الغزو التركي لبلاد الشايقية
في سنة 1820م تحولت الأحداث الجارية إلى وجهة مختلفة ، فيما يروى أنّ محمد علي كان يطمح إلى الاستيلاء على جميع شواطئ النيل وجزره ، وإلى السيطرة على كل الذين يشربون من ماء النيل من بلاد الحبشة إلى البحر الأبيض المتوسط .
ففي ربيع 1820م عقد النية على السعي في تحقيق مطامحه هذه ، ولذلك جهز حملة تتألف من عشرة آلاف مقاتل مزودين باثنتي عشرة قطعة من المدافع لإخضاع القبائل التي تسكن وادي النيل ، وجعل قيادة جيشه لابنه الأصغر إسماعيل باشا الذي بلغ من العمر في ذلك الوقت اثنتين وعشرين سنة .
غادرت الحملة القاهرة في مستهل الصيف ، وكان مماليك مراغة آنئذ قد نقص عددهم بتأثير الحروب والحمى حتى بلغ - على حد تقدير كايو - ثمانين رجلاً ، فما أنّ سمعوا بحملة القاهرة ، حتى جمعوا في شهر يونيو بقاياهم ، ومعهم عبيدهم المسلحون ، ونفضوا عن أقدامهم غبار مراغة ، وخرجوا يقصدون إلى شندي فاخترقوا من بلدة كورتي صحراء بيوضة .
ولما علم الشايقية بخبر رحيلهم ، دبروا لهم كميناً بالقرب من كورتي ليقطع عليهم الطريق مباغتة ، ولكن المماليك كانوا أحرص منهم ، فتنبهوا إلى صنيع الشايقية ، وفاجئوهم في مكامنهم وأسروا منهم عدداً كبيراً ، وقتلوا هؤلاء الأسرى على الفور ثم مضوا في طريقهم إلى شندي(31) .
ولم يكد المماليك يغادرون منطقتهم ، حتى بادر الشايقية إلى مباغتة البلاد التي كان المماليك قد استولوا عليها ، وجعلوا يعملون فيها نهباً وإحراقاً وتخريباً ، وأسروا عدداً من السكان ، وحملوهم إلى دار الشايقية لكي يزرعوا الأراضي ، ويساعدوهم على قتال الأتراك .
ولم يكفوا عن ذلك ويرجعوا إلى دارهم إلا عندما وصل جيش إسماعيل باشا .وصل المماليك إلى شندي ، وعسكروا خارج المدينة ، وظلوا إلى أنّ أمرهم مك شندي ، وكان قد سمع بانتصارات إسماعيل
باشا على الشايقية ، أنّ يرحلوا عن بلاده (32) ، فحينئذ تشتت شملهم ، ففريق اتجه إلى دارفور ، وفريق إلى البحر الأحمر ، وقليل منهم آثر العودة إلى مصر عن طريق الصحراء النوبية ، حيث يقال أنّ قبائل البشاريين قتلوهم في الطريق ، ومنذ ذلك الحين انزوى المماليك عن التاريخ ، ولم نسمع عنهم شيئاً .
أما حملة إسماعيل باشا ، فقد كانت مجهزة بعشرة آلاف رجل معظمهم من الأتراك والألبان والمغاربة بقيادة عابدين كاشف وحسن دار وسلحدار وعمر كاشف ، ومعهم 1500 من البدو بخيلهم وجمالهم يقودهم خوجه أحمد ، وقد لحق به عند أسوان حشد كبير من عرب العبابده(33) .
مضى إسماعيل وجيشه في طريقهم دون أنّ يعترض سبيلهم أحد حتى بلغوا دنقلة العرضي .
كان أقوى ملوك الشايقية في ذلك الحين ، الملك شاؤس (ويحرف اسمه أحياناً فيسمى شاويش ) ، ملك العدلاناب ، وكانت عاصمتهم في مروي ، والملك صبير ملك الحنـّـكاب وكانت عاصمتهم حنك .
