قُتل من هو أعظم من الحسين ، و لم يُنزل الله فيهم وحيا ، ألم يُقتل عمر بن الخطاب في المسجد ، و هو الخليفة العادل ، و عثمان قُتل في بيته على يد الأشرار الخارجين عليه ، و علي قتله بعض الخوارج المارقين عند خروجه لصلاة الفجر ؟ ، و هؤلاء-رضي الله عنهم- قتلوا مظلومين ، بلا حمل للسلاح ، و هم أفضل من الحسين بلا شك ، و مع ذلك لم يُنزل الله فيهم وحيا للاقتصاص لهم .
    كما أن هذا الحديث لم أعثر له على أي أثر في كتب الصحاح ،و لا المسانيد ، و لا السنن ، إلا عند الحاكم النيسابوري (405ه) في مستدركه ، و هو معروف بتشيعه ، و ضعفه ، و تصحيحه و تحسينه لكثير من الأحاديث الضعيفة و الموضوعة(2) .
    و الرواية الثانية مفادها أن الإمام أحمد بن حنبل ، حضر مجلسا للصوفية فيه الحارث بن أسد المحاسبي و أصحابه ، فكان يراهم و لا يرونه ، فأعجبه كلامه حتى بكي و أغشي عليه ، و عندما أنهى هؤلاء مجلسهم نصح أحمد بن حنبل صاحبه الذي كان معه بعدم صحبة هؤلاء الصوفية . فعقّب الذهبي على هذه الحكاية بقوله : هذه حكاية صحيحة الإسناد ، لكنها مُنكرة ، لا (( تقع على قلبي ، و استبعد وقوع مثل هذا من مثل أحمد بن حنبل ))(3) ..
    __________
    (1) الذهبي : السير ، ج4 ص: 342-343 . و تذكرة الحفاظ ، ج 1 ص: 77 .
    (2) ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 5 ص: 34-35 .
    (3) الذهبي: ميزان الاعتدال ، ج 1 ص: 430 .
    (1/81)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث يتضمن حديثا نقده الحافظ أبو الفدا ابن كثير ، فذكر حديثا رواه الإمام احمد بن حنبل ، ثم قال عنه : (( تفرّد به احمد بن حنبل ، و إسناده لا بأس به ، و لكن لفظه فيه نكارة شديدة))(1) .
    و الشاهد الرابع هو حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ، انتقده فيه كثير من العلماء ، و غلّطوه فيه ، رغم صحة إسناده ، و مفاده أن الله تعالى خلق الكون في سبعة أيام ،و ليس في ستة أيام ، كما هو ثابت في القرآن الكريم(2) .
    و من الذين انتقدوا مسلما في ذلك : علي بن المديني ، و البخاري، و البيهقي ، و قالوا هو من كلام كعب الأحبار ،و ليس من كلام أبي هريرة –هو راوي الحديث- ، و إنما بعض الرواة وَهَم فنسبه لأبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله –صلى الله عليه و سلم-(3) .
    و قال ابن كثير في نقده لمتن هذا الحديث : إن في متنه غرابة شديدة ، منها أنه ليس فيه ذكر خلق السموات ،و قيه ذكر خلق الأرض و ما فيها في سبعة أيام ، و هذا خلاف القرآن ، حيث خُلقت السموات في يومين ، و الأرض في أربعة أيام(4) .
    و في مقابل هؤلاء فإن بعض العلماء المحققين قد اجتهدوا في تصحيح ذلك الحديث ،و شرحوه بما لا يُخالف القرآن ، منهم : عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، و ناصر الدين الألباني(5) .
    __________
    (1) البداية و النهاية ، ج 5 ص: 121 .
    (2) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 72 . و ابن كثير : البداية ، ج 1 ص: 17 . و انظر الحديث عند مسلم : صحيح مسلم ، باب ابتداء الخلق ، رقم الحديث ، 2789 ، ج4 ص: 2149 .
    (3) ابن كثير : نفسه ، ج 1 ص : 17 .
    (4) نفسه ، ج1 ص: 17 .
    (5) ابن قيم الجوزية : المنار المنيف ، تعليق المحقق هامش ص: 72 . و الألباني : سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حديث رقم : 1833 ، ج 4 ص: 449-450 .
    (1/82)
    ________________________________________
    و بذلك يتبين مما ذكرناه أن علماء الحديث أهتموا بنقد المتون ،و لم يُصرفهم عنها إهتمامهم بنقد الأسانيد ،و منهم من ركّز على نقد متون بعض الأحاديث و تضعيفها ، رغم صحة أسانيدها .
    و من مظاهر حرص أهل الحديث على النقد و التمحيص من خلال المتن ، أنهم كثيرا ما يُفرقون بين صحة الإسناد و صحة متنه ، فلا توجد بينهما ضرورة تلازم ، لذا وجدناهم يقولون عن بعض الأحاديث : حديث صحيح الإسناد ، و حسن الإسناد ، و لا يقولون- عن تلك الأحاديث - : حديث صحيح ، و لا حديث حسن ، لأنه (( قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن ، لشذوذ أو علة )) (1) .
    و يعود سبب ظاهرة بطلان المتن رغم صحة إسناده ، إلى الغلط و النسيان ،و التعمد في الكذب و التزوير و التحريف ، و يُعد التعمد في وضع الأحاديث ، هو السبب الرئيسي في هذه الظاهرة ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، أذكر منها ثلاثة ، أولها مجموعة الأحاديث المعروفة بالودعانية ، سرقها المحدث أبو الفتح بن ودعان (ق: 5ه ) ، من المحدث زيد بن رفاعة الهاشمي ، و ركّب لها أسانيد إلى ما بعد زيد بن رفاعة ، و هي أحاديث موضوعة كلها ،و إن كان لبعضها معان صحيحة(2) .
    و المثال الثاني هو أن الكذاب محمد بن عبد الله البغدادي العنبري الأشناني ، كان يضع الأحاديث المكذوبة ، و يركب لها أسانيد صحاح يأخذها من الصحيحين ، فكانت أحاديثه مكذوبة المتون ، بأسانيد جياد(3) . و المثال الثالث هو أن المحدث أبا الفضل النيار الأصفهاني (ت530ه ) كان يضع الأحاديث الباطلة ، و يرويها بأسانيد صحاح (4) .
    __________
    (1) ابن جماعة : المنهل الروي ، ص: 37 .
    (2) ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 167 .
    (3) ابن حجر : لسان الميزان ، ج 5 ص: 229 .
    (4) الذهبي : تاريخ الإسلام ، حوادث: 521-540- ، ص: 225 .
    (1/83)
    ________________________________________
    و النموذج التاسع يخص رد روايات صحيحة المعاني بنقد أسانيدها ، و قد مارسته طائفة من النقاد المسلمين ، و توسّعت فيه ، و الشواهد الآتية توضح ذلك بجلاء ، أولها مجموعة من الأحاديث ، ضعفها و رفضها نقاد الحديث و محققوه ، منها : (( الوضوء على الوضوء ، نور على نور )) ،و (( قدموا خياركم تزكو صلاتكم )) ، و (( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )) ، و (( من أخذ بيد مكروب ، أخذ الله بيده )) ، و (( صوموا تصحوا )) ، هذه الأحاديث-و غيرها- قال عنها المحدثون المحققون أنها لا تصح(1) ، رغم أن متونها صحيحة المعاني و لا غبار عليها .
    و الشاهد الثاني يتضمن نقد الحافظ ابن عدي (ت 365ه) ، للمحدث محمد بن عبد الرحمن القشيري ، قال عنه إنه مجهول ، و روي أحاديث بأسانيد كلها مناكير ، و منها ما متنه مُنكر(2) . و قوله هذا يتضمن أن من الأحاديث التي رواها ما ليس متنها منكرا ، رغم أن أسانيدها كلها منكرة .
    و الشاهد الثالث هو ما قاله الحافظ بن كثير عن مجموعة الأربعين حديث الودعانية التي ذكرناها آنفا ، فكان مما قاله فيها ، أنها كلها أحاديث موضوعة ، لكن في بعضها معانٍ صحيحة(3) . فمع صحة بعض معانيها حكم عليها ابن كثير بأن كلها موضوعة .
    __________
    (1) الشوكاني : الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ، ص: 11، 32 ، 82، 83، 84، 90 .
    (2) ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال ، ج 6 ص: 257 .
    (3) ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 161 .
    (1/84)
    ________________________________________
    وهذا النوع من الروايات حكم عليه نقاد الحديث بالبطلان ، لأنه ليس له أصل يُرجع إليه ، أو لأن أسانيده مركبة مكذوبة ، إذ كان الكذابون المتخصصون في الوضع يتخيرون الكلام الجيد ، و المعقول ، و المتوافق مع الشرع و يختلقون له أسانيد من عندهم ، ثم ينسبونه لرسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، أو لغيره من الصحابة و أعيان الناس(1) .
    و لأنه أيضا -أي هذا النوع من الروايات- يصعب نقده و تمحيصه من خلال المتون ، و قد يستحيل ذلك أحيانا ، إذا كانت المتون تمثل حِكما بالغة ،و تتوافق مع المنقول و المعقول معا ، كأن يُقال : (( الدنيا مزرعة الآخرة )) ،و (( حب الدنيا رأس كل خطيئة )) ،و (( الزهد في الدنيا جسر إلى الجنة )) ، فهذا النوع من الروايات يُكشف صحيحه من سقيمه ، من نقد أسانيده لا متونه ، و هذا الأمر هو الذي غفل عنه ابن خلدون عندما بالغ في الدعوة إلى نقد المتون و إهمال الأسانيد ، فكان هؤلاء النقاد أحسن منه في نظرتهم لنقد المتون و الأسانيد ، فردوا روايات صحيحة الأسانيد لفساد معاني متونها ، و ردوا روايات صحيحة المتون لبطلان أسانيدها ، و فق منهجهم النقدي المتكامل الذي ذكرنا كثيرا من خطواته و أسسه و تطبيقاته .
    و النموذج العاشر يخص نقد الروايات الحديثية و التاريخية بتذوّق معانيها ،و التعرّف على نوعية أسلوبها اللغوي . و الشواهد على ذلك كثيرة ، منها ما رُوي عن التابعي الربيع بن خثيم ، من أنه كان يقول : إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه به ، و إن من الحديث حديثا له ظلمة ، كظلمة الليل نعرفه بها ))(2) .
    __________
    (1) عن الكذابين المتخصصين في الوضع ، أنظر كتابنا : مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه ، الجزائر ، دار البلاغ ، 2003 .
    (2) السيوطي: تدريب الراوي، ص: 275 .
    (1/85)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني ما قاله الحافظ أبو القاسم بن عساكر ، ، فإنه عندما ذكر خبرا عن طفولة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عقّب عليه بقوله : (( و هذا حديث غريب جدا ، و فيه ألفاظ ركيكة ، لا تُشبه الصواب ))(1) .
    و الشاهد الثالث هو ما روي عن عبد الرحمن بن الجوزي أنه قال : (( الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم ، و ينفر من قلبه في الغالب ))(2) . و الشاهد الرابع ما قاله المحدث الفقيه محي الدين بن شرف النووي (ق: 7ه) ، من أن كثيرا من الموضوعات أو أكثرها يشهد بوضعها ركاكة لفظها(3).
    و الشاهد الخامس ما قرره الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ق: 7ه ) ، من أنه مما تُعرف به الأحاديث الموضوعة ركاكة ألفاظها و معانيها(4) .
    و الشاهد السادس يتضمن ثلاثة أقوال للذهبي ، الأول نقد فيه الحافظ أبا نُعيم الأصفهاني (ق: 5ه) ، و قال إنه روى في كتابه حِلية الأولياء (( الخرافات السمجة –أي القبيحة- ما يُستحى من ذكره ))(5) . و الثاني أنه قال عن المحدث محمد بن شاذان بأنه روى في مناقب علي بن أبي طالب أخبارا باطلة سمجة ركيكة(6) . و الثالث أنه قال عن حكاية حضور أحمد بن حنبل بعض مجالس الصوفية ، إنها منكرة و (( لا تقع على قلبي ،و استبعد وقوع هذا من مثل أحمد ))(7) .
    __________
    (1) ابن عساكر: تاريخ دمشق ، ج 2 ص: 479 .
    (2) السيوطي : المصدر السابق ، ص: 275 .
    (3) شرح النووي على صحيح مسلم ، ج1 ص: 47 .
    (4) ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ، ص: 59 . و ابن جماعة : المنهل الروي ، ص : 54 .
    (5) الذهبي: السير ، ج 11 ص: 255 .
    (6) الذهبي: ميزان الاعتدال ، ج 6 ص: 55 .
    (7) نفس المصدر ، ج 1 ص: 430 .
    (1/86)
    ________________________________________
    و الشاهد الأخير –أي السابع- يتضمن أقوالا للمحقق ابن قيم الجوزية ، منها أنه عندما سئل : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنظر في سنده ؟ ، قال : (( هذا سؤال عظيم القدر ، و إنما يعرف ذلك من تضلّع في معرفة السنن الصحيحة ، و خلطت بدمه و لحمه ،و صارت له مَلَكة )) .و ذكر أن من علامات الأحاديث الموضوعة : ركاكة ألفاظها و سماجتها-أي قبحها-، بحيث يمجها السامع ،و يسمُج معناها الفطن ، كحديث (( أربع لا تشبع من أربع : أنثى من ذكر ، و أرض من مطر ، و عين من نظر ، و أذن من خبر )) ، و (( إن لله ملكا من حجارة يُقال له عُمارة ، ينزل على حمار من حجارة كل يوم فيُسَعّر ))(1) .
    و من أقواله أيضا إن مما يدل على علامات الوضع أن يكون الحديث لا يُشبه كلام رسول الله- عليه الصلاة و السلام- ،و لا كلام الأنبياء ، و أن تكون عليه ظُلمة و ركاكة ، و أن يكون مما يسخر منه الناس ، كحديث (( لو كان الرز رجلا لكان حليما ، ما أكله جائع إلا أشبعه )) ، و حديث (( ربيع أمتي العنب و البطيخ )) ،و (( من أكل فولة بقشرها أخرج الله منه الداء بمثلها)) ،و (( إن الله طهّر قوما من الذنوب بالصلعة في رؤوسهم ،و إن عليا لأولهم ))(2) .
    __________
    (1) ابن القيم الجوزية : المنار المنيف ، ص : 35 ، 79 ، 80 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 42، 46، 47 ، 52 ، 54 .
    (1/87)
    ________________________________________
    و الملكة التي تكلم عنها هؤلاء ،و خاصة ابن القيم ، لا تتأتى لأي إنسان ، بحيث يصبح كل من هب و دب يقول : حدثني قلبي أن هذا الحديث صحيح، و ذاك باطل . و يقول أيضا : إن نفسي تحدثني أن هذا الخبر غير صحيح . و إنما يتأتى ذلك لأهل الاختصاص العدول ، الذين تبحروا في علم الروايات و تضلّعوا فيها ،و تمهّروا في معرفة تفاصيلها ، و مع ذلك فتبقى أحكامهم نسبية ، بمعنى أنه ليس كل ما يقولونه بالضرورة صحيحا ، و إنما يغلب عليه الصحيح و يقل فيه الخطأ ، مع العلم أن هؤلاء في نقدهم للروايات يستخدمون كل قدراتهم النقدية في الحديث الواحد ، و لا يقتصرون على طريق واحد من طرق النقد و التمحيص .
    و واضح أيضا أن استخدام هؤلاء للغة و الملكة النقدية الذوقية في نقد الروايات ، هو منصب أساسا على المتون لا الأسانيد ، مما يدل دلالة قاطعة على أن اتهامات ابن خلدون للمحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين بإهمالهم نقد المتون ، غير صحيحة على إطلاقها ، فلا تصدق عليهم كلهم ، و إنما تصدق على طائفة منهم .
    و النموذج الحادي عشر يخص استبعاد الغرائب و العجائب و المجازفات من الروايات الحديثية و التاريخية ، و قد مارسته طائفة من المحدثين و المؤرخين في نقدهم لكثير من الروايات ، نذكر منها الشواهد الآتية ، منها قول للإمام احمد بن حنبل ، يقول فيه: (( لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب ، فإنها مناكير ، و عامتها عن الضعفاء ))(1) .
    و الشاهد الثاني مضمونه نصيحة الحافظ الخطيب البغدادي لطالب علم الحديث ، قال له فيها بأن لا يُذهب وقته في التُرهات من تتبع الأباطيل ، و تطلب الغرائب و المنكرات(2) .
    __________
    (1) السمعاني: أدب الإملاء و الإستملاء ، ط1، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1981، ص: 58 .
    (2) الحطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي ، حققه محمود الطحان ، الرياض ، مكتبة المعارف، 1403، ج 2 ص: 159 .
    (1/88)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث رواية نقدها المؤرخ ابن خلكان ، مفادها أن الناس رووا عن الأمير بهاء الدين قراقوش (ت597ه) أحكاما عجيبة ، عندما كان واليا على مصر ، حتى إن بعض أهل العلم صنف جزءا عنوانه : الفاشوش في أحكام قراقوش ، فيه أشياء استبعد ابن خلكان وقوع مثلها من قراقوش ، و قال إن الظاهر أنها موضوعة ، لأن صلاح الدين كان معتمدا عليه في أحوال مملكته ، و لو لا وُثوقه بمعرفته و كفاءته ، ما فوّضها إليه(1) . و لكنه –أي ابن خلكان- لم يذكر لنا أمثلة من الغرائب التي رُويت عن قراقوش ، لكي نطلع عليها ،و نحكم عليها نحن أيضا . و الشاهد الرابع يتمثل في انتقادات الحافظ شمس الدين الذهبي لمحدثي عصره في جملة أمور ، كان من بينها كثرة روايتهم للغرائب و المناكير(2) .
    و الشاهد الأخير-أي الخامس- مضمونه نقد ابن قيم الجوزية ، لطائفة من الأحاديث بسبب ما فيها من الغرائب و العجائب و المجازفات الباردة ، التي لا يصح أن تصدر عن نبي ، منها حديث (( من صلى الضحى كذا و كذا ركعة ، أُعطي ثواب سبعين نبيا )) ،و (( من قال لا إله إلا الله ، خلق الله له من تلك الكلمة طائرا له سبعون ألف لسان ، كل لسان سبعون ألف لغة ، يستغفرون له )) ،و (( من فعل كذا و كذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة ، في كل مدينة سبعون ألف قصر ، و في كل قصر سبعون ألف حوراء )) ، هذه المجازفات هي عند ابن القيم لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين ، إما أن يكون في غاية الجهل و الحمق ، و إما أن يكون زنديقا قصد التنقيص من الرسول –عليه الصلاة و السلام-(3) .
    __________
    (1) ابن خلكان : وفيات الأعيان ،حققه إحسان عباس، بيروت ، دار الثقافة ، 1968 ، ج 4 ص: 92 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 2 ص: 433، 602 .
    (3) ابن القيم : المنار المنيف ، ص : 43 .
    (1/89)
    ________________________________________
    و استخدام هؤلاء النقاد طريقة استبعاد الغرائب و العجائب و المجازفات ، في النقد و التحقيق ، هو طريقة فعالة ، تقوم أساسا على النظر في المتون و الاحتكام فيها إلى المنقول و المعقول ، و إلى سنن المجتمع و الطبيعة ، مما يدل على أن اتهامات ابن خلدون للمؤرخين و المحدثين، بإهمالهم نقد المتون لولوع النفس بالغرائب و غيرها من الأسباب ، هي اتهامات لا تصدق عليهم كلهم ، و إنما تصدق على طائفة منهم فقط .
    و النموذج الثاني عشر –و هو الأخير- يتضمن مثالا نموذجيا واحدا ، و هو نموذج رائع للنقد التاريخي المتعدد الطرق ،و المتكامل الجوانب ، مارسه الشيخ تقي الدين بن تيمية ، في رده على الشيعة الرافضة ، فقال إنهم رووا أن الماء زاد بمدينة الكوفة ، فخاف أهلها من الغرق و فزعوا إلى علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- فركب بغلة رسول الله-عليه الصلاة و السلام- و خرج معه الناس ، فنزل على شاطئ الفرات ، ثم دعا و ضرب صفحة الماء بقضيب كان بيده ، فغاص الماء و سلّم عليه كثير من الحيتان ، و لم ينطق بعضها ، فسُئل عن ذلك فقال : أنطق الله ما طهّره من الأسماك ، و أسكت من أنجسه و أبعده(1) .
    ثم نص ابن تيمية على أن هذا الخبر هو من الحكايات المكذوبة ، التي يعلم العقلاء أنها من المكذوبات ، ثم نقدها و ردها من عدة وجوه ، أولها أنها حكاية ليس لها إسناد يمكن الرجوع إليه لمعرف صحته و ثبوتها ، و إلا فإن ذكر الروايات بلا إسناد هو فعل يقدر عليه كل إنسان ، و لا يعجز عنه أحد (2) .
    __________
    (1) ابن تيمية : منهاج السنة ، ج 4 ص: 195-196 .
    (2) نفسه ، ج4 ص: 195 .
    (1/90)
    ________________________________________
    و ثانيها هو أن بغلة النبي –عليه الصلاة و السلام- لم تكن عند علي بن أبي طالب . و ثالثها هو أن هذه الحكاية ليس لها ذكر في الكتب المعتمدة المعروفة . و رابعها هو أن مثل هذه الحكاية لو حدثت فعلا لكانت مما تتوافر الهمم و الدواعي على نقلها . و خامسها هو أن السمك في الشريعة الإسلامية كله مباح بالنص و بإجماع الصحابة بما فيهم علي ، و الفقهاء من بعدهم ، فكيف تزعم تلك الرواية أن الله تعالى أنجسه ؟ . و آخرها هو أن نطق السمك مخالف للعادة ،و غير مقدور له(1) .
    و يتبين من هذا النقد أن ابن تيمية نقد تلك الرواية إسنادا و متنا ، و احتكم فيها إلى الثابت من التاريخ ، و إلى النقل و العقل ، و بعض سنن الطبيعة و المجتمع ، و بمعنى آخر أنه طبق عليها قانون المطابقة بمعناه الواسع ، . و نقده هذا هو بحق نقد صحيح عميق رائع ، يدل على قدرات صاحبه في النقد و التحقيق ، و التصور الشامل لطرق النقد التاريخي و ممارسته له قبل أن يولد ابن خلدون بأربع سنوات(2) ، الذي اتهم المؤرخين و المحدثين كلهم ، و لم يستثن منهم ابن تيمية ، و لا الذهبي ، و لا ابن القيم ، و لا ابن كثير ، و لم يُنوّه بأعمالهم النقدية القيمة ، و التي كانت منتشرة بين أهل العلم في زمانه .
    __________
    (1) نفسه ، ج4 ص: 195، 196 .
    (2) تُوفي ابن تيمية سنة 728ه ، و ولد ابن خلدون سنة 732ه .
    (1/91)
    ________________________________________
    و قبل إنهاء هذا الفصل أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده أن القرآن الكريم قد أصّل منهج النقد التاريخي إسنادا و متنا ، قبل أن يبدأ المسلمون في الكتابة التاريخية تدوينا وتقعيدا وتحقيقا ، من ذلك قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ))-سورة الحجرات/6 – فالآية قد جرحت الراوي و لم تعدله ، و وصفته بأنه فاسق ، ثم دعت إلى التثبت من الخبر (( فتبينوا )) دون تحديد للوسائل لتبقى مطلقة يستخدم فيها الإنسان كل ما يساعده على التأكد من صحة الخبر .و منها أيضا قوله تعالى : (( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده ، أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم ،و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ))-سورة آل عمران/46-66-)، فالله - سبحانه و تعالى- ردّ على دعوى أهل الكتاب بمنطق التاريخ و مؤداه : كيف يكون إبراهيم –عليه السلام- يهوديا أو نصرانيا، و ما أنزلت توراة اليهود، و إنجيل النصارى، إلا من بعده بقرون مديدة ؟ و هذا دليل عقلي تاريخي، استخدمت فيه المطابقة الزمانية بين الدعوى و الحقيقة التاريخية. ثم نبههم الله - عز و جل - إلى ضرورة توظيف العقل في مثل هذه القضايا بقوله " أفلا تعقلون " ثم أنكر عليهم المحاجاة فيما لا علم لهم به. فيتبين من ذلك أن الخبر لا يقبل بمجرد الدعوى بل لا بد من التأكد من صدقه إذا شككنا فيه باستخدام مختلف الوسائل المتاحة، و طريقة القرآن الكريم يمكن تعميمها و تطبيقها على العديد من الروايات الحديثية و التاريخية، و هو في ذلك يعطي المثال، و يترك للعقل البشري مجال الإبداع مفتوحا.
    (1/92)
    ________________________________________
    و ختاما لهذا الفصل يتبين أن ابن خلدون- في عرضه لمنهجه التاريخي- ركّز على نقد المتن ،و أولى قانون المطابقة أهمية كبرى ،و أهمل نقد الإسناد ،و لم يُوله ما يستحق من اهتمام،و زعم أنه خاص بالشرعيات . غير أن مناقشتنا له قد بينت بالأدلة القاطعة ، أنه –أي ابن خلدون- لم يكن مصيبا في معظم ما قاله في النقد التاريخي من وجهة نظره هو ، و لم يكن منصفا في موقفه من المحدثين و المفسرين و المؤرخين المسلمين ، عندما جعلهم كلهم في سلة واحدة ، و كال لهم الاتهامات بلا تمييز .
    كما أنه قد أقمنا الأدلة القاطعة على أن منهج النقد التاريخي ليس هو من مكتشفات ابن خلدون ، و قد ضربنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا ، و هي شاهدة على وجود طائفة من النقاد المحدثين و المؤرخين و المفسرين ، مارست النقد و التمحيص التاريخيين بكل طرقه ، قبل أن يكتب ابن خلدون مقدمته بعدة قرون ، و بعضهم كان قريبا من زمانه ، و بعضهم عاصره لكنه تُوفي قبل كتابته لمقدمته كابن كثير .
    .................................................. ............................
    الفصل الثاني
    نقد روايات نقدها ابن خلدون
    (-) الرواية الأولى: عدد جيش بني إسرائيل في أرض التيه .
    (-) الرواية الثانية: العملاق الأسطوري عوج بن عناق .
    (-) الرواية الثالثة : مدينة إرم ذات العماد .
    (-) الرواية الرابعة : وادي الرمل ببلاد المغرب .
    (-) الرواية الخامسة : بناء مدينة الأسكندرية .
    (-) الرواية السادسة : تمثال الزرزور بمدينة روما .
    (-) الرواية السابعة : مدينة النحاس بسجلماسة .
    (-) الرواية الثامنة : مسألة بقاء النبي الخضر حيا .
    .................................................. .......ز
    نقد روايات نقدها ابن خلدون(1)
    __________
    (1) هذا الفصل مادته قليلة ، و هو أصغر فصول هذا الكتاب ، لكننا جعلناه فصلا مستقلا ، نظرا لأهمية موضوعه .
    (1/93)
    ________________________________________
    نقد عبد الرحمن بن خلدون طائفة من الروايات التاريخية ، اثناء عرضه لمنهجه في النقد التاريخي ، و من خلالها انتقد أيضا المحدثين و المؤرخين المسلمين ، و قد عرضها بطريقة تُوحي بأن انتقاداته لها هي من عنده و لم يُسبق إليها ، فهل هذا صحيح ؟ و هل وُفق في تحقيقه لها ؟ ، و إجابة على ذلك نورد ثماني روايات نقدها ابن خلدون ، ثم ننقده نحن فيها أيضا .
    الرواية الأولى: عدد جيش بني إسرائيل بأرض التيه:
    ذكر ابن خلدون أن المؤرخ المسعودي و غيره من المؤرخين ، ذكروا أن جيش بني إسرائيل بلغ زمن التيه 600 ألف أو أكثر ، ممن يقدر على حمل السلاح من سن العشرين فما فوق . لكن ابن خلدون استبعد ذلك العدد ،و توسع في رده ، فكان مما قاله إن ذلك العدد كان كبيرا ،و تحركاته صعبة ، و ليس من السهل التحكم فيه ، لأن دولة بني إسرائيل كانت صغيرة ، و لو كان جيشهم كبيرا لتوسعت مملكتهم ، ثم قارن جيشهم بدولة الفرس ، التي كانت واسعة الأرجاء ، و لم يبلغ جيشها في معركة القادسية ذلك العدد الكبير ، فلم يزد عن 120 ألفا . و استدل أيضا بتزايد بني إسرائيل ، مبينا أن بين جد بني إسرائيل يعقوب و موسى-عليهما السلام- أربعة أجيال فقط ، و هي فترة قصيرة لا يتشعّب فيها نسلهم إلى ذلك العدد الكبير ، و حتى إذا جعلناهم 11 جيلا ، فإن نسلهم لا يصل ذلك العدد(1) .
    و نقده هذا صحيح ، احتكم فيه إلى الإحصاء و علم الأنساب ، و إلى بعض سنن و عادات الاجتماع الإنساني ، فجاء نقده في محله و غاية في القوة ، الأمر الذي جعل المؤرخ محمد العبدة يرى أن نقد ابن خلدون لذلك الخبر ، هو نظرة متقدمة ، و هي اكتشافه لقانون التكاثر و النمو السكاني(2).
    __________
    (1) ابن حلدون : المقدمة ، ص: 8-9 .
    (2) محمد العبدة : النقد التاريخي عند ابن تيمية و ابن خلدون ، مجلة البيان ، العدد 5 ، شعبان /1407ه، أفريل / 1987 ، ص: 58 .
    (1/94)
    ________________________________________
    و ذهب الباحث مصطفى العلواني إلى القول بأن استخدام ابن خلدون للمقياس الديمغرافي في تحقيق الأخبار ، هو من مكتشفاته-أي ابن خلدون- ، اكتشفه بذهنه الوقاد ، و محاكمته المنطقية ، و اطلاعه الواسع ، فكان استخدامه للعامل الديمغرافي إلماعة وضاءة في تاريخ الفكر الإنساني(1) .
    و أقول : أولا ليس ابن خلدون هو أول من استخدم علمي الإحصاء و الأنساب ،و سنن الاجتماع البشري في تحقيق الروايات ، فقد سبقه إلى ذلك طائفة من النقاد المحققين ، كابن حزم ، و ابن تيمية ، و الذهبي ، فقد سبق أن ذكرنا لهم روايات كثيرة نقدوها بالاحتكام إلى تلك الطرق و غيرها ، خاصة ما ذكرناه لهم في استخدامهم للإحصاء و علم الأنساب في نقدهم لبعض الروايات ، في النموذج الخامس من الفصل الأول .
    و ثانيا إن الرواية نفسها التي نقدها ابن خلدون ، سبقه إلى نقدها المحقق ابن حزم الأندلسي(ت 456ه) ، في كتابه الفِصل في الملل و الأهواء و النحل ، فقد تناول مسألة خروج بني إسرائيل من مصر إلى زمن التيه ، و بيّن أن ما زعمته التوراة عن ازديادهم غير صحيح ، كزعمها أن عدد المقاتلين منهم بلغ : 630500 مقاتل ، من سن العشرين فما فوق ، ثم توسع في مناقشتها معتمدا على علمي الأنساب و الإحصاء ، و التزايد السكاني ، و بعض سنن و عادات الاجتماع البشري ، و انتهى إلى أن ما قالته التوراة هو من الكذب الممتنع ، و استدل أيضا بقوله تعالى –على لسان فرعون في وصفه لموسى وأصحابه- : (( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ))(2)-سورة الشعراء/54- .
    __________
    (1) محمد العلواني : استخدام المفهوم الديمغرافي عند ابن خلدون ، مجلة التراث العربي ، تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد59 ، السنة 15 ، أفريل ، 1995 .
    (2) ابن حزم : المصدر السابق ، ج 1 ص: 127 و ما بعدها .
    (1/95)
    ________________________________________
    فيتبين من ذلك أن ما قاله الباحثان محمد العبدة و مصطفى العلواني عن اكتشاف ابن خلدون لقانون التكاثر الإنساني في النقد التاريخي ، هو قول غير صحيح ، فقد غاب عنهما أنه سُبق إليه . و الغريب أيضا أن ابن خلدون نفسه لم يشر إلى أن ابن حزم قد سبقه إلى نقد تلك الرواية ، لأنه من المستبعد جدا أن لا يكون ابن خلدون قد اطلع عليها في كتابه الفِصل في الملل و الأهواء و النحل ، فهو كتاب مشهور متخصص في الملل و الفرق و المقالات ، و كثير الانتشار بين أهل العلم .
    الرواية الثانية: شخصية العملاق الأسطوري عوج بن عناق:
    نقد ابن خلدون رواية تقول إن عوج بن عناق كان من العمالقة الذين قاتلهم بنوا إسرائيل ، و كان طويلا حتى إنه يتناول السمك من البحر و يشويه على الشمس . فيرى - ابن خلدون- أن هذه الرواية غير صحيحة ،و أنها من أكاذيب القصاص الذين جمعوا بين جهلهم بأحوال البشر ، و بين جهلهم بأحوال الكواكب عندما اعتقدوا (( أن للشمس حرارة ،و أنها شديدة فيما قَرُب منها ،و لا يعلمون أن الحر هو الضوء ، و أن الضوء فيما قَرُب من الأرض أكثر ، لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الضوء ، فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك . و إذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة هنا ، فلا حر هنالك ، بل يكون فيه البرد حيث مجاري السماء ، و أن الشمس في نفسها لا حارة و لا باردة ، و إنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له ))(1) .
    ثم إنه استدل على كذب ما قاله القصاص عن طول عوج بن عناق ، من أن أطوال بني إسرائيل و أجسامهم في ذلك العهد قريبة من أجسامنا ، بدليل أبواب بيت المقدس ، فهي و إن خُربت و جُددن ، فإنها لم تزل محافظة على(( أشكالها و مقادير أبوابها ، فكيف يكون هذا التفاوت بين عوج و بين أهل عصره بهذا المقدار ))(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 140 .
    (2) نفسه ، ص: 140 .
    (1/96)
    ________________________________________
    و أقول : أولا إنه استعان في نقده لهذه الرواية بالآثار القديمة ، و ببعض ما كان معروفا في زمانه عن طبيعة الشمس و خصائصها ، و هذا-بلا شك- أمر غاية في الأهمية ، في مجال النقد التاريخي ، تنويعا و تقعيدا و تطبيقا ، لكنه مع ذلك لم يكن مكتشفا لذلك المنهج النقدي ، فقد سبق أن ذكرنا استخدام الذهبي لحركة الشمس في نقده لقصة بحيرى .
    كما أن استشهاده بالآثار القديمة هو منهج ليس جديدا على المسلمين ، فإن القرآن الكريم مليء بالآيات التي استدل بها على الكفار بالآثار القديمة ، و دعاهم إلى الاعتبار بها من جهة ، و فيها أيضا من جهة أخرى دعوة لدراسة تاريخ الإنسان و الكون معا ، من خلال الآثار البشرية و الطبيعية على الأرض، التي هي شواهد مادية على ما حدث في الماضي ، تطبيقا لمقولة : الحاضر مفتاح الماضي ، فمن ذلك قوله تعالى : (( و عادا و ثمودا و قد تبين لكم من مساكنهم ،و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ))-سورة العنكبوت/38- ، و (( أفلم يهدي لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون ، يمشون في مساكنهم ، إن في ذلك لآيات لأولي النهى ))-سورة طه/128 - ، و (( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون ، يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ))-سورة السجدة /26- ، و (( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ))-سورة آل عمران/137- ، و (( قل سيرا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))-سورة العنكبوت /20- .
    (1/97)
    ________________________________________
    و ثانيا إن إنكار قصة عوج بن عناق ليس أمرا جديدا ، فقد أنكرها علماء قبل ابن خلدون ، منهم المحقق ابن قيم الجوزية ، فقال إنها قصة باطلة تقوم الشواهد على بطلانها ، و إننها من وضع زنادقة أهل الكتاب ، الذين قصدوا بها السخرية و الاستهزاء بالرسل و أتباعهم ، لكن ليس (( العجب من جرأة مثل هذا الكذاب على الله ، و إنما العجب ممن يُدخل هذا الحديث في كتب أهل العلم ، من التفسير و غيره ، و لا يُبين أمره))(1) .
    و منهم أيضا الحافظ أبو الفدا بن كثير ، ذكر أن كثيرا من التفاسير و التواريخ ذكرت أن عوج بن عناق كان كافرا متمردا ، منذ زمن نوح عليه السلام ، إلى زمن موسى عليه السلام ، و لم يُغرقه الطوفان لطوله الذي زاد على ثلاثة آلاف ذراع . ثم قال ابن كثير إن ذلك هذيان ،و لو لا أنه مسطور في كثير من مصنفات التفسير و التواريخ ، ما تعرّض لحكايته ، و هو مما يُستحى من ذكره ، و لا يسوغ في عقل و لا شرع ،و مخالف للمنقول و المعقول معا(2) .
    فأما مخالفته للمنقول فقد قال الله تعالى : (( ثم أغرقنا الآخرين )) –سورة الشعراء/123- و (( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ))-سورة نوح/26- . و أما طوله المزعوم فهو مخالف لما ثبت في الصحيحين ، من أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام – قال : (( إن الله خلق آدم و طوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن )) ،و هذا يقتضي أنه لم يُوجد من ذرية آدم من كان أطول منه(3) . و معنى كلامه أنه حتى إذا افترضنا وجود عوج هذا ، فإنه ليس بذلك الطول الذي ذكروه ، و يكون قد مات في الطوفان ، و لم يعش إلى زمن موسى عليه السلام .
    __________
    (1) ابن قيم الجوزية : المنار المنيف ، ص: 65 .
    (2) ابن كثير : البداية و النهاية ، ج 1 ص: 114 . و تفسير القرآن العظيم ، ج 2 ص: 39 .
    (3) البداية ، ج1 ص: 114 .
    (1/98)
    ________________________________________
    و أما مخالفته للمعقول فإنه لا يسوغ أن يُهلك الله تعالى ابن نوح لكفره ، و لا يُهلك عوج بن عناق ، و هو أظلم و أطغى ، و كيف لا يرحم الله تعالى من كفار قوم نوح احدا ، لا صبيا و لا أما ، و يترك هذا الداعي الجبار الكافر الشيطان ، المرتد الفاجر ، على ما ذكروه(1) ؟ ! .
    و ثالثا إنه –أي ابن خلدون- عندما قال إن الشمس لا حارة و لا باردة ، قد وقع في خطأ واضح ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن قوله هو أقرب إلى الرجم بالغيب من الكلام العلمي ، تخالفه كثير من المظاهر المناخية ، منها تنوّع الأقاليم المناخية على الأرض من حيث الحرارة و البرودة ، فالمناطق الاستوائية و المدارية ، مرتفعة الحرارة ، و المناطق القطبية باردة جدا ، و هذا بسبب حركة الأرض حول الشمس ، و حركتها المحورية المائلة حول نفسها ، فالتباين الكبير في درجة الحرارة بين الأقاليم المناخية سببه حرارة الشمس ، فهي إذن حارة و ليست كما وصفها ابن خلدون بأنها لا حارة و لا باردة .
    __________
    (1) نفسه ، ج 1 ص: 114 .
    (1/99)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أنه خالف بما قاله ظاهر الآيات القرآنية في وصف الشمس بأنها مشتعلة حارة مضيئة ، قال تعالى : (( و جعلنا الشمس سراجا )) –سورة نوح/16- ، و (( و جعلنا سراجا وهاجا ))-سورة النبأ/13- و (( جعل فيها سراجا و قمرا منيرا ))- سورة الفرقان/16- ، و عليه فإن الشمس سراج وهاج ، و القمر لم يُوصف بذلك ، و إنما هو مُنير فقط ، و بما أن الشمس سراج وهاج فهذا يعني أنها مصدر مشتعل وقاد يتلألأ ،و هذا يقتضي الحرارة المرتفعة ، لأنه لا اشتعال و لا توقد و لا تلألؤ بلا حرارة مرتفعة . و السراج في اللغة هو المصباح الزاهر المتوقد المشتعل ، بسبب ما فيه من الزيت و الفتيل(1) .
    و الشاهد الثالث هو أن العلم الحديث ينفي ما زعمه ابن خلدون عن الشمس ، و يُبطله إبطالا ، فالشمس –كما وصفها العلم الحديث- نجم عظيم ملتهب شديد الحرارة يقذف بالحمم ، و تُقدر درجة حرارة سطحه بنحو 6آلاف درجة مئوية ، و أما جوفه فتُقدر حرارته بعشرين مليون درجة مئوية (2) .
    __________
    (1) انظر : ابن منظور الإفريقي: لسان العرب ، ط1 ، بيروت ، دارصادر ، ، ج 2 ص: 279 . و أبو بكر الرازي: مختار الصحاح ، ط4 ، الجزائر ، دار الهدى ، 1990 ، ص: 124، 131 . و القرطبي : تفسير القرطبي ،حققه احمد البردوني ، ط2 ، القاهرة ، دار الشعب ، 1372 ، ج 13 ، ص 65 ، ج 19 ص: 172 . و الطبري : تفسير الطبري ،بيروت ، دار الفكر ، 1405 ، ج 30 ص : 4 . البيضاوي: تفسير البيضاوي، ج5 ص: 439 .
    (2) عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط3، القاهرة ، دار الشروق ، ص : 98 . و عبد العليم خضر : المنهج الإيماني في الدراسات الكونية ، ط1، الرياض، الدار السعودية ، 1404 ، ص: 8-9 .
    (1/100)
    ________________________________________
    و ربما يُقال إن ابن خلدون قال ذلك في الشمس بناء على المعلومات التي كانت سائدة في زمانه ، و هذا اعتراض وجيه ، غير أنه لا يكفي لتبرئة ابن خلدون من الخطأ ، لأنه لو استقرأ المناخات السائدة على الأرض اِستقراء صحيحا ، لتبين له أنها تقوم أساسا على حرارة الشمس المرتفعة . كما أن القرآن الكريم ذكر صراحة أن الشمس كالمصباح مشتعلة وقادة وهاجة ، و قد قال بذلك كثير من المفسرين في أثناء شرحهم للآيات المتعلقة بالشمس الوهاجة(1) . مما يعني أن أهل العلم في زمانه-أي ابن خلدون- لم يكونوا كلهم يقولون بما قاله هو في الشمس .
    الرواية الثالثة : قصة مدينة إرم ذات العماد :
    يقول ابن خلدون عن مدينة ذات العماد : (( و أبعد من ذلك و أغرق في الوهم ، ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر ، في قوله تعالى: (( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ))-سورة الفجر /7- ، فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وُصفت بأنها ذات عماد ، أي أساطين )) ،و قالوا إنها مدينة لقوم عاد بصحارى عدن ، و إنها مدينة عظيمة ، قصورها من ذهب ،و أساطينها من ياقوت و زبرجد ، و فيها الأنهار و الأشجار ، ثم أهلكهم الله تعالى ، قال ذلك الطبري و الثعالبي و الزمخشري و غيرهم(2) .
    و ذكروا أيضا أن الصحابي عبد الله بن قِلابة خرج في طلب إبل له فوجد المدينة ، و حمل منها ما قدر على حمله ، و كان ذلك زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان ، فأحضر معاوية كعب الأحبار و سأله عنها ، فقال له : هي مدينة إرم ذات العماد ، و أنه يدخلها رجل من المسلمين و وصفه له ، فوجدوا الأوصاف تنطبق على الصحابي ابن قلابة(3) .
    __________
    (1) راجع التفاسير التي سبق ذكرها .
    (2) المقدمة ، ص: 11 .
    (3) نفسه ، ص: 11-12 .
    (1/101)
    ________________________________________
    لكن ابن خلدون أنكر وجود المدينة ،و قال إنه ليس لها خبر في شيء من بقاع الأرض، و صحاري عدن هي بوسط اليمن معروفة ، و لم يُنقل أنها موجودة ، و ليس لها خبر ، و لا ذكرها أحد من الأخباريين ، و لا من الأمم الأخرى ، لكنهم لو قالوا إها اندرست فيما دُرس من الآثار لكان أشبه ، لكن ظاهر كلامهم –أي المفسرون- أنها ما تزال موجودة(1) .
    و يبدو من ظاهر كلام ابن خلدون أنه يُنكر وجود المدينة أصلا ، عندما قال إن الذي حمل المفسرين على قول ذلك ، هو ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظ : ذات العماد ، بأنها صفة إرم ، و حملوا العماد على الأساطين ، فتعين أن يكون بناء ، ثم وجدوا في تلك الروايات –التي هي أقرب إلى الكذب- مستندا لهم فيما قالوه . ثم قرر ابن خلدون أن العماد المذكورة في الآية ، المقصود بها عماد الأخبية و الخيام ،و ليست أنها بناء خاصا في مدينة معينة أو غيرها(2) .
    و تعقيبا عليه أقول : أولا ليس ابن خلدون هو أول من نقد روايات مدينة إرم ذات العماد ، سبقه إليها الحافظ ابن كثير و توسع في نقدها ، فذكر أن جماعة من المفسرين رووا أخبارا عن وجود مدينة يُقال لها : إرم ذات العماد ، مبنية بلبن الذهب و الفضة ، و حصاها لآلئ و جواهر ، و مليئة بالبساتين ، و قالوا إنها مدينة متنقلة ، فتارة تكون بالشام ، و تارة باليمن ،و تارة بالعراق . ثم قال ابن كثير : هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا عقول الجهلة من الناس ، أيُصدقونهم بذلك أم لا (3) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 12 .
    (2) نفسه ، ص: 12 .
    (3) تفسير ابن كثير ، ج 4 ص: 509 .
    (1/102)
    ________________________________________
    و ذكر أنهم رووا أن أعرابيا زمن معاوية زعم أنه رأى مدينة عظيمة عندما خرج في طلب أباعرة له شردت منه ، فوجد مدينة ذهبية ، فعاد إلى الناس و أخبرهم بها ، فذهبوا فلم يجدوا شيئا . ثم قال ابن كثير : (( فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، و لو صحّ إلى ذلك الأعرابي ، فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس و الخبال ، فاعتقد أن ذلك حقيقة في الخارج ،و ليس هو كذلك ، ،و هذا يقطع بعدم صحته ))(1) .
    ثم ذكر رأيه في معنى قوله تعالى (( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد ))- سورة الفجر/7- ، فقال إن من ذكر أن قوله تعالى (( إرم ذات العماد )) يعني مدينة تسمى إرم ذات العماد ، فهو قول لا أصل له ،و من الإسرائيليات ،و لهذا قال تعالى (( التي لم يُخلق مثلها في البلاد )) ، أي لم يُخلق مثل قبيلة إرم في قوتها و شدتها و جبروتها ، و لو كان المراد بذلك مدينة ، لقال : التي لم يُبن ، أو لم يُعمل مثلها في البلاد . و قال إن قبيلة إرم ذات العماد كان أهلها يسكنون بيوت الشعر التي تُرفع بالأعمدة الشداد ، و كانوا أشد الناس –في زمانهم- خِلقة ، و أقواهم بطشا(2).
    و أشير هنا إلى أن الحافظ ابن كثير قد انتقد جماعة من المفسرين في روايتهم لأخبار أسطورية عن ذات العماد ، من أنها مدينة مبنية بلبن الذهب و الفضة و الزبرجد ، و نبّه القارئ إلى عدم الاغترار بما رواه هؤلاء ، و قال إن ما رووه هو من خرافات الإسرائيليين ، و ضعه بعض زنادقتهم(3) .
    __________
    (1) نفسه ، ج4 ص: 509 .
    (2) نفس المصدر ، ج 3 ص: 343 ، ج4 ص: 508 .
    (3) نفس المصدر ، ج4 ص: 509 .
    (1/103)
    ________________________________________
    و بذلك يتبين أن ابن كثير قد أنكر ما رُوي من أساطير حول مدينة إرم ذات العماد ، و انتقد المفسرين الذين رووها ، و ترجّح لديه أن إرم ذات العماد هي قبيلة ذات بيوت من الشعر القائمة على العماد ، و موقفه هذا هو نفسه موقف ابن خلدون من المسألة ، مما يدل على أن ابن خلدون ربما كان اطلع على ما كتبه ابن كثير و لم يُفصح عن ذلك ، و الله أعلم .
    و ثانيا إن ابن خلدون و ابن كثير قد أصابا في تكذيبهما لما رُوي من أساطير حول مدينة إرم ذات العماد ، لكنهما جانبا الصواب عندما رجّح أن معنى (( إرم ذات العماد)) ، هو قبيلة إرم ذات البيوت من الخيام المرفوعة بالعماد ، و نفيا وجود المدينة أصلا ، و هذا لا أوافقهما عليه ، و أعتقد أن معنى الآية هو قبيلة إرم ذات البناء الصخري المرتفع القوي ، و بمعنى آخر أنها قبيلة إرم صاحبة مدينة ذات العماد القوية القائمة على الأعمدة ، بدليل الشواهد الآتية :
    أولها إن في القرآن الكريم آيات تشير إلى أن قوم عاد كانوا يسكنون في مدينة ذات بناء قوي ، لا أنهم كانوا يسكنون في خيام من الشعر ، منها قوله تعالى : (( كذبت عاد المرسلين ، إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ... أتبنون بكل ريع آية ،و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، و إذا بطشتم بطشتم جبارين )) –سورة الشعراء /123 و ما بعدها- ، فالآية صريحة في أن القوم كانوا يبنون و لهم بنيان لعلهم يخلدون ، و لا شك أن الذي يريد الخلود في الأرض لا يتخذ الخيام سكنا له ، و إنما يتخذ البناء الصخري القوي المرتفع .
    (1/104)
    ________________________________________
    و الآية الثانية قوله تعالى : (( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ، و قالوا من أشد منا قوة )) –سورة فصلت/ 13 – و واضح من الآية أن من كان ذلك حاله في الاستكبار و الاعتداد بالقوة ، لا يكون من أهل البادية ساكني الخيام ، و إنما يكون من أهل الحضر ، حيث كثرة العمران و امتلاك القوة المادية و البشرية ، فإن لم يكونوا كذلك فلا معنى للتفريق بينهم و بين غيرهم من سكان البوادي .
    و الآية الثالثة قوله تعالى : (( و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ... بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ، تُدمر كل شيء بإذن ربها ، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم ، كذلك نجزي القوم المجرمين ،و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه )) –سورة الأحقاف /21 و ما بعدها- فيتبين من هذه الآيات أن قوم عاد كانوا أهل حضر و عمران ، و لم يكونوا أهل بادية و خيام ، بدليل الإشارات الآتية ، أولها استخدام كلمة تدمر ، فهي كلمة تُوحي بوجود عمران قوي ، جاءت الرياح لتدمره ، فهناك فرق واضح بينها و بين كلمات : تُزيل ، و تُكسر ، و تُخرُب .
    و الإشارة الثانية قوله تعالى (( فإصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم )) ، و فيه إشارة واضحة إلى أن مساكنهم ظلت صامدة أمام الرياح العاتية التي سلّطها الله على قوم عاد (( سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما ، فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فهل ترى لهم من باقية )) –سورة الحاقة/ 6- 8- ، فلو كانت بيوتهم من خيام ما صمدت أمام تلك الرياح العاتية ، لذلك قال تعالى (( فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم )) ، فهذه البيوت القوية شاء الله تعالى أن تبقى لتكون عبرة لمن يأتي بعد قوم عاد ، و لا شك أن بيوت الخيام لا تصلح لتؤدي هذه المهمة .
    (1/105)
    ________________________________________
    و الإشارة الثالثة قوله تعالى : (( و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه )) ، و فيها خطاب لقريش بأن الله تعالى مكن لعاد ما لم يمكن لها ، من حيث القوة و المران و البطش ، و من المعروف أن قريشا كان سكانها أهل حضر ، و لم يكونوا بدوا ، فكان لهم عمران يناسب حالهم ، و مع ذلك فقد مكن لعاد ما لم يمكن لها –أي قريش- ، و عليه فإن قوم عاد كانوا أقوى و أكثر تمكينا في الأرض ،و هذا لا ينطبق على سكان البادية .
    و الشاهد الثاني – على وجود مدينة ذات العماد- هو ما يُستنتج من قوله تعالى عن قبيلة إرم : (( و إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد )) ، فالله تعالى خصّ قبيلة إرم بخصائص ميزها بها عن باقي البشر ، من بينها قوة الأبدان و التحمل و البطش ، لقوله تعالى : (( و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد و زادكم في الخلق بصطة ، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ))-سورة الأعراف/69-، و من كانت هذه صفاتهم ، يكون تأثيرهم على الأرض كبيرا ، من حيث العمران و التوسع السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي ، و لا يكون تأثيرهم في إنشاء بيوت الشعر ، فهذا عمل تقوم به أضعف القبائل البدوية ، و لا يصلح أن يكون ميزة لقبيلة إرم من قوم عاد ، الذين خصهم الله تعالى بتلك الخصائص .
    و الشاهد الثالث هو من اللغة العربية ، فإن من معاني : ذات العماد ، أنها الأبنية الرفيعة ، و الواحدة عمادة ، و أهل العمادة هم أصحاب الأبنية العالية الرفيعة ، و قيل إن قوم عاد كانوا يَنصبون الأعمدة ،و يبنون عليها القصور(1) .
    __________
    (1) أبو بكر الرازي: مختار الصحاح ، ص: 293 . و علي بن هادية : القاموس الجديد ، ص: 697 . و القرطبي : تفسير القرطبي ، ج 20 ص: 45، 46 .
    (1/106)
    ________________________________________
    و الشاهد الأخير-أي الرابع- هو ما اكتشف حديثا في جنوب الجزيرة العربية بالأحقاف بين عُمان و حضرموت باليمن ، فقد دلت عمليات الكشف بالأقمار الصناعية على وجود آثار و أنهار و طرق بتلك المنطقة ، كانت مطمورة بالرمال ، فبدأت التنقيبات سنة 1991 ، و استمرت متقطعة إلى غاية سنة 1998 ، فكان مما أُعلن عن اكتشافه قلعة ثمُانية الأضلاع سميكة الجدران ، فيها أبراج في زواياها ، و مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار و قطرها 3 أمتار . و قال كثير من الباحثين ، إن هذه الأوصاف تدل على أنها هي مدينة إرم ذات العماد التي ذكرها القرآن الكريم(1) .
    فهذه الآثار العظيمة ذات الأعمدة التي يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار ،و سمكها 3 أمتار ، هي التي تتناسب مع ما كانت عليه قبيلة إرم صاحبة مدينة ذات العماد ، من خصائص أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : (( التي لم يُخلق مثلها في البلاد )) ، و قال لهم نبيهم هود (( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون )) ، و (( إذا بطشتم بطشتم جبارين )) ، فأبادهم الله تعالى و لم يخلدوا ، و خلّد عمرانهم ليكون عبرة لمن بعدهم .
    __________
    (1) هارون يحيى : هلاك الأمم السابقة ، قرص مضغوط ، الجزائر ، مؤسسة القدس . و زغلول النجار : الإشارات الكونية في القرآن : إرم ذات العماد ، موقع زغلول النجار على الأنترنت .
    (1/107)
    ________________________________________
    و بذلك يترجّح لدينا أن ما ذهب إليه ابن خلدون و ابن كثير من أن قبيلة إرم كانت لها بيوت من الخيام محمولة بالأعمدة ، هو رأي ضعيف و مُستبعد جدا ، و إنما الصحيح في قوله تعالى (( إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد )) ، هو أن قبيلة إرم كانت ذات بنايات محمولة على الأعمدة ، .و يعود قوله تعالى(( لم يخلق مثلها في البلاد )) على القبيلة و ليس على مدينة تُُسمى إرم ذات العماد ، لأن الله قال (( لم يخلق مثلها )) ، و لم يقل لم يُعمل ، و لم يُبن ، و قد نبّه على ذلك ابن كثير ، فيكون المعنى هو : قبيلة إرم صاحبة المدينة ذات العماد ،و هي قبيلة لم يخلق الله مثلها في البلاد . و من الممكن جدا أن هذه المدينة أصبحت تسمى مدينة إرم ذات العماد ، نسبة للقبيلة التي أنشأتها ، و الله أعلم بالصواب .
    الرواية الرابعة : حكاية وادي الرمل ببلاد المغرب :
    نقل ابن خلدون ما رواه المؤرخ المسعودي عن وجود وادي الرمل ببلاد المغرب الذي لا يُوجد فيه مسلك لكثرة رماله . لكن ابن خلدون انتقده في روايته لهذا الخبر ، و قال إنه لم يُسمع به قط في بلاد المغرب ، على كثرة سالكيه في كل عصر ، و هو لو كان موجودا لتوافرت الهمم و الدواعي على نقله ، لما ذُكر عنه من الغرائب(1) .
    الرواية الخامسة : قصة بناء مدينة الأسكندرية :
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 10، 11 .
    (1/108)
    ________________________________________
    ذكر ابن خلدون أن المسعودي روى أن الأسكندر المقدوني لما أراد بناء مدينة الأسكندرية ، صدته عن بنائها دواب البحر ، فاتخذ تابوتا من خشب ، و وضع فيه صندوقا زجاجيا ، ثم دخل فيه و غاص إلى قعر البحر ، حتى صوّر تلك الدواب الشيطانية التي رآها ، ثم صعد و صنع لها تماثيل معدنية و نصّبها بجانب البنيان ، فلما رأتها تلك الدواب فرت و لم تعد ، و تم للأسكندر بناء المدينة . و هذه الرواية هي عند ابن خلدون حديث خرافة ، مستحيلة الحدوث ، لأن المنغمس في الماء داخل الصندوق يضيق عليه التنفس الطبيعي فيهلك . و لأن دخول الأسكندر في الصندوق و نزوله إلى قاع البحر ، هو ليس من عادة الملوك القيام به بأنفسهم . و لأن الجن لا تُعرف لها صُور و لا تماثيل تختص بها ، و إنما هي قادرة على التشكل ، و ما يُروى من كثرة رؤوسها ، فالمراد به البشاعة و التهويل(1) .
    الرواية السادسة : تمثال الزرزور بمدينة روما:
    نقد ابن خلدون المؤرخ المسعودي فيما رواه عن تمثال الزرزور بمدينة روما ، فقال إنه –أي الزرزور- يأتي إليه كل سنة في يوم معلوم ، حاملا معه الزيتون ، و منه يتخذ الناس زيتهم . هذا الخبر عند ابن خلدون مستحيل بعيد عن الطريق الطبيعي في اتخاذ الزيت(2) .
    الرواية السابعة : مدينة النحاس بصحراء سجلماسة :
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 28 .
    (2) نفسه ، ص: 28 .
    (1/109)
    ________________________________________
    انتقد ابن خلدون المؤرخ المسعودي فيما رواه عن مدينة النحاس بصحراء سجلماسة-جنوب المغرب الأقصى- ،و قال إنها مدينة مغلقة الأبواب مبنية كلها بالنحاس ، و الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف عليها و رمى بنفسه لا يرجع إلى آخر الدهر . فقال ابن خلدون إن هذه الرواية مستحيلة عادة ، و هي من خرافات القصاص ، و لا أثر لها بصحراء سجلماسة ، التي نفضها الركاب و الأدلاء ،و لم يقفوا لها على خبر . كما أن ما رُوي في أحوالها هي مستحيلة عادة منافية للأمور الطبيعية في بناء المدن و اختطاطها . كما أن المعادن الموجودة في الطبيعة قليلة لا تكفي لبناء مدينة من تلك المعادن ، و غاية ما يُوجد منها يُستخدم في الأواني و غيرها ،و أما (( تشييد مدينة منها ، فكما تراه من الاستحالة و البعد ))(1) .
    و واضح من الروايات الأربع الأخيرة ، أن ابن خلدون وُفق في نقده لها ، و كان رائعا متمكنا في نقده و تمحيصه لها ، و لم أعثر على من سبقه إلى نقدها . لكن منهجه النقدي الذي طبقه في نقده لتلك الروايات ، ليس جديدا ،و لا هو من مكتشفاته ، فهو منهج معروف تناولناه بتوسع في الفصل الأول .
    الرواية الثامنة(2) : مسألة بقاء النبي الخَضِر حيا :
    __________
    (1) نفسه ، ص: 28 .
    (2) هذه الرواية لم يذكرها ابن خلدون في مقدمته ، لكنه أوردها في تاريخه العبر ، ذكرناها هنا لأنها امتداد لمنهجه النقدي ، و لأنها أيضا لها علاقة قوية بما نحن في صدده .
    (1/110)
    ________________________________________
    كان النبي الخَضِر معاصرا لموسى-عليهما السلام- ، و يعتقد كثير من أهل العلم أنه لم يمت ، و ما يزال حيا إلى زماننا هذا ، هذا الخبر قال عنه ابن خلدون : (( و الصحيح أن الخَضِر قد مات ))(1) .و كلامه هذا يعني أنه قد حقق في المسألة ،و انتهى إلى تقرير ما نقلناه عنه ، لكنني لم أعثر له على تفاصيل ذلك ،و لا على الأدلة التي اعتمد عليها في الرد على مزاعم القائلين ببقاء الخضر حيا ، و لا أشار إلى الذين سبقوه في تقرير ما انتهى هو عليه ؛ فقد سبقه إليه محققون كبار ، نذكر منهم ستة .
    أولهم المحدث الفقيه إبراهيم الحربي البغدادي (ق: 3ه) سُئل : هل الخضر ما يزال حيا ؟ ، فأجاب قائلا : (( من أحال على غائب لم ينتصف منه ، و ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان ))(2) .
    و ثانيهم الإمام البخاري سُئل عن الخضر و إلياس ، هل هما أحياء ؟ ، فقال : كيف يكون هذا و قد قال النبي –عليه الصلاة و السلام- : (( لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ))(3) .
    و الثالث هو عبد الرحمن بن الجوزي ، أنكر بقاء الخضر حيا ، و قال إن الدليل على ذلك من القرآن الكريم ، و السنة النبوية ، و إجماع المحققين من العلماء ، و من المعقول . فأما من القرآن فقوله تعالى : (( و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ))- سورة الأنبياء /34- ، فلو دام البقاء لكان خلدا ، و لو كان الخضر حيا لدل عليه القرآن ، فهذا كتاب الله ، فأين فيه حياة الخضر(4) ؟ .
    __________
    (1) ابن خلدون : كتاب العبر ، ج 4 ص: 37 .
    (2) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 59 .
    (3) نفسه ، ص: 59 .
    (4) نفس المصدر ، ص: 60 ، 63 .
    (1/111)
    ________________________________________
    و أما من السنة النبوية ، فمنها ما رواه البخاري و مسلم أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- قال : (( أرأيتَكُم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم أحد ))(1) . و أما إجماع المحققين على إنكار بقاء الخضر حيا ، فمنهم : الإمام البخاري ، و علي بن موسى الرضا ، و إبراهيم الحربي ، و أبو الحسين بن المنادي(2) .
    و أما الدليل من المعقول ، فذكر منه ابن الجوزي عشرة أوجه ، الأول هو أن الذين أثبتوا حياة الخَضِر قالوا إنه ولد آدم لصلبه ، و هذا فاسد لأمرين ، أولهما أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة(3) ، فيما ذُكر في كتب بعض المؤرخين ، و مثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر . و ثانيهما أنه لو كان من صلبه ، أو الرابع من ولد ابنه –كما زعموا- فإن خلقته التي كان عليها ليست على خلقتنا ، فإن خلقته مُفرطة في الطول و العرض، لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام – قال : (( إن الله خلق آدم و طوله ستون ذراعا ، فلم يزل الخلق ينقص بعدُ )) ، ثم قال ابن الجوزي: (( و ما ذكر أحد ممن رأى الخضر ، أنه رآه على خلقة عظيمة ، و هو من أقدم الناس ))(4) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 60 .
    (2) نفسه المصدر ، ص: 61 .
    (3) هذا حسب ما قدره المؤرخون الذين نقل عنهم ابن الجوزي ، و إلا فإن ذلك غير صحيح ، من حيث تقدير الفارق الزمني بين آدم و ابن الجوزي ، لآن تحديد سنة ظهور آدم على الأرض، لم يحدده الشرع ، و لا يعرفه أحد بالضبط .
    (4) المصدر السابق ، ص: 61-62 .
    (1/112)
    ________________________________________
    و الوجه الثالث أنه لو كان الخضر حيا قبل نوح ، لركب معه السفينة ، و لم ينقل هذا أحد . و الوجه الرابع هو أن مما يُبطل أن الخضر كان حيا قبل نوح ، هو أن نوحا لما نزل من السفينة مات كل من كان معه ، ثم مات نسلهم من بعدهم ، و لم يبق إلا نسله هو-أي نوح - ، بدليل قوله تعالى : (( و جعلنا ذريته هم الباقين ))(1)- سورة الصافات /77- .
    و الوجه الخامس هو أنه لو كان صحيحا أن إنسانا وُلد قبل نوح ، و ما يزال حيا ،و يعيش إلى آخر الدهر ، لكان هذا من أعظم الآيات و العجائب ، و لذُكر في القرآن الكريم مرارا ، فقد ذكر الله تعالى من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما و جعله آية ، فكيف بمن أحياه آخر الدهر ؟ ، و لهذا قال بعض أهل العلم ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان(2) .
    و الوجه السادس هو أن القول ببقاء الخضر حيا ، هو قول على الله بلا علم ،و هو حرام بنص القرآن . و الوجه السابع هو أن القائلين ببقائه حيا ، يتمسكون بحكايات قالها بعض الناس بأنه رأى الخضر ، فيا لله العجب ، فهل للخضر علامة يُعرف بها ؟ و معلوم أنه لا يجوز (( تصديق قائل يذلك بلا برهان من الله ، فأين للرّائي أن المُخبر صادق لا يكذب ؟ ))(3) .
    و الوجه الثامن هو أن القرآن الكريم أخبرنا أن الخضر فارق موسى كليم الرحمن ، و لم يُصاحبه في قوله تعالى : (( هذا فراق بيني و بينك )) ، فكيف يرضى لنفسه (( بمفارقته لموسى ، ثم يجتمع بجهلة العُباد الخارجين عن الشريعة ، الذين لا يحضرون جمعة و لا جماعة ، و لا يعرفون من الشريعة شيئا ؟ ، و كل منهم يقول : قال الخضر ، و جاءني الخضر ، و أوصاني الخضر ‍‍(( ، أيُفارق كليم الرحمن و يدور على صحبة الجهال ، و من لا يعرف كيف يتوضأ ،و لا كيف يُصلي(4) ؟ ‍.
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 62 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 63 .
    (3) نفسه ، ص: 63 .
    (4) نفس المصدر ، ص: 64 .
    (1/113)
    ________________________________________
    و الوجه التاسع فيه غموض من حيث الاستدلال ، و مفاده أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنه الخضر ، و سمع رسول الله يقول كذا و كذا ، لا يُلتفت إلى قوله ، و لم يُحتج به في الدين ، و إذا قيل إن الخضر لم يأت إلى الرسول-عليه الصلاة و السلام- و لا بايعه ، أم أنه لم يُرسل إليه ، فهذا فيه من الكفر ما فيه(1)
    و الوجه الأخير- أي العاشر- هو انه –أي الخضر- لو كان حيا فإن جهاده في سبيل الله ،و حضوره صلاة الجمعة و الجماعة ،و تعليمه للعلم ، هو أفضل له بكثير من سياحته بين (( الوحوش في القفار و الفلوات ،و هل هذا إلا من أعظم الطعن عليه ،و العيب له ))(2) .
    و واضح من هذه المناقشة المطوّلة أن ابن الجوزي كان موفقا في نقده للروايات التي زعمت أن الخضر ما يزال حيا ، استخدم في نقدها و تمحيصها منهجا نقديا متعدد الطرق ، احتكم فيه إلى المنقول و المعقول ، و إلى بعض سنن الاجتماع و الطبيعة .
    و الناقد الرابع هو الشيخ تقي الدين بن تيمية ، سُئل عن الخضر ، فقال لو كان حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي –عليه الصلاة و السلام – ويُجاهد بين يديه و يتعلم منه(3) . و قد أفرد ابن تيمية فصلا لمسألة الخضر في رسالته زيارة القبور ، و أكد فيها على أن الخضر قد مات ، و لم يدرك الإسلام(4) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 64 .
    (2) نفسه ، ص: 64 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 59 .
    (4) ابن تيمية : زيارة القبور، ط1 ، الرياض، الإدارة العامة للطبع و النشر ، 1410، ص: 70 .
    (1/114)
    ________________________________________
    و الخامس هو المحقق ابن قيم الجوزية ، تناول مسألة بقاء الخضر حيا في كتابه المنار المنيف ، قرر فيه أن كل الأحاديث التي ذكرت إن الخضر ما يزال حيا هي أحاديث مكذوبة ، و لا يصح في حياته حديث واحد ، كحديث (( يلتقي الخضر و إلياس كل عام ... )) ، و (( يجتمع بعرفة جبريل و ميكائيل و الخضر ...)) ، و (( إن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- كان في المسجد فسمع كلاما من ورائه ، فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر )) ، هذه الأحاديث و غيرها هي كلها كذب(1) .
    و الأخير-أي السادس- هو الحافظ ابن كثير ، ذكر أن كثيرا من أهل العلم قالوا إن الخضر و إلياس ما زالا على قيد الحياة ، و لهم في ذلك روايات ، لكنه قرر أنه لم يصح منها شيء ، و أن الذي يقوم عليه الدليل هو أنهما قد ماتا(2) .
    و يتبين مما ذكرناه أن هؤلاء النقاد قد سبقوا ابن خلدون في ردهم لروايات بقاء الخضر حيا ، معتمدين في نقدهم لها على المنقول و المعقول، كان ابن الجوزي أكثرهم توسعا في رده لها . وأما عن موقفنا من مسألة بقاء الخضر حيا ، فنحن نرفضها جملة و تفصيلا ، أولا لأنها تتعارض مع المعروف الثابت من حياة البشر ،و هو أنه لا أحد يخلد في هذه الدنيا . و ثانيا أنه ليس لنا فيها دليل من الشرع و لا من العقل ، و ما هي إلا خرافة و دعوى باطلة ، و الدعوى لا يعجز عنها أحد ، و المدعي هو المطالب بالدليل لإثبات دعواه ،و ليس المنكر لها . فعلى القائلين ببقائه حيا أن يُظهروه لنا جهارا نهارا لكي نراه ، و إلا فزعمهم مردود عليهم .
    و ختاما لهذا الفصل يتبين مما ذكرناه أن ابن خلدون نقد طائفة من الروايات طبق عليها منهجه النقدي الذي عرضه في مقدمته ، وُفق في تطبيقه عليها ، لكنه سُبق إلى بعضها ، فقد سبقه إليها نُقاد آخرون لم يشر هو إليهم ، و لا ندري هل نقل ذلك عنهم و تعمد إغفالهم ، أم أن ذلك كان مجرد اتفاق فقط؟ ! .
    __________
    (1) المنار المنيف ، ص: 58-59 .
    (2) البداية و النهاية ، ج 1 ص: 337 .
    (1/115)
    ________________________________________
    و تبين أيضا أن منهج النقد التاريخي الذي عرضه ابن خلدون ، و طبقه على بعض الروايات ، لم يكن هو مكتشفه و لا أول من طبقه ، فقد سبقه إلى الإشارة إليه و تطبيقه طائفة من النقاد المحققين الكبار ، كابن حزم ، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و الذهبي ، و ابن قيم الجوزية ، و ابن كثير .
    .................................................. ...............
    الفصل الثالث
    نماذج من الأخطاء في مقدمة ابن خلدون
    أولا: في الحديث النبوي .
    ثانيا : مسألة تحكم المعاش في احوال الناس .
    ثالثا: في أعمار الدول .
    رابعا: في التقليد و التمذهب .
    خامسا: في موقفه من العرب.
    سادسا: في دفاعه عن هارون الرشيد و المأمون .
    سابعا: في دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي .
    ثامنا: في دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين .
    تاسعا: في دفاعة عن ابن تومرت الموحدي .
    عاشرا: أخطاء تاريخية متفرقة في المقدمة و العبر .
    نماذج من الأخطاء في مقدمة ابن خلدون
    تحتوي مقدمة ابن خلدون على أخطاء كثيرة ،و صواب كثير أيضا ، و نحن نركز على أخطائه و مجازفاته دون صوابه و روائعه ، لأننا خصصنا كتابنا هذا لأخطائه ، نذكر منها طائفة متنوعة فيما يأتي من هذا الفصل إن شاء الله تعالى .
    أولا : في الحديث النبوي:
    (1/116)
    ________________________________________
    ذكر ابن خلدون أحاديث نبوية كثيرة في مقدمته ، جمعتُ منها طائفة ورد معظمها بصيغة الإثبات و الجزم ، دون تمييز بين صحيحها و سقيمها ، منها مجموعة من الأحاديث الضعيفة ، أولها حديث يقول : (( ألا و إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله ))(1) ، هذا حديث صحيح المعنى لكنه ضعيف(2) .و ثانيها حديث مفاده أنه لما نزل الوحي على رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ذهب إلى زوجته خديجة –رضي الله عنها- و أخبرها بما حدث له ، أرادت اختباره ، فقالت له : (( اجعلني بينك و بين ثوبك )) ، فذهب عنه ذلك ، و عرفت أنه ملك و ليس شيطانا ،و قالت له (( إنه ملك و ليس شيطانا ))(3) . هذا الحديث لم أعثر عليه في المصادر الحديثية ،و لكنه ضعيف لأن الذهبي ذكره في سِيَر أعلام النبلاء بإسناد منقطع(4) .
    و ثالثها حديث يقول : (( لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرما(5)) ، قال عنه الترمذي : غريب ، و ضعفه محمد ناصر الدين الألباني(6) . و رابعها حديث يقول : (( سيروا على سير أضعفكم )) ، ذكره كل من علي القاري الهروي و محمد ظافر المدني في الأحاديث الموضوعات(7) .
    __________
    (1) ابن خلدون : المقدمة ، ص: 73 .
    (2) الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1198 .
    (3) المقدمة ، ص: 74 .
    (4) ج 2 ص: 116 .
    (5) ابن خلدون : المصدر السابق ، ص: 310 .
    (6) النرمذي: سنن الترمذي ، ج 4 ص: 494 ، 495 . و الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1171 ، 1727 .
    (7) علي القاري: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ط2، بيروت ، المكتب الإسلامي، ص: 236 . و محمد ظافر المدني: تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة ، ط1 ، دمشق ، دار ابن كثير ، 1405ه ، ص: 139 .
    (1/117)
    ________________________________________
    و رواية ابن خلدون لتلك الأحاديث الضعيفة و سكوته عنها هو خطأ فاحش ، كان عليه أن يتجنبه ، لأنه نسب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما لم يثبت أنه قاله ، و لأنه أوقع القارئ لمقدمته في الخطأ ، عندما جعله يتعبد بأحاديث و يعتقد أنها لرسول الله ، وهي ليست له .
    لكنه –مقابل ذلك – أورد في مقدمته أحاديث أخرى صحيحة ، منها قوله عليه الصلاة و السلام (( إن فيكم محدثين ، و إن منهم عمر )) ، ذكره دون الإشارة لدرجته و راويه ، لكنه حديث صحيح ، رواه البخاري بلفظ مغاير بعض الشيء و المعنى واحد(1) . و الحديث الثاني قوله عليه الصلاة و السلام : (( اللهم اِمض لأصحابي هجرتهم ،و لا تردهم على أعقابهم))(2) . ذكره ابن خلدون دون الإشارة لدرجته ، و هو حديث صحيح أخرجه البخاري(3) و غيره .
    و الحديث الثالث قال فيه ابن خلدون : (( و في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه و سلم- قال : الرؤيا ثلاث : ( رؤيا من الله ، و رؤيا من الملك ، و رؤيا من الشيطان )) ،و قد ذكر ابن خلدون هذا الحديث عندما تكلم عن الرؤيا و أنواعها و قسمها إلى ثلاثة أنواع ، و هي : رؤيا من الله ، و رؤيا من الملك ، و رؤيا من الشيطان ، ثم ذكر أن ذلك الحديث يتطابق مع ما ذكره هو عن أصناف الرؤيا(4) .
    لكنني لما رجعتُ إلى المصادر الحديثية لم أجد الحديث كما رواه هو بالضبط ، و إنما وجدته يخالف ما رواه هو بعض الشيء ، و ممضمونه أن الرؤيا ثلاث: بُشرى من الله ، و حديث النفس ، و تخويف من الشيطان(5) . فلا توجد فيه رؤيا من الملك ، ذكرها محل حديث النفس ، مع الاختلاف في اللفظ بين الحديثين كما هو واضح ، و لعل ذلك سهو منه .
    __________
    (1) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص :1349 .
    (2) المقدمة ، ص: 99 .
    (3) صحيح البخاري، ج 4 ص: 1600 .
    (4) المقدمة ، ص : 84 .
    (5) مسلم : صحيح مسلم ، ج4 ص: 1773 . و ابن ماجة : السنن ، ج 2ص: 1285 . و ابن حجر: فتح الباري ، ط12 ص: 369 .
    (1/118)
    ________________________________________
    و أشير هنا إلى أمرين في علم الحديث ، لهما علاقة بما نحن فيه ، أولهما موقف ابن خلدون من مسألة تقديم الجرح على التعديل ، فقال عنها : (( إلا أن المعروف عن أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل )) ، و قال أيضا إن الجرح مقدم على التعديل عند الأكثرية(1) . و قوله هذا ناقص ،و غير صحيح على إطلاقه ، لأن المعتمد في علم الجرح و التعديل ، هو أنه إذا اجتمع الجرح و التعديل في راو واحد معروف و غير مجهول ، قُدم الجرح إذا كان مُفسرا ، و أما إذا كان مُبهما غير مُفسر ، قُدم التعديل على التجريح . و هناك رأي آخر ضعيف يعتمد في التقديم و التأخير على العدد ، فإذا زاد عدد المُعدلين على الجارحين قُدم التعديل ، و إذا قلّ عدد المُعدلين قُدم الجرح ، لكن هذا الرأي ضعيف و غير مُعتمد في علم الجرح و التعديل(2) .
    و الأمر الثاني يخص مسألة الإجماع على صحة ما في صحيحي البخاري و مسلم ، فقال عنها ابن خلدون : إن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول ، و العمل بما فيهما ، و الإجماع على صحة ما فيهما(3) . و نحن لا ننكر ما للصحيحين من مكانة مرموقة بين كتب السنة النبوية ، فهما في المقدمة بلا شك ، اتبع فيهما مؤلفاهما منهجا علميا صارما متكاملا ، جمع بين الإسناد و المتن معا ، لكننا لا نوافق ابن خلدون عندما قال إن إجماع الأمة قد انعقد على قبولهما و صحة ما فيهما ، فإن رأيه هذا غير صحيح ، بدليل الشواهد الآتية :
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 245 ، 352 .
    (2) محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر ، دار رحاب، دت ، ص: 147 . و أصول التخريج و دراسة الأسانيد ، ص: 143 .
    (3) المقدمة ، ص: 245، 353 .
    (1/119)
    ________________________________________
    أولها ما ذكره الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ق: 7ه ) ، فإنه مع قوله إن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول ، فإنه اعترف بوجود خرق لذلك ، عندما قال عنهما : (( سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ ، كالدارقطني و غيره ، و هي معروفة عند أهل هذا الشأن ، و الله أعلم ))(1) .
    و الشاهد الثاني قول الفقيه محي الدين بن شرف النووي(ق:7ه ) ، ذكر فيه أنه قد (( استدرك جماعة على البخاري و مسلم ، أخلا بشرطهما فيها ، و نزلت عن درجة ما التزماه ، و قد سبقت الإشارة إلى هذا ، و قد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في بيان ذلك ، كتابه المُسمى بالاستدراكات و التتبع ، و ذلك في مائتي حديث مما في الكتابين ، و لأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك ، و لأبي علي الغساني الجياني في كتابه تقييد المُهمل في جزء العلل منه ، استدراك أكثره على الرواة عنهما ، و فيه ما يلزمهما ، و قد أُجيب عن كل ذلك أو أكثره ))(2) .
    و الشاهد الثالث هو ما ذكره شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية(ت 728ه) ، فإن له أقوالا كثيرة عن مكانة الصحيحين و نقدهما ، و ليس فيها القول بانعقاد الإجماع الكامل الشامل على صحة ما في الصحيحين ، منها قوله : (( و الذي أُنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا ، و أما سائر متونهما فمما اتفق علماء الحديث على صحتها ، و تصديقها ، و تلقيها بالقبول)) . و قال أيضا (( قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما –أي البخاري و مسلم- و وافقوهما على صحة ما صححاه ، إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا ، غالبها في مسلم ، و قد انتصر لهما طائفة فيهما، و طائفة قررت قول المنتقد ، و الصحيح التفصيل ، فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب ))(3) .
    __________
    (1) ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح ، ص: 18 .
    (2) النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ج 1 ص: 27 .
    (3) منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 25 ، 59 .
    (1/120)
    ________________________________________
    و قال أيضا : (( و أما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس ، بل في الصحابة من قد يغلط أحيانا و فيمن بعدهم ، و لهذا كان فيما صُنف في الصحيحين أحاديث يُعلم أنها غلط ، و إن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق )) . و من الأحاديث التي غلط فيها مسلم و رُد عليه فيها ، حديث خلق الكون في سبعة أيام ، و حديث صلاة النبي –عليه الصلاة و السلام- في الكسوف بثلاث رُكوعات ،و بأربع ، و برُكوعين ، و الصواب أنه لم يصل إلا برُكوعين . و قد نُوزع مسلم في عدة أحاديث مما خرّجها ، و كان الصواب فيها مع من نازعه . و أما البخاري فإن جمهور ما أنكر عليه مما صححه ، كان فيه قوله راجحا على قول من نازعه . و من الذين نازعوا مسلما في حديث خلق الكون في 7 أيام : الحافظان يحيى بن معين ، و البخاري ، و غيرهما(1) .
    و قال أيضا : (( لكن جمهور-لاحظ- متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث ، تلقوها بالقبول و أجمعوا عليها )) . و قال (( و لهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يُعلم صحته عند علماء الطوائف من الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية ، و الأشعرية ))(2) .
    و واضح من أقواله أنه لم يقل بالإجماع الكلي الشامل لكل ما في الصحيحين ، وإنما قال إن الإجماع شمل أكثر ما في الصحيحين ، و اعترف بوجود من انتقد الشيخين فيما ذكراه في صحيحيهما ،و بوجود أحاديث مُنتقدة غلط فيها الشيخان .
    و الشاهد الرابع هو ما قاله المحقق ابن قيم الجوزية في حديث مسلم عن خلق الكون في 7أيام ، فقال إنه يُخالف القرآن الكريم صراحة ، الذي نص على أن الله خلق الكون في 6 أيام ، ثم ذكر أن ذلك الحديث هو غلط و لا يصح رفعه للرسول-عليه الصلاة و السلام- و إنما هو من قول كعب الأحبار (3) .
    __________
    (1) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج1 ص: 250 ، 256 ، 257 .
    (2) نفس المصدر ، ج 1 ص: 257 ، ج 18 ، ص: 70 .
    (3) المنار المنيف ، ص: 72 .
    (1/121)
    ________________________________________
    و الشاهد الخامس هو نقد الحافظ ابن كثير لحديث مسلم في خلق الكون ، فذكر أن كبار المحدثين قد انتقدوه في ذلك الحديث ، منهم علي بن المديني ، و البخاري، و البيهقي ، و قالوا إنه من كلام كعب الأحبار و ليس من كلام أبي هريرة ، و إنما بعض الرواة وَهَم فنسبه إلى أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، ثم قال ابن كثير إن في متن ذلك الحديث (( غرابة شديدة ، فمن ذلك ليس فيه خلق السموات ،و فيه ذكر خلق الأرض و ما فيها في سبعة أيام ، و هذا خلاف القرآن الذي ذكر خلق السموات في يومين ، و الأرض في أربعة أيام(1) .
    و الشاهد السادس هو موقف الحافظ ابن حجر العسقلاني ، فإنه وافق ما قاله ابن الصلاح في وجود مواضع في الصحيحين متنازع فيها ، و هي مُستثناة من الإجماع و التلقي بالقبول ، و عندما أورد قول ابن الصلاح : (( و قد أُجيب عن أكثره )) ، عقّب عليه بقوله : (( هو الصواب ، فإن منها ما الجواب غير منتهض كما سيأتي ))(2) .
    تلك الشواهد هي لكبار علماء المسلمين ، و فيها إقرار بأن الإجماع لم يحصل على كل ما في الصحيحين ، و إنما حصل على أكثر ما فيهما ، و أن فيهما ما هو مختلف فيه ،و ما هو غير صحيح. و هي شاهدة أيضا على أن النقد الموجه إلى الصحيحين أو إلى أحدهما ، ليس جديدا ، و إنما هو قديم يعود إلى القرن الثالث الهجري و ما بعده .
    __________
    (1) البداية و النهاية ، ج 1 ص: 17 .
    (2) ابن حجر: مقدمة فتح الباري، حققه محب الدين الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، 1379، ص: 246، 346 .
    (1/122)
    ________________________________________
    و أما الشواهد المتبقية فهي لبعض العلماء المعاصرين المعروفين ، أولها موقف الشيخ محمد الغزالي ، فإنه انتقد مسلما في روايته لحديث مفاده أن رجلا سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن أبيه –كان قد تُوفي- أين هو ؟ ، فقال له : (( إن أبي و أباك في النار )) ، هذا الحديث أنكره الشيخ الغزالي ، لأنه يُعارض الثابت في القرآن من أن كل نفس بما كسبت رهينة ، و عدم تعذيب أهل الفترة ، لقوله تعالى (( و ما كنا مُعذبين حتى نبعث رسولا ))(1)-سورة الإسراء 15- .
    __________
    (1) يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية ، الجزائر ، دار المعرفة ، ص: 97، 98 .
    (1/123)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو قول للشيخ ناصر الدين الأباني ، قال إن الحديث الذي رواه الشيخان أو أحدهما ، هو حديث قد تجاوز القنطرة ، و دخل في (( طريق الصحة و السلامة و لا ريب في ذلك ، و أنه هو الأصل عندنا ، و ليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في الصحيحين ، هو بمنزلة ما في القرآن لا يمكن أن يكون فيه وهم ، أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة ، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا ، فقد قال الإمام الشافعي : (( أبى الله أن يُتم إلا كتابه )) . و لا يمكن أن يدعي ذلك أحد من أهل العلم ، ممن درسوا الكتابين دراسة تفّهم و تدبر مع نبذ التعصب ، و في حدود القواعد العلمية الحديثية ، لا الأهواء الشخصية ، أو الثقافة الأجنبية عن الإسلام و قواعد علمائه ، فهذا مثلا حديثهما الذي أخرجاه عن ابن عباس : (( أن النبي – صلى الله عليه وسلم- تزوّج ميمونة و هو مُحرِم ))، فإن هذا من المقطوع به أنه صلى الله عليه و سلم تزوّج ميمونة و هو غير محرم ، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها ، و لذلك قال العلامة المحقق محمد بن عبد الهادي في تنقيح التحقيق –و قد ذكر ذلك الحديث- : (( و قد عُد هذا من الغلطات التي وقعت في الصحيح ، و ميمونة أخبرت أن هذا ما وقع ، و الإنسان أعرف بحال نفسه ))(1) .
    __________
    (1) ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، مقدمة الألباني ، حققه نخبة من العلماء ، ط9 ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ص: 23 .
    (1/124)
    ________________________________________
    و الشاهد الأخير –أي الثالث- هو للشيخ يوسف القرضاوي ، فإنه عندما ذكر حديث مسلم السابق الذكر (( إن أبي و أباك في النار )) ، قال إنه يُعارض الثابت من القرآن ، من أن كل نفس بما كسبت رهينة ، و عدم تعذيب أهل الفترة ، ثم ذكر أنه توقف في هذا الحديث حتى يظهر له فيه شيء يشفي صدره ، و قال إنه وجد من تحفظ على هذا الحديث ، و هما العالمان : الأبي –لم أجده- ،و محمد السنوسي(ت895ه)(1) .
    و تعقيبا على هؤلاء أقول: أولا تبين من الشواهد السابقة إن ما قالها ابن خلدون من حصول الإجماع على صحة ما في الصحيحين ، هو قول غير صحيح ، و قد اتنقدهما العلماء كما انتقدوا الكتب الحديثية الأخرى ، لكنهم شهدوا لمؤلفيهما بالأمانة و التثبت و صحة جمهور ما روياه من الأحاديث ، إلا قلة منها اتنقدوهما فيها .
    و ثانيا إن وجود أحاديث قليلة غير صحيحة في صحيحي البخاري و مسلم ، لا يضر الإسلام شيئا ، فإنه اكتمل عندما توقف الوحي ، و قبل أن تظهر كتب السنة النبوية ، لقوله تعالى: (( اليوم أكملت لكم دينكم ،و أتممت عليكم نعمتي ، و رضيت لكم الإسلام دينا ))-سورة المائدة/3- . فالإسلام يكفيه القرآن و ما صحّ من السنة النبوية ، و لا يضره وجود أحاديث قليلة غير صحيحة ، في الصحاح و السنن و المسانيد ، فهي معروفة لدي أهل العلم ، فيُتجنب استخدامها ،و لا ضير في ذلك على الإسلام ، فإن ذلك يدل على قوته و أنه حق لا ينتصر إلا بالحق ، و قد اقتضت حكمة الله تعالى أن لا يُوجد كتاب معصوم إلا كتابه .
    __________
    (1) القرضاوي : المرجع السابق ، ص: 97، 98 .
    (1/125)
    ________________________________________
    و ثالثا يجب أن لا ننسى أن الإمامين البخاري و مسلم لم يقولا أنهما لم يُخطآ فيما دوناه من أحاديث في صحيحيهما ، و إنما قالا إنهما دونا ما صحّ عندهما من أحاديث فقط ، و لم يدعيا العصمة و لا الصواب المطلق فيما دوناه(1) . و أما القول بأن كل ما في الصحيحين صحيح بإجماع العلماء ، فهو قول متأخر ظهر بعد وفاتهما بمدة طويلة نسبيا .
    مع العلم أن الذين قالوا بصحة كل ما في الصحيحين ، لا يعني أنهم يقولون بعصمة البخاري و مسلم من الخطأ ، فهذا ليس من عقائد أهل السنة ، و هو باطل من دين الإسلام بالضرورة ، و إنما مقصودهم أنهما لم يُخطئا فيما كتباه ، لا أنهما لا يُخطئان ، فهما لم يُخطآ –حسب رأي هؤلاء- لدقة منهجهم و صرامته ،و حرصهم الشديد على تطبيقه ،و كثرة مراجعتهم و تدقيقهم لما كتباه ، لا أنهما لا يُخطئان ، مع العلم أن أي عمل بشري هو محتمل للخطأ و الصواب معا ، لكن ليس بالضرورة أن أي عمل يقوم به الإنسان لا بد أن يخطئ فيه ، فقد يُصيب و قد يُخطئ فيه ، و قد يجمع بين الخطأ و الصواب في عمل واحد . .
    ثانيا : مسألة تحكم المعاش في أحوال الناس :
    قال ابن خلدون عن مسألة المعاش : (( و اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش )) ؟. و المعاش عنده هو ابتغاء الرزق و السعي في تحصيله(2) .و قوله هذا هو الذي جعل الباحث محمود عبد المولى يقول عن ابن خلدون : (( يبدو لنا و كأنه رائد المادية التاريخية قبل كارل ماركس بقرون ))(3) . فهل ما قاله ابن خلدون صحيح ؟ .
    __________
    (1) أنظر مقدمة الصحيحين .
    (2) المقدمة ، ص: 90 ، 301 .
    (3) محمود عبد المولى : ابن خلدون و علوم المجتمع ، ليبيا-تونس ، الدار العربية للكتاب، 1980، ص: 89 .
    (1/126)
    ________________________________________
    أولا إن ابن خلدون لم يقصد بقوله في تأثير المعاش على أحوال الناس ، ما تدعيه الماركسية-الشيوعية- في زعمها أن المادية التاريخية-أي العامل الاقتصادي- هو المحرك الأساسي و الوحيد لسلوكيات الناس ، لأن هذه النظرية تقوم على الكفر و الإلحاد- المادية الجدلية - ، و هي بلا شك أنها باطلة ، جملة و تفصيلا ، ليس هنا مجال إثبات ذلك ، لكن تاريخ الماركسية نفسه شاهد على بطلان نظريته ، فقد حملت بذور فنائها في ذاتها منذ نشأتها ، ثم قضى عليها أبناؤها بأنفسهم قبل أعدائهم . و عليه فإنه يبدو أن ابن خلدون كان يقصد بقوله السابق شدة تأثير المعاش على الناس الذين بالغوا في طلب الدنيا ، و أنستهم خالقهم و أنفسهم ، قال تعالى (( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ))-سورة التكاثر /1- ،. فهو لم يكن ينكر العوامل الأخرى و تأثيرها القوي في أحوال الناس ، لذلك وجدناه ركز كثيرا على تأثير عامل المناخ و العصبية في العمران البشري ، و هذا كثير في مقدمته . و أما الزعم بأن ابن خلدون كان رائد المادية التاريخية ، فهو كلام باطل من أساسه ،و افتراء على الرجل العالم المسلم الفقيه .
    و ثانيا إننا لا ننكر ما للمعاش من تأثير على البشر في حياتهم الدنيوية ، فهو ضروري لهم ، و طلبه جزء أساسي من حياتهم اليومية ، لكن الإنسان الذي هو عاقل مريد مسؤول ، هو الذي يتحكم في كيفية الاستجابة لتلك الحاجة الضرورية، و ليست هي المتحكمة فيه ، فلو كانت هي المتحكمة فيه ما اختلف الناس في كيفية الاستجابة لها ، فالأمر في النهاية له لا لها .
    (1/127)
    ________________________________________
    و ثالثا إن ابن خلدون قد بالغ عندما قال : (( أعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم ، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش )) ، فإن كلامه هذا مجمل يحتمل عدة تفسيرات ، فقوله : (( نحلتهم من المعاش )) ، يُحتمل أنه يقصد بكلمة نحلتهم ، طريقتهم في المعاش ، و يُحتمل نظرتهم للمعاش، و يُحتمل نصيبهم من المعاش، لأن من معاني : النِحلة ، الطريقة ، و المذهب ،و العقيدة ، و العطاء و الصدقة(1). و أي احتمال رجحناه فإن ابن خلدون مبالغ فيه ،و يكون قد عكس الأمر عندما جعل الإنسان مسلوب الإرادة خاضعا لتأثيرات المعاش في مختلف أحواله ،و يصبح كالذي جعل العربة أمام الحصان ، لأن المعاش –مع تأثيره القوي على الناس- فإن تأثيره محدود ،و لا يشمل بالضرورة كل أحوالهم ، و يبقى تابعا للإرادة الإنسانية الحرة التي وهبها الله تعالى للإنسان و كرّمه بها . و ابن خلدون نفسه كان يقول بتعدد العوامل المؤثرة في سلوكيات البشر ، فهو هنا و إن ركز على عامل المعاش ، فكثيرا ما ركّز أيضا عل عوامل أخرى في مواضع عديدة من مقدمته ، كتركيزه عل عاملي المناخ و العصبية في تأثيرهما على أحوال الناس.
    و رابعا إن مما يُثبت ما قلناه هو أن التاريخ البشري يشهد على أن عقائد و مذاهب كثيرة ظهرت قديما ، كالبوذية ، و البرهمية ، و الطاوية ، و اليهودية و المسيحية ، و أحدثها الإسلام ، و كان لها تأثير كبير على أفكار و سلوكيات أتباعها الكثيرين ، ،و هي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا مع تأثيرها الواسع على أتباعها ، رغم التغيرات الجذرية الكثيرة التي حدثت في طرق المعاش ،فهذه التغيرات المعاشية لم تغير تلك العقائد و المذاهب ،و لا أذهبت عنها أتباعها . ، مما يُثبت أن الزعم بأن اختلاف الأجيال يعود إلى اختلاف طرق معاشهم هو زعم غير صحيح .
    __________
    (1) علي بن هادية : القاموس الجديد ، ص: 1206-1207 .
    (1/128)
    ________________________________________
    و مما يُثبت ذلك أيضا أنه توجد مجتمعات كثيرة ذات طرق معاشية واحدة ،و متقاربة جدا في مستواها الاقتصادي ، لكنها مع ذلك مختلفة العقائد ، و المذاهب ،و اللغات ، و الأخلاق ، و السلوكيات ، و قد تكون متناحرة ، كما هو الحال في الهند و لبنان و العراق ، فأين تأثيرات طرق المعاش على هؤلاء ؟ ،و لماذا لم توحّد بينهم في أحوالهم المختلفة ، و هم يخضعون لطرق معاشية واحدة أو متقاربة ؟ .و قد نجد ذلك النموذج حتى في البيت الواحد ، فكم من عائلة ذات المستوى المعيشي الواحد أفرادها مختلفون في عقائدهم و أخلاقهم و سلوكياتهم ، فنجد فيه المسلم ، و النصراني ،و الملحد ،و العلماني . كما أننا كثيرا ما نجد مجتمعا تتعدد فيه طرق المعاش، و تتباين فيه المستويات الاقتصادية ، لكنه مع ذلك غالبية أهله على عقائد و سلوكيات و أخلاقيات واحدة ، أو هي الغالبة على ذلك المجتمع . و بذلك يتبين لنا أن اختلاف طرق المعاش ليس بالضرورة أنها تُفرّق بين عقائد الناس و سلوكياتهم . و أن وحدتها –أي طرق المعاش- ليس بالضرورة أنها تُوحد عقائدهم و سلوكياتهم .
    و مما يُثبت ذلك أيضا أننا قد نجد في الفئة الواحدة من الناس ذات المستوى المعيشي الواحد ، نجد فيها تباينا كبيرا في العقائد و السلوكيات ، من ذلك طبقة الفقراء في الهند ، فرغم مستواهم المعيشي الواحد ، فإننا نجد فيهم المسلم ،و الهندوسي ، و السيخي ، و البوذي ، و النصراني ،و فيهم اللص ،و العفيف، و الزاهد ،و الساخط، و المتدين ، و الزنديق . و هذه الظاهرة قد نجدها أيضا في شرائح اجتماعية أخرى ذات مستوى معيشي واحد ، كالأغنياء ، و العلماء ، و الفلاحين ،و الطلاب . فهذه النماذج أدلة قاطعة على أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح ، لأنه بالغ في تضخيم مسألة المعاش ، و أخرجها من إطارها الصحيح ، و لم ينظر إليها نظرة صحيحة ، فحوّل الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة .
    ثالثا : في أعمار الدول:
    (1/129)
    ________________________________________
    يرى ابن خلدون أن للدول أعمارا لا تتجاوزها ، و شبهها بعمر الإنسان، الذي يتدرج في النمو ، من الطفولة إلى الشيخوخة ثم الموت ، فكذلك الدول تبدأ بمرحلة النمو ، ثم الازدهار ، ثم التراجع و السقوط ، و قدّر عمر الدول بثلاثة أجيال ، أي 120 سنة ،و أنها لا تتجاوزها في الغالب ، و استشهد بقوله تعالى : (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ،و لا يستقدمون ))-سورة الأعراف /34- .
    و تعقيبا عليه أقول: أولا إنني أوافقه عندما قال إن لكل دولة أجلا لا تتجاوزه ، فهذه سنة الله في خلقه ، و التاريخ شاهد على ذلك ، و القرآن الكريم قرر ذلك بصراحة في آيات كثيرة(1) ؛ لكنني لا أوافقه عندما حدد عمر الدول بثلاثة أجيال في الغالب ، و قدرها ب 120 سنة ، و هذا خطأ بيّن و تحكّم محض ، و مجازفة في الحكم ، لا دليل له فيه من النقل ، و لا من العقل ، و لا من التاريخ ، و الشواهد على بطلان زعمه كثيرة جدا ، فلا توجد أية حتمية عقلية ،و لا واقعية تمنع الدول من تجاوز ذلك العمر . فهناك دول عاشت أقل من قرن كالدولة الأموية ،و دولة القرامطة ، و الدولة الأيوبية ، و المرابطية ، و السوفياتية ؛ و هناك دول أخرى عاشت أكثر من قرنين ، و بعضها أكثر من أربعة قرون ، كالدولة الفرعونية ، و الفارسية ، و العباسية ، و العثمانية ، و الفرنسية ، و البريطانية ، و اليابانية ، و الأمريكية ، فهذه الشواهد ليست استثناءات ، و إنما هي شواهد كثيرة و متنوعة .
    __________
    (1) للتوسع في ذلك انظر : عماد الدين خليل : التفسير الإسلامي للتاريخ ، ص: 255 و ما بعدها .
    (1/130)
    ________________________________________
    و ثانيا إن تشبيهه حياة الدول و سقوطها بحياة الإنسان و موته ، هو تشبيه ناقص و غير دقيق ،و لا ينطبق على الحالتين تطابقا كاملا ، لأن الإنسان إذا شاخ و هرم لابد أن يموت ، أما الدول فلا تمر بالضرورة بهذه الدورة الحتمية إذا شاخت ، فالمجال أمامها مفتوحا لتتدارك نقائصها ، و تجدد طاقاتها و شبابها للنهوض من جديد بفضل جهود أبنائها ، فلا يوجد أمامها أي مانع حتمي يمنعها من ذلك ، فالإنسان مخلوق حي تتحكم فيه قوانين طبيعية حتمية صارمة لا يمكنه الانفلات منها ، لكن الدول لا تخضع لمثل تلك القوانين الصارمة ، لأنها مرتبطة بالجانب الاختياري من حياة الإنسان ، و هو مظهر من مظاهر حريته و إرادته ، و هذا لا يخضع لحتمية القوانين الطبيعية و صرامتها .
    و ثالثا إني أُنبه هنا إلى أمرين هامين قد يعتقد كثير من الناس أن ابن خلدون هو أول من أشار إليهما و تكلم عنهما ،و هو أمر غير صحيح ، أولهما مسألة سقوط الدول ، التي تكلّم عنها ابن خلدون و حدد عمر الدولة بثلاثة أجيال كما سبق بيانه ، و هذه المسألة تكلّم عنها القرآن الكريم في آيات كثيرة دون تحديد صارم لعمر الدول ، و هو الأمر الذي أخطأ فيه ابن خلدون ،و هو نفسه استشهد بالقرآن الكريم للتأكيد على أن للدول أعمارا لا تتجاوزها ، و الآيات على ذلك كثيرة ، منها قوله تعالى : (( و تلك الأيام نداولها بين الناس ))-سورة آل عمران /140- ، و (( لكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون ))- سورة هود/8- ، و (( و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم، ما تسبق من امة أجلها و ما يستأخرون))-سورة الحجر /4-5- ،و قد توسع في هذا الموضوع ، المؤرخ الناقد عماد الدين خليل في كتابه التفسير الإسلامي للتاريخ(1) .
    __________
    (1) انظر ص : 255 و ما بعدها .
    (1/131)
    ________________________________________
    و الأمر الثاني يخص مسألة مرور الدول بثلاث مراحل في حياتها قبل سقوطها ، و هذا المسألة ربما يعتقد كثير من الناس أن ابن خلدون هو أول من أشار إليها ، و هذا غير صحيح ، فقد أشار إليها القاضي علي بن محمد الماوردي البغدادي(ت 450ه) ، في كتابه تسهيل النظر و تعجيل الظفر في أخلاق الملك و سياسة الملك ، فقال : (( و أعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع ،و شدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة ، ثم تتوسط باللين و الاستقامة ،لاستقرار الملك ، و حصول الدعة ، ثم تختم بانتشار الجور و شدة الضعف ، لانتقاص الأمر و قلة الخدم ))(1) ؟
    رابعا : في التقليد و التمذهب :
    كان المسلمون في القرون الأولى على صنفين في أخذهم للأحكام الشرعية ، الأول يمثل أهل الاجتهاد و الإفتاء ، و الثاني يُمثل المقلدين لما يقوله الصنف الأول ، و هم العوام و من ليس له القدرة على الاجتهاد من أهل العلم ، فكانوا يُقلدون من أرادوا من المجتهدين دون التزام بشخص معين ،و بلا تمذهب له ، ثم تغير الحال في القرن الرابع الهجري و ما بعده ، عندما أصبح العوام و أهل العلم كلهم مقلدين متمذهبين لإمام من الأئمة الأربعة المجتهدين المعروفين(2) . و في هذا يقول ابن خلدون : ثم انتهى ذلك إلى (( الأئمة الأربعة من علماء الأمصار ، و كانوا بمكان ما حسّن الظن بهم ، فاقتصر الناس على تقليدهم ، و منعوا من تقليد سواهم ، لذهاب الاجتهاد ، لصعوبته و تشعب العلوم التي هي مواده ، باتصال الزمان ،و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة ))(3) .
    __________
    (1) نقلا عن الطالب : زهير ديلمي : النظرية السياسية عند الماوردي ، رسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي ، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية ، قسم التاريخ ، جامعة الجزائر ، 2004-2005 , ص: 210 .
    (2) ولي الله الهلوي: الانصاف ، ص: 68و ما بعدها ، و 87 و ما بعدها .
    (3) المقدمة ، ص: 361 .
    (1/132)
    ________________________________________
    و قال أيضا : (( و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ، و درس المقلدون لمن سواهم . و سدّ الناس باب الخلاف و طرقه لما كثُر تشعّب الاصطلاحات في العلوم . و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ،و لما خُشي من إسناد ذلك لغير أهله ،و من لا يُوثق برأيه و لا بدينه ، فصرّحوا بالعجز و الإعواز ،و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ، كل من اختص به من المقلدين . و حظروا أن يُتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب ، و لم يبق إلا نقل مذاهبهم-أي الأئمة الأربعة- و عمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سنده بالرواية ، لا محصول للفقه اليوم غير هذا . و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده ))(1) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 355 .
    (1/133)
    ________________________________________
    و كلامه هذا فيه عرض لواقع التقليد المذهبي ،و تبرير له ، و اعتراف به ،و إقرار له عندما لم ينتقده ، و فيه أيضا أخطاء و مجازفات و مغالطات ، نبين بعضها في النقاط الآتية ، أولا إن قوله (( اقتصر الناس على تقليدهم )) ، هو قول غير صحيح على إطلاقه ، و فيه أيضا مغالطة ، لأن الذي كان سببا في تقليد هؤلاء الأئمة و التمذهب لهم و ترك الاجتهاد ، ليس الناس مطلقا ، و أنما طائفة منهم ، تمثلت في بعض أهل العلم و السياسيين ، كان لها التأثير الأساسي في نشر التقليد المذهبي و تشجيعه و تعميقه بين الناس ، و يمكن إبراز ذلك و تركيزه في خمسة أسباب رئيسية ، أولها تعصب كثير من التلاميذ و تلامذتهم لآثار أئمتهم المجتهدين الذي حملهم على الجمود عليها و الدعوة إليها ،بدلا من السير على منهجهم و نبذ التقليد(1). و الثاني تشجيع الخلفاء و الملوك المستبدين على التقليد كوسيلة لتجهيل المجتمعات ،لأن فتح باب الاجتهاد فيه ما ينقض عليهم أمرهم بسبب ظلمهم (2). كما أن بعض أهل العلم اقترب من هؤلاء الخلفاء و الملوك ليتولى لهم القضاء حسب المذهب الذي يريدونه فساهموا كلهم في تكريس التقليد و التمذهب . والثالث السعي الدؤوب الذي قام به العلماء المقلدون في الدعوة إلى التقليد و محاربة الاجتهاد قولا و عملا .و الرابع ضعف همم المشتغلين بالعلم في عصر التقليد دفع كثيرا منهم إلى الاكتفاء بالحفظ و دراسة كتب المختصرات بدلا من المطولات و ممارسة الاجتهاد . وآخرها ظهور المدارس الطائفية التي كرست التقليد و التمذهب ،و دفعت كثيرا من الناس إلى دراسة المذاهب الأربعة ،طمعا في الأرزاق الموقوفة عليها(3) .
    __________
    (1) أبو زهرة :تاريخ الجدل ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1980، ص :296 .
    (2) نفس المرجع ص: 297 .
    (3) انظر مثلا: عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
    (1/134)
    ________________________________________
    و ثانيا إن قوله بأن الناس قلّدوا الأئمة الأربعة دون غيرهم ، لذهاب الاجتهاد و صعوبته و تشّعب العلوم التي هي مواده ، هو قول غير صحيح ، لأن السبب في ذلك ليس ذهاب الاجتهاد و صعوبته ، و أإما هو ما صرّح به ابن خلدون نفسه ، عندما قال : (( و منعوا من تقليد سواهم )) ، فهذا المنع هو السبب ، و دافعه ليس ذهاب الاجتهاد و صعوبته ، و إنما دافعه التقليد و التعصب المذهبيين المذمومين ، حتى وصل الأمر بمعظم فقهاء المذاهب –في عصر التقليد- إلى جعل أقوال الأئمة الأربعة بمنزلة الكتاب و السنة ، و الإفتاء بوجوب اتباع مذاهبهم و تحريم ما عداها ،و منع تقليد غيرهم من الأئمة(1) .
    __________
    (1) أبو شامة : مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، ضمن مجموع هدى المدرسة السلفية ، الجزائر ، دار الشهاب ، 1988 ، ص: 217، 218 ، 227 . و المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط و الأثار ، القاهرة ، مكتبة الثقافة الدينية ، دت ج2 ص: 344 . و ابن خلدون: المقدمة، ص: 361 . و عمر سليمان الأشقر: المدخل إلى دراسة المدارس و المذاهب الفقهية ، ط2 ، الأردن ، دار النفائس ، 1998، ص: 176 .
    (1/135)
    ________________________________________
    كما أن قوله بأن الاجتهاد كان صعبا في عصر التقليد ، هو غير صحيح من الناحية التاريخية الواقعية ، لأن العلوم الشرعية كانت قد جُمعت و حُررت و قُننت و أُثريت ،مما يسهل على أهل العلم الاطلاع على مذاهب العلماء و مناهجهم .و لأن المؤسسات كانت متوفرة بكثرة و فيها كل المرافق المشجعة على التحصيل العلمي (1) .ولأن عصر التقليد قد شهد مئات من العلماء تميزوا بالموسوعية و الذكاء ، وحسن الفهم والتفرغ للعلم ، و ساهموا بقوة في خدمة مذاهبهم و نصرة طوائفهم(2) ،فلو بذلوا جهودهم في الدعوة للاجتهاد و محاربة التقليد ،لكان في ذلك خير كثير وهذا كله يبين أن ما قاله ابن خلدون لا يصح ،وأن كلامه في عمومه يصب في تيار تبرير التقليد و تكريسه .
    __________
    (1) انظر مثلا : عبد القادر النغيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
    (2) راجع مثلا علماء القرنين الخامس و السادس الهجريين ، في كتاب شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي .
    (1/136)
    ________________________________________
    و ثالثا إن قوله بأن من أسباب انتشار تقليد الأئمة الأربعة هو (( افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة )) ، هو قول غير صحيح و فيه مغالطة ، بدليل الشاهدين الآتيين ، أولهما أن افتقاد المجتهدين الأحرار من خارج المذاهب الأربعة ، سببه انتشار التقليد و تكريسه و فرضه على الناس، الأمر الذي أدى إلى قتل الطاقات المتحررة المبدعة ، و تربية أهل العلم على العجز و الخوف و السلبية، و إبعادهم عن التعامل المباشر مع الكتاب و السنة ، و فقه السلف اللامذهبي، و مثال ذلك ما حدث لابن حزم الظاهري الأندلسي(456ه) ، علي أيدي المالكية بالأندلس ، فقد كان مجتهدا حرا محرما للتقليد ، فتألب عليه هؤلاء ، و حرّضوا عليه السلطان ، حتى إنهم منعوا بيع كتبه في الأسواق ، و ربما مزقوها ، و هذا بشهادة ابن خلدون نفسه(1) . و من قبله حدث نفس الأمر للفقيه المحدث بقي بن مخلد (ت276ه ) فإنه لما رحل إلى المشرق و حصّل علم أهل الحديث ، ثم رجع إلى الأندلس و شرع في نشر علمهم و لم يلتزم بالمذهب المالكي ، تعصب عليه مالكية الأندلس و استعانوا عليه بالسلطان(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 354 .
    (2) الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 630-631 .
    (1/137)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أنه رغم سيطرة التقليد و التعصب المذهبيين على أهل العلم في عصر التقليد ، فإن هذا العصر لم يُعدم من علماء كبار كانت لهم قدرات علمية فائقة و همم عالية، مكنتهم من ممارسة الاجتهاد ، و كانت لهم اختيارات فقهية حرة ، خالفوا فيها حتى مذاهبهم في بعض الأحيان ، منهم: أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي(ت 510ه) ،و أبو الوفاء بن عقيل البغدادي(ت 513ه) ،و ابن الجوزي ، و ابن قدامة المقدسي(ت620ه) ،و أبو شامة المقدسي(ت665ه)، و العز بن عبد السلام، و تقي الدين بن تيمية، و ابن قيم الجوزية(1) . فوجود هؤلاء دليل دامغ على أن عصر التقليد المذهبي لم يكن يفتقد إلى المجتهدين الأحرار ، و إنما هيمنة التقليد على المجتمع ، و فرضه على أهل العلم ، هو الذي عطّل كثيرا من الطاقات ،و حاصر هؤلاء الأحرار من توسيع مجالات اجتهاداتهم ،و استحداث مذاهب جديدة ، ومن التحرر من القيود التي فُرضت عليهم ، و ما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية ، على يد المذهبيين المتعصبين معروف و مشهور ، فإنه لما كسر قيود التقليد المذهبي ،و مارس الاجتهاد الحر المطلق ، تألب عليه المقلدون المتعصبون ، و استعانوا عليه بالسلطان ، و ادخلوه السجن مرارا حتى مات بداخله ، سنة 728ه(2) .
    __________
    (1) هؤلاء الذين ذكرناهم معروفون بالاجتهاد ، لكن انظر مثلا : ابن ردب البغدادي: الذيل على طبقات الحنابلة، ج1 ص: 148، 190 ، 192 . و ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج 7 ص: 155 و ما بعدها .
    (2) للتوسع في ذلك انظر: ابن كثير : البداية و النهاية ، الحوادث ما بين سنتي: 700-728ه .
    (1/138)
    ________________________________________
    و رابعا إن ابن خلدون كان سلبيا في موقفه من انتشار التقليد و التمذهب بين المسلمين ، فسكت عن سلبياتهما ، و بررهما و جوّزهما ، و أقرهما ، فلم يذكر أن انتشارهما بين العامة و الخاصة هو أمر مذموم ،و فيه تربية على العجز و السلبية، و تعطيل للطاقات ،و محاصرة للعقول الحرة ، و فيه مخالفة للنصوص الشرعية التي حثت على الاجتهاد و ذمت التقليد ،و فيه أيضا مخالفة لما كان عليه السلف الأول والأئمة الأربعة . حتى إنه عندما تطرق لموضوع كثرة التآليف في العلوم و إعاقتها للتحصيل العلمي ،و تكلّم عن بعض المصنفات الفقهية المالكية ،و ذكر أنها معقدة و معيقة للحفظ و الفهم(1) ، لم يشر إلى أن من أسباب هذه الظاهرة هو هيمنة التقليد و التعصب المذهبيين على أهل العلم في زمانه.
    و سكت أيضا عن الآثار السلبية المدمرة التي ترتبت عن انتشار التقليد المتمذهب بين المسلمين ، منها أنه كان سببا في انقسام أهل السنة إلى طوائف متنافرة متناحرة ، و جرهم إلى الشتم و التكفير ،و اللعن و الطعن ، و الاقتتال و المقاطعة ، حتى لا يصلي بعضهم وراء بعض(2) .و أورثهم انحطاطا و تخلفا ،و جهلا و تعصبا،و بعدا عن الكتاب و السنة ،حتى صارت مذاهبهم كأنها ديانات برأسها(3).و أخذ من علمائهم جهودا و أوقاتا كثيرة خدمة للتقليد و التعصب ، و صرفهم عن التدبر في آيات القرآن و الآفاق و الأنفس ، لاكتشاف سنن الكون و الاجتماع و التاريخ .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 454 .
    (2) انظر : ابو شامة : ذيل الروضتين ص : 18 . و السبط بن الجوزي : مرآة الزمان ، ج 8 ص : 414 .و ابن كثير: المصدر السابق ج 12 ص : 249 ، و ج 13 ص :119 ، 120 .و ابن الجوزي : المنتظم ج 10 ص: 22 ، 33 . و ابن تيمية : خلاف الأمة في العبادات و مذاهب أهل السنة الجزائر دار الشهاب 1988 ، ص : 111 ، 113 .
    (3) السيد سابق : فقه السنة ، ج 1 ص : 10 .و جابر فياض العلواني : أدب الاختلاف في الإسلام ص : 147 .
    (1/139)
    ________________________________________
    و قد يتساءل بعض الناس : ألم يكن للتقليد المذهبي من إيجابيات ؟ أقول أولا : إن التقليد عجز و نقص و سلبية، لا يليق بأهل العلم ، و قد ذمه الشرع ،و نفر منه السلف الأول . ثانيا أنه لو بقي في إطاره المحدود ، كوسيلة لتعليم العوام و تربيتهم ، دون تمذهب و تعصب ، لكان فيه خير لهم و للمجتمع ، لكن فرضه على الناس بما فيهم أهل العلم ، قلب الوضع رأسا على عقب ، فأصبحت سلبياته كثيرة و مدمرة للفرد و المجتمع،و إيجابياته قليلة جدا ، لا تكاد تظهر .
    خامسا : موقف ابن خلدون من العرب:
    أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
    فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب(1) ، فهل قوله هذا صحيح ؟
    لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
    __________
    (1) فاروق النبهان : الفكر الخلدوني ، ص: 370 .
    (1/140)
    ________________________________________
    و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- . و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية(1) .
    و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه(2) . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
    و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم (3) . و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
    __________
    (1) الألباني: الأحاديث الصحيحة ، ج 5 / 2244 .
    (2) المقدمة ، ص: 118 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 119 .
    (1/141)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم(1) . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه .
    و أما عن الأحكام التي أصدرها ابن خلدون في حق العرب ، فسنذكر منها ثلاثة ، أولها إنه قال : (( إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط(2) )) ، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم ، فلا يطلبون إلا الأمور السهلة ،و لا يركبون المخاطر ،و لا يذهبون إلى المزاحفة و المحاربة إلا دفاعا عن النفس(3) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 119 ، 120 .
    (2) البسائط التي يقصدها ابن خلدون هي الأمور غير المعقدة السهلة التناول ،و هو قد فسرها بذلك عندما شرح ذلك الحكم الذي أطلقه في حق العرب . المقدمة ، ص: 117 . و علي بن هادية : القاموس الجديد ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ص: 149 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 117 .
    (1/142)
    ________________________________________
    و أقول : أولا إن حكمه هذا خاطئ من أساسه ،و لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب ، شرعا و لا عقلا ، و ليس له في زعمه هذا دليل شرعي ، و لا عقلي ،و لا تاريخي ، فكيف سمح لنفسه بإصدار هذا الحكم المطلق الجائر المضحك ؟ ، نعم ليس له في ذلك دليل صحيح ، و هو حكم لا يصح إصداره في حق أي أمة من الأمم ، لأن كل الشعوب لها القابلية و الاستعداد للنهوض و السقوط ، و الانتصار و الانهزام ، و هي المتحكمة في زمام أمرها ، فإذا اجتهدت و توحدت انتصرت و حققت أهدافها ، و إذا تناحرت و تكاسلت و اختلفت فيما بينها ، انهزمت و ذهب ريحها و فقدت مكانتها بين الدول ، قال تعالى (( و تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/ 140-، و أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل و مضحك ، بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة .
    و ثانيا إنه لو كان العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة ، في قوله تعالى (( كنتم خير امة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر))-سورة آل عمران/110- . و ما حملهم أيضا مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء ، و ما وعدهم أيضا بالنصر المؤزر ،و التمكين في الأرض ، في قوله تعالى : (( و عد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ،و ليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم ))-سورة المائدة /9- . و لاشك أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات ، و لا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام ، و لا يعدها بتلك الانتصارات و التمكين في الأرض، و بما أنه وصفها و وعدها بذلك ، فلا شك أنها أهلا لذلك .
    (1/143)
    ________________________________________
    و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
    و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري(1) .
    و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 118 – 119 .
    (1/144)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
    و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
    (1/145)
    ________________________________________
    و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
    و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة))، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم ))(1) .
    و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 119 .
    (1/146)
    ________________________________________
    و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
    و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان .
    سادسا : في دفاعه عن هارون الرشيد و المأمون و مدحه لهما :
    دافع ابن خلدون عن الخليفتين هارون الرشيد و ابنه المأمون و مدحهما بحماس ، فقال عن الأول : إن ما يُروى من معاقرته للخمر و سكره مع الندماء، هو مُنكر لم يثبت ، فقد رُوي أنه كان مصاحبا للعلماء و الأولياء ، و يغزو عاما و يحج عاما ، و يصلي في اليوم مائة ركعة . و مما يُبعد ذلك عنه أنه كان قريبا من جده أبي جعفر المنصور و ابنه المهدي ، فجده كانت له مكانة في العلم و الدين ، و والده كان يتورع في كسوة جديدة لعياله ، فكيف يليق بالرشيد معاقرة الخمر ،و هو قريب من جده و أبيه ، و حتى أشراف العرب كانوا يتورعون من شرب الخمر في الجاهلية ،و الرشيد و أباؤه كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ، و يتصفون بالمحامد و أوصاف الكمال(1).
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 14 .
    (1/147)
    ________________________________________
    و ردا عليه أقول: أولا إن مسألة تضارب الروايات في أخلاق هارون الرشيد و سلوكياته معروفة في كتب التراجم و التواريخ ، و هي تحتاج للنقد و التحقيق إسنادا و متنا ، للوصول إلى أمر صحيح في هذه القضية . لكن الذي يهمنا نحن هنا ليس إثبات ذلك أو نفيه ، و إنما الذي يهمنا هو هل أصاب ابن خلدون في طريقة استدلاله في دفاعه عن الرشيد و مدحه له ، أم لم يُوفق في ذلك ؟ ، فهو لم يحقق روايات ،و لا جمع كل ما ثبت عن سلوكيات الرشيد لكي نحتكم إليها ، و لا احتكم إلى النصوص الشرعية ، و إنما معظم ما قاله هو دعاوى و تهويلات و مزاعم وجهها كما يريد ، و الدعوى –كما نعلم- لا يعجز عنها أحد ، أما الدليل الصحيح فلا يقدر على الإتيان به كل أحد .
    ثانيا إن أحوال الرشيد المروية عن ترفه و زهده و لهوه ، هي أحوال كلها تدخل في إطار الإمكان العقلي ، ،و لا نستطيع ترجيح حالة على أخرى دون دليل صحيح ، لأنه لا يغيب عنا أن كثيرا من الخلفاء و الملوك و الأمراء عُرفوا في تاريخنا الإسلامي بجمعهم بين مظاهر التدين و اللهو و الانحراف ، لأسباب و أغراض كثيرة ، الله أعلم بها و بنوايا أصحابها . و عليه فإن احتجاج ابن خلدون بما رُوي عن زهد هارون الرشيد ليس دليلا قاطعا لإثبات ما ذهب إليه ، لأنه رُويت عنه أيضا أحوال أخرى مخالفة لذلك ، و الفيصل هنا هو تحقيق كل ما رُوي عن أخلاقه ، قبل اتخاذ موقف نهائي منه ؛ مع العلم أن جمع الرشيد بين تلك المظاهر يبقى ممكنا في حقه ، و ليس مستحيلا ، لأنه قد يُثبت التحقيق العلمي صحة تلك الروايات على اختلافها .
    (1/148)
    ________________________________________
    و ثالثا إن قوله بأن مما يدفع عن الرشيد تلك الاتهامات قربه من جده و ابنه المعروف عنهما بعض التدين ، هو قول لا يصلح أن يكون دليلا ، لأن الإيمان و التقوى و الزهد و الصلاح ، هي صفات لا تُورث، و إنما هي تُكتسب بالإخلاص و اليقين و العمل الصالح ، و ليس بالضرورة أن الرجل الصالح يكون أهله مثله صالحين ، فها هو نوح-عليه السلام- كانت زوجته و ابنه غير صالحين ، و لوط-عليه السلام- لم تكن زوجته صالحة ، و إبراهيم –عليه السلام- كان والده كافرا ، و رسولنا الكريم-عليه الصلاة و السلام- كان عماه أبو طالب و أبو لهب كافرين .
    و رابعا إن دفاعه عن هارون الرشيد في مسألة معاقرته للخمر ، هو دفاع ضعيف جدا ، لأنه لا يُوجد مانع يمنعه من شرب الخمر إلا التقوى ، أما الاحتجاج بما كان عليه جده فهذا ليس دليلا أصلا . و أما قوله إن أشراف العرب كانوا يتورعون عن شرب الخمر في الجاهلية ، فهذا غير صحيح ، فقد كان العرب-في الغالب الأعم- يشربونها هم و أشرافهم و مواليهم و عبيدهم ، و حتى الصحابة كانوا يشربونها قبل التحريم ، و من المعروف أن قريشا لما خرجت إلى غزوة بدر ، خرج معها كل أشرافها ، و قال أبو لهب –لما جاء خبر نجاة العير- و هو من كبار أشرافها ، قال : (( و الله لا نرجع ، حتى نرد بدرا ، فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزور ، و نطعم الطعام ، و نسقي الخمر ، و نعزف القيان ))(1). و قد شرب أحد الصحابة الخمر حتى بعد تحريمها , و أُقيم عليه الحد(2) . و عليه فإن شرب هارون الرشيد للخمر ممكن ، و دليل ابن خلدون في دفعه عنه ضعيف .
    __________
    (1) البوطي: فقه السيرة ، ص: 157 .
    (2) البخاري: الصحيح ، باب ما يُكره من لعن شارب الخمر و أنه ليس بخارج عن الملة ، ج 6 ص: 2489 .
    (1/149)
    ________________________________________
