ونتابع سيرة مشاهير الشعراء
كان من البراجم " قوم من أولاد حنظلة بن مالك " ...
ومن غرر مواعظه ووصاياه لابنه قوله :
فالله فاتّقْهِ وأوفِ بنذرهِ ..... وإذا حلفت ممارياً فتحللِ
واعلم بأن الضيف مكرم أهله ..... بمبيت ليلته وإن لم يسألِ
والضيف أكرمه فإن مبيته ..... حقٌّ ولا تكُ لعنةً للنزّلِ
وصِل المُواصل ما صفا لك وُدّه ..... واحزز حبال الخائن المتبدّلِ
واترك محل السوء لا تحلل به ..... وإذا نبا بك منزل فتحوّلِ
دار الهوان لمن رآها داره ..... أفراحلٌ عنها كمن لم يرحلِ
وإذا هممت بأمر شرٍّ فاتّئد ..... وإذا هممت بأمر خيرٍ فاعجلِ
وإذا أتتك من العدو قوارصٌ ..... فاقرص هناك ولا تقل لم أفعلِ
وأمير شعره قصيدته التي أوّلها :
إلا أم عمرٍ وأجمعت فاستقلّت ..... وما ودعت جيرانها إذ تولّت
وبيت القصيدة قوله في وصف امرأة
فدَقّتْ وجَلّتْ واسبكرّتْ وأظلمتْ ..... فلو جَنَّ إنسانٌ من الحسن جَنَّتِ
أي دقّت خاصرتها وجلّت عجيزتها وامتدّ قوامها واسودّ شعرها , فلو كان أنسان يجنُّ من فرط الحسن لجَنَّت هذه ...
أمير شعره وغرّة كلامه في الخطاب بالنفس لطلب المال قوله :
فمن يك مثلي ذا عيال ومقتر ..... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو ينال رغيبة ..... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجحِ
إذا آداك مالك فامتهنهٌ ..... لجاديه وإن قرع المراحُ
أي إذا أعانك مالك فابذله لمن سألك إياه وإن بقيت صفراً منه ...
كان بعض الكهّان أنذره بهلاكه من لدغةٍ تصيبه , وكان يتحرّز منها بجهده ولا ينام إلا على ظهر راحلته , فبينما هو ذات ليلة على ناقة له , وهي ترعى , إذ التوّت حيّة على مشفرها فاضطربت فرمت بها إليه فلدغته , فقال في وقته :
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتّقي ..... إذا هو لم يجعل له الله واقياً
أمير شعره قصيدته التي أولها :
أتعرف رسماً كاطّراد المذاهب ..... لعمرةَ وحشاً غير موقف راكب؟
وبيت القصيدة قوله في وصف امرأة
تراءت لنا كالشمس بين غمامة ..... بدا حاجبٌ منها وبانت بحاجب
ولما رأيت الحرب قد جدّ جدّها ..... لبست مع البردين ثوب محارب
يقول قد جمعت بين ثوب الصلح وثوب المحارب لأكون على بصيرة من أمري في الحالين .
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ..... خطانا الى أعدائنا بالتقارب
لو انّك تلقى حنظلا فوق بيضنا ..... تدحرج عن ذي سامة المتقارب
غرّة شعره الذي يتمثل به قوله :
إستَعِنْ أو مُتْ ولا يغررك ذو نَشَبٍ ..... من ابن عمٍ ولا عم ولا خال
إني مقيم على الزوراء أعمرها ..... إن الحبيب ألى الإخوان ذو المال
وما يدري الفقير متى غناه ..... ولا يدري الغني متى يعيل
هو من الشعراء المجيدين , ومن غرر شعره السائر سير الأمثال قوله :
إني وإن كنت ابن سيد عامرٍ ..... وفارسها المشهور في كل موكبِ
فما سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ ..... أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أبِ
ولكنني أحمي حماها وأتّقي ..... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
ويقع قوله هذا في كل اختيار لاشتمال الحسن والجودة على لفظه ومعناه ...
واسمه الشرقي بن حنظلة , قال دعبل : إن أمدح بيت قالته العرب في الجاهلية قول أبي الطمحان :
وإن بني أوس بن لأم أرومة ..... علتْ فوق صعب لا تُرام مَراقبهْ
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ..... دُحى الليل حتى نظَّم الجزْع ثاقبُهْ
وكان ابو بكر الخوارزمي يقول : ربما أردت البكاء في بعض مواطنه فيمتنع عليَّ فما هو إلا أن أنشد أبيات أبي الطمحان القيني فيما بيني وبين نفسي حتى ينحل عقد الدمع , وهي هذه :
ألا علّلاني قبل صدح النوائح ..... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وقبل غدٍ يا لهف نفسي على غدٍ ..... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي تفيض دموعهم ..... وغودِرْتُ في لحدٍ عليَّ صفائحي
يقولون " هل أصلحتم لأخيكم ؟ ..... وما اللحد في الارض الفضاء بصالح
والشيء بالشيء يذكر , وذلك أن بعض الأدباء قال : إذا استجلبت ماء العين أيضاً في وقته فأبى أنشدت قول بعض المحدثين فيما بيني وبين نفسي , فما هو إلا أن أمرّه ببالي وقد جاءت العبرات وهو هذا :
ولتطلعنَّ الشمس بعد فراقنا ..... بيضاء لم تأسف على فقداننا
كم من غداةٍ يُستطاب نسيمها ..... ويدُ البلى تقضي على أبداننا
واسمه ميمون بن قيس , وكان يقال له " صَنّاجة العرب " لكثرة ما تفنن في شعره , وهو أحد الأربعة الذين وقع عليه الاتفاق على انهم أشعر العرب , وقد تقدم ذكرهم , وهو على ساقة الجاهليين , ومقدمة المخضرمين , وكان قد أدرك المبعث ومدح النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يتوفق للإسلام , فمن أمثاله السائرة قوله في الخمر :
وكأسٍ شربت على لذّةٍ ..... وأخرى تداويت منها بها
لكي يُعلم أني امرؤٌ ..... أتيت المروءة من بابها
وله البيت الذي وقع عليه الاتفاق أنه أهجى بيت في الجاهلية , وهو قوله في علقمة بن علاثة
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ..... وجاراتكم غرثى يبتن خماصا
ويروى ان علقمة لما قرع سمعه هذا البيت بكى , وقال : اللهم اخزه واجزه عني إن كان كاذبا ! ومن غرر شعر الاعشى وأبيات قصائده وواسطة قلائده قوله :
وإني القريب من يُقرّب نفسه ..... لعمر ابيك الخير لا من تنسّبا
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ..... مَصارعَ مظلوم مُجرّاً ومُسحبا
وتُدفن منه الصالحات وإن يسىء ..... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
ومن أمثاله السائرة قوله ...
ألست منتهياً عن تحت أثلتنا ..... ولست ضائرها ما أطّت الإبل
كناطح صخرة يوماً ليقلعها ..... فلم يضِرها وأوهى قرنه الوعل
عوّدت كندةَ عادة فاصبر لها ..... إغفر لجاهلها وروِّ سجالها
أو كُن لها جملاً ذلولاً ظهره ..... واحمل فأنت معوّد تحمالها
ومن أمثاله السائرة قوله ...
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التّقى ..... ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على ان لا تكون كمثله ..... فتُرْصِدَ للأمر الذي كان أرصدا
لبيد بن ربيعة العامري الأنصاري
وهو من الشعراء المخضرمين عاش في الجاهلية ستين سنة , وفي الاسلام مثلها , وكان عذب المنطق , رقيق حواشي الكلام , وفي الخبر " أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطلٌ ..... وكل نعيمٍ لا محالة زائلُ
سوى جنّة الفردوس إن نعيمها ..... يدوم وإن الموت لا بدّ نازلُ
وسُئلَ لبيد عن أشعر الناس ؟ فقال : الملك الضليل يعني امرأ القيس , قيل : ثم من . قال : الغلام القتيل , يعني طرفة , قيل : ثم من ؟ قال : صاحب العكّاز يعني الشيخ أبا عقيل , وهو نفسه .. وسمع الفرزدق رجلاً ينشد قول لبيد :
وجلا السيول عن الطلول كأنها ..... زُبُرٌ تُجِدُّ متونها أقلامها
فسجد ! فقيل له : ما هذا يا أبا فراس ؟ فقال : أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر ! وروي أنه لما أنشد قصيدته هذه في الجاهلية وبلع قوله :
يعلو طريقة متنها مُتواتِرٌ ..... في ليلةٍ كفر النّجوم غمامها
سجد له شعراء زمانه ! وقيل لبشار بن برد : أخبرنا عن أجود بيت قالته العرب , فقال : إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد , ولكن قد أحسن كل الاحسان لبيد في قوله :
وأكْذِبِ النفس إذا حدثتها ..... إن صدق النفس يزري بالأمل
وإذا رُمت رحيلاً فارتحل ..... واعْصِ ما يأمر توصيم الكسل
وحُكي أنه لم يقل في الاسلام غير بيت واحد وهو قوله :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ..... حتى اكتسيت من الاسلام سربالا
وحكى ابن دريد :أن لبيدا عاش مائة وخمساً واربعين سنة .. خمساً وخمسين في الاسلام , وتسعين في الجاهلية , وقد كان معاوية همّ بأن ينقص عطاءه فأرسل اليه " إنما أنا هامة اليوم أو غد , فأعرني اسمها فلعلّ أن لا أقبضها " فمات قبل أن يقبضها , وله اخبار طيبة ذكرها ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء وابن عبد البر في الاستيعاب وأبو حاتم السجسيتاني في كتاب المعمرين ...
مواقع النشر (المفضلة)