ألعرب أقرب للحلم من غيرهم
أما كون العرب أقرب للحلم من غيرهم , فلأن الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب , كما أن التحلّم إمساكها عن قضاء الوطر , والحلم من آثار العقل وغير مُنْفَكٍّ عنه , ولهذا يعبر به عن كل عقل ظهر فعلا كقوله تعالى في ذم من لم يذعن للحق على سبيل التعجب منهم { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } ؟ ومتى استعمل الحلم في الباري تعالى فإنما يراد العمل بمقتضاه وهو العفو دون انفعال يعرض له ...
ثم إن العقل كلما كان أوفر كان تأثيره أتَمَّ وأثره أقوى وأحكم , وقد سبق ما كان عليه العرب من غزارة العقل وكماله , فلا شك أن مؤثراته كذلك , وقد اشتهر العرب لا زالت مآثرهم تتلى على مدى الدهور , وممر الأزمنة والعصور , بكل ما يتم الحلم به فإن حلم الانسان لا يتم إلا بإمساك الجوارح كلها , اليدِ عن البطش , واللسان عن الفحش , والعين عن فضولات النظر , ومن دقق النظر في شعرهم وخطبهم , ووقف على لغتهم , تبيّن لديه كل ما ذكرناه ...
فقد كانوا يحرمون الظلم ويتحالفون على الكف عنه كما حلف الفضول ونحوه , ويتناهون عن الفحشاء والمنكر , ولغتهم تكنى عن كل ما يستقبح التصريح به تحرزاً من التلفظ بكلمة تأباها مروءتهم , وقد أفرد الثعالبي كتابا كبيرا في كناياتهم عما تتنزّه ألسنتهم عن التعبير به , وما زالوا يتمدحون بالحلم في شعرهم , ولو لم يكونوا بالغين فيه مبلغاً ما لهجوا به , قال خلف بن خليفة مولى قيس بن ثعلبة يذكر قوما من العرب ويمدحهم بالحلم ومكارم الاخلاق وكرم السجية :
عدلت الى فخر العشيرة والهوى ..... إليهم وفي تعداد مجدهم شُغْلُ
الى هضْبَةٍ من آل شيبان أشرفت ..... لها الذروة العلياء والكاهل العَبْلُ
الى النفر البيض الأُلآء كأنهم ..... صفائح يوم الروع أخلصها الصَّقْلُ
الى معدِنِ العِزّ المؤيَّدِ والندى ..... هناك هناك الفضل والخلق الجَزْلُ
أحب بقاء القوم للناس أنهم ..... متى يظعنوا من مصْرَع ساعة يخلو
عِذابٌ غلى الأفوه ما لم يُذقٍهُمُ ..... عدوٌ وبالأفواه أسماؤهم تحلو
عليهم وقار الحلم حتى كأنما ..... وليدهم من أجل هيبته كَهْلُ
إن استجهلوا لم يعزب الحلم عنهُمُ ..... وإن آثروا أن يجهلوا عَظُم الجهْلُ
هم الجبل الأعلى إذا ما تناكرت ..... ملوك الرجال أو تخاطرت البُزْلُ
ألم ترَ أن القتل غالٍ إذا رضوا ..... وإن غضبوا في موطنٍ رخص القتْلُ
لنا فيهم حصنٌ حصينٌ ومعقِلٌ ..... إذا حرّك الناس المخاوف والأزْلُ
لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ..... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكْلُ
سعاة على إفناء بكر بن وائل ..... وتَبْلُ أقاصي قومهمُ لهم تَبْلُ
إذا طلبوا ذحلاً فلا الذحْل فائتٌ ..... وإن ظلموا أكفاءهم بطَلَ الذَحْلُ
مواعيدهم فعلٌ إذا ما تكلموا ..... بتلك التي إن سُمّيَتْ وجَبَ الفعْلُ
بحورٌ تلاقيها بحورٌ غزيرة ..... إذا زخَرَت قيسٌ وإخوتها ذُهْلُ
وكانت عندهم كلمة تقال في مواطن الغضب والتشاجر فإذا سمعها أحدهم كفَّ عما كان بصدده من التشفّي وأخذ الانتقام , وهي " إذا ملكت فأسْجِحْ " يُقصد بها طلب العفو والحلم عند ثوران القوة الغضبية ولو لم يكونوا أملك لنفوسهم , وأقدر على مجاراة عقولهم , لما تمكنوا على الارتداع , إذا قارنت تلك الكلمة منهم السماع , فهم أحلم في النفار من كل حليم , وأسلم في الخصام من كل سليم , وإذا منوا بجفوة أحد لم يوجد منهم نادرة , ولم يخفر عليهم ببادرة , ولا حليم غيرهم إلا ذو عثرة , ولا وقور سواهم إلا ذو هفوة , يصبرون على الأذى والإقلال , ويتحملون نغص العيش وضيق الحال , وما كانت بينهم من الحروب والمشاجرات , والتخاصم والنزاعات , فهي محاماة لشرفهم , وصيانة لعزّهم ومنزلتهم , ومحافظة على مجدهم أن يُستَذّل , وملاحظة على علوّ حسبهم أن يُسْتَرْذَلْ ...
والحلم في غير موطنه ذلّة , والصبر على ما لا يُحْمَدُ زلّة , هؤلاء رُسُل الله صلوات الله وسلامه عليهم , وهم أكمل الخلق في كل صفة محمودة , وأعذب المناهل المورودة , قد انتصبوا لجهاد الأعداء , وقاتلوا من زاغ عن المحجّة البيضاء , حتى زاد بهم من قَلْ , وعزَّ بهم من ذَلْ , وصادوا بإثخانهم في الأعداء منصورين , وبالرعب منهم محذورين , وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب رقاب بني قريظة صبراً في يوم أحد , وهم نحو سبعمائة , وانتقم منهم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة , ولا داخلته لهم رقّة , وإنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى , وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرَت عليه الموسى قُتل , ومن لم تجرِ عليه استُرِق , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حكم الله من فوق سبعة أرقمة ... فلم يجز أن يعفو عن حق وجِبِ لله تعالى عليهم , وإنما يختص عفوه بحق نفسه ...
روي أن قيس بن عاصم المنقري , وهو أحد من يضرب به المثل في الحلم من العرب كان يُحدّث لأصحابه يوماً وهو مُحتب إذ جاؤا بابن له قتيل , وابن عمٍ له كتيف , فقالوا : إن هذا قتل ابنك هذا , فلم يقطع حديثه ولا نقض حبوته , حتى إذا فرغ من الحديث التفت اليهم فقال : أين ابني فلان ؟ فجاءه فقال : يا بني قم الى ابن عمّك فأطلقْه والى أخيك فادفنه والى أم القتيل فأعطها مائة ناقة فإنها غريبة لعلها تسلو عنه , ثم اتكأ على شقّه الأيسر فأنشأ يقول :
إني امرؤٌ لا يُعترى خُلقي ..... دَنَسٌ يُفَنّدُهُ ولا أفَنُ
من منقر في بيت مكرُمةٍ ..... والغصن ينبت حوله الغصن ُ
خطباء حين يقول قائلهم ..... بيضُ الوجوهِ مصاقعٌ لُسْنُ
لا يفطنون لعيب جارهم ..... وهم لحفظ جواره فُطْنُ
وكان الأحنف حليما موصوفا بذلك , فمن حلمه أنه أشرف عليه رجل وهو يعالج قدراً له يطبخها , فقال الرجل : قدرٌ ككفِّ القِرد لا مُستعيرها يُعار , ولا من يأتبها يتدسّم , فقيل ذلك للأحنف فقال : لو شاء لقال أحسن من هذا , وقال ما أحب أن لي بنصيبي من الذّل حمر النِّعم , فقيل له : أنت أعز العرب , فقال : إن الناس يرون الحلم ذلاّ .. وكان يقول : رُبَّ غيظٍ قد جرعته مخافة ما هو أشدُّ منه , وكان يقول : كثرة المزاح تُذهب الهيبة , ومن أكثر من شيء عُرِف به , والسؤدد كرم الاخلاق وحسن العمل ...
قال له رجل : يا أبا بحر دُلّني على مَحْمَدَةٍ بغير مَزْرِيَة .. قال : الخُلق السجيح , والكف عن القبيح , واعلم أن أدوأ الداء اللسان البذيء , والخلق الرديء .. وذكر ان رجلا أبلغ مُصعباً عن رجل شيئاً , فأتاه الرجل يعتذر , فقال مصعب : الذي بلّغنيه ثقة .. فقال الأحنف : لا ايها الامير فإن الثقة لا يبلّغ , وكان الاحنف من أفصح خطباء العرب , ومن خطبه ما رواه ابن دريد بسنده الى رجل من بني تميم قال : حضرت مجلس الأحنف ابن قيس وعنده قوم مجتمعون في أمر لهم فحمد الله واثنى عليه ثم قال :
إن الكرم منع الجرم , ما أقرب النقمة من أهل البغي , لا خير في لذّة تعقب ندماً , لن يهلك من قصد , ولن يفتقر من زهد , رُب هزلٍ عاد جدّاً , من أمِنَ الزمان خانه , ومن يعظم عليه أهانه , دعوا المزاح فإنه يرث الضغائن , وخير القول ما صدّقه الفعل , اختملوا لمن أدل عليكم , واقبلوا عذر من اعتذر اليكم , أطِعْ أخاك وإن عصاك , وصِلْهُ وإن جفاك , أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك , واعلموا أن كُفر النعمة لؤم , وصحبة الجاهل شؤم , ومن الكرم الوفاء بالذمم , ما أقبح االقطيعة بعد الصلَة , والجفاء بعد اللطف , والعداوة بعد الود , ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الاحسان , ولا الى البخل أسرع منك الى البذل , واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك , فأنفق في حق ولا تكونن خازنا لغيرك , وإذا كان الغدر في الناس موجوداً , فالثقة بكل أحد عجز , اعرف