ثانياً المصادر غير العربية
أولًا: الكتابات اليهودية.
1- التوراة:
أو "التورة" كلمة عبرية تعني الهداية والإرشاد، ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى "التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية" والتي تنسب إلى موسى -عليه السلام- وهي جزء من العهد القديم، والذي يطلق عليه تجاوزًا اسم "التوراة" من باب إطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى، والتوراة، أو العهد القديم -تمييزًا له عن العهد الجديد كتاب المسيحيين المقدس- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم وشرائعهم، ويقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس والأنبياء والكتابات"1.
هذا وقد تحدثت التوراة في كثير من أسفارها عن العرب وعلاقتهم بالإسرائيليين، كما جاء في أسفار التكوين والخروج والعدد ويشوع والقضاة وصموئيل -الأول والثاني- والملوك -الأول والثاني- وأخبار الأيام -الأول والثاني- ونحميا والمزامير وأشعياء وإرمياء وحزقيال ودانيال والمكابيين-الأول والثاني-.
غير أن التوراة عندما تتحدث عن العرب، فإنما تهتم بالقبائل والأماكن العربية ذات العلاقة الاقتصادية باليهود في بعض الأحيان، وذات العلاقة السياسية في أحوال أُخَر، ولهذا نجدها عندما تتحدث عن القبائل في شبه الجزيرة العربية، فإنما تتحدث عنها على أساس أنها قبائل كانت لها علاقة بالعبرانيين، ثم هي قبائل متبدية في المكان الأول، إلا عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر2.
وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات1.
ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك2. 2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:
ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نال تقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني1.
وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م.
وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط2. ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان
وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية1.
على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم2، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين3. ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"، فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف1.
وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو"2.
وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3.
وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "4Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة1.
وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده2، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه3 وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60"4 على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر،5 وفي عام 80م على رأي ثالث6، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس7.
وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت8.
ثالثًا: الكتابات المسيحية.
وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية1.
ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"2، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية3.
وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية1.
هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب2، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني3، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس4.
عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر2.
وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات1.
ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك2. 2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى:
ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نال تقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني1.
وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م.
وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط2. ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان
وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية1.
على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم2، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين3. ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"، فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف1.
وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو"2.
وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3.
وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "4Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة1.
وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده2، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه3 وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60"4 على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر،5 وفي عام 80م على رأي ثالث6، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس7.
وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت8. ثالثًا: الكتابات المسيحية.
وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية1.
ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"2، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية3.
وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية1.
هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب2، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني3، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس4.
منقووووووول
وله بقية
مواقع النشر (المفضلة)