ألعقـــل والعلـــم

** كرّم الله العقل وجعله مناط التكليف , ومدار العمل , فإذا لم يكن الانسان عاقلاً فلا تكليف عليه , وقد نص الفقهاء على أن المسلوب العقل لا تجب عليه الواجبات , وأن من دُهِش وسُلِب عقله فتصرّف .. لا يترتب على تصرفه أي آثار , فلو حلف طلاقاً في ساعة دهش أو كان مجنوناً فلا يقع يمينه , والصبي الذي لم يكتمل عقله لا يُلزم بأداء الفروض وإن كان يُعَوّد عليها .
** ومن القواعد الشرعية المقررة أن جناية العجماء جُبار , أي لا تُعاقب الدابة على ما تقوم به من جنايات , لأنها لا تعقل , وفي تكريم الله للعقل وردت الآيات الداعية إلى استعماله والتفكير بواسطته لأنه أداته .. قال تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب } " آل عمران : 190 " أي لِعبر لأولي العقول الذين يتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار , وقال سبحانه { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمّى } " الروم : 8 " , وقال سبحانه { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا } " سبأ : 46 " , ونجد أن القرآن الكريم يدعو دائما الى الفكر واستعمال العقل للإيمان بالله , واستكشاف ما في الكون من آثار خلق الله ونظامه البديع , قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } " فصلت : 53 " , وقال { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } " محمد : 24 " , وكثيرا ما يختم الآيات الى بالدعوة الى التفكر { أفلا يعقلون } " يس : 68 " , { أفلا يبصرون } " السجدة : 27 " , { لعلّهم يتفكرون } " الاعراف : 176 " , وقد ورد في الحديث الشريف الدعوة الى التفكر قال – صلى الله عليه وسلم - : - ( تفكر ساعة خير من قيام ليلة ) وقال ( تفكر ساعة أفضل من عبادة سنة ) وجاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قام الى قربة فتوضأ منها , ثم قام فبكى وهو قائم ثم اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى , ثم أتاه بلال بعدما أذن الفجر فلما رآه يبكي قال : لم تبكي يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر ؟ قال : - ( يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً وما لي لا أبكي وقد نزلت عليّ الليلة آية { إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } " آل عمران : 190 , 191 " ثم قال ( ويل لمن ىقرأها ولم يتفكر فيها ) وقد ورد في الحديث أيضا ( ان الله تبارك ونعالى ما خلق في الانسان اكرم من العقل ) .
** ولقد بلغ من تكريم المسلمين للعقل أن جعلوا القياس احد أدلّة الشرع للوصول الى معرفة الحكم الشرعي وهو " خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرا " ويدور القياس على توصل العقل الى علّة الحكم الشرعي الأصلي ليقيس عليه الفروع , وبالغ بعض فرق المعتزلة في تكريم العقل فجعلوا الحسن كل ما حسّنه العقل وجعلوا القبيح كل ما قبحه العقل وجعلوا الشرع دليلا على ما توصل اليه العقل السليم .
** ومما يتصل بالعقل ان الاسلام فتح للمسلمين ابواب المعرفة وحثهم على العمل والتعلم ودعاهم الى البحث والنظر فقال تعالى في فضل العلماء { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } " المجادلة : 11 " , وقال { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } " الزمر : 9 " , وطلب من المسلم ان يدعو ربه الى استزادة نعمه من اجل النعم فيقول { رب رزدني علما } " طه : 114 " , وحث النبي – عليه السلام – على طلب العلم فقال ( من سلك طريقا يطلب به علما سهّل الله له طريقا من طرق الجنة ) وقال ( اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ) وبين فضل العلماء والعلم بقوله ( ان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاًبما يصنع , وان العالم يستغفر له كل من في السموات والارض ) وقد ورد عن أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( من أحب ان ينظر الى عتقاء الله من النار فلينظر الى المتعلمين فوالذي نفس محمد بيده ما من متعلم يختلف الى باب العالم إلا كتب الله لكل حرف عبادة ) ومرّ – عليه الصلاة والسلام – بمجلسين , احدهما يذكرون الله , والآخر يتعلمون الفقه ويدعون الله ويرغبون اليه فقال : - ( كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من الاخر أما هؤلاء فيدعون الله ان شاء اعطاهم وان شاء منعهم زأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل وإنما بُعِثت معلماً ) .
** وقد علمنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ان دعوته تقوم على العلم والتبصر وتحث على التعقل والتثقف وان الجاهل لا حظ له في الاسلام , لأن الله جعل العلم حياة والجهل مواتاً , قال تعالى :- { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } " الانعام : 122 " , ولهذا توعد الاسلام من يقصر في تعليم العلم أو يكتمه قال تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } " البقرة : 159 " , وقال - عليه الصلاة والسلام - : - ( من كتم علما آتاه الله إياه ألجمه يوم القيامة بلجام من نار ) وقال ( ما بال أقوام لا يُفَقّهون جيرانهم ولا يُعَلّمونهم ولا يعظوهم ولا يأمرونهم ولا ينهوهم , وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفهمون ولا يتعظون , والله ليُعَلّمُنّ قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليَتَعَلّمُنّ قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو ليعاجلنهم الله بالعقوبة ) .
** فهل هناك أبلغ من هذه الدعوة الى العلم والتعلم ؟ وهل هناك أعظم من هذا التكريم للعلم والعلماء ؟ , وهو يوازي مداد العلماء بدم الشهداء كما ورد في الحديث الشريف , مما أثّر في نفوس المسلمين فأقبلوا على العلوم يتدارسونها ويحيون الليالي في كتابتها على اختلاف انواع هذه العلوم من شرعية وكونية ونظرية وتجريبية ومعرفة وغيرها , وهذا هو عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – يحدث عن نفسه أنه كان يتتبع الصحابة يأخذ عنهم أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي لم يسمعها حتى انه يقف على باب احدهم تسفيه الرمال في وقت الظهيرة ينتظر هذا الصحابي ان يستيقظ من نومة الظهر " القيلولة " ليأخذ عنه الحديث , وهذا ابو يوسف قاضي قضاة الرشيد – رحمه الله – يحدث انه كان يقطع سيل الكوفة الى نصفه ولا يخشي البلل او الغرق خشية ان يفوته مجلس من مجالس ابي حنيفة " رحمه الله " , وكم كان العلماء يصلون الليل بالنهار ويصلّون الصبح بوضوء العشاء وهم عاكفون على العلم يدرسون ويعلمون حتى اصبحوا مصادر خير ومنابر هدى .
** لما انتصر الرشيد " الخليفة العباسي " رحمه الله على الروم في معركة أنقرة قصر مطالبته على تعويض الخسائر على المسلمين تسليمه نفائس الكتب والمخطوطات التي لم تترجم الى العربية شرطا لوقف القتال ورفع الطعن عن كتائب الروم فاستبدل أسرى الكتائب ونفائس الرغائب بعلم الكتاب ونور العلم , ومثله فعل ابنه الخليفة المامون " رحمه الله " عندما انتصر على البيزنطيين فطلب من ميخائيل الثالث ملكهم تسليمه جميع المخطوطات اليونانية الخاصة بالفلسفة وقال " الكتب هي الاسلحة العقلية " .
** ولما أسر المسلمون عددا من الصينيين من اهل سمرقند سنة " 751 م " خيرهم القائد بين استرقاق الأسر وبين تحريرهم وإطلاق سراحهم مقابل ان يعلموا المسلمين صناعة الورق ففعلوا ذلك وانتشرت بذلك صناعة الورق .
** وما لنا نذهب بعيدا والرسول عليه الصلاة والسلام يجعل من فداء أسرى بدر ان يعلم كل أسير عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ,ولأمر ما كانت أول آية من آيات القرآن الكريم نزولا قوله تعالى { اقرأ باسم ربك الذي خلق } " العلق : 1 " , دعوة العلم والقراءة والتفكر , ولا عجب فان العلماء هم الذين يدركون وجود الله وأسرار الخلق ويعلمون عظمة المولى وعظمة ما أبدع { إنما يخشى الله من عباده العلماء } " فاطر : 28 " .
** وكل علم يعود على المسلمين بالنفع هو علم مطلوب شرعاً وان كان أعلاها تعلم الحلال والحرام , فعلم الطب والهندسة والكيمياء والجغرافية والصناعات جميعا وغيرها علوم واجب تعلمها على الكفاية , قال ابو حامد الغزالي " ان تعلم علوم الصناعات وكل ما ينهض بشؤون الحياة من فروض الكفايات حتى تكفي الأمة حاجياتها من جميع ما تحتاج اليه " .
** هذه منزلة العقل , تفكر في عبادة الله , وتفكر فيما يعود على أمتك بالخير والنفع , وهذه منزلة العلم والعلماء , فاحرص على ان تكون عالما أو متعلما كما قال عليه الصلاة والسلام : - ( اغدُ عالماً او متعلماً ولا خير فيما سواهما ) .. وقل كما قال العالم ...

--- إذا طلعت عليّ شمس يوم لم أستفد فيه علماً فلا بارك الله لي في ذلك اليوم ---

وهبكم الله عقولا متفتحة لتغدوا نفوسا مفلحة



Hgurg ,hgugl