وكان ملكان آخران أقل شأناً ، هما الملك مدني ملك كجبي ، والملك حمد ملك العَمْراب . فلما اقترب الأتراك من بلادهم ، تكتل الشايقية جميعاً ، تحت إمرة شاؤس وصبير وكان الأول قائدهم .
يقول وادنجتون ، ( عندما وصل الباشا التركي إلى دنقلة ، أصدر أوامره إلى الشايقية بأن يعلنوا الخضوع لسلطان محمد على ، فأبدوا إليه الرغبة في أنّ ينصرفوا إلى زراعتهم وأنّ يدفعوا له الجزية ، فطلب الباشا أنّ يثبتوا له حسن نيتهم ، بأن يرسلوا إليه أسلحتهم وخيولهم ، فأعادوا عليه قولتهم الأولى ، فأجابهم الباشا بأن أباه قد أمره أنّ ينشئ منهم شعباً من الفلاحين لا شعباً من المحاربين ، وطلب إليهم مرة أخرى أنّ يسلموا الأسلحة والخيل) .
حينئذ أجابوه في تحد قائلين (( أما أنّ تذهب لحال سبيلك أو تأتي فتحاربنا ، فسير الباشا جنوده إلى حدود بلادهم )) .كان أول دماء سفكت في حلة سَلقي حيث قتل الشايقية خمسة من العساكر الألبانيين .
وبدأت المعركة بمناوشة وقعت قريباً من دنقلة العجوز حيث باغت فريق من الشايقية الخيالة إسماعيل باشا ، وبعض ضباطه ، وقليل من الجنود ، الذين كانوا قد انفصلوا عن الجيش الرئيسي ، ومع ذلك استطاعوا أنّ يصدوا الشايقية دون عناء .
واصل إسماعيل التقدم بمحاذاة الضفة اليسرى من النيل دون أنّ يلقى مقاومة ما حتى بلغ قريباً من كورتي ، وهنا يروى كايو نقلاً عن عابدين كاشف ثاني قواد الجيش التركي ، أنّ الشايقية قد مزقوا طليعة استكشافية تتألف من مائة من فرسان البدو ، فقتلوا منهم سبعين ، وجرحوا عشرين ، وفي هذه البقعة تجمع الجيش الرئيسي للشايقية لصد الغزاة .
وبالقرب من المكان الذي تقوم فيه حلة كورتي الحالية ، وقعت معركة حامية الوطيس ، انتهت بهزيمة الشايقية .
وكان في صفوف الشايقية فتاة ، تدعى مهيره بت الشيخ عبود (عكود) شيخ السواراب ، تركب جملاً مزداناً بالحلي والأدوات الفاخرة ، فأعطت إشارة البدء بالقتال بأن أطلقت الزغاريد ، فاندفع فرسان الشايقية يخوضون المعركة في قوة ومهارة .
وكان هجومهم عنيفاً جداً حتى أنّ البدو والمغاربة الذين تألفت منهم طلائع الجيش التركي ، قد ارتدوا وهم مضطربو النظام إلى الجيش الرئيسي .
ووافى عابدين كاشف للإنقاذ ومعه خيالته ، وشد على الشايقية ثلاث مرات سريعة متلاحقة ، حتى كبح جماحهم ، وحتى استطاع البدو والمغاربة أنّ يلموا شتاتهم ويصمدوا للمعركة من جديد ، وأصبحت نتيجة المعركة ، في لحظة من اللحظات ، موضع الشك بالنسبة للطرفين المتحاربين ، ولو أتيح للشايقية أنّ يتخذوا الأسلحة النارية ، ويعرفوا كيف يستخدمونها ، لدارت الدائرة على الأتراك . ولكن الشايقية كانوا في الواقع مسلحين بأشد أنواع السلاح بدائية ، فلدى كل منهم رمحان ، وسيف عريض النصل ، ودرع من جلود وحيد القرن ، وقليل من زعمائهم لبسوا أردية من الزرد ، وملكوا بعض الطبنجات .
عند تلك اللحظة الفاصلة ، أشار إسماعيل باشا إلى الجيش الرئيسي فأطلقوا عدة طلقات نارية سريعة ، وكان لها آثار مميتة ، في حشود الأعداد المتلاصقة .
ولم تعد النتيجة موضع شك ، فقد فر فرسان الشايقية في هلع ورعب ، أما المشاة منهم ، فقد انبطحوا على وجوههم ، ووضعوا دروعهم على رؤسهم يتقون بها طلقات العدو ، وابتهلوا إليه أنّ يرحمهم .
وقد انجلت المعركة عن ستمائة قتيل وجريح من الشايقية ، تسعون في المائة منهم كانوا من المحاربين المشاة .
وكان المشاة في جيش الشايقية يتألفون في معظمهم من النوبيين الذين أسرهم الشايقية في أثناء غاراتهم المتكررة على دنقلة ، وقد وقع عدد كبير من هؤلاء المشاة في يد إسماعيل ، فأرسلهم إلى قراهم .
لقد حارب الشايقية بشجاعة وجسارة عظيمتين ، وحازوا إعجاب أعدائهم ، وقد وصف وادنجتون طريقتهم في القتال فقال : ((إن لديهم في الهجوم جرأة نادرة لا نظير لها ، يركبون إلى الأعداء ويواجهونهم مواجهة قريبة ، وقلوبهم تهفو إلى اللقاء ، في خفة وابتهاج كأنهم ذاهبون إلى احتفال أو عيد ، ويعلوا وجوههم السرور كأنهم يلقون أصدقاء اشتد بهم الشوق إلى رؤيتهم بعد طول غياب ، فإذا واجهوا العدو بادءوه بقولهم : [ السلام عليكم ] - سلام المنية التي توافي تلك الرماح والتي تعقب هذه التحية مباشرة ، وتتوالى الطعنات يعطونها ويأخذونها ، وعلى ألسنهم تتردد ألفاظ الحب والمودة ، هذا الازدراء للحياة ، وهذه السخرية بأشد الأشياء إخافة وإرهاباً ، هو صفة لازمة لهؤلاء القوم - إنه الشعب الوحيد الذي يتخذ من الأسلحة لُعباً يتلهى بها ، ومن الحرب رياضة محببة إلى نفسه ، لا تطلبون من أعدائهم شيئاً سوى التسلية ، ولا يخافون من الموت شيئاً سوى أنه راحة لأبدانهم . وفى هذا السبيل أتيح لهم من البواعث ما أكد عندهم ما توارثوه من شجاعة جرت مجرى الفطرة في نفوسهم ، فقد عاشوا رفاقاً ملازمين لخيلهم ، ورمحاهم في أيديهم ، ثم تغيرت حالهم ، فأجبروا على أنّ يتخلوا عن خيلهم للغرباء ، وأنّ يستبدلوا برماحهم زحافات لتسوية الأرض المزروعة ، ومقاصب لتشذيب الشجر ، وأرغموا على أنّ
يسوقوا الثور حول الساقية بعد أنّ كانوا يطاردون العدو عبر الصحراء ، كان لديهم كثير من النوبيين الذين استوطنوا بلادهم ، واضطرهم الشايقية على أنّ يقوموا بجميع الأعمال الخاصة برى الأرض وزراعتها ، وكانوا ينظرون إلى النوبيين على أنهم دونهم كثيراً في المرتبة ، أما الآن فقد دعوا إلى أنّ يؤدوا بأنفسهم هذه الأعمال التي تعودوا أنّ ينظروا إليها على أنها أليق بالعبيد والخدم ، وصاروا لا يتوقعون من أحد معاملة أحسن مما كانوا قد تعودوا عليه من قبل ، لقد قُضى عليهم أنّ ينحدروا إلى العبودية دفعة واحدة ، بعد أنّ كانوا ، ليسوا أحراراً فحسب ، بل طغاة جبارين كذلك )) .
ويقول كايو أنّ معظم المشاة في جيش الشايقية كانوا سكارى(*) ، وأنّ كثيراً منهم كانوا يلقون بأنفسهم في تهور
واندفاع ، على بنادق الجنود الأتراك ، وقد حملوا في أيديهم أوعية الشراب المسكر ، وبدت على وجوههم علائم السرور كأنهم يشتركون في احتفال أو عيد .
وذكر وادنجتون أنّ خسائر الأتراك قد أسفرت عن جرح ضابط واحد وستة عشر جندياً ، وهذا قد يصدق على الأتراك أنفسهم ، أما عن حلفائهم من البدو والمغاربة فلا بد أنّ الخسائر بينهم كانت فادحة ، إذ أنهم هم الذين تحملوا معمعات القتال في هجوم الشايقية ، وقد قدر كايو عدد القتلى ثلاثين والجرحى ثمانين وربما كان هذا أقرب إلى الصحة .
بعد انتهاء المعركة ، استسلمت قرى البلاد المحيطة ، للخراب والحرائق ، وارتكب الغزاة صنوفاً مروعة من الوحشية والفظاعة ضد الأعداء الذين كانوا قد قاوموهم في شهامة وبسالة .
وأعلن إسماعيل باشا عن مكافأة قدرها خمسون جنيهاً لكل من يحضر له أذنين لأي شايقي قُتل في الحرب ، حتى يرسل ما يجمعه من الآذان المصلمْة إلى والده محمد علي شاهداً على نجاحه الباهر .
وكان من أثر ذلك أنّ أصبح لا يقف الأمر عند تصليم آذان الذين قتلوا وجرحوا في ساحة القتال ، بل تعدى إلى هؤلاء الأبرياء الذين لم يشتركوا في المعركة ، ولم يلتمسوا ذلك في الرجال وحدهم بل في النساء كذلك ، والذين قاوموا منهم كانوا إذا لم يقتلوا فوراً تشوه أجسامهم بصورة مفزعة ، أما القتلى والجرحى فقد تركوا راقدين حيث كانوا ، تنهشهم سباع الطير وتتخذهم طعاماً لها .
وفيما يلي نورد فقرة من كلام كايو ، وهي تلقى ضوءاً قاتماً على ما حدث بعد إنتصار الأتراك :
(( هرب بعض الشايقية إلى أوطانهم ، ظانين أنّ أعداءهم سيبقون على الرجال العزل ولكن أملهم كان سراباً ، فقد انتشرت الجنود الثائرة الهائمة كالسيل الجارف ، تجلب معها ، حيث حلت ، الحرائق والسرقات والمذابح ، وحاول الباشا أنّ يضع حداً لتعدى هؤلاء المجانين ولكن في غير طائل ، ولا غرو أنّ كان الباشا مسؤولاً عن ذلك ، فهو الذي دفعهم أول الأمر إلى التمادي في ذلك ، حين أعلن لهم عن مكافأته لكل من يأتي بآذان الشايقية مصلمة ، فإذا كان بعض الأتراك قد دفعتهم مشاعر إنسانية ، فوهبوا الحياة لأحد من هؤلاء التعساء عاثري الحظ ، فلم تبلغ بهم الأريحية قط إلى الحد الذي جعلهم يدعون الأذنين ملكاً لصاحبها ، فقد سمعت رجلاً يونانياً ، كان طبيب الباشا ، يفتخر بأنه أهدى إلى أحد الجنود أذني فتاة كان قد وجدها مختبئة في حقل من الذرة ، ويعلن أنه أبقى على حياتها لأنه شعر نحوها بعاطفة ، وأنه ما كان يشعر بمثل هذه العاطفة إزاء النساء الأخريات اللائى يكبرنها سناً ، ولذلك كان يذبحهن دون تردد )) .
ويؤيد ((جيوفاني فيناتي))(*) الذي صحب الحملة ، ما رواه كايو من ملاحظاته ، تأيداً كاملاً .
إن الغيظ الذي ملأ نفوس الجنود الأتراك ، لما وجدوه من أعدائهم من المقاومة في شجاعة وبسالة ، ولتعطشهم إلى التخريب ، وطمعهم في المكافأة ، قد ساقهم إلى الغلو المفزع في التعدي وانتهاك الحرمات .
لذلك لا غرابة في أنّ لا يقنعوا بانتصار واحد ، وأنّ يتمادوا ، وهم يحسون بروح معنوية عالية ، في النيل من خصومهم بكل الوسائل الممكنة ، وكانت كل الدلائل تنطق في وضوح وجلاء بهذه الحقيقة ، ويقول كايو (( فإن نصف الأهالي الذين التقينا بهم ، وكثير منهم من النساء ، كانوا محرومين إما من إحدى الأذنين أو كِلتيهما ، وكان آخرون منهم قد قطعت أطرافهم ، أضف إلى ذلك أننا التقينا في طريقنا بعظام وجثث وزرائب كانت طعمة للنيران )) . فالواقع أنّ الاضطهاد الذي حدث ، كان يقصد فيما يبدو إلى الإبادة والإفناء ، فالمنطقة كلها خُرِّبت ، وبذلك استحالت - في وقتها على الأقل - إلى إذعان مكتئب عابس .
فبعد موقعة كورتي خضع واحد أو اثنان من صغار المشايخ الذين حكموا على الضفة اليسرى من النهر ، أما سائر الشايقية وجيوشهم فقد عبروا النهر بزعامة الملك شاؤس واجتمعوا عند جبل دجر حيث قرروا القيام بمحاولة عنيفة في سبيل الحرية ، قام الجيش التركي ، مصحوباً بأسطول يتألف من حوالي 150 سفينة ، فعبر إلى الضفة اليمنى من كورتي وتقدم تجاه جبل دجر ، وكان ذلك في الأسبوع الأول من ديسمبر سنة 1820م .
واصطفت جنود شاؤس على منحدرات التل ، تحميهم قصور شاؤس وتحصيناته ، التي وصفها شاهد عيان بأنها كانت تلقى ظلالاً مظلمة على جانب التل .
كان الموقع الذي اختاره شاؤس مناسباً إلى أقصى حد ، ولو لم يكن هنالك فرق بين الجيشين في نوع الأسلحة المستخدمة ، لكان من الجائز أنّ يضمن هذا الموقع لجنود شاؤس نصراً محققاً .
ولكن الجموع من سكان القرى الذين ساقهم شاؤس إلى الميدان أو أغراهم بالاشتراك في الحرب ، لم يكونوا يمتلكون من الأسلحة إلا الرماح والدروع والسيوف ذات الحدين وكانوا في مقدمة الجيش قد تصدوا لرصاص الأتراك يتلقونه ويستنزفونه ، دون أنّ يقدموا على أية مقاومة إيجابية في لحظة الهجوم .
أقام الباشا جيشه في مواجهة الأعداء ، ووضع القسم الأكبر من خيالته قبالة الأرض المكشوفة بين الجبل والنهر ، ودفع بمدفعيته قليلاً إلى الأمام .
واندفع الأهالي المحاربون إلى الأمام ، وقد رفعوا أصواتهم بصيحات عالية ، ولوحوا برماحهم ، وألقى المشاة بأنفسهم على المدافع ، وما كان في أيديهم سوى الأسلحة التي أشرنا إليها ، فنُسِفوا نسفاً .
يقول إنجليش ، أحد الضباط الأمريكيين ، وكان قد حارب في المدفعية التركية : (( كانت الشجاعة المستميتة التي اتصف بها هؤلاء القرويون التعساء ، تبعث على الدهشة ، فقد تقدموا أكثر من مرة تجاه فوهات المدافع ، وجرحوا بعض رجال المدفعية وهم يقومون بحشوها بالرصاص ، ولكنهم بعد أنّ أحسوا بآثار قليل من الطلقات النارية ، التي مزقت الخيل والناس أشلاء ، هربوا مذعورين ، تاركين عساكر المشاة وقد داسوهم ، وأخذ فرساننا يقذفوهم بالسيوف يصوبونها إلى أسفل حتى قتلوا مئات كثيرة منهم وهم يهمون بالفرار )) .
(( وحين أقول : يصوبونها إلى أسفل ، فذلك لأن السيف الذي استعمله خيالتنا لم يكن يجدي فتيلاً ، فقد كان هؤلاء الأعداء من الحذق والمهارة في استخدام تروسهم بحيث استطاعوا أنّ يتفادوا كل ضربة صوبّت نحوها )) .
(( وقد شاهدت في ميدان القتال تروساً كثيرة فيها ما لا يقل عن عشرة أو خمسة عشر من فلول السيوف كل منها ملقى على جثة الميت ، الذي حملها ، والذي كان من الواضح أنه قتل برصاصتين أو ثلاث نفذت إلى جسمه )) .
(( وقد أخبرني الجنود أنّـهـم كانوا ، في كثير من الأحيان ، يضطرون إلى إفراغ قرابينتهم ( السلاح الناري ) ومسدساتهم في جسد رجل واحد قبل أنّ يسقط على الأرض صريعاً )) .
ويحكى وادنجتون قصة رجل من الشايقية ، أصابته خمس رصاصات ومع ذلك ظل يقاتل ، ويصيح في وجوههم قائلاً أنّ في مقدورهم أنّ يطلقوا النار ولكن ليس في مقدورهم أنّ يصيبوه بأذى ، إلى أنّ تلقى جرحه المميت .
وقد عزى هذا الاستبسال الخارق ، والحمية العسكرية إلى أنّ (فُقَرَا) (*) الشايقية قد أكدوا لجيوشهم أنّ سلاح الغزاة لن يؤثر في أجسامهم ، وكان هؤلاء (الفقرا) قد زودوا المحاربين بأكوام من التراب المبارك لكي ينثروه على أجسامهم فيحدث الأثر المطلوب ، ومن ثم تقدموا نحو صفوف أعدائهم الأتراك ، وهم في حالة المتهلل الراقص أقرب من حالة المحارب المقاتل ، تبدو على وجوههم سيماء الثقة المطلقة بالنفس ، والسخرية المفرطة بالأعداء .
ولكنهم أدركوا ، بعد أنّ دارت رحى الحرب ، أنّ تلك التعاويذ التي أوصاهم مشايخهم بأن يعتمدوا عليها وأنّ يثقوا فيها ، قد خدعتهم خدعة كانت السبب في شقائهم وويلاتهم ، فأضمروا لفقرائهم شراً ، وعقدوا النية على أنّ ينتقموا منهم انتقاماً مريعاً ، فما كادت تنتهي المرحلة الأولى من المعركة ، حتى قبضوا على أسرة الفقرا كلها ، وهي أسرة الدويحية ، وقتلوهم عن أخرهم ، بل خربوا القرية التي كانت هذه الأسرة تقيم فيها ، وهي قرية شِبَة بالقرب من كريمة .
كانت نتيجة هذه المعركة وبالاً على الشايقية ، ولجأوا إلى تلال أمري .
وواصل الجيش التركي مطاردة الأعداء إلى أنّ بلغوا جبل البركل ، وهم ينهبون ويحرقون ويقتلون كل ما يصادفوه في طريقهم ، ويخربون البلاد بَعيدها وفسيحها ، وكان هذا التخريب الواسع النطاق مخيفاً مفزعاً ، حتى أنّ الرجال الذين طعنوا في السن ، والصبية الذين كانوا يديرون سواقيهم في سلام وهدوء ، لم يفلتوا من أيديهم ، بل مزقوا أجسامهم في حقولهم ، وتركت مع جثث حيواناتهم ، تبلى وتنتن في وسط مزارعهم المهجورة .
وقد مرّ وادنجتون خلال هذه الديار ، بعد الذي أحدثه الجيش فيها ، بأسابيع قليلة ، ورسم لنا صورة بشعة مفزعة لما أصابها من الخراب والدمار .
وبعد انتهاء المعركة بوقت قصير ، أعلن الملك صبير خضوعه للجيش التركي ، ويعزى هذا إلى السبب التالي :
بعد أنّ دحر الأتراك الشايقية عند جبل دجر ، وقضوا على استحكاماتهم ، حاولت بنت الملك صبير ، واسمها (صافية) ، أنّ تشق لنفسه (الفصل غير مكتمل).




hgy., hgjv;d gfgh] hgahdrdm hgy., hgjv;d gfgh] hgahdrdm