ثلاثية العشيرة والقبيلة والعرف والثورة والدولة في القرن الإفريقي
أ.د حسن مكي محمد احمد
ما عدت أتتبع أخبار القرن الإفريقي ، لأنّها تجلب الحزن والألم ولا تكاد تسمع خبرا سارا إلا فيما ندر ، والقرن الإفريقي في ذهني هو منطقة الصومال وجيبوتي وإرتريا وإثيوبيا والسودان وبعض نواحي كينيا . وبرزت في هذه المنطقة تاريخياً حضارات النوبة وأكسوم ، وللحضارة النوبية عدة طبعات حضارية أقربها لحضارة أكسوم الطبعة المروية وبدلا من التآخي والمحبة لم يعصم التشابه بين الحضارتين من قيام أكسوم بتدمير حضارة مروي .
ولكن هذا حديث التاريخ وهل يمكن تدوين قصة حدث دون الإلمام بالتاريخ ، وقصة الدولة في القرن الإفريقي ، قصة معقدة فمثلا فكرة الدولة قديمة في شمال إثيوبيا وشمال السودان مثلها مثل مصر ولكن إذا خرجت من الهضبة الإثيوبية ، فستجد قبائل وعشائر لا تعرف إلا سلطات العشيرة والقبيلة . وكذلك إذا خرجت من منطقة النوبة في مختلف تجلياتها الحضارية (كرمة ، نبتة ، مروي ،المغرة وسوبا ثم السلطنة الزرقاء) وكلها على النيل لن تجد إلا سلطان القبيلة والعشيرة باستثناء سلطنة دارفور وما يليها غربا من سلطنات كوداي وبرنو وكانم .
جاء التشكل الحديث للدولة في القرن الإفريقي من صناعة وحدادة ثلاث مؤثرات ، وهي مشروع محمد علي التوسعي في مصر ومحاولته لإقامة دولة مصر الطبيعية التي تتوافق حدودها السياسية مع حدود نهر النيل .
والمؤثر الثاني هو المؤثر الإستعماري ممثلا في الإمبراطوريات البريطانية والإيطالية والفرنسية التي سعت لإقامة مناطق نفوذ على الساحل الصومالي الممتد ما بين البحر الأحمر والمحيط الهندي فكانت الثمرة إرتريا الإيطالية وجيبوتي الفرنسية وشمال الصومال ( هرجيسا) الإنجليزي وجنوب الصومال (مقديشو) الإيطالي .
والمؤثر الثالث : هو فتوحات ملك الحبشة منليك (1864 / 1913م) الذي نقل الحبشة (إثيوبيا) من جيب صغير في الهضبة وفضاء إديس ابابا إلى إمبراطورية قهرت قبائل الجالا (الأورومو) والصومال والسيداما وهرر وشعوب الجنوب بما فيها بنو شنقول ويمكن القول بأن شخصية هذه الإمبراطورية قد اكتملت في عام 1902م .
ويمكن أن نلخص بروز شخصية دول القرن الإفريقي كالآتي :
الدولة السودانية وصلت إلى مرحلتها النهائية عام 1916م ، بدمج الكيان السناري + قبائل النوبة وجنوب السودان بالإضافة إلى سواكن ثم دارفور ، وأصبح يطلق على هذا الكيان الذي ابتدأت صناعته في 1821م وتكاملت في 1916م السودان / المصري / الإنجليزي وبعد رفع العلم في 1/1/56 اصبح جمهورية السودان .
الامبراطورية الإثيوبية وتكاملت في عدة مراحل ، والغريب في الامر ، أن المرحلة الأولى ، جاءت هدية من الثورة المهدية ، حينما تم اغتيال الإمبراطور الإثيوبي يوحنا في معركة المتمة عام 1889م ، وأدى ذلك إلى توحيد إثيوبيا التي كان يتنازع أمرها الإمبراطور يوحنا والملك منليك ويمثل الأول قومية التجري ومنليك الامهرا وحينما اختفى يوحنا من المسرح السياسي اصبح منليك والذي ظل منافسا ليوحنا منذ عام 1864م إمبراطوراً ويفضل مساندة الدول الأوروبية له حتى يساعدها في القضاء على المهدية ونتيجة كذلك لانتصاره على إيطاليا في معركة عدوة الشهيرة في مارس 1896 فقد اصبح نجما في الساحة العالمية وتسابقت القوى الأوروبية على مده بالسلاح وعمل المعاهدات الثنائية معه. حتى أصبح صاحب إمبراطورية ضمت مناطق جنوب إثيوبيا الحالية ، وتكاملت الإمبراطورية الإثيوبية في ظروف الحرب العالمية الأولى في الأوجادين حيث قام الإمبراطور هيلاسلاسي باخضاع مناطق الاوجادين ، بعد مقتل الإمام محمد عبدالله الحسن ، الذي سماه الإنجليز الملأ الأحمر أو الدرويش الأحمر وقتلوه في بداية العشرينات رشاً بالطائرات على نحو ما فعلوا في دارفور مع المجاهد علي دينار .
توفى الإمبراطور منليك في 1913م وقبل أن يتم الحاق دارفور بالسودان في عام 1916م ، وكان منليك يرى أن حدود إمبراطوريته تشمل القضارف وكركوج وملتقى السوباط مع النيل الأبيض أي ملكال وسهول نهر عطبرة انتهاء بالخرطوم ، التي ذكر بأن الله إن منحه القوة فإنه سيعيد وضعها تتويجاً لإمبراطوريته المسيحية .
كادت أوضاع إثيوبيا الداخلية أن تنهار، حتى كادت تطيح بطموحات منليك ومرجعياته الفكرية ، لأنه مات دون أن يكون له وريث ، فخلفه حفيده ابن ابنته- ليج إياسو ، وتحدر ليج إياسو من صلب منليك ولكن كان والده زوج أمه الرأس محمد علي مسلماً وتربى سراً على دين أبيه، وكان يظهر النصرانية ويبطن الإسلام وما أن اعتلى العرش وكان شاباً غضاً ابن نحو ثمانية عشر عاما وتنقصه الحكمة ويملأه الحماس لتصحيح الأوضاع الدينية والثقافية ، فكان أن اعلن إسلامه واتخذ راية كتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأعلن التحالف مع مهدي الصومال محمد بن عبدالله الحسن واتجه نحو هرر قلب المنطقة الإسلامية ولم يكن يدري أن الامور ليست مطلوقة هكذا .
إذ تحركت الكنيسة الإرثوذكسية القبطية واعلنت مروق ليج أياسو على مطلوبات حكم إثيوبيا وأنه أصبح أمبراطوراً غير شرعي لإرتداده على دين إثيوبيا وشخصية إثيوبيا، ثم جاءت الجيوش الإنجليزية وقضت كما هو معروف على دولة ليج أياسو ودولة محمد عبدالله الحسن ودعمت ابن رأس ماكونن المعروف بهيلاسلاسي ليصبح إمبراطور إثيوبيا الجديد . ومن الغرائب أن هيلاسلاسي الذي يدعي أنه يحمل دماء مقدسة ويتحدر من صلب نبي الله سليمان كان مشكوكاً في تحدره من صلب رأس ماكونن ، الذي غزا هرر على رأس جيش منليك وشارك في تدمير مسجد هرر وتحويله إلى كنيسة ارثوذكسية وتم اسر ليج إياسو الإمبراطور المسلم ووضعه في السجن لمدة (14) عاما من (1922- 1936) وفي عام 1936م تمّت تصفيته حينما غزا الطليان إثيوبيا حيث خشى الإمبراطور هيلاسلاسي أن يقوم الطليان بتحرير ليج إياسو وتنصيبه ملكا ، لذا قام بقتله قبل فراره.
حكم الإيطاليون إثيوبيا في الفترة من 1937الى 1941 واصبح الإمبراطور هيلاسلاسي لاجئاً الى أن تمت اعادته إلى كرسي الإمبراطورية بواسطة قوة دفاع السودان والمقاومة الوطنية الإثيوبية، ووراء كل ذلك الإمبراطورية البريطانية ، التي كان أمر كسب الحرب ضد الإيطاليين مسألة حياة أو موت . إذ لو خسرت بريطانيا الحرب أمام إيطاليا ، فإنها ستفقد السودان وربما مصر وسيفتح ذلك الباب لروميل القائد الالماني لاجتياح كل منطقة الشرق الأوسط والإلتفاف على القوات البريطانية وحلفائها في أوروبا وربما أدى ذلك إلى إطالة أمد الحرب وتسوية دون غالب أو كسر الإمبراطورية البريطانية مما كان قد يؤدي إلى تغيير حركة التاريخ .
ومهما يكن ، فقد نجح منليك في صناعة إمبراطورية ولكن لم تكن هذه الإمبراطورية تملك أوكسجين حياة الداخل ، مما جعلها رهينة أوكسجين الخارج وجابهت هذه الإمبراطورية تحديات نقص أوكسجين الداخل بالتعويل على الخارج وتمثلت أكبر قضيتين في :
رفض القومية الصومالية (قبائل الاوجادين) الإندماج في راية الإمبراطورية التي قامت على هوية قومية قوامها شخص الإمبراطور المقدس واللغة الأمهرية والكنيسة الإرثوذكسية.
رفض سكان المنخفضات والساحل في إرتريا راية القومية الإثيوبية ورفعهم لراية الهوية الإرترية التي قوامها التجرنجية والعربية والمواطنة.
وبدأت على إثر ذلك حروب إثيوبيا التي أدت لانهيار إمبراطورية الأمهرا على مراحل ، مرحلة منجستو ثم مرحلة القوميات على يد الرئيس زناوي .
وفي المرة القادمة سنواصل هذا الحديث الشائك حول مآلات المسألة الإثيوبية.
ولا يعلم الغيب إلا الله .
صحيفة الرأي عام
eghedm hguadvm ,hgrfdgm ,hguvt ,hge,vm ,hg],gm td hgrvk hgYtvdrd
مواقع النشر (المفضلة)