الملاحظ والغريب جدا حدوث عشرين انقلابا منذ الاستقلال الجزر عن الاستعباد "الاستعمار" الفرنسي..وهذا بحد ذاته مدعاة للبحث..فلماذا تحدث بكثرة في هذه الجزر الصغيرة؟
ولعل السبب قد يكون غامضا بعض الشيء..لكن اعتقد بأنّ هذه الجزر تعاني من التنازع فيما بينها بسبب الموارد الهامة في بعضها دون الأخريات فصناعة العطور الفرنسية تعتمد بشكل مباشر على ما تنتجه من الزيوت العطرية المستخلصة من الزهور التي تشتهر بها بعض الجزر..وأضيف اليها قوة الدور الفرنسي المباشر وغير المباشر ويبرز جليا رفضه لاستفتآئين جريا في البلاد..وأسباب أخرى مثل:
الأول سياسي انفصالي، يتمثل في رغبة بعض القادة السياسيين في الاستئثار بالثروات الموجودة في أماكن سيطرتهم، دون توزيعها مركزيا. وهنا يمكن تفسير أسباب سعي جزيرة أنجوان تحديدا للانفصال أكثر من مرة، وعدم انصياعها للنظام المركزي في موروني، بالمزايا النسبية التي تتمتع بها مقارنة مع الجزيرتين الأخريين (القمر الكبرى وموهيلي)، إذ هي الأغنى بمواردها وقدراتها الاقتصادية.
فهذه الجزيرة يعتمد اقتصادها على تصدير الزهور والزيوت العطرية إلى كبرى مصانع العطور في باريس، كما أنها تشهد رواجا واضحا في صناعة السياحة التي تشكل أحد الموارد الرئيسية للدخل القومي جنبا إلى جنب مع الزراعة وتحويلات العمالة القمرية في الخارج.
وتعد أنجوان الميناء الرئيسي لجزر القمر في المياه العميقة، ومن ثم فهي تسيطر على طريق التجارة الدولية، ولاسيما عبر قناة موزمبيق التي لا تزال حيوية لمسارات التجارة حول مناطق الجنوب الأفريقي.
الثاني العامل الجغرافي، على اعتبار أن الدولة عبارة عن جزر منفصلة في المحيط الهندي، مما يجعل الاستمرار تحت نظام حكم مركزي واحد أمرا صعبا على حكام تلك الجزر.
ولعل هذا ما دفع حاكم جزيرة أنجوان المخلوع سعيد عبيد الذي وقع انقلاب ضده برئاسة محمد بكر عام 2001، إلى الحرص على التأكيد على فيدرالية الدولة وإعطاء كل جزيرة حكما ذاتيا فيما يتعلق بالأمور الداخلية باستثناء قضايا الدفاع والتمثيل الخارجي.
وهذا ما تم تضمينه في اتفاق فومبوني عاصمة جزيرة موهيلي للمصالحة الوطنية في العام ذاته 2001، والمطالبة بتضمين ذلك في الدستور أيضا.
ولقد اعترضت منظمة الوحدة الأفريقية في حينها على فكرة الحكم الذاتي، لأنها يمكن أن تؤدي إلى تنامي النزعة الانفصالية، كما حدث بعد حوالي ستة أشهر تقريبا من الاتفاق، وكان ضحيته سعيد عبيد حاكم أنجوان ذاته.
ولعل ذلك يفسر أسباب تأكيد الدستور القمري الذي تم إقراره عام 2001 على مبدأ الفيدرالية، وتغيير اسم البلاد لتصبح اتحاد جزر القمر، وإعطاء قدر أكبر من الحكم الذاتي للجزر الثلاث، باستثناء خمسة أمور هي من صميم اختصاص الرئيس الاتحادي، وهي قضايا الدين والعُملة والجنسية والعلاقات الخارجية والدفاع، أما فيما يتعلق بالصلاحيات المشتركة فيتم تنظيمها من خلال قانون لاحق.
لكن ظهرت أزمة بين المركز والأطراف خلال السنوات الثلاث اللاحقة لإقرار الدستور بسبب الخلاف حول الصلاحيات، خاصة فيما يتعلق برغبة جزيرتي أنجوان وموهيلي في أن يصبح لهما جيش خاص بهما، وهو الأمر الذي رفضه الرئيس سامبي بشدة، على اعتبار أن ذلك يتناقض مع طبيعة النظام الفيدرالي.
إنّ هذا الطرح "غير المنطقي" من شأنه زعزعة استقرار البلاد، خاصة وأن الجيش المركزي ذاته لا يزيد عدد قواته عن ألفي جندي وضابط، مع ضعف قدراته التسليحية بصفة عامة (لا يملك الجيش طائرة واحدة).
الثالث وضع جزيرة مايوت "القمرية" تحت السيطرة الفرنسية، والمعونات الضخمة التي تقدمها فرنسا لسكان الجزيرة، مما أدى إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد عدة أضعاف عن مستوى نظيره في الجزر الثلاث الأخر.
وهذا ما يجعل حكام هذه الجزر -خاصة أنجوان- أمام خيارين: إما الاستقلال التام والانضمام إلى جزيرة مايوت، أو بمعنى آخر الحصول على الرعاية الفرنسية، وإما استمرار الرابطة الفدرالية الشكلية، مع الاحتفاظ بدرجة من الاستقلال الفعلي، وفي حالة حدوث أي أزمة مع المركز، فإن البديل هو عدم الانصياع.
وهذا هو ما حدث في الأزمة الأخيرة عندما رفض العقيد بكر قيام الرئيس سامبي بتعيين خليفة له بعد انتهاء مدته القانونية، وقيامه بإجراء الانتخابات.
ومن هنا يمكن القول بأن النظام الفيدرالي قد يساهم في تقوية الدولة المركزية كما هو الحال في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أو حتى في بعض الدول الأفريقية مثل نيجيريا التي تتكون من 36 ولاية، لكنه قد يؤدي إلى حدوث حالة من عدم الاستقرار السياسي كتلك التي تشهدها جزر القمر، بسبب ضعف النظام المركزي في موروني، خاصة في المجال الأمني.
مواقع النشر (المفضلة)