    و خامسا إن قوله بأن الرشيد و أجداده كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ،و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال ، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، فقد يصدق على بعض سلوكياتهم ، أما عامتها فلا يصدق عليها بحال ,و الشواهد على ذلك كثيرة ، منها إنهم من أجل الملك قتلوا بحق و بغير حق، و سفكوا الدماء ،و هتكوا الأعراض، و نقضوا العهود، و ارتكبوا مجازر رهيبة ، قُتل فيها خلق كثير لا يُحصيهم إلا الله تعالى(1) . و معروف عنهم-على ما يُروى- أنهم أعطوا الأمان للأمويين بالعهود و المواثيق ، ثم لما جمعوهم نقضوها و قتلوهم شر قتلة(2) .
    و الشاهد الثاني هو أن العباسيين لما استولوا على الحكم بالقوة ، توارثوه فيما بينهم ، و هذا ليس سلوك من يتجنب المذمومات في دينه و دنياه ، لأنهم أولا أخذوا الحكم بالقوة و لم يعطه لهم المسلمون . و ثانيا إنهم توارثوا الحكم و حرموا المسلمين من حقهم الشرعي في اختيار من يحكمهم ، لمدة 524سنة ، و هو حق أعطاه إياهم الشرع الحكيم . و ثالثا إنهم أداروا ظهورهم للعلويين الذين تعاونوا معهم ،و قتلوا كثيرا منهم بحق و بغير حق .
    و أما موقفه من المأمون ، فقال مدافعا عنه : (( و أين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه و علمه ، و اقتفاء سنن الخلفاء الراشدين من آبائه ،و أخذ بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة ، و مناظرته للعلماء و حفظه لحدود الله تعالى في صلواته و أحكامه ، فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهزئين ))(3) . و قوله هذا غير صحيح في معظم جوانبه ، و هو من مجازفاته الغريبة ، و الشواهد الآتية تثبت ذلك قطعا .
    __________
    (1) الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 1 ص: 158 .
    (2) انظر مثلا : عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين و آثارهم في الأندلس ،بيروت ، دار النهضة العربية ، 1981، ص: 174، 175 .
    (3) نفس المصدر ، 16 .
    (1/150)
    ________________________________________
    أولها إن قوله بأن المأمون أخذ بسير الخلفاء الراشدين الأربعة ،و تسميته لبعض أجداده بالخلفاء الراشدين ، هو قول مبالغ فيه جدا ، و لا يصدق عليه-أي المأمون- في أهم ما تميز به الخلفاء الراشدون ، فهم وصلوا إلى الحكم بالشورى و البيعة و الاختيار ، و أما العباسيون فوصلوا إليه بسفك الدماء ، ثم توارثوه بدون اختيار من المسلمين و لا مشورة منهم ، و فرضوا أنفسهم عليهم بالقوة ؛ فدولتهم دولة ملك لا دولة خلافة ، و أنما سميت خلافة مجازا و تجاوزا و تضليلا ، بدليل أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- صحّ عنه أنه قال : (( اقتدوا بالذين من بعدي ، أبو بكر و عمر ))، و قال (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) ، و (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون بعد ذلك ملكا ))(1) . فدولة بني العباس مُستثناة من الخلافة الراشدة الممدوحة المطلوب الاستنان بها ، فهي إذن مذمومة . و كيف يكون المأمون على سنة الخلافة الراشدة ،و قد أعلن جهارا نهارا أن أفضل الناس بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- ، هو علي ابن أبي طالب(2) ، مخالفا بذلك النصوص الشرعية ، و أقوال علي و غيره من الصحابة ، و حقائق التاريخ الثابتة ، و أقوال السلف ، في أن أفضل الناس بعد رسول الله هو أبو بكر ثم عمر(3) .
    __________
    (1) الألباني: الصحيحة ، حديث رقم : 1142 ، 2735 . سنن أبي داود من تحقيق الألباني ، حديث رقم : 4607 .
    (2) ابن كثير : البداية ، ج 10 ص: 177 .
    (3) للتوسع في هذا الموضوع انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية .
    (1/151)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أ ابن خلدون مدح المأمون في علمه و مناظراته ، و سكت عن انحرافاته الفكرية ،و أعماله الخطيرة التي أثّرت سلبا على الحياة العلمية عند المسلمين ، فقد كان معتزليا يقدم الشرع على العقل ، و ينفي صفات الله تعالى ، و ينكر تكلّمه ، مخالفا بذلك صريح القرآن الكريم و السنة النبوية ،و ما كان عليه السلف الصالح(1) . و هو الذي أشرف على ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ، و صرف عليها أموالا طائلة من أموال الأمة ، فترجم كثيرا من ضلالات و كفريات و انحرافات اليونان و الفرس و الهنود(2) ، و لم يُفرق بين ما ينفع الأمة و ما يضرها ، و ما يصح ترجمته و ما لا يصح ، فكان عمله في عمومه كارثة على جوانب كثيرة من الحياة الفكرية عند المسلمين ، ضرره أكثر من نفعه ، فأحدث نزاعا مريرا بين علماء الإسلام ، و الفلاسفة المشائين المسلمين ، ما تزال آثاره السلبية قائمة إلي يومنا هذا .
    __________
    (1) عن أعمال المأمون انظر البداية و النهاية ، الحوادث بين سنتي : 212 – 218 هجرية . و عن عقائد السلف انظر مثلا : صديق حسن خان : قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر .
    (2) للتوسع في ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ،و أشهر الذين ترجموها أنظر : ابن النديم : الفهرست . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء .
    (1/152)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو أن ابن خلدون بالغ في مدح المأمون في دينه و سلوكه ، و نسي الأخطاء و الجرائم التي ارتكبها في حق الرعية ، فقد ذهبت طائفة منهم ضحية سياسته الخرقاء ، عندما فرض على الناس القول بخلق القرآن بالقوة ، و من عارضه و لم يستجب له عاقبه ، فامتحن العلماء ، و سجن بعضهم ، و بعضهم مات في السجن ، و عندما حضرته الوفاة أوصى خليقته المعتصم بمواصلة امتحان الناس بالقول بخلق القرآن(1) .
    و الشاهد الرابع هو أن ابن خلدون كال المديح للمأمون و وصفه بصفات لا يستحقها ، و نسي أو تناسى أنه –أي المأمون- كان من رؤوس المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، و كبار علماء السلف قد ذموهم ، و كفروا القائلين بخلق القرآن ، منهم : سفيان الثوري، و سفيان بن عيينة ، و يحيى بن معين ، و وكيع بن الجراح، و احمد بن حنبل، و يزيد بن هارون ، و عبد الله بن المبارك ،و علي بن المديني ، و غير هؤلاء كثير(2) ، فتدبر ذلك . و عليه فلا يصح لابن خلدون المبالغة في مدح المأمون و إلحاقه بالخلفاء الراشدين في الأخذ بسيرهم ،و قد ذكرنا طرفا من أخطائه و جرائمه سكت عنها ابن خلدون .
    سابعا : دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي:
    __________
    (1) انظر مثلا : ابن كثير: البداية ، ج 10 ص: 267 . و الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، ج 8 ص: 216 ، ج 19 ص: 313 ، ج 24 ص: 299، 300 .
    (2) انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 12 ص: 506 .و تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 428 . و عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 1ص: 102، 103 ، 108، 110 ، 111، 112 ، 115 ، 122، 124 ، 128 .
    (1/153)
    ________________________________________
    دافع ابن خلدون عن نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله العلوي، و قال إن الطاعنين فيه قالوا إن إدريس هذا هو ابن مولاهم راشد ،و ليس ابن إدريس الأكبر ، و هؤلاء الطاعنون في نسبه هم العباسيون و من أيدهم ، محاولة منهم لوضع حد لدولة الأدارسة العلوية بالمغرب الأقصى ، ثم قال ابن خلدون : (( على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان ، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيرا ، ففراش إدريس طاهر من الدنس ،و منزه عن الرجس بحكم القرآن))(1) .
    و ردا عليه أقول: أولا إنني لا أناقش مسألة صحة نسب إدريس من بطلانه ، و إنما أناقش ابن خلدون و أرد عليه في طريقة الاستدلال التي اتبعها في إثبات صحة نسب إدريس، لأنني أرى أن دليله كان ضعيفا جدا، و استدلاله بالقرآن كان خطأ.
    و ثانيا إن آية التطهير لا تدل على ما ذهب إليه ابن خلدون ، و يجب فهمها ضمن سياقها الذي وردت فيه ، فالله تعالى يقول: (( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، و قلن قولا معروفا ،و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، و أقمن الصلاة و أتين الزكاة ، و أطعن الله و رسوله، إنما يُريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا ،و اذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة ، إن الله كان لطيفا خبيرا)) –سورة الأحزاب/32-34 –
    فهذه الآيات خاطبت زوجات الرسول-عليه الصلاة و السلام- و أمرتهن بجملة أوامر، فبدأها الله تعالى بالأوامر و ختمها بها ، و أثناءها قال الله تعالى: (( و إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا )) فجاءت الآية بصيغة المذكر لأن رسول الله داخل معهن ، و هو أول أهل البيت ، كما أن الآية قالت أهل البيت و لم تقل آل البيت ، و الأهل أخص ،و الآل أعم ، فالآية ليس فيها توسيع لتشمل الآل .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 20 .
    (1/154)
    ________________________________________
    و واضح أيضا أن آية التطهير مُعلق تحقيقيها بتطبيق الأوامر و لا تتحقق إلا بها ، لذلك قال تعالى : (( إنما يُريد الله ليذهب )) ، فهذه الإرادة متوقفة على الالتزام بتلك الأوامر ، فمن التزم بها طهّره الله تعالى ،و من لم يلتزم بها لا يُطهره .
    و هذا التطهير الموعود ليس خاصا بأهل البيت فقط ، بل هو يعم كل المسلمين ، فكل مسلم قام بتلك الأوامر يُطهره الله تعالى ، لقوله : (( خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها ))-سورة التوبة/ 103- ،و (( و لكن يُريد الله ليطهركم و يتم نعمته عليكم )) –سورة المائدة /6- .
    و عن تلك الآية يقول ابن تيمية ، إنها كقوله تعالى(( ما يُريد الله ليجعل عليكم من حرج ،و لكن يريد ليطهركم ،و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) ، و الله تعالى لم يُخبرنا أنه طهر جميع آل البيت ، و أذهب عنهم الرجس ، فإن هذا كذب على الله ، فكيف و نحن نعلم أن من بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب، و لا أذهب عنهم الرجس . و معنى تلك الآيات هو أن الله تعالى يحب ذلك لعباده ، و يرضاه لهم ، و يأمرهم به ، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب ، و من لم يفعل لم يحصل له ذلك ، كقوله تعالى (( يريد الله ليُبين لكم ،و يهديكم سنن الذين من قبلكم ،و يتوب عليكم ))(1)-سورة النساء/26- .
    و بناء على ذلك فإن ما ذهب إليه ابن خلدون غير صحيح ، عندما زعم أن إدريس بن إدريس مُطهر سلفا ، لأنه من آل البيت ، و هذا فهم خطأ لآية التطهير ، فلا يتطهر إلا من آمن و اتقى ، سواء كان من أهل البيت ، أو من آل البيت ، أو من أبناء الصحابة ، أو من باقي المسلمين .
    __________
    (1) منهاج السنة النبوية ، ج 2 ص: 173 .
    (1/155)
    ________________________________________
    و ثالثا إن مما يُبطل زعم ابن خلدون من طهارة آل البيت لمجرد أنهم من آل البيت ، هو أن التاريخ يشهد بأن في آل البيت الصالح و الطالح، و أنهم تقاتلوا فيما بينهم مرارا ، و ما حدث بين العلويين و العباسيين من اقتتال و خيانات في صراعهم على الملك معروف في التاريخ لا يحتاج إلى توثيق . و ما ارتكبه العباسيون من قتل وسفك للدماء ، للوصول إلى السلطة معروف في كتب التواريخ ، فلما استحوذوا عليها توارثوها و حرموا المسلمين من حقهم في اختيار من يحكمهم ، و قطعوا الطريق أمامهم لممارسة ذلك الحق المكفول شرعا .
    ثامنا : دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين:
    دافع ابن خلدون عن العبيديين الإسماعيليين المعروفين بالفاطميين ، في ادعائهم للنسب العلوي ،و صحح انتسابهم إليه ، و خطّأ العلماء الذين أنكروا ذلك ، و قال إنهم غفلوا عن الشواهد و الأدلة التي تُثبت صحة دعوى العبيديين في انتسابهم لعلي بن أبي طالب(1) . و ذكر خمسة أدلة لإثبات ما ذهب إليه ، نذكرها فيما يأتي تباعا .
    أولها إنه قال إن العبيديين لو كانوا كاذبين مدعين للنسب العلوي لانكشف أمرهم سريعا ، ثم قارن حالهم بالقرامطة في ادعائهم للنسب العلوي ، كيف تلاشت دعوتهم ،و تفرق اتباعهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، فساءت عاقبتهم و ذاقوا وبال أمرهم ، فلو كان حال العُبيديين كحال القرامطة لأنكشف أمرهم بسرعة(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 17 ، 18 .
    (2) نفسه ، ص: 17 .
    (1/156)
    ________________________________________
    و ردا عليه أقول : أولا لا يوجد دليل من النقل و لا من العقل يقول إن الكاذب لا بد أن ينكشف أمره بسرعة في هذه الدنيا و يعرفه الناس و يفشل في تحقيق مراده ، فكم من أكاذيب و أباطيل موجودة في الأديان و المذاهب و الدعوات و الأحزاب السياسية ، و لا يعرفها أكثر أتباعها , و لم ينكشف أمرها لديهم ، و هم يعتقدون أنها صحيحة و يموتون من أجلها ، و لهذا أخبرنا الله تعالى أنه هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه بحق و بغير حق ، رغم أنه سبحانه أنزل كتابه المعجز المؤيد بالبراهين الدامغة ، لأن الكذابين نجحوا في نشر أكاذيبهم لحجب نور الإسلام عن أكثر شعوب العالم ، و هي شعوب مُغيبة و مُخدرة ، و مُغرر بها ، و لا تعلم حقيقة الإسلام ، و هي على ضلال بسبب أعمال هؤلاء الماكرين الأفاكين الذين نجحوا قرونا طويلة في ممارسة لعبتهم القذرة في صد شعوب العالم عن الإسلام ، باستخدام الكذب و الشبهات و المغالطات و غيرها من أساليب الصد عن سبيل الله تعالى .
    (1/157)
    ________________________________________
    و ثانيا إن ما قاله عن القرامطة من أنهم لما كانوا كاذبين في ادعائهم للنسب العلوي ، تلاشت دولتهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، هو كلام غير صحيح ، و مغالطة مفضوحة ، لأن القرامطة أسسوا دولة كغيرهم من كثير من مؤسسي الدول ، فاستمرت دولتهم نحو قرن من الزمن ، بجنوب الجزيرة العربية ، و حققوا انتصارات كثيرة على العباسيين و شكّلوا عليهم خطرا داهما ، حتى إنهم دخلوا الحرم المكي سنة 317 ، و قتلوا بداخله الحجيج ، و أخذوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم بالبحرين ،و بقي عندهم عدة سنوات ، و لم تقدر الدولة العباسية على استرجاعه ، و لا على القضاء عليهم ، و قد وصل نفوذ هؤلاء إلى بلاد الشام(1) . فهؤلاء على كفرهم و زندقتهم دامت دولتهم نحو قرن من الزمن ، و هي فترة ليست بالقصيرة ، فدول أخرى غير مطعون في نسبها عاشت نفس الفترة ، فالدولة الأموية عاشت 91 سنة ، و الدولة المرابطية عاشت نحو 91 سنة ، ، و أكثر من ذلك ، فإننا نجد الدولة الراشدة المؤمنة لا يزيد عمرها عن 30 سنة ، و دولة الصحابي عبد الله بن الزبير استمرت نحو13 سنة .
    __________
    (1) أخبار هؤلاء معروفة في كتب التواريخ ، انظر مثلا : ابن كثير : البداية ، ج11 ص: 73 .
    (1/158)
    ________________________________________
    و ثالثا إن قوله بأن العبيديين لو كانوا كاذبين لانكشف أمرهم سريعا كما انكشف حال القرامطة ، هو قول غير صحيح ، و من مغالطاته ، لأن العبيديين هم أيضا انكشف أمرهم و خبثهم و زندقتهم ضلالهم بسرعة ، فإنهم لما ظهرت دولتهم بالمغرب الإسلامي(سنة 296ه) و أظهروا ادعاءهم للنسب العلوي ، أنكر عليهم ذلك العارفون بالنسب العلوي بمكة و المدينة ، و قد كان هذا (( الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين ، و في أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يُدلّس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه ))(1) . و قد ألف الزاهد الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن الحسن العلوي الدمشقي(ت ق: 4ه) كتابا عن العلويين ، نفى فيه زعم عبيد الله المعدي انتمائه للبيت العلوي ، و بالغ في نفيه ، و قال إنه دعي و نحلته خبيثة ، مدارها على المخرقة و الزندقة(2) .
    و ضلالاتهم و منكراتهم هي أيضا ظهرت مبكرا ، فما إن أسسوا دولتهم حتى أظهروا ذلك جهارا نهارا ، فسبوا الصحابة و اضطهدوا أهل السنة ، و قتلوا منهم الآلاف ، مما حدا بعلماء السنة بالقيروان إلى إصدار فتوى بارتداد و زندقة هؤلاء ،و الدعوة إلى حمل السلاح لمقاومتهم(3) .
    و رابعا إنه لا توجد علاقة حتمية بين الكذب و سرعة الانكشاف ، فقد ينكشف الكذب و قد لا ينكشف لمعظم الناس و يستمر قرونا عديدة ، فالأرض تموج بالعقائد و المذاهب الباطلة ، و لم ينكشف كذبها و زيفها لمعظم أتباعها ، كما هو حال اليهود و النصارى و الهنود و البوذيين ، و معظم الفرق الإسلامية على نفس ذلك الحال ، لأن القائمين عليها هم على قدم وساق لضمان استمرار أكاذيبهم و مفترياتهم .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ج 11 ص: 421 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269-270 .
    (3) نفس المصدر ، ج 15 ص: 151 .
    (1/159)
    ________________________________________
    و خامسا إنه لا توجد علاقة حتمية بين سرعة السقوط و الكذب ، و لا بين طول الأعمار و الصدق ، لكن مقتضى زعم ابن خلدون هو وجود هذه العلاقة ، و هي بلا شك علاقة باطلة بدليل الشواهد الآتية ، منها أن هناك رجالا صادقين مؤمنين أسسوا دولا فلم تُعمر طويلا ، كدولة الراشدين ،و دوله الصحابي عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- . و أن هناك رجالا كاذبين هم أيضا أسسوا دولا لم تعمر طويلا ، كدولة بابك الخرمي ،و دولة صاحب الزنج .
    و منها أيضا دولة الحشاشين الإسماعيلية بقلعة ألموت ببلاد فارس، كانت دولة رافضية ضالة منحرفة مفترية على الله و رسوله و المؤمنين ، و مع ذلك عمرت أكثر من 170 سنة . و كذلك دولة برغواطة البربرية بجنوب المغرب الأقصى ، فقد كذب ملوكها على الله و رسوله الأكاذيب الكبار ، و فيهم من ادعى النبوة ، و أحلوا لرعيتهم المحرمات ،و شرعوا لهم صلوات من أهوائهم ، و مع هذا دامت دولتهم نحو 300 سنة(1) ، على كفرها و زندقتها ، و قد عمرت أكثر من دولة العبيديين الإسماعيليين ، التي دامت 271سنة .
    و يتبين مما ذكرناه أن التاريخ يُثبت عكس ما زعمه ابن خلدون ، و هو أن الكذابين هم الذين عمرت دولهم مدة طويلة ، و أن الصادقين المؤمنين لم تعمر دولهم –على قلتها-إلا قليلا ، حتى إن تاريخنا الإسلامي الطويل ، على كثرة دوله لم تتكرر فيه الدولة الراشدة إلى يومنا هذا .
    __________
    (1) ابن خلدون : العبر ، ج6 ص: 276، و ما بعدها . و السلاوي: الاستقصاء ، ج 1 ص: 170 .
    (1/160)
    ________________________________________
    و أما الدليل الثاني –الذي اعتمد عليه ابن خلدون – فمفاده أن مما يدل على صحة نسب العبيديين في ادعائهم للعلوية ، هو أن أتباعهم بعد سقوط دولهم ظلّوا يوالونهم ،و خرجوا مرارا للمطالبة بالخلافة ، و يقولون بالوصية لأئمتهم ، فلو ارتاب هؤلاء في (( نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم ، فصاحب البدعة لا يُلبس في أمره ، و لا يشبه في بدعته ،و لا يكذب نفسه فيما ينتحله ))(1) .
    و قوله هذا غير صحيح ،و فيه تمويه و مغالطة ، تُبطله المعطيات الآتية : أولها إن كل أصحاب الأديان و المذاهب ، ما صح منها و ما بطُل ، لا يرتابون-في غالبهم- في عقائدهم و يركبون الأهوال من أجلها ، لكن هذا لا يدل بالضرورة على أن أفكارهم صحيحة ، لأن الحق لا يُعرف –بالضرورة- بتلك التصرفات ، و إنما الحق يُعرف أساسا بذاته و بالدليل الذي يحمله ، لذا فإن ثورة هؤلاء العبيديين للمطالبة بعودة دولتهم ليست دليلا على صحة نسبهم ، و إنما قد يدل ذلك على صدق ولائهم للعبيديين ، و هذا ليس دليلا على صحة نسب هؤلاء ، لأن كل الأديان و المذاهب لها أتباع مخلصون لها ، لكن إخلاصهم هذا ليس دليلا على صحة تلك العقائد و صوابها ، فكم من طوائف و ملل ضالة متحمسة لباطلها و ضلالها ! ، كحال اليهود في فلسطين ، فهم يدافعون عن دولتهم و يموتون من أجلها ،و مع ذلك فهم مغتصبون لفلسطين ، و لا يدل تعصبهم و موتهم من أجلها ، أنهم أصحاب حق في فلسطين .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 17 .
    (1/161)
    ________________________________________
    و ثانيها إن صاحب البدعة الضال المنحرف الكذاب قد يلتبس أمره على كثير من الناس ، فيصدقونه و يُؤمنون بفكره ، و يضع لهم عقائد و تشريعات و ينشئ لهم مذهبا جديدا مزيفا ، و مع ذلك لا ينكشف أمره عند معظم أتباعه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا قديما و حديثا ، منها السبئية ، و الخرمية ، و الإسماعيلية ، و الإثنى عشرية ، و البهائية ، و القاديانية ، و غيرها كثير ، فثورة هؤلاء الأتباع انتصارا لمذاهبهم و تحمسهم لها ليس دليلا على صحتها ، فكذلك ثورة أتباع العبيديين بمصر لاسترجاع دولتهم ، فإنها لا تدل على صحة النسب العلوي ، على حد زعم ابن خلدون .
    و الدليل الثالث مفاده أن عبيد الله المهدي الإسماعيلي لما دخل بلاد المغرب و استقر بسجلماسة عند المدراريين بجنوب المغرب الأقصى ، أرسل الخليفة العباسي إلى الأغالبة و المدراريين يُخبرهم بذلك و يحثهم على القبض على عبيد الله ، و هذا عند ابن خلدون دليل شاهد على صحة نسب العبيديين العلوي(1) . فهل ما ذهب إليه صحيح ؟ ، كلا إنه ليس حجة مقنعة ، لأن الخليفة لما سمع بانتقال عبيد الله المهدي إلى المغرب سعى إلى القبض عليه ، لأنه يمثل خطرا عليه و على الأغالبة و المدراريين على حد سواء ، لذلك أغراهم به ،و حثهم على وضع حد له ، لأنه يهدد الجميع ، و تصرّفه هذا لا يدل على صحة نسب عبيد الله المزعوم ، و قوله –أي الخليفة- لهؤلاء بأن الذي دخل بلادهم هو المهدي ، يعني أنه عرّفهم بأنه هو الذي يدعي المهدوية و يرفع شعار العلويين ،و تصرّفه هذا طبيعي و ضروري ، كان يتصرّفه مع أي خطر يتهدده من أي جهة كانت .
    و دليله الرابع هو أبيات شعرية للشاعر الشريف الراضي الشيعي العلوي ، يقول فيه :
    أليس الذل في بلاد الأعادي + و بمصر الخليفة العلوي
    مَن أبوه أبي و مولاه مولاي + إذا ضامني البعيد القصي
    __________
    (1) كتاب العبر ، ج 3 ص: 449 .
    (1/162)
    ________________________________________
    و هو –أي ابن خلدون- في اعتماده على هذا الشعر متناقض مع نفسه ، لأنه استدل هنا بشعر للراضي لإثبات صحة نسب العبيديين العلوي ، ثم هو في موضع آخر من مقدمته يُشير إلى المحضر الذي كتبه العباسيون للطعن في العبيديين المدعين للنسب العلوي ، و يذكر من بين الأعيان الذين وقّعوا على المحضر الأخوان الشيعيان الراضي و المرتضي(1) . و قد أكدت ذلك مصادر تاريخية أخرى من أن الأخوين الراضي و المرتضي كانا من الموقعين على المحضر(2) . مع العلم أنه لما انتشر ذلك الشعر بين الناس ،و تكلّموا في قائله أنكر الراضي ذلك و حلف أنه لم يقله(3) .
    و لا ندري هل تعمد ابن خلدون ذكر ذلك التناقض ، أم لم يتنبه له ؟ كما أن ذلك الشعر المنسوب للراضي ، إما أنه منحول عليه ، و إما أنه قاله نكاية في العباسيين قبل كتابة المحضر أو بعده ، بحكم العداء الموروث بين العباسيين و العلويين بسبب الحكم . مع أن موقفه الذي ذكره في المحضر هو الصحيح ، لأن أعيان بغداد من مختلف الطوائف وافقوا عليه ، و لأن الأدلة الكثيرة التي سبق ذكرها ، و التي سيأتي بعضها لاحقا ، كلها تؤيد ذلك ، و بذلك يتبين أن اعتماد ابن خلدون على ذلك الشعر في تصحيح نسب العبيديين ، هو اعتماد ضعيف جدا و لا يصح .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 30 .
    (2) انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 15 ص: 132 . و ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 .
    (3) ابن الأثير : الكامل ، ج 6 ص: 447 .
    (1/163)
    ________________________________________
    و دليله الأخير –أي الخامس- في تصحيحه لنسب العبيديين ، هو قوله بأن الانقياد للعبيديين و ظهور كلمتهم هو أدل شيء على صدق نسبهم(1) . و دليله هذا هو أيضا غير صحيح ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الصدق و قيام الدول ،و بين الكذب و عدم نجاحها ، لأن قيامها يخضع لأسباب كثيرة جدا ، أهمها حسن التنظيم ،و توفر القوة المادية و المعنوية ، و حسن اختيار الظروف المناسبة داخليا و خارجيا . كما أنه لا يوجد دليل نقلي و لا عقلي و لا تاريخي يدل على أن ظهور الدول و انتصارها يدل بالضرورة على أنها و أصحابها على صدق و صواب ، فالله تعالى يعطي الدنيا لمن يُحب و لمن لا يُحب ، قال سبحانه (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك ،و ما كان عطاء ربك محظورا )) –سورة الإسراء /20- ،و (( تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/140- ، لكنه سبحانه لا يُدخل الجنة إلا من يُحب، و لا يُخلّد في النار إلا من لا يُحب ، و هذا معروف من دين الإسلام بالضرورة .
    و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا ، فمن الدول التي أسسها كذابون ضالون منحرفون : دولة القرامطة ، و دولة الحشاشين ، و دولة العبيديين ، و دولة البرغواطيين ، و دولة اليهود . و منهم أيضا كذابون فشلوا في تكوين دول لهم ، كزعيم الحركة الرواندية ، و صاحب الزنج ، و أستاذ سيس ،في ثوراتهم على العباسيين في القرنين الثاني و الثالث الهجريين .
    و في مقابل هؤلاء هناك صادقون كثيرون أسسوا دولا ، كدولة الخلافة الراشدة ، و دولة عبد الله بن الزبير ، و دولة الزنكيين ، و دولة الأيوبيين ، و دولة المرابطين ، و منهم أيضا صادقون فشلوا في تكوين دول لهم ، كالحسين –رضي الله عنه- ،و العلويين السنيين الذين فشلوا في خروجهم على الأمويين و العباسيين .
    __________
    (1) كتاب العبر ، ج 3 ص: 449، 450 .
    (1/164)
    ________________________________________
    و النصارى في زماننا هذا ظاهرون ،و يُهيمنون على العالم ، و يزعمون أنهم على دين المسيح-عليه السلام- ، فهل هذا الظهور دليل على صدق ديانتهم و صوابها ؟ ، طبعا لا ، لأنهم على دين محرف بشهادة القرآن الكريم ،و السنة النبوية ، و البراهين العقلية و العلمية الكثيرة ، فالظهور الدنيوي إذن ، ليس دليلا بالضرورة على الصدق و لا على الكذب ، و إنما صدق الدعوات و صحة أفكارها يقوم أساسا على الحق الذي تحمله المؤيد بالأدلة النقلية و العقلية و العلمية الصحيحة .
    و بذلك يتبين أن أدلة ابن خلدون في إثبات صحة انتساب العبيديين للعلويين ، هي كلها لا تصح ، و فيها كثير من المغالطات و التمويهات و المخالفات لكثير من حقائق المنقول و المعقول و التاريخ . و في مقابل ذلك نجد أدلة إثبات كذب هؤلاء في انتسابهم للعلويين ، قوية و راجحة ، نذكر منها ما يأتي :
    أولها إن كثيرا من البيوتات العلوية أنكرت ما زعمه العبيديون من انتسابهم للعلويين ، و قالت إنهم خوارج كذبة(1) . و ثانيها هو إن هؤلاء العبيديين –لما أقاموا دولتهم- أظهروا كفرا بواحا ،و ادعى بعضهم الألوهية ، و سبوا الأنبياء و الصحابة ،و سفكوا الدماء ، و أحلوا الخمر و أباحوا الفروج(2) . و من كان هذا حاله فهو كذاب في انتسابه للإسلام ، و كذاب أيضا في زعمه أنه على منهاج علي بن أبي طالب و بنيه- رضي الله عنهم- ، فما كان علي و أولاده على مذهب هؤلاء العبيديين الزنادقة ، و إنما كان هو و بنوه على مذهب أهل السنة و الجماعة . و إذا كان ذلك هو حال العبيديين فإنهم على الأرجح هم أيضا كذبة في انتسابهم للعلويين .
    __________
    (1) ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 . و الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269 – 270 .
    (2) ابن كثير : نفسه ، ج 11 ص: 421 .
    (1/165)
    ________________________________________
    و الدليل الثالث هو أن العبيديين لما كوّنوا دولتهم ارتكبوا في حق أهل السنة بالمغرب الإسلامي جرائم نكراء ، و أقاموا لهم دار النحر ذبحوهم فيها كالكباش ظلما و عدوانا ، مما دفع علماء القيروان إلى إصدار فتوى بكفرهم و زندقتهم و الدعوة لحمل السيف لجهادهم(1) . فهذه التصرفات التي قام بها هؤلاء العبيديون ، هي دليل قوي على أنهم ليسوا من العلويين ، لأن العلويين الذين انتسبوا إليهم و هم علي و أولاده ، كانوا من أهل السنة و لم يكونوا رافضة أصلا ، فهذه المخالفة دليل قوي علىكذبهم .
    و الدليل الرابع هو أن هؤلاء العبيديين عندما ادعوا النسب العلوي كانوا في مرحلة التستر و الكتمان ، نظموا خلالها جماعتهم و ادعوا فيها ما شاءوا ، بعيدين عن أعين الناس ، و عليه فنحن من حقنا أن نشك في كل ما زعموه ،و ننكر الدعاوى التي لا دليل عليها و تردها الشواهد التاريخية ، خاصة و أنه قد ثبت أنهم بالفعل كانوا كذبة ضالين منحرفين .
    و الدليل الخامس يتمثل في المحضر الذي كتبه كبار علماء بغداد و قضاتها و أعيانها ، في سنة 402 هجرية ، أنكروا فيه دعوى العبيديين انتسابهم للبيت العلوي ، و شهدوا عليهم بالكذب و الزندقة ، و الضلال و الانحراف ، و وقّعوا على ذلك بخطوطهم ، على اختلاف طوائفهم ، من شيعة وسنة ، و من علويين و عباسيين ،و غيرهم (2) .
    فهذا المحضر دليل قوي ،و شاهد تاريخي على إجماع كبار علماء بغداد و أعيانها على تكذيب دعوى العبيديين في انتسابهم للبيت العلوي ، فما موقف ابن خلدون منه ؟ أشار إليه في مقدمته و تاريخه ،و قال إن الذين كتبوه سايروا فيه الدولة العباسية ، و إن معظمهم كانوا شيعة لها(3) .
    __________
    (1) الذهبي: المصدر السابق ، ج 15 ص: 151 .
    (2) ابن كثير: البداية ، ج 11 ص: 4211 .
    (3) المقدمة ، ص: 18، 30. و العبر ، ج 3 ص: 450 ، ج 4 ص: 4 .
    (1/166)
    ________________________________________
    و موقفه هذا خطير جدا ، مؤداه أن علماء بغداد و أعيانها كتبوا ذلك المحضر تزلفا للخليفة و مراعاة له ، فكتموا الحقيقة ،و شهدوا شهادة زور ، فهذا اتهام خطير لهؤلاء وقع فيه ابن خلدون ، فصدّق العبيديين الكذبة المنحرفين , و كذّب كثيرا من علماء بغداد و أعيانها الصادقين ، كل ذلك لكي يُثبت ما ذهب هو إليه من صحة نسب العبيديين . و نحن قد سبق أن أبطلنا أدلته ،و أثبتنا أنها لا تنهض دليلا لإثبات ما زعمه ، و هذا المحضر الذي ذكرناه تؤيده الأدلة التي أوردناها ،و هو يصب فيها ، لكن ابن خلدون قلل من أهميته و قزّمه ، تدعيما لما ذهب إليه .
    و أشير في هذا المقام إلى أمر هام جدا ، مفاده أن ابن خلدون في موقفه من تصحيح نسب العبيديين ، ساير فيه المؤرخ ابن الأثير (ت630ه) في دفاعه عن نسب العبيديين و تصحيحه ، فتبنى موقفه ،و اعتمد على أدلته ،و لم يُشر إلى ذلك(1) ، وكأن ما قاله عنهم هو كله من عنده ،ولم يأخذه من عند ابن الأثير .
    و بذلك يتبين من تتبعنا لمواقف ابن خلدون من مسألة نسب العبيديين الإسماعيليين ، أنه كان مصرا على تصديقهم في انتسابهم للعلويين ، و دافع عنهم بقوة ، فلماذا كل هذا الإصرار لإثبات نسب هؤلاء ؟ ! .
    و إجابة على ذلك يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: (( و ابن خلدون لانحرافه على آل علي ، يُثبت نسب الفاطميين إليهم ، لما اشتهروا من سوء معتقد الفاطميين ، و كون بعضهم نُسب للزندقة و ادعى الإلهية ، كالحاكم ،و بعضهم في الغاية من التعصب لمذهب الرفض ، حتى قُتل في زمانهم جمع من أهل السنة ، و كان يُصرح بسب الصحابة في جوامعهم و مجامعهم ، فإذا كانوا بهذه المثابة ، و صحّ أنهم من آل علي حقيقة، إلتصق بآل علي العيب ))(2) .
    __________
    (1) انظر : الكامل في التاريخ ، ج 6 ص: 446 و ما بعدها .
    (2) نقلا عن السخاوي في كتابه : الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ، حققه فرانز روزنتال ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، دت ص: 177 .
    (1/167)
    ________________________________________
    و لانحرافه –أي ابن خلدون- على العلويين كان الحافظ أبو الحسن الهيثمي يُبالغ في الغض من ابن خلدون و يسبه و يلعنه ، عندما بلغه إنه قال عن الحُسين (( قُتل بسيف جده )) ، لكن ابن حجر-الذي روى الخبر- قال إن مقولة ابن خلدون هذه لا توجد في تاريخه العبر ،و ربما كان ذكرها في النسخة الأولى منه ، ثمر تراجع عنها و حذفها .و عنها قال الشوكاني إنه إذا صحّت تلك المقولة عنه ، فهو ممن أضله الله على علم (1) .
    لكنني عثرت في المقدمة على ما يخالف ذلك ، فالرجل –أي ابن خلدون- دافع عن الحسين ، في قوله : (( و غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا ، فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم و القواصم ، ما معناه ، إن الحسين قُتل بشرع جده ، و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ، و من أعدل من الحسين في زمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء(2) ؟)) . فمقولة (( قُتل بسيف جده )) المنسوبة لابن خلدون تُشبه-في المعنى- مقولة (( قُتل بشرع جده )) المنسوبة لابن العربي ، و قد انتقده فيها ابن خلدون ، و دافع عن الحسين-رضي الله عنه- مما يدل على ان ابن خلدون بريء من تلك المقولة المنسوبة إليه في الحسين ، اللهم إلا إذا كان قالها ثم حذفها من تاريخه ، و هذا أيضا مُستبعد لأن ابن خلدون لم يُوافق ابن العربي فيما قاله عن الحسين .
    لكن مع ذلك تبقى تهمة انحراف ابن خلدون على العلويين عموما قائمة و تلاحقه ، لأنه تَرجّح لدي أن ما نقله السخاوي عن ابن حجر في تأكيده على انحراف ابن خلدون على العلويين ، فيه جانب كبير من الصحة ، بدليل الشواهد الآتية :
    __________
    (1) الشوكاني : البدر الطالع ، ج1 ص: 338 ، 339 .
    (2) المقدمة ، ص: 171 .
    (1/168)
    ________________________________________
    أولها إنه-أي ابن خلدون- قال بصحة نسب العبيديين في ادعائهم للنسب العلوي من جهة ، و وصفهم بأنهم كانوا على الكفر و الإلحاد في الدين ،و التعمق في الرافضية. ثم سماهم بأهل البيت ،و أنهم رافضة طبقوا بمصر فقه أهل البيت من جهة أخرى، و قال أيضا : (( و شذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها ،و فقه انفردوا به ، و بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح ،و على قولهم بعصمة الأئمة ،و رفع الخلاف عن أقوالهم ،و هي كلها أصول واهية ))(1) .
    و كلامه هذا صريح لا لبس فيه ، بأن العبيديين من آل البيت كانوا على مذهبهم ،و عنهم أخذوه ،و هو الذي طبقوه بمصر ، و قد وصفهم بأنهم أهل كفر و إلحاد و ضلال ، و بما أنه زعم أنهم كانوا على مذهب آل البيت العلوي ، فهذا يستلزم أن آل البيت هم أيضا على ضلال و إلحاد و انحراف،و عنهم أخذ العبيديون ذلك الضلال ،و هذه نتيجة منطقية تستلزمها مقولة ابن خلدون ، مع العلم أن لازم المذهب ليس مذهبا بالضرورة .
    و حاشا أهل البيت أن يكون ذلك حالهم ،و ما زعمه ابن خلدون كلام باطل من أساسه ، و لا توجد أية علاقة صحيحة بين آل البيت و هؤلاء الزنادقة الضالين ، فآل البيت العلوي و العباسي ، كانوا من أهل السنة ، و لم يقولوا بوجود الأئمة ،و لا بعصمتهم ،و لم يشذوا بأفكارهم عن مذهب أهل السنة ، كما زعم ابن خلدون ، و الأدلة على ذلك كثيرة جدا ، منها :
    إنه صحّ الخبر أن عليا –رضي الله عنه- اعترف صراحة في خطبة له أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- لم يعهد إليه في الإمارة شيئا . و لم يخصهم و لم يعهد إليهم بشيء . و صحّ عنه إنه كان يقول أمام الناس: خير الناس بعد الرسول أبو بكر و عمر . و صحّ أيضا عن جعفر الصادق إنه قال : (( بَرِء الله ممن تبرأ من أبي بكر و عمر ))(2) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 17 ، 18 ، 354، 356، 357 .
    (2) عن ذلك انظر : عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج2 ص: 558، 561، 579 ، 581، 582 .
    (1/169)
    ________________________________________
    و الدليل الثاني هو أن روايات آل البيت الحديثية، موجودة في مصنفات أهل السنة ، و هم عندهم ثقات ، على رأسهم : علي بن ابي طالب ، و الحسن ، و الحسين ، و علي بن الحسين ،و زيد بن علي ، و جعفر الصادق، و غيرهم كثير(1) .
    و الدليل الثالث هو أن فقه أهل البيت العلوي لا يختلف عن فقه علماء أهل السنة و الجماعة ، و هو مدون في مصنفات السنيين مع فقههم دون تمييز ، كفقه علي بن أبي طالب ،و علي بن الحسين ،و جعفر الصادق –رضي الله عنهم- (2) .
    و بذلك يتبين أنه لو كان آل البيت على عقائد و فقه العبيديين الضالين ، ما جعل أهل السنة آل علي من جماعتهم و ما قبلوا رواياتهم الحديثية ،و لا فتاويهم الفقهية و ما جعلوها من فقههم ، الأمر الذي يُثبت قطعا أن ما زعمه ابن خلدون في أن مذهب العبيديين هو مذهب آل البيت ، هو زعم باطل ،و افتراء مُتعمد من ابن خلدون ، لأن زعمه ظاهر البطلان ، لا يغيب عن فقيه مثله .
    __________
    (1) انظر مثلا : البخاري: الصحيح ، ج 5 ص: 1960 . و مسلم : الصحيح ، ج1 ص: 498، ج 2 ص: 588 ، 589 ، ج4 ص: 1903 . و البيهقي : السنن ، ج 6 ص: 343 . و الترمذي : السنن ، ج 3 ص: 365، ج 4 ص: 85 ، ج 5 ص: 232 . و الللاكائي : اعتقاد أهل السنة ، ج 1 ص: 128 ، ج2 ص: 231 .، 241 .
    (2) انظر مثلا : الموفق المقدسي: المغني ،ط1 ، بيروت ، دار الفكر ، 1405، ج 2 ص: 275 ، ج 7 ص: 63 . و الزيلعي: نصب الراية ، حققه يوسف البنوري، مصر ، دار الحديث ، 1357 ،ج 4 ص: 111 ، 295 .
    (1/170)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني -على إثبات ما قاله ابن حجر- هو أن ابن خلدون زعم أن مذهب العبيديين القائم على الكفر و الزندقة و الإلحاد ، هو مذهب آل البيت ، و هو الذي طبقوه بمصر ، و هذا يستلزم أن آل البيت كانوا مثلهم في ذلك الضلال كما سبق أن ذكرنا ذلك . و هذا أمر خطير جدا ، قرره ابن خلدون ، لكن الغريب أنه قرر ذلك و سكت عنه ،و لم يستخدم آية التطهير لينفي عنهم ذلك الضلال الكبير ، كما استخدمها في الدفاع عن إدريس بن عبد الله العلوي . و لا شك أن الدفاع عنهم لتنزيههم عن الكفر و الزندقة و الضلال و البدعة أولى من الدفاع عن أحدهم من بعض الفواحش ، لكنه سكت و لم يفعل ذلك ! ! فلم يُنزه العبيديين و لا آل علي ، رغم سهولة الدفاع عنهم ، لأن آية التطهير جاهزة حسب فهم ابن خلدون لها ، و مع ذلك لم ينزههم ، و يبدو و الله أعلم أنه فعل ذلك لكي يُسيء للعلويين بإلحاق العبيديين بهم .
    و الشاهد الثالث –على إثبات ما قاله ابن حجر- هو أن ابن خلدون زعم أن بداية الدعوة العُبيدية بالمغرب الإسلامي تعود إلى أيام جعفر الصادق المتوفى سنة 148ه ، الذي أرسل بعض دعاته إلى المغرب لنشر دعوته قبل قيام الدولة العبيدية سنة 296ه ، و ابن خلدون في زعمه هذا يُساير الرواية العبيدية التي تقول ذلك ، و هو زعم باطل ، لأن جعفر الصادق كان سنيا و لم يكن عُبيديا رافضيا إسماعيليا ، مما قد يُشير إلى أن إثبات ابن خلدون لتلك العلاقة المزعومة الهدف منها الإساءة لآل علي.
    و بذلك يتبين مما ذكرناه في مبحثنا هذا أن دفاع ابن خلدون عن العبيديين و تصحيحه لنسبهم العلوي ، لم يكن موفقا فيهما ، لأن أدلته كانت ضعيفة جدا ، لم تصمد أمام النقد العلمي المُدعم بالشواهد المتنوعة الصحيحة ، مما يُرجح مقولة ابن حجر العسقلاني ، من أنه –أي ابن خلدون- كان يرمي من وراء موقفه من نسب العبيديين الطعن في آل علي و الإساءة إليهم ، لأنه كان منحرفا عليهم ، و الله أعلم بالصواب .
    (1/171)
    ________________________________________
    تاسعا : في دفاعه عن المهدي ابن تومرت الموحدي:
    ادعى محمد بن عبد الله تومرت الهرغي المصمودي البربري (ت524ه) ، أنه من آل البيت علوي النسب ، و أنه المهدي المنتظر ، رغم أن المعروف عنه أنه من أسرة بربرية من قبيلة مصمودة ، فما هو موقف ابن خلدون من ذلك ؟ .
    دافع ابن خلدون عن ابن تومرت بقوة و حماس ، و أيده في ادعائه للعلوية و المهدوية ، و في تبنيه للأشعرية أيضا(1) . فهل موقفه هذا صحيح تُؤيده الشواهد التاريخية و النقلية و العقلية ؟
    فبخصوص مسألة النسب فإنه –أي ابن خلدون- اعتمد عل دليلين ، الأول ذكر فيه أن المؤرخين اختلفوا في نسب ابن تومرت ، فقال بعضهم إنه بربري الأصل ، و قال آخرون إنه علوي النسب ، و في ذلك يقول ابن خلدون : (( و زعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت )) ، ينتهي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب ، ثم قال إن المؤرخ ابن نحيل ذكر أن بعض الطالبيين و هو سليمان بن عبد الله أخ إدريس الأكبر ، نزل بالمغرب على إثر أخيه إدريس و حلّ بتلمسان ، ثم افترق ولده في المغرب ،و اختلطوا بالمصامدة ،و رسخت عروقهم فيهم و التحموا بعصبيتهم ،و لبسوا جلدتهم ، و انتسبوا بنسبتهم ، و صاروا في عدادهم(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 20، 21، 180 .
    (2) نفسه ، ص: 21 . و العبر ، ج 6 ص: 300 .
    (1/172)
    ________________________________________
    و قوله هذا لا يحمل شاهدا و لا حجة ، و إنما هو عرض لاختلاف آراء المؤرخين في نسب ابن تومرت ، و هو قد مال إلي رأي القائلين بصحة نسب ابن تومرت العلوي ، دون أن يُقدم دليلا على صحة ذلك ، و اكتفى بعرض رأي المؤرخ ابن نحيل ،و مال إليه بلا تحقيق ،و لا مناقشة لمختلف الآراء ، رغم إنه قال عن الذين أخذ برأيهم إنهم : زعموا ، و لم يقل إنهم حققوا ، و لا أثبتوا ،و لا برهنوا ، ثم إنه من جهة أخرى لم يذكر دليل المؤرخين المخالفين لابن تومرت في ادعائه للنسب العلوي ، و كان عليه أن يذكره و يناقشه ،و يُمكّن أهل العلم من الإطلاع عليه ، و لا ندري لماذا أغفله ؟ .
    و مما يُضعف رأي ابن خلدون أيضا أمران آخران ، الأول أن المتوقع من سليمان العلوي المزعوم ، أنه عندما حل بالمغرب أن يُحافظ على نسبه و شرفه عندما عاشر المصمادة و اختلط بهم ، لأنه من المعروف أن الأشراف كانوا يُحافظون عل أنسابهم و انتمائهم القبلي أشد الاحتفاظ ، كما فعل أخوه إدريس ، فإنه لما حل على بربر وليلي بالمغرب الأقصى عرّفهم بنفسه و نسبه ، فعظموه و بايعوه أميرا عليهم ، و احتفظ بنسبه العلوي . و معروف عن البربر –آنذاك- تعظيمهم لآل البيت ، مما يجعل ذوبانهم فيهم - منهم سليمان المزعوم - مستبعد جدا . خاصة و أنه لم يُذكر أن هذا الرجل تعرّض و أولاده للاضطهاد ، مما جعلهم يخفون نسبهم ، و مما يُبعد ذلك أيضا أنه لو افترضنا أنهم تعرّضوا للاضطهاد لكان في مقدورهم الالتحاق بدولتهم بالمغرب الأقصى التي عمرت أكثر من 120 سنة (170-296ه) .
    (1/173)
    ________________________________________
    و الأمر الثاني هو أنه من المعروف أن أسرة مجمد بن تومرت هي أسرة بربرية ، سكنت جبل السوس بالمغرب الأقصى ، و كان هو يُلقب في صغره ب : أمغار ، بمعنى الزعيم ، و الرئيس ، و والده يُلقب ب : تومرت ، فلماذا تخلّت هذه الأسرة عن نسبها العلوي المزعوم ؟ ،و إذا كانت نسيته بمرور 300 سنة ، فلماذا نسيته ؟ ، فهو من الأمور التي من المستبعد أن تنسى ، في زمن الناس فيه مهتمون بأنسابهم كثيرا . و إذا افترضنا حدوث ذلك ، فمن الذي ذكّرها بنسبها ،و كيف حدث ذلك ؟ ‍.
    و أما ما قاله ابن خلدون من أن الناس نسوا ذلك النسب العلوي ، و ظلت أسرة ابن تومرت تتناقله(1) . فهو أيضا مجرد ادعاء لا دليل عليه ، لأنه لم يقل لنا لماذا نسيه الناس بعد معرفتهم به ، و هو نسب شريف ، المعروف أن الناس كانوا يهتمون به ، و يُعظمونه و ينتسبون إليه ، و نسب هذا حاله لا ينساه الناس عادة ، و قد تنساه الأسرة المعنية به ،و لا ينساه الناس ، و إذا افترضنا أنهم نسوه و احتفظت به أسرة ابن تومرت ، فلماذا لم تذكّر به الناس و احتفظت به لنفسها ،و لها في إشاعته فضل و شرف و مكانة بين الناس ؟ ! . و ربما يُقال أن أسرته أخفت نسبها خوفا من العباسيين ، و هذا اعتراض وجيه ، لكنه لا يصلح تفسيرا لذلك ، لأن المغرب الأقصى زمن أسرة ابن تومرت لم يكن خاضعا للدولة العباسية ، و إنما كان خاضعا للدولة الإدريسية العلوية ،و قسم منه كان خاضعا للدولة المدرارية الصفرية ، ثم أصبح خاضعا بأكمله للدولة العبيدية الشيعية ، ثم ملكه المرابطون ، و في أيامهم ظهر ابن تومرت نحو سنة 510ه .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 21 .
    (1/174)
    ________________________________________
    و نحن إذا رجعنا إلى علمي الأنساب و الإحصاء المفروض أننا نجد أسرة سليمان العلوي قد شهدت أكثر من 7 أجيال في ظرف 300 سنة ، مما يعني أن عدد أفرادها أصبح كبيرا ، و نسبها معروفا بين الناس ، و لا يبقى محصورا في أسرة واحدة هي أسرة ابن تومرت ! ، فلا يُعقل عادة أن تعيش أسرة 300 سنة و تبقى محدودة الأفراد بحيث تحافظ على نسبها و لا يعرفه الناس ، و لا يُوجد أي مبرر لكتمانه ،و في صالحها إظهاره ! ،و لا شك أن أسرة حالها على هذه الغرابة هو الذي يدفع الناس إلى الاهتمام بها لا إلى نسيانها على حد زعم ابن خلدون .
    و أما دليله الثاني فقال عنه : (( مع أنه –أي ابن تومرت- ثبت أنه ادعاه و انتسب إليه ، فلا دليل يقوم على بطلانه ، لأن الناس مُصدقون في أنسابهم ))(1) . و دليله هذا هو أيضا غير صحيح ، لأن قوله إن الناس مُصدقون في أنسابهم ليس قانونا مطلقا ،و لا دليل عليه من النقل و لا من العقل ، و نحن لسنا أغبياء حتى نُصدق كل من يدعي نسبا ، و نقول بما أنه ادعاه و انتسب إليه فهو صحيح ، لأن الناس مُصدقون في أنسابهم على حد زعم ابن خلدون ، فإن زعمه هذا هو خروج عن منهج النقد التاريخي و تعطيل له بسبب الثقة العمياء في الناقلين ، و هو شخصيا قد انتقد المؤرخين لثقتهم في هؤلاء .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 21 .
    (1/175)
    ________________________________________
    و هو قد استخدم مقولة : الناس مصدقون في أنسابهم ، في غير مكانها و بغير حجمها ، لأن الناس قالوا : الغالب على أنساب الناس الصحة(1) . و لم يقولوا إنها قانونا عاما مطلقا ، و قالوا ذلك في الظروف العادية حيث الأنساب معروفة بين الناس ، يصعب انتحالها و تبديلها ، لأنها مُشاهدة معروفة لديهم في الواقع ، لكنها لا تصدق في كل الحالات ، كحالات الحروب و الهجرات الفردية و الجماعية ، حيث يستطيع بعض الناس انتحال أنساب غير أنسابهم ، ففي هذه الظروف وغيرها ، يجب التحقق من الأنساب .خاصة الانتساب إلى آل البيت ، لما يترتب عليه من أحكام خاصة كحرمة الصدقة عليهم ، و استحباب مصاهرتهم(2)
    و ابن خلدون نفسه نقض قانونه المزعوم و لم يلتزم به ، فعندما تكلم عن صاحب الزنج علي بن أحمد الذي ثار على العباسيين ، قال إنه رجل ادعى النسب العلوي ، و لا يصح ادعاؤه له ، و هو مُنتحل له . و عندما تكلّم عن القرامطة ، أنكر انتسابهم للعلويين ، و قال إنهم انتحلوه . و أنكر ما ادعته قبيلة زناتة أنها من العرب ، و ما ادعاه الزيانيون بتلمسان أنهم من العلويين ،و غيرهم من القبائل التي ادعت النسب العربي(3) . فلماذا هو هنا لم يصدق هؤلاء فيما ادعوه ، بحكم قانون : الناس مُصدّقون في أنسابهم ؟ ! .
    __________
    (1) ابن تيمية : خلاف الأمة ، ص: 119 .
    (2) لقول النبي- عليه الصلاة و السلام (( كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة ، إلا سببي و نسبي )) . ناصر الدين الألباني :. صحيح الجامع ، رقم : 4527 .
    (3) المقدمة ، ص: 105 .
    (1/176)
    ________________________________________
    و أما موقفه من ابن تومرت في ادعائه للمهدوية و العصمة ، فقد وصفه بأنه الإمام المهدي ،و أنه ادعى المهدوية و العصمة ، على (( رأي أهل البيت في الإمام المعصوم )) ، لكنه انتقده في مسألة العصمة ،و عندما قال عنه ، (( لم تُحفظ عنه فلتة في البدعة ، إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم ))(1) .
    و ردا عليه أقول : أولا إن إلحاقه فكرة الإمام المعصوم بآل البيت هو خطأ فادح ،و كذب مفضوح ، سبق تفنيده ، و بينا أن عليا و أولاده –رضي الله عنهم- كانوا على مذهب أهل السنة ، و لم يكونوا على مذهب الرافضة الإسماعيلية و لا الإثنى عشرية ، و بينا لماذا قال ذلك .
    و ثانيا إنه اكتفى بالانكار على ابن تومرت في ادعائه للعصمة ، و لم ينقده في ادعائه بأنه المهدي المنتظر ، و لم يتتبع ما يترتب من وصفه بالبدعة في مسألة العصمة ، لأنه من المعروف بالضرورة من دين الإسلام أنه لا أحد معصوم إلا النبي-عليه الصلاة و السلام- ، لقول رسول الله (( كل ابن آدم خطاء ،و خير الخطائين التوابون ))(2) ،و قال تعالى (( و فوق كل ذي علم عليم)) –سورة يوسف /76- ،و هو سبحانه لم يتعبّدنا إلا باتباع كتابه و سنة رسوله ، و أمرنا بالرد إلي الله و رسوله عند التنازع ، لقوله سبحانه (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و إلى الرسول ))-سورة النساء /59- . و عليه فإن زعم ابن تومرت بأنه معصوم ، هو زعم باطل مردود عليه ، و يدل قطعا على أنه كان كاذبا على الله و رسوله و المسلمين ، و مع ذلك سكت عنه ابن خلدون ،و اكتفى بوصفه بالبدعة ،و لم يتتبع ما يستلزمه قوله من نتائج ! .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 20، 180 ، . و العبر ، ج 6 ص: 302، 305 .
    (2) الترمذي: السنن ، تحقيق الألباني، ج2 ص: 4251 .
    (1/177)
    ________________________________________
    و ثالثا إنه سكت عن ابن تومرت في ادعائه بأنه المهدي المنتظر ، فوصفه بالإمام المهدي ،و لم ينتقده في ذلك ! ، و هذا خطأ من ابن خلدون ، و زعم باطل من ابن تومرت و كذب مفضوح منه ، لأن الأحاديث التي صحّت في المهدي ذكرت صفاتا لا تنطبق على ابن تومرت ، منها أن المهدي المنتظر سينتصر و يملك سبع سنين ،و يملأ الأرض قسطا كما مُلئت ظلما و جورا ،و أنه يُمارس ذلك بيده(1). و هذه الصفات لم تتحقق في ابن تومرت ، فهو قد مات سنة 524ه ، قبل انتصار دعوته و ظهور دولته سنة 541ه ، و لم يملك و لا مارس الملك بيده ، و لا ملأ الأرض عدلا كما مُلئت ظلما و جورا ، و لا تحقق ذلك على أيدي أتباعه ، فإن دولته ظلت محصورة في المغرب و الأندلس ، من سنة 541ه إلى سقوطها نهائيا سنة 668هجرية ، و لم تملأ الأرض عدلا و لا قسطا .
    و رابعا إن الغريب في الأمر أن ابن خلدون –في موقفه من مهدوية ابن تومرت- اكتفى بوصفه بها و سكت عنه ، ثم أنه في موضع آخر من مقدمته قرر أمرا مناقضا لذلك تماما ، و مع ذلك سكت عن ابن تومرت أيضا ، فلم ينتقده ،و لا كذّبه ،و لا اعتذر له و لا لنفسه مما قاله عنه سابقا . و الشاهدان الآتيان يُثبتان ذلك بوضوح لا لُبس فيه .
    أولهما إنه قال إن المشهور بين كافة أهل الإسلام أنه لابد أن يظهر في آخر الزمان رجل من أهل البيت يُسمى المهدي ، يُؤيد الدين ،و يُظهر العدل ، و يتبعه المسلمون ، و يستولي على الممالك الإسلامية ، ثم يكون خروج الدجال و ينزل عيسى –عليه السلام- فيقتل الدجال ، أو ينزل مع المهدي فيُساعده على قتله ،و يأتم عيسى بالمهدي في صلاته(2) . و الشاهد الثاني هو أن ابن خلدون اعترف صراحة أن المهدي المنتظر ما زال لم يظهر بعد ، و إذا ظهر فمن الراجح أنه يظهر من بين الطالبيين بأرض الحجاز كالمدينة و مكة(3) .
    __________
    (1) ابن القيم : المنار المنيف ، ص: 108، 109 .
    (2) المقدمة ، ص: 245 .
    (3) نفس المصدر، ص: 257 .
    (1/178)
    ________________________________________
    و كلامه هذا هو نسف لما قاله عن ابن تومرت في ادعائه للمهدوية ، و هو أيضا إبطال لدعوته من أساسها ، و تكذيب صريح له . لأن محصلة كلامه أن المهدي ما زال لم يظهر بعد ،و صفاته التي ذكرها لا تنطبق على ابن تومرت ، و إذا كان المهدي لم يكن ظهر بعد زمن ابن خلدون المتوفى سنة 808ه ، فكيف يكون ابن تومرت هو المهدي ، و قد توفي سنة 524ه ، ؟ ؟ ‍‍، أليس من يزعم أن ابن تومرت هو المهدي ، يضحك على الناس ،و يكذب عليهم ؟ ،أليس هذا بهتان عظيم ، و افتراء مفضوح ؟ ، و مع هذا فابن خلدون سكت عنه ،و لم يعترف بالحقيقة ،و لا أدرى هل تنبه للتناقض الذي وقع فيه أم لا ؟ .
    و أما بالنسبة لموقفه من فكر ابن تومرت و مذهبه في أصول الدين ، فقد مدحه و صوّبه ، و قال عن صاحبه إنه رحل إلى المشرق طلبا للعلم ، و هناك التقى بأئمة الأشعرية فأخذ عنهم مذهبهم ورجع إلى المغرب(( بحرا متفجرا من العلم ، و شهابا واريا من الدين )) ، فلما دخله أنكر على أهل البغي ،و دعا إلى التوحيد الحق على مذهب الأشعرية ، و أنكر على أهل المغرب أخذهم بمذهب السلف في الصفات ، و دعاهم إلى تأويلها على طريقة الأشعرية(1) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 20، 180 . و العبر ، ج 6 ص: 302 .
    (1/179)
    ________________________________________
    و قوله هذا يتضمن أخطاء و مغالطات و مبالغات ، و ذلك أنه أولا زعم أن ابن تومرت رجع إلى المغرب بحرا يتفجر علما ، و شهابا واريا من الدين ، و كلامه هذا فيه كثير من المبالغات و الأباطيل ، لأن الرجل عاد من المشرق ، مُخلطا ملفقا ناقما حقودا على أهل المغرب ، فجاء بمذهب خلّط فيه بين الأشعرية ، و التسنن ،و الخارجية ، و الاعتزال ،و الرافضية ، و مذهب هذا حاله ، لا شك أنه يحمل متناقضاته و أدلة بطلانه في ذاته ، و يفتقد تماما للانسجام و الالتزام بالشرع . هذا فضلا على أن صاحبه دخل المغرب مملوءا حقدا و خارجية على المغاربة ، فكفرهم و استباح دماءهم و أموالهم . فهذا رجل عاد إلى بلاده مملوءا بالمتناقضات و التلفيقات و المخالفات الشرعية ، و لا يصح أن يُقال إنه عاد إليه متفجرا بالعلم النافع و السلوك الصالح ‍.
    و ثانيا إن قوله بأن ابن تومرت لما عاد إلى المغرب دعا إلى التوحيد الحق على مذهب الأشعرية ، و فرضه على المغاربة ، هو قول فيه تغليط و تمويه و تدليس ، لأن مذهب السلف الذي كان عليه المغاربة ، هو مذهب صحيح جمع بين الإثبات و التنزيه في صفات الله تعالى ، و هو قائم على صحيح المنقول و صريح المعقول ، و هو أعلم و أحكم و أسلم من كل المذاهب ، فلا تشبيه فيه و لا تكييف ، و لا تحديد فيه و لا تجسيم ،و لا تأويل فيه و لا تعطيل لأية صفة من صفات الله تعالى التي قام الدليل على ثبوتها له سبحانه ، مع التنزيه الكامل لها في إطار قوله تعالى : (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير )) –سورة الشورى/11- و (( لم يكن له كفؤا أحد ))(1) .
    __________
    (1) للتوسع في مذهب السلف انظر مثلا : ابن القيم الجوزية : الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة .
    (1/180)
    ________________________________________
    و أما زعمه بأن ابن تومرت دعا إلى التوحيد الحق على مذهب الأشعرية ، فهو زعم باطل لأنه أثبت 7 صفات فقط ، و أوّل باقي الصفات تأثرا بالمعتزلة المعطلين لكل الصفات الواردة في القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة . و الغريب أن ابن خلدون لم يكتف بمدح مذهب ابن تومرت ، و إنما ذم أيضا مذهب السلف الذي كان عليه المرابطون ،و فضّل مذهب ابن تومرت عليه ، بطريقة فيها اتهام لمذهب السلف بالتشبيه ،و هو اتهام باطل لا يثبت أمام النصوص الشرعية ، و لا مع المناقشة العلمية الصحيحة ، و سنخص هذا الموضوع بمزيد من التوسع ، و الشرح ، و المقارنة ، و التوثيق في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى .
    و أما موقفه من أخلاق ابن تومرت و سلوكياته ، فقد بالغ في مدحه ،و سكت عن عيوبه و جرائمه التي ارتكبها في حق المسلمين ، فقال عنه إنه عاش متقشفا صابرا على المكاره ، متقللا من الدنيا ، حتى الزواج لم يتزوج ، فما الذي قصده من ذلك إن لم يكن لوجه الله ؟ ، و لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله ، و مع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره ، و انفسخت دعوته ، سنة الله التي خلت في عباده . و كان يلبس العباءة و لم تُحفظ عنه فلتة في البدعة ، إلا من (( وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم ))(1) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 21 . و العبر ، ج 6 ص: 305 .
    (1/181)
    ________________________________________
    و ردا عليه أقول : أولا نعم كان ابن تومرت زاهدا في المأكل و المشرب و المنكح و الملبس ، لكنه لم يكن زاهدا في الرياسة و الزعامة ،و الكذب و البهتان و التسلط و التدليس ،و التكفبر و التضليل ،و سفك الدماء ، فقد كان هذا الرجل مملوءا بالبدع و الانحرافات الفكرية و السلوكية ،و لم يكن كما وصفه ابن خلدون من أنه لم تُحفظ عنه فلتة في البدعة إلا قوله بالعصمة ، فقد ارتكب جرائم كثيرة في حق المسلمين سكت عنها ابن خلدون ، منها جريمة الكذب المتعمد على الأمة ، عندما ادعى المهدوية و العصمة ، و نحن سبق أن أثبتنا بالأدلة القاطعة أنه كان كاذبا في ادعائه لذلك ،و أن ابن خلدون سكت عنه .
    و منها أيضا إنه قال لأصحابه و أتباعه و قومه إن الله أرسل إليهم صاحبه البشير الونشريسي آية لهم ، كان جاهلا- تظاهر بالجهل- ، فجعله الله عالما ملهما مطلعا على أسراركم و أنفسكم ، فكان هذا البشير يزعم أنه يعلم الغيب ، فيجمع الناس و يُميز الموحدين من المنافقين-حسب زعمه- فيجعل الموحدين جهة اليمين ، و المنافقين جهة اليسار ، و يقول : هؤلاء في النار ،و هؤلاء في الجنة ، ثم يأمر بقتل أهل النار ، و يُروى أنه قتل بهذه الطريقة آلافا كثيرة من المسلمين(1) .
    فهذان الضالان –أي ابن تومرت و البشير- أقاما يوم الحساب و العقاب في الدنيا ،و قاما بما يقوم به رب العالمين يوم القيامة . و لا شك أن فعلهما هذا هو دجل و ضلال ، استغفلا به أتباعهما ، ليتخلّصا به من خصومهما و منافسيهما ، و كل من يشكل خطرا عليهما .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 19 ص: 539 و ما بعدها ,
    (1/182)
    ________________________________________
    و منها أيضا أن ابن تومرت كان يُكفر المرابطين و يتهمهم بالتشبيه و التجسيم في صفات الله تعالى(1) . و بذلك استباح دماءهم و أموالهم ، و حثّ أتباعه على قطع شأفتهم ، فلما هزموهم –بعد موته- و دخلوا مدينة مراكش سنة 541ه ، ارتكبوا في أهلها مجازر رهيبة ، يُروى أنهم قتلوا منهم أكثر من 70 ألفا(2) .
    تلك الأعمال وغيرها هي التي جعلت المحقق ابن قيم الجوزية يصف ابن تومرت بأنه (( رجل كذاب ظالم مُتغلب بالباطل ، ملك بالظلم و التحيّل ، فقتل النفوس و أباح حريم المسلمين ، و سبى ذراريهم ،و أخذ أموالهم ،و كان شرا على الملة من الحجاج بن يُوسف بكثير ))(3) . فهذه الأعمال و غيرها شاهدة على أن تزكية ابن خلدون لا بن تومرت هي تزكية باطلة ، كان فيها مُخطئا آثما ، لأنه كان يعلم جرائمه الكثيرة ،و سكت عنها مُتعمدا .
    و ثانيا إنه وصف ابن تومرت بأنه كان مخلصا ، نعم كان مخلصا لدعوته المشبوهة و فكره المنحرف ، لكنه ما كان مخلصا لدين الله الحق، فلو كان مخلصا له ما تعمد الكذب في ادعائه للعصمة و المهدوية ، و ما كفّر الأبرياء و استباح دماءهم و أموالهم ، و ما ذم مذهب السلف في الصفات و خالف نصوص الكتاب و السنة الصريحة في إثبات صفات الله تعالى كلها ، بلا تشبيه و لا تأويل .
    __________
    (1) العبر ، ج 6 ص: 303 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 19 ص: 545 ، 546 .
    (3) المنار المنيف ، ص: 120 .
    (1/183)
    ________________________________________
    و ثالثا إنه استشهد على إخلاص ابن تومرت بأن الله تعالى نصر دعوته ،و لو كان غير ذلك ما نصره ،و تلك هي سنة الله في عباده ، و قوله هذا ادعاء مُضحك ، و مغالطة مكشوفة ، لأن سنة الله تعالى في نجاح الدعوات و الدول و سقوطها ، ليس بما قاله ابن خلدون ، و إنما سنته في ذلك هي أنه تعالى يُعطي الدنيا لمن يحب و لمن لا يُحب ، لكنه لا يُدخل الجنة إلا من يحب ،و لا يخلّد في النار إلا من لا يُحب ، لقوله تعالى : (( كلا كل نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا ))-سورة الإسراء /20- و (( و تلك الأيام نداولها بين الناس ))-سورة آل عمران/140- . و التاريخ و الواقع شاهدان ، على أن الله تعالى مكّن في أرضه للصالحين و الطالحين ،و قد مكن للطالحين أكثر مما مكن للصالحين بفارق كبير جدا .
    و بذلك يتبين مما ذكرناه أن ابن خلدون في تصحيحه لنسب ابن تومرت كان مُخطئا ، و في دفاعه عنه و مدحه له ، كان مجازفا و مغالطا و مبالغا ، و سكت عن انحرافاته الفكرية و السلوكية متعمدا ، رغم ظهور كثيرا منها .
    عاشرا : أخطاء تاريخية متفرقة في المقدمة و العبر:
    لا شك أن كل بني آدم خطاء ، و لا يخلو عمل أحدهم من أخطاء في غالب الأحيان ، لكن بعضهم تقل أخطاؤه و سلبياته ،و آخرون يكثر ذلك عندهم ، لكن الذي تقل أخطاؤه في أعماله العلمية ، في ذلك دلالة على أنه مُتحكم في بحثه و متضلّع فيه ،و هاضم له ،و مُهتم به ، و مُلتزم بالمنهجية العلمية الصحيحة ، و أما الذي تكثر أخطاؤه في أبحاثه العلمية ، فهو على صفات تخالف ما كان عليه الأول ، فمن أي الصنفين كان المؤرخ ابن خلدون في كتابته للتاريخ ؟ .
    (1/184)
    ________________________________________
    لقد تبين لي من تتبع بعض رواياته ،و الإطلاع على ما انتقده فيه بعض أهل العلم ، أن ابن خلدون كان من الصنف الثاني في كثير مما دوّنه في مقدمته و تاريخه ، و سأذكر على ذلك طائفة من الشواهد التاريخية تُثبت ذلك بوضوح ، و قبل ذكرها أشير هنا إلى أن بعض أهل العلم قد انتقد ابن خلدون في كتابته للتاريخ ، فقال فيه ابن حجر العسقلاني ، إنه(( لم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها ، لاسيما أخبار المشرق ،و هو بيّن لمن نظر في كلامه ))(1) . و انتقده أيضا الباحث محمد الطالبي في أنه كثيرا ما أساء النقل و التمحيص ،و استخدم منهحه النقدي ، فجاء كتابه مليئا بالثغرات و النقائص، و لا يُغني عن غيره من مصنفات التاريخ حتى في تاريخ المغرب(2) .
    و أما الشواهد التاريخية التي تُثبت ما قلناه عن ابن خلدون ، فأولها رواية قال فيها ابن خلدون إنه لما قُتل عثمان و بُويع علي-رضي الله عنهما- أشار عليه المغيرة بن شعبة باستبقاء (( الزبير و معاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته ، و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره ))(3) . و خبره هذا فيه خطأ واضح ، هو أنه جعل طلحة و الزبير –رضي الله عنهما- من عمال عثمان الذين كانوا ولاة له عندما استشهد ،و هذا غير صحيح ، فإنه لما قُتل عثمان سنة 35هجرية ، كان طلحة و الزبير في المدينة ، و لم يكونا من عماله(4) .و هذا الخبر نفسه ذكره ابن خلدون في موضع آخر من مقدمته ، مخالفا به ما قاله سابقا(5) .
    __________
    (1) ابن حجر : إنباه الغمر بأبناء العمر ، ج1 ص: 232 .
    (2) محمد الطالبي: منهجية ابن خلدون التاريخة ، ط1 ، بيروت ، دار الحداثة ، ص: 56، 57 .
    (3) المقدمة ، ص: 163 .
    (4) الطبري: تاريخ الأمم و الملوك ، ج 2 ص: 693 .
    (5) انظر : المقدمة ، ص: 169 ,
    (1/185)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية تناول فيها بداية الدعوة الإسماعيلية العبيدية بالمغرب الإسلامي ، فقال إنها تعود إلى زمن جعفر الصادق المتوفى سنة 148 هجرية ، الذي بعث داعيين من أتباعه إلى المغرب ، و هما : الحلواني و أبو سفيان ، و قال لهما : بالمغرب أرض بور ، فاذهبا و احرثاها حتى يجيء صاحب البذر ))، فنزلا أرض كتامة ،و بها فشت دعوتهما الإسماعيلية(1) .
    هذه الرواية ذكرها ابن خلدون بصيغة التأكيد و الإثبات ، لا بصيغة الشك و التمريض، لكنني أرى أنها رواية باطلة انطلت على ابن خلدون و لم يتفطن لها ، أو أنه تعمد السكوت عنها ،و الشواهد الآتية تُثبت ذلك :
    أولها إنه قد سبق أن أثبتنا أن جعفر الصادق كان سنيا من علماء أهل السنة الثقات المشهورين ، و لم يكن رافضيا إسماعيليا و لا اثنى عشريا ، ففقهه و رواياته مدونة في المصنفات السنية ، و كان يتولى الشيخين ،و ثبت بالتواتر أنه كان يقول : بَرِءَ الله ممن تبرأ من أبي بكر و عمر .و لم يكن يؤمن بالإمامة و لا بالعصمة المزعومة(2) . فرجل هذا مذهبه لا يمكن أن يرسل داعيين رافضيين إلى المغرب لينشرا فكرا لا يُؤمن به ‍.
    __________
    (1) العبر ، ج 4 ص: 40 .
    (2) انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 6 ص: 256 و ما بعدها .
    (1/186)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أنه توجد رواية أخرى تُخالف التي رواها ابن خلدون ، مفادها أن رئيس الإسماعيلية باليمن ابن حوشب و أصحابه هم الذين أرسلوا الحلواني و أبا سفيان ، إلى أرض كُتامة بالمغرب ، و قالوا لهما : إن المغرب أرض بور ، فاذهبا فاحرثا حتى يأتي صاحب البذر(1) . و هذه الرواية ذكرها أيضا ابن خلدون مخالفا بها ما نقلناه عنه سابقا ، فقال إن الشيعة هم الذين أرسلوا الرجلين إلى إفريقيا(2) . و هذه الرواية –إن صحت- فهي معقولة ، بحيث يكون ابن حوشب هو الذي أرسل الداعيين ، ثم هو الذي بعث مكانهما أبا عبد الله الشيعي عندما بلغه خبر موتهما(3) .
    و الشاهد الثالث هو أن حسابا صغيرا يُبطل تلك الرواية و يستبعدها تماما ، و ذلك أنه إذا افترضنا أن جعفر الصادق أرسل الرجلين –الحلواني و أبا سفيان- إلى بلاد المغرب في السنة التي تُوفي فيها-أي سنة 148ه- و كان لكل منهما 20 سنة ، و هما قد تُوفيا سنة 288 ه ، لأن الأخبار تقول إن ابن حوشب أرسل أبا عبد الله الشيعي في تلك السنة لما تُوفي الرجلان ، أرسله خلفا لهما(4) ، يكونان قد مكثا بالمغرب 140 سنة و عاشا 160 سنة ، و إما إذا كان أرسلهما قبل سنة 148 هجرية ، و كان لهما أكثر من عشرين سنة ، فلا شك أن عمرهما و مكوثهما سيزيدان . و هذه كلها مزاعم و أكاذيب و أباطيل لا دليل عليها ،و تخالف المألوف في حياة البشر مخالفة بعيدة جدا ، و تكاد تكون من المستحيلات .
    __________
    (1) ابن الأثير: الكامل ، ج 6 ص: 450 .
    (2) العبر ، ج 3 ص: 451 .
    (3) ابن الأثير ، المصدر السابق ، ج 6 ص: 450 .
    (4) نفسه ، ج 6 ص: 450 . و العبر ، ج 4 ص: 41 .
    (1/187)
    ________________________________________
    و الشاهد الرابع - مما يدل على بطلان تلك الرواية- هو أنه لا يُعقل و من المستبعد جدا ، أن يمكث الحلواني و أبو سفيان بأرض كتامة 140 سنة ، و لا يُحققان أية انتصارات سياسية على مستوى الواقع ، في حين أن أبا عبد الله الشيعي دخل المغرب 288ه، و في ظرف 8 سنوات خاض حروبا و انتصر على خُصومه ،و كوّن الدولة العبيدية سنة 296هجرية ! ! .
    و الشاهد الخامس- مما يدل على ضعف تلك الرواية و استبعادها - هو أن المتتبع لنشاط أبي عبد الله الشيعي بأرض كتامة ، يتبين له جليا أن الرجل بدأ دعوته من الصفر ، فعرّف الناس بدعوته و أهدافه ،و جمع الأتباع و العساكر ، و شرع في مواجهة خُصومه ، مما يعني أنه لم يجد أرضية إسماعيلية مهيأة ،و لا أثرا فعالا لدور الحلواني و السفياني اللذين زعمت تلك الرواية أنهما مكثا بكتامة 140 سنة- على الأقل- يدعوان للإسماعيلية بأرض كتامة ! ! فهل يُعقل هذا ؟ ثم أليس هذا دليل آخر على بطلان تلك الرواية ؟ .
    و العجب أيضا من ابن خلدون ، كيف سلّم بتلك الرواية المزعومة ،و عطّل فكره النقدي الذي استخدمه في الدفاع عن العبيديين ،و ابن تومرت ،و الصوفية ، و الأدارسة ؟ ، فرمى بمنهجه النقدي جانبا ، و صدّق بتلك الرواية المكذوبة ، دون نقد لها . و الظاهر أنه فعل ذلك لأن الرواية تصب في موقفه المنحرف من العلويين ، فإذا كان جعفر الصادق هو الذي أرسى أسس الدعوة الإسماعيلية العُبيدية الضالة المنحرفة ببلاد المغرب ، فهو إذن مثلها ،و عنه أخذت فكرها ، و هذه نتيجة خطيرة جدا ، فيها طعن في جعفر و آل بيته ،و تضليل لهم ، و حشاهم من ذلك .
    (1/188)
    ________________________________________
    و أما الرواية الثالثة فقال فيها ابن خلدون إن البربر و خاصة قبيلة كتامة و صنهاجة و هوارة ، هم الذين أقاموا دولة العبيديين و شيدوها ، و سلّموا أمرهم لهم ، و أذعنوا لملكهم ،و تنافسوا في الرتبة عندهم(1) . و قوله هذا صحيح إلى حد كبير ، لكنه أخطأ فيه عندما عممه على كل هؤلاء و لم يحدده زمنيا ، فلا شك أن هؤلاء هم الذين قامت الدولة العبيدية على أكتافهم ، لكن كثيرا منهم عارضوها ، و قاوموها بمختلف الوسائل السلمية و العسكرية ، و سعوا في قتل أبي عبد الله الشيعي ، و دخلوا معه في حروب طاحنة ، تبادلوا خلالها النصر و الهزيمة بين سنتي 288-296هجرية(2) .
    و عندما قامت دولتهم و أظهرت عداءها السافر للسنيين و اضطهدتهم ،و فرضت عليهم مذهبها الرافضي ، لم يستسلم السنيون من مختلف القبائل البربرية ، فتصدوا لها و قاوموها بكل الوسائل الممكنة ، كالمناظرات ، و المقاطعة ، و تأليف الكتب ،و التكفير ،و حمل السلاح(3) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 124 .
    (2) انظر مثلا : ابن الأثير : الكامل ، ج 6 ص: 451 و ما بعدها .
    (3) للتوسع في ذلك انظر مثلا : إبراهيم التهامي : جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ، ط1 ، الجزائر ، دار الرسالة ، 2003، ص: 398، و ما بعدها ، و 422 و ما بعدها .
    (1/189)
    ________________________________________
    و الرواية الرابعة تخص الكتاب الذي أرسله الخليفة العباسي إلى الأغالبة و بني مدرار يحثهم فيه على إلقاء القبض على عبيد الله المهدي الذي دخل بلاد المغرب و حلّ ببني مدرار ، فذكر ابن خلدون أن الخليفة المعتضد هو الذي أرسل الكتاب ، و قد كرر ابن خلدون ذلك مرتين(1) . لكنه عاد مرة أخرى و ذكر أن الذي أرسل الكتاب هو الخليفة المكتفي(2) . فهذا تناقض واضح ، فمن الذي أرسل الكتاب ؟ ، اختلط الأمر على ابن خلدون ، و أخطأ في ذكره للخليفة المعتضد لأن الذي أرسل الكتاب هو الخليفة المكتفي بالله ،و ليس المعتضد بالله ، لأن هذا الأخير تُوفي سنة 289ه ، فخلفه المكتفي ،و عبيد الله المهدي لم يرحل إلى المغرب إلا في سنة 292ه ، فأرسل المكتفي في طلبه(ت295ه .
    و الرواية الخامسة تتعلق بالفتن المذهبية ببغداد ، قال عنها ابن خلدون إنها كانت تحدث بين الطوائف السنية نفسها ، و بينها و بين الشيعة أيضا ، و قد استمرت زمنا طويلا لم يقدر بنو بويه و لا السلاجقة على حسمها ، لأسباب عديدة ، منها عدم اهتمام هؤلاء بحسمها ، لانشغالهم بما هو أعظم منها في الدولة و النواحي، و (( عامة أهل بغداد أهون عليهم أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم ))(3) .
    __________
    (1) انظر : العبر ، ج 3 ص: 449، 450 .
    (2) نفس المصدر ، ج 3 ص: 452، 453 .
    (3) نفس المصدر ، ج 3 ص: 590 .
    (1/190)
    ________________________________________
    و تعليله هذا غير صحيح ، لأن الذي حدث هو عكس ما قاله تماما ، و ذلك أن هؤلاء و غيرهم ، كان لهم اهتمام كبير بطوائف بغداد ، في التشجيع على الفتن و التعصب و الطائفية ، و لم يكن لهم اهتمام كبير بعكس ذلك ، فكانوا عامل هدم و تفريق ، و لم يكونوا عامل وحدة و بناء ، و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا(1) . منها إن بني بويه لما سيطروا على بغداد بين سنتي: 343-447ه ، شجعوا الفتن الطائفية بين الشيعة و السنة ، فأيدوا الشيعة و دعموهم ،و وقفوا بجانبهم في تحديهم لمشاعر السنيين ،و لعنهم لأبي بكر و عمر ،و كل من خالفهم(2) .
    و منها أيضا ما فعله السلاجقة زمن الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485ه) ، فإنهم شجعوا الأشاعرة و دعموهم ماديا و معنويا في نزاعهم مع أهل الحديث ببغداد ، و كان الوزير يُدعمهم علانية بالمال و الدعم السياسي ، فبنى لهم المدرسة النظامية و وقفها عليهم دون المذاهب السنية الأخرى ، فأصبحت هذه المدرسة منطلقا لكثير من الفتن و المشاغبات التي قُتل فيها خلق كثير من الطائفتين(3) .
    __________
    (1) للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : صفحاتت من تاريخ أهل السنة و الجماعة ببغداد .
    (2) انظر مثلا : ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 221 و ما بعدها ، 240 ، 309 .
    (3) انظر مثلا : نفس المصدر ، جذ2 ص: 117 . و أبو الحسين بن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج2 ص: 239 . و ابن رجب البغدادي: الذيل على طبقات الحنابلة ، ج1 ص: 25 . و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 8 صث: 305 ، ج 9 ص: 3 .
    (1/191)
    ________________________________________
    و منها أن بعض خلفاء بني العباس شاركوا هم أيضا في الفتن الطائفية ببغداد بتشجيع طائفة على أخرى ، و الوقوف بجانبها ،و التدخل عسكريا لنصرتها ، كما حدث أيام الخليفتين القادر بالله (ت422ه) و القائم بأمر الله (422-467ه) ، فإنهما شجعا أهل الحديث على الأشاعرة ،و وقف الأول بجانب أهل السنة في نزاعهم مع الشيعة(1) .
    و الرواية السادسة ذكر فيها ابن خلدون أن عرب بني هلال و بني سليم دخلوا المغرب و خرّبوه منذ أول المائة الخامسة(2) . و هذا غير صحيح ، لأن الثابت أن هؤلاء اجتاحوا المغرب سنة 443ه و ما بعدها ، بأمر و تشجيع من الدولة العبيدية بالقاهرة ، عقابا للمعز بن باديس الصنهاجي الزيري الذي قطع الدعوة للعبيديين و حوّلها للعباسيين بين سنتي 440-443 هجرية(3) . فقوله أول المائة الخامسة غير صحيح ، لأن أول الشيء بدايته و فاتحته(4) ،و للمائة أول و أوائل ، و أوسط و أواسط ، و آخر و أواخر ، فهؤلاء دخلوا المغرب في أواسط المائة الخامسة ، و ليس في أولها و لا في أوائلها .
    __________
    (1) انظ مثلا : البداية ، ج 11 ص: 339، ج 12 ص: 26 . و طبقات الحنابلة ، ج2 ص: 196 ، 197، 239 .
    (2) المقدمة ، ص : 119 .
    (3) اللاوي: الاستقصاء ،1 ص: 195 . و عبد العزيز سالم : تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، ص: 574، 582 .
    (4) ابن منظور الإفريقي : لسان العرب ، ج 1 ص: 27 ، ج 2 ص: 539 . و الفيروز أبادي : القاموس المحيط ، ج 1 ص: 42 .
    (1/192)
    ________________________________________
    و الرواية السابعة ذكر فيها ابن خلدون أن المحضر الذي كتبه علماء بغداد و أعيانها للطعن في نسب العبيديين ، كان أيام الخليفة القادر بالله سنة 460 هجرية(1) . و هو هنا قد أصاب عندما ذكر أن المحضر كُتب أيام الخليفة القادر بالله ، لكنه أخطأ في تاريخ كتابته بذكره لسنة 460ه ، فكيف يُكتب في هذه السنة و القادر بالله نفسه قد مات سنة 422ه ؟ ! ،و كيف يكون من كُتابه : أبو الحسن القدوري ، و القاضي أبو محمد الأكفاني ، و الأول قد تُوفي سنة 428ه ، و الثاني تُوفي سنة 445ه ؟ ! ، فواضح من ذلك أن المحضر لا يمكن أن يكون كُتب سنة 460ه ، و أن ابن خلدون أخطأ في ذلك . و الصحيح هو أنه كُتب سنة 402ه ، على ما ذكره ابن الجوزي(2) .
    و الرواية الثامنة ذكر فيها ابن خلدون أن المغول لما دخلوا بغداد و خرّبوها ، أبقى ملكهم هولاكو خان ، على الوزير العباسي مؤيد الدين بن العلقمي ، وزيرا على بغداد ، ثم بعد مدة اضطرب حاله ،و قتله هولاكو(3) . و قوله بأن هولاكو قتل الوزير ابن العلقمي هو قول غير صحيح ، فقد طالعت كتبا كثيرة في التراجم و التواريخ ، تناولت دخول المغول لبغداد و تدميرهم لها ، و تعاملهم مع الوزير العلقمي و لم تذكر أنهم قتلوه . و المعروف أنه لما ولاه المغول الوزارة مات غما و هما بعد شهور من مغادرة هؤلاء لبغداد(4) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 18 .
    (2) المنتظم ، ج 7 ص: 255 ، 256 .
    (3) العبر ، ج 5 ص: 612 .
    (4) انظر مثلا : ابن كثير : البداية ، ج 13 ص: 249 . و ابن الوردي : تتمة المختصر في أخبار البشر ، ط1 ، بيروت دار المعرفة ، 1970 ، ص: 289 .
    (1/193)
    ________________________________________
    و الرواية السابعة تعرّض فيها ابن خلدون لأكثر المسلمين تأثرا بالفلسفة اليونانية ، فذكر من بينهم ابن سينا ، و قال عنه : (( و أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان و غيرها ))(1) . و قوله هذا فيه خطأ بيّن و تخليط واضح ،و ذلك أن الوزير نظام الملك ليس من دولة بني بويه أصلا ، فهذه الدولة سقطت سنة 447ه ، و نظام الملك كان في زمن الدولة السلجوقية التي أسقطت الدولة البويهية ، و قد تولى فيها نظام الملك الوزارة نحو سنة 450ه ، و استمر فيها إلى وفاته سنة 485ه . و ابن سينا عاش زمن الدولة البويهية ،و توفى سنة 428ه ، كان فيها لنظام الملك 20 سنة(2) .
    و أشير في هذا المقام إلى أن الباحث محمد الطالبي انتقد ابن خلدون في روايات ذكرها في تاريخه ، قال إنه أخطأ فيها ، نذكر بعضها فيما يأتي : منها أن ابن خلدون تناول مسألة نسب السلطان المملوكي برقوق-كان معاصرا لابن خلدون- ، فذكر أنه يُقال إن هذا السلطان من قبيلة جركس الساكنة ببلاد الشمال في الجبال المحيطة ببلاد القفجاق و الروس ،و هي من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم ، فاختلطوا بسكان المنطقة ،و حالفوا قبائل جركس و خالطوهم و تصاهروا معهم حتى تلاشت قبيلتهم ، فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ، فمن انتسب إلى غسان من جركس ،و هو مُصدق في نسبه ،و يُستأنس له بما ذكرناه ، فهو بنسبة قوية في صحته(3) . و قوله هذا هو عند الباحث محمد الطالبي أسطورة أراد بها ابن خلدون التقرّب بها إلى السلطان المملوكي برقوق ، فارتقى به إلى شرف الانتساب للعرب ، قصد المحافظة على الوظيفة و العطاء(4) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 442 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 19 ص: 94 .
    (3) محمد الطالبي: منهجية ابن خلدون التاريخية ، ص: 94، 50 . و العبر ، ج 5 ص: 536 .
    (4) نفس المرجع ، ص: 49 .
    (1/194)
    ________________________________________
    و الرواية الثانية تناول فيها ابن خلدون نسب الحفصيين الحاكمين بتونس ، فقد ألحق نسبهم بعمر بن الخطاب-رضي الله عنه- و جعلهم في أكرم محل من قريش ،و التمس لهم العلل في ذلك(1) . و قوله هذا هو غير صحيح أيضا عند محمد الطالبي ، و إنما قاله ابن خلدون تملقا للحفصيين مع علمه بأنهم بربر من قبيلة هنتاتة بجبال مصمودة بالمغرب الأقصى ، لكنه مع ذلك نسبهم إلى عمر بن الخطاب ، و له قصيدة طويلة في مدحهم ، قدّم بها النسخة الأولى من تاريخه للسلطان الحفصي أبي العباس ( 772-796ه ) ، منها قوله :
    قوم أبو حفص لهم ، ما + أدراك و الفاروق جد أول(2)
    و الرواية الثالثة تخص عبد الرحمن بن رستم ، قال عنه ابن خلدون إنه كان من (( مسلمة الفتح ،و هو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية ،و قدم إلى إفريقية مع طوالع الفتح فكان بها ، و أخذ يدين بالخارجية و الإباضية منهم ، و كان شيعة لليمنية و حليفا لهم )) ، و قوله هذا هو عند محمد الطالبي كله خليط من المتناقضات ، لا يستقيم حرف منه إذا نحن طبقنا عليه قانون المطابقة الذي ذكره هو . فعبد الرحمن ابن رستم توفي سنة 168ه ، فكيف يمكن أن يكون من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية ، و قد دارت رحاها بين سنتي : 14-16ه ؟ ، اللهم إلا إذا نحن حملنا عبارته على أنه من ذريته . و كيف يمكن أن يكون قدم إفريقية مع طوالع الفتح ،و هو بدأ سنة 27ه ، و تواصل إلى أن تمّ نحو سنة 74ه ؟ ، إنه يستحيل –لأسباب تاريخية- أن يكون ابن رستم قدم مع طوالع الفتح ، و لا حتى مع أواخره (3).
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 50 . و العبر ، ج 7 ص: 640 .
    (2) نفسه ، ص: 50 ، 51 . و نفسه ، ج 7 ص: 640 .
    (3) نفس المرجع ، ص: 53- 54 .
    (1/195)
    ________________________________________
    و كيف يكون ابن رستم خارجيا إباضيا مع طوالع الفتح ،و لم يشارك هو و أصحابه الخوارج في الفتح مع جند الخلافة الأموية ، الني كانوا ينكرون شرعيتها ،و ثاروا عليها مرارا بالمشرق ، قبل أن يكسروا شوكتها في المغرب ؟ . و كيف يكون شيعة لليمنية و حليفا لهم ، و هم من أنصار العرب المهيمنين على الحكم ، ثم هو في نفس الوقت يتزعم الحركة البربرية للثورة على الأمويين تحت لواء الإباضية ؟ . فكل ذلك يدل على أن ابن خلدون كان ينقل ما دوّنه بلا ذلك التمحيص الذي وضع من أجله منهجيته(1) .
    و الرواية الأخيرة- أي الرابعة- مفادها أن ابن خلدون نسب استشهاد عقبة بن نافع بموقعة تهودة إلى الكاهنة . و هذا عند محمد الطالبي أعمق (( في الابتعاد من الحقيقة ، إذ لا يختلف اثنان و لا يتناطح عنزان ، في أن عقبة إنما ذهب ضحية الثورة التي دبّرها كُسيلة و نفّذها رهطه من الأوّربة ))(2).
    و هذا الذي ذكره الباحث محمد الطالبي عن ابن خلدون في استشهاد عقبة بن نافع ، لم أجده في كتابه العبر ، و وجدت خلافه، فقد عثرت لابن خلدون- في موضعين من تاريخه- أنه أشار إلى مقتل عقبة بن نافع ،و ليس فيهما أن الكاهنة هي السبب في استشهاده ، فقال في الموضع الأول أن عقبة لما وصل إلى البحر المحيط و كرّ راجعا إلى القيروان – بعدما تفرّق جيشه عنه- استغل كُسيلة ملك الأوّربة و البرانس هذه الفرصة ،و أرسل من البربر من اعترض طريق عقبة عند تهودة ، فقتلوه هو و 300 من الصحابة و التابعين ،و استشهدوا جميعهم(3) . و الموضع الثاني ذكر فيه ابن خلدون أنه لما تفرّق الجيش عن عقبة بن نافع ، رآه الروم فأرسلوا إليه كُسيلة الذي جمع الأعوان و خادع عقبة و قتله(4) .
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 53 ، 54 .
    (2) نفسه ، ص: 53 .
    (3) العبر ، ج 4 ص: 237-238 .
    (4) نفس المصدر ، ج 6 ص: 193 .
    (1/196)
    ________________________________________
    فهذان الموضعان شاهدان على أن الذي قتل عقبة بن نافع هو كُسيلة و أصحابه ، و لا يُوجد أي ذكر للكاهنة ، اللهم إلا أن يكون ابن خلدون قد ذكرها في رواية أخرى في موضع آخر من تاريخه لم أعثر عليه . لكن حتى و إن افترضنا صحّة ذلك فإنه من الخطأ أن نذكر ما قاله عن ما فعلته الكاهنة ،و نسكت عما ذكره عن ما قام به كُسيلة في قتل عقبة بن نافع ،و هذا الذي أخطأ فيه الباحث محمد الطالبي و غفل عنه .
    و أشير هنا أيضا إلى رأي للباحث محمد فاروق النبهان ، مفاده أن بعض المؤرخين المسلمين كابن حجر ، انتقدوا تاريخ ابن خلدون و بخاصة فيما يتعلق بتاريخ العرب و الإسلام بالمشرق ، من حيث قُصوره و عدم استيعابه للمصادر ، و عدم تحقيقه لما رواه ،و الاعتماد كليا على ما نقله السابقون . ثم قال محمد النبهان : إن ابن خلدون كان قد اعترف بذلك ، لأنه لم يكن معنيا بتدوين تاريخ المشرق ، و إنما كان يُريد تدوين أخبار المغرب و دوله و قبائله(1) .
    و دفاعه هذا عن ابن خلدون ضعيف جدا ،و لا يكفي لرفع الانتقادات الموجهة إليه ، لأنه أولا أن المفروض عليه –أي ابن خلدون- كمؤرخ ناقد مُمحص أن يلتزم بالمنهج العلمي النقدي في التدوين و التحقيق ، سواء كتب عن تاريخ المغرب أو عن تاريخ المشرق ، أو كتب عنهما معا ، فإذا تخلى عن ذلك فإنه يكون قد نقض منهجه التاريخي الذي عرضه في مقدمته ، و انتقد من خلاله المؤرخين المسلمين الذين سبقوه ، و هو إن كان صرّح أنه كان يريد تدوين تاريخ المغرب فقط ، ثم تراجع عن ذلك ، فهذا لا يعفيه من الالتزام بالمنهج التاريخي النقدي ، فهو مُطالب بالالتزام به في الحالتين ؛ و بذلك يتبين أن الاعتذار الذي ذكره الباحث محمد النبهان هو اعتذار ضعيف جدا .
    __________
    (1) الفكر الخلدوني ، ص: 92 .
    (1/197)
    ________________________________________
    و ثانيا إنه سبق أن ذكرنا كثيرا من الروايات التي أخطأ فيها ابن خلدون ، كانت تتعلق بتاريخ المغرب لا بتاريخ المشرق ، مما يدل على أنه لم يلتزم بمنهجه التاريخي و أخل به إخلالا كبيرا ، حتى فيما يخص تاريخ المغرب . و يدل أيضا على أن دفاع الباحث محمد النبهان عن ابن خلدون لم يكن في محله و لا يرفع الانتقاد الموجه لابن خلدون .
    و ختاما لهذا الفصل يتبين مما ذكرناه فيه ، أن نماذج الأخطاء التي أوردناها هي شواهد كافية على أن ابن خلدون كانت له أخطاء كثيرة في مقدمته و تاريخه ، مست مختلف جوانب الحياة العلمية ، و السياسية ، و الاجتماعية ، كان في بعضها مُخطئا ،و في أخرى متعمدا متعصبا ،و في أخرى مبالغا مموها ، تشهد كلها على أنه لم يلتزم بالمنهج النقدي التاريخي الذي عرضه في مقدمته التاريخية .
    .................................................. ..........................
    الفصل الرابع
    مجازفات ابن خلدون و مغالطاته في كتابه المقدمة
    أولا: في تفسيره لانتشار المذهب المالكي بالمغرب .
    ثانيا: في تفسيره لقلة انتتشار المذهب الحنبلي بالمشرق .
    ثالثا: في موقفه من المنطق الأرسطي .
    رابعا: في موقفه من الصوفية .
    … خامسا: مغالطاته و أخطاؤه في مسألة الصفات الإلهية .
    … سادسا : مجازفات في صيغة حتميات أو شبه حتميات .
    .................................................. ...............................
    مجازفات ابن خلدون و مغالطاته في كتابه المقدمة
    لابن خلدون مجازفات و مغالطات كثيرة ، نجدها مبعثرة في ثنايا مقدمته ، أطلقها تفسيرا لقضايا و أمور تناولها في مقدمته ،و قلنا إنها مجازفات لأن ابن خلدون أرسلها إرسالا بلا روية و لا تمعن ،و قلنا عن بعضها إنها مغالطات لأنه تعمد فيها التغليط و التدليس ،و سنذكر منها طائفة من خلال عرض مواقفه من بعض القضايا التي تناولها في مقدمته .
    أولا : في تفسيره لانتشار المذهب المالكي بالمغرب الإسلامي:
    (1/198)
    ________________________________________
    ذكر ابن خلدون أن المغاربة في زمانه كلهم مالكية المذهب ، و أرجع ذلك إلى عاملين ، الأول رحلة المغاربة إلى الحجاز ،و هو منتهى سفرهم ، و المدينة يومئذ دار العلم ،و لم يكن العراق في طريقهم ، فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة . و الثاني هو عامل البداوة ، فقد (( كانت غالبة على أهل المغرب و الأندلس ،و لم يكونوا يُعانون الحضارة ، التي لأهل العراق ، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة ))(1) .
    و قوله هذا مجازفة لا يصلح لتفسير انتشار المذهب المالكي بالمغرب و هيمنته عليه ، لأنه أولا إن رحلة المغاربة إلى المشرق كانت أساسا وسيلة اتصال و انتقال للمذهب المالكي من المشرق إلى المغرب ،و لم يكن عامل انتشار و هيمنة ، لأن انتقاله إلى المغرب لا يعني بالضروة أنه انتشر فيه انتشارا واسعا ،و أنه تغلب فيه على كل المذاهب، لذا وجدناه ظل نحو ثلاثة قرون في صراع مع مذاهب أخرى حتى تمكن من هزمها و الهيمنة على المنطقة ، بفضل تدخل عوامل أخرى سنذكرها لاحقا إن شاء الله تعالى .
    كما أن عامل الرحلة إلى المشرق لم يكن خاصا بالمغاربة وحدهم ، بل هو يعم كل المسلمين ؛ فهم أيضا رحلوا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، و اتصلوا بعلماء مكة و المدينة كما فعل المغاربة ، فتأثروا و أثروا ، فلماذا لم يتأثروا بالمذهب المالكي و ينشرونه ببلدانهم كما فعل المغاربة ؟ . و أما قوله إن معظم المغاربة لا يمرون ببغداد في أثناء رحلتهم إلى الحج ، فهذا معروف لأن بغداد بعيدة عن طريقهم إلى الحج ، لكنهم كانوا يمرون عل بعض مدن الديار المصرية ،و فيها المذهب الشافعي و الحنفي و الحنبلي ، فلماذا لم يتأثروا بها كتأثرهم بالمذهب المالكي ؟ .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 356 .
    (1/199)
    ________________________________________
    و ثانيا إنه –أي ابن خلدون- جعل البداوة عاملا مهما من عوامل انتشار المذهب المالكي بالمغرب الإسلامي ، و تفسيره هذا هو أيضا مجازفة و تعليل غير صحيح لتلك الظاهرة ، لأن المغرب قد شهد مذاهب أصولية و فروعية كثيرة ، لم يكن للبداوة دخل في انتشارها فيه ، و نافست المذهب المالكي بقوة و تغلّبت عليه مرارا ، منها المذهب الإباضي و الصفري و الإسماعيلي ، و قد تمكنت هذه المذاهب من تكوين دول لها ، و كانت ظاهرة زمن قيام دولها ، فهذه المذاهب انتشرت بفضل دعاتها و ساستها ، و احتضان كثير من المغاربة لها ، و لا دخل للبداوة في ذلك .
    و لو كان لعامل البداوة أثر يُذكر في انتشار المذهب المالكي بالمغرب ، لكان من الأولى أن ينتشر أساسا بالجزيرة العربية و المناطق البدوية الأخرى بالمشرق ، قبل أن ينتشر بالمغرب ، أو ينتشر بها كلها على حد سواء ، لكن هذا لم يحدث ، فقد ظل المذهب المالكي قليل الانتشار بالجزيرة العربية و بادية العراق و الشام و فارس و خُراسان و خُوارزم ، بالمقارنة إلى المذهبين الشافعي و الحنفي ، و هذه الحقائق معروفة متواترة ما تزال قائمة إلى يومنا هذا .
    (1/200)
    ________________________________________
    و ثالثا إن ابن خلدون سكت عن العامل الأساسي و الحاسم في انتشار المذهب المالكي بالمغرب و هيمنته عليه ، و هو الدعم السياسي القوي الذي تلقاه من دول حكمت المغرب ، فقد ظل المذهب المالكي في تنافس و نزاع مع المذهب الصفري ، و الإباضي ، و الإسماعيلي، و الحنفي لمدة طويلة ، ثم تغير الحال لصالحه ، عندما أسقط العبيديون الدولتين الخارجيتين الرستمية و المدرارية ، و عندما خرجوا هم من المغرب إلى القاهرة نحو سنة 360ه ، فتركوا خلفاءهم الزيريين بالمغرب ، الذين مالوا إلى المذهب السني ،و أيدوا المذهب المالكي ، ثم إنهم في سنة 434ه فرضوه-أي المذهب المالكي- على الناس بالقوة و ضيقوا على المذاهب الأخرى . و كذلك المرابطون اتخذوا المذهب المالكي مذهبا رسميا لدولتهم ،و الأمر نفسه فعلته الدول التي حكمت المغرب بعد زوال دولة الموحدين (سنة668ه) التي ضيقت على المالكية(1) . فهذا العامل السياسي الحاسم هو الذي جعل المغرب -زمن ابن خلدون - كلهم مالكية تقريبا ، و ليس ما زعمه ابن خلدون . و لا شك أنه كان يعلم أهمية أثر العامل السياسي في انتشار المذهب المالكي ، فلماذا أغفله ؟
    يبدو لي أنه سكت عنه عمدا ، ربما لأنه رأى أن في الاعتراف بذلك هو إنقاص من قيمة مذهبه الذي يقلده ، و أنه يعني أيضا أن انتشاره لم يكن نابعا من قوته العلمية الذاتية ، و إنما كان بالدعم الخارجي السياسي ، الذي وفرته له الدول التي تبنّته ، و هذا الدعم لو توفر لأي مذهب آخر لانتشر بغض النظر عن صحته من بطلانه ، كما كان حال المذهب الإسماعيلي ، زمن دولة العبيديين ، فرغم انحرافه و بطلانه ، كان هو السائد زمن تلك الدولة .
    __________
    (1) انظر : السلاوي: الاستقصاء ، ج 1 ص: 194، 195 . و إبراهيم التهامي: جهود علماء المغرب ، ص: 152 . و عبد العزيز سالم : تاريخ المغرب في العصر الإسلامي ، ص: 512 ، 548 .
    (1/201)
    ________________________________________
    و كذلك الباحث محمد فاروق النبهان ، فإنه هو أيضا رد على ابن خلدون في جعله البداوة من عوامل انتشار المذهب المالكي بالمغرب ، و قال إن من أسباب انتشاره هجرة المغاربة إلى الحج ،و حب المغاربة للسنة النبوية ، و استقبالهم للأدارسة من البيت العلوي(1) .
    و قوله هذا هو أيضا ضعيف جدا ، فعامل الرحلة إلى الحج تكلمنا عنه سابقا . و حب المغاربة للسنة النبوية ، ليس خاصا بهم ، فكل المسلمين يُحبونها ،و مع ذلك لم ينتشر بينهم المذهب المالكي ،و تبنوا مذاهب أخرى بعضها أكثر اعتناء بالسنة النبوية من المذهب المالكي ، كالمذهب الحنبلي(2) . و عليه فإنه لا يُوجد أي تلازم بين حب السنة و انتشار المذهب المالكي ! . و أما استقبالهم للأدارسة فهذا لا يخص إلا قلة من سكان المغرب الأقصى الذين استقبلوا إدريس بن عبد الله العلوي ، أما الغالبية العظمى من المغاربة فلم يكونوا أدارسة أصلا . كما أن استقبال هؤلاء لإدريس كان سنة 172ه ، حيث لم يكن المذهب المالكي قد انتشر بعد ُ ، و كان مالك بن أنس ما يزال حيا ، فقد تُوفي سنة 179ه . و هو أيضا-أي محمد النبهان- قد أغفل أثر العامل السياسي و أهميته في انتشار المذهب المالكي بالمغرب ، و قد سبق أن توسعنا في ذلك و بينا أنه كان العامل الأساسي الحاسم في انتصاره على المذاهب التي كانت تنافسه ،و هيمنته على المغرب و انفراده به .
    ثانيا : في تفسيره لقلة انتشار المذهب الحنبلي بالمشرق الإسلامي :
    عندما تكلّم ابن خلدون عن انتشار المذاهب السنية الأربعة بالأمصار الإسلامية ، قال عن مذهب الحنابلة : (( فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل ، لبعد مذهبه عن الاجتهاد ،و أصالته في معاضدة الرواية و الأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها ))(3)
    __________
    (1) الفكر الخلدوني ، ص: 310 .
    (2) انظر مثلا : سليمان الأشقر : المدخل إلى المدارس و المذاهب الفقهية .
    (3) المقدمة ، ص: 355 .
    (1/202)
    ________________________________________
    و قوله هذا غير مستقيم ،و مخالف للحقائق التاريخية الثابتة ، فهو أولا علل قلة أتباع المذهب الحنبلي ببعده عن الاجتهاد ،و هو تعليل غبر صحيح ؛ لأن من المعروف في التاريخ-و الواقع أيضا- أن عامة الناس ما كانت تختار مذاهبها و عقائدها بناء على البحث و الاجتهاد و الاقتناع ، وإنما كانت تتبناها تجاوبا و انسياقا مع الظروف السياسية و الاجتماعية السائدة في المجتمع ؛ لأن الغالبة العظمى من الناس كانوا-و مازالوا- على دين ملوكهم و علمائهم . فعندما حكم الرافضة الإسماعيلية مصر تحوّل معظم شعبها إلى مذهبهم ؛ و عندما استعادها الأيوبيون تخلى الناس عن ذلك المذهب و عادوا إلى المذاهب السنية الأربعة .
    و أما الأسباب الحقيقية التي أدت إلى قلة أتباع المذهب الحنبلي ، فلم يذكرها ابن خلدون في مقدمته ؛ وهي –في اعتقادي- أربعة أسباب أساسية ، أولها تأخر ظهور مذهب الحنابلة ، فهو آخر المذاهب السنية ظهورا و انتشارا (ق:3-4ه) .فقد سبقه المذهب الحنفي و المالكي و الشافعي ؛ لذا فهو عندما ظهر وجد الناس قد تمذهبوا بتلك المذاهب ، مما صعّب عليه الانتشار بينهم . و الثاني هو أنه لم يكن للحنابلة –طوال التاريخ الإسلامي الوسيط- دولة تبنت مذهبهم و طبقته على الناس أصولا و فروعا .و السبب الثالث هو أن علماء الحنابلة و أعيانهم ابتعدوا عن العمل السياسي المباشر و الفعّال ، كتسلّم الوزارة و الحجابة ،و قيادة الجيوش ؛ و لا يعرف من تولى منهم الوزارة إلا نحو خمسة فقط( في ظرف يزيد عن خمسة قرون ) ، أشهرهم : عون الدين بن هبيرة (ت 560ه) و جلال الدين بن يونس(ق:6ه) . فابتعادهم عن ذلك حرم مذهبهم من الدعم السياسي و المادي للانتشار بين الناس .
    (1/203)
    ________________________________________
    و السبب الرابع هو أن المذهب الحنبلي وجد في طريقه صعوبات و عراقيل كثيرة من المذاهب السنية الأخرى ؛ فقد تصدت له و قاومته و حدّت من نشاطه ، في أوقات كثيرة من التاريخ الإسلامي ، كما هو الحال زمن الوزير السلجوقي نظام الملك(ت485ه) ،و الأيوبيين و المماليك(1) . لكن المذاهب السنية الأخرى حالها يختلف عن حال المذهب الحنبلي ، فأهم عامل ساهم في انتشارها و تثبيتها و صمودها، هو العامل السياسي فقد كانت لها دول تتبناها و تدافع عنها ؛ فمن الثابت تاريخيا أن معظم دول المغرب و الأندلس كانت تتبنى المذهب المالكي . و الدولة العباسية و السلجوقية و الزنكية و العثمانية كانت كلها على المذهب الحنفي . و الدولتان الأيوبية و المملوكية كانتا على المذهب الشافعي . و أما العوامل الأخرى فإن تأثيرها كان محدودا لا يرقى إلى تأثير العامل السياسي الحاسم .
    __________
    (1) الموفق بن قدامة المقدسي : التبيان في بيان القرآن ، مجلة البحوث الإسلامية ، الرياض ، العدد 19 ، ص: 280 . و المقريزي: الخطط ، ج2 ص: 443 .
    (1/204)
    ________________________________________
    و أما ثانيا فإن ابن خلدون ادعى أن مذهب الإمام أحمد بعيد عن الاجتهاد ، و هو ادعاء غير صحيح ، لأن توسع المذهب الحنبلي في الأخذ بالروايات و أقوال السلف لم يحد من مجال اجتهاداته ، وإنما زوّده بثروة علمية متنوعة من الاختيارات و المناهج ،و فتح عليه مجالا واسعا للاجتهاد تعليلا و مقارنة و اختيارا . و الشاهد على ذلك أن الحنابلة الأوائل قد رووا عن إمامهم ثروة فقهية كبيرة و متنوعة جمع أكثرها أبو بكر الخلال (ت311ه) و تلميذه غلام الخلال(ت361ه)(1) . و رووا عنه-أيضا- أنه كان يذم التقليد و يحث على الاجتهاد في الفروع ، كقوله : (( لا تقلدني و لا تقلد مالكا و لا الأوزاعي و لا النخعي و لا غيرهم ، و خُذ الأحكام من حيث أخذوا ، من الكتاب و السنة ))(2) .
    و مما يبين أن الاجتهاد في المذهب الحنبلي أصيل و له مكانة مرموقة فيه ، أنه قد برز فيه علماء مجتهدون كبار ، في زمن خيم عليه التقليد و التعصب المذهبيين ( فيما بين القرنين:5-8ه ) فكسروا ذلك القيد و كانت لهم اجتهادات و اختيارات حرة جديرة بالتدبر و التنويه و التقدير ، منهم : أبو الوفاء بن عقيل البغدادي(ت 513ه) ،و أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي(ت510ه) ،و عبد الرحمن بن الجوزي(ت597ه) ،و الموفق بن قدامة المقدسي (ت620ه) ،و تقي الدين بن تيمية (ت 728ه) ، و تلميذه ابن قيم الجوزية (ت751ه ) .
    و بذلك يتبين جليا إن ما قاله ابن خلدون عن سبب قلة انتشار المذهب الحنبلي بالمشرق الإسلامي ، هو قول غير صحيح ، بينا تهافته و أنه مجازفة من مجازفاته ، لا ندري سببها .
    ثالثا : في موقفه من المنطق الأرسطي :
    __________
    (1) ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 278 . و بدر الدين الحنبلي: مختصر فتاوى ابن تيمية ، ص: 614 .
    (2) ولي الله الدهلوي : الانصاف ، حققه عبد الفتاح أبو غدة ، بيروت ،ط3، دار النفائس، 1983 ص: 105 .
    (1/205)
    ________________________________________
    ذكر ابن خلدون أن المنطق الأرسطي-الصوري- صناعة تسير بها الأدلة ،و تُعتبر بها الأقيسة ،و قد انتشر بين الناس بعد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478ه) ، فقرؤوه و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية ، لأنه قانون و معيار للأدلة فقط ،و يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة ، و فائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات ، نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره(1) . لكنه عاد و قرر في موضع آخر من مقدمته ، أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع و بعدها عن المحسوس(2) .
    و ردا عليه أقول : أولا إنه قال إن المنطق هو قانون و معيار يعصم العقل من الخطأ . ثم عاد و ناقض نفسه عندما قرر أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط ، فهذا نقض واضح لما قرره سابقا .
    و ثانيا إن موقفه الأول من المنطق كان فيه مقلدا لطائفة من العلماء المتأثرين بمنطق اليونان ، في زعمهم أن المنطق اليوناني هو قانون عاصم للذهن من الخطأ ، و أشهر الذين زعموا ذلك أبو حامد الغزالي ، الذي ألحق بكتابه المستصفى في علم الأصول مقدمة منطقية ، زعم أنها مقدمة لكل العلوم ، من لم يُحط بها علما فلا ثقة في علمه(3) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 368 ، 392 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 465 .
    (3) المستصفى في علم الأصول ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1996 ، ص: 10 .
    (1/206)
    ________________________________________
    و ثالثا إنه عندما قال إن الناس فرّقوا بين المنطق و بين الفلسفة و أقبلوا عليه ، كان مُغالطا للقراء ، لأن الذين فرّقوا بينهما ليس الناس مطلقا ، و إنما هم طائفة من أهل الكلام و الفقهاء المتأثرين بالفلسفة و الكلام ، كالغزالي و المتأثرين به كابن خلّكان و تاج الدين السبكي(1) . لكنه سكت عن كبار العلماء الذين عارضوا المنطق و رفضوه ، و بعضهم رد عليه ردا علميا مُفحما ، منهم : أبو عمر بن الصلاح ، و محي الدين النووي ، ابن تيمية ، و الذهبي ، و ابن قيم الجوزية ،و غيرهم(2) .و يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية من أعظم العلماء المسلمين الذين ردوا على المنطق الأرسطي ردا علميا قويا مُفحما ، جمع فيه بين صحيح المنقول ،و صريح المعقول ، و الواقع المحسوس ، في كتابه القيم الرد على المنطقيين ، و هو مطبوع و متداول بين أهل العلم .
    __________
    (1) انظر : ابن خلكان : وفيات الأعيان ، ج 3 ص: 326 . و السبكي: طبقات الشافعية الكبرى ، حققه محمود الطناجي، ط2 ، مصر ، دار هجر ، 1992 , ج 6 ص: 255 .
    (2) الذهبي : العبر في خبر من غبر ، حققه صلاح الدين المنجد ، ط2 ن الكويت ، مطبعة الحكومة ، 1948 ، ج 2 ص: 257 . و السير ، ج 23 ص: 143 . و ابن العماد الحنبلي : شذرات ، ج 4 ص: 215 . و ابن تيمية : الصفدية ، حققه رشاد سالم، ط2 ، دم ، دن ، 1406 ، ج 1 ص: 159 . و ابن قيم الجوزية : إغاثة اللهفان ، حققه حامد الفقي ، ط2 ، بيروت ، دار المعرفة ، 1975، ج 2 ص: 260 .
    (1/207)
    ________________________________________
    مع العلم أن جمهورعلماء أهل السنة قبل الجويني(ت478ه) و الغزالي (ت505ه) ، قد رفضوا المنطق الأرسطي و أعرضوا عنه ، و ردوا على دعاويه العريضة الفارغة ردا عمليا ، و ذلك أنهم هجروه و طلبوا العلم معتمدين على المنطقين الشرعي و الفطري ، فأصبحوا بذلك علماء كبارا ، لهم إنتاج علمي غزير ،و تلاميذ كثيرون ، من دون الاعتماد على المنطق الأرسطي ، فأقاموا بذلك الدليل المادي الدامغ على بطلان زعم المنطقيين بأن العلم يتوقف على منطقهم فقط .
    و رابعا إن الزعم بأن المنطق الآرسطي هو معيار العلم و قانونه ،و أنه عاصم للذهن من الخطأ ، هو قول غير صحيح ، لأن أهله هم من أكثر الناس خطأ و اختلافا ،و لم يعصمهم منطقهم من ذلك .و لأن الناس قد عرفوا العلم و برعوا فيه بدون منطق اليونان ، قبل آرسطو و بعده . و حتى آرسطو ذاته جاء منطقه ثمرة للمنطق الفطري الطبيعي و ليس العكس بمعنى أن منطقه جاء ثمرة لعلمه ،و لم يكن علمه ثمرة لمنطقه . و علومنا الحديثة الطبيعية و الإنسانية شاهدة على ما نقول ، فهي تقوم كلها على المنطق الاستقرائي التجريبي ،و لا مكان فيها لمنطق اليونان .
    (1/208)
    ________________________________________
    و خامسا إنه من الغريب جدا أن بعض كبار علماء أهل السنة ، كابن حزم و أبي حامد الغزالي ، قد بالغوا في تعظيم المنطق المشائي تعظيما لا مبرر له شرعا و لا عقلا ،و لا تاريخا و لا واقعا . و يبدو لي أن هؤلاء ربما قالوا ذلك في مرحلة من مراحل حياتهم العلمية الأولى ، كانوا فيها في حالة قلق و انبهار بالفلسفة اليونانية ، ثم غيروا موقفهم منه . و هذا ما ذكره الذهبي عن ابن حزم من أنه تعاطى المنطق ، ثم أعرض عنه و أقبل على علوم الإسلام(1) . و عن الغزالي قال الباحث سامي النشار : إنه –أي الغزالي – ربما يكون غيّر موقفه من المنطق بعدما تبين له التناقض بين الروحّين الإسلامية و اليونانية ، و بعد تركه لعلم الكلام و الفلسفة، و إقباله على طريق المعرفة الصوفية(2) .
    و سادسا إن الزعم بأن علوم الشريعة تتوقف على منطق اليونان ،و أنه من أهم آلاتها ، هو زعم باطل من أساسه ، لأن دين الإسلام دين كامل ، ظهرت علومه بظهوره ، فأقبل عليها المسلمون دراسة و تدريسا ، تقعيدا و تدوينا ، منذ القرن الأول إلى القرن الثالث الهجري و ما بعده ، و لم يكن لهم أي اتصال بمنطق اليونان . و هذا يثبت أنهم لم يكونوا في حاجة إليه البتة ، و أن إدخاله في العلوم الشرعية هو خطأ فادح ،و إخراج للعقل المسلم من منطقه الفطري الشرعي الواسع ، إلى منطق اليونان المشائي الضيق المُعوج المعوّق للفكر .
    و بذلك يتبين من مناقشتنا لمقولة ابن خلدون في المنطق الأرسطي، أنه ساير فيها طائفة من المتكلمين و الفقهاء المتأثرين بأبي حامد الغزالي في تعظيمه للمنطق و دعوته إلى استخدامه في كل العلوم . فأوقعه ذلك في المبالغة و الخطأ ،و المجازفة و المغالطة ، في مدحه للمنطق و تعظيمه ،و إن وجه له انتقادا ناقصا محتشما .
    __________
    (1) تذكرة الحفاظ ، ج3 ص: 1148 .
    (2) سامي النشار : مناهج البحث عند مفكري الإسلام ، بيروت دار النهضة العربية ، 1984 ص: 179، 180، 355 .
    (1/209)
    ________________________________________
    رابعا: في موقفه من الصوفية :
    ذكر ابن خلدون أن في الصوفية قوما بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء ، و هم مع ذلك فقد صحت لهم مقامات الولاية و أحوال الصديقين ، و عَلِم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق ، مع أنهم غير مكلفين . ثم زعم أيضا أن ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء ،و لا يتوقف حصول الولاية على العبادة و لا غيرها(1) .
    و ردا عليه أقول : أولا إن زعمه هذا هو من أكبر مجازفاته و مغالطاته ،و هو قول مردود عليه ،و باطل جملة و تفصيلا ، لا دليل له فيه من الشرع و لا من العقل . و هو دعوى مجردة عن الدليل الصحيح، و الدعوى لا يعجز عنها أحد ، و عليه فإنه لا يصح أن نترك الشرع و العقل ،و نحتكم إلى أذواق الصوفية في حكمهم على بعضهم بعضا ، و هي أذواق قائمة على الأهواء و الواقعات و الإحساسات الوجدانية ، تجعل كل صوفي يدعي ما يُريده باسم الذوق و الوجدان ، و من هذا حالهم يصدق عليهم قوله تعالى: (( و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ))-سورة القصص/50-
    و ثانيا إن المقياس الأول و الوحيد في مسألة الولاية ، هو الشرع وحده ، به تُعرف صفات أولياء الله المتقين ، و به تُعرف صفات أولياء الشياطين ، فالله تعالى هو المُشرع و إليه الاحتكام ، أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل أحالنا فيه على الأهواء و الأذواق ، و هذا باب خطير يؤدي إلى الزندقة و الانحلال ، فيصبح كل من يريد أن يدعي شيئا يقول : حدثني قلبي عن ربي ، و حدثني قلبي عن شيخي ، و حدثني قلبي عن رسول الله ،و حدثني إحساسي و وجداني أنه سيقع كذا و كذا ... إلخ فينفتح بذلك باب عريض من الضلال و الانحراف و الدعاوى الباطلة .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 88 .
    (1/210)
    ________________________________________
    كما أن زعمه بأن الولاية لا تتوقف على العبادة هو زعم باطل جملة و تفصيلا ، لأنه مُخالف للشرع مخالفة صريحة ، فالله سبحانه و تعالى قد عرفنا بصفات أوليائه المتقين ،و لم يتركها للصوفية لكي يُميزوا بأهوائهم أولياء الرحمن من أولياء الشيطان ، قال سبحانه و تعالى: (( إن أولياؤه إلا المتقون ،و لكن أكثرهم لا يعلمون ))-سورة الأنفال /34 - ،و (( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون )) –سورة يونس /63- ، فشرط الولاية واضح و محدد ، هو الإيمان و التقوى ، و كلمة التقوى مصطلح جامع لكل أوامر الشرع . و قال أيضا (( لهم دار السلام عند ربهم ،و هو وليهم بما كانوا يعملون ))-سورة الأنعام/127- و (( الله ولي المؤمنين ))-سورة آل عمران /68- ،و المؤمنون الذين قصدهم الله تعالى هم الذين قال فيهم : (( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا، و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ))-سورة الحجرات/15 - . و في الحديث القدسي إن الله تعالى قال : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ،و ما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، و لا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أُحبه ... ))(1) ، فمحبة الله تعالى تُنال بأداء الفرائض و الإكثار من النوافل. و هذه النصوص التي ذكرناها هي أدلة دامغة و شواهد ناصعة على أن الولاية لله تعالى لا تتحقق لعباده إلا بالإيمان و العبادة ،و هي ثمرة لهما .
    __________
    (1) البخاري: الصحيح ، باب التواضع ، ج 5 ص: 2384 .
    (1/211)
    ________________________________________
    و ثالثا إن ما زعمه ابن خلدون من حصول الولاية بلا عبادة ، بدعوى أن ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، هو زعم باطل ،و افتراء على الله ،و مغالطة مفضوحة ، لأن الله تعالى لم يترك الأمر دون تحديد ولا تعريف ، حتى يزعم ابن خلدون ذلك الزعم المُضحك ، فالله تعالى جعل الولاية مرتبطة بالإيمان و الإخلاص و العمل الصالح ، فهي لا تتحقق إلا بذلك ،وفق سنة الله في الجزاء و العقاب .
    و بناء على المنطق المعوج الذي استخدمه ابن خلدون ، فيمكننا مخالفة النصوص الشرعية المحكمة الواضحة ، و نقول بما أن الله تعالى ذو فضل عظيم ، و رحمة واسعة، و فعال لما يريد، و يؤتي فضله من يشاء بغير حساب ، فإنه ربما يُدخل الكفار و الملاحدة و الطغاة جنته ،و لا يُدخلهم النار أبدا . و لا شك أن هذا الزعم يتفق مع ذلك المنطق المعوج الذي استخدمه ، لكنه مع ذلك هو زعم باطل ، لأنه يتناقض مع النصوص الشرعية ، مناقضة صريحة ، و يُخالف المعروف من دين الإسلام بالضرورة.
    و رابعا إنه بناء على زعم ابن خلدون من حصول الولاية بلا عبادة ، فإن ذلك يعني أنه قد يكون لله تعالى أولياء من الكفار و الملاحدة ، الفساق و الظالمين ، و إذا جاز ذلك فلا معنى لإرسال الرسل ،و إنزال الكتب و تشريع الشرائع للالتزام بها ، ما دامت الولاية قد تحصل بلا عبادة ! . و لا شك أن هذا زعم باطل من أساسه ، استلزمه زعم ابن خلدون ، فعجبا منه كيف باع الفقه بالتصوف ، و جعل البهاليل أولياء ؟ ! . و واضح أنه لم يقل ذلك جهلا ،و إنما قاله مسايرة للواقع ، حيث كان للصوفية في زمانه دولة و سطوة ، فبدلا من أن ينتقدهم أو يسكت عنهم على الأقل ، مدحهم و وصف مهابيلهم بالولاية ، لعله يكسب ودهم ،و يُبعد شرهم عن نفسه ،و الله أعلم .
    (1/212)
    ________________________________________
    و زعم أيضا أن الصوفية لهم واقعات كثيرة يُخبرون بها عن المغيبات قبل وقوعها ،و لهم في ذلك عجائب تظهر على كلامهم ،و لا يتقيدون فيها بشيء(1) .
    و أقول : أولا إن القول بأن الصوفية-أو غيرهم- يعلمون الغيب بإخبارهم عن أمور قبل وقوعها ، هو قول باطل جملة و تفصيلا ، لقوله تعالى : (( قل لا يعلم من في السموات و الأرض الغيب إلا الله ))- سورة النمل/65- و (( عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدا)) –سورة الجن /26- ،و (( ما كان الله ليطلعكم على الغيب )) – سورة آل عمران/179- ، و (( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ،و لا أعلم الغيب ))-سورة الأنعام/50- ،و (( لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ))-سورة الأعراف/188- ،و (( فقل إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ))-سورة يونس /20- ، و (( الله يعلم و أنتم لا تعلمون ))-سورة آل عمران / 66- فالله تعالى استأثر بالغيب و لا يعلمه إلا هو سبحانه .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 88 ، 372، 388 .
    (1/213)
    ________________________________________
    و ثانيا إن قوله بأن هؤلاء الصوفية يُخبرون بالعجائب ، فهي إما أنها أكاذيب يُروجها أتباعهم المفتونون بهم . و إما هي من باب الاحتمالات و الرجم بالغيب ، فيختلط فيها الصواب بالخطأ . و إما هي من باب الحيل و الشعوذة . و إما هي أحوال و تلبيسات شيطانية ، لقوله تعالى: (( شياطين الإنس و الجن يُوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ))- سورة الأنعام/112- ،و (( يوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ،و قال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ))-سورة الأنعام/128- ،و (( كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ))-سورة البقرة/275- . و هؤلاء الشياطين هم أيضا لا يعلمون الغيب ، لكن الذي عندنا غيب قد يكون عندهم شهادة ، فيُخبرون به أولياءهم من الإنس . قال تعالى : (( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المُهين ))-سورة سبأ/ 14- .
    و ربما يٌقال إن ذلك من باب الكرامات ، فأقول : إن الكرامة تكون لعباد الله المخلصين الأتقياء ،و هي ليست علما بالغيب ، لأن الله تعالى أخبرنا أنه لا يعلم الغيب إلا هو ، إنما هي من باب الرزق و العطاء ، فهو سبحانه كما يرزق بالماديات فإنه يرزق أيضا بالمعنويات ، فهو رزق محكوم بسنة الله في خلقه ، له أسبابه و موجباته و لا يُعد علما بالغيب .
    و زعم أيضا أن هؤلاء الصوفية يتصرفون بهمهم و قوى أنفسهم في الموجودات السفلية ، و تصير طوع إرادتهم ،و هو أمر صحيح غير منكر(1) .
    و قوله هذا هو أيضا من مجازفاته ، و باطل جملة و تفصيلا ، أولا إن ما زعمه هو مجرد دعوى لم يُقم عليها دليلا من الشرع و لا من العقل و لا من الواقع الصحيح ، و الدعوى في ذاتها ليست دليلا ،و إنما هي زعم ، و الزعم لا يعجز عنه أحد .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 372 ، 388 .
    (1/214)
    ________________________________________
    و ثانيا إن زعمه يعني أن هؤلاء الصوفية بتصرفهم في الكون هم شركاء لله في مخلوقاته و في تسييره لها ، و هذا زعم باطل بلا شك ، لأن الله تعالى يقول : (( و لله غيب السموات و الأرض ،و إليه يُرجع الأمر كله ))-سورة هود/123- ،و (( الملك القدوس المهيمن ))-سورة الحشر/23- ،و (( له ملك السموات و الأرض و إليه تُرجع الأمور)) –سورة الحديد/5- ، و (( و لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك )) –سورة الفرقان /2- ،و (( لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين ))-سورة الأنعام/163- ، و قال رسول الله –عليه الصلاة و السلام- لابن عباس : (( و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ،و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، جفت الأقلام و رُفعت الصحف ))(1). و قوله أيضا : (( اللهم لا مانع لما أعطيت ،و لا مُعطي لما منعت ))(2) . فالله سبحانه و تعالى هو المهيمن على الكون و المُسير له ، و لا يُوجد في القرآن الكريم ،و لا في السنة النبوية الصحيحة ، ما يُشير إلى أن أحدا من البشر له القدرة على التصرف في الكون .
    __________
    (1) الألباني : صحيح الجامع الصغير ، ج2 / 7957 .
    (2) الألباني : الأحاديث الصحيحة ، ج1 /196 .
    (1/215)
    ________________________________________
    و ثالثا إن مما يُبطل زعمه أيضا أن الناظر في أحوال الصوفية قديما و حديثا ، يجدهم أنهم من أضعف الناس تأثيرا في تسيير حياة البشر و التحكم فيها على ظهر الأرض، رغم كثرة دعاويهم الطويلة و العريضة التي لا تتناسب مع ذلك التأثير المحدود الذي لا يكاد يظهر . فالتاريخ الإسلامي شاهد على أن الحركة الصوفية –في معظم أحوالها- كانت تعيش عالة على غيرها ، فالسلاطين و الأعيان و الأغنياء هم الذين بنوا لهم –في الغالب- الزوايا و الأربطة ،و صرفوا عليهم الأموال الطائلة لإحياء حفلات الرقص و الأكل(1) ، فهل من له القدرة على التصرّف في الكون يكون هذا حاله في العجز و الاتكال على غيره من الناس ؟ ! .
    و أين كانوا عندما احتل الصليبيون الساحل الشامي نحو قرنين من الزمن ؟ ، و أين كانوا عندما طرد النصارى المسلمين من الأندلس بعدما عاشوا فيها قرونا طويلة ؟ ،و أين كانوا عندما احتل الأروبيون معظم العالم الإسلامي في العصر الحديث ؟ ،و أين كانوا عندما احتل الاتحاد السوفياتي أراض المسلمين و فرض عليهم الإلحاد ؟ ، و أين كانوا عندما احتل اليهود فلسطين ؟ ، حدث كل ذلك و الصوفية يتفرجون ،و لم يتصدوا لهؤلاء الأعداء بما لهم من قوة التأثير في مظاهر الكون على حد زعمهم ! ، و أين هم الآن ليتصدوا للهجمة الأمريكية الصهيونية الشرسة التي تُشن على الإسلام و المسلمين ؟ ، فكيف يتغلب من له القوة المادية المحدودة على من له القدرة على التصرّف في مظاهر الكون ، على حد زعم ابن خلدون ؟ ، فأين هم لينقذوا أنفسهم و المسلمين من تلك الأخطار التي تتهددهم في عقر دارهم ؟ ! .
    __________
    (1) لمعرفة الكثير من أحوال الصوفية أنظر مثلا : ابن الجوزي: تلبيس إبليس .
    (1/216)
    ________________________________________
    و من مظاهر تعصبه للصوفية أيضا ، أنه عندما تكلم عن الصوفي ابن قسي الأندلسي (ق: 5ه ) ،وصفه بأنه شيخ الصوفية ثار بالأندلس داعيا إلى الحق(1) . و قوله هذا فيه تمويه و سكوت عن أخطاء الرجل و انحرافاته ، . فهو أولا وصفه بأنه ثار داعيا إلى الحق ،و سكت عن حقيقته ، فقد ذكر ابن حجر العسقلاني أن ابن قسي هذا كان مبتدعا فلسفي التصوّف، يُحرف النصوص و يتحدث بالأباطيل ، و قد ثار على المرابطين و استعان بالفرنجة ، فلما سمع به بعض أتباعه قتلوه(2) .
    و ذكر المؤرخ عبد الواحد المراكشي أن ابن قسي كان صاحب حيَل و شعبذة ، و له أخبار قبيحة مضمونها الجراءة على الله تعالى ، و التهاون بأمر الولاية . ثم قال إن الذي منعه من ذكر أخباره هو صرف العناية إلى ما هو أهم منها(3) . فأي حق كان عليه هذا الرجل ، و أي حق دعا إليه على حد زعم ابن خلدون ؟ ! .
    و ثانيا يبدو أن سبب سكوت ابن خلدون عن حقيقة ابن قسي هو تعصبه للصوفية و كرهه للمرابطين ، فذلك الرجل-أي ابن قسي- على انحرافه الفكري و السلوكلي و تعاونه مع الفرنجة على المرابطين ، مدحه ابن خلدون و وصفه بأنه ثار داعيا إلى الحق . و الأمر نفسه حدث في موقفه من ابن تومرت ، الذي ثار على المرابطين و كفرهم و استباح دماءهم و أعراضهم و أموالهم ، و مع ذلك مدحه ابن خلدون و وصفه بالإمام و دافع عنه . و مقابل ذلك لم أعثر له في مقدمته على أي دفاع عن المرابطين ، مما يُرجح بأنه انتصر لابن قسي تعصبا له ، و نكاية في خصومه المرابطين ،و الله أعلم بالصواب .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 126 .
    (2) ابن حجر: لسان الميزان ، ج 1 ص: 247، 248، 272 .
    (3) عبد الواحد المراكشي : المعجب ، حققه سعيد العريان ، ط1، القاهرة ، مطبعة الاستقامة ، 1368،ج 1 ص: 212 .
    (1/217)
    ________________________________________
    و بذلك يتبين مما ذكرناه في مبحثنا هذا أن ابن خلدون كان مجازفا و مغالطا ،و متعصبا و مبالغا فيما قاله عن الصوفية ،و لم يكن موضوعيا و لا مصيبا و لا وقافا عند الشرع ، فيما نسبه إليهم من صفات خارقة .
    خامسا : مغالطاته و أخطاؤه في مسألة الصفات الإلهية :
    لابن خلدون مغالطات و أخطاء كثيرة في مسألة الصفات و مواقف السلف و الخلف منها ، أذكر بعضها فيما يأتي : أولا إنه ذكر أن في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها وصف لله تعالى بالتنزيه المطلق يجب الإيمان بها ، و وردت فيه أيضا آيات أخرى بعضها يُوهم التشبيه في ذاته تعالى ،و بعضها الآخر يُوهم التشبيه في صفاته سبحانه(1) . و قوله هذا غامض يحتاج إلى تفسير و تفصيل ، فهو لم يذكر لنا أمثلة من آيات التنزيه ، و لا من الآيات الموهمة للتشبيه على حد قوله ، غير أنه واضح أنه يقصد بآيات التنزيه المطلق تلك الآيات التي وصفت الله تعالى بالحياة ،و الإرادة ، و العلم ، و السمع ، البصر ، و الكلام ، و القدرة ، و هي الصفات التي تسمى بالصفات العقلية . و قصد بآيات التشبيه تلك الآيات التي تسمى بالصفات الخبرية ، كالتي وصفته تعالى بالحب ،و الود ، و الحكمة ، و اليد ، و الوجه ، و الاستواء ، و المجيء .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 367 .
    (1/218)
    ________________________________________
    و الإشكال الذي أثاره ابن خلدون هو إشكال وهمي لا حقيقة له في المنقول و لا في المعقول ، بناه على نظرة خاطئة لمسألة الصفات ، عندما نظر للنوع الأول من الصفات نظرة تنزيه ، و نظر للنوع الثاني نظرة تشبيه و تجسيم انطلاقا من نظرته للمخلوقات، فتوهّم فيه التشبيه ، و الصحيح في المسألة هو أنه لا توجد في القرآن الكريم آيات تُوهم التشبيه أصلا ، لأن آيات الصفات كلها آيات واضحة مُحكمة ، لا تُثير أي اعتراض إذا فهمناها فهما صحيحا انطلاقا من القرآن نفسه ، بتفسير القرآن بالقرآن ، و إرجاع مٌُحكمه إلى مُتشابهه ، و النظر لكل الصفات من خلال آيات أصول التنزيه ، منها قوله تعالى : (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ))-سورة الشورى/11- ، و (( قل هو الله أحد الله الصمد ، لم يلد و لم يُولد ،و لم يكن له كفؤا أحد ))-سورةالإخلاص/1-4- ، فنحن عندما نثبت صفتي السمع و البصر لا نعتقد أنها كسمع المخلوقين و بصرهم ، لأننا ننظر إليهما انطلاقا من قوله تعالى : (( ليس كمثله شيء )) ، و (( لم يكن له كفؤا أحد )) ، فالذي أثبتناه هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، و قل كذلك في كل الصفات التي زعم ابن خلدون أنها تُوهم التشبيه ،و هي ليست كذلك .
    (1/219)
    ________________________________________
    و نحن عندما نقرأ قوله تعالى : (( الرحمن على العرش استوى ))-سورة/طه/5- ، و (( جاء ربك و الملك صفا صفا ))-سورة الفجر/22- ،و (( يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام ))-سورة الرحمن /27- ، و (( لتصنع على عيني ))-سورة طه/39- ، و (( يد الله فوق أيديهم ))-سورة الفتح/10- ، لا نعتقد بتاتا أنها تُشبه صفات المخلوقين ، و لا تثير فينا أي إشكال لأننا نفهما في إطار أصول التنزيه المطلقة . فبما أنه سبحانه و تعالى (( ليس كمثله شيء )) و (( لم يكن له كفؤا أحد )) ، فتلك الصفات تليق به تعالى و لا تشبيه فيها و لا تجسيم ، و لا تُوهم تجسيما و لا تشبيها ،و لا تكييفا و لا تحديدا ، و اختلاف الذات يستلزم حتما اختلاف الصفات بدليل المنقول و المعقول معا ، و بذلك يزول الإشكال الذي توهمه ابن خلدون أنه موجود في آيات النوع الثاني .
    و ثانيا إنه أدعى أن في آيات الصفات ما يُوهم النقص ، كالاستواء ، و المجيء ، و الوجه ، و اليدين، و العينين التي هي صفات المحدثات(1) . و قوله هذا هو أيضا غير صحيح ،و لا يستقيم مع النقل و لا مع العقل ، بدليل المعطيات الآتية : أولها إنه نظر إلى تلك الصفات من خلال نظرته إلى صفات المخلوقات ،و هذا خطأ منهجي فادح لا يصح أن يقع فيه ؛ و المفروض أن ينظر إليها بمنظور نصوص التنزيه ،و يُرجعها إلى المحكمات من آيات الصفات .
    و ثانيها إنه عندما أثبت لله صفات السمع و العلم و البصر ، نظر إليها بمنظور التنزيه ، و عندما تطرق لصفة الاستواء و النزول و الوجه ، نظر إليها بمنظور التشبيه ، و هذا تناقض واضح ، فالمفروض أنه كان عليه أن ينظر إليها كلها بمنظور واحد ، هو منظور التنزيه ، لأنه حتى صفتي السمع و البصر هما أيضا من صفات المحدثات ! .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 376 .
    (1/220)
    ________________________________________
    و ثالثها إن وصفه لصفات الاستواء و النزول و المجيء و اليد ، بأنها من صفات المحدثين ، هو وصف غير صحيح ، فهي في حق المخلوقين من صفات المحدثين ، لكنها بالنسبة لله تعالى هي صفات كمال تليق به تعالى ،و لا يصح القول بأنها صفات المحدثين ، لأنها صفات أزلية مُنزهة عن مشابهة صفات المخلوقين ، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته . و عليه فإن ، وصف ابن خلدون للصفات التي وصف الله بها نفسه بأنها صفات المحدثين ، هو طعن في الشرع و اتهام له ، لأن الله هو الذي وصف نفسه بها ، فكيف يأتي شخص و يزعم أن تلك الصفات تُوهم النقص و التشبيه لأنها من صفات المحدثين ؟ ! ، فهذا انحراف خطير ، و طعن في الدين ، و رد على رب العالمين ، بأنه وصف نفسه بما لا يليق أن يصف به نفسه ! ! .
    و رابعها –أي المعطيات- إنه انطلاقا من منظوره التشبيهي لصفات الاستواء و النزول و المجيء و الوجه و العينين ، التي زعم أنها تُوهم النقص و هي من صفات المحدثات ، فإن زعمه هذا يتضمن إثبات عكس ما وصف الله بها نفسه ، و إثبات محلها صفات أخرى ، هي من صفات المنقوصات ، و الجمادات ، و المعدومات ،و هي بلا شك صفات باطلة الله مُنزه عنها .
    و ثالثا إنه قسّم صفات الله تعالى إلى ثلاثة أقسام ، الأول هو ما تقتضيه صحة الألوهية ، كالعلم و القدرة و الإرادة و الحياة . و الثاني خاص بصفات الكمال ، كالسمع و البصر و الكلام . و الثالث قسم مُوهم للنقص ، كالاستواء و النزول ،و المجيء و الوجه ، و اليدين و العينين(1) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 376 .
    (1/221)
    ________________________________________
    و تقسيمه هذا غير سليم ، لأن صفات الله تعالى كلها تليق به ،و هي صفات كمال دون استثناء ، و لا تُوهم نقصا و لا تشبيها ، لأننا نعتقد أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته ، و ما ينطبق على الذات ينطق على الصفات ، و إثباتنا لصفاته هو إثبات وجود لا إثبات كيفية . و هو في تقسيمه للصفات إلى ثلاثة أقسام متناقض في نظرته إليها ، فنظر للقسمين الأول و الثاني بمنظور التنزيه ، و نظر للثالث بمنظور التشبيه ، و المفروض أنه كان عليه أن ينظر إليها كلها بمنظور واحد ، لأن الله تعالى هو الذي وصف بها نفسه ،و هي كلها صفات كمال لا نقص فيها . فهو عندما أثبت السمع و البصر لله تعالى و لم يُشبههما بسمع و بصر البشر ، كان عليه أن يتبع المنهج نفسه في الصفات التي زعم أنها مُوهمة للتشبيه ، فيُثبتها لله تعالى مع التنزيه و عدم التشبيه ،و إلا كان وصفه لله تعالى بالسمع و البصر هو أيضا تشبيه بالمحدثات .
    و رابعا إنه –أي ابن خلدون- ادعى أن السلف من الصحابة و التابعين ، كان موقفهم من الصفات أنهم أثبتوا لله صفات القسمين الأول و الثاني-أي صفات الألوهية و الكمال- ،و فوّضوا إليه القسم الثالث المُوهم للنقص و سكتوا عن مدلوله(1) . فهل قوله هذا صحيح ؟ .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 376 .
    (1/222)
    ________________________________________
    و إجابة على ذلك أورد أربعة شواهد ، أولها إن السلف الأول أثبتوا لله كل الصفات التي وردت في القرآن الكريم ، و صحّت في السنة النبوية ، و لم يُقسّموها كما قسّمها ابن خلدون ،و لم يقولوا في النوع الثالث بأنه مُوهم للتشبيه ، و إنما أثبتوها كلها بلا رد ،و لا تأويل ، و لا تشبيه ، و لا تحديد ، و لا تكييف(1) .
    و الشاهد الثاني هو أن قوله بأن السلف فوّضوا إلى الله القسم الثالث المُوهم للنقص و سكتوا عن مدلوله ، هو قول غير صحيح ، لأن السلف أثبتوا حقائق كل الصفات دون تمييز بينها ، و نفوا عنها التحديد و الكيفية و التشبيه(2) . مما يعني أن التفويض عند السلف هو إثبات الصفات على الحقيقة ،و تفويض معرفة كنهها و كيفيتها لله تعالى ، فهم إذن لم يُفوّضوا إثبات المدلولات و المعاني ،و إنما فوّضوا إدراك معانيها و كيفياتها. و هذا يخالف ما قاله ابن خلدون و يرد عليه عندما زعم أن السلف فوّضوا مدلول نوع الصفات المُوهم للنقص و سكتوا عنه .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 4 ص: 279، 280 ، ج 7 ص: 312 ، ج 10 ص: 80 ، 284 ج 11 ص: 376 ، ج 15 ص: 86 . و الخلال : السنة ، ج 3 ص: 259 . و البيهقي: الاعتقاد ، ص: 117 . و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 224 . و الموفق بن قدامة : ذم التأويل ، حققه بدر البدر ، ط1 ، الكويتت ، الدار السلفية ، ص: 222 و ما بعدها .
    (2) الذهبي: السير ، ج 14 ص: 280 . و تذكرة الحفاظ ، ج 3 ص: 1142، 1143 . و الخلال : السنة ، ج 1 ص: 259 .
    (1/223)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو أنه مما يثبت أن السلف أثبتوا معاني الصفات و لم يُفوّضوها ، أن للسلف مواقف و أقوال تدل على ذلك صراحة ، منها أن الصحابي عبد الله بن مسعود ،و أحمد بن حنبل ،و محمد بن القاسم صاحب مالك بن أنس ، و الحارث المحاسبي ،و البخاري ، قالوا كلهم إن الله يتكلم بصوت . اعتمدوا في ذلك على أحاديث صحيحة عن رسول الله فيها أن الله تعالى يتكلم بصوت يوم القيامة ،و هذه الأحاديث قد صححها طائفة من كبار نقاد الحديث ، منهم : البيهقي ، و الحاكم ، و المنذري ، و الذهبي، و الهيثمي ، و الألباني(1) .
    و ثانيها قول للإمام مالك (ت 179ه) ، يقول فيه : (( الله في السماء ، و علمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء(2) . فهو هنا قد أثبت صفتي العلو و العلم لله تعالى ،و لم يُفوّض إثبات معانيهما ، خاصة صفة العلو فهي من النوع الثالث المُوهم للتشبيه حسب زعم ابن خلدون .
    __________
    (1) انظر : البخاري : خلق أفعال العباد ، ص : 98 . الألباني : صحيح الأدب المفرد ، ط1، د م ، دار الصديق ، 1421رقم الحديث : 570 /970 . و الهيثمي : مجمع الزوائد ج 10 ص: 133 ، 345، 351 . و ابن أبي عاصم : السنة ، حققه الألباني، ط1، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1400 ،ج 1 ص: 225، 226 . الحاكم : المستدرك ، ج 2 ص: 475 . و حسن صيدق خان : قطف الثمر ، ص: 76 .
    (2) عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 1 ص: 107 .
    (1/224)
    ________________________________________
    و ثالثها هو أيضا قول لمالك بن أنس ، يخص قوله المشهور في الاستواء ، فقد صحّ عنه إنه قال : (( الاستواء معلوم و الكيف مجهول ، و الإيمان به واجب ،و السؤال عنه بدعة )) ،و في رواية أخرى إنه قال : (( الاستواء غير مجهول ، و الكيف غير معقول ،و الإيمان به واجب ،و السؤال عنه بدعة ))(1) . و المعنى واحد في الروايتين ،و الأولى أشهر من الثانية . و قوله هذا قال به قبله الفقيه ربيعة الرأي (ت 136ه) ، فروي إنه قال : (( الاستواء غير مجهول ،و الكيف غير معقول ،و من الله الرسالة ،و من الرسول البلاغ ، و علينا التصديق ))(2) .
    و واضح من تلك الشواهد أن السلف أثبتوا معاني الصفات ، و فوّضوا معرفة كنهها و كيفياتها لله تعالى ، و لم يُفوّضوا إثبات معانيها . و موقفهم هذا أقاموه على أساس من القرآن الكريم ، فالله تعالى هو الذي وصف نفسه بأن له الأسماء الحسنى و الصفات العُلى ، و مع ذلك فهو (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير )) –سورة الشورى/11-و (( لم يكن له كفؤا أحد ))-سورة الاخلاص/4- ، فهو سبحانه لا يُشبه مخلوقاته في ذاته و لا في صفاته .
    و خامسا إنه-أي ابن خلدون- يعتقد أن التشبيه هو إثبات الصفات الخبرية –أي التي وردت في الشرع- ، كالاستواء ، و المجيء ، و الوجه ، و اليدين ، و النزول ، و الصوت ، و العينين ، و يرى أن إثباتها يُوصل إلى التجسيم ، لكنه استثنى سبع صفات لم ير في إثباتها تشبيها و لا تجسيما ، و هي : الحياة ، و القدرة ، و العلم ، و الإرادة ، و السمع ، و البصر ، و الكلام(3) .
    __________
    (1) الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج1 ص: 209 . و البيهقي : الاعتقاد ، حققه عصام الكاتب ، بيروت ، دار الأفاق الجديدة ، 1401، ص: 116 .
    (2) اللالكائي : اعتقاد أهل السنة ، ج 3 ص: 398 .
    (3) المقدمة ، ص: 367 ، 368 ، 377 .
    (1/225)
    ________________________________________
    و رأيه هذا ينطوي على مغالطات و أخطاء ، أولها إن ما قاله عن الصفات الخبرية هو طعن في الشرع ، و اتهام له و إعراض عنه ، لأن الله تعالى هو الذي وصف نفسه بتلك الصفات ،و لو لم تكن تليق به ما وصف بها نفسه ، و لو كان يريد منها خلاف ظاهرها لأخبرنا بذلك . مما يعني أن ما زعمه ابن خلدون عن تلك الصفات هو زعم باطل يخالف المنقول و المعقول معا .
    و ثانيها إن تقسيمه للصفات إلى قسمين ، الأول يضم سبع صفات ، و الثاني يخص الصفات الخبرية هو تقسم غير صحيح و لا مبرر له ،لأن كل تلك الصفات وردت في الشرع ، و يجب إثباتها و النظر إليها بمنظور واحد ، هو منظور التنزيه القائم على قوله تعالى : (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ))، و (( لم يكن له كفؤا أحد ))-سورة الاخلاص/4- . و أما الزعم بأن النوع الأول يخص الصفات العقلية ، و الثاني يخص الصفات الخبرية ، فهو أيضا تقسيم غير صحيح شرعا و لا عقلا ، فأما شرعا فإن تلك الصفات كلها وردت في الشرع ، لذا يجب إثباتها كلها مع التنزيه المطلق لها .
    و أما عقلا فبما أننا أثبتنا لله تعالى صفات كالسمع و البصر ، و الحياة ،و هي متعلقة بالجوارح و المادة عند الإنسان و مع ذلك أثبتناها و قلنا إنها لا تُشبه صفات الإنسان ، فبالمنهج نفسه نُثبت له الصفات الخبرية ، كالاستواء ، و الحكمة ، و المجيء ، و الوجه ، مع اعتقاد التنزيه كما اعتقدناه في النوع الأول . لأن اختلاف الذات يستلزم حتما اختلاف الصفات ، و هذا مُشاهد و معروف حتى على مستوى المخلوقات ، فنحن عندما نقول : وجه الإنسان ، و وجه الثوب ، و وجه الحائط ، و وجه النملة ، و وجه الفيل ، نُدرك بداهة أن تلك الوجوه مختلفة و متباينة ، حتى لو كانت لها أسماء واحدة ، فإذا كان هذا التباين موجود و معروف حتى بين المخلوقات ، فما بالك بين صفات الخالق و المخلوق ؟ ، فلا شك أن الفارق بينهما جوهري و كبير جدا، لا يجمع بينهما إلا الاشتراك في الاسم .
    (1/226)
    ________________________________________
    و أشير في هذا المقام إلى أن ابن خلدون في تعريفه للتشبيه اتبع طريقة الأشعرية المتأخرة ، التي ترى أن إثبات الصفات الخبرية –ما عدا السبع صفات- هو تشبيه ، لذا يجب تأويلها(1) . عكس أهل الحديث و الحنابلة الذين يعتقدون أن التشبيه هو أن يُقال : يد الله كيد الإنسان ، أو سمعه كسمع البشر ، أو بصره كبصر بني آدم . و أما إثبات الصفات مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين ، فهو عندهم-أي أهل الحديث و الحنابلة – ليس تشبيها و لا تجسيما ،و إنما هو إثبات و تنزيه(2) .
    فاختلاف مفهوم التشبيه بين الطائفتين ، هو الذي أدى إلى التباين الكبير في معنى التشبيه ،. و واضح أيضا أن مفهوم أهل الحديث هو الصحيح الذي يُؤيده الشرع الحكيم ، فقوله تعالى : (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير ))، صريح في أن التنزيه هو إثبات الصفات مع نفي المماثلة ، و عكسه التشبيه ،و هو إثبات الصفات مع إثبات المماثلة بين صفات الخالق و المخلوق .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 367 ، 368 ، 377 . و ابن عساكر: تبيين كذب المفتري ، حققه زاهد الكوثري ، ط3 ، بيروت ، دار الكتاب العربي ،ة 1984 ، ص: 311 ، 312 . الحويني الأب : النصيحة في صفات الرب ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ص : 22 .
    (2) ابن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 211 ، 311 ، 312 .
    (1/227)
    ________________________________________
    كما أن مفهوم ابن خلدون للتشبيه ينطوي على تناقض ، و ذلك أنه أثبت صفات أثبتها الشرع ،و قال إنها صفات تنزيه ، و نفى أخرى أثبتها الشرع أيضا ، و قال إنها صفات تُوهم التشبيه يجب تأويلها ، و هذا تناقض واضح ، لا يرتفع إلا بإثباتها كلها ، أو نفيها كلها ، فإن أثبتها جميعا يكون قد رفع التناقض ، و وافق الشرع و العقل معا . و إن نفاها كلها يكون قد خرج من التناقض السابق ، و وقع في خطأ آخر ، هو مخالفته للشرع و العقل معا ، فخالف الشرع لأنه نفي ما أثبته القرآن الكريم و السنة النبوية . و خالف العقل لأنه نفى ما يجزم العقل به ، من أن خالق هذا الكون لا بد أن يكون متصفا بكل صفات الكمال و العظمة و الجلال ،و أن نفيها لا يصح في العقل ، لأن لكل موجود صفات تليق به ، و المعدوم هو الذي ليست له صفات ، إلا صفة العدم .
    و لتوضيح الأمر أكثر في مسألة اختلاف مفهوم التشبيه بين نظرة ابن خلدون الأشعرية ، و بين نظرة أهل الحديث ، نورد الأبيات الشعرية الآتية :
    و إن كان تشبيها ثبوت صفاته × على عرشه إني إذن لمجسم
    وإن كان تنزيها جحود استوائه × و أوصافه أو كونه يتكلم
    فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا × بتوفيقه و الله أعلى و أعظم (1)
    فهذه الأبيات قالها حنبلي من وجهة نظر أهل الحديث ، و فيها إثبات لصفة الاستواء و تأكيد عليها ،و فيها أيضا إشارة للمنكرين لها –أي الأشاعرة-دون أن يُسميهم ، و هم الذين يرون أن جحود الاستواء هو تنزيه لله تعالى وأن إثباته هو تجسيم له . و هذه الأبيات هي التي دفعت الباحث زهدي جار الله إلى اتهام قائلها بالتجسيم ، لأنه نظر إليها من وجهة نظر إشعرية(2) ، لا من وجهة نظر أهل الحديث .
    __________
    (1) زهدي جار الله : المعتزلة ، ص :252 .
    (2) نفسه ، ص: 252
    (1/228)
    ________________________________________
    و سادسا إن ابن خلدون لم يُفرق بين أهل الحديث و الحنابلة المتأخرين و بين المشبهة و المجسمة ، و ألحقهم كلهم بأهل التشبيه و التجسيم ، لأنهم –أي أهل الحديث و الحنابلة- أثبتوا الصفات الخبرية ، كالاستواء و النزول ،و الصوت و الجهة ، لأن ذلك في اعتقاده يؤول إلى التجسيم . ثم نفى أن يكون مذهبهم هو مذهب السلف ، و قال: حاشا لله من ذلك ،و إنما مذهبهم (( ما قررناه أولا ، من تفويض المراد إلى الله تعالى ،و السكوت عن فهمها ))(1) .
    و اتهامه لأهل الحديث بأنهم مُشبهة هو اتهام خطير ، و غير صحيح ، و افتراء عليهم ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إنه يُوجد فرق كبير بين المشبهة و أهل الحديث ، فالمشبهة معروف عنهم أنهم يُثبتون الصفات لله مع التصريح بمشابهتها لصفات البشر ، لكن أهل الحديث لا يقولون ذلك أبدا ، و إنما يُثبتون كل الصفات التي صحّ ثبوتها في الشرع ، و ينفون مماثلتها لصفات المخلوقين ، فإثباتهم لا تشبيه فيه ولا تجسيم ، و لا تحديد فيه و لا تكييف ، و إنما هو الإثبات و التنزيه و التقديس(2) . و بذلك فلا يصح إلحاق أهل الحديث بالمشبهة و المجسمة ، على حد زعم ابن خلدون ؟
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 367، 377 .
    (2) انظر مثلا : الغزالي : إحياء علوم الدين ، ج 1: 179 . و عبد القادر الجيلاني: الغنية لطالبي طريق الحق ، ط1، دمشق ، دار البشائر 1996،، ص: 71 ، 73 . و ابن القيم الجوزية : مختصر الصواعق المرسلة ، حققه علي الدخيل ، ط1، الرياض، دار العاصمة 1998، ج 1 ص: 49 . و ابن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 211 ، 212 . و الذهبي : تذكرة الحفاظ ، ج 3 ص: 1142 .
    (1/229)
    ________________________________________
    و ثانيها إن اتهامه لمتأخري أهل الحديث و الحنابلة بالتشبيه و التجسيم ، هو اتهام باطل و خطير ، يُؤدي إلى الطعن في طائفة من كبار علماء أهل السنة الذين دافعوا كثيرا عن مذهب السلف ، و ردوا على خُصومه من المشبهة و المُؤوّلة ، و نفوا عن أنفسهم ما اتهمهم به ابن خلدون ، منهم : الموفق بن قدامة المقدسي (ق: 7ه ) ، و الحافظ الضياء (ق: 7ه ) ،و أبو عمر بن الصلاح(ق: 7ه ) ، و ابن تيمية (ق:8ه) ، و الذهبي(ق: 8ه) ، و ابن قيم الجوزية (ق: 8ه) ، و ابن كثير (ق : 8ه) ، هؤلاء و غيرهم معروف عنهم أنهم كانوا على مذهب أهل الحديث في مسألة صفات الله تعالى .
    و ثالثها إن مقارنة صغيرة بين ما كان عليه أهل الحديث المتأخرين , و بين ما كان عليه السلف الأول في مسألة الصفات ، تُثبت جليا أن القوم كانوا على مذهب واحد في قواعده و تفريعاته الأساسية ، لأن السلف أثبتوا كل الصفات التي صح ثبوتها في الشرع ، بلا تشبيه و لا تأويل ،و لا تحديد و لا تكييف ،و هذا الذي كان عليه جمهور أهل الحديث المتأخرين(1) . و ما قاله عنهم ابن خلدون ليس صحيحا .
    و أما لماذا ألحق ابن خلدون أهل الحديث بالمشبهة ، فالسبب هو اختلاف مفهوم التشبيه الذي تكلّمنا عنه سابقا ، فابن خلدون كان على مذهب الأشعرية المتأخرة ، يعتقد بإثبات سبع صفات ، و تأويل باقي الصفات لأنها - في اعتقاده- مُوهمة للتشبيه و موصلة إليه ، و من أثبتها فهو مُشبّه على حد زعمه . و بما أن كلا من أهل الحديث و المشبهة يُثبتون تلك الصفات ، فهم كلهم مشبهة حسب مفهوم ابن خلدون للتشبيه ،و لم يُفرّق بين الطائفتين –رغم التباين الكبير بينهما- ، لأن أهل الحديث يُثبتون الصفات بلا تشبيه ، و المشبهة يُثبتونها بالتشبيه . مما يعني أن ابن خلدون جمع الطائفتين في سلة واحدة دون تمييز بينهما ، و هذا خطأ فاحش و مغالطة مكشوفة .
    __________
    (1) سبق توثيق ذلك . و انظر أيضا : الخلال : السنة ، ج 1: 259 .
    (1/230)
    ________________________________________
    و خامسا إن لابن خلدون أقوالا في المذهب الأشعري فيها التباسات و مغالطات و أخطاء ، أذكر منها طائفة ، أولها إنه زعم أن أبا الحسن الأشعري (ت324ه) اتبع مذهب السلف في مسألة صفات الله تعالى ، و اقتصر فيها على ما اقتصر عليه السلف ، فأثبت سبع صفات ، منها : السمع و البصر و الكلام النفسي(1) .
    و كلامه هذا غير مستقيم ، و فيه حق وباطل و تخليط كبير ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن الأشعري و أصحابه الأوائل أثبتوا كل الصفات الواردة في الشرع ، و لم يقتصروا على سبع صفات كما زعم ابن خلدون ، و قد أثبتوها بلا تشبيه و لا تأويل ، و قد صرح بذلك الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة(2)
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 368 .
    (2) هذاا الكتاب هو لأبي الحسن الأشعري بلا شك ، غير أن بعض الأشاعرة و الكتاب المتأخرين أن كتابه هذا لا يُمثل مذهبه الذي تبناه في آخر عمره ، لأنه لم يكن آخر كتبه ، و إنما آخرها كتابه : اللمع الذي صنفه بعد الإبانة . ( محمود صبحي: الأشاعرة ، ج 2 ص: 56، 57 . و الأشعريي : اللمع ، مقدمة المحقق محمود غرابة ، ص: 8 ) لكن الصحيح هو أن كتاب الإبانة هو آخر مؤلفات الأشعري بدليل الشاهدين الآتيين : أولهما إن المتقدمين من الأشاعرة و بعض المؤرخين ذكروا أن الأشعري ختم مصنفاته بكتابه الإبانة عن أصول الديانة . ( ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 6 ص: 359 ، 535 . و ابن العماد الحنبلي : شذرات ، ج 4 ص: 131 ) . و ثانيهما إن الصبغة العقلية التي تميّز بها كتابه اللمع ، تُشير إلى أنه كُتب أثناء إنهماك الأشعري في الرد على المعتزلة ، قبل عرض أعماله على شيخ الحنابلة أبي محمد البربهاري البغدادي ، و مما يُؤيد ذلك إنه –أي الأشعري- لم ينتسب في كتابه اللمع إلى أحمد بن حنبل ( اللمع ، مقدمة المحقق ص: 6 و ما بعدها . و محمود صبحي : المرجع السابق ، ج 2 ص: 56 و ما بعدها ) ، وهذا عكس ما فعله في الإبانهة ، فقد انتسب إلي أحمد بن حنبل صراحة ، و ليس من مصلحته أن يتخلى عن انتسابه لأحمد و اتباعه له ، و قد أمضى خاتمة حياته في كنف أسرة التميميين الحنبلية محتميا بها ، خوفا من القتل ( ابن الجوزي: المنتظم ، ج 6 ص: 332 ) .
    (1/231)
    ________________________________________
    ، أثبت فيه الصفات الخبرية كالاستواء و الوجه و اليدين ، و كتابه هذا منشور و متداول بين أهل العلم . و قد سار على نهجه أصحابه و تلامذته الأوائل ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني(1) .
    و الشاهد الثاني أنه ليس صحيحا ما قاله ابن خلدون من أن الأشعري كان على مذهب السلف في إثبات الكلام النفسي لله تعالى ، لأن فكرة الكلام النفسي لم يعرفها السلف الأول ، و إنما عبد الله ابن كلاب (ت نحو: 248ه ) ، هو أول من قال بها ، و اتبعه فيها أبو الحسن الأشعري ، و أما السلف فكانوا يُثبتون كلام الله مطلقا ، فهو سبحانه يتكلم بما شاء ، و كيفما شاء ،و متى شاء ، و أنه كلّم موسى-عليه السلام- تكليما . و سنتوسع في هذا المسألة قريبا إن شاء الله تعالى .
    و الشاهد الثالث هو أن المذهب الذي نسبه ابن خلدون للأشعري هو في أساسه مذهب الأشعرية المتأخرة ، و لا يمثل بحق الأشعرية المتقدمة التي كان عليها الأشعري و أصحابه الأوائل ، و الأشعرية المنأخرة هي التي تُثبت سبع صفات و تُؤوّل الصفات الباقية و تحملها على المجاز . وأما الأشعرية المتقدمة فكانت تُثبتها كلها بلا تشبيه و لا تأويل و لا تعطيل(2) . فيدل ذلك على أن ابن خلدون إما أنه لم يكن على علم بذلك ، و إما أنه كان مغالطا فيما كتبه .
    و القول الثاني لابن خلدون مفاده أن أبا الحسن الأشعري سار على طريقة عبد الله بن كلاب، و أبي العباس القلانسي ، و الحارث المحاسبي ،و هم من أتباع السلف ، كانوا على طريقة السنة، و قد اقتصر الأشعري في مسألة الصفات ، على ما اقتصر عليه السلف(3) .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 1 ص: 86، ج 17 ص: 558 ، 559 ، ج 15 ص: 86 .
    (2) الذهبي : السير ، ج 1 ص: 86، ج 17 ص: 558 ، 559 .
    (3) المقدمة ، ص: 368 ، 376 .
    (1/232)
    ________________________________________
    و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأنه إذا كان هؤلاء قد ساروا على طريقة السلف في إثبات كل الصفات بلا تشبيه و لا تأويل ، فإنهم قد خالفوهم في بعض المسائل المتعلقة بالصفات الإلهية ، و قالوا بعدم قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى ، و عدم تعلقها بمشيئته ، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتكلم ، و لا يرزق ، و لا يقوم بأي فعل مرتبط بصفات الأفعال الاختيارية ، لذلك زعموا أن كلام الله تعالى هو معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى ، إن عُبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، و إن غُبر عنه بالعبرية كان توراة ، و إن عُبر عنه بالعربية كان قرآنا . و القرآن عندهم ليس بحرف و لا بصوت ،و ليس كلام الله على الحقيقة ،و إنما هو عبارة و حكاية عن كلامه تعالى . و زعمهم هذا لم يسبقهم إليه أحد من المسلمين ، فهم بمذهبهم هذا قد وافقوا السلف في إثباتهم للصفات من جهة ، و وافقوا الجهمية و المعتزلة في نفيهم قيامها-أي الصفات- بالله تعالى من جهة أخرى(1) .
    و واضح أن زعمهم بنفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى هو زعم باطل بلا شك ، لأنه يُخالف المنقول و المعقول معا ، فالله تعالى قد وصف نفسه بأنه فعّال لما يريد ،و أنه كلّم موسى –عليه السلام- تكليما ، و أنه تعالى((إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ))-سورة يس/82- . و لا يصح في العقول أن يكون خالق هذا الكون العجيب عاجز عن الفعل و الاختيار ، لأن الكون شاهد –بلا ريب – على أن خالقه عظيم جبار ، حكيم متكبر ، فعال لما يريد إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون ، و هذا بشهادة كتابه المسطور المقروء ، و كونه المخلوق المنظور .
    __________
    (1) الذهبي: السير ، ج 11 ص: 174 ، 175 ، 517 . و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 12 ص: 366 ، 178 ، 557 ، ج 3ص: 155 ، ج 6 ص: 53 . و دقائق التفسير ، ج 2 ص: 18 ، 187 . و ابن حجر : فتح الباري ، ج 13 ص: 493 .
    (1/233)
    ________________________________________
    و القول الثالث مفاده أن ابن خلدون لما تطرّق لكبار الأشاعرة الذين مهدوا الفكر الأشعري ، ذكر منهم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني (ت478ه) ، و قال إنه أملى في طريقة الأشعرية كتاب الشامل بتوسع ، ثم لخّصه في كتاب الإرشاد ، الذي اتخذه الناس إماما لعقائدهم(1) .
    و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، فإن فيه نقصا و جناية على الجويني ، لأن هذا الرجل كان يُؤوّل الصفات على طريقة الأشعرية في كتابه الإرشاد ، ثم غير موقفه من التأويل و تخلى عنه في كتابه الرسالة النظامية ، و أخذ بمذهب السلف ، فأثبت كل الصفات و حرّم التأويل ، و بيّن إجماع السلف على تحريمه ، و أنه ليس بجائز و لا بواجب(2) . و عليه فليس من الحق و لا من العدل ، أن تُنسب لرجل أفكار تخلى عنها نهائيا ، و صنف في ردها كتابا معروفا ، لذا كان على ابن خلدون أن يُشير إلى ذلك صراحة ، و يُبيّن أن الذين اتخذوا كتابه الإرشاد منهاجا لهم في الأشعرية ، أن صاحبه قد تخلى عنه و لا يمثل أفكاره التي استقر عليها آخر عمره !! .
    كما أن قوله-أي ابن خلدون- بأن الناس قد اتخذوا كتاب الإرشاد إماما لهم في عقائدهم ، هو قول فيه مبالغة ، فكان عليه أن يقول اتخذه الأشاعرة إماما لهم ، و لا يقل الناس مطلقا ، لأنهم لم يأخذوا كلهم بذلك الكتاب ، فقد كان للماتريدية مصنفاتهم ،و لأهل الحديث مؤلفاتهم أيضا .
    و قوله الرابع مفاده أن ابن كلاب و أصحابه و الأشعري أثبتوا لله صفة الكلام و ظاهرها يُوهم النقص بالصوت و الحرف الجسمانيين ، ثم قال دفاعا عن ذلك : (( فقد وُجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف و الصوت ، و هو ما يدور في الخلد –أي في الباطن- و الكلام حقيقة فيه دون الأول ، فأثبتوها لله تعالى و انتفى إيهام النقص ))(3) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 368 .
    (2) الذهبي: السير ، ج 18 ص: 473 ، 474 . و ابن حجر : فتح الباري ، ج 13 ص: 407 .
    (3) المقدمة ، ص: 376 .
    (1/234)
    ________________________________________
    و قوله هذا هو تغليط و تخليط و رجم بالغيب ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إنه لا بد من شرح قول الأشاعرة في مسألة الكلام النفسي ليتضح الأمر جليا ، فالكلام النفسي عندهم هو كلام قديم له معنى واحد قائم بالنفس –أي بذات الله – إن عُبر عنه بالعبرية كان توراة ، و إن عُبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، و إن عُبر عنه بالعربية كان قرآنا ، و هو ليس بحرف و لا بصوت ، و هذا القرآن الذي عندنا ليس كلام الله حقيقة ، و إنما هو عبارة و حكاية عن كلامه تعالى . و قولهم هذا لم يسبقهم إليه أحد من المسلمين(1) . و بناء على زعمهم هذا فإن الآيات الآتية : (( تبت يدا أبي لهب و تب )) –سورة المسد/1-،و (( فلما قضى منها زيد وطرا زوجناكها ))-سورةالأحزاب/37- ، و (( و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ))-سورة التوبة /25- ،و (( غُلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون ))-سورة الروم/2-3 -، هي نفسها موجودة في الكتب التي أنزلها الله تعالى على الأمم السابقة ، قبل أن تحدث في الواقع ، زمن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- !! ، و هذا بلا شك كلام مضحك يستحي الإنسان من حكايته ! .
    __________
    (1) انظر : الذهبي : السير ، ج 11 ص: 174، 175 ، 517 .و ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 3 ص: 155 ج 6 ص: 53 . ، ج 12 ص: 178، 366 ، 557 . و أبو المظفر. الأسفراييني: التبصير في الدين و تمييز الفرقة الناجية ، حققه زاهد الكوثري ، مصر ، مكتبة الخانجي، 1955 ، ، ص: 143 . و الباقلاني: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ، ص : 89، ذ106، 107 . و الشهرستناي: الملل و النحل ، ج 1 ص: 109 .
    (1/235)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أن الأشاعرة قالوا بالكلام النفسي بسب نفيهم قيام الصفات الاختيارية بالله تعالى ، لكن القرآن الكريم شاهد على تكلّم الله تعالى و قيام صفة الكلام به ،و أخبرنا فيه أنه كلّم موسى –عليه السلام- تكليما ،و أنه سيكلم عباده يوم القيامة ،و أن القرآن كلامه حقيقة ، فهذا ينقض مقولتهم السابقة في نفيهم قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى ،و منها صفة الكلام ، فجاءوا بحكاية الكلام النفسي التي شرحناها سابقا ، و هي رجم بالغيب و قول على الله بلا علم ، و افتراء على النقل و العقل معا ، فليس لهم في ذلك إلا الظن و الهوى ، لأنهم خاضوا في مسألة غيبية لا يدركها العقل ، كلمة الفصل فيها للشرع وحده .
    و الشاهد الثالث هو أن حكاية الكلام القديم القائم بالذات هو رجم بالغيب و لا يحل الإشكال القائم ، لأنه في النهاية هو كلام لله ، سواء تكلّم به في الأزل أم له ، و بما أنه تكلّم في الأزل على حد زعمهم ، فهو يستطيع أيضا أن يتكلم متى يريد ،و بما يريد ،و كيفما يريد ، و لا يُوجد أي مانع شرعي و لا عقلي من أن يتكلم ، فهو تعالى فعال لما يريد ، لكن هؤلاء-أي الأشاعرة – هربوا من المشكلة و بحثوا لها عن جواب وهمي خيالي ، لا دليل لهم فيه من النقل و لا من العقل ، فمن أين لهم أنه تعالى تكلّم في الأزل ثم توقف ؟ ،و أليس هذا و صفا لله تعالى بالنقص في أنه لا يستطيع أن يتكلم ؟ ! .
    (1/236)
    ________________________________________
    و الشاهد الرابع هو أن حكاية الكلام النفسي التي قال ابن خلدون إنها حلّت مشكلة الكلام عند الأشاعرة ، هي في الحقيقة مغالطة و مشكلة و ليست حلا ، أولا إنه لا توجد أية مشكلة فيما يخص كلام الله تعالى ، فهو سبحانه أخبرنا أنه تكلّم و يتكلم ،و بما أنه ليس كمثله شيء فكلامه يختلف عن كلامنا ،و هو فعال لما يريد ، يتكلم بما شاء ، و متى شاء ، و كيفما يشاء . و ثانيا أن الحل الذي ذكره هو مشكلة و ليس حلا ، لأنه شبّه كلام الله بكلام الإنسان النفسي الداخلي الذي يدور في خلده ، فعدل عن تشبيهه بكلام الإنسان المنطوق بالحروف و الأصوات ، إلى تشبيهه بكلامه-أي الإنسان – النفسي غير المنطوق ،و هو في النهاية كلام بشر يتدخل فيه المخ و الفكر و الحروف و اللغة و المعاني . فهو قد هرب من تشبيه و وقع في آخر ، و لم يقدم أي حل صحيح ، و أما إذا قيل إن كلام الله النفسي لا يُشبه كلام الإنسان النفسي ، قلنا كذلك كلام الله المنطوق الذي ثبت في القرآن و السنة ، فهو كلام يليق بذات الله تعالى و لا يُشبه كلام مخلوقاته ، و عليه فلا داعي لاختلاق حكاية الكلام النفسي أصلا ، و ما علينا إلا التسليم لما جاء في الشرع .
    (1/237)
    ________________________________________
    و الشاهد الخامس هو أن صفتي الحرف و الصوت التي ذكر ابن خلدون أن الأشاعرة فروا منها لأنها تُوهم النقص في كلام الله تعالى ، هي ليست مشكلة أصلا ، لأن الله تعالى أخبرنا أنه كلّم الملائكة و آدم و موسى –عليهم السلام- فقال سبحانه : (( و إذ قال ربك للملائكة ))-سورة البقرة /30- ، و (( كلّم موسى تكليما ))-سورة النساء /164- ، و (( هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ))-سورة النازعات 16- . كما أن كثيرا من علماء السلف قالوا بتكلم الله تعالى بحرف و صوت ، منهم : الصحابي عبد الله بن مسعود (ت32 ه) ،و الفقيه عبد الرحمن بن القاسم صاحب الإمام مالك (ت191 ه) ،و الإمام أحمد بن حنبل (ت241 ه) ،و الحافظ اسماعيل بن محمد البخاري (ت256 ه) ،و الفقيه أبو بكر محمد بن خزيمة الشافععي (ت311 ه)(1) .و ذكر الفقيه محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي(ت1189 ه) ، أنه قد وردت في إثبات الحرف و الصوت أحاديث زاد عددها على أربعين حديثا بعضها صحاح(2) ،وأخرى حسان(3) ، أخرجها احمد و البخاري و الضياء محمد
    __________
    (1) ابن تيمية : موافقة صريح المعقول المعقول لصحيح المنقول ، حققه حامد الفقي ، القاهرة ، مطبعة السنة المحمدية ، 1950 ، ج 2 ص :24 . و ابن القيم الجوزية : مختصر الصواعق المرسلة ج 2 ص : 679 و ما بعدها .و ابن تميم الحراني : مقدمة في في أصول مذهب الإمام احمد ، ملحق بطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة ، 1962،ج 2 ص :296 . و ابن رجب : الذيل على طبقات الحنابلة ، ج 1 ص :162 .
    (2) الحديث الصحيح هو الذي يرويه العدل التام الضبط ن و يكون متصل الإسناد،و خال من العلة و الشذوذ . محمد الزفزاف : التعريف بالفرآن و الحديث ط 4 ، الكويت ، مكتبة الفلاح ، 1984 ص :253 .
    (3) الحديث الحسن هو أقل درجة من الصحيح و له نفس الشروط ، إلا الاختلاف في درجة الضبط ، فراويه أقل ضبطا و هو الذي لا يكثر خطؤه . نفسه ص : 253 .
    (1/238)
    ________________________________________
    المقدسي(ت643 ه/1245م) و ابن حجر العسقلاني(ت 852ه/1448م)(1) .
    و نحن إذا نظرنا إلى مسألة الحرف و الصوت، نظرة موضوعية دون خلفيات مذهبية مسبقة ، يتبين لنا أن آيات و أحاديث كثيرة-سبق ذكرها- صرحت بأن الله كلم بعض رسله، و ناداهم بكيفية لا نعلمها .و أن الله تكلم حقا بحرف ، لأنه بما أن القرآن الكريم هو كلامه لفظا و معنى ، فهذا يستلزم أنه سبحانه و تعالى تكلم بحرف ، بطريقة نجهلها وفق مشيئته و حكمته ، فهو سبحانه (( فعال لما يريد))-سورة البروج/16- و (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير))-سورة الشورى/11- . و عليه فإنه يتبين إن ما قاله ابن خلدون عن الكلام النفسي هو رجم بالغيب و قول على الله بلا علم ، لم يُقم عليه دليلا صحيحا من النقل و لا من العقل .
    __________
    (1) السفاريبي : لوامع الأنوار البهية حققه محمد رشيد رضا القاهرة ن مطبعة المنار ،1323 ه ج 1 ص : 121 .
    (1/239)
    ________________________________________
    و الشاهد السادس هو أن المنطق الذي احتج به ابن خلدون في مسألة الكلام النفسي لم يكن موضوعيا في استخدامه ، لأنه لم يتتبع لوازمه في كل الصفات التي أثبتها ، فلو التزم به لأوصله إلى هدم مذهبه كلية ، فبناء على منطق ابن خلدون فإننا نقول: إن إثبات صفة السمع لله تعالى تُوهم النقص بجارحة الأذن و أجهزتها الداخلية ، لذا يجب تأويلها . و إن صفة البصر هي أيضا تُوهم النقص بجارحة العين و محتوياتها الداخلية، فيجب تأويلها . و إن صفة العلم تُوهم أيضا بالنقص لتعلّقها بالمخ و النفس ،و بالإنسان المخلوق من مادة و روح ، فيجب تأويلها . و يقٌال الشيء نفسه مع باقي الصفات التي أثبتها الأشاعرة ، بل حتى مع الذات الإلهية نفسها ، فيُقال إن الوجود الإلهي ذاته يُوهم النقص لأنه يرمز للمادية و الجسمانية ، لأننا لا نعرف إلا وجود المخلوق المادي و المعنوي ،و عليه فيجب تأويل الوجود الإلهي نفسه ، و هذا بلا شك كلام باطل و ضلال بيّن ،جرنا إليه منطق ابن خلدون المعوج في نظرته لمسألة الكلام النفسي ، مما يعني أنه لم يقدم لنا حلا ،و لا أدى إلى انتفاء الإيهام بالنقص على حد زعم ابن خلدون . و لا يرتفع الإشكال إلا بإثبات الصفات التي قام الدليل الشرعي على ثبوتها لله تعالى ، بلا تشبيه ،ولا تأويل ، و لا تحديد ، و لا تكييف ، و إثباتنا لذات الله و صفاته هو إثبات وجود لا إثبات كيفية .
    (1/240)
    ________________________________________
    و ثامنا إنه-أي ابن خلدون- دافع عن الأشاعرة في استخدامهم للمجاز و التأويل في صفات الله تعالى ، فقال إنهم استخدموا المجاز لدفع ما تُوهمه الصفات الخبرية من نقص بالتشبيه ، فاستخدموه على طريقة العرب ، الذين كانوا إذا تعددت عليهم حقائق الألفاظ رجعوا إلى المجاز ، كما في قوله تعالى عن الجدار : (( فوجدا فيها جدارا يُريد أن ينقض ))-سورة البقرة /27- و أمثاله ، و طريقتهم هذه معروفة عندهم غير مُنكرة و لا مُبتدعة ، و قد استخدمها الأشاعرة لقولهم بالتأويل(1) . بمعنى أن التأويل هو الذي حملهم على استعمال المجاز في موضوع الصفات . فهل قوله هذا صحيح ؟
    أولا قبل الإجابة عن ذلك يجب التذكير بمعنى المجاز و التأويل ، فالمجاز في اللغة هو استخدام لفظ في غير الموضع الذي وُضع له ، كأن يُطلق اسم أسد على إنسان ، أو يُقال: يريد الجدار أن يسقط ، و يريد الباب أن ينفتح ، أي أننا أسندنا الإرادة إلى جماد ، و هي أصلا خاصة بالكائن الحي المريد . و أما التأويل ، فمن معانيه التفسير ، و ما يؤول إليه الأمر ، لكن معناه عند المتكلمين –الذي نقصده نحن- هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح إلى معنى آخر مرجوح ، كتأويل صفة الاستواء على العرش بالاستيلاء ،و صفة العين بالرعاية(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 377 .
    (2) للتوسع في معنى المجاز و التأويل ، انظر : ابن القيم الجوزية ، مختصر الصواعق المرسلة .
    (1/241)
    ________________________________________
    و ثانيا أقول : إن المجاز لا ينفي حقيقة الصفات ، لأنه لا ينفي معنى اللفظ ، و إنما يعني أننا عبّرنا عنه بلفظ آخر يُشير إليه و يُعبر عنه . فآية الجدار التي ذكرها ابن خلدون فيها تعبير عن حقيقة الجدار ، و هي أن فيه خللا و ضعفا ،و أنه غير متماسك و آيل إلى السقوط ، فعُبر عن ذلك بأنه يُريد أن ينقض رغم أنه جماد لا إرادة له ، فالمجاز هنا أننا وصفنا الجدار بالإرادة ، و لم ننف حقيقة حاله الآيلة إلى السقوط . لكن لو أن إنسانا كان يرغب في السقوط ، و قلنا إنه يريد أن يسقط ، لكان ذلك حقيقة لفظا وحالا في حق هذا الإنسان ،و لا يُعد مجازا في حقه ، فالمجاز يكون صحيحا بناء على القرائن التي تصاحبه ،و الذوات التي يتعلّق بها ، دون إنكار للحقائق . فإذا قلنا عن رجل شجاع : جاء الأسد ، نكون قد استخدمنا مجازا صحيحا ، عبّرنا عنه عن حقيقة الشجاعة التي يتصف بها الرجل بلفظ مجازي هو الأسد .
    (1/242)
    ________________________________________
    و بناء على ذلك فإن الصفات التي وصف الله بها نفسه ، هي كلها تُعبر عن حقائق ، ولا تُعبر عن مجازات من حيث معانيها ، لأنه لا تُوجد معها قرائن و لا نصوص أخرى تُشير إلى نفي حقائقها ، و هي قد وردت بأسلوب الإثبات لا الشك و التمريض ، كقوله تعالى : (( و جاء ربك و الملك صفا صفا )) –سورة الفجر/22- ،و (( الرحمن على العرش استوى ))- سورة طه/5 - ، و (( بل يداه مبسوطتان ))-سورة المائدة /64- ، فهذه آيات صريحة في إثبات تلك الصفات لله تعالى ، و ليست مجازا في حقه تعالى ، لأنه لا تُوجد قرائن تدل على ذلك ، فلو لم يكن الله تعالى يتصف بتلك الصفات ما وصف الله بها نفسه . اللهم إلا أن يُقال إن المجاز في تلك الصفات ليس في إثبات حقائقها ، و إنما هو في استخدام تلك التسميات المشتركة بين الخالق و المخلوق ، كقولنا : سمع الله و وجهه ، و سمع الإنسان و وجهه ، و سمع الحيوان و وجهه ، فالأسماء مشتركة و المعاني مختلفة تماما، بحكم أن الله تعالى ليس كمثله شيء ،و الله تعالى أعلم بالصواب .
    و بذلك يتبين جليا أن ما أراده ابن خلدون من استخدام المجاز لتأويل الصفات الخبرية بنفي حقائقها ، هي محاولة فاشلة تنطوي على مغالطات و أخطاء اجتهد ابن خلدون في الدفاع عنها .
    (1/243)
    ________________________________________
    و من تأويلاته إنه أوّل حديث الجارية ، و مقولة مالك المشهورة في الاستواء ، فأما الحديث فقال فيه إن أهل الحديث و الحنابلة المتأخرين يحتجون به لإثبات المكان ، و مفاده أن أَمَة قال لها رسول الله-عليه الصلاة و السلام- : أين الله ؟ ، فقالت في السماء ، فقال لمالكها اعتقها فإنها مؤمنة . ثم قال ابن خلدون : (( و النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يُثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله ، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر ، أن الله في السماء ، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف معناه ،و القطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار ))(1) .
    و قوله هذا فيه تغليط و توجيه غير صحيح للحديث ، لأن الرسول-عليه الصلاة و السلام- لم يقل للجارية : هل تؤمنين بأن الله في السماء ؟ ، و إنما قال لها : أين الله ؟ ، فواضح من السؤال أنه يريد إثبات صفة العلو بلا تحديد ، و حتى إن افترضنا أنه لم يرد ذلك ، فإن جوابها و إقرار رسول الله لها فيه تأكيد لما قالته و إثبات بأن الله في السماء ، بمعنى أنه أثبت له صفة العلو ، التي سماها ابن خلدون المكان مغالطة و تمويها منه . و قوله –عليه الصلاة و السلام- للجارية بأنها مؤمنة ، ليس مراده منه أنها آمنت بظواهر النصوص على حد زعم ابن خلدون ، و إنما لأنها أجابت عن سؤاله بجواب صحيح ، و هو أن الله حقيقة في السماء .
    كما أن وصف ابن خلدون لنصوص الصفات بأنها ظواهر هو وصف غير دقيق و فيه تمويه ، لأنها في الحقيقة هي نصوص تُعبر عن حقائق ثابتة ،و لا تُعبر عن ظواهر جوفاء لا معنى لها ، لأن كلام الله و رسوله هو حقيقة و ليس وهما و لا خيالا و لا لعبا بالألفاظ .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 377 .
    (1/244)
    ________________________________________
    و صفة العلو التي سماها ابن خلدون المكان ، ليست من المتشابه ، لأن النصوص في إثبات العلو لله تعالى كثيرة جدا ، و صريحة في أن الله على العرش فوق سبع سموات ، كقوله تعالى : (( ثم استوى على العرش )) –سورة الفرقان/ 59- ،و (( و إليه يصعد الكلم الطيب )) –سورة فاطر/ 10- ، و (( يخافون ربهم من فوقهم ))- سورة النمل/ 50- . و كذلك في السنة النبوية ، فهناك أحاديث كثيرة صحيحة صرّحت بأن الله تعالى فوف السموات السبع ، منها حديث الإسراء و المعراج ، ففيه تصريح لا لبس فيه أن الله تعالى فوق السموات السبع ،و هو حديث صحيح مَروي في الصحاح و الأسانيد و السنن(1) .
    __________
    (1) انظر مثلا: البخاري: الصحيح ، باب المعراج ، ج 3ص: 1410 . و مسلم : الصحيح ، باب الإسراء ، ج 1 ص: 145 . و الترمذي : السنن ، حققه الألباني ، رق: 3213 .
    (1/245)
    ________________________________________
    و هو في نفيه للعلو –الذي سماه المكان- نظر إليه نظرة مادية تشبيهية ، بمعنى أنه نظر إليه من خلال نظرته للمخلوقات المحكومة بالمكان ، مع العلم أن حديث الجارية أثبت لله العلو ،و لم يحدد له المكان ، لكن ابن خلدون هو الذي سماه مكانا ، و قد نصّ الشرع في نصوص كثيرة على أن الله تعالى خارج السموات السبع ، مستوٍ على عرشه ،و سع كرسيه السموات و الأرض ، كل ذلك وفق ما يليق به من كمال و جلال و تنزيه ، فلا يُوجد أي تشابه بينه و بين مخلوقاته . فالمكان الذي أشار إليه ابن خلدون هو مكان يخص المخلوقات المفتقرة بطبعها إلى المكان ، و هذا هو الذي يقطع العقل بافتقار المخلوق إليه . و أما الله تعالى فهو الخالق العظيم ، الغني المتعال ، فلا يفتقر إلى شيء ، و لا يُحيط به شيء ، لكنه مع ذلك شاء سبحانه أن يتخذ عرشا و كرسيا ، عن غنى و كمال ، لا عن حاجة و افتقار ، و قد خلق الملائكة و لم يكن في حاجة إليهم ، قال تعالى : (( الرحمن على العرش استوى )) ، و (( و سع كرسيه السموات و الأرض )) ، و بناء على ذلك فنحن إذا جاز و قلنا إن ذلك العرش مكان له ، فهو على ما يليق به تعالى ، دون افتقار ،و لا إحاطة ، و لا نقص ،و لا تحديد ، و العقل لا يُحيل ذلك ، لأن لكل موجود مكان يليق به ، و المعدوم هو الذي ليس له مكان ، لأنه غير موجود أصلا .
    و أما قوله بأن نفي المكان في حق الله تعالى حاصل بدليل العقل النافي للافتقار ، فإنه ليس بالضرورة أن المكان يستلزم الافتقار ، و إنما ذلك يخص المخلوقات فقط ، فهي التي تفتقر إلى المكان الذي يحويها ،و الذي هو أيضا مخلوق مثلها ،و كلهم مفتقر إلى الخالق سبحانه و تعالى ، الذي هو –أي الله- فوق المكان و الزمان المخلوقين ،و لا يفتقر إليهما ،ولا لغيرهما ، فهو الغني المهيمن الجبار المتكبر .
    (1/246)
    ________________________________________
    و أما تأويله لمقولة مالك في صفة الاستواء ، فذكر أن أهل الحديث و الحنابلة المتأخرين يحتجون لإثبات صفة الاستواء بمقولة مالك (( إن الاستواء معلوم الثبوت لله )) ، ثم قال عن مالك : و حاشاه من ذلك ، لأنه (( يعلم مدلول الاستواء ،و إنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة ،و هو الجسماني و كيفيته ، أي حقيقته . لأن حقائق الصفات كلها كيفيات ،و هي مجهولة الثبوت لله ))(1) . و معنى كلامه أن الإمام مالك كان يقصد بقوله إن الاستواء معلوم ، أنه معلوم من حيث اللغة أنه جسماني ،و لا يقصد أنه معلوم الثبوت لله ، لأنه –حسب زعمه- أن الصفات مجهولة الثبوت لله تعالى . فهل زعمه هذا صحيح ؟ .
    و أقول : إنه زعم باطل ، أقامه ابن خلدون على التغليط و التخليط و الافتراء ، و الشواهد و المعطيات الآتية تُثبت ذلك بوضوح ، أولها إن مقولة مالك الصحيحة المشهورة عنه في الاستواء لم يُوردها ابن خلدون كما هي ، فقد أورد إنه قال : (( الاستواء معلوم الثبوت لله )) ، أما مقولة مالك الصحيحة فهي وردت في رواية إنه قال: (( الاستواء معلوم و الكيف مجهول و الإيمان به واجب ،و السؤال عنه بدعة )) ،و في رواية أخرى إنه قال:(( الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول )) ،و في أخرى (( الكيف غير معقول ،و الاستواء منه غير مجهول ))(2) ، فهذه الروايات الثلاث صريحة في إثبات الاستواء لله تعالى ، و الثالثة أصرح من الأخريين ، لأنها ذكرت أن مالكا قال : (( و الاستواء منه غير مجهول ))، فكلمة : منه أعادت الضمير لله تعالى صراحة ، لتدل على أن الاستواء يخص الله سبحانه و تعالى . و حتى المقولة التي رواها ابن خلدون هي أيضا صريحة في إثبات الاستواء لله ، لأنها نصت على أنه معلوم الثبوت لله .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 377 .
    (2) الذهبي: تذكرة الحفظ ، ج 1 ص: 209 . و مختصر العلو للعلي الغفار، حققه الألباني ، بيروت ، المكتب الإسلامي، 1412 ص: 36.
    (1/247)
    ________________________________________
    و ثانيها إن زعمه بأن مالكا قصد بالاستواء المعلوم ، أنه معلوم من اللغة أنه جسماني ، فهو مجرد زعم لا دليل عليه من مقولة مالك ، و هو فهم بعيد عن النص و لا يحتمله ،و مخالف للفهم المتبادر الواضح ،و هو أيضا تحريف له و لا يستقيم مع النص ، مما يعني أن مالكا كان يقصد أن الاستواء معلوم الثبوت لله ، و ليس أنه جسماني على رأي ابن خلدون ، لأنه لو قصد ما ذهب إليه ابن خلدون ، لصرّح بذلك ،و إلا كان مدلسا مغالطا مموها ، و حاشاه من ذلك . كما أن بقية كلامه دليل قوي على أنه يقصد أن الاستواء ثابت لله تعالى ،و ليس أنه معلوم الجسمانية ، فإذا عدّلنا مقولة مالك هكذا: الاستواء معلوم أنه جسماني ،و الكيف مجهول . يصبح الكلام لا معنى له ، لأنه إذا كان الاستواء جسماني فالكيف معلوم ، بحكم أنه يخص الأجسام و هي معروفة لدينا ، و عليه فلا يصح أن نقول غير معلوم ،و بذلك يسقط زعم ابن خلدون في فهمه لمقولة مالك و تحريفه لها .
    و ثالثها إن مما يُؤكد أن مالكا قصد بقوله : الاستواء معلوم ، بأنه معلوم ثبوته لله تعالى ، أن له أقوالا صرّح فيها بإثبات الصفات الله إثباتا حقيقيا ، منها أنه كان يقول عن صفة العلو : الله في السماء ،و علمه في كل مكان لا يخلو منه شيء(1) .و فقوله هذا صريح بإثبات صفتي العلو و العلم . و منها أيضا أنه جاء في الخبر أن مالكا و كثير من السلف كانوا يُثبتون حقائق الصفات ،و ينفون علم الكيفية(2) .
    __________
    (1) عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 1 ص: 107 .
    (2) نفس المصدر ، ج 1 ص: 259 . و الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 3 ص: 1142 .
    (1/248)
    ________________________________________
    و رابعها إن قوله بأن الصفات مجهولة الثبوت لله تعالى ، هو قول باطل جملة و تفصيلا ، و افتراء على العقل و النقل معا ، فأما مع النقل فإن القرآن الكريم أكد مرارا على أن الله تعالى مّتصف بصفات الكمال و الأسماء الحسنى ، و أمرنا بأن ندعوه بها ، فلو لم يكن متصف بها حقيقة لما أمرنا بأن ندعوه بها ، فلو لم يكن غفورا ما أمرنا بأن نستغفره . و لو لم يكن رزاقا ما امرنا بأن ندعوه ليرزقنا . و في قوله تعالى : (( و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها ،و ذروا الذين يُلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون))-سورة الأعراف/180- ، دليل قاطع على ثبوت الصفات و الأسماء لله تعالى بمعانيها و حقائقها ، فقد سماها حسنى ، و أمرنا بأن ندعوه بها ، و توعّد الذين يُلحدون فيها و يُخرجونها عن حقائقها بالعقاب . و أما عقلا فإن الكون من ذراته إلى عوالمه شاهد على أن له ربا عليما عظيما، حكيما عزيزا ، جبارا قويا ، بديعا جميلا ، رقيبا رزاقا ، الأمر يُثبت قطعا بأن ما زعمه ابن خلدون هو كلام باطل .
    و خامسها إن ابن خلدون عندما زعم أن الصفات كلها مجهولة الثبوت لله تعالى ، يكون قد ناقض نفسه و هدم مذهبه ، فهو يتبنى مذهبا يُثبت سبع صفات ، كالعلم و السمع و البصر ،و الحياة ، مما يستلزم أن تلك الصفات هي أيضا مجهولة الثبوت لله ،و عليه فلا يصح القول بإثبات تلك الصفات لله تعالى أصلا .
    و سادسها-أي الشواهد و المعطيات- إن فهم ابن خلدون لمقولة الإمام مالك بأنه أراد من قوله: الاستواء معلوم ، بأنه معلوم الجسمانية لا الثبوت ، هو اتهام له باعتقاد التشبيه ، و التلبيس على الناس و إخفاء عقيدته عنهم ، و أنه لم يكن يعتقد في الاستواء ما صرّح به القرآن الكريم من إثبات الصفات حقيقة ، مع التنزيه المطلق بناء على قوله تعالى : (( ليس كمثله شيء ))-سورةالشورى/11- ،و (( لم يكن له كفؤا أحد))-سورةالاخلاص/4- . و لا شك أن ذلك اتهام باطل في حق الإمام مالك .
    (1/249)
    ________________________________________
    و ختاما لمسألة المجاز و التأويل أشير هنا إلى أن ابن خلدون نص على أن التأويل هو الحل للجمع بين التنزيه المطلق و الآيات المُوهمة للنقص و التجسيم(1) . و قوله هذا هو أيضا غير صحيح ، فقد سبق مناقشة جانبا منه ،و نرد عليه هنا بالمعطيات الآتية . أولها إنه أقمنا سابقا الدليل القاطع على أنه لا تُوجد في الشرع نصوص مُوهمة للنقص و التشبيه إذا فُهمت فهما صحيحا بطريقة شرعية سليمة ، انطلاقا من قاعدة التنزيه التي تقوم على قوله تعال: (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير )) ،و (( لم يكن له كفؤا أحد )) ، مما يعني أن ذلك التوهّم المزعوم هو في عقل ابن خلدون ،و لا وجود له في الشرع الحكيم ، و عليه فإن التأويل الذي رآه هو-أي ابن خلدون- حلا لذلك التوهّم ، لا حاجة لنا إليه ، لأنه لا توجد في الشرع مشكلة صفات أصلا .
    و ثانيها إنه في دعوته إلى استخدام التأويل في الصفات ، هو مطالب بالدليل الشرعي و العقلي على شرعية ما دعا عليه . فأما الدليل الشرعي على زعمه فلن يظفر به ، لأنه لا يوجد في الشرع نص يدعو إلى تأويل الصفات ، و إنما الموجود فيه ، هو إثبات الصفات و التأكيد عليها ،و الدعوة إلى التعرّف على الله من خلالها ،و التعبّد بها .
    و أما عقلا فإن التصوّر الصحيح للخالق و مخلوقاته ، لا يدعو أبدا إلى التأويل ، و لا حاجة إليه ، لأننا إذا اعتقدنا أن الله تعالى له صفات الكمال والأسماء الحسنى ، و أنه ليس كمثله شيء في ذاته و لا في صفاته ، فإننا لا نجد تناقضا و لا إشكالا عندما نُثبت له الصفات التي أثبتها لنفسه ، لأننا ننظر إليها بمنظور التنزيه و الكمال لا بمنظور النقص و التشبيه .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 367 .
    (1/250)
    ________________________________________
    و ثالثها إن التأويل هو تحريف للنص و اعتداء عليه ، و تعطيل له ،و اتهام له أيضا بالنقص و عدم الوضوح ، لأنه –أي التأويل- لم يقم على دليل صحيح من النقل و لا من العقل ، و إنما قام على مشكلة وهمية لا حقيقة لها ، فأصبح هو نفسه مشكلة لا حلا ، بدليل أننا إذا أوّلنا صفة الاستواء ، و قلنا إنها تعني الاستيلاء على حد زعم المؤوّلين ، نكون قد حرّفنا النص ، و وصفنا الله تعالى بصفة لا تليق به ، لأنها تعني أنه سبحانه لم يكن مستوليا ثم استولى ، و هذا نقص في الألوهية و نقض لها ، يعني أنه دخل مع غيره في صراع ثم تغلّب عليه ، و قبل تغلّبه عليه لم يكن مستوليا عليه ؛ و إلا على ماذا استولى ؟ ، و ممن استولى ؟ .
    و إذا أوّلنا صفة اليد و قلنا إنها تعني القدرة ، فإن السؤال المطروح هنا هو : هل قدرته كقدرة الإنسان المرتبطة بعقله و قلبه و روحه و جسمه ؟ فإن قيل : نعم ، نكون قد شبّهنا الله بالإنسان . و إن قيل : لا ، لأن قدرته تعالى تختلف تماما عن قدرة الإنسان ، و إنما هو مجرد تشابه في الاسم . قلنا: إذا كان الأمر هكذا ، فلا داعي للتأويل أصلا ، لأن هذا المفهوم هو الذي نصّ عليه الشرع في مسألة الصفات ، فيد الله مثلا لا مبرر لتأويلها أصلا ، لأنها يد تليق بالله تعالى ، و تختلف تماما عن يد الإنسان . و بذلك يتبين أن التأويل لا حاجة لنا إليه أصلا ، فهو إما أن يؤدي إلى التشبيه و التجسيم ،و التحريف و التعطيل ، و الاعتداء على النص، و في هذه الحالة فهو منهج غير صحيح ، و إما أنه يقرر مفهوم الشرع في مسألة الصفات ،و من ثم فهو لم يأت بجديد ، و يجب تغيير اسمه دفعا لأي التباس .
    (1/251)
    ________________________________________
    و رابعها –أي المعطيات- هو أن لابن خلدون اعتراف خطير فيه طعن في مذهبه في المجاز و التأويل ، و ذلك أنه اعترف صراحة بأن طريقة المجاز و التأويل مخالفة لمذهب السلف في التفويض(1) . مما يعني أن تلك الطريقة مبتدعة ، و لم يكن عليها السلف الأول ، من الصحابة و التابعين و تابعيهم من الأئمة الأربعة و غيرهم . مما يعني أيضا أن طريقة التأويل لو كانت شرعية لاتبعها هؤلاء ، فهم من أتبع المسلمين للشرع الحكيم .
    و آخرها –أي المعطيات- هو أن من مغالطات ابن خلدون أيضا أنه انتقد المعتزلة في موقفهم من مسألة خلق القرآن ، و قال إنهم نفوا كلام الله ، فأوصلهم ذلك إلى القول بخلق القرآن ، و هو بدعة صرّح السلف بخلافها ،و هم –أي المعتزلة- قالوا بذلك ، لأنهم لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس(2) .و قوله هذا هو أيضا ينطوي على مغالطة بينة و خطأ واضح ، لأنه قال إن مقولة المعتزلة في القرآن أنكرها السلف ، و نسي –أو تناسى- أن مقولة الأشعرية في الكلام النفسي ، هي أيضا بدعة ، لم يقل بها السلف الأول، و أن ابن كلاب هو أول من ابتدعها و عنه أخذها الأشاعرة ، فأنكرها كثير من السلف على ابن كلاب و أصحابه منذ القرن الثالث الهجري و ما بعده (3) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 377 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 368 .
    (3) انظر : الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 727 . و السير ، ج 14 ص: 378، 379 . و ابن تيمية : النبوات ، ج 1 ص: 46 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج 3 ص: 290 .
    (1/252)
    ________________________________________
    و غاب عنه أن مقولة الأشعرية في الكلام النفسي هي أيضا تُؤدي إلى مقولة المعتزلة في خلق القرآن ، و ذلك أنها- أي الأشعرية- قالت إن القرآن ليس كلام الله حقيقة ، وإنما هو عبارة و حكاية عن الكلام النفسي الأزلي الذي لا يتعدد و لا يتبعّض . فإذا كان القرآن ليس كلامه حقيقة ، فهو إما أن يكون من كلام جبريل-عليه السلام-،و إما من كلام محمد –صلى الله عليه و سلم- ، و بما أن كلا منهما مخلوق ، فعلى التقديرين يكون القرآن مخلوقا تكلّم به أحدهما . و هذه النتيجة هي نفس مقولة المعتزلة في المحصلة النهائية . مع العلم أن الصواب في مسألة القرآن الكريم ، هو أنه كلام الله حقيقة حرفا و معنى ، منه بدأ و إليه يعود ، ليس مخلوقا و لا عبارة و لا حكاية عنه .
    و ختاما لما ذكرناه في هذا المبحث يتبين لنا أن كلام ابن خلدون في مسألة الصفات و موقف السلف و الخلف منها ، كان في معظمه كلاما مليئا بالمغالطات و الأخطاء ،و المخالفات الشرعية .
    سادسا : مجازفات في صيغة حتميات أو شبه حتميات :
    (1/253)
    ________________________________________
    أصدر ابن خلدون أحكاما و قوانين كثيرة في صيغة حتميات أو شبه حتميات ، هي في الأصل مجازفات ، إما أنه قالها بلا روية و لا تدبر ، و إما أنه قالها متعمدا ، و إما انه أخطأ في استقرائه لها ، و إما أنه جمع بين كل ذلك أو ببعضها. و نحن ننتقده في الحتميات-و ما شابهها- التي أصدرها لأنه أخطأ فيها و لم يلتزم بالمنهج الصحيح في استقرائه لها . و لأنه تعمّد في إصدارها و المبالغة فيها . لذا فهو يتحمل مسؤوليتها ،و نحن من حقنا أن ننتقده فيها ، و نستخدم مختلف الوسائل و المعطيات للرد عليه ، على أن نلتزم بالموضوعية و لا نكذب عليه ،و لا نحرف كلامه ، و تبيانا لذلك أورد له عشر مجازفات ، أولها قوله إن (( المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره و زيه ، و نحلته ،و سائر أحواله و عوائده ))(1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و فيه مبالغة شديدة ، لأنه لا توجد ضرورة شرعية و لا عقلية و لا واقعية تجعل المغلوب مولعا أبدا بالاقتداء بالغالب في كل أحواله . نعم في المغلوب ميل كبير جدا لتقليد الغالب ، لكن لا يصح أن نصدر حكما عاما صارما بحيث نقول إن كل مغلوب فردا كان أو جماعة مولع أبدا بتقليد غالبه في كل أحواله ، و الأمثلة المُؤيدة لما نقول كثيرة ، أذكر منها أربعة ، أولها إن الرافضة العبيديين لما كونوا دولتهم بالمعرب الإسلامي و هيمنوا عليه سنة 296هجرية ، و فرضوا مذهبهم على السنيين بالقوة و قتلوا منهم كثيرا من الأبرياء ، لم يستسلم أهل السنة و لا استكانوا ، فقد قاوموا هؤلاء بكل ما يقدرون عليه من الوسائل السلمية و العسكرية ، و ضربوا أمثلة رائعة في الصبر و الجهاد و الاستشهاد(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 116 .
    (2) للتوسع في ذلك أنظر : إبراهيم التهامي: جهود علماء المعرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة ، ط1 ، الجزائر ، دار الرسالة ، 1422 ، ص: 222 و ما بعدها .
    (1/254)
    ________________________________________
    و ثانيها إن المغول لما خربوا المشرق الإسلامي و أطاحوا بدوله ،و هيمنوا على المنطقة في القرن السابع الهجري ، لم يقلدهم المسلمون في كل أحوالهم على حد زعم ابن خلدون ، فقد ظلوا متمسكين بدينهم و أخلاقهم ، الأمر الذي أدى إلى حدوث عكس ما قاله ابن خلدون ، فبعد مدة قصيرة اعتنق المغول المنتصرون دين الإسلام و تخلّوا عن وثنيتهم طواعية ، و أصبحوا من جنوده ، رغم أنه كانت تعتنقه الطائفة المغلوبة المنهزمة . فهذا مثال دامغ على أن المغلوب لم يكن مولعا بتقليد الغالب في كل أحوالها ، مما أدى إلى تأثر الغالب به ،و تحوّله إلى عقيدته و أخلاقه .
    و المثال الثالث هو أن العالم الإسلامي لما وقع تحت الاستعمار الغربي الحديث في القرن التاسع عشر و ما بعده ، لم يستسلم له و لم يولع بتقليده و الإقتداء به في كل أحواله . و مثاله الجزائر فإنها قاومت الاستعمار الفرنسي بمختلف الوسائل العسكرية و السلمية ، منذ سنة 1830 إلى سنة 1962م ، و خلال هذه الفترة لم يقتد الشعب الجزائري بفرنسا في كل أحواله ، و ظل محافظا على دينه و لغته و أخلاقه رغم ما بذلته فرنسا من مجهودات كبيرة لتغريبه و سلخه عن عقيدته و لغته . فأين حتمية ولوع المغلوب بتقليد الغالب في كل أحواله ؟ .
    و المثال الرابع يخص الشعب الفلسطيني ، فقد احتل اليهود أرضه منذ سنة 1948م بمساندة الاستعمار الغربي لهم ، و مع ذلك فإنه-أي الشعب الفلسطيني- قاوم اليهود و أعوانهم منذ سنة 1948 ، و ما يزال يُقاوم إلى يومنا هذا ، ضاربا أروع الأمثلة في التضحية و الجهاد و الصمود و التصدي لمخططات اليهود و الاستعمار الغربي المعاصر ،ولم يستكين و لم يستسلم ،و لم يُولع بتقليد الغالب اليهودي المغتصب . فأين قانون ابن خلدون في حتمية تقليد الغالب للمغلوب في كل أحواله ؟
    (1/255)
    ________________________________________
    و أما ما نراه في وقتنا الحاضر من تأثر كثير من أبناء المسلمين بالحضارة الغربية في سلوكياتهم و أفكارهم ، فهو ليس تأثرا ضروريا ، ولا مفروضا عليهم قهرا ،و إنما هو تأثر حدث بسبب ضعف هؤلاء إيمانيا و نفسيا ، و كثرة المشاكل و العوائق و الفتن و المغريات المحيطة بهم ، أمام نقص المقاومة الداخلية، و ضعف المؤسسات الإسلامية التي تربى هؤلاء ،و ترد عل التحديات الخارجية و الداخلية المحدقة بالمسلمين ، فهذا النقص مكّن الغربيين من تحقيق ذلك .
    و المجازفة الثانية هي قوله إن أمم السودان تُذعن للرق في الغالب لنقص الإنسانية فيها ،و قربها من عَرض الحيوانات العجم(1) . و قوله هذا هو أيضا غير صحيح ،و مجازفة غريبة ، لأن السبب الرئيسي في إذعان الزنوج إلى الرق غالبا ، هو كثرة تسلّط الشعوب الأخرى عليهم ،و قهرهم ،و إذلالهم و تسخيرهم لخدمتهم من جهة ، و انتشار ثقافة الرقص و اللهو و السلبية ،و القابلية للخضوع بين الزنوج من جهة أخرى ، كل ذلك هيأ الأرضية لجعل الرق أكثر انتشارا و قبولا بين أمم السودان ، فذلك هو السبب الرئيسي ، و ليس ما زعمه ابن خلدون من أن هؤلاء أقل إنسانية . لذلك و جدنا هؤلاء لما تغيرت ظروفهم ضربوا أمثلة رائعة في مقاومة الاستعمار الغربي و التحرر منه ، و هذا معروف في معظم دول إفريقيا السوداء ، كالسودان ، و أنجولا ،و النيجر . و بعض دولهم حققت تقدما لا بأس به في مختلف المجالات كدولة جنوب إفريقيا .
    __________
    (1) نفسه المصدر ، ص: 117 .
    (1/256)
    ________________________________________
    فقوله إن أمم السودان أقل إنسانية ،و لها قرب بالحيوان الأعجم ، هو كلام باطل شرعا و واقعا ، فالشرع نصّ صراحة على أن البشر أصلهم واحد ، كلهم لآدم و آدم من تراب، و أن أكرمهم عند الله أتقاهم ، قال تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى ، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))-سورة الحجرات/13- .و (( لقد كرمنا بني آدم ))-سورة الإسراء/70-. فأمم السودان بشر مثلنا ورثوا عن أبيهم آدم الصفات الإنسانية كاملة ، كما ورثتها عنه باقي الأجناس ، و كرّمهم الله تعالى كما كرّم سائر البشر . و أما من حيث الواقع ، فهو يشهد أن أمم السودان هم كباقي شعوب العالم في الخلقة الإنسانية و إن اختلفت الألوان ، فيهم القوي و الضعيف ،و القصير و الطويل ، و الغبي و الذكي ، و العالم و الجاهل ، و الفقير و الغني ، و ليسوا أقرب إلى الحيوان الأعجم كما زعم ابن خلدون .
    و المجازفة الثالثة هي قوله إن (( الأمة إذا غُلبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء ))، كأمة الفرس ، فقد ملأت العالم كثرة ، فلما فنيت حاميتهم أيام العرب- المسلمون- بقي منهم كثير ، و أكثر من الكثير ، ثم اندثروا كأن لم يكونوا (1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، فقد يصدق على أمم و لا يصدق على أخرى ، لأن ما قاله ليس قانونا عاما صارما ، لأن بعض الأمم تقاوم الهزيمة و تتكيف معها ، و تلم شتاتها ،و بعض الجماعات تجمعها قلتها و تحصّنها عقيدتها وأخلاقها ، فلا تفنى و لا تذوب في غيرها ، رغم الهزائم التي قد تكون أصابتها ، و ربما قد تظهر من جديد بقوة و فاعلية ، فتجمع الأعوان و تكوّن دولة .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 116، 117 .
    (1/257)
    ________________________________________
    و الأمثلة على ذلك كثيرة ، منها أن الطائفة الإباضية فقدت دولتها سنة 276 هجرية ، و تداولت عليها الدول ، لكنها ما تزال قائمة إلى يومنا هذا ، و لها نشاط اقتصادي كبير و دور علمي بارز . و منها أيضا الطائفة العبيدية الإسماعيلية ، فقدت دولتها سنة 567هجرية ، لكنها حافظت على جماعتها إلى يومنا هذا ، و لها نشاط معروف في العالم . و منها أيضا الطائفة اليهودية ، فقد تعرّضت لأزمات كثيرة عبر تاريخها الطويل ، و ونكّلت بها بعض الشعوب ، لكنها مع ذلك لم تفن و لا اندثرت ،و لها في عصرنا سطوة و دولة .
    و حتى مثاله الذي ضربه عن أمة الفرس ،و قال إنها اندثرت ، فإن الواقع يُكذّبه ، فهذه الأمة لم تندثر ، و حافظت على بقائها إلى يومنا هذا ، و لها دولة إيران تمثلها ،و هي ما تزال تحافظ على كثير من تقاليدها القديمة .
    (1/258)
    ________________________________________
    و المجازفة الرابعة هي إنه قال : (( إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع )) ،و شبهه بالهرم الذي يُصيب الكائن الحي ، فهو طبيعي كالأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها و لا ارتفاعها لأنه طبيعي ،و الأمور الطبيعية لا تتبدل(1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، لأنه من الخطأ إصدار حكم مثل هذا ، كأنه قانون قهري حتمي مسلّط على الدول لا تنجو منه دولة . لذا يجب التفريق بين حتمية نهاية أية دولة مهما عمرت ، سواء بلغت الهرم أم لم تبلغه ، و بين حتمية عدم ارتفاع الهرم إذا حلّ بدولة ما . فالحتمية الأولى صحيحة ، فإن لكل أمة أجل لا تتجاوزه ، سواء بلغت الهرم أم لم تبلغه ، فإذا بلغت أجلها فلا بد أن تسقط ، قال تعالى: (( و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم ، ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون ))-سورة الحجر/4-5 - . و التاريخ شاهد على ذلك ، فالدول القديمة كلها سقطت ، و لم تبق منها دولة قائمة على وجه الأرض ، و أحدث الأمثلة على ذلك سقوط الاتحاد السوفياتي ،و يُوغسلافيا ،و تشيكسلوفاكيا ، فهي دول حديثة النشأة ، سقطت و لم تبلغ الهرم الذي قدره ابن خلدون 120 سنة .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 229 .
    (1/259)
    ________________________________________
    و أما السقوط بسبب الهرم فهو ليس قانونا حتميا ، فلا يُوجد أي مانع شرعي و لا عقلي و لا واقعي يمنع دولة ما بلغت الهرم من أن تجدد نفسها ، بإحياء عوامل القوة فيها ،و القضاء على عوامل الهدم فيها ، فتُحدث في كيانها إصلاحات صحيحة و عميقة و شاملة ، إذا أحسنت استخدام الوسائل و اختيار الظروف المناسبة داخليا و خارجيا . و مثال ذلك الدولة البريطانية ، فهي دولة عريقة ، و ما تزال قائمة إلى يومنا هذا رغم كثرة حروبها و هزائمها ، لكنها كانت تستفيد من كل ذلك ،و تجدد قوتها و إصلاحاتها لضمان استمرارها كدولة . و نفس الشيء يُقال على فرنسا ، فرغم ما حل بها من هزائم في القرنين التاسع عشر و العشرين ، فإنها ما تزال قائمة إلى يومنا هذا . و لا نعني بذلك عدم سقوط هاتين الدولتين ، و إنما نعني أن الدول تستطيع أن تجدد نفسها و تتخلص من كثير من مظاهر الضعف و الهرم ، تساعدها على البقاء مدة أطول .
    و أما تشبيهه الهرم الذي يحل بالدول بالهرم الذي يُصيب الكائن الحي ، فهو تشبيه ناقص ،و غير دقيق ،و لا ينطبق عليه تمام الانطباق ، لأن هرم الكائن الحي لا يتغير و لا يستطيع الإنسان التحكم فيه ، أما هرم الدول فهو مرتبط أساسا بأعمال الإنسان الاختيارية ، التي يمكن التحكم فيها ، و التصرف فيها بما ينفع الناس ،و يدفع عنهم الضرر .
    و المجازفة الخامسة هي قوله : (( إن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة ))(1) . و قوله هذا هو أيضا غير صحيح على إطلاقه ، لأن بناء الهياكل العظيمة جدا قد تُبنى في زمن ملك واحد ، و قد تُبنى في زمن عشرة ملوك ، و قد لا تُبنى في زمن هؤلاء ، لأن الأمر لا يتعلّق بهؤلاء ،و لا بقيام دول و سقوطها ، و إنما يتعلق أساسا بالإرادة السياسية ،و توفر الأيدي العاملة ،و الأموال و الوسائل ،و المواد الأولية ،و الظروف المناسبة ، و قد يتوفر كل ذلك في زمن ملك واحد ،و قد لا يتوفر .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 272 .
    (1/260)
    ________________________________________
    و قوله هذا و إن كان له جانب من الصحة بالنسبة للزمن القديم ، فإنه غير صحيح تماما في زماننا هذا ، بسبب التطور العلمي و التكنلوجي و الاقتصادي الكبير الذي أحرزه الإنسان في وقتنا الحاضر ، مما سمح له ببناء ناطحات السحاب في ظرف قصير جدا ، و هي بنايات أكثر علوا و ضخامة من الهياكل القديمة المعروفة . و نحن في انتقادنا لابن خلدون نلومه لأنه أصدر حكما عاما دون استثناء معتمدا على استقراء ناقص ، دون مراعاة ولا احتياط لما قد يحدث في المستقبل .
    و المجازفة السادسة هي قوله : (( إن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها )) ،و كلما كانت (( الأمة وحشية كان ملكها أوسع )) ،و يقصد بالأمم الوحشية الأمم البدوية المتوحشة(1) . و قوله هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، فلا شك أن له جانبا صحيحا ،و له شواهد تاريخية كثيرة تؤيده ، كحال المغول البدويين المتوحشين الذين أطاحوا بكثير من دول المشرق الإسلامي و ملكوها . لكن ذلك ليس قانونا عاما ، فقد تغلب المسلمون على شعوب و دول كثيرة ، و لم يكونوا متوحشين . و قانونه هذا لا يصدق نهائيا على عصرنا الحالي ، لأن الأمم الأقدر على التغلّب و الهيمنة هي الأمم الأكثر تنظيما و تحضرا و تطورا ، و ليست الأمم البدوية المتوحشة الأقدر على ذلك .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 109 ، 114 .
    (1/261)
    ________________________________________
    و المجازفة السابعة هي قوله : (( إن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين ، إما من نبوة أو دعوة حق ))(1) . و قوله هذا هو أيضا ليس صحيحا على إطلاقه ، لأنه إن صدق على دول كثيرة ، فإنه لا يصدق على دول أخرى كثيرة أيضا ، و ليس بالضرورة أن تقوم الدول الكبرى على نبوة أو دعوة حق ، فقد تقوم على أساس قوة أو دعوة منحرفة ، أو دين باطل ، كالدولة الفرعونية ،و اليونانية ، و الرومانية ، و المغولية . و قد لا تقوم على الدين أصلا ، كما هو حال معظم دول العالم الحديث ، التي هي دول علمانية، و بعضها قام على الإلحاد و إنكار الدين و محاربته بلا هوادة ، كما حدث في دول المعسكر الشيوعي كالاتحاد السوفياتي ،و الصين ، و يُوغسلافيا .
    و المجازفة الثامنة هي قوله : إن سكان المنطقة المعتدلة ،و هم أهل المغرب ،و الشام ، و الحجاز ، و اليمن ، و العراق ، و الهند ، و السند ، و الصين ، و الأندلس ، و من قَرُب منهم من الفرنجة و الروم و اليونان ،و من قَرُب منهم . هؤلاء منطقتهم هي المخصوصة بالعلوم و الصنائع و المباني و الملابس ،و الأقوات و الفواكه و الحيوانات ، و سكانها من البشر أعدل أجساما ، و ألوانا ، و أخلاقا ،و أديانا ، كل ذلك بسبب اعتدال منطقتهم ، فهم متحضرون في الصنائع و المباني و الملابس ... و يبتعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم(2) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 124 .
    (2) نفس المصدر ، ص: 65 .
    (1/262)
    ________________________________________
    و قوله هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، و فيه مبالغة شديدة في الاعتماد على عامل المناخ ،و إهمال العامل الإنساني في قيام الحضارة ، فلا شك أن للمناخ تأثيرا كبيرا على الإنسان –سلبا و إيجابا- ، لكنه مع ذلك ليس هو العامل الحاسم في التطور الحضاري ، و إنما العامل الإنساني هو الأساس في النهوض الحضاري ، فهو الذي يتفاعل مع الواقع البشري و الطبيعي و يتكيف معه ،و يُسخّر مظاهر الطبيعة لخدمته . لكن ابن خلدون بالغ في الاعتماد على عامل المناخ ، و أهمل أثر العامل البشري ،و تحوّلت عنده الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة بتضخيمه لعامل المناخ .
    كما أن السبب الأساسي في قلة الحضارة في المناطق المتطرفة شمالا و جنوبا ، هو قلة المؤثرات الدينية و الثقافية و الحضارية في تلك المناطق ، و ليس لأنها مناطق مناخية طاردة للسكان فقط ،و إنما لأن الإنسان نفسه لم يكن يملك من التطور العلمي و الحضاري ما يُمكّنه من تعمير تلك المناطق ،و هو الأمر الذي تحقق في زماننا هذا ، فقد تحولت مناطق قطبية و أخرى صحراوية إلى مناطق حضارية عامرة ، كما هو الحال في كثير من مدن السعودية ،و شمال كندا و الولايات المتحدة الأمريكية ، و شمال روسيا و فلندا و السويد و النرويج .
    كما أن قوله بأن المناطق المعتدلة هي أيضا مخصوصة بالحيوانات، هو قول غير صحيح ، لأنه حتى المناطق القطبية هي أيضا فيها مختلف أنواع الحيوانات البرية و البحرية ، و كثير من الطيور تهاجر إليها سنويا من المناطق المعتدلة . و قولنا هذا ثابت و معروف و مشاهد في مختلف الفضائيات و الأشرطة العلمية ،و لا يحتاج إلى توثيق مكتوب .
    (1/263)
    ________________________________________
    و أما قوله بأن المنطقة المعتدلة هي أعدل المناطق أديانا ، هو قول ليس صحيحا ، لأنها هي نفسها –أي المنطقة المعتدلة- كانت-و ما تزال- تعج بالأديان و المذاهب المتطرفة و المتناقضة ، من إسلام ، و نصرانية ، و بوذية ،و هندوسية ، و يهودية ، و غيرها من المذاهب و النحل ، و قد نجد كثيرا منها في بلد واحد كالهند و أندونيسيا . و نجدها أيضا في المناطق المتطرفة شمالا و جنوبا ، في السويد ، و النرويج ،و فلندا ، و كندا ، و أستراليا ،و زيلندا الجديدة .
    و قوله إن المنطقة المعتدلة سكانها أعدل البشر أخلاقا ، هو كلام غير علمي ، لأن أخلاق البشر تتحكم فيها العقائد و المذاهب و التقاليد ،و لا تتحكم فيها عوامل المناخ ، و إلا لكان المناخ عاملا موحدا و جامعا لعقائد و أخلاق البشر بالمنطقة المعتدلة ، لكن الواقع شاهد على عكس ذلك تماما . كما أنه-أي الواقع- شاهد أيضا على تشابه أخلاق أمم كثيرة رغم اختلاف مناخاتها و مواقعها الجغرافية ، فبعضها في الشمال ،و أخرى في الجنوب ، و أخرى في الوسط . الأمر الذي يُثبت قطعا أن العامل الأساسي في ذلك التباين و التجانس هو العامل البشري لا المناخ و لا العوامل الطبيعية الأخرى.
    كما أن زعمه بأن سكان المنطقة المعتدلة بعيدون عن الانحراف في عامة أحوالهم ، هو زعم غير صحيح ، لأن اعتدال السلوك و عدم انحرافه يعود أساسا إلى العقائد و الأخلاق ، و لا يعود إلى عامل المناخ . والتاريخ و الواقع يشهدان على أن معظم المصائب و البلايا ،و الانحرافات و الحروب التي أصابت العالم ، كان مصدرها المنطقة المعتدلة .
    (1/264)
    ________________________________________
    و المجازفة التاسعة هي قوله بأن المناطق المناخية غير المعتدلة سكانها هم من أبعد الناس عن الاعتدال في جميع أحوالهم ، فبناؤهم بالطين ،و أقواتهم الذرة و العشب ،و لباسهم من أوراق الأشجار ، و أكثرهم عرايا من اللباس ، و أخلاقهم قريبة من خلق الحيوانات العجماء ، و يُروى أن بعض السودان يأكلون بعضهم بعضا ، و سبب ذلك أنهم بعيدون عن الاعتدال ، لقرب امزجتهم و أخلاقهم من أحوال الحيوانات العجماء ، و يبعدون عن الإنسانية مقدار ذلك(1) .
    و قوله هذا هو أيضا غير صحيح و مجازفة غريبة ، لأن أحوال الشعوب المتوحشة – التي تسكن المناطق غير المعتدلة – سببها هو بعدهم عن المؤثرات الدينية و الثقافية و الحضارية ، و ليس موقعهم في المناطق المناخية غير المعتدلة هو السبب في ذلك ، فهو على تأثيره في الإنسان فليس هو العامل الحاسم في تغيير سلوكيات و أخلاق الناس .
    و بناء على زعمه فلو افترضنا أننا أخذنا سكان المناطق المعتدلة ، إلى المناطق غير المعتدلة ، فإنهم سيفقدون أخلاقهم و حضارتهم و سلوكياتهم الإنسانية ،و يصبحون كالمتوحشين ، و هذا غير صحيح على إطلاقه ، فإن غالبيتهم يتكيفون مع الوضع الجديد ،و يستخدمون حضارتهم في التأثير على البيئة و التعامل معها،و يصبغونها بأخلاقياتهم و ثقافاتهم . و الدليل على ذلك أن كثيرا من المناطق التي كانت طاردة للسكان بسبب تطرف حرارتها أو برودتها ، هي اليوم مناطق حضارية كبرى زاهية ، كشمال روسيا ، و فلندا ، و السويد، و النرويج، و كندا ، و جنوب إستراليا ، و زيلندا الجديدة .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 65-66 .
    (1/265)
    ________________________________________
    و إذا افترضنا أننا أتينا بشعوب المناطق غير المعتدلة المتوحشة إلى المناطق الحضارية المعتدلة ، لا شك أنها تتأثر بالوضع الجديد ،و يتغير كثير من سلوكياتها و تتحضر تدريجيا ، لكن التغير يعود أساسا إلى الوضع البشري الجديد ، لا إلى الوضع المناخي الجديد المتمثل في المنطقة المعتدلة . لأننا لو أخذناهم إلى منطقة معتدلة أخرى خالية تماما من الازدهار الحضاري ما حدث لهم كالذي حدث لهم في المنطقة المزدهرة .
    و بناء على زعمه ، فإننا لو أدخلنا الإسلام إلى المناطق غير المعتدلة ، و اعتنقه أهلها المتوحشون ، فإنه لا يُؤثر فيهم و سيبقون على حالتهم المتوحشة ، و لا يُغير من أخلاقهم و لا من أحوالهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية شيئا ، و لا شك أن هذا زعم باطل ، و الذي لا ريب فيه أنه –أي الإسلام- سيغير حياتهم و يقلبها رأسا على عقب .
    و هو في وصفه لشعوب المناطق غير المعتدلة بالهمجية و الوحشية و الحيوانية ، كان مبالغا و متطرفا جدا ، و مُخطئا في تفسيره لأحوالهم بعوامل المناخ ، لأنه سبق أن بينا أن العامل البشري هو المؤثر الحاسم في سلوكيات الناس و أخلاقياتهم . و نحن نعلم اليوم يقينا أن مناطق غير معتدلة متطرفة في البرودة و الحرارة هي اليوم من أزهي المناطق الحضارية في العالم و تتفوق على كثير من المناطق الحضارية المعتدلة القديمة ، كما هو الحال في شمال اليابان ، و النرويج ،و فلندا ، و السويد، و كندا ،و المدن البترولية في الجزيرة العربية و الصحراء الجزائرية .
    (1/266)
    ________________________________________
    و المجازفة الأخيرة-أي العاشرة- هي قوله بأن الأقاليم الخصبة كثيرة الزرع و الضرع و الفواكه يتصف سكانها في الغالب بالبلادة في أذهانهم و الخشونة في أجسامهم(1) . و قوله هذا هو أيضا غير صحيح ، قاله بلا تدبر و لا روية ، لأن البلادة و الذكاء أساسها العامل الوراثي أولا ، ثم العامل البشري ثانيا ، ثم عوامل طبيعية خارجية أخرى ثالثا . فكل الشعوب متقاربة في قدراتها العقلية و البدنية سلبا و إيجابا . ثم يحدث بعد ذلك التباين فيما بينها بسبب العوامل البشرية و المحيطية على تنوّعها .
    و أما قوله بأن الوفرة الاقتصادية تصيب غالب أهلها بالبلادة ، فهذا ليس حكما عاما مطلقا ، لأنها-أي الوفرة- قد تدفع بأهلها إلى السلبية و الدعة و البلادة ،و قد تدفع بهم إلى الفعالية و الحركية ، فيستغلون ثرواتهم أحسن استغلال ،و يُوسعون تجارتهم مع مختلف الشعوب ، و بذلك تتفجر فيهم قدراتهم و مهاراتهم الكامنة فيهم ، فتأثيرها مرتبط حسب موقف أهلها منها . و نفس الشيء يُقال عن الندرة الاقتصادية ، فقد تدفع بأهلها إلى السلبية و الرضى بالقليل و الاستسلام للأوضاع السيئة ، و قد تدفع بهم إلى الفاعلية و النشاط و الإبداع و المغامرة و الضرب في الأرض ، لتوفير الغذاء و جلب الثروات و بناء بلادهم .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 69-70 .
    (1/267)
    ________________________________________
    و بذلك يتبين أن العامل البشري هو المؤثر الحاسم في الأوضاع الاقتصادية الطبيعية ، فإذا كان الإنسان إيجابيا تعامل مع محيطه بالإيجاب ،و إذا كان سلبيا تعامل معه بالسلب ، سواء كانت أرضه خصبة وفيرة الأقوات ، أم كانت فقيرة جدباء . و واقعنا الذي نعيشه شاهد على ذلك فهناك دول أراضيها فقيرة ، و ثرواتها قليلة ، و مع ذلك فهي متطوّرة ، كاليابان و سنغفورة ؛و هناك دول أخرى قليلة الموارد ،و هي متأخرة كمنغوليا و اليمن . و هناك دول أخرى أراضيها خصبة و كثيرة الثروات ، و هي متطورة ، ككندا ، و أستراليا ،و الولايات المتحدة الأمريكية ؛ و هناك دول أخرى أراضيها خصبة و ثرواتها وفيرة ، و مع هذا فهي متخلفة كالبرازيل ، و الأرجنتين ،و كثير من دول العالم الثالث .
    و إنهاء لمبحثنا هذا أشير هنا إلى أمر هام جدا ، مفاده هو أن حتميات ابن خلدون و قوانينه ، - التي ذكرنا بعضها- و إن كانت تُعبر عن حرص ابن خلدون على تقعيد علم العمران الذي قال إنه اكتشفه ، فإنها من جهة أخرى تُعد أحكاما خطيرة جدا على العقل البشري و حريته ، لأن كثيرا منها غير صحيح ، أصدرها ابن خلدون بصيغة قوانين حتمية ، فأصبحت سيوفا مُسلطة على قراء مقدمته و مُكبلة لهم ،و مُعيقة لتفكيرهم الحر ، الأمر الذي أوقع كثيرا منهم في المغالطات و المجازفات و كثرة الأخطاء ، و جعل حتمياته شبيهة بالحتميات التي ظهرت بعده في أروبا على يد دوركايم و فرويد و ماركس و غيرهم ، مع الفرق الكبير بينه و بينهم ، فهو خير منهم بلا شك .
    و ختاما لهذا الفصل يتبين لنا أنه كانت لابن خلدون مجازفات و مغالطات كثيرة ، ذكرنا بعضها بشيء من التفصيل و ناقشناه فيها ، كموقفه من انتشار المذهب المالكي ببلاد المغرب،و قلة انتشار المذهب الحنبلي في المشرق الإسلامي، و موقفه من المنطق الأرسطي ، و مسألة صفات الله تعالى.
    (1/268)
    ________________________________________
    و تبين أيضا أن من الأسباب التي أوقعته في تلك المجازفات و المغالطات ، استقراؤه الناقص لكثير من الظواهر الاجتماعية التي تكلّم عنها . و قلة زاده العلمي في بعض المسائل التي تكلّم عنها .و تعصّبه لبعض القضايا التي تناولها كمسألة الصوفية . هذا فضلا على رغبته الجامحة للبرهنة على صدق القوانين التي أصدرها ، إثباتا لعلم العمران الذي قال إنه اكتشفه .
    .................................................. ......................
    الفصل الخامس
    حقيقة علم العمران الخلدوني و قضايا أخرى
    أولا : كلام ابن خلدون عن العلم الذي اكتشفه .
    ثانيا: التعليق على ابن خلدون فيما يخص العمران البشري .
    ثالثا:الرد على مبالغات و أخطاء بعض الباحثين المعاصرين .
    حقيقة علم العمران الخلدوني و قضايا أخرى(1)
    ذكر ابن خلدون صراحة أنه اكتشف علما جديدا ، سماه علم العمران البشري ، و الاجتماع الإنساني ، فما حقيقة هذا العلم الذي اكتشفه ؟ ،و هل هو أول مكتشف له ؟ ، و ما هي العوامل التي ساعدته على اكتشافه ؟ ،و ما هي مواقف الباحثين المعاصرين من ذلك خاصة ،و الفكر الخلدوني عامة ؟ ، هذه التساؤلات و غيرها تُجيب عنها المباحث الآتية .
    أولا : كلام ابن خلدون عن العلم الذي اكتشفه :
    قال ابن خلدون عن العلم الذي ذكر أنه اكتشفه : (( و كأن هذا علم مستقل بنفسه ، فإنه ذو موضوع و هو العمران البشري و الاجتماع الإنساني و ذو مسائل ، و هي بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته واحدة بعد أخرى ، و هذا شأن كل علم من العلوم ، وضعيا كان أو عقليا ))(2) .
    __________
    (1) ألحقت هذا الفصل بالكتاب لأهميته ،و لأن له علاقة بأخطاء ابن خلدون و مجازفاته ، التي هي صلب موضوع هذا الكتاب .
    (2) المقدمة ، ص : 29 .
    (1/269)
    ________________________________________
    ثم قال : (( و إعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة ، و غريب النزعة غزير الفائدة ... و كأنه علم مُستنبط النشأة ،و لعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك ، وليس الظن بهم ، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض و استوفوه ،و لم يصل إلينا )) ، فالعلوم كثيرة ،و لم يصلنا منها إلا القليل ،و هو علم اليونان الذي تُرجم زمن الخليفة المأمون(ت218ه)(1) .
    ثم أشار إلى أن علمه هذا يختلف عن علمي الخطابة و السياسة و ميزه عنهما ، و قال إن الأول موضوعه الأقوال المقنعة النافعة لاستمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه . و الثاني موضوعه السياسة المدنية ،و هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق و الحكمة ، ليُحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع و بقاؤه . ثم قال في علمه (( فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يُشبهانه ))(2) .
    و ذكر أيضا أن علمه هذا لم يُركز عليه الحكماء من قبله ، ربما لأنهم ركّزوا على العناية بالثمرات ، و علمه هذا إنما ثمرته في الأخبار فقط ، و إن كانت مسائله في ذاتها و في اختصاصها شريفة ، لكن ثمرته تصحيح الأخبار و هي ضعيفة ، فلهذا هجروه و الله أعلم ))(3) .
    ثم عرض خطته التي سيتبعها في دراسته للعمران البشري ، فقال : (( و نحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران، في الملك و الكسب و العلوم و الصنائع ، بوجوه برهانية ، يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة و العامة ، و تُدفع بها الأوهام ،و تُرفع الشكوك )). ثم ذكر أنه يتناول في كتابه هذا العمران البشري على الجملة ، ثم يُفصل في العمران البدوي، و الدول و الخلافة و الملك ، و العمران الحضري ، و الصنائع و المعاش ، و الكسب و وجوهه ، و العلوم و اكتسابها و تعلمها(4) .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 29 .
    (2) نفسه ، ص: 29 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 30 .
    (4) نفس المصدر، ص: 31، 32 .
    (1/270)
    ________________________________________
    و ذكر أنه توصل إلى اكتشاف علمه هذا ، بفضل عاملين ، أولهما البحث و الغوص ، عبّر عنه بقوله (( أَعثَر عليه البحث ،و أدى إليه الغوص )) .و ثانيهما الإلهام ، فإنه عندما ذكر ان الحكماء و العلماء و الفقهاء حاموا حول العلم الذي اكتشفه ، قال عن نفسه : (( و نحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما ))(1) .
    ثانيا : التعليق على ابن خلدون فيما يخص علم العمران :
    و تعليقا على ما ذكره ابن خلدون أقول : أولا إنه كان غامضا و غير دقيق في تعريفه للعلم الذي قال إنه اكتشفه ، و في تحديده أيضا لموضوعه ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إنه كان يتكلم عن قانون المطابقة في تمحيص الأخبار ،و قال عنه إنه معيار صحيح يتحرى (( به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه ، و هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا )) ، ثم قال مباشرة (( و كأن هذا علم مستقل بنفسه ، فإنه ذو موضوع ، و هو العمران البشري ، و الاجتماع الإنساني، و ذو مسائل و هي بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته واحدة بعد أخرى ،و هذا شأن كل علم من العلوم ، وضعيا كان أو عقليا ))(2) . فهذا خلط واضح بين منهج تحقيق الخبر ،و منه قانون المطابقة الذي كان يتكلّم عنه ،و بين علم العمران الذي قال إنه مستقل بموضوعه و مسائله . فقد كان يتكلم عن قانون المطابقة ، ثم مباشرة شرع في الكلام عن علم جديد ، سماه العمران البشري ، و تعريفه له لا ينطبق على قانون المطابقة الذي هو من خطوات منهج نقد الأخبار و تمحيصها ، و هو و إن كان موضوعه تاريخ الاجتماع الإنساني ، فإنه لا يدرس ما يلحق العمران البشري من عوارض و أحوال ، و إنما دوره هو تحقيق الروايات التاريخية و تمحيصها ، الأمر الذي يدل على أن كلامه عن العلم الجديد منفصل عن كلامه في قانون المطابقة ، و إن كان سياق الكلام يُشير إلى ارتباطه به ، مما يجعله غير مستقيم معه .
    __________
    (1) نفسه ، ص: 29، 31 .
    (2) نفسه ، ص: 29 .
    (1/271)
    ________________________________________
    و الشاهد الثاني هو أنه ميّز علمه الجديد عن علمي الخطابة و السياسة ، و قال إنه يختلف عنهما من حيث موضوعه رغم أنه ربما يُشبههما . و قوله هذا فيه خلط و غموض ، و غياب التصوّر الكامل للعلم الجديد . فهو إن كان يقصد بعلمه الجديد ، منهج تحقيق الخبر ، و منه قانون المطابقة ، فإن التمييز بينه و بينهما في غير محله ، لأن الأول – أي منهج تحقيق الخبر- موضوعه ماضي الاجتماع البشري ، و الآخران موضوعهما الحاضر المرتبط بالخطابة و السياسة ، و عندما يتحولان إلي ماضٍ يصبحان موضوعا للعلم الأول الذي هو منهج تحقيق لأخبار الماضي على اختلافها و تنوّعها.
    و أما إذا قصد بعلمه الجديد العمران البشري و الاجتماع الإنساني ، فإن تمييزه عن علمي الخطابة و السياسة ، هو تصوّر ضيق ،و بعيد عن الصواب . لأن العمران البشري شامل لكل سلوكيات البشر و مظاهرها ، من بينها ما يتعلق بعلمي الخطابة و السياسة ، فهما علمان جزئيان يندرجان في العلم الكلي الشامل ،و هو العمران البشري . و الدليل على ما أقول هو إن ابن خلدون نفسه عندما تناول العمران البشري في كتابه الأول ، أدرج فيه علمي السياسة و الخطابة(1) . فهو هنا أدخلهما في علم العمران البشري ، و أخرجهما منه سابقا ؛ و هذا دليل قوي على ما قلناه من أن ابن خلدون لم يكن له تصوّر واضح و دقيق للعلم الذي قال إنه اكتشفه .
    و الشاهد الثالث هو أنه-أي ابن خلدون- عندما ذكر سبب عدم تركيز الحكماء و العلماء على علمه الجديد ، قال لعله صرفهم عن ذلك تركيزهم على العناية بثمرات العلوم الأخرى ، في حين أن علمه الجديد إنما ثمرته في الأخبار فقط ،و إن كانت مسائله في ذاتها و اختصاصها شريفة ، لكن (( ثمرته تصحيح الأخبار و هي ضعيفة ، فلهذا هجروه ))(2) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 31 و ما بعدها .
    (2) نفس المصدر ، ص: 30 .
    (1/272)
    ________________________________________
    فواضح من كلامه أنه يقصد منهج تحقيق الروايات و نقدها ، لأنه هو الذي ثمرته تصحيح الأخبار ،و علم العمران البشري ليست ثمرته تصحيح الأخبار ، و إنما هو نفسه موضوع لمنهج تحقيق الأخبار . فهذا دليل قوي على أن ابن خلدون لم يكن له تصوّر واضح و كامل ، و صحيح عن العلم الذي قال إنه اكتشفه ، فلم يُقدم لنا تعريفا دقيقا له ،و لم يُفرق بينه و بين منهج نقد الأخبار .
    الشاهد الرابع هو أنه –أي ابن خلدون- في ختام كلامه عن طبيعة العمران في الخليقة ، تخلّص من ذلك الغموض و الخلط بين منهج تحقيق الأخبار و علم العمران ، و ذلك أنه عندما انتهى من ذلك شرع في دراسة مختلف مظاهر العمران البشري و الاجتماع الإنساني ، تناولها سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و حضاريا و علميا ، دون الإشارة إلى منهج نقد الأخبار(1) .
    __________
    (1) انظر : نفس المصدر ، ص: 31 و ما بعدها .
    (1/273)
    ________________________________________
    و ثانيا إن ابن خلدون قال عن العلم الذي ذكر أنه اكتشفه ، إن الله تعالى ألهمه أياه إلهاما(1) . و قوله هذا فيه غموض و التباس ،و هو نوع من التمويه ، لأن مفاده أن اكتشافه لذلك العلم حدث بلا مقدمات ،و لا بحث و لا معاناة ، و هذا غير صحيح تماما ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إنه هو شخصيا اعترف في موضع سابق من المقدمة ، أن اكتشافه للعلم الجديد ، إنما (( أَعثَر عليه البحث ،و أدى إليه الغوص ))(2) . و ثانيها سبق أن ذكرنا أنه-أي ابن خلدون- كان مضطربا و مخلطا ،و غير دقيق في تعريفه للعلم الجديد ، و لم يتمكن من تحديد موضوعه بدقة إلا في النهاية ، مما يدل على أنه بذل جهودا للوصول إلى ذلك ، و لم يحدث له ذلك إلهاما دون معاناة . و ثالثها إن ابن خلدون ذكر أنه أنهى كتابه الأول عن العمران البشري ، سنة 779 هجرية ، في مدة 5 أشهر(3) . و معروف أنه شرع في كتابة تاريخه سنة 776هجرية ، بقلعة بني سلامة بالغرب الجزائري ، مما يعني أن كتابته لكتاب العمران البشري ، سبقتها مرحلة الجمع و البحث و المعاناة و تدوين مسوّدة الكتاب ، فجاء كتاب العمران ثمرة لذلك ،و لم يكن إلهاما بلا مقدمات .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 29 .
    (2) نفسه ، ص: 29 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 529 .
    (1/274)
    ________________________________________
    و ثالثا إن ابن خلدون قال إن العلم الذي اكتشفه يبدو أنه مستنبط النشأة ،و أنه لم يقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ، فهل لأنهم غفلوا عنه ، أم أنهم كتبوا فيه و استوفوه ،و لم يصل إلينا ؟ ، ثم ذكر أنه لاحت له خيوط و مسائل مبعثرة من هذا العلم تكلم فيها الحكماء و العلماء و الفقهاء عرضا ، من ذلك قول الفقهاء في أصول الفقه في باب اللغات ، من أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون و الاجتماع ،و منها تعليلهم للأحكام الشرعية بالمقاصد ، في أن الزنا مُخلط للأنساب و مُفسد للنوع , و قولهم إن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع . ثم قال ابن خلدون إن آرسطو هو أيضا له كلام قليل له علاقة بعلم العمران ، لكنه عير مُبرهن و مُختلط بغيره .و ذكر أيضا أن القاضي أبا بكر الطرطوشي حوّم حول علم العمران في كتابه سراج الملوك ، و بوّبه على أبواب تقّرب أبواب مسائل كتابه العمران البشري -لابن خلدون – لكنه لم يُصادف فيه الرمية ،و لا أصاب الشاكلة ، و لا استوفى المسائل ، و لا أوضح الأدلة ، فجاء كلامه نقلا و تركيبا شبيها بالمواعظ(1) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص : 29، 30، 31 .
    (1/275)
    ________________________________________
    فهل استوفى ابن خلدون ذكر الذين سبقوه إلى النظر في علم العمران البشري و التكلم فيه ؟ ، و هل يُعد هو-أي ابن خلدون- مؤسس علم العمران البشري و مبدعه ؟ ،و إجابة على ذلك أورد الشواهد الآتية ، أولها إن القرآن الكريم تطرّق لعلم العمران البشري في آيات كثيرة ، قبل ابن خلدون بقرون عديدة ، و ذلك أنه-أي القرآن- أكد على أن العمران البشري محكوم بسنن و قوانين لا تتبدل و لا تتحول ،و أنها تحكم الأفراد و الجماعات و الأمم على حد سواء ، و ذكر على ذلك أمثلة كثيرة ، منها آيات نصت على وجود علم العمران البشري ، كقوله تعالى : (( سنة الله في الذين خلوا من قبل ، و لن تجد لسنة الله تبديلا ))-سورة الأحزاب/62- ، و (( سنة الله في الذين خلوا من قبل ، و كان أمر الله قدرا مقدورا ))- سورة الأحزاب /38-، و (( فهل ينظرون إلا سنة الأولين ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ،و لن تجد لسنة الله تحويلا ))-سورة فاطر/43- ، و (( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ))-سورة آل عمران/137- ، و (( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ،و لا تجد لسنتنا تحويلا ))-سورة الإسراء/77- ، و (( سنة الله التي خلت في عباده ،و خسر هنالك المبطلون ))-سورة غافر/85- ، و (( سنة الله التي قد خلت من قبل ،و لن تجد لسنة الله تبديلا ))-سورة الفتح/23- ، و (( و ما منع الناس أن يُؤمنوا إذ جاءهم الهدى ،و يستغفروا ربهم ، إلا أن تأتيهم سنة الأولين ))-سورة الإسراء/94- . فيتبين من هذه الآيات أنها أكدت على وجود علم العمران البشري ، عندما نصت على أن الاجتماع الإنساني محكوم بسنن لا تتبدل و لا تتغير ،و أنها تخص الناس كلهم ، مؤمنهم و كافرهم ،و أنها سنن حكمت العمران البشري في الماضي ،و ما تزال تحكمه في الحاضر ،و ستبقى تحكمه في المستقبل .
    (1/276)
    ________________________________________
    و أما الآيات التي ذكرت تفاصيل قوانين علم العمران و سننه ، فمنها سنة التدافع ، قال تعالى : (( و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لفسدت الأرض ،و لكن الله ذو فضل على العالمين ))-سورةالحج/40- . و منها سنة تكذيب المترفين للرسل ، قال تعالى : (( ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مُترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون ))-سورة الزخرف/23- . و منها سنة تداول الأيام بين الأمم و الدول ، و حتمية سقوطها ، لقوله تعالى : (( و تلك الأيام نداولها بين الناس))-سورة آل عمران/140- ، و (( لكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون ))-سورة الأعراف/34- . و منها قانون تغيير الأنفس و المجتمعات ، كقوله تعالى : (( إن الله لا يُعير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم ))-سورة الرعد /11- .
    و منها أيضا سنة تشابه أقوال الكفار و تكرارها في تكذيبهم للرسل ، كقوله تعالى : (( ما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ))-سورة فصلت/43- ، و (( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ))-سورة الذاريات/52- ، و (( و قالت اليهود عُزير ابن الله ،و قالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم يُضاهؤون قول الذين كفروا من قبل ))-سورة التوبة/30- ، و (( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ))-سورة البقرة/118- . و منها سنة علاقة اليهود و النصارى فيما بينهم ،و موقفهم من المسلمين ، كقوله تعالى : (( و لن ترضى عنك اليهود و النصارى حتى تتبع ملتهم ))-سورة البقرة /120- ، و (( لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ))-سورة المائدة/51- .
    (1/277)
    ________________________________________
    و منها أيضا سنن تتحكم في نفسيات الإنسان و ردود فعله تجاه بعض ما يعترضه في هذه الدنيا ، كقوله تعالى : (( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، و إن مسه الشر فيؤوس قنوط ، و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي، و ما أظن الساعة قائمة ، و لئن رُجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ))-سورة فصلت/49- ، و (( إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه ، و إذا مسه الشر فذو دعاء عريض ))-سورة الإسراء/83- ، و (( و كان الإنسان أكثر شيء جدلا ))-سورة الكهف/54- . و سنن الاجتماع في القرآن كثيرة جدا ، فمن أراد الإطلاع عليها و التوسع في دراستها فليرجع إلى المصنفات الحديثة التي توسعت في دراسة سنن الاجتماع و التاريخ في القرآن الكريم(1) .
    و الشاهد الثاني هو أن السنة النبوية هي أيضا أشارت صراحة إلى وجود علم العمران البشري ، عندما نصت على وجود قوانين تحكم سلوكيات البشر في الماضي و الحاضر و المستقبل ، فمن ذلك أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- قال للصحابة : (( لتتبعن سنن الذين قبلكم شبرا بشبر ، و ذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ، اليهود و النصارى ، قال : فمن إذن ))(2) .
    __________
    (1) انظر مثلا : عبد الكريم زيدان ، السنن الإلهية في الأمم و الجماعات و الأفراد . و عماد الدين خليل : التفسير الإسلامي للتاريخ .
    (2) البخاري: الصحيح ، ج 3 ص: 1274 . و مسلم : الصحيح ، ج 4 ص: 2054 .
    (1/278)
    ________________________________________
    و في حديث آخر أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- و الصحابة مروا بشجرة سدر للكفار يُعلقون عليها أسلحتهم ،و يعكفون عليها و يسمونها ذات أنواط ، فقال الصحابة لرسول الله : (( إجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ))، فقال : (( الله أكبر إنها السنن ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال موسى –عليه السلام- : (( إنكم قوم تجهلون )) ، ثم قال رسول الله : (( إنكم لتركبن سنن من قبلكم ))(1) . و في حديث آخر أن رسول الله-عليه الصلاة و السلام- إنه قال : (( لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه ))(2) .
    و بذلك يتبين مما ذكرناه عن علم العمران البشري في القرآن و السنة ، أن هذا العلم هو علم شرعي إنساني ، شرعي لأن الشرع نص على وجوده ،و ذكر كثيرا من قوانينه ،و حث على دراسته بحثا و تدبرا . و إنساني لأنه يخص العمران البشري كله ، و البحث فيه مفتوح للبشرية جمعاء .
    __________
    (1) ابن حبان : صحيح ابن حبان ، حققه شعيب الأرناؤوط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1993 ،ج 15 ص : 94 . و الترمذي : السنن ، ج 4 ص: 475 . و بن أبي عاصم : كتاب السنة ، حققه الألباني ، ج 1 /76 . و الحديث صححه الألباني . الأحاديث الصحيحة ، مج 3 رقم : 1348 .
    (2) ابن حجر: فتح الباري ، ج 13 ص: 301 . و الهيثمي: مجمع الزوائد ، القاهرة ن دار الريان للتراث ، 1407، ج 7 ص: 261 . و الألباني: صحيح الجامع الصغير ، ج 2 رقم :: 7219 .
    (1/279)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو أنه كان معروفا لدى علماء الإسلام أن العمران البشري محكوم بسنن و قوانين لا تتبدل و لا تتحول ، لأن القرآن الكريم و السنة النبوية قد نصا على ذلك صراحة ، لكنهم لم يتوسعوا في دراسته ،و لا أفردوه بالبحث و التصنيف – على حد علمنا- ، إلى أن جاء ابن خلدون الذي كان له الفضل في الاهتمام به و إفراده بالتأليف . لكن مع ذلك فقد كانت لبعضهم فيه إشارات و نظرات صائبة ذكر بعضهم ابن خلدون في مقدمته ؛ فقال إن بعض الفقهاء الأصوليين كانت لهم نظرات في بعض قوانين علم العمران البشري . و إن أبا بكر الطرطوشي (ت520ه) حوّم حول الموضوع في كتابه سراج الملوك ، و كانت أبواب كتابه هذا قريبة من مسائل كتاب ابن خلدون في العمران البشري(1) .
    و منهم أيضا الفقيه عبد الحق الإشبيلي (ت 581ه) ، فإنه علّق على سنة مفارقة الناس لمن يُحبون ، بقوله : (( سنة الله الجارية ،و حكمه المطرد ))(2) .و قال المفسر القرطبي(ت 671ه) : (( إن من سنة الله في عباده ، أنه إذا فشا المنكر و لم يُغير عوقب الجميع(3) .
    و منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية (ت 728ه) ، فإنه صنف رسالة صغيرة في معنى لفظ السنة في القرآن الكريم(4) ، فعرّف السنة بأنها العادة في الأشياء المتماثلة ، و لفظ السنة يدل على التماثل ، فالله تعالى إذا (( حكم في الأمور المتماثلة بحكم ، فإن ذلك لا ينقض و لا يتبدل و لا يتحوّل ، بل هو سبحانه لا يُفرّق بين المتماثلين ، و إذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل ))(5) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 29 و ما بعدها .
    (2) عبد الحق الإشبيلي: العاقبة في ذكر الموت ، حققه خضر محمد خضر ، ط1، الكويت ، مطبعة الأقصى ، 1986، ص: 61 .
    (3) القرطبي: تفسير القرطبي ، ج 1 ص: 401 .
    (4) نشرها محمد رشاد سالم بمصر ، ضمن مجموع : جامع الرسائل .
    (5) ابن تيمية : رسالة في لفظ السنة في القرآن ، ضمن مجموع: جامع الرسائل ، ص: 55 .
    (1/280)
    ________________________________________
    و قال أيضا –أي ابن تيمية – إن السنة هي العادة التي تتضمن أن يُفعل في الثاني مثل ما فُعل بنظيره الأول ، و سنته تعالى هي (( عادته التي يسوي فيها بين الشيء و نظيره في الماضي ، و هذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام مماثلة ))(1) . و قسّم سنة الله في خلقه إلى سنن دينيات- تتعلق بسلوكيات البشر- ،و سنن طبيعيات ،و هي كلها لا تتبدل ، و لا تتحول-إلا إذا شاء الله – يعم الله بها خلقه و أمره في الطبيعيات و الدينيات . و السنن الدينيات تتعلق بدينه ، و أمره و نهيه ،و وعده و وعيده ،و ليست هي نفسها المتعلقة بالأمور الطبيعية ، كسننه في الشمس ، و القمر ،و الكواكب(2) .
    و أشار أيضا إلى أن تلك السنن تحكم الماضي و الحاضر ، الأمر الذي جعل قصص الأنبياء (( عبرة لنا ، و لولا القياس و اطراد فعله و سننه لم يصح الاعتبار بها ، و الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره ، كالأمثال المضروبة في القرآن ،و هي كثيرة ))(3) . فسنته سبحانه و تعالى مُطردة ،و عادته مستمرة ، و أخبرنا أن دأب الكفار المستأخرين ، كدأب الكفار المستقدمين، فعلى العقلاء أن يعتبروا بسنة الله في عباده ، و دأب الأمم و عادتهم . لذا أمرنا الله سبحانه و تعالى بالاعتبار بالماضي ،و قال : (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ))-سورة يوسف/111- ، و الاعتبار أن يُقرن الشيء بمثله ، فيُعلم أن حكمه مثل حكمه ))(4) .
    __________
    (1) مجموع الفتاوى ، ج 13، ص: ، 19 ، 23 .
    (2) رسالة في لفظ السنة في القرآن ، ص: 52، 54 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 55 .
    (4) مجموع الفتاوى ، ج 13 ص: 19 ، ج 18 ص: 427 .
    (1/281)
    ________________________________________
    و واضح من كلامه –أي كلام ابن تيمية- أن فيه إشارات صريحة لوجود علم العمران البشري ،فعرّف السنة تعريفا علميا صحيحا لم يذكره حتى ابن خلدون ،و لم أعثر له على كلام في ذلك . ثم ذكر-أي ابن تيمية- أن العمران البشري محكوم بسنن لا تتبدل و لا تتغير انطلاقا من فهمه للقرآن الكريم ،و للواقع الاجتماعي ، و ميّز بين سنن الاجتماع الإنساني و سنن الطبيعة . و لو أنه توسع في شرحه لآيات السنن في القرآن الكريم ، و ربطها بحقائق الماضي و الحاضر ،و استشرف المستقبل في دراستها ، لكان عمله هذا فتحا في علم العمران القرآني و الإنساني على حد سواء ، لكنه لم يفعل ذلك ، فجاء عمله ناقصا . لكنه مع ذلك كان له السبق في الكتابة عن سنن العمران و الطبيعة في القرآن الكريم ، إذ لم أعثر على عالم قبله فعل ذلك .
    و منهم أيضا المحقق الناقد ابن قيم الجوزية ، فهو أيضا كانت له أقوال في سنن الله التي تحكم العمران البشري ،و لم يتوسع فيها ، منها قوله : (( و قد جرت سنة الله التي لا تبديل لها ، أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته- أي الله تعالى- أن يسخط عليه ))(1) . و قال أيضا : (( فمن خاف شيئا غير الله سُلط عليه ،و من رجا شيئا سوى الله خُذل من جهته و حُرم خيره ، سنة الله في خلقه ))(2) . و قال : (( و هذه الشدة مقدمة بين يدي الفرج ،و البلاء مقدمة بين يدي العافية ، و الخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن ، و قد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يُدخل إليها من أبواب أضدادها ))(3) .
    __________
    (1) ابن القيم : مدارج السالكين ،ط2، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1973، ج 1 ص: 300 .
    (2) ابن القيم : بدائع الفوائد ، حققه عبد الحميد العدوي ، ط1 ، مكة ، مكتبة الأنوار ، 1996، ج 2 ص: 470 .
    (3) مدارج السالكين ، ج 3 ص: 295 .
    (1/282)
    ________________________________________
    و قال أيضا : (( فهذه سنة الله في عباده التي لا تتبدل ،و عادته التي لا تحول))(1) . و قال : (( فإنه كلما عَظُم المطلوب كثُرت العوارض و الموانع دونه ، هذه سنة الله في الخلق ))(2) . و قال أيضا : (( استقرت سنة الله في خلقه شرعا و قدرا على معاقبة العبد- المتحايل- بنقيض قصده )) ، و هذه هي سنة الله في كل مخادع محتال بالباطل ،و سنته في أرباب الحيل المحرمة(3) .
    و بذلك يتبين مما ذكرناه أن ابن خلدون لم يستوف ذكر الذين سبقوه إلى التطرق لعلم العمران و التكلم فيه . و أنه ليس هو مؤسسه و لا مكتشفه ، فقد تكلّم عنه القرآن الكريم صراحة ، و تطرّق لكثير من سننه و تطبيقاته . و قد سبقه إلى الإشارة إليه ، و الحوم حوله ،و النظر فيه ،و الاعتقاد بوجوده طائفة من العلماء ، قبل أن يكتب هو مقدمته . و عليه فإن القرآن الكريم هو المؤسس الحقيقي لعلم العمران البشري ، و أما ابن خلدون فهو مؤسسه و مكتشفه بالنسبة لغيره من العلماء ، بحكم أنه تكلّم عنه صراحة ،و توسع فيه و أفرده بالتأليف بعد القرآن بأكثر من 750 سنة ؛ فجاء اكتشافه لعلم الاجتماع الإنساني ثمرة متأخرة للعلوم الشرعية ، و الحضارة الإسلامية . فلماذا تأخر ظهورها هذه المدة الطويلة ؟.
    __________
    (1) ابن القيم : مفتاح دار السعادة ، ج 2 ص: 143 .
    (2) ابن القيم : طريق الهجرتين و باب السعادتين حققه عمر محمود، ط2، السعودية ، دار ابن القيم ، 1994،، ج 1 ص: 370 .
    (3) ابن القيم : أعلام الموقعين عن رب العالمين ، حققه طه سعد، بيروت ، دار الجيل ، 1973 ، ج 3 ص: 220، 246 ، 332 .
    (1/283)
    ________________________________________
    يبدو لي أن السبب في ذلك التأخر هو قلة اهتمام العلماء بعلم سنن العمران البشري رغم تكلم القرآن عنه ، لأنهم وجهوا معظم جهودهم لخدمة العلوم الأخرى كالفقه ،و الحديث، و علم الخلاف ، و علم الكلام ،و الفلسفة ، فعلوا ذلك-في الغالب- خدمة لمذاهبهم و اتجاهاتهم ، أو تعصبا لطوائفهم و مذاهبهم . فكان ذلك على حساب الاهتمام بعلم سنن الاجتماع الإنساني .
    و رابعا إذا كان ابن خلدون هو مؤسس علم العمران البشري –عل مستوى أهل العلم- ، فما هي العوامل التي ساعدته على اكتشافه ؟ ، لم يذكر ابن خلدون العوامل التي ساعدته على ذلك ،و قال إن اكتشافه لعلم العمران جاء ثمرة للبحث و الغوص و الإلهام(1) . فهل قوله هذا صحيح ؟ .
    قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، فقد تداخلت عوامل كثيرة ساعدته على اكتشافه لعلمه ،و الشواهد الآتية تُثبت ذلك بوضوح ، أولها إن ابن خلدون كان متأثرا بالقرآن الكريم تأثرا بينا لا لُبس فيه ، عندما تكلّم عن العمران البشري و قوانينه ، فكثيرا ما استخدم الآيات القرآنية في تقعيده لقوانينه ، منها قوله تعالى : (( سنة الله التي خلت في عباده ))-سورة غافر/85- ، في مبحث : إن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد . و منها قوله تعالى (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون ))-سورة الأعراف /34- ، استخدمه في مبحث : أعمار الدول . و منها قوله سبحانه : (( و الله يُؤتي ملكه من يشاء ))-سورة البقرة/247- استخدمه في مبحث : ما يعرض في الدول من حجر على السلطان و الاستبداد عليه(2) .
    __________
    (1) المقدمة ، ص: 29 ، 31 .
    (2) نفس المصدر ، ص : 131، 132 ، 134، 135 ، 146 ، 147 .
    (1/284)
    ________________________________________
    و تأثر بالقرآن أيضا في استخدامه لكلمة : العمران و إطلاقها على العلم الذي قال إنه أكتشفه ، فقد سماه : العمران البشري ، و كلمة العمران موجودة في القرآن الكريم بمعنى الاجتماع الإنساني ، في قوله تعالى : (( هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها ))-سورة هود/61- ، و (( و كانوا أشد منهم قوة ،و أثاروا الأرض و عمروها أكثر مما عمروها ))-سورة الروم/9- .
    و تأثر به أيضا في استخدام كلمة : العبر ، فقد جعلها عنوانا لتاريخه : كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ،و هي موجودة في القرآن الكريم ، في عدة مواضع ، منها قوله تعالى : (( فاعتبروا يا أولي الأبصار ))-سورة الحشر/2- ، و (( لقد كان في قصصهم عبرة للأولي الألباب ))-سورة يوسف/66- ، و (( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ))-سورة النازعات /26- .
    و الشاهد الثاني إنه –أي ابن خلدون- تأثر أيضا بالسنة النبوية تأثرا واضحا ، في تقريره لكثير من قوانينه ، من ذلك استخدامه لقوله –عليه الصلاة و السلام- : (( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهودانه ، أو يُنصّرانه ، أو يُمجّسانه )) ،و حديث (( الناس معادن خيارهم في الجاهلية ، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) ،و قوله –عليه الصلاة و السلام- (( ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه ))(1) .
    __________
    (1) نفس المصدر ، ص: 98، 106 ، 126 .
    (1/285)
    ________________________________________
    و الشاهد الثالث هو تأثره –أي ابن خلدون- بالعلوم الشرعية في مناهجها و قوانينها عامة ،و بالفقه و قواعده و أصوله خاصة ، فمن القواعد الفقهية : لا ضرر و لا ضرار ، و المشقة تجلب التيسير ، و الأصل في الكلام الحقيقة ، و الغنم بالغرم ، و درء المفاسد أولى من جلب المصالح ،و اليقين لا يزول بالشك(1) . فهذه القواعد و القوانين الفقهية ، يبدو أن ابن خلدون قد تأثر بها ، فجاءت قوانينه في العمران البشري على شاكلة القوانين الفقهية ، كقوله : إن أهل البدو أقرب إلى الخير من الحضر ، و إن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها ، و إن العرب لا يتغلّبون إلا على البسائط(2) . و مما يُقوي ما قلناه و يُرجحه أن ابن خلدون نفسه اعترف أن العلم الذي لاح له ، تكلم الفقهاء في بعض مسائله عرضا ، تناولوا ذلك في أصول الفقه و تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد ، كقولهم : إن الناس مُحتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون و الاجتماع ، و إن القتل مُفسد للنوع ،و إن الظلم مؤذن بخراب العمران المُفضي لفساد النوع(3) .
    و آخرها- أي الشاهد الرابع- هو اعترافه بأنه وُجد من الفلاسفة و العلماء و الفقهاء ، من سبقه إلى النظر في بعض مسائل علم العمران البشري ، فبعضهم تكلّم عنه عرضا ، و بعضهم لم يستوفه و لم يعطه حقه من البسط و البرهان ،و بعضهم حوّم حوله و لم يُصادف الرمية ،و لا أصاب الشاكلة(4) . و الراجح أنه استفاد مما كتبه هؤلاء عن العمران البشري ، حتى و إن لم يُصرّح هو بذلك ، لأنه عودنا على الأخذ من غيره دون التصريح بذلك .
    __________
    (1) عمر سليمان الأشقر : تاريخ الفقه الإسلامي، الجزائر ، قصر الكتاب ، 1990، ص: 132 .
    (2) المقدمة ، ص: 98، 109 ، 117 .
    (3) نفس المصدر ، ص: 30 .
    (4) نفس المصدر ، ص: 31 .
    (1/286)
    ________________________________________
    و تلك الشواهد التي ذكرناها لا تُلغي العامل الذاتي في شخصية ابن خلدون، فلا شك أنه العامل الأهم فيما كتبه عن العمران البشري ، فبفضل ذكائه و اجتهاده ،و تجاربه في الحياة تمكن من إنجاز ذلك العمل الهام ، مع العلم أن هذا العامل هو أيضا لم يظهر من فراغ ، و لا يُلغي العوامل الخارجية التي ذكرناها آنفا . و بذلك يتبين جليا أن ابن خلدون لم يكن صريحا عندما أرجع اكتشافه لعلم العمران إلى ذاته و عبقريته و إلهامه ،و أغفل أثر العوامل الخارجية ، و خاصة القرآن الكريم الذي يُعد –في نظري- المصدر الأساسي الذي استلهم منه ابن خلدون علم العمران البشري .
    ثالثا : الرد على مبالغات و أخطاء بعض الباحثين المعاصرين:
    و قع بعض الباحثين المعاصرين في أخطاء و مبالغات كثيرة في موقفهم من ابن خلدون و فكره الذي تضمّنته مقدمته ، أذكر منهم سبعة باحثين ، أولهم محمد فاروق النبهان ، قال إن الفكر الخلدوني سابق لعصره ، متكامل مترابط قوي البنية(1) . و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و يتضمن أخطاء و مبالغات ، لأنه أولا إن قسما كبيرا من فكر ابن خلدون في المقدمة ، هو فكر عادي تقليدي ، ليس له فيه إلا النقل و الترتيب ، كالذي ذكره في الكتاب الذي خصصه للتعريف بالعلوم ، فإن معظم ما قاله فيه كان فيه ناقلا عن غيره(2) .
    و ثانيا إنه إذا قصد بقوله : إن فكر ابن خلدون سابق على عصره ، يعني ما كتبه عن العمران البشري ، فهذا أمر قد تناولناه بالبحث و المناقشة ، و أثبتنا أن ما تم على يد ابن خلدون هو ثمرة متأخرة للعلوم الشرعية ،و الحضارة الإسلامية ، و ليس هو إبداعا سابقا لعصره ، و لو لم يحدث انحراف في مسار الحياة العلمية لدي المسلمين ، لما تأخرت تلك الثمرة إلى زمن ابن خلدون ،و الله أعلم .
    __________
    (1) فاروق النبهان: الفكر الخلدوني ، ص : 15 .
    (2) انظر : المقدمة ، ص : 341 ، و ما بعدها .
    (1/287)
    ________________________________________
    و ثالثا إن القول بأن فكر ابن خلدون متكامل مترابط قوي البنية ، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، فإن صدق ذلك على بعض جوانب فكر ابن خلدون ، فإنه لا يصدق على جوانب كثيرة منه . و قد سبق أن أقمنا الأدلة المتنوعة على كثرة أخطاء ابن خلدون في منهجه النقدي ،و في نقده للروايات التاريخية ، و في مجازفاته و مغالطاته ، الأمر الذي يُثبت أن فكره كان ضعيفا مُخلخلا إلى حد ما ،و مُلفقا و ناقصا ، في كثير من جوانبه .
    و قال أيضا إن ابن خلدون أبدع في (( آرائه النقدية في دراسة التاريخ ، و استطاع أن يُسجل منهجا في التاريخ متميزا ، يقوم على أساس النقد العقلي للروايات التاريخية ، و هو منهج جدير بالتقدير و الإكبار ))(1) .
    و ردا عله أقول : إن لابن خلدون نظرات صحيحة في منهج النقد التاريخي ، و قد تناولنا ذلك في الفصل الأول ، لكنه من الخطأ القول بأن ابن خلدون أبدع منهجا نقديا في دراسة التاريخ ،و متميزا يقوم على النقد العقلي ، لأنه سبق أن توسّعتُ في دراسة ذلك في الفصلين الأول و الثاني ،و أقمت الأدلة المتنوعة على كثرة أخطاء ابن خلدون في نظرته لمنهج النقد التاريخي ،و في ممارسته له. و ذكرنا أيضا طائفة من المحققين المسلمين تكلموا عن منهج النقد التاريخي ،و مارسوه على مستوى الإسناد و المتن ، قبل ابن خلدون ،و تفوّقوا عليه في ذلك . الأمر الذي يُثبت أن منهج النقد التاريخي ليس من إبداعات ابن خلدون .
    و قال مدافعا عن ابن خلدون : إنه لا نستطيع لوم ابن خلدون في سلوكياته و تطلعاته السياسية ، لأنه كان ابن أسرة عريقة في المجد و الشرف و الرياسة و العلم ، و عليه فإنه (( لا يمكن أن يُنكر عليه ، أو يُنقد في تصرفه و سلوكه ))(2) .
    __________
    (1) الفكر الخلدوني ، ص: 299 .
    (2) نفس المرجع ، ص: 17 .
    (1/288)
    ________________________________________
    و أقول : أولا أشير في البداية إلى أنه من المعروف أن ابن خلدون مارس السياسة مدة طويلة في أول حياته ،و كانت له فيها مشاركات بكل ما فيها من آلام و أفراح ،و دسائس و مؤامرات ،و انقلابات و سجون ، الأمر الذي يدل على أن سلوكه فيها لم يكن نظيفا كله . و حتى بعدما اعتزل السياسة و رحل إلى المشرق و تفرّغ للحياة العلمية ، فإن سلوكه ظل مطعونا فيه(1) .
    و ثانيا إن دفاعه عن سلوكيات ابن خلدون بذلك المنطق ، هو دفاع لا مبرر له نقلا و لا عقلا ، فمن يكن هذا الرجل حتى لا يمكن أن يُنكر عليه ،و لا يُنقد في تصرفاته ؟ ؟ !! و ما دخل تراث أسرته السياسي و العلمي و القبلي في هذا الموضوع ؟؟ . و ما هو دليله الشرعي فيما زعمه ؟ . إن الحق في هذا الأمر هو أن أي إنسان –مهما كانت مكانته-إلا الأنبياء- يمكن الإنكار عليه ، و لا يصح إصدار ذلك الحكم في ابن خلدون و لا في غيره .
    و ثالثا إن الأخلاق مبادئ عامة مطلقة لا تخضع للظروف و العصور ، إلا في حالات الضرورة القهرية ، بمنزلة أكل الميتة ، لأنها مبادئ تقوم أساسا على الدين أولا ،و على بدائه العقول ثانيا ، و لا يُحتكم فيها إلى الظروف . و المفروض شرعا على كل مسلم الالتزام بأخلاقيات دينه كما نص عليها الإسلام ، لا كما نصت عليها السياسة و المصالح الدنيوية ، لذا كان على ابن خلدون الالتزام بأخلاقيات الشرع لا بأخلاقيات النفعيين من السياسيين و الانتهازيين .
    __________
    (1) انظر : ابن حجر: إنباء الغمر بأبناء العمر ، ج 1 ص: 232 . و الشوكاني: البدر الطالع ، ج 1 ص: 337 ، 338 .
    (1/289)
    ________________________________________
    و الباحث الثاني هو حسن الساعاتي ، قال إن مقدمة ابن خلدون هي أول كتاب في علم الاجتماع النظري(1) . و قوله هذا صحيح إذا قلنا : إن المقدمة هي أول كتاب بشري معروف في علم العمران البشري ، و إلا فإن القرآن الكريم هو أول كتاب على وجه الأرض أكد على وجود علم العمران البشري ،و تكلّم عن أصوله و فروعه ،و قد كان مصدرا أساسيا لابن خلدون نفسه في اكتشافه لعلم العمران .
    و قال أيضا إن ابن خلدون فيما كتبه عن النقد التاريخي ، صرف الباحثين عن النقل الأعمى دون تدقيق أو إعمال فكر ،و حثهم على الأخذ بمنهجه لتبيين الصحيح من أحوال الماضين(2) . و قوله هذا لا يثبت أمام ما ذكرناه في الفصلين الأول و الثاني ، فقد تبين بالأدلة القاطعة و المتنوعة أن علماء كثيرين سبقوا ابن خلدون في الكلام في منهج النقد التاريخي و ممارسته إسنادا و متنا ، و أن ابن خلدون نفسه لم يكن موفقا في كل ما قاله عن المنهج النقدي التاريخي ،و لا التزم به في تدوين تاريخه . و بذلك فلا يصح أن يُقال إن ابن خلدون هو الذي صرف الباحثين عن النقل الأعمى في الروايات التاريخية ، لأن هذا إغفال لجهود العلماء المحققين قبل ابن خلدون ،و مبالغة في تضخيم عمله .
    و قال أيضا إن ابن خلدون كان ناقدا مُحققا مُدققا مشكاكا(3) . و قوله هذا لا يصدق على كل ما كتبه ابن خلدون في مقدمته ، فقد سبق أن ذكرنا أمثلة كثيرة جدا ، عن أخطائه و مجازفاته ، و مبالغاته و مغالطاته ،و تعصباته و تمويهاته ، و قد بسطنا ذلك في مواضعه من فصول هذا الكتاب . فلو كان محققا مدققا مشكاكا في كل ما دونه في مقدمته ، ما وقع في كل تلك المآخذ الكثيرة التي انتقدناه فيها .
    __________
    (1) الساعاتي : علم الاجتماع الخلدوني ، بيروت ، دار النهضة العربية ، 1980 ، ص: 26 .
    (2) نفس المرجع ، ص: 25 .
    (3) نفس المرجع ، ص: 43 .
    (1/290)
    ________________________________________
    و قال أيضا إن ابن خلدون كشف عن أمر هام في علم الاجتماع ، هو التغير الاجتماعي الذي عبّر عنه ابن خلدون بتبدل الأحوال و العوائد ، و تغير الأحوال و انقلابها(1) . و قوله هذا ليس صحيحا ، و لا يليق أن يصدر عن باحث مثله ، لأنه أولا إن مبدأ تغير الأحوال ظاهرة طبيعية و اجتماعية يعرفها الناس منذ أن خلقهم الله تعالى ، لأنهم يدركونها بالمشاهدة و النظر في أحوالهم الخاصة و العامة ، و لهذا قال الناس : دوام الحال من المُحال ،و قال الشاعر قديما : فيوم لنا و يوم علينا(2) .
    و ثانيا إن القرآن الكريم نص صراحة على مبدأ التغير الاجتماعي ،و جعله سنة من سنن العمران البشري ، في قوله تعالى : (( و تلك الأيام نداولها بين الناس ))-سورة آل عمران/140- . قال فيها بعض المفسرين –الذين سبقوا ابن خلدون- إن من معانيها تداول الدول النصر و الهزيمة ،و الصحة و المرض، و الغنى و الفقر (3) .
    و ثالثا إن الفقهاء منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا بنوا كثيرا من اجتهاداتهم و فتاويهم على قانون تغيّر الأحوال الاجتماعية ، فكانوا يُصدرون فتاويهم و يُغيرونها حسب تغيّر الأزمنة و الأمكنة و أحوال المستفتين(4) .
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 62 .
    (2) القرطبي: تفسير القرطبي، ج 4 ص: 218 .
    (3) انظر : نفس المصدر ، ج 4 ص: 105 و ما بعدها . و الطبري: تفسير الطبري ، ج 4 ص: 218 .
    (4) يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية ، ص: 108 و ما بعدها ، 130 و ما بعدها .
    (1/291)
    ________________________________________
    و قال أيضا إن ابن خلدون سبق غيره في تسمية الظواهر الاجتماعية حقائق(1) . و قوله هذا مجازفة و ليس صحيحا ، لأن كل الناس يعلمون قطعا أن سلوكياتهم الاجتماعية هي حقائق ،و ليست وهما و لا خيالا ، و عليه فلا يصح أن يُقال إن ابن خلدون سبق غيره إلى تسمية الظواهر الاجتماعية حقائق ، و ليست العبرة أيضا في التسمية ، فإن السلوكيات الاجتماعية هي حقائق بلا شك ، عند كل الناس العاديين ، سواء سميناها بذلك الاسم أم لم نسمها به .
    و الباحث الثالث هو محمود عبد المولى ، قال إنه لم (( يتنبه أحد من العلماء أو الفلاسفة إلى خضوع الظواهر الاجتماعية لقوانين ثابتة مُطردة ، كالقوانين التي تخضع لها ظواهر الطبيعة ، إلا ابن خلدون ، فلم يُسبق إلى ذلك ))(2) .
    و أقول : أولا من الخطأ القول بأن القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية ، ثابتة مُطردة بنفس درجة القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية ، لأن الأولى أقل صرامة من الثانية ، و هذا مُشاهد و معروف في سلوكيات البشر قديما و حديثا ، لأن السلوكيات الاجتماعية قائمة في أساسها على إرادة الإنسان و حريته ،و هما لا يتوفران في الظواهر الطبيعية . و ابن خلدون نفسه لم يجعل قوانينه كلها صارمة حتمية كقوانين الطبيعة ، فإنه كثيرا ما كان يحتاط و يستثني و لا يُعمم في أحكامه(3) .
    __________
    (1) الساعاتي: المرجع السابق ، ص: 62 .
    (2) محمود عبد المولى : ابن خلدون و علوم المجتمع ، ص: 36 .
    (3) انظر : المقدمة ، ص: 91، 98، 99 ، 109، 124 ، 130 .
    (1/292)
    ________________________________________
    و ثانيا إن زعمه بأن ابن خلدون هو أول من تنبّه للقوانين التي تحكم السلوكيات الاجتماعية ، هو زعم غير صحيح ، لأنه سبق أن أقمنا الأدلة القاطعة على أن القرآن الكريم تكلّم صراحة عن علم العمران البشري و السنن المتحكّمة فيه ،و التي لا تتبدل و لا تتغير . كما أنه بينا أيضا أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أشار صراحة إلى القوانين التي تحكم سلوكيات الناس في الماضي و الحاضر و المستقبل . و ذكرنا أيضا أقوالا لبعض العلماء المسلمين –قبل ابن خلدون- فيها دلالات قاطعة على اعتقادهم بوجود قوانين تحكم سلوكيات البشر ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي تكلّم عن سنن العمران و الطبيعة و فرّق بينهما(1) .
    و قال أيضا إن ابن خلدون أنشأ ضوابط للتمييز بين حقائق التاريخ و خُرافاته ، فجاء عمله مناقضا لآثار (( سائر المؤرخين المسلمين ، كالطبري و الواقدي و المسعودي ... و غيرهم ، و كذلك مؤرخي الإغريق و اللاتين القدامى ))(2) . و قوله هذا غير صحيح تماما ، ينقضه من أساسه ما ذكرناه في كتابنا هذا عامة ،و ما تناولناه في الفصلين الأول و الثاني خاصة . لأنه سبق أن أقمنا الأدلة القاطعة على أن منهج ابن خلدون التاريخي تضمن أخطاء كثيرة ،و لم يكن منهجه جديدا على العلماء المسلمين ، فقد سبقه إليه علماء كثيرون من المحدثين و الفقهاء ، و المؤرخين . و ذكرنا أنهم مارسوا النقد و التمحيص التاريخيين بتوسع على مستوى المتون و الأسانيد ، معتمدين على المنقول و المعقول معا .و قلنا إن جماعة منهم تكلّمت عن منهج نقد الأخبار صراحة ، منهم : الخطيب البغدادي، و ابن الحوزي ، و ابن تيمية ، و ابن قيم الجوزية ، تكلّم فيه هؤلاء قبل أن يتكلم فيه ابن خلدون .
    __________
    (1) انظر : المبحث الثاني من الفصل الخامس .
    (2) محمود عبد المولى : المرجعع السابق ، ص: 77 .
    (1/293)
    ________________________________________
    و من أقواله أيضا إنه انتقد الباحثين الذين نقدوا ابن خلدون في قوانينه العامة ، التي قالوا إنه أقامها على استقراء ناقص للظواهر الاجتماعية ، ثم جعلها عامة تصدق على كل مجتمع في أي زمن كان. فيرى هو –أي الباحث- أن مآخذ هؤلاء على ابن خلدون مردودة ، لأن الظواهر الاجتماعية التي حللها ابن خلدون تنطبق على شمال إفريقيا فقط(1) .
    و دفاعه هذا غير مستقيم و ليس في محله ، لأنه أولا إن ابن خلدون في إصداره لقوانينه ،و دراسته للظواهر التاريخية ، لم يقتصر على شمال إفريقيا ، , إنما أخذ شواهده التاريخية من المشرق و المغرب معا ، و أصدر كثيرا من أحكامه على العرب و غيرهم معتمدا أساسا على تاريخ المشرق و جغرافيته بشكل أساسي(2) .
    و ثانيا إن من حق أي باحث أن يُحاسب ابن خلدون و ينتقده في قوانينه العامة بلا اعتذار له ، و لا تحفظ ،و لا احتياط ، لأنه-أي ابن خلدون- هو الذي أصدر قوانينه و عممها ،و قال إنها قوانين تحكم العمران البشري كله ،و لم يقل إنها تخص جنسا معينا ، و منطقة معينة . و عليه فنحن من حقنا أن ننتقده و نرد عليه انطلاقا مما قاله هو ، لا مما يُعتذر له به .
    و قال أيضا إن ابن خلدون اكتشف دور العمل كمنشئ للقيمة للمرة الأولى في تاريخ الفكر الاقتصادي و الاجتماعي ، قبل كارل ماركس(3) .
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 48 .
    (2) انظر مثلا : المقدمة ، ص: 65 و ما بعدها ، 98، 100 ، 103 ، 106، 107، 111 ، 112 .
    (3) محمود عبد المولى : ابن خلدون و علوم المجتمع ، ص: 69-70 .
    (1/294)
    ________________________________________
    و ردا عليه أقول: أولا إن أثر العمل في إنشاء قيمة السلع معروف لدى الناس بالبديهة و الفطرة و العادة منذ القديم إلى يومنا هذا ، ألا ترى عوام التجار الذين لم يسمعوا بابن خلدون و لا بماركس ، كثيرا ما يضعون الأسعار لسلعهم بناء على كمية العمل الذي بذلوه فيه ، مما يعني أن ذلك الأمر هو طبيعي عند الناس ، و لا يُعد اكتشافا و لا إبداعا ، و العمل كمبدأ هام في تقييم الأشياء و الأمور هو من سنن الله تعالى في خلقه ، لذلك جعله أساس الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة .
    و ثانيا إنه ليس صحيحا أن العمل دائما هو مُنشئ قيمة الأشياء ، فإن كثيرا من الثروات الطبيعية لها قيمة كامنة فيها قبل استغلالها ، كالمعادن ،و المحروقات ، و الأشجار ، و الثروات الحيوانية البرية و المائية . فإذا تدخل العمل كشف عن قيمتها الكامنة فيها و هيأها للاستهلاك ، لكنه ليس هو الذي أنشأ قيمتها أصلا ، فلو كان هو المُنشئ لها أصلا ، لسوّى بين سعر التراب و سعر الذهب ، و بين سعر الخشب و سعر الحديد ، و لسوّى بين كل أسعار الثروات الطبيعية على تنوعها ، و هذا كله غير صحيح يشهد الواقع على بطلانها . فالعمل إذن لم يُنشئ قيمة تلك الأشياء لكنه ساهم فيها ، و مساهمته هذه تختلف حسب نوع المادة و حاجيات السوق .
    (1/295)
    ________________________________________
    و ثالثا أنه لا يصح أن نبالغ في مسألة أثر العمل في تحديد قيمة الأشياء ، لأنه توجد عوامل طبيعية و بشرية كثيرة تتدخل في تحديدها فتُقلب الأمر رأسا على عقب ، و لا يصبح للعمل المبذول في إنتاجها أي دور فعال في تسعيرها ، فقد تُباع السلعة ذات العمل الكبير بأبخس الأثمان ، و قد تُباع السلعة ذات العمل القليل بأغلى الأثمان في وقت آخر ، و قد تُباع بأبخس الأسعار بتغير الزمان و المكان . و مثال ذلك أن أسعار النفط في زماننا هذا ، هي في ارتفاع و هبوط دائمين ، و كثيرا ما يكون العمل المبذول في إنتاجه واحدا لم يتغير ، و مع ذلك فإن الأسعار قد تزيد عن 50 دولارا للبرميل الواحد ، و قد تنزل إلى أقل من 10 دولارات للبرميل الواحد ، بسب تدخل عوامل طبيعية و بشرية كثيرة ، كالمناخ و حاجيات السوق .
    و رابعا إن الأمثلة على ما قلناه كثيرة جدا ، نذكر منها أربعة ، أولها إننا نرى الصيادين يدخلون البحر بسفنهم لصيد الأسماك ، فيمكثون مدة معينة يصطادون خلالها أنواعا كثيرة من الأسماك بمجهود واحد أو متقارب في معظم الأحيان ، لكنهم عندما يُعرضون أسماكهم للبيع يبيعونها ، فقد يبيعونها بأسعار متباينة جدا ، بناء على نوعيتها و طلب السوق لها ،و ليس بناء على ما بذلوه في كل نوع من عمل ، لأن العمل في الغالب كان واحدا .
    و المثال الثاني هو أنه قد يذهب فلاح ما إلى الغابة فيقطع أنواعا كثيرة من الأخشاب بمنشار كهربائي بمجهود صغير، ثم يحملها إلى السوق ببذل عمل واحد ، لكنه قد يبيعها بأسعار متباينة جدا ، بناء على نوعيتها و طلب الناس لها ،و ليس بناء على ما بذله من جهد في قطعها و نقلها ، لأن الجهد فيها كان واحدا .
    (1/296)
    ________________________________________
    و المثال الثالث هو أن الفلاح الواحد قد يبيع سلعة ما في ثلاث حالات بأسعار مختلفة رغم أنه بذل فيها كلها عملا متساويا في الحالات الثلاث ، لأنه قد يُنتج غلة في ظروف مناخية عادية فيبيعها بثمن معتدل ، و قد يُنتجها في ظروف مناخية قاسية بنفس العمل الأول ، فيأتي الإنتاج قليلا ، فترتفع الأسعار ارتفاعا كبيرا . و قد يُنتجها بنفس العمل في ظروف مناخية جيدة ، فيأتي المحصول غزيرا ، و يبيعه بأسعار منخفضة جدا ، بسبب كثرة الإنتاج و قلة الطلب . فهذه الحالات متباينة الأسعار العامل الحاسم في تغيرها هو المناخ و الطلب و ليس العمل المبذول فيها .
    و المثال الأخير-أي الرابع- هو أنه من المعروف في عصرنا أنه قد يقوم مهندس ما بعمل في مدة ساعة يُنتج لنا خلالها سلعة ذات سعر مرتفع جدا . و قد يقوم عامل عادي بعمل ما لمدة أسبوع ، يُنتج لنا خلاله سلعة لا تصل إلى واحد في المائة من سعر السلعة الأولى .
    و بناء على ذلك فإنه لا يصح أن يُقال إن قيمة الأشياء يُنشئها و يُحددها العمل وحده ،و الصواب هو أن عوامل طبيعية و بشرية كثيرة تتدخل في تحديدها . و هذه العوامل ليست ثابتة التأثير ، فهي أيضا متغيرة حسب النوعية و الجهد المبذول فيها ،و حاجيات الأسواق ، التي هي أيضا مرتبطة بالظروف الطبيعية ، و الاجتماعية و الاقتصادية ، و الأخلاقية و العقائدية و السياسية .
    و الباحث الرابع هو الباحث محمد الطالبي ، قال إنه لابد من تعويض منهجية أهل الحديث بمنهجية جديدة تليق بخبر التاريخ ، يكون فيها نقد الإسناد في الرتبة الثانية بعد نقد المتن ، و هذه (( المنهجية الجديدة اكتشفها ابن خلدون ، هي منهجية التاريخ)) ، و هي منهجية يكون فيها قانون المطابقة في المرتبة الأولى(1) .
    __________
    (1) محمد الطالبي: منهجية ابن خلدون التاريخية ، ص: 24-25 .
    (1/297)
    ________________________________________
    و ردا عليه أقول : أولا إنه سبق أن أثبتنا بالأدلة القاطعة و المتنوعة، أن منهج أهل الحديث كان منهجا كاملا جمع بين نقد الأسانيد و المتون معا ،و ذكرنا طائفة من كبار المحققين المسلمين جمعوا بين الحديث و التاريخ و مارسوا النقد التاريخي بكفاءة ، كالخطيب البغدادي ،و ابن الجوزي، و ابن تيمية ، و ابن القيم ،و الذهبي ،و ابن كثير .
    و ثانيا لا يصح أن يُقال إنه يجب جعل الإسناد في المرتبة الثانية بعد المتن ، لأن الصواب في هذا الأمر هو أنه لكي يكتمل نقد خبر ما يجب نقده إسنادا و متنا ، لأن صحة أحدهما لا تستلزم بالضرورة صحة الآخر ، مما يعني أنه لابد من الجمع بينهما ،و لا تكون الأولوية للإسناد و لا للمتن ، و إنما طبيعة الخبر هي التي تُبين أنجمع بينهما بالتساوي ، أم نقدم أحدهما على الآخر ، أم نستبعد أحدهما .
    و ثالثا إنه ليس صحيحا القول بأن ابن خلدون اكتشف منهجا جديدا في النقد التاريخي ، لأنه سبق أن أثبتنا بالأدلة القاطعة و الشواهد الكثيرة ، أن منهج النقد التاريخي كان معروفا لدى أهل العلم المسلمين قبل ابن خلدون ، و مارسته طائفة منهم بتوسع و جدارة ، على مستوى المتون و الأسانيد . وأما ما فعله ابن خلدون فهو عمل ناقص لم يستوعب فيه منهج أهل الحديث ،و أخطأ في انتقاده له ، فجاء منهجه ناقصا لا إبداع فيه و لا اكتشاف .
    (1/298)
    ________________________________________
    و رابعا إن دعوته- أي محمد الطالبي - إلى تبني منهج ابن خلدون في النقد التاريخي يكون فيه قانون المطابقة في المرتبة الأولى ، هي دعوة في غير محلها ، فلِنقد أي خبر نقدا كاملا لابد من تحقيقه و تمحيصه إسنادا و متنا .و ما قانون المطابقة إلا خطوة من خُطوات نقد المتن ، نستخدمه حسب طبيعة كل خبر ، و لا يصح أن يُقال تقديمه دوما. مع العلم أن هذا القانون –أي المطابقة- ليس من مكتشفات ابن خلدون ، فقد سبق أن ذكرنا أمثلة كثيرة مارس من خلالها طائفة من المحققين المسلمين النقد التاريخي باستخدام قانون المطابقة ، قبل دعوة ابن خلدون إلى استخدامه . و قد استخدمه القرآن الكريم قبل هؤلاء كلهم ، في رده على اليهود و النصارى عندما زعم كل منهما أن إبراهيم –عليه السلام- كان على ملته
    و قال أيضا إن منهجية أهل الحديث القائمة أساسا على نقد الإسناد ، هي التي كانت سائدة قبل ابن خلدون(1) . و قوله هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، لأنه سبق أن ذكرنا أمثلة كثيرة في الفصل الأول أثبتنا بها أن طائفة من المحققين مارست النقد التاريخي من خلال المتون قبل ابن خلدون . و بينا أيضا أن منهج أهل الحديث جمع بين نقد الأسانيد و المتون معا ، مارسته طائفة من المؤرخين النُقاد ، كالخطيب البغدادي، و ابن الجوزي ، و ابن تيمية ، و الذهبي، و ابن قيم الجوزية ، الذي صنف كتابا سماه نقد المنقول ، خصصه لنقد الأحاديث و تمحيصها من خلال متونها فقط ، و وضع لذلك ضوابط كثيرة سبق بها ابن خلدون .
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 43 .
    (1/299)
    ________________________________________
    و قال أيضا إن ابن خلدون هو مكتشف النقد الباطني ،و مستنبط قانون المطابقة(1) . و قوله هذا غير صحيح تماما ،و مُخالف للحقائق التاريخية التي ذكرناها في الفصلين الأول و الثاني ، لأنه أولا إن النقد الباطني –أي نقد المتن- كان معروفا عند علماء الحديث منذ بدايات تكوّن منهجهم ، بل و قبل ذلك ، فقد مارسه القرآن الكريم و بعض الصحابة . و كُتب مُصطلح الحديث نفسها نصت على أن النقد يجب أن ينصب على المتون و الأسانيد معا . و قد ذكرنا على ذلك أمثلة كثيرة ، مارس من خلالها العلماء المحققون نقد المتون بطريقة رائعة سبقوا بها ابن خلدون نفسه ، الأمر الذي يُثبت أنه من الخطأ الفاحش القول بأن ابن خلدون هو مكتشف النقد الباطني .
    و ثانيا إن القول بأن ابن خلدون هو مستنبط قانون المطابقة هو زعم باطل أيضا لا يثبت أمام الأمثلة الكثيرة التي ذكرناها في الفصل الأول ، مارس من خلالها علماء كبار النقد التاريخي باستخدام قانون المطابقة متعددة الأوجه ، زمنيا و مكانيا و طبيعيا ، علما بأن القرآن الكريم هو أول من استخدمه على ما سبق أن ذكرناه ،و من أراد التأكد ثانية فليراجع الفصلين الأول و الثاني من كتابنا هذا .
    __________
    (1) نفس المرجع ، ص: 28، 53 .
    (1/300)
    ________________________________________
    و الباحث الخامس هو عمر فروخ ، قال : (( إذا قسنا سائر المؤرخين في الشرق و الغرب بابن خلدون ،و اعتبرنا عقليته العلمية ، و اتجاهه الصائب ، لم نعدم الحق و لم نبالغ إذا جعلناه مؤسس علم التاريخ في العالم كله ))(1) . و قوله هذا فيه مبالغة و لا يصح أيضا ، لأنه أولا إننا إذا نظرنا لعلم التاريخ من خلال موضوعه ، فإن الأمر عادي للغاية لا يختلف فيه ابن خلدون عن غيره من المؤرخين الذين سبقوه و لا الذين جاءوا من بعده ؛ فكل منهم كتب تاريخه حسب نظرته للتاريخ و طريقة تدوينه له ، و كتابه العبر ،هو عادي تقليدي لا يختلف عن التواريخ المعروفة ، و لم يلتزم بالمنهج الذي ذكره في مقدمته .
    و ثانيا إننا إذا نظرنا إلى علم التاريخ من حيث منهجه النقدي، فإن ابن خلدون لم يُبدع منهجا لنقد الأخبار و تمحيصها ، و المنهج الذي ذكره في المقدمة ليس هو من مكتشفاته ،و قد سبق أن ناقشنا ذلك بتوسع في الفصلين الأول و الثاني و أقمنا الأدلة القاطعة على أن ابن خلدون لم يكن مصيبا في كل ما قاله عن منهج النقد التاريخي ، و أن نظرته لمنهج أهل الحديث كانت خاطئة في كثير من جوانبها ، و أن كثيرا من المحققين قد تكلّموا عن منهج النقد التاريخي و مارسوه قبل ابن خلدون .
    و ثالثا إننا إذا نظرنا إلى التاريخ من حيث قوانينه ، فلا شك أن ابن خلدون قد توسع في ذلك ، من خلال دراسته للعمران البشري ، لكنه لم يكن هو أول من تكلم عن سنن التاريخ ، فقد سبق أن ذكرنا في فصلنا هذا أن كل من القرآن الكريم و السنة النبوية ، و بعض علماء الإسلام ، قد تكلّموا في سنن التاريخ ،و قالوا إنها سنن لا تتبدل و لا تتحول ، و هي نفسها قوانين ماضي العمران البشري و حاضره ،و مستقبله .
    __________
    (1) عمر فروخ : عبقرية العرب في العلم و الفلسفة ، بيروت ن المكتبة العصرية ، ص: 190 .
    (1/301)
    ________________________________________
    و رابعا إن ما قلناه لا يلغي جهود ابن خلدون في خدمة علم التاريخ على مستوى الكتابة التاريخية ، و منهج التحقيق و اكتشاف القوانين ، لكن ذلك غير كاف ليجعله مؤسسا لعلم التاريخ ، لأن مساهمته فيه –على أهميتها- كانت مسبوقة و غير كاملة ، و ليست صحيحة في كثير من جوانبها . كما أن جهوده في المقدمة كانت مُنصبة أساسا على علم العمران لا على علم التاريخ ، الذي استخدمه وسيلة للكشف عن علم العمران ، و لم يكن غاية في ذاته لتأسيس علم التاريخ .
    و خامسا إن مدحه لعقلية ابن خلدون العلمية ليس صحيحا على إطلاقه ، لأن عقليته العلمية كانت ناقصة في كثير من الجوانب ، ذكرنا بعضها في نقدنا لمنهجه التاريخي ،و في نقدنا لكثير من رواياته التي أوردها في مقدمته و تاريخه و لم يُحالفه فيها الصواب . كما أننا بينا أن كثيرا من مواقفه و أحكامه كان فيها مغالطا و مبالغا و مجازفا ، و متعصبا متحزبا بلا دليل صحيح . و هذه كلها شواهد تقدح في عقليته و موضوعيته العلميتين ، لكننا مع ذلك لا ننفي عنه ذلك نهائيا ، لأنه جمع بين الذاتية و الموضوعية ، و بين العلمية و اللاعلمية ،و بين التفكير العلمي و التفكير الخرافي ،و بين التفكير الواقعي و الخيالي .، جمع كل ذلك في شخصيته ، الأمر الذي يُثبت أن ما قاله فيه الباحث عمر فروخ ابتعد فيه عن الحق ،و كان فيه مبالغا .
    و الباحث السادس هو عثمان موافي قال إن الذي جعل المؤرخين المسلمين لا ينتقدون مروياهم ،و يتخذون منها موقفا سلبيا هو (( اتصال التاريخ عندهم في نشأته بالدين و التشريع ، و من ثم طبقوا منهج رواية الخبر الديني على رواية التاريخ ))(1) .
    __________
    (1) عثمان موافي: النقد التاريخي الإسلامي و الأروبي ، الأسكندرية ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، 1976 ، ص: 274 .
    (1/302)
    ________________________________________
    و قوله هذا غير صحيح ،و فيه خلط و غموض ، لأنه أولا إن المؤرخين المسلمين لم يُطبقوا - في الغالب الأعم – منهج أهل الحديث على التاريخ الإسلامي ، و أما الذين طبقوه فهم نُقاد أهل الحديث ، طبقوه على السنة النبوية فقط ، و منهجهم منهج كامل شامل جمع بين نقد الأسانيد و المتون معا ،و ليس صحيحا ما يُروّج من أنه منهج قائم على نقد الإسناد فقط ، و هذا سبق إثباته بالأدلة القاطعة في الفصل الأول .
    و ثانيا إن تاريخنا الإسلامي معظمه ، بل كله تقريبا ، ما يزال مادة خام ، لم يُحقق ،و لم يُطبق عليه منهج المحدثين و لا غيره ، و لو طُبق عليه منهجهم لكان ذلك عملا جليلا ،و فتحا عظيما في تاريخ علم التاريخ. لكن بعض المحدثين المؤرخين دونوا تواريخهم بالأسانيد ، كالطبري ،و الخطيب البغدادي و ابن عساكر ، إلا أنهم لم يُحققوها في الغالب الأعم ، مع العلم بأن غالبية المؤرخين المسلمين كتبوا تواريخهم بلا أسانيد إلا في حالات نادرة ، كثير منها يتعلق بالدين و بعض مواقف الصحابة .
    و ثالثا إن الدين لم يكن حائلا دون تطبيق المؤرخين المسلمين لمنهج أهل الحديث على التاريخ الإسلامي ، لأنه إذا كان هو نفسه-أي الدين – دفع المحدثين إلى تحقيق السنة النبوية لتمييز صحيحها من سقيمها ، فهو أيضا يحثهم على تطبيق ذلك المنهج على تاريخهم ، و لم يمنعهم من ذلك ،وقد حثهم على التمحيص و استخدام كل الوسائل الممكنة لنقد الأخبار ، لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تُصيبوا قوما بجهالة ، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين ))-سورة الحجرات/6- .
    (1/303)
    ________________________________________
    و رابعا إنه مع ذلك فقد وُجدت طائفة من المؤرخين و المحققين المسلمين ، طبقّت منهج النقد التاريخي على جوانب من تاريخنا الإسلامي ، ذكرنا منهم طائفة في الفصلين الأول و الثاني ، كابن الجوزي، و أبي بكر الباقلاني ،و ابن تيمية ، و الذهبي ،و ابن كثير , و هؤلاء لم يتخذوا موقفا سلبيا من تاريخهم ،و لم يمنعهم اتصال جانب من تاريخهم بالشريعة ، من النقد و التمحيص .
    و خامسا يبدو أن الذي صرف معظم المؤرخين المسلمين عن تحقيق تاريخهم ، ليس هو ما ذكره الباحث عثمان موافي ، و إنما هناك أسباب أخرى صرفتهم عن ذلك ، ربما منها أنهم لم يكونوا يرون ضرورة ماسة تستدعي تحقيقه ، لأنها ليست في درجة أهمية الحديث و السيرة النبوية . و منها أيضا ربما رأوا أن التاريخ الإسلامي في عمومه لم يتعرّض لكثير من التحريف و التشويه ، بالدرجة التي تعرّضت لها السنة النبوية ، و من ثم أهملوه . و ربما أنهم أيضا لم يروا في تحقيقه أهمية كبيرة تساوي مقدار ما يبذلونه من جهود مضنية و أوقات طويلة في تحمل مشاق تحقيقه . و ربما بعضهم لم يحقق لأن تاريخنا على ما هو عليه يخدم مصالحه الطائفية و المذهبية . لكننا مع ذلك نؤكد هنا على أن الذي صرف معظم المؤرخين المسلمين عن تحقيق تاريخهم ليس هو ارتباطه بالدين ،و لا غياب المنهج النقدي ،و لا فقدان الكفاءة العلمية ، و إنما الذي صرفهم عن ذلك أساب أخرى اجتهدنا في ذكر بعضها .
    (1/304)
    ________________________________________
    و الباحث الأخير هو عبد الحليم عويس ، قال إن ابن خلدون هو رائد فلسفة التاريخ(1) . و تعليقا عليه أقول : أولا ، صحيح إن ابن خلدون استخدم فلسفة التاريخ(2) استخداما واسعا في دراسته لماضي العمران البشري –أي تاريخ البشر- فاستخرج كثيرا من سننه و قواعده ، لكنني لم أعثر في مقدمته على ما يُشير إلى أنه كان على وعي بوجود ما يُسمى بفلسفة التاريخ و استخدامه لها في اكتشافه لقوانين العمران البشري . لذا وجدناه قال صراحة إنه اكتشف علما جديدا سماه علم العمران الإنساني،و لم يقل إنه اكتشف فلسفة التاريخ و لا إنه استخدمها .
    __________
    (1) عبد الحليم عويس : التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون ، مبحث رائد التفسير العلمي للتاريخ ، قرص مضغوط مختارات الهدهد ، العدد الثاني ، مجلة المجتمع .
    (2) فلسفة التاريخ هي تفسير التاريخ عن طريق البحث عن علله و خلفياته و عوامله المحركة له ، قصد الكشف عن سننه و قوانينه المتحكمة فيه .
    (1/305)
    ________________________________________
    و ثانيا ليس ابن خلدون هو أول من استخدم فلسفة التاريخ ، فقد سبقه إلى استخدامها القرآن الكريم و بعض العلماء المسلمين ، فبخصوص القرآن فإنه عرضها ،و استخدمها في مجالين ، الأول إنه عرض لنا فيه نماذج كثيرة من تفسير التاريخ و فقهه من خلال أخبار الأمم القديمة في موقفها من الأنبياء الذين أُرسلوا إليها ،و مصيرها الذي آلت إليه ، فكان منها المؤمنون و منها الكافرون ، و جازى الله تعالى كل أمة بما تستحقه في الدنيا و بما ينتظرها في الآخرة ، و ذكر لنا الأسباب التي أوصلت كل أمة إلي مصيرها الذي صارت إليه ،و السنن التي حكمت سلوكياتها . فمن ذلك قوله سبحانه : (( ذلك جزيناهم ببغيهم و إنا لصادقون ))-سورة النعام/146 – ، و (( ذلك جزيناهم بما كفروا ،و هل نُجازي إلا الكفور )) –سورة سبأ /17- ، و (( و لكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون))-سورة الأعراف/96- ،و (( فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ))-سورة الزمر/50- ،و (( و إن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ((-سورة الأنفال /38- ، و (( لا يُؤمنون به و قد خلت سنة الأولين ))-سورة الحجر/13- .
    و الجانب الثاني هو أن القرآن الكريم حثنا صراحة –في آيات كثيرة- على دراسة التاريخ ،و البحث عن أسبابه و علله و خلفياته ،و الكشف عن سننه ، للاستفادة منه و الاعتبار به ،و لا يتم كل ذلك إلا باستخدام تفسير التاريخ و فقهه ، الذي هو الطريق الوحيد الموصل إلى تحقيق ما ذكرناه ، قال تعالى : (( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ))-سورة آل عمران/137- ، و (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ))-سورة يوسف/111- ، و (( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ))-سورة النازعات/26- ، و (( فاعتبروا يا أولي الأبصار ))-سورة الحشر/2-.
    (1/306)
    ________________________________________
    و لا ننس أن الاعتبار الذي دعا إليه القرآن ، له معنى واسع ، كثيرا ما يستلزم عملية فكرية معقدة من البحث و الغوص ،و الربط و التدبر ،و المقارنة و الاستنتاج ، للوصول إلى النتائج و القوانين التي تمكننا من الاعتبار الذي يجب تحويله إلى قوة إيجابية فاعلة في حياة الفرد و المجتمع ،و لا يبقى مجرد فكرة نظرية في عقولنا . و بذلك يمكن أن نقول إن الاعتبار من التاريخ الذي حثنا الشرع عليه ، قد يحدث بنظرة سريعة ، و قد لا يحدث إلا بنظرة عميقة معقدة ، تستلزم استخدام منهج النقد التاريخي و فلسفة التاريخ معا .
    وأما العلماء المسلمون الذين استخدموا فلسفة التاريخ قبل ابن خلدون ، فكثير منهم كانت لهم نظرة عامة عن فلسفة التاريخ و ذلك من خلال دراستهم لأخبار الأمم القديمة في القرآن الكريم و دعوته إلى التدبر فيها و الاعتبار بها ، هذا فضلا على أن العقل البشري مفطور على البحث عن الأسباب و العلل و الخلفيات ،و ما يترتب عنها . و نذكر منهم - أي العلماء المسلمون- الشيخ تقي الدين بن تيمية ،و تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية .
    (1/307)
    ________________________________________
    الأول دعا إلى الاعتبار بالتاريخ ،و قال إنه ينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله و آياته في عباده و دأب الأمم و عاداتهم(1) .و أخبار الأنبياء في القرآن هي للاعتبار و الانتفاع بها ، و يحصل الاعتبار إذا نحن (( قسنا الثاني بالأول و كانا مشتركين في المقتضى للحكم ، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس الكذابين للرسل كفرعون و من قبله ، لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط ))(2) . و واضح من كلامه أن الاعتبار يحصل نتيجة التدبر في أخبار الماضين و الانتفاع بها ، انطلاقا من تعاملنا مع السنن التي تحكم العمران البشري ، و بذلك يكون الاعتبار ثمرة لفلسفة التاريخ من جهة ،و يُعد دافعا إليها من جهة أخرى .
    __________
    (1) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج28 ص: 427 .
    (2) ابن تيمية : الحسنة و السيئة ، حققه جميل غازي، القاهرة ، مطبعة المدني، دت ،ص: 84 .
    (1/308)
    ________________________________________
    و من نظراته في تفسير تاريخ بعض حوادث التاريخ الإسلامي و فلسفته ، قوله إن من أسباب سقوط الدولة الأموية ظهور البدع المخالفة للدين ، كإنكار الجعد بن درهم(ت 124ه) للصفات الإلهية ، و زعمه أن الله لم يتخذ إبراهيم-عليه السلام- خليلا ،و لم يكلم موسى تكليما ، فأوجب هذا السبب-مع غيره من الأسباب-إدبار الدولة الأموية و انقراضها(1) . و ذكر أنه عندما ظهر النفاق و الرفض و الزندقة في مصر و الشام علي يد الفاطميين الملاحدة الباطنية كان ذلك من العوامل التي ساعدت الصليبيين ، على احتلال ساحل الشام و بيت المقدس. لكن عندما حمل كل من نور الدين محمود(ت569 ه) ،و صلاح الدين الأيوبي(ت 589ه) راية الإسلام و الجهاد طهّرا البلاد من النصارى و نصرهما الله عليهم، فكان الإيمان و الجهاد عن الدين سببا لخير الدنيا و الآخرة(2) . كما أن من أسباب دخول المغول إلى بلاد المسلمين و إفسادهم فيها ، ظهور الإلحاد و النفاق و البدع بين المسلمين في المشرق الإسلامي(3) .
    و واضح من تفسيره لهذه الحوادث أنه يُقر بتعدد عواملها و تداخلها فيما بينها ، لكنه يرى أن انحراف المسلمين عن الدين ، كان من بين أهم أسباب ما حل بهم من ويلات و انكسارات و هزائم ، كما أن عودتهم إليه هو طريق نصرهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة .و قوله هذا صحيح يشهد له التاريخ قديما و حديثا ، و في القرآن الكريم تأكيد على ذلك كقوله تعالى: (( لئِن شكرتم لأزيدنكم ))-سورة إبراهيم/7- و (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ))- سورة طه/124- .
    __________
    (1) ابن تيمية : الفرقان بين الحق و الباطل ص : 118 ، 203 .
    (2) نفس المصدر ص : 199 .
    (3) نفس المصدر ص : 179 .
    (1/309)
    ________________________________________
    و أما الثاني-أي ابن القيم- فنذكر له ثلاثة أمثلة من نظراته في تفسيره لبعض حوادث التاريخ الإسلامي و فلسفته ، الأول قال فيه إنه لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة و علوم الإلحاد في أواخر المائة الثالثة و أوائل الرابعة ، سلّط الله عليهم القرامطة الباطنية ، فكسروا عسكر الخلافة عدة مرات ،و تعرّضوا للحجيج و قتلوا منهم كثيرا (1) .
    و المثال الثاني ، مفاده أنه لما انتشرت الفلسفة و المنطق بين أهل المشرق الإسلامي في القرن السابع الهجري ، سلّط الله عليهم التتار ، فدمروا أكثر بلادهم و استولوا عليها (2) .
    و المثال الثالث ، أنه لما انتشرت الفلسفة و المنطق بين أهل المغرب ، سلّط الله عليهم النصارى ، فاستولوا على أكثر بلادهم ، و أسروهم رعية لديهم(3) . و واضح من كلام ابن قيم الجوزية أنه يقصد أهل الأندلس الذين تعرّضوا لهجومات النصارى في حركاتهم الاستردادية للأندلس ، مما استدعى تدخل الموحدين لنجدتهم ، كما هو معروف في التاريخ ، ثم انتهي الأمر بضياع الأندلس نهائيا من أيدي المسلمين و عودتها إلى النصارى .
    و كلامه هذا صحيح إلى حد كبير ، و ذلك أن الفلسفة اليونانية إذا غزت مجتمعا إسلاميا فلا شك أنها ستمسخه و تبعده عن دينه ، و تفسد سلوكه و تميت فيه حماسة الجهاد ،و تُغرقه في الشهوات و الشبهات الخيالات ، فيحل به سخط الله سبحانه و تعالى ، و تجري عليه سنته الجارية في عقاب الأفراد و الجماعات و الأمم المنحرفة عن منهاجه .
    و قال أيضا –أي الباحث عبد الحليم عويس- إن ابن خلدون كان الفيصل بين مرحلتين حاسمتين ، في منهج البحث التاريخي ، و كان عصره بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية ، نسميه بلا تحفظ عصر ابن خلدون(4) .
    __________
    (1) إغاثة اللهفان، ج 2 ص: 270 .
    (2) نفس المصدر ، ج2 ص: 269 .
    (3) نفسه ، ج2 ص: 269 .
    (4) عبد الحليم عويس : المرجع السابق ، مبحث رائد التفسير العلمي للتاريخ .
    (1/310)
    ________________________________________
    و قوله هذا ليس صحيحا على إطلاقه ، و فيه مبالغة شديدة ، لأنه أولا إن ابن خلدون لم يكن فيصلا حاسما على مستوى منهج البحث التاريخي ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن ابن خلدون عرض منهجا نقديا ناقصا ضخّم فيه نقد المتون على حساب الأسانيد . و ثانيها إنه ازدرى بمنهج أهل الحديث ، و هو لم يفهمه جيدا ،و لا استوعبه . و ثالثها إن كلامه عن نقد المتن لم يكن جديدا ، فقد سبقه إليه محققون كثيرون ، فعمد هو إلى منهج النقد عند المحدثين القائم على نقد الإسناد و المتن معا ، فأخذ منه جانبا و ضخّمه على حساب الجانب الآخر ،و لم يكن له في ذلك إبداعا انفرد به يستحق التنويه ، ،و كلامنا هذا سبق أن أثبتناه و وثقناه في الفصل الأول .
    و ثانيا إن ابن خلدون لم يكن فيصلا حاسما على مستوى الكتابة التاريخية ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن تدوينه لتاريخه بطريقة الموضوعات لم تكن طريقة جديدة ، فقد استخدمه قبله مؤرخون كثيرون ، منهم : أبو حنيفة الدينوري ، و ابن قتيبة ، و اليعقوبي ، و ابن واصل(1) .
    و ثانيها إنه عندما كتب تاريخه لم يلتزم فيه بمنهجه النقدي الذي ذكره في مقدمته ، فجاء تاريخه تقليديا في معظمه ، لا يختلف عن التواريخ التي سبقته ، هذا فضلا على أنه احتوى على نقائص كثيرة ذكرنا بعضها في الفصل الثالث .
    و ثالثها إنه –أي ابن خلدون- في نقده للروايات التي انتقدها في مقدمته و تاريخه ، كان في بعضها مصيبا ،و في أخرى مجازفا متعصبا ،و مُغالطا مُخطئا ،و في بعضها الآخر مسبوقا ناقلا دون تصريح بذلك ، و كلامنا هذا سبق إثباته و توثيقه في الفصلين الثاني و الثالث ، فمن كان هذا حاله فهل يصح أن يٌقال إنه كان فيصلا حاسما في منهج البحث التاريخي ،و أن نسمي عصره باسمه ؟ ؟ .
    __________
    (1) عبد العزيز سالم: التاريخ و المؤرخون العرب ، بيروت ، دار النهضة العربية ، 1986، ص: 91-94 .
    (1/311)
    ________________________________________
    و ختاما لما ذكرناه عن هؤلاء الباحثين ، فقد يتساءل بعض الناس فيقول : ما هي الأسباب التي أوقعت هؤلاء في الأخطاء و المبالغات في موقفهم من ابن خلدون و فكره ؟ . يبدو لي أن الأسباب التي أوقعتهم في ذلك كثيرة ، و تختلف من شخص إلى آخر حسب تكوينه العلمي ،و اتجاهه الفكري المذهبي ، فبعضهم وقع تحت تأثير ابن خلدون نفسه ، فيما كتبه عن مختلف المسائل التي أثارها في مقدمته ، فتابعوه فيما قاله عنها ، و لم يتنبّهوا لأخطائه و مجازفاته ،و مغالطاته و تعصباته .
    و منها أن بعضهم إنبهر بما وجد في المقدمة من كلام عن علم التاريخ و منهجه ، و عن العمران البشري،و فلسفة التاريخ ، فصرفهم ذلك عن التنبه لكثير من الأخطاء و النقائص في كلامه عن تلك الموضوعات و غيرها . حتى إن بعضهم ظن أن كل ما في المقدمة هو من إبداعات ابن خلدون ،و لم يتفطن إلى أن كثيرا مما في المقدمة هو مجرد نقل عن المصادر القديمة و لا إبداع فيه ، كالفصل الذي خصصه للتعريف بالعلوم .
    و منها أن بعضهم وقع في الخطأ و المبالغة في نظرته لابن خلدون ، لأنه كان قليل البضاعة في الدراسات القرآنية و الحديثية المتعلقة بالتاريخ و فقهه ،و منهج أهل الحديث النقدي ، و بالعمران البشري و سننه . و ربما كان فيهم من له معرفة لا بأس بها بتلك الدراسات ، لكن تعصبهم لاتجاهاتهم الفكرية ، صرفهم عن استخدام تلك الدراسات لنقد فكر ابن خلدون ،و إرجاع أصوله و إبداعاته في التاريخ و العمران إلى أصولها الإسلامي .
    و منها أن بعضهم ربما و قع تحت تأثير تيار المبالغة و الانبهار بفكر ابن خلدون ، مسايرة للتيار العام الذي سيطر على كثير من الباحثين الغربيين و الشرقيين في المبالغة في تعظيم فكر ابن خلدون . فأصبح عندهم المدح و التعظيم و التهويل من أساسيات البحث في فكر ابن خلدون .
    (1/312)
    ________________________________________
    و ربما كان بعضهم مدفوعا بدافع الرد على الباحثين الغربيين الذين جعلوا علم الاجتماع البشري من مكتشفات الغرب ،و أنكروا كونه علما إسلاميا ، فصرفهم ذلك الدفاع عن التركيز على أخطاء ابن خلدون في مقدمته و تاريخه .
    و ختاما لهذا الفصل –أي الخامس- يتبين لنا أن ابن خلدون لم يكن مبدعا و لا مكتشفا و لا مؤسسا لعلم العمران البشري ، و لا لفلسفة التاريخ ، فقد أشار إليهما القرآن الكريم و تكلم عنهما قبل ابن خلدون ، لكنه يُعد مؤسسا لعلم العمران بالنسبة إلى غيره من العلماء ، من حيث أنه قد توسع فيه،و أفرده بالكتابة مستلهما في ذلك القرآن و السنة ،و التراث الإسلامي ،و مُمزجا ذلك بقدراته و علمه ،و تجاربه الخاصة .
    .................................................. .....................................
    الخاتمة
    و ختاما لكتابنا هذا ، يتبين لنا أننا توصلنا إلى نتائج كثيرة ، هي مبثوثة في ثناياه ، منها إن ابن خلدون لم يكن موفقا في طرحه لمنهج النقد التاريخي ،و لا هو مكتشفه ، فعرض لنا منهجا ناقصا ، تخللته كثيرا من الأخطاء ، و ازدرى فيه بمنهج أهل الحديث ، و ضخّم فيه أهمية نقد المتن على حساب الإسناد ،و لم يتخذ منهما موقفا صحيحا. كما أنه أغفل ذكر طائفة من كبار المؤرخين و المحققين المسلمين ، كانت لهم مشاركات رائدة في نقد الأخبار و تمحيصها ، لكنه الحقهم بالمؤرخين الذين وصفهم بالبلادة و التعصب و قلة العلم .
    و منها أننا ذكرنا طائفة من الروايات التاريخية كان ابن خلدون قد نقدها ، و هي في الأصل لم يكن نقدها جديدا ، فقد سبقه إلى نقدها محققون آخرون ، دون أن يُشير هو-أي ابن خلدون- إليهم . و لا ندري هل كان على علم بهم ، أم أنه تعمّد إغفالهم ؟ ، مع أننا نميل إلى الظن بأنه كان على علم بهم أو ببعضهم على الأقل .
    (1/313)
    ________________________________________
    و منها أيضا أنه تبيّن – من خلال الأمثلة التي ذكرناها- أنه كانت لابن خلدون أخطاء تاريخية كثيرة ، دلت على أنه لم يلتزم بمنهج النقد التاريخي الذي عرضه في مقدمته التاريخية ، فلم يتقيد به في تاريخه ،و لا في كتابه عن العمران البشري .
    و تبين أيضا إنه –أي ابن خلدون- أصدر أحكاما كثيرة ، بعضها في صيغة حتميات صارمة ، ناقشناه فيها و رددنا عليه بشواهد تاريخية و منطقية كثيرة ، و بينا أنه كان في بعضها مجازفا ، و في أخرى مُغالطا ، و في أخرى مُتعصبا ، و في أخرى مُخطئا .
    و منها أن قوله بأنه هو مكتشف علم العمران البشري ، هو قول غير صحيح ، فليس هو مكتشفه ، و لا مُبدعه ، و لا مُؤسسه ، لأن القرآن الكريم هو أول من تكلم عن ذلك و أكد عليه. لكنه –أي ابن خلدون- مع ذلك يُعد هو مؤسسه بالنظر إلى غيره من أهل العلم ، فقد كان له فيه فضل السبق و التوسع فيه ، و إفراده بالتأليف ، و تقعيد كثير من قواعده ، فجاء عمله هذا ثمرة متأخرة للعلوم الشرعية و الحضارة الإسلامية معا .
    و أخيرا رحم الله عبد الرحمن بن خلدون ، و غفر لنا وله ،و الحمد لله أولا و أخيرا ،و صلى الله على محمد و آله و صحبه أجمعين .
    د/ خالد كبير علال
    –الجزائر 1426/2005 –
    .................................................. ..............
    فهرس المحتويات
    المقدمة :
    الفصل الأول: أخطاء في منهج النقد التاريخي الخلدوني
    أولا: عرض منهج النقد التاريخي عند ابن خلدون .
    ثانيا : أخطاء و نقائص منهج النقد التاريخ لابن خلدون .
    الفصل الثاني: نقد روايات تاريخية نقدها ابن خلدون
    الرواية الأولى : جيش بني إسرائيل في أرض التيه .
    الرواية الثانية : العملاق الأسطوري عوج بن عناق .
    الرواية الثالثة : مدينة إرم ذات العماد .
    الرواية الرابعة: وادي الرمل ببلاد المغرب .
    الرواية الخامسة : بناء مدينة الأسكندرية .
    الرواية السادسة : تمثال الزرزو بمدينة روما .
    (1/314)
    ________________________________________
    الرواية السابعة : مدينة النحاس بسجلماسة .
    الرواية الثامنة: مسألة بقاء النبي الخَضِِر حيا .
    الفصل الثالث نماذج من الأخطاء المتنوعة في مقدمة ابن خلدون
    أولا : في الحديث النبوي الشريف .
    ثانيا : مسألة تحكم المعاش في أحوال الناس .
    ثالثا : في أعمار الدول .
    رابعا : في التقليد الفقهي و التمذهب .
    خامسا:في موقفه من العرب .
    سادسا: في دفاعه عن هارون الرشيد ،و ابنه المأمون .
    سابعا : في دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي .
    ثامنا : في دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين .
    تاسعا : في دفاعه عن المهدي ابن تومرت الموحدي .
    عاشرا : أخطاء تاريخية متفرقة في المقدمة و العبر .
    الفصل الرابع: مجازفات ابن خلدون و مغالطاته في كتابه المقدمة
    أولا: في تفسيره لانتشار المذهب المالكي بالمغرب .
    ثانيا: في تفسيره لقلة انتشار المذهب الحنبلي بالمشرق .
    ثالثا: في موقفه من المنطق الأرسطي .
    رابعا: في موقفه من الصوفية .
    … خامسا: مغالطاته و أخطاؤه في مسألة الصفات الإلهية .
    … سادسا : مجازفات في صيغة حتميات أو شبه حتميات .
    الفصل الخامس :حقيقة علم العمران الخلدوني و قضايا أخرى
    … أولا : كلام ابن خلدون عن العلم الذي اكتشفه
    ثانيا: التعليق على ابن خلدون فيما يخص العمران البشري .
    ثالثا: الرد على مبالغات و أخطاء بعض المعاصرين .
    الخاتمة :
    فهرس المحتويات :
    مصنفات للمؤلف :
    -صفحات من تاريخ أهل السنة و الجماعة ببغداد .
    -الداروينية في ميزان الإسلام و العلم .
    - قضية التحكيم في موقعة صفين – دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل –
    - الثورة على سيدنا عثمان بن عفان – دراسة وفق منهج علم الجرح و التعديل-
    -مدرسة الكذابين في رواية التاريخ الإسلامي و تدوينه .
    - الصحابة المعتزلون للفتنة الكبرى – دراسة وفق منهج أهل الجرح و التعديل –
    (1/315)


    ;jhf djp]e uk Ho'hx hglcvo hfk og],k


  2. #2
    ضيف شرف النسابون العرب الصورة الرمزية الشريف محمد الجموني
    تاريخ التسجيل
    19-06-2010
    الدولة
    بلاد العرب اوطاني
    المشاركات
    6,876

    افتراضي

    كل انسان قابل للنقد ولا بد ان يجد المتحري اخطاء.
    ونحن لا نقدس الا كتابا واحدا ونعبد ربا واحدا.
    انما سلسلة الطعن -هذه- في تراثنا، هي قصة ذات جذور.
    ومحاولة النيل من ثوابت تاريخنا امر له سابقه .

    وقد تبارى كل من تصدى لهذه الحالة الى ابراز ما يقدر عليه من سلبيلت -يجدها، او توجد له- ومن ثم تضخيمها وعرضها على انها كارثه.
    سيبقى ابن خلدون قمة، ومائدة يعيش على فتاتها من لم تعنه الهمة الى بلوغ قعرها .
    ونتابع..... كما تابعنا من قبل.
    *- مع اعتقادنا ان ابن خلدون ، بشرا.

  3. #3

    افتراضي

    موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

  4. #4

    افتراضي

    نعم أخي الكريم حريا بنا كمسلمين ألا نتعصب إلا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن الله تكفل بحفظهما حيث قال : إنا نحن نزلنا الذكرى وإنا له لحافظون.. أما فيما يخص هذه السلسلة فهي في نظري ليست للنيل من ثوابت تاريخنا وسيبقى العلامة ابن خلدون قمة ومائدة يعيش على فتاتها من لم تعنه الهمة إلى بلوغ قعرها .... لكن لو تلاحظ صاحب الكتاب قدم مبررا لهذه الدراسة
    وذلك لثلاثة أسباب رئيسية ، أولها أن أخبارا غير صحيحة ، و مفاهيم خاطئة ، نجدها رائجة بين كثير من أهل العلم ، استقوها من مقدمة ابن خلدون ، دون أن يتنبّهوا لها .
    و ثانيها أن كثيرا من أهل العلم -على اختلاف تخصصاتهم- مبالغون في موقفهم من ابن خلدون و سلبيون تجاهه ، حتى أصبح قوله عندهم حجة بذاته ، يُحتج به و لا يُحتج له .و ثالثها أن الجانب الرائع و الإيجابي من المقدمة حظي باهتمام كبير ، فأُشبع دراسة و قُتل بحثا ، لكن جانبها السلبي المليء بالأخطاء و النقائص ، لم يأخذ حقه من البحث و الاهتمام ، كالذي أخذه الجانب الأول ، فجاءت دراستنا هذه لتركز على الجانب السلبي المُهمل ، و تساهم في إكمال نظرتنا لمقدمة ابن خلدون ، و لتأخذ-أي المقدمة- مكانها الصحيح و المناسب لها ، بلا إفراط و لا تفريط ، و في انتقادنا لها لا ننكر جانبها الإيجابي الرائع... انته كلامه.. (وهذا ليس تضخيما ولا تصويرا لها على أنها كارثة فابن خلدون بشر يصيب ويخطئ )... كما يستحسن تفعيل الأسلوب والنهج العلمي المبني على فهم سليم للأمور ومجرياتها بعيدا عن الإرتجال والعشوائية لأن البعض هداهم الله ينبري لنقد أمر ما وهو لا يدركه ولم يسبر غوره ولم يفهمه بالشكل المطلوب فهو ينتقد ما لا يفقه
    أصلا إذن علينا التريث في إصدار الأحكام على الآخرين ونحسن الظن باخواننا ..وأنا شخصيا أشجع على هذا النوع من الأبحاث والدرسات
    مع الترحيب بالآراء الأخرى ونقاشها بهدوء ورزانة والإشادة بما فيها من إيجابيات أيضا دون التركيز على السلبيات فحسب ...وفي الختام لكم مني فائق التقدير والإحترام .... وشكرا

  5. #5
    المطور العام - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية أبو مروان
    تاريخ التسجيل
    18-02-2015
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    3,295

    افتراضي

    أما أنا فإني أُحييك على شجاعتك و جرأتك الأدبية في تناول هذا الموضوع {ابن خلدون}و بالنقد ، لأن الناس قد افتتنوا به ، و عدّوا كتاباته و أخباره غير قابلة للطعن ، و أنزلوها منزلة الوحي . و لا عصمة لأحد بعد الأنبياء و الرسل عليهم السلام، و كل الكتب معرضة للخطأ إلا كتاب الله تعالى . إنك سيدي الكريم قد أزحت عن عيون النخبة المثقفة حجابا سميكا ، كان يمنعها من رؤية أعلامنا الفطاحل من القدامى خاصة ، و عَرَّيْتَ الحقيقة جلية أمام كل متبصر متدبر عادل . لم تُعدم الأمة العربية الاسلامية الخير في ابنائها قبل ابن خلدون و لم تكن كذلك بعده . إن عملك هذا جليل ، و أنا شخصيا أضعه في أعظم الانجازات العلمية للجامعة الجزائرية ، و سيذكره التاريخ العلمي و الثقافي ذكرا عاليا . ولم تقل إلا حقا ، و يقوي اتجاهك هذا الشيخ مبارك الميلي ، الذي يشير في كثير من طيات كتابه{ تاريخ الجزائر القديم و الحديث} إلى أخطاء و مبالغات ابن خلدون . وفقك الله لخدمة الثقافة العربية الاسلامية و نفعنا و كل الأمة بعلمك .

  6. #6
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    ما الكمال إلا " لرب العالمين " سبحانه وتعالى
    عمل جريء وجليل .. افتقدنا مثله عبر السنين .. وصدق من قال ان البعض " قدّس " ابن خلدون !!!
    وصدق الفائل " إنما هو بشر " .. وخلاصة القول .. هي مادة علمية فيها .. وفيها .. ولا ننسى أن كل قول لبشر يرد عليه وينتقد ويتقصى صوابه من خطئه .. إلا قول الذي لا ينطق عن الهوى " محمد - صلى الله عليه وسلم " ...
    بارك الله بكم ووفقكم لكل خير

  7. #7

    افتراضي

    كل انسان عليه مآخذ وله اخطاء وابن خلدون ليس استثناء وان كان قد تميز عن كثيرين من السابقين بوضع منهج لدراسة التاريخ والاخبار وصنف مجموعة قواعد سياسية تاريخية بطريقة الاستقراء (اي البناء على تكرار الظروف لتظهر النتائج نفسها لصياغة قاعدة)

  8. #8
    عضو منتسب
    تاريخ التسجيل
    02-09-2016
    العمر
    27
    المشاركات
    26

    افتراضي

    بارك الله فيكم جميعا

  9. #9
    مشرف مجلس عشيرة الدويرية
    تاريخ التسجيل
    16-09-2016
    الدولة
    العقبة
    العمر
    54
    المشاركات
    99

    افتراضي

    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ..
    لاشك أن ابن خلدون يعتبر من مؤسسي علم الاجتماع الذي
    يستند على العمران البشري والذي يحضى بمكانه مرموقه بين
    العلوم في وقتنا الحاضر وقد أقيمت بعض الدول المعاصرة
    اساساتها مستفيده من مقدمة ابن خلدون ...لاكن ابن خلدون
    بشرا وكيد هناك أمور كثيره لم يحط بها في مقدمته او له فيها
    قناعه تختلف عند الكثيرين من العلماء في زمانه والمعاصرين ...
    وأريد أن اعقب هنا ان هناك الكثير من العلماء والمكتشفين جاء
    بعدهم من يكمل عنهم مالم يحيطو به ويصححوا ماغفلوا عنه
    ..ولي مداخله في موضوع ..ان الاسنايد جائت في العلوم الشرعيه
    تقابل بالاتباع والتقيد بها دون مطابقتها بالعقل فهذا صحيح
    لقول على رضي الله عنه في المسح على الخفين ..في العقل
    الأحرى أن نمسح على الخفين من الأسفل ولاكن الأمر في المسح
    على الخفين هو الاتباع ..وكذالك قوله سبحانه ..يا أبها الذين آمنوا لاتسالوا رسولكم كما سأل موسى من قبل ...وقوله ...في ايه أخرى
    ان تبدى لكم تسؤكم...نعم الأمور الشرعيه والأمور والنواهي الأولى فيها الاتباع ...لقوله تعالى وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه ....فلو انتبهنا نجد أن ديننا كله امر ونهي ....
    وأخيرا اثمن بحثك في نقد ابن خلدون واعلم انك ايظا بحثك ينتقد ....ان الله جعل فوق كل ذي علم عليم ..ابارك جهودك
    واحثك على المتابعه في إظهار ماغفل عنه السابقون ..
    ولكم مني جل الاحترام

  10. #10
    مشرف عام مجلس السادة الاشراف - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف قاسم بن محمد السعدي
    تاريخ التسجيل
    02-02-2010
    العمر
    55
    المشاركات
    10,743

    افتراضي

    موضوع قيم ورائع
    جزاكم الله خيرا

  11. #11
    مشرف عام مجلس السادة الاشراف - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    25-01-2010
    العمر
    47
    المشاركات
    204

    افتراضي

    ابن خلدون بشر يصيب ويخطيء

    لكن علمه طيب

    ومقدمته معلومة

  12. #12

    افتراضي

    بارك الله فيكم

  13. #13

    افتراضي

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

  14. #14

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ملخص كتاب أخطاء ابن خلدون في (المقدمة) للدكتور خالد كبير علال
    بواسطة أبو مروان في المنتدى الصالون الفكري العربي
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 16-02-2016, 10:05 PM
  2. أخطاء ابن خلدون
    بواسطة يحي الحساني الجعفري في المنتدى تراجم النسابين
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 15-12-2012, 12:19 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-12-2012, 09:44 PM
  4. ابن خلدون . علماء العرب . المؤرخ والفيلسوف
    بواسطة ابن خلدون في المنتدى موسوعة التراجم الكبرى
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-12-2012, 10:06 PM
  5. «الرشتة» الجزائرية.. ذكرها المؤرخ والعالم العربي الشهير ابن خلدون
    بواسطة زمرده في المنتدى مجلس المطبخ و التدبير المنزلي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-08-2011, 12:32 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum