النتائج 1 إلى 13 من 13

الموضوع: دروس في مصادر التاريخ العربى القديم

التاريخ العربي القديم. أولًا: المصادر الأثرية. منذ قرن واحد من الزمان، كانت معلوماتنا عن تاريخ بلاد العرب قبل الإسلام، تعتمد فقط على ما جاء في التوراة، وعلى ما كتبه القدامى

  1. #1
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي دروس في مصادر التاريخ العربى القديم

    التاريخ العربي القديم.
    أولًا: المصادر الأثرية.
    منذ قرن واحد من الزمان، كانت معلوماتنا عن تاريخ بلاد العرب قبل الإسلام، تعتمد فقط على ما جاء في التوراة، وعلى ما كتبه القدامى من الأغارقة والرومان، وكان هذا كله شيئًا قليلا لا يشفي غليل العلماء، حتى لو أضفنا إليه بعض ما كتبه العرب عن تاريخهم قبل الإسلام، أو ما نستطيع أن نحصل عليه من معلومات إذا درسنا الشعر الجاهلي، إلا أن الأمر سرعان ما بدأ يتغير عندما أخذت النقوش اليمنية طريقها إلى أيدي العلماء، وقد أصبح عددها الآن أكثر من خمسة آلاف نقش، فيها الكثير من المعلومات عن ممالك شبه الجزيرة العربية، كما وصل إلى أيدي العلماء كذلك عشرات الآلاف من "المخربشات" القصيرة على واجهات الصخور في شمال بلاد العرب، بين ثمودية ولحيانية وسبئية وغيرها1، فضلا عن تلك التي وجدت خارج شبه الجزيرة العربية كالنقوش الصفوية التي وجدت فوق جبال الصفا جنوب شرق دمشق، وهي قريبة -من حيث الخط واللغة وأسماء الآلهة- من النقوش الثمودية2.
    أضف إلى ذلك، تلك النقوش والكتابات غير العربية التي تطرقت إلى ذكر العرب، كما في بعض النقوش الآشورية والبابلية، والتي قدمت لنا معلومات قيمة عن بلاد العرب الشمالية، وعن علاقاتها بالإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، كما عرفنا من هذه النقوش -مثلا- أن المرأة العربية قد وصلت منذ القرن الثامن قبل الميلاد إلى منصب رئيس الدولة، كالملكة "زبيبة" والملكة "شمس" والملكة "تعلخونو" وغيرهن1.
    والأمر كذلك بالنسبة إلى النقوش المعينية أو السبئية في مصر أو في الحبشة، فضلا عن النقوش النبطية التي اكتشفت في بعض جزر اليونان، والتي تدل على المدى البعيد الذي بلغه أصحابها في النشاط التجاري والبحري، ومن هذا النوع ذلك النقش الذي اكتشف عام 1936م في جزيرة "كوس" ببحر إيجه، فضلا عن نقشين نبطيين وجدا بالقرب من "نابولي"، إلى جانب نقش ثالث وجد في "روما"2.
    وهكذا أصبح لدينا الآن ما يساعدنا في تقديم صورة واضحة إلى حد ما، عما كان جاريًا في تلك البلاد منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وحتى ظهور الإسلام، أي مدى ألف وخمسمائة سنة، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أو الدينية أو الاقتصادية3.
    وهكذا تظهر لنا أهمية الآثار في دراسة التاريخ والحضارة، بل لعلها من أهم -إن لم تكن أهم- ما يجب أن يعتمد عليه المؤرخ في دراسته، فهي الشاهد الناطق الوحيد الباقي لنا من تلك الأيام الخوالي، ومن هنا كانت أهميتها في تقديم صورة للحياة العامة في كل مناحيها المختلفة، فمثلا عن طريق الكتابات المعينية الشمالية التي وجدت في "العلا" استطعنا أن نعرف منها أن المعينيين الشماليين كانوا يستخدمون الكتابة والديانة المعينية التي عرفها المعينيون الجنوبيون، واستخدموها في وطنهم الأصلي1.


    هذا وقد عرفنا عن طريق الوثائق الصفوية أن الصفويين هم وحدهم الذين نعرف عنهم شيئًا قبل أن يمتزجوا في الشعوب السامية الشمالية، إذ ظلوا محتفظين بالخط السامي الجنوبي واللغة السامية الجنوبية والعقائد السامية الجنوبية1 بل استطعنا أن نعرف عن طريق الجعارين المصرية، والأختام الساسانية، التي وجدت طريقها إلى بلاد العرب الجنوبية، أن نستنتج أن التبادل بين بلاد العرب الجنوبية وبين البلاد الأخرى، لم يكن مقصورًا على التجارة فحسب، بل تعداها إلى الفنون كذلك، وقد تركت هذه الفنون الأجنبية أثرها في الفن العربي الجنوبي2.
    على أنه يجب أن نلاحظ أن في هذه المصادر الأثرية نقاط ضعف كثيرة، منها "أولًا" أنها في معظمها تتشابه في مضمونها وفي إنشائها، لأنها تتعلق بأمور شخصية، كإنشاء بيت أو بناء معبد أو إقامة سور، ومن ثم فقد كانت أهميتها لغوية أكثر منها تاريخية، ولكنها في الوقت نفسه، قد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، لولاها لما عرفنا عنهم شيئًا، كما قدمت لنا بعض المعلومات عن العلاقة بين القبائل بعضها بالبعض الآخر، ومن هذا النوع نقش Cih.1450"" والذي يتحدث عن حرب دارت رحاها بين قبائل حاشد وحمير في مدينة "ناعط"3.
    ومنها "ثانيًا" أن معظمها قد وجد في المعابد والقبور، ومن ثم فهي ذات صبغة دينية، ومنها "ثالثًا" أن النصوص اللحيانية عبارة عن "مخربشات" صغيرة، وبعضها -كما في النصوص المعينية الشمالية- ليست نقوشًا كاملة، وإنما هي أجزاء من نقوش، ذلك لأن معظم الأحجار التي دونت عليها النقوش إنما وجدت في غير أماكنها الأصلية، وقد استخدمها القوم أخيرًا كمواد للبناء، ومن ثم فقد وجدت في جدران المنازل وأسوار الحدائق في مدينة "العلاء"، وانطلاقًا من هذا، فإن الفائدة منها جد قليلة، كما أن قلة من العلماء هي التي كانت قادرة على ترجمتها، ومع ذلك فقد أفادتنا في معرفة أسماء بعض الآلهة4.
    ومنها "رابعًا" أن الكتابات المؤرخة منها قليلة، ومن ثم فلم تهدنا إلى تقويم
    ثابت يمكن القول أن العرب القدامى إنما كانوا يستعملونه، وطبقًا لهذا اتجه الباحثون إلى أن العرب إنما كانوا -كغيرهم من الشعوب القديمة- يؤرخون الأحداث طبقًا لسني حكم الملوك، بل إن القوم قد تجاوزوا ذلك إلى التأريخ بأيام الرؤساء وشيوخ القبائل وأرباب الأسر، بل إن البعض منهم قد أهمل التاريخ تمامًا، وإن كان الحميريون قد اتخذوا من قيام دولتهم في عام 115 قبل الميلاد "وربما عام 118ق. م أو عام 109ق. م"، تقويمًا ثابتًا يؤرخون به الأحداث1.
    هذا وقد أشار "المسعودي" إلى أن العرب قبل الإسلام إنما كانوا يؤرخون بتواريخ كثيرة، فأما "حمير" و"كهلان" أبناء سبأ، فقد كانوا يؤرخون بملوكهم، أو بما يقع لهم من أحداث جسيمة، فيما يظنون، كنار صوان التي كانت تظهر في بعض الحرار بأقاصي اليمن، وكالحروب التي كانت تنشب بين القبائل والأمم، فضلا عن التأريخ بأيامهم المشهورة, وكذا بوفاة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كما كانت قريش تؤرخ عند مبعث المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- بوفاة هشام بن المغيرة وبعام الفيل2، ويذهب الطبري إلى أن العرب لم تكن تؤرخ بشيء محدد قبل الإسلام، غير أن قريشًا إنما كانت تؤرخ بعام الفيل، بينما كان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المشهورة، كيوم جبلة والكلاب الأول والثاني3.

    منقووووووول


    ]v,s td lwh]v hgjhvdo hguvfn hgr]dl

    التعديل الأخير تم بواسطة ابراهيم العثماني ; 26-08-2015 الساعة 12:57 PM

  2. #2
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    ثانياً المصادر غير العربية
    أولًا: الكتابات اليهودية.
    1- التوراة:
    أو "التورة" كلمة عبرية تعني الهداية والإرشاد، ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى "التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية" والتي تنسب إلى موسى -عليه السلام- وهي جزء من العهد القديم، والذي يطلق عليه تجاوزًا اسم "التوراة" من باب إطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى، والتوراة، أو العهد القديم -تمييزًا له عن العهد الجديد كتاب المسيحيين المقدس- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم وشرائعهم، ويقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس والأنبياء والكتابات"1.
    هذا وقد تحدثت التوراة في كثير من أسفارها عن العرب وعلاقتهم بالإسرائيليين، كما جاء في أسفار التكوين والخروج والعدد ويشوع والقضاة وصموئيل -الأول والثاني- والملوك -الأول والثاني- وأخبار الأيام -الأول والثاني- ونحميا والمزامير وأشعياء وإرمياء وحزقيال ودانيال والمكابيين-الأول والثاني-.
    غير أن التوراة عندما تتحدث عن العرب، فإنما تهتم بالقبائل والأماكن العربية ذات العلاقة الاقتصادية باليهود في بعض الأحيان، وذات العلاقة السياسية في أحوال أُخَر، ولهذا نجدها عندما تتحدث عن القبائل في شبه الجزيرة العربية، فإنما تتحدث عنها على أساس أنها قبائل كانت لها علاقة بالعبرانيين، ثم هي قبائل متبدية في المكان الأول، إلا عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر2.
    وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات1.
    ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك2. 2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:
    ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نال تقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني1.
    وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م.
    وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط2. ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان
    وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية1.
    على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم2، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين3. ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"، فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف1.
    وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو"2.
    وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3.
    وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "4Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة1.
    وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده2، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه3 وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60"4 على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر،5 وفي عام 80م على رأي ثالث6، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس7.
    وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت8.
    ثالثًا: الكتابات المسيحية.
    وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية1.
    ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"2، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية3.
    وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية1.
    هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب2، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني3، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس4.
    عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر2.
    وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات1.
    ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك2. 2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:
    ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نال تقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني1.
    وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م.
    وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط2. ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان
    وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية1.
    على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم2، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين3. ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"، فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف1.
    وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو"2.
    وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3.
    وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "4Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة1.
    وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده2، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه3 وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60"4 على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر،5 وفي عام 80م على رأي ثالث6، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس7.
    وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت8. ثالثًا: الكتابات المسيحية.
    وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية1.
    ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"2، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية3.
    وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية1.
    هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب2، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني3، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس4.

    منقووووووول
    وله بقية

  3. #3
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    نقل طيب ... وننتظر البقية ... ولنا عودة بحول الله
    سلمت يداك ورحم الله والديك

  4. #4
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    ويداك أستاذي ورحم الله والديك
    اشكر لك كريم مرورك

  5. #5
    مشرف عام مجالس التاريخ وكنانة - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    05-02-2010
    الدولة
    الحجاز
    المشاركات
    1,327

    افتراضي

    أخي الحبيب إبراهيم جزاك الله خيرا على هذا الموضوع الجميل.

  6. #6
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    سلمك الله اخي اكياد
    اشكر لك كريم مرورك

  7. #7
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    نحن في الانتظار ...
    تابع هذا النقل المميّز ... رحم الله والديك

  8. #8
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    ثالثًا: المصادر العربية.
    1- القرآن الكريم:
    القرآن الكريم كتاب الله1، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2، نزل على مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- منجما في ثلاث وعشرين سنة3، حسب الحوادث ومقتضى الحال4، وكانت الآيات والسور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعها في مكان كذا ... من سورة كذا"، فقد ورد أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي، فيقول له: يا محمد: إن الله يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا"، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن "توقيفي" بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنما هو بأمر ووحي من الله1".
    وهكذا تمر الأيام بالرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وهو على هذا العهد، يأتيه الوحي نجمًا بعد نجم، كتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية، حتى إذا ما كمل التنزيل، وانتقل الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، كان القرآن كله مسجلا في صحف، -وإن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، ولم يلزموا القراء توالي سورها- وكذا في صدور الحفاظ من الصحابة، رضوان الله عليهم2، هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار، والذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت.
    ومن هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- لا يحصون، وتلك -وايم الله- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم، حين يسره للحفظ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} 3، فكتب له الخلود وحماه من التحريف والتبديل، وصانه من أن يتطرق الضياع إلى شيء منه، عن طريق حفظه في السطور، وحفظه في الصدور4، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5 وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 6، وقوله
    تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1.
    وليس هناك من شك في أن القرآن الكريم، كمصدر تاريخي، أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق، فهو موثوق السند -كما بينا آنفًا- ثم هو قبل ذلك وبعده كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه2 بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، فقد دون في البداية بإملاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتلي فيما بعد أمامه وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته3، ولأن القصص القرآني إنما هو أنباء وأحداث تاريخية، لم تلتبس بشيء من الخيال، ولم يدخل عليها شيء غير الواقع4، ثم إن الله -سبحانه وتعالى -قد تعهد- كما أشرنا آنفًا- بحفظه دون تحريف أو تبديل، ومن ثم فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: "والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله"، أي بما طلب إليهم حفظه5.
    غير أني أود أن أنبه -بعد أن أستغفر الله العظيم كثيرًا- إلى أن القرآن الكريم لم ينزل كتابًا في التاريخ، يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد للتي هي أقوم، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستورًا للمسلمين، ومنهاجًا يسيرون عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد، وإلى تهذيب النفوس، وإلى وضع مبادئ للأخلاق، وميزان للعدالة في الحكم، واستنباط لبعض الأحكام، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية، فإنما للعبرة والعظة6.
    إلا أن القرآن الكريم -مع ذلك- إنما يقدم لنا معلومات مهمة عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، كما أننا نجد في كتاب الله الكريم سورة كاملة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام -وأعني بها سورة سبأ- هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد -دون غيره من الكتب السماوية- بذكر أقوام عربية بادت، كقوم عاد1 وثمود2، فضلا عن قصة أصحاب الكهف3 وسيل العرم4، وقصة أصحاب الأخدود5، إلى جانب قصة أصحاب الفيل6، وهجرة الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك7.
    على أنه يجب علينا أن نلاحظ أنه رغم أن هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ لهذا القصص، وإنما عبرًا تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين، ومع ذلك فيجب أن لا يغيب عن بالنا -دائمًا وأبدًا- أن هذا القصص، إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} 8، ويقول: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} 9 ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 10، ويقول: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} 11، ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} 12 ويقول: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} 13.

    2- الحديث:
    الحديث هو ما ورد عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول أو فعل أو تقرير1، وللحديث مكانة كبرى في الدين تلي مرتبة القرآن الكريم مباشرة، وصدق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي" 2، والحديث الشريف مفسر للقرآن الكريم، ذلك أن كثيرًا من آيات الذكر الحكيم مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- فبينها أو قيدها أو خصصها3، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5، ومن هنا كان الحديث الشريف هو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، ثم هو أصدق المصادر التاريخية- بعد القرآن الكريم- لمعرفة التاريخ العربي القديم في عصوره القريبة من الإسلام بالذات6.
    وليس من شك في أن كتب الحديث7 وشروحها- رغم أنها مصدر فقهي أكثر منه تاريخي8 -مورد غني من الموارد الأساسية لتدوين أخبار الجاهلية فيما قبيل الإسلام، على أن الغريب من الأمر أن مؤرخي تلك الفترة قد تجاهلوا هذا المنهل الغزير، وبخاصة فيما يتصل بتاريخ عرب الحجاز، إلى حد كبير، ومن ثم فقد خسروا واحدًا من أهم وأصدق مصادر التاريخ العربي القديم.
    3- التفسير:
    نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى أساليب العرب وكلامهم1، يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2، وهذا أمر طبيعي لأنه أتى يدعو العرب -بادئ ذي بدء- ثم الناس كافة، إلى الإسلام، ومن ثم فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها3: تصديقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 4.
    ورغم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي، وفي بيئة عربية كانت تفاخر من نواحي الحضارة بفن القول، فإنه لم يكن كله في متناول الصحابة جميعًا، يستطيعون أن يفهموه -إجمالا وتفصيلا- بمجرد أن يسمعوه، لأن العرب- كما يقول ابن قتيبة5- لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض.
    إلا أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الصحابة على العموم كانوا أقدر الناس على فهم القرآن، لأنه نزل بلغتهم، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها، ومع ذلك فقد اختلفوا في الفهم حسب اختلافهم في أدوات الفهم، وذلك لأسباب، منها "أولًا" أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم، وإن كانت العربية لغتهم، ومنها "ثانيًا" أن منهم من كان يلازم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ويقيم بجانبه، ويشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، ومنهم من ليس كذلك، ومنها "ثالثًا" اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في الجاهلية، استطاع أن يعرف آيات الحج في القرآن الكريم، أكثر من غيره ممن لم يعرف6.
    وهكذا نشأ علم التفسير لفهم القرآن وتدبره، ولتبيان ما أوجز فيه، أو ما أشير إليه إشارات غامضة، أو لما غمض علينا من تشابيهه واستعاراته، وألفاظه أو لشرح أحكامه1، وقد نشأ علم التفسير هذا في عصر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فكان النبي أول المفسرين له، ثم تابعه أصحابه من بعده2، على أساس أنهم الواقفون على أسراره، المهتدون بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام3- ولعل أشهر المفسرين من الصحابة الإمام علي- كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود4.
    وفي عصر التابعين تضخم التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات، لسبب أو لآخر5 مما دفع الإمام أحمد بن حنبل إلى أن يقول كلمته المشهورة: "ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي" أي ليس لها إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل6، وإلى أن يقول الإمام ابن تيمية: "والموضوعات في كتب التفسير كثيرة"7.
    ومع ذلك، ورغم هذه الشوائب، فالذي لا شك فيه أن كتب التفسير تحتوي على ثروة تاريخية قيمة، تفيد المؤرخ في تدوين التاريخ العربي القديم، وتشرح ما جاء مجملا في القرآن العظيم، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت عصر الإسلام، وتحكي ما سمعوه عن القبائل العربية البائدة، التي ذكرت على وجه الإجمال في القرآن الكريم، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات8.
    وتعتبر هذه الكتب من المصادر المساعدة في التاريخ العربي القديم؛ ذلك لأن كُتاب السير والمغازي إنما كانوا يعرضون لذكر العرب الجاهليين والأنبياء السابقين، ويفصلون القول في نسب الرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وفي أخبار مكة وقريش، ومن يتصل بهما من أفراد وقبائل، كما كانت هذه الكتب تشتمل على الكثير من الشعر الجاهلي الذي كان يستخدمه كتاب السير والمغازي في الاستشهاد على ما يكتبون أو يتحدثون عنه1.
    ولعل أشهر كتب سيرة مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- هو كتاب ابن هشام، وهو أول كتاب عربي وصل إلينا يؤرخ لسيرة نبي الإسلام الأعظم- وكذا لتاريخ العرب قبل الإسلام- وقد اعتمد صاحبه "أبو محمد عبد الله بن هشام، المتوفى "213/ 828 أو 218/ 834"، على الرواية الشفوية، فضلا عن كتب ضاعت، لعل أهمها كتاب "ابن إسحاق" "م150/ 151، 767/ 768"، الذي كان أول من ألف في سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بناء على طلب الخليفة العباسي المنصور "754-775م"، - واستحق بذلك تسمية ابن خلدون له "بالأستاذ"، إلا أن هناك من سبقه في التأليف في المغازي، من أمثال "عروة بن الزبير" "م124/ 742" و"شرحبيل بن سعد"، وهناك كذلك الواقدي "130/ 747 - 206/ 821 أو 207/ 823" ومحمد بن سعد، صاحب "الطبقات الكبرى" "م230/ 845"، والذي أخذ كثيرًا عن الواقدي حتى حتى كان يسمى أحيانًا بكاتب الواقدي.

    5- الأدب الجاهلي:
    ليس هناك من شك في أن أيام العرب في الجاهلية تعتبر مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ، وينبوعًا صافيًا من ينابيع الأدب ونوعًا طريفًا من أنواع القصص، بما اشتملت عليه من الوقائع والأحداث، وما روي في أثنائها من شعر ونثر وما اشتملت عليه من مأثور الحكم وبارع الحيل، ومصطفى القول، ورائع الكلام، فهي توضح شيئًا من الصلات التي كانت قائمة بين العرب وغيرهم من الأمم كالفرس والروم، وتروي كثيرًا مما كان يقع بين العرب أنفسهم من خلاف، بل إنها سبيل لفهم ما وقع بين العرب بعد الإسلام من حروب شجرت بين القبائل، ووقائع كانت بين البطون والأفخاذ والعشائر.
    ثم هي في أسلوبها القصصي وبيانها الفني مرآة صادقة لأحوال العرب وعاداتهم وأسلوب حياتهم، وشأنهم في الحرب والسلم، والاجتماع والفرقة، والفداء والأسر، والنجعة والاستقرار، وهي أيضًا مرآة صافية تظهر فيها فضائلهم وشيمهم، كالدفاع عن الحريم والوفاء بالعهد، والانتصار للعشيرة وحماية الجار، والصبر في القتال والصدق عند اللقاء، وغير هذا مما نراه واضحًا في تلك الأيام1.
    ولو نظرت إلى الشعر الجاهلي في جملته وتفصيله، وبخاصة ما كان في الفخر والحماسة، والرثاء والهجاء، فإنك تجده قد ارتبط بتلك الأيام، فبينما كان الفوارس يناضلون بسيوفهم ورماحهم، ويجودون بنفوسهم رخيصة في سبيل أقوامهم، كان الشعراء من ورائهم يدفعون عن الأحساب بقصيدهم، ويطلقون ألسنتهم في خصومهم وأعدائهم، ويندبون بقوافيهم صرعاهم، والقتلى من أشرافهم وزعمائهم.
    ترى ذلك في شعر الأعشى وعنترة وابن حلزة وعامر بن الطفيل وقيس بن الأسلت وقيس بن الحطيم، وعبد يغوث ومهلهل بن ربيعة والخنساء وصخر ومعاوية ابني عمرو وحسان بن ثابت، وغيرهم ممن ظهر أثر الأيام في شعرهم من قريب أو بعيد2. والشعر الجاهلي دون شك مصدر من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام، وقديمًا قالوا: "إن الشعر ديوان العرب" يعنون بذلك أنه سجلٌ سُجِلَتْ فيه أخلاقهم وعاداتهم ودياناتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل إنهم سجلوا فيه أنفسهم، كما نستطيع أن نستدل به على شبه جزيرة العرب، وما فيها من بلاد وجبال ووديان وسهول ونبات وحيوان، فضلا عن عقيدة القوم في الجن وفي الأصنام وفي الخرافات1.
    وهكذا يروي ابن سيرين عن الفاروق عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه- قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"2 وقريب من هذا ما يروى عن "عكرمة" -تلميذ ابن عباس ومولاه- أنه ما سمع ابن عباس يفسر آية من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، إلا ونزع فيها بيتًا من الشعر، وأنه كان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغريب حديث صحابته والتابعين3.
    ومن ثم فقد أصبحت كتب الأدب من المصادر المهمة في التاريخ العربي القديم، ففيها ثروة أدبية قيمة، قد لا نجد لها مثيلا في كتب التاريخ، وإن ما جاء بها عن ملوك الحيرة والغساسنة وكندة، أكثر مما جاء في كتب التاريخ، بل هو أحسن منه عرضًا وصفاءً، وأكثر منه دقة، ويدل عرضه بالأسلوب الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عربية خالصة، لم يعكر صفوها شوائب من إسرائيليات ونصرانيات، فضلا عن أنه قد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه، بل نستطيع أن نذهب بعيدًا، فنقول أن كثيرًا من الأخبار ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسبتها، في أن حين أخبارًا خلقت خلقًا لأن ما قيل فيها من شعر كان سببًا في بقائها، ومن ثم فقد أصبح الشعر سببًا في تخليد الأخبار، لسهولة حفظه، ولاضطرار رواته إلى قص المناسبة التي قيل فيها4.

    على أن للأدب -كمصدر تاريخي- عيوبًا، منها "أولًا" أنه لا يرجع إلى أكثر من عصر الجاهلية، وهو جزء من عصر ما قبل الإسلام، يقدر له زمنًا يتراوح بين قرن ونصف، وقرنين ونصف قبل ظهور الإسلام مباشرة، بينما يقدر العلماء لعصور ما قبل الإسلام مدة ربما تتجاوز العشرين قرنًا، تمتد من حوالي 1500ق. م، إلى عام 610م1.
    ومنها "ثانيًا" أن أكثر ما روي لنا منه إنما قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون إليها نظرة الأديب، لا نظرة المؤرخ، فالقصيد التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها، ولم يصح وزنها، قد يعجب بها المؤرخ، أكثر من إعجابه بالقصة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية، أكثر من قصيدة راقية2، ومنها "ثالثًا" أن الشعر الجاهلي لا يتحدث عن التاريخ السياسي، بقدر ما يتحدث عن التاريخ الديني والاجتماعي.
    ومنها "رابعًا" أن الشعر الجاهلي قد تعرض للضياع بتركه يتناقل على ألسنة الرواة شفاها نحو قرنين من الزمان، إلى أن دون في تاريخ متأخر3، حتى أن "أبا عمرو بن العلاء" يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير4.
    ومنها "خامسًا" أن معظم ما وصلنا من الشعر الجاهلي، إنما كان من عمل البدو، وليس من عمل الحضر، ومن ثم فهو يمثل البادية أكثر ما يمثل الحاضرة5، ومنها "سادسًا" أن هناك مجالا للظن -على خلاف الشائع- أن العلماء قد خففوا -مدفوعين بالعامل الديني- من الطابع الوثني في بعض القصائد، كما أن الإفراط في الحرص على صحة اللغة وصفائها في أوساط البصرة قد أدى إلى إجراء بعض التصحيحات في الآثار المروية6.
    ومنها "سابعًا" أنه حتى هذا الشعر القليل الذي وصل إلينا توجه إليه سهام الريب من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنه يرقى إلى ما فوق مظان الشبهات، ذلك
    أن كثيرًا من الرواة قد تجرأ عليه بالنحل، إما بنقل شيء من قائل إلى قائل، وأما بوضع شيء منه على ألسنة الشعراء1.
    ذلك أنه في عام 1864م تناول "تيودور نولدكه" الموضوع لأول مرة، مشيرا إلى الشكوك التي يثيرها مظهر الشعر الجاهلي، وفي عام 1872م عاد "إهلوارد" إلى الموضوع مرة أخرى، دون تجديد فيه، وإن عرضه بدقة لم يتوصل إليها سلفه، خرج منها إلى أن عددًا قليلا من القصائد هو الصحيح، وأما غالبيتها فالشك فيها محتوم لا مناص منه، ثم جاء بعد ذلك "موير" و"باسيه" و"ليال" و"بروكلمان" فوافقوا على آراء "نولدكه" و"إهلوارد"، وإن زاد الشك كثيرًا عن كليمان هوارت"2.
    وفي عام 1925م، جاء "مرجليوث" وأصدر بحثًا له تحت عنوان "أصول الشعر العربي"، رجَّح فيه أن هذا الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي، إنما هو من نتاج العصور الإسلامية، ثم نحله الوضاعون لشعراء جاهليين3، وتابع "ليفي ديلا فيدا" مرجليوث في دعواه، وذهب إلى أن العرب حينما نسوا في القرن الثاني والثالث بعد الهجرة، ما كانوا يذكرونه عن التاريخ الجاهلي، حاول اللغويون والإخباريون أن يملئوا الفجوات، فزيفوا ما لم يجدوه في الوثائق الحقيقية4، ومن ثم فقد رأى هذا الفريق من المستشرقين أن الأدب التاريخي العربي، ليس أوثق من القصص التاريخي، وأن أكثر الشعر موضوع، وبالتالي فليس من المستطاع اتخاذهما أساسًا نبني عليه فهمًا صحيحًا لما كان يحدث في بلاد العرب في العصر الجاهلي5.
    وأما الأدباء العرب، فلعل أسبقهم في هذا المجال إنما هو "الرافعي" في كتابه
    "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في عام 1911م، ثم جاء الدكتور طه حسين، وذهب إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا، ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين، وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين1، وأن هذا الشعر الذي ينسب إلى "امرئ القيس" أو إلى "الأعشى" أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن أن يكون من الوجهة اللغوية والفنية لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل أو أذيع قبل نزول القرآن الكريم2.
    وعلى أي حال، فإن قضية الشعر الجاهلي قضية معروفة في جميع كتب الأدب القديم، وأن القدامى قد سبقوا المحدثين إلى القول بأن كثيرًا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، يروي "ابن الجمحي" أن أول من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، إنما هو "حماد الراوية" "م155/ 772"، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار3، وأن تلميذه "خلف الأحمر" قد سار على منواله4، وربما كان السبب فيما فعلاه- حماد5 وخلف- حرص الأعاجم مثلهما، على إظهار مقدرتهم أمام العرب في نظم قصائد ومقطوعات تفوق في أصالتها تلك التي ارتجلها الجاهليون، وهكذا يبدو من صنيع الرجلين مبلغ الشك في عملية جمع النصوص الشعرية6.
    على أن الأستاذ العقاد، إنما ينكر التزييف تمامًا، ويرى أنه ما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق، إذ معنى ذلك "أولًا" أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها، امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية، ومعنى ذلك "ثانيًا" أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزِل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد مناسباته النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه، ومعنى ذلك "ثالثًا" أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلا عن إساغته بغير برهان، ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين، وأن تصديق النقائض الجاهلية جميعًا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال1.
    هذا فضلا عن أن هناك إشارات إلى جمع قديم للشعر، فهناك رواية حماد التي تذهب إلى أن ملك الحيرة "النعمان بن المنذر" قد أمر فنسخت له أشعار العرب، وأن "المختار بن أبي عبيد الثقفي" قد اكتشفها في قصر النعمان2، وأن "الفرزدق" كان يملك ديوان الشاعر، "زهير بن أبي سلمى"3.
    ومع ذلك، فإن هناك وجهًا آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون ممثلا للحياة العقلية الجاهلية، متى كان المزيف عالمًا بفنون الشعر، خبيرًا بأساليبه4، ومن ثم فنحن نستطيع إذن أن نتقبل الشعر الجاهلي كله- الثابت والمشكوك فيه- على أنه من مصادر الحياة في الجاهلية، لأن الذين وضعوا ذلك القدر من الشعر الجاهلي قد حرصوا على أن يقلدوا خصائص الجاهليين اللغوية والمعنوية، واللفظية، وهكذا يظل هذا الشعر المنحول يدل على ما يدل عليه الشعر الثابت، من تصوير للحياة في بلاد العرب قبل الإسلام5.

    6- كتب اللغة:
    تعتبر كتب اللغة من مصادر الحياة في الجاهلية؛ ذلك لأن اللغة العربية التي نكتب بها وننظم إنما هي من نتاج العصر الجاهلي، فهي من أجل ذلك لا تزال تدل
    بمفرادتها على أوجه الحياة والحضارة الجاهلية، هذا فضلا عن أن القاموس العربي ليس للمفردات اللغوية فحسب، بل هو في الحقيقة يجمع المفردات اللغوية والمعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية والفنية، ومن ثم فقد كانت كتب اللغة -ومعاجمها بصفة خاصة- مصادر مهمة للحياة في الجاهلية1.
    وربما كان من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أنه ربما لم تظفر لغة من اللغات بما ظفرت به اللغة العربية من ثراء في المعاجم وتنوع في مناهجها وطرق تبويبها، وأما قواميس العرب، فلعل أهمها، القاموس المحيط للفيروزآبادي، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للمرتضى الزبيدي، والصحاح للجوهري2.
    7- كتب التاريخ والجغرافية:
    لعل من الأمور الغريبة أن المؤرخين الإسلاميين قد انصرفوا عن تدوين التاريخ الجاهلي -ولا سيما القديم منه- وحين فعلوا لم تكن كتاباتهم إلا مقدمات لتواريخهم المفصلة والدقيقة للعصر الإسلامي، وحتى هذه المقدمات لم تكن مفصلة ولا دقيقة1، ذلك لأنهم لم يعتمدوا فيها على سند مدون، أو يأخذوها من نص مكتوب، وإنما كان عمادهم في ذلك أفواه الرجال، وهو أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، ذلك أن رواة الأخبار، حتى إن كانوا بعيدين عن الميول والأهواء، وحتى إن كانوا من أصحاب الملكات التي تستطيع التمييز بين الغث والسمين، فإن للذاكرة آمادًا لا تستطيع تجاوزها.
    لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا عن المباني القديمة وعن جن سليمان وأسلحته، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة، وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرًا إلى آدم، وزعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى إبليس، قالوا أنه نظمه في الرد على شعر آدم المذكور، وأنه أسمعه آدم بصوته دون أن يراه، ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذه القبيل يصعب تصديقها مما جعل تاريخهم
    -للأسف- أقرب إلى القصص الشعبي منه إلى التاريخ الصحيح1.
    كان مؤرخو العرب يعتمدون في تأريخهم للعصور السابقة على الإسلام على الأدب العربي وعلى بعض آثار اليمن، حيث كان هناك من يزعم -صدقًا أو كذبًا- أنه بمستطيع أن يقرأ خط المسند، هذا إلى جانب اعتمادهم كذلك على بعض كتابات النصارى التي وجدت في الأديرة والكنائس في العراق والشام، وعلى ما تلقفوه من أفواه اليهود في اليمن والحجاز وغيرها2، ومن أهم هذه الكتابات، كتاب أخبار اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي، والذي كتب في أخريات أيام معاوية بن أبي سفيان "41/ 60هـ-661/ 680م"، وكتاب التيجان في ملوك حمير لوهب بن منبه "م110/ 728" وكتاب الإكليل وصفة جزيرة العرب للهمداني "م340/ 951" وكتاب الأصنان لابن الكلبي "م204/ 819" وكتاب سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني3، وكتاب ملوك حمير وأقيال اليمن لنشوان بن سعيد الحميري "م573هـ"4.
    ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المتصفح لما كتبه ابن إسحاق "م150/ 767 أو 151/ 768" وابن هشام "م213/ 728 أو 218/ 834" في سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن قتيبة "م276/ 889" في "المعارف وفي عيون الأخبار وفي الشعر والشعراء وفي الإمامة والسياسة5"، والدينوري "م2828/ 895" في "الأخبار الطوال" واليعقوبي "م284/ 897" في "التاريخ الكبير" والطبري "م310/ 923" في "تاريخ الرسل والملوك"، وابن عبد ربه "م327/ 939" في "العقد الفريد"، والمسعودي "م345/ 956" في "مروج الذهب وفي التنبيه والإشراف وفي أخبار الزمان" و"ياق وت الحموي" "م 626/ 1229" في
    من أسمائهم -ليس من بينهم من يحمل هذه الأسماء، ولكنه الخلط وادعاء العلم، أضف إلى ذلك بأن الزعم بأن فرعون موسى، هو صاحب يوسف الثاني أمر غير مقبول، فمن المعروف تاريخيًّا أن الفترة ما بين دخول بني إسرائيل مصر على أيام الصديق، وخروجهم منها على أيام الكليم، عليهما السلام، حوالي 430 سنة1، فهل حكم هذا الملك المزعوم "قابوس بن مصعب" هذه القرون الأربعة، والتاريخ يحدثنا أن مصر لم تعرف الحكم الطويل لملوكها "إذا استثنينا ببي الثاني، وقد حكم 94 سنة، ورعمسيس الثاني، وقد حكم 67 سنة"، وفرق كبير بين حكم يقرب من القرن من الزمان، وحكم يقارب قرونًا أربعة، والأعجب من ذلك أن يجعل بعض المؤرخين الإسلاميين "آسية إمراة فرعون" حفيدة الريان مرة، ومن بني إسرائيل مرة أخرى.
    وهكذا يبدو بوضوح، أن الخلط من ناحية، والإسرائيليات من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا كبيرًا في مسخ بعض هذا التاريخ الذي كتبه المؤرخون الإسلاميون عن العصور التي سبقت الإسلام بآماد طويلة.
    ورغم ذلك كله -والحق يقال- فإن المؤرخين الإسلاميين قدموا لنا الكثير من المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لعصور ما قبل الإسلام، وأن كثيرًا منهم قد انتقدوا تلك المبالغات التي جاءت فيما كتب البعض منهم، كما أنه كثيرًا منهم كذلك قد نبهوا إلى الإسرائيليات والنصرانيات التي تسللت إلى التاريخ العربي القديم.

    منقووووووول
    وله بقية

  9. #9
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    جزاك الله الخير ...
    ونحن نتابع " وبنّهّم" وشوق واستمتاع .. وننتظر التالي !!
    بارك الله بك

  10. #10
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    : تاريخ البحث العلمي في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم
    ظل التاريخ العربي القديم -كما أشرنا من قبل- حتى أخريات القرن الثامن عشر الميلادي، يعتمد في الدرجة الأولى على ما جاء عنه في كتب اليهود واليونان والرومان، فضلا عن المصادر العربية بأنواعها المختلفة، إلى أن بدأ الأوربيون يهتمون في العصر الحديث ببلاد العرب، لأسباب كثيرة، منها الرغبة في معرفة ما كان يجري في مكة والمدينة، إذ ألهب ذلك الموضوع خيال الأوربيين، بخاصة وأن المدينتين المقدستين محرمتان على غير المسلمين1، ومنها الرغبة في السيطرة على تلك المنطقة بعد أن امتد نفوذ الغرب إلى الشرقين -الأقصى والأوسط- مما جعل دراسة هذه المنطقة ضرورة سياسية بالنسبة إلى أوربا، ومنها أن الأوربيين في أسفارهم إلى الهند -عن طريق البحر الأحمر ومصر- سمعوا ما يتناقله سكان شواطئ اليمن وحضرموت عن آثار الأبنية المدفونة في رمال تلك البقاع، وما عليها من كتابات لم يستطع العرب- ولا اليهود قراءتها2.
    وهكذا بدأ نفر من المستشرقين في طليعة القرن التاسع عشر الميلادي يتطلعون إلى ضرورة الاعتماد على مصادر أثرية، من كتابات ونقوش، توضح ما خفي من هذا التاريخ، كما دفعتهم الكتابات القصصية التي سجلها مؤرخو اليونان والرومان والعرب، وما حفلت به الكتب المقدسة عن ملكة سبأ وسليمان، إلى التفكير في الكشف عن التراث القديم لبلاد اليمن3.
    من أسمائهم -ليس من بينهم من يحمل هذه الأسماء، ولكنه الخلط وادعاء العلم، أضف إلى ذلك بأن الزعم بأن فرعون موسى، هو صاحب يوسف الثاني أمر غير مقبول، فمن المعروف تاريخيًّا أن الفترة ما بين دخول بني إسرائيل مصر على أيام الصديق، وخروجهم منها على أيام الكليم، عليهما السلام، حوالي 430 سنة1، فهل حكم هذا الملك المزعوم "قابوس بن مصعب" هذه القرون الأربعة، والتاريخ يحدثنا أن مصر لم تعرف الحكم الطويل لملوكها "إذا استثنينا ببي الثاني، وقد حكم 94 سنة، ورعمسيس الثاني، وقد حكم 67 سنة"، وفرق كبير بين حكم يقرب من القرن من الزمان، وحكم يقارب قرونًا أربعة، والأعجب من ذلك أن يجعل بعض المؤرخين الإسلاميين "آسية إمراة فرعون" حفيدة الريان مرة، ومن بني إسرائيل مرة أخرى.
    وهكذا يبدو بوضوح، أن الخلط من ناحية، والإسرائيليات من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا كبيرًا في مسخ بعض هذا التاريخ الذي كتبه المؤرخون الإسلاميون عن العصور التي سبقت الإسلام بآماد طويلة.
    ورغم ذلك كله -والحق يقال- فإن المؤرخين الإسلاميين قدموا لنا الكثير من المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لعصور ما قبل الإسلام، وأن كثيرًا منهم قد انتقدوا تلك المبالغات التي جاءت فيما كتب البعض منهم، كما أنه كثيرًا منهم كذلك قد نبهوا إلى الإسرائيليات والنصرانيات التي تسللت إلى التاريخ العربي القديم.
    وانطلاقًا من هذا كله بدأت رحلات الأوربيين إلى شبه الجزيرة العربية، ثم تلتها بعثات علمية منتظمة اتجهت إلى مختلف أنحاء بلاد العرب، لتكشف لنا عن الحضارات العربية المختلفة، وكانت نتيجة هذه البعوث أن حصلنا على كثير من المعلومات التي تلقي أشعة قوية على الماضي العربي المجيد1، ونستطيع أن نتتبع جهود الأوربيين -من مغامرين ورحالة وبعثات علمية- في هذا السبيل، على النحو التالي.
    أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية
    تميزت الفترة ما بين عامي 1513، 1756م، بالمغامرين من الرحالة الأوربيين إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ففي عام 1513م يهاجم "ألفونسو دي البوكرك" ميناء "عدن" بعد أن استولى البرتغاليون على مجموعة حصون في جنوب بلاد العرب، وكان قد رسم خطة دنيئة، يستولي بها على الجثمان الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، ثم يطلب في مقابل ذلك كنيسة القدس، ولكن الله رد كيده في نحره، "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، فباءت قواته بفشل ذريع أمام أسوار عدن الحصينة، كما أدى ذلك إلى أن يقوم الأتراك المسلمون بالاستيلاء على اليمن، بعد حملتين بحريتين في عامي 1519، 1538م1.
    ثم تلت ذلك مغامرات فردية إلى "جِدّة" و"المخا" في عام 1517م، ثم مغامرة النصرانيّين "بائز ومونصرات" عام 1589م، حيث كانا أول أوربيين يشاهدان "محرم بلقيس"، ثم رحلة المؤرخ اليسوعي "مانوئيل دي الميدا" في عام 1633م، من عدن إلى خنفر ولحج2.
    إلا أن الفضل الأكبر في الاكتشافات العلمية ببلاد العرب إبان القرن الثامن عشر، إنما يرجع إلى الألمان، وربما كان العالم "ميخايلس" هو أول من وجه الأنظار إلى بلاد العرب، وإلى الصلات القوية التي تربط بينها وبين العلوم المتصلة بالكتاب
    المقدس، ومن ثم فقد أقنع "فردريك الخامس" ملك الدانيمارك، بإرسال بعثة علمية إلى بلاد العرب1، تحركت من ميناء "كوبنهاجن" في 4 يناير 1761م، ووصلت إلى ميناء القنفذة في 29 أكتوبر 1762، غير أن النكبات بدأت تحل بها يومًا بعد آخر، حتى لم يبق من أعضائها على قيد الحياة، غير الضابط الصغير "كارستن نيبؤور" الذي أخذ على عاتقه تنفيذ الخطة التي رسمت للبعثة، ومن ثم فقد قرر ألا يعود إلى وطنه، إلا بعد أن يحقق الهدف، وقد بر الرجل بوعده، ولم تطأ قدماه أرض "كوبنهاجن" إلا في عام 1797م، بعد أن قطع رحلة طويلة مارًّا بالبصرة وبغداد والموصل وحلب والقدس وقبرص واستنبول.
    وبالرغم من أن أربعة من الباحثين قد ماتوا، إلا أن النتائج التي توصلت إليها هذه البعثة كانت أفضل نتائج البعثات العلمية في ذلك الوقت، وما زالت المعلومات التي دونها "نيبؤور" مرجعًا أساسيًّا عن اليمن حتى الآن، فضلا عن أنه لفت أنظار العلماء إلى "المسند" والرُقُم العربية، إلى جانب ما قدمه من خرائط لأماكن مجهولة لم تكن قد وطأتها قدم أوربي قبل ذلك2، هذا وقد وضع هذا الرحالة الممتاز كتابًا عن رحلته باللغة الألمانية، ظهرت له أكثر من ترجمة فرنسية وإنجليزية3.
    شجعت رحلة "نيبؤور" العلماء على مواصلة البحث عن النقوش العربية الجنوبية، ثم كانت حملة نابليون بونابرت" على مصر في عام 1798م، وكشف حجر رشيد في العام التالي، ثم الجهود المضنية التي بذلها العلماء من أمثال "إكربلاد" عام 1802م، و"توماس يونج" عام 1814م، وأخيرًا جاء "جان فرنسوا شامبليون" "1790-1823م" الذي تمكن من حل رموز الهيروغليفية المصرية1، كل ذلك وغيره دفع الباحثين إلى القيام برحلات كثيرة إلى بلاد العرب.
    وفي 8 أبريل من عام 1810م، يصل إلى "الحديدة" الدكتور "أولريخ جاسبار سيتزن" الألماني، ويتمكن من الوصول إلى "ظفار" حيث ينجح في العثور على النقوش التي أشار إليها "نيبؤور"، وفي نسخ خمسة نقوش بالقرب من "ذمار" تعتبر أولى النقوش العربية الجنوبية، إلا أن الرجل سرعان ما اختفى في ديسمبر عام 1811م، في ظروف غامضة في "تعز" أو "صنعاء" بيد الأعراب أو بيد الإمام نفسه2.
    وفي عام 1834م، يدخل الإنجليز الميدان، ويتمكن الضابط "جيمس ولستد" من زيارة جنوب بلاد العرب، واكتشاف "حصن الغراب" ونسخ نقش كتابي وجده مسجلا عليه، يرجع تاريخه إلى عام 525م، ثم يقوم "ولستد" في العام التالي برحلة إلى غرب "وادي ميفعة"، حيث يعثر هناك في "نقب الهجر" على بقايا مدينة أو حصن3.
    وفي عام 1835م، تمكن "هوتن" من إضافة عدد جديد من النقوش، والأمر كذلك بالنسبة إلى "كروتندن" الذي جاء عام 1838م بنقوش جديدة، وكذا الدكتور "مايكل" الذي زودنا بخمسة نقوش سبئية، مما ساعد على حل رمور "المسند"4.
    وفي عام 1843م تمكن الرحالة الألماني فون فريدة" من ارتياد الصحراء المعروفة باسم "بحر الصافي" أو "الأحقاف" شمالي حضرموت، حيث اكتشف في سهل ميفعة الشرقي في "وادي أوبنة" بقايا حائط قديم، عليه نقش حضرمي عرف "بنقش أوبنة"5. ابحث في الكتاب:
    وقد تميز هذا العام كذلك برحلة الصيدلي الفرنسي "جوزيف توما أرنو" الذي نجح في 12 يوليه 1843م في السفر من صنعاء إلى مأرب، فزار خرائب "صرواح" وفحص بقايا أسوار في مأرب، وكذا معبد "المقه" إله القمر، الذي تقوم آثاره خارج مأرب، والذي يطلق العرب عليه اسم "محرم بلقيس"، هذا إلى جانب نقله لـ 56 نقشًا سبئيًّا رآها هناك، وقد قام "فرزنل"، القنصل الفرنسي في جدة بنشر هذه النقوش عام 1845م، أما "أرنو" نفسه، فقد أثرت عليه رحلته وفقد بصره حينًا من الدهر، بسبب ما تعرض له من أمطار عند عودته من صنعاء إلى الشاطئ في بلاد تهامة1.
    وفي عام 1860م نجح الضابط الإنجليزي "كوجلان" في شراء مجموعة كبيرة من النقوش، عثر عليها في أنقاض مدينة "عمران" عام 1854م، من بينها تماثيل وأحجار مكتوبة وألواح من النحاس لا يقل عددها عن الأربعين2.
    وفي تلك الأثناء نجح العلماء في فك رموز هذه الكتابة العربية الجنوبية وأطلقوا عليها اسم "الحروف الحميرية"، ولكن سرعان ما تبين لهم أن هذه النقوش ليست كلها حميرية، وأن بعضها نصوص معينية، وبعضها الآخر سبئية، بل إن فيها نصوصًا تختلف عن الحميرية بعض الاختلاف، وهذه الكتابة هي المسماة "بخط المسند"، وبالقلم المسند، وبالمسند في الموارد العربية3.
    وبدأت فرنسا تهتم بالأمر، ومن ثم فقد رأت أكاديمية الفنون والآداب الجميلة في باريس عام 1869م، إصدار موسوعة النقوش السامية:
    Corpus Inscriptionum Semiticarum، واختير المستشرق الفرنسي اليهودي "جوزيف هاليفي" لرياسة بعثة إلى اليمن، لتزويد الموسوعة بنقوش جديدة، وكان اختيار "هاليفي" اختيارًا موفقًا، فهو كيهودي يستطيع أن يتجول بين أفراد القبائل العربية المستقلة بكل حرية، لأن اليهود كانوا يعاملون في اليمن معاملة المنبوذين، فلا يسمح لهم بحق من الحقوق إلا ما تجود به النفس العربية مدفوعة بعامل الرفق والعطف، ومن ثم فلا يسمح لليهودي مثلا بحمل
    السلاح، كما كان المسلم

    ينظر إليه نظرة كلها احتقار، وفي نفس الوقت، فإن الشهامة العربية إنما كانت تقضي بعدم الاعتداء على اليهودي الأعزل؛ لأن ذلك الاعتداء إنما كان يشين الكرامة البدوية التي رأت أن قتل اليهودي لا يختلف عن قتل المرأة أو الطفل1.
    وهكذا بدأ "هاليفي" رحلته في عام 1870م، وحينما وصل إلى "عدن" تلقى معونة الجالية اليهودية فيها، فضلا عن خطابات التوصية لكل يهود اليمن، ثم تزي بزي يهودي فقير جاء من القدس، ثم زار بقايا "القليس" في صنعاء، ثم اصطحب معه يهوديًّا يدعى "حاييم حبشوش"، وزار كل جهات اليمن تقريبًا، بما في ذلك مأرب والجوف ونجران، الأمر الذي لم يتحقق لغيره من قبل، وأخيرًا عاد إلى فرنسا، ومعه 676 نقشًا، لم يكن من بينها إلا أحد عشر نقشًا سبق أن نقلها "أرنو" ونشرها "فرزنل"، ومع ذلك فأهم نتائج الرحلة لم يكن في كمية النقوش، بقدر ما كان في المعلومات الجديدة التي جاءت بها هذه النقوش، فضلا عن بعض الآثار القديمة التي رآها، إلى جانب معلومات كثيرة عن حياة بعض القبائل التي زارها في داخل البلاد2.
    على أن أعظم اكتشافات هاليفي، إنما كان خرائب "قرناو" عاصمة دولة معين، والمعروفة اليوم "بمعين" وكانت تقع على مرتفع حصين تحيط به الأسوار والأبراج، فضلا عن النقوش التي تشير إلى أن "براقش" الحالية، إنما كانت تسمى في العصور القديمة، "يطيل"، هذا إلى جانب مدينة "السوداء" التي يعتقد "هاليفي" أنها كانت مدينة قديمة صناعية3.
    وفي عام 1882م، قام المستشرق النمساوي، "سيجفريد لانجر" المتخصص في اللغة العربية برحلة إلى اليمن، حيث عثر على نقش حميري هام بالقرب من "ظران" كما حصل على نقوش أخرى على مقربة من "ضاف" التي بحث عنها "سيتزن" دون جدوى، كما تمكن من نسخ عدد من النقوش في صنعاء، فضلا عن الحصول على نقوش من عدن، لم يعرف موطنها الأصلي، من بينها نقش حضرمي له أهمية لغوية، على الرغم مما به من تلف1.
    وجاء "إدوارد جلازر" تلميد "موللر"، والذي ترجم الجزء الثاني من "الإكليل" إلى اللغة الألمانية -فقام فيما بين عامي 1882، 1892م، بثلاث رحلات إلى اليمن، كانت ذات نفع كبير في تاريخ البحث العلمي، وقد أعد "جلازر" نفسه للمهمة إعدادًا طيبًا، فرغم أنه كان أستاذًا للغة العربية، فقد أقام -قبل رحلاته إلى اليمن- فترات في تونس والقاهرة، ليتمكن من اللغة العربية، وليتعرف على العادات العربية، وأخيرًا رغم أنه يهودي، فقد ادعى الإسلام، وارتدى زي علمائه وسمى نفسه "الحاج حسين".
    وقد بدأ "جلازر" رحلته الأولى في أكتوبر 1882م، في رفقة حملة تركية جردت لفتح مدينة "سودة" التي كانت تناصب الحكومة العداء، وفي هذه الرحلة زار المنطقة الوسطى، وعاد إلى فرنسا في مارس 1884م، ومعه 250 نقشًا، ثم كانت رحلته الثانية، فيما بين أبريل 1885، وفبراير 1886م، وقد اهتم فيها بالمنطقة الواقعة بين عدن وصنعاء، كما زار "ظفار" ونسخ عددًا كبيرًا من النقوش المعينية، وقد أضيفت فيما بعد إلى ممتلكات المتحف البريطاني2.
    وفيما بين عامي 1887، 1888م، قام برحلته الثالثة، التي زار فيها "مأرب" ورسم تخطيطات لآثار القنوات والسدود القديمة، كما رسم خريطة جغرافية للمناطق التي زارها، فضلا عما قدمه من وصف لآثارها، وفي رحلته الرابعة "1892-
    1894م"، نراه يستعين بالأعراب في نسخ النقوش القديمة في مناطق الجوف، ومن ثم فقد تيسر له جمع مئات من النقوش المهمة، دون أن يذهب بنفسه إلى تلك المناطق الخطرة البعيدة، ومن هذه النقوش "نقش صرواح"، الذي يرجع إلى أقدم عصور الدولة السبئية، فضلا عن مجموعة من العملات العربية القديمة، ضمت إلى مقتنيات متحف الفنون بفيّنا، كما نشر الكثير منها، وإن لم يتم للآن نشر كل أعماله1.
    وتأثرت أكاديمية الفنون بفينا بنتائج رحلات "جلازر"، فقررت عام 1898م، إرسال بعثة إلى جنوب بلاد العرب، يشرف عليها "موللر" و"لندبرج"، غير أن الإنجليز لم يسمحوا لها بالتوغل داخل اليمن مستغلين نفوذهم هناك، فذهبت إلى حضرموت لزيارة الخرائب القريبة من "شبوه" فأقام العرب العقبات في طريقها، مما اضطرها إلى العودة بعد أن بلغت "عزان"، وإن تمكنت من طبع نقوش "نقب الهجر" و"أوبنة" و"حصن الغراب" وفي يناير 1899م، توجهت إلى سوقطرة لدراسة لهجتها، كما درست فيما بعد اللغات الحديثة في الصومال ومهرة وسوقطرة وشخوري، ونشرت أبحاثًا فيها بعد ذلك2.
    وتقوم الحرب العالمية الأولى "1914-1918م"، ويتوقف هذا النشاط العلمي الممتاز، ولكن ما أن تضع الحرب أوزارها، وتنال اليمن استقلالها، حتى يغلق الإمام يحيى الأبواب أمام البعثات العلمية والمغامرين سواء بسواء، وذلك إبان الصراع الذي نشأ بينه وبين الإنجليز، بشأن قضايا عدن والمحميات، إلا أن الرجل كان -مع ذلك- جد حريص على الكشف عن آثار بلاده، ولكن بطريقته الخاصة. وهكذا -وعلى نفقة ولي العهد- بدأ البحث من جديد عن آثار اليمن، ففي عامي 1931، 1932م، قام كل من "كار راتيز" و"فون فيسمان" برحلات متعددة إلى الحبشة وحضرموت واليمن، وقاما بأول حفائر في منطقة النخلة الحمراء وغيمان وحقه شمالي صنعاء، إلا أن العقبات سرعان ما أحاطت بهما، كما أن الحفائر لم تكن منظمة، وعلى نطاق ضيق، حتى أن الرجلين لم يتيسر لهما مطلقًا -رغم إقامتهما
    مدة غير قصيرة في اليمن -أن يزور آثار مأرب أو الجوف، إذ لم تسمح لهما السلطات بالسفر مطلقًا إلى شرقي وشمالي صنعاء، وقد نشر نتيجة أبحاثهما الجغرافية والأثرية في مؤلف من خيرة الكتب عن اليمن، وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، خصص الجزء الثاني منه للآثار1.
    وفي عام 1931م، تمكن الرحالة الإنجليزي "برترام توماس"2، والذي كان وزيرًا للمالية في حكومة سلطان مسقط، مما أتاح له الفرصة لمعرفة الكثير عن أحوال جنوب بلاد العرب، وزيارة الأماكن النائية، ودراسة أحوال تلك البلاد وما فيها3، تمكن من اجتياز الربع الخالي، أو "مفازة صيهد" كما كان يعرف4، في 58 يومًا، فكان أول أوربي جرؤ على اجتياز هذه المنطقة5، وقد كشف "توماس" هناك عن بحيرة ملحة، يتجه البعض إلى أنها كانت من متفرعات الخليج العربي، كما عثر على آثار جاهلية، لم يعرف عنها شيء حتى الآن6.
    وتابع "جون فلبي" توماس في اجتياز الربع الخالي، فسافر في 7 يناير 1932م، من الهفوف إلى واحة يبرين، ومنها اتجه جنوبًا إلى الربع الخالي في متوسط نقاطه عند "بئر نيفا" حتى وصل إلى بلدة سليل في منتهى وادي الدواسر7، وفي هذه الرحلة زار عسير ونجران وشبوه وتريم، ثم واصل السير حتى بلغ الشحر، وقد نشر رحلته هذه في عام 1939م8.
    وفي عام 1936م سمحت الحكومة اليمنية للصحفي السوري "نزيه مؤيد العظم" بزيارة مأرب، ومن ثم فقد حصل على معلومات ذات قيمة، نشرها في عام 1938م1، ثم قام "ريكمانز2" بدراسة النقوش التي حصل عليها "نزيه العظم".
    وفي نفس عام 1936، أرسلت جامعة القاهرة بعثة علمية إلى جنوب بلاد العرب، تحت رياسة الدكتور سليمان حزين، كانت مهمتها دراسة المنطقة من نواحيها الجغرافية والزراعية والجيولوجية -وكذا دراسة النقوش السبئية- إلا أن نشاط البعثة الأثري اقتصر على المنطقة المحيطة ببلدة "ناعط"، وقد نشر الدكتور حزين والدكتور خليل نامي بعضًا من نتائج البعثة3.
    وفي عام 1937م، قامت ثلاث رحالات أوربيات "ج. كاتون طمسون، أ. جاردنر، ف. شترك" برحلة إلى حضرموت نجحن خلالها في الكشف عن معبد الإله القمر في وادي عمد، مقابل حريضة، وعن وسيلة من وسائل الري التي كانت مستخدمة هناك قبل الإسلام في وادي بيش، كما عثرن على عدد من النقوش، وقد ظهرت نتائج الرحلة في كتاب أصدرته "ج. كاتون طمسون" في عام "1944"4. هذا وفي نفس العام "1937" قام "فان درمويلن" و"فون فيسمان" بالتعاون مع "بتينا فون فيسمان" و"فون فاسيلفسكي" برحلة أخرى "غير رحلتهما الأولى التي قاما بها عام 1931"، أتت بفوائد كثيرة لعلم اللغات السامية5.
    وهناك غير هذه الرحلات العلمية، رحلات سياسية المظهر والمخبر، كتلك التي قام بها "هارولد" و"انجرامز"، وقد أفادتنا من الناحية الجغرافية، وزادت معلوماتنا عن إقليم حضرموت6، ثم هناك رحلة "هاملتون" إلى شبوه في عام
    1938م، هذا إلى جانب رحلات "تزيجر" في عامي 1945-1946م، إلى بلاد العرب السعيدة1.
    وفي عام 1945م، تغزو أسراب الجراد اليمن، وتستغيث حكومة الإمام بمصر، طالبة منها العون في رد هذا الكرب، وتسرع جامعة القاهرة بإرسال الأستاذ محمد توفيق -عضو بعثة عام 1936- لدراسة هجرة الجراد في بلاد العرب، والبحث عن وسيلة لإنقاذ اليمن منها، وينتهز الأستاذ محمد توفيق الفرصة، فيزور آثار الجوف، وينقل كثيرًا من النقوش ويأخذ لها صورًا "فوتوغرافية"، وقد نشرت هذه النقوش في القاهرة في عامي 1951-1952م2، كما قام الدكتور خليل يحيى نامي بنشر نقوش خربة براقش، على ضوء مجموعة الأستاذ محمد توفيق3.
    وفي عام 1947م، يقوم أستاذنا الدكتور أحمد فخري -طيب الله ثراه- برحلة إلى اليمن، يزور فيها مناطق صرواح ومأرب وما حولهما، وكذلك جميع مراكز الحضارة المعينية في الجوف، وقد عثر أستاذنا في رحلته هذه على نحو 120 نقشًا جديدًا لم تكن معروفة من قبل، كما أخذ مجموعة من الصور "الفوتوغرافية" لكل ما رآه من آثار، وكانت مجموعته هذه أول صور "فوتوغرافية" وافية تنشر عن سد مأرب والمعابد المختلفة، وقد نشر نتائج رحلته هذه في بضع مقالات، وفي كتاب أصدره عام 1952م، في ثلاثة أجزاء، اقتصر الجزء الثاني منها على النقوش التي فحصها وترجمها الأستاذ "ريكمانز"4.
    وكانت أمريكا حتى ذلك الوقت لم تدخل الميدان العلمي في اليمن، ومن ثم فقد نظمت "مؤسسة دراسة الإنسان الأمريكية "The American Foundation For The Study Of Man"، في الفترة ما بين عامي 1950، 1952م، بعثتين علميتين برياسة "وندل فليبس"، ضمت بين أعضائها الأثري المشهور "وليم أولبرايت"، اتجهت الأولى إلى الحفر في "بيجان" بحضرموت، واتجهت الثانية إلى اليمن، إلا أن بعثة "فيلبس" كانت للأسف غير موفقة في صلتها بالحكومة اليمنية، ومن ثم فلم تتمكن من إتمام حفر المساحة الأمامية لمعبد محرم بلقيس على مقربة من مأرب، ولكن الأسابيع القليلة التي قضتها البعثة هناك كانت كفيلة بإظهار كثير من المباني والنقوش الجديدة، وإظهار مدى النجاح الذي ينتظر أية بعثة علمية تقوم بالحفر في هذه المناطق البكر1.
    وهكذا تمكنت البعثة من الحصول على نتائج جديدة لم تكن معروفة عن تاريخ قتبان وسبأ، فضلا عن حفائرها في "تل هجر بن حميد" الذي كشفت فيه عن كثير من الفخار الذي يرجع إلى ما قبل الميلاد بألفي سنة، كما كشفت عن معابد وقصور في "تمنع" -العاصمة القتبانية القديمة- والتي يتجه البعض إلى أنها خربت لأول مرة في حوالي عام 25ق. م2، وأما في مأرب فقد كشفت البعثة عن معبد الإله القمر، وعن سد مأرب، وعن خرائب ترجع إلى القرن السابع ق. م، كما عثرت البعثة على كثير من الآثار البرونزية والرخامية وبعض النقوش السبئية3، وأخيرًا فقد ظهرت في الصحف بعض المقالات عن حفائر البعثة، فضلا عن كتابين، الواحد منهما للقارئ العادي كتبه "وندل فيلبس"، والآخر تقرير علمي واف عن الحفائر4.
    وفي عام 1952م، وبينما كانت البعثة العلمية قد توقفت عن عملها في مأرب، كانت هناك بعثة جامعة الدول العربية في صنعاء، تقوم بتصوير المخطوطات العربية النادرة في اليمن، وهنا طلبت حكومة اليمن من الدكتور خليل يحيى نامي -رئيس البعثة والأستاذ بجامعة القاهرة، والمتخصص في النقوش اليمنية- أن ينضم إلى لجنة فحص ما تركه الأمريكيون، وتقديم تقرير عما قاموا به من حفائر، ومن ثم فقد تيسر له أن يزور المنطقة، وأن يأخذ لها كثيرًا من الصور "الفوتوغرافية"1.
    وفي مايو 1959م، قام أستاذنا الدكتور أحمد فخري -أستاذ تاريخ مصر الفرعونية والشرق الأدنى القديم بجامعة القاهرة -برحلته الثالثة إلى اليمن- وكانت رحلته الثانية في عام 1948م- وفيها زار مأرب وآثارها للمرة الثانية، ونقل نقوشًا جديدة لم تكن معروفة من قبل، كما نجح في الوصول إلى موقع معبد في منطقة المساجد، وهو معبد كبير في حالة لا بأس بها، وقد شيده "يدع إيل ذريح"، والذي شيد كذلك معبد صرواح ومعبد مأرب، وبالرغم من أن اسم هذه المنطقة الأثرية كان معروفًا لنا من روايات البدو، فقد ظل أشبه بأسطورة، ولم يسبق للأثريين من قبل زيارته أو أخذ صور فوتوغرافية له2.
    وأخيرًا، وفي عام 1960، عادت البعثة الأمريكية للحفر في "ظفار" بعمان، لإكمال ما بدأته في المرة الأولى، حيث كشفت عن بعض الجوانب في تاريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان3، هذا وقد تمت كذلك تنقيبات في "تاج" و"وادي الفاو" عام 1968م، بإشراف بعثة متحف أرهوس الدنماركية، وفي نجران في عام 1968م كذلك، بواسطة "معهد سيمشونيان بواشنطن"4.
    ولعل من الجدير بالذكر هنا أن الزميل الأستاذ شرف الدين قام بعدة جولات في مناطق الآثار في بلاد اليمن، زار فيها مأرب والجوف وظفار وبيجان، والحدأ وذمار ورداع وهمدان وأرحب، عاد منها وفي حوزته مئات من الصور الفوتوغرافية والنسخ الخطية والأبحاث والخرائط، أصدر أول كتاب له عن لغة المسند في عام 1968م، متضمنًا تراجم عدد من النقوش وبعض الملاحظات عن قواعد لهجات "المسند" كالمعينية والسبئية والقتبانية5، كما أصدر في عام 1975م كتابًا آخر عن اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام" تحدث فيه عن قواعد هذه اللغة، فضلا عن نشر نماذج من نقوش حضرمية وسبئية ومعينية وديدانية ولحيانية وثمودية وصفوية، وإني على علم بأنه قد انتهى من دراسة تاريخية، حقق فيها نصوصًا جديدة تحت عنوان "مختارات من النقوش العربية القديمة"1 "Seiected Arabic Inscription"
    هذا، وقد بدأت جامعة الرياض تدخل الميدان، فأرسلت بعثة برياسة الدكتور عبد الرحمن الأنصاري للتنقيب تدخل "الفاو"2 في الفترة "من 24/ 11/ 90 إلى 5/ 12/ 1390هـ"ثم تلتها مواسم أخرى فيما بين عامي 1392، 1396هـ، وقد نجحت البعثة في تصوير ونقل حوالي 250 نقشًا منتشرة على سفوح خشم قرية، من شماله حتى جنوبه، فضلا عن مجموعة كبيرة من شواهد القبور والأواني الحجرية والفخارية والخزفية، إلى جانب قطع حجرية تحتوي على نصوص وكتابات هامة بالخط المسند، وكذا مجموعة من قطع النسيج، بالإضافة إلى أشياء دقيقة كالخرز والأساور الزجاجية وأدوات الحياكة وبعض العملات الفضية والنحاسية، وقد أرخت البعثة لهذه القطع الأثرية -وكذا للمواقع الأثرية الهامة كتل القصر الكبير- بالفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد، والقرن الثاني الميلادي3.
    ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن إدارة الآثار بوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية -والتي أنشئت في 23/ 6/ 1392هـ- تقوم الآن بعمل مسح أثري لكل المناطق الأثرية بالمملكة، تمهيدًا للقيام بحفائر أثرية على نطاق واسع، وبطريقة علمية.
    والواقع أن هناك اهتمامًا جديًّا بدراسة الآثار في الجامعات السعودية، فقد
    أنشأت جامعة الرياض تخصصًا في الآثار بقسم التاريخ منذ العام الجامعي 94/ 1395هـ، كما قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العام الجامعي 95/ 1396هـ "75/ 1976م" بإدخال مادة الآثار ضمن برامج الدراسة في قسم التاريخ بها، والأمل كبير في أن تثمر هذه الدراسات الأثرية قريبًا، فتخرج أجيالا من علماء الآثار، تعقد البلاد عليهم آمالا كبارًا في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العريقة.

    منقووووووول وله
    بقية

  11. #11
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية
    لم يكن حظ شمال شبه الجزيرة العربية ووسطها، بأقل من جنوبها، فإن آثار البتراء وسورية الجنوبية، قد استهوت عددًا من العلماء الأوربيين، كما أن تحريم دخول المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، على غير المسلمين، قد ألهب خيال الأوربيين وزادهم رغبة في التعرف على ما يجري فيهما، وبخاصة في موسم الحج، ومن هنا رأينا كثيرًا من الأوربيين يأتون إلى زيارة الحرمين الشريفين متخفين، ذلك لأن منطقة مكة والمدينة إنما كانت تحت حراسة مشددة، خشية أن يتسلل إليها الأوربيون، وهكذا وجدنا من القادمين إلى وسط شبه الجزيرة العربية وشمالها، أنواعًا مختلفة من الرحالة الأوربيين، من مغامرين وحجاج وباحثين.
    ولعل أقدم ما نعرفه عن هؤلاء الرحالة هو "ل- دي فرتيما" الذي وصل إلى مكة قادمًا من دمشق عام 1503م، وإن كان هناك من يزعم أن "كابوت" الرحالة الكبير قد قام بزيارة مكة بين عامي 1476، 1490م، وأن ملك البرتغال قد أرسل "بور دي كوفيلها"، الذي كان يتكلم العربية، إلى شبه الجزيرة العربية في عام 1487م، وذلك للتحقق من إمكانية الذهاب إلى الهند عن طريق البحر الأحمر، وأنه وصل فعلا إلى عدن، ومنها إلى الهند، وسواء أصح هذا، أم أن الأمر مجرد زعم كذوب، فإن هذه الرحلات لا قيمة لها من الناحية العلمية، وإن كان "دي فرتيما" قد وصف لنا رحلته التي زار فيها الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وصفًا صحح فيه كثيرًا من الأخطاء الشائعة عنهما لدى قومه الأوربيين1.
    على أن كتابات "دي فرتيما" قد تأثرت إلى حد كبير بعقيدته الدينية، كما دلت على جهل واضح بجغرافية المنطقة، فضلا عن تقديمه معلومات ساذجة عن مشاهداته هناك، فمن ذلك مثلا، تفسيره لعدم صيد الحمام الذي يكثر بمكة، من أن المسلمين يعتقدون أنه سليل تلك الحمامة التي كانت تكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوصفها الروح القدس1، وَفَاتَهُ "أولًا" أن مكة بلد الله الحرام، لا يجوز الصيد فيها، وليس -كما زعم- لأن هذا الحمام ينحدر من تلك الحمامة التي كلمت مولانا وجدنا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ثم من أين جاء بكل هذا؟، وفاته "ثانيًا" أن المسلمين لا يؤمنون بحمام على أنه الروح القدس، وإنما ذلك هو "جبريل" عليه السلام، ولعله في ذلك كان متأثرًا بعقيدته الدينية.
    ومنها كذلك حديثه عن "رمي الجمار" وأنه رمز لطاعة إسحاق، ودليل على الرغبة في الاقتداء به، فقد جاء في التعاليم الإسلامية أن الشيطان حاول إقناع إسحاق بعدم اللحاق بأبيه إبراهيم العازم على التضحية به2.
    ويبدو هنا، مرة أخرى، أن "دي فرتيما" إنما يتحدث بمنطق اليهود والنصارى وعقيدتهم في الذبيح، حتى في موطن العرب أنفسهم، ونسي -أو تناسى- "أولًا" أن الذبيح عند العرب -على الأقل- إنما هو إسماعيل، وليس إسحاق، عليهما السلام، وتناسى "ثانيًا" أنه في مكة، وليس في فلسطين، والأولى موطن إسماعيل، والثانية مستقر إسحاق، ولو كان الأمر، كما يرى "دي فرتيما"، لكان رمي الجمار في فلسطين، وليس في مكة، ومن ثم فلست أدري من أين جاء بذكر إسحاق هنا؟ 3.
    ثم إن قوله إن مدائن صالح والعلا، إنما هما سدوم وعمورة، لا يدل على جهل واضح بجغرافية المنطقة فحسب، وإنما يدل كذلك على جهل بروايات التوراة، كتابه المقدس، وخاصة حين يذهب إلى أن أهل سدوم وعمورة كانوا يعيشون على المن والسلوى، وأنهم كفروا بأنعم الله، فعاقبهم بأعجوبة منه4. والمعروف "أولًا" أن تلك قصة بني إسرائيل في التيه1، و"ثانيًا" أن ما حدث في سدوم وعمورة، إنما كان لأن قوم لوط عليه السلام كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء2، ومن ثم فقد "أمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض"3، ومن هنا رأى بعض العلماء أن هناك شَبَهًا بين مصير قوم عاد وثمود من ناحية، وبين مصير سدوم وعمورة وبقية مدن الدائرة في عمق السديم4، من ناحية أخرى، ولعل هذا هو السبب في اضطراب فكرة "دي فرتيما"، ومن ثم فقد ذهب إلى أن مدائن صالح والعلا، هما سدوم وعمورة.
    وأيًّا ما كان الأمر، ففي عام 1509م، يتابع "دي فرتيما" رحلته إلى الجنوب، وهناك في عدن يتهم بأنه نصراني يتجسس لحساب البرتغاليين الذين كانت سفنهم نشطة أمام السواحل العربية الجنوبية، فيتم القبض عليه، ويودع في قصر السلطان تمهيدًا لإعدامه، وهنا يتجه "دي فرتيما" في كتاباته وجهة دنيئة، فيجعل من زوج السلطان إمراة العزيز، ويجعل من نفسه الصديق، ثم تنتهي مغامراته الفاشلة بالرحيل إلى بلاد الفرس ثم الهند، حيث يقوم هناك بدوره الحقيقي، دور الجاسوس لملك البرتغال، وينال جزاءه على ذلك، فتكرمه جامعة البندقية، وينال حماية أسرتين كبيرتين هناك، فتكرمه جامعة البندقية، وأخيرًا تتم الدراما بأن يعلن الكاردينال "كارفجال" حمايته لـ "دي فرتيما" فضلا عن الإنفاق على ترجمة مؤلفه إلى اللاتينية5.
    ولعل كل ما قدمته هذه الرحلة خريطة لشبه جزيرة العرب، -كما رسمها بطليموس، منذ ثمانية عشر قرنًا- وبعض المعلومات المشوهة عن المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، ثم مقارنة جغرافية بين العربية الشمالية، والعربية الجنوبية، وقبل ذلك
    وبعده، سموم ضد الإسلام والعرب، وهو أمر لا يعد غريبًا، إن جاء من موطنه، ولكن الغريب حقًّا أن يترجم ذلك1، وأن يذاع بين شباب العرب، والمسلمين منهم بخاصة، حتى دون التعليق على ما فيه من روايات لا تعرف نصيبًا من صواب، وحكايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، إلى جانب ما فيه من دعاوى تتعارض مع الإسلام، فضلا عن المنطق والحق والصواب، وقد تكون المصيبة أعظم، لو أن الذين ترجموا ذلك يظنون أنهم يقدمون بعملهم هذا للعروبة وللإسلام -فضلا عن العلم- خيرًا، أو حتى بعض الخير.
    هذا وقد تميزت الفترة ما بين عامي 1604، 1739م، برحلات الحجاج إلى مكة، ففي عام 1643م، قام المطران "ماثيو دي كاسترو" -القاصد الرسولي في بلاد الهند- بزيارة الأماكن المقدسة، متنكرًا في زي رحالة غريب، وذلك أثناء رحلته من الهند إلى روما، مارًّا بشبه الجزيرة العربية، ولا شك في أنه -إذا صحت روايته- رجل الدين المسيحي الوحيد الذي قام بزيارة المدن الإسلامية المقدسة، ولكنه لم يكتب بنفسه شيئًا عن ذلك2.
    وفي عام 1660م نرى "لويس دارفيو" يزور شمال بلاد العرب، ويكتب وصفًا للبدو، إلا أنه كان بعيدًا عن المنهج العلمي في وصفه، فضلا عما فيه من مطاعن على العرب، وتمجيد للرواية الإسرائيلية عن إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، وعن والدتيهما الكريمتين -سارة وهاجر- بجانب الترجمة غير الصحيحة، أو على الأقل غير الدقيقة، لنصوص التوراة، فيما يتصل بإسماعيل بالذات3.
    وفي عام 1807م، وصل إلى "جدة" الرحالة الأسباني "باديابي لبلخ" تحت اسم "علي بك العباسي" مدعيًّا أنه ليس مسلمًا فحسب، وإنما آخر أمير من نسل الخلفاء العباسيين4، ومن عجب أن الأوربيين أنفسهم في حيرة من أمرهم، بشأن "علي بك" هذا، فهو جاسوس لنابليون على رأي، وهو أحد موظفي إمارة البحر
    الفرنسية على رأي آخر، إلا أن هناك اتفاقًا على أنه كان عالمًا، وأنه قد زود بآلات قياس دقيقة للغاية، وأنه قد نجح إلى حد كبير في تعيين المواقع المختلفة التي مر بها على سواحل البحر الأحمر، مثل ينبع وجدة وغيرهما، وبصورة تقريبية موقع المدينة المنورة التي لم يقدر له أن يشرف بزيارتها، وبصفة دقيقة لموقع مكة المكرمة على خريطة العالم، وهكذا أمكن -ولأول مرة- تحديد الموقع العرضي لأحد الأماكن في داخل بلاد العرب بالنسبة إلى خط الاستواء، هذا إلى جانب وصف دقيق للكعبة المشرفة ولكل ما كان يجري في موسم الحج1.
    والذي يقرأ وصف الرجل للأماكن المقدسة، كما جاء في كتاب جاكلين بيرين2، يدرك أن الرجل كان مسلمًا عن يقين -كما كان يعلن هو دائمًا- رغم ما أثير حول إسلامه من شبهات.
    والرأي عندي، أن من يعيش الظروف التي عاشها "علي بك العباسي" ويزور الأماكن الطاهرة التي زارها، وينال شرف رؤية الكعبة -أقدس مقدسات المسلمين- من داخلها، ويسهم في تنظيف البيت الحرام، إن من يسبغ الله عليه كل هذه النعم، ليس ببعيد أن يهديه الله سواء السبيل ويفتح قلبه للإسلام، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} 3 وعلى أي حال، فإني لا أثبت هنا إسلام "علي بك العباسي"، ولا أنفيه، فليست لدي الأدلة على هذا أو ذاك، والله وحده يعلم الغيب من الأمر، ولكن بعد أن مَنَّ اللهُ عليَّ بفضله، وعشت فترة من عمري بين رحاب هذه المقدسات الشريفة، لا أستبعد أن الله جل وعلا، قد فتح قلب الرجل للإسلام، بصرف النظر عن المهمة التي جاء من أجلها، والله يهدي من يشاء.
    وجاء بعد ذلك الرحالة السويسري، "جوهان ليدونج بوركهارت" الذي وصل إلى سورية في مارس 1809م، ليقوم بزيارة المناطق المتاخمة لشبه الجزيرة العربية، وليجمع المعلومات عن البدو، وهناك بذل جهدا كبيرًا في دراسة القرآن الكريم وتفسيره -بعد أن كان قد درس اللغة العربية في إنجلترا- حتى عرف باسم الشيخ
    إبراهيم، العالم العظيم في شئون الإسلام1.
    وهكذا تمكن "بوركهارت" من القيام برحلته إلى الحجاز تحت اسم "الشيخ إبراهيم بن عبد الله"، فزار الحرمين الشريفين، وقدم وصفًا دقيقًا لموسم الحج، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علمية، وفي عام 1812م، اكتشف مدينة "البتراء"، ثم أصدر عدة كتب عن رحلاته في سورية وفلسطين وشمال بلاد العرب2، وأخيرًا توفي في 15 أكتوبر 1817م، ودفن بسفح جبل المقطم في القاهرة3.
    وفي عام 1815م، زار "نجد" المستشرق "جورج أوغسطس فالين" للقيام ببعض الدراسات اللغوية4، وهناك رواية مشكوك فيها تذهب إلى أن "محمد علي باشا" والي مصر، قد أرسله إلى هناك بعد أن فشلت جهوده في توطيد نفوذه في الشام، وذلك للقيام بمهام سياسية في جبل "شمر"5.
    وفي عام 1853م، زار "سير ريتشارد برتون" الحرمين الشريفين، متنكرًا في زي مسلم يسمى "الحاج عبد الله" ثم كتب وصفًا لرحلته هذه 6.
    وفي يولية 1862م، قام "وليم بلجريف" برحلته إلى العربية الوسطى، ونشر في عام 1865م كتابًا عن رحلته هذه، سرعان ما ترجم إلى الفرنسية ثم الألمانية بعد ذلك، كواحد من أحسن الكتب عن بلاد العرب، ويزعم "بلجريف" أنه وصل إلى مناطق في قلب بلاد العرب، ولم يصلها أحد قبله7، وأما رفيقه في رحلته هذه فقد كان لبنانيا يدعى "بركات"، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريرك الروم الكاثوليك تحت اسم "بطرس الجريجيري"1.
    وتوغلت "الليدي آن بلنت" عام 1789م في شمال بلاد العرب، حتى "نجد" وكانت مولعة بدراسة الخيول العربية2، إلا أن "هوبر"3 و"أويتنج"4 يعدّان من الذين غامروا بحياتهم، وقاموا برحلات شاقة، فيما بين عامي 1876، 1884، وقد بلغا "حايل" في شمالي بلاد العرب، وحصلا على كثير من النقوش العربية الشمالية.
    وهناك "سنوك هورجونيه" الهولندي، الذي زار الحجاز، فيما بين عامي 1885، 1886م، وقدم لنا دراسة عن الأحوال في مكة، ووصف للحياة في الحجاز، وفي موسم الحج بصفة خاصة5.
    وهناك كذلك الرحالة الإنجليزي "تشارلسن دوتي"6، وقد كان هذا الرجل من أشد المتعصبين ضد الإسلام، وأكثرهم تطاولا على المسلمين، بل إنه في تطاوله إنما يحاول أحيانًا أن يتجاوز كل حدود الأدب، وأن يمس المثل الأعلى للإنسانية جمعاء، سيدنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وإن لم يستطع في كل الأحوال، إلا أن يعترف بأن المصطفى المختار- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- إنما كان دائمًا وأبدًا، المثل الأعلى، والأسوة الحسنة لكل المسلمين وغير المسلمين، في كل زمان ومكان.
    وفي عام 1889م، يقوم "تيودور بنت" وزوجته، برحلة إلى البحرين ومسقط وعمان في جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث زارا كثيرًا من المناطق الأثرية، وكتبا عنها كتابهما المعروف7. وأشرف القرن العشرون، وبدأت الأبحاث العلمية تزداد، وأصبح بين أيدينا مؤلفات مهمة، لعل من أروعها ما كتبه "ألويس موسل"، الذي زار العربية الحجرية، وكتب عدة مؤلفات في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر ونجد1، ثم هناك كذلك ما كتبه "جوسين وسافينياك" في مؤلفهما الشهير عن آثار الحجاز، وبخاصة مدائن صالح والعلا2، أما كتاب "لورنس" "أعمدة الحكمة السبعة3"، فقد نال مكانة عالية بين مؤلفات الأدب الحديث بعد الحرب العالمية الأولى4.
    وكان أكثر الرحالة نشاطًا في نجد وأواسط بلاد العرب "هاري سان جون بريدجر فلبي" والذي سمى نفسه "الحاج عبد الله" وقد أتيح له ما لم يتح لغيره من الأوربيين، إذ كان من المقربين إلى جلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، ومن ثم فقد قام برحلات كثيرة، وكتب عدة كتب5، وكانت آخر رحلاته تلك التي قام بها في صحبة العالم البلجيكي "ج. ريكمانز" في شتاء 1951-1952م، وكانت في المثلث الواقع بين جدة ونجران والرياض، وعاد ومعه 1200 نقش، منها تسعة آلاف نقش ثمودي، وبقيتها نقوش لحيانية وسبئية، بعد أن زارت البعثة كل ما وجدته من بقايا المدنيات القديمة، في المنطقة الواقعة داخل المملكة العربية السعودية6.

    وفي عام 1962م، قامت بعثة أمريكية بزيارة مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية، فزارت سكاكا والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورًا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها ما وجدته في قمة جبل غنيم، على مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من تيماء، وتعد من أقدم ما عثر عليه في العربية الشمالية1.
    وليس من شك في أن تاريخ البحث العلمي في تاريخ العرب القديم يدين بالكثير لنفر من المستشرقين قدموا له أبحاثًا جادة في مختلف الميادين، من أمثال "كوسان ده برسيفال"2، والذي يعتبر من الرواد في التأريخ لبلاد العرب قبل الإسلام، وكذا "تيودور نولدكه"3، و"ج. روتشتاين"4، و"رينيه ديسو"5 و"جاك ريكمانز"6 "كيتاني"7 و"أوليري"8 و"أوتووبير"9 و"فلهاوزن"10،
    و"ج ريكمانز"1 و"الكسندر كندي"2 و"أدولف جرومان"3 و"فريتز هومل"4 و"رودوكناكيس" و"ديتلف نلسن"5 و"تشارلس فورستر"6 و"ألفردونيت"7 و"بيستون"8، و"ألبرت جام"9 و"كاسكل"10 و"فون فيسمان وماريا هوفتر"11 و"لودلف كريل"12 و"كوك"13 :
    وهوجوفنكلر1 ورايت2 وسبرنجر3 وليتمان4 ووليم أولبرايت5 وغيرهم ممن قاموا ببحوث قيمة، ولا يزالون يبحثون في التاريخ العربي القديم 6.
    أما العلماء العرب المحدثون -من أمثال جرجي زيدان وسليمان حزين ويحيى نامي وأحمد فخري ومحمد مبروك نافع ومحمد توفيق وعبد العزيز سالم وسعد زغلول، وجواد علي وصالح العلي ومنذر البكر، وحمد الجاسر وعبد الرحمن الأنصاري وعبد القدوس الأنصاري وعبد الله مصري، وأحمد حسين شرف الدين ومظهر الإرياني وغيرهم من علمائنا الأفاضل- فليس من شك في أنهم قد ساهموا في هذا الميدان بقسط وافر وجهد ممتاز، يستحقون عليه كل تقدير واحترام.

    منقووووووول وله
    بقية

  12. #12
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    جميل جداً ...
    وما زلنا نتابعكم وباستمتاع لهذه المقولات الثريّة بالعلم والمعرفة
    بارك الله بكم وسدد على طريق الخير مسعاكم

  13. #13
    مشرف عام مجالس الادب و التاريخ - عضو مجلس الادارة
    تاريخ التسجيل
    30-08-2012
    العمر
    47
    المشاركات
    2,865

    افتراضي

    ثالثًا: في شرق شبه الجزيرة العربية
    في أخريات عام 1953م، أرسل متحف آثار عصور ما قبل التاريخ في أرهوس بالدنيمارك، بعثة علمية إلى البحرين، برياسة "ب. ف. جلوب وجفري"، كشفت أطلال معبد "باربار"، والتلام الممتدة على مساحات واسعة، ثم امتد نشاطها إلى قطر، حيث كشفت عن مواقع أثرية، وآثار أخرى، تمثل حضارات
    العصر الحجري، وسرعان ما امتد نشاطها إلى الكويت، حيث عثرت على آلات حجرية، تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، وخاصة العصر الحجري القديم، فضلا عن معابد جزيرة "فيلكا"، وأخيرًا اتسع نطاق ميدان البعثة إلى شرق الجزيرة وإمارات الساحل العربي، ولعلنا نستطيع أن نلخص نتائج هذه البعثة كالآتي:

    1- البحرين:
    لعل أهم اكتشافات البعثة الدنماركية إنما كان الكشف عن أطلال معبد "باربار"، وتلال جنزية عديدة تعود إلى العصر البرونزي، هذا فضلا عن أوان فخارية في تل رأس القلعة1، وهي المنطقة التي حوت أقدم محلة سكنية، ترجع إلى الألف السادس قبل الميلاد، وظلت مأهولة حتى العصر المسيحي، هذا وقد كشفت البعثة عن ست مدن حول القلعة، تؤرخ الأولى بحوالي عام 2800ق. م، وهي مبنية بمحاذاة البحر، وبيوتها صغيرة، وتبدو غير مسورة، وربما كان الملك الأكدي "سرجون الأول" قد قام بغزوها حوالي عام "2300ق. م"2.
    وأما المدينة الثانية، فتؤرخ بحوالي عام 2300ق. م، ويعتبر سكانها بناة الآلاف من المقابر الواقعة في وسط جزيرة البحرين وكذا معبد باربار، وقد عثر فيها على الأختام المسماة تقليديًّا "الأختام الدلمونية"، والأوزان الهندية التي ظهرت في نفس الوقت في بلاد ما بين النهرين ومدن وادي السند3.

    2- في قطر:
    وتعتبر من أهم مناطق الخليج العربي، حيث تتمثل فيها أقدم الحضارات الإنسانية التي تم الكشف عنها في المنطقة حتى الآن، ولقد اهتم الباحثون الأجانب بمنطقة قطر، فقامت بعثة دنماركية للبحث عن آثارها، وتم تحديد حوالي 200 موقع أثري، تنتمي إلى مرحلة عصور ما قبل التاريخ، منها حوالي 131 موقعًا تعود إلى العصر الحجري1، هذا وليس في قطر مخلفات أثرية تنتمي إلى حضارة باربار في البحرين، كما أن آثار قطر لا تتشابه مع آثار البحرين2.
    وعلى أية حال، فلقد عثر عند الساحل الغربي قرب "رأس عوينات علي" على شظايا مصقولة تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن أعداد من الأحجار قرب الطرف الجنوبي من جبل الجساسية وقرب عقلة المناصير والحملة وقرب الساحل الشرقي في الوصيل -على مبعدة 25 كيلو مترًا شمالي الدوحة3.
    هذا ويميل "كابل" إلى أن المخلفات الأثرية في قطر، والتي تتمثل في الصناعات الحجرية، إنما يمكن تقسيمها إلى مجموعات مستقلة ومختلفة عن بعضها تمامًا، وذلك اعتمادًا على الاختلافات المظهرية وطريقة الصناعة الفنية، هذا فضلا عن العثور على طبقة يمكن تصنيفها طبقيًّا، ومن ثم يمكن تحديد التتابع الزمني لهذه الآثار4.
    على أن البعثة الدنمركية إنما قد حصلت على أدوات وشظايا صوانية عديدة وآثار احتراق، ثم جمعت عينات من الآثار المحترقة، وقد ثبتت بالفحص العلمي، بطريقة الكربون 14، بأن تاريخ هذه العينات إنما يرجع إلى حوالي عام "5020-130ق. م"5.
    هذا وقد قسمت البعثة الدنمركية المواقع التي تنتمي إلى العصر الحجري -وعددها 68 موقعًا- إلى أربع مجموعات حضارية وذلك وفقًا للتطور المادي المتمثل في التقدم من التقنية البدائية إلى الأحجار الظرانية، إلى تقنية متطورة تتمثل في الرقائق الحجرية الممتازة مثل الفئوس والمعاول ورءوس السهام الكبيرة، غير أنه لا يمكن القول أن هذا التقدم المتدرج قد حدث نتيجة الانتقال من حضارة إلى حضارة أرقى، أو نتيجة لتعاقب مجتمعات إنسانية مختلفة أو قبائل مهاجرة استقرت لفترات طويلة أو قصيرة1.

    3- في دولة الإمارات العربية:
    قامت البعثة الدنماركية بالتنقيب في بعض المواقع الأثرية التي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ في دولة الإمارات العربية1، وتعتبر جزيرة "أم النار" في "أبو ظبي" من أهم المواقع التي تضم العديد من المدافن الغنية بأثاثها الجنزي المتضمن للأواني الفخارية والحجرية والأسلحة وأدوات الزينة، هذا وقد تم الكشف في أم النار عن تل يضم أربعة أطوار من الاستقرار2.

    4- في دولة الكويت:
    وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في أوائل عام 1972م، تولى أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري، رياسة بعثة علمية كويتية، تمكنت من الكشف عن عديد من المواقع الأثرية المنتمية إلى العصر الحجري القديم، مثل مواقع الصليبخات ووارة والبرقان وجليعة العبيد وكاظمية وجزيرة أم النمل وجزيرة عكاز، فضلا عن التعرف على مواقع جديدة في جزيرة فيلكا1.

    انتهى ولنا لقاء مع التاريخ القديم لجغرافية العرب

    من كتاب :-
    دراسات في تاريخ العرب القديم
    للدكتور: محمد بيومي مهران

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ال العروس الديباج الحسيني في التاريخ القديم والحديث
    بواسطة محمد محمد في المنتدى مجلس ذرية الحسين العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-09-2019, 07:14 AM
  2. تهميش الرواية العائلية والسعي وراء مصادر التاريخ
    بواسطة عالم بالأنساب في المنتدى ملتقى القبائل العربية . مجلس القلقشندي لبحوث الانساب .
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 25-10-2014, 09:36 PM
  3. أبولودور الدمشقي.. أعظم معمار في التاريخ القديم
    بواسطة ابن خلدون في المنتدى موسوعة التراجم الكبرى
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-12-2012, 04:13 PM
  4. نحو نظرة جديدة لتاريخنا العربي القديم
    بواسطة القلقشندي في المنتدى تاريخ العرب البائدة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-11-2012, 07:41 PM
  5. صدق التاريخ المصرى القديم وصحة ترجمته
    بواسطة زمرده في المنتدى التاريخ الفرعوني
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 06-07-2011, 12:26 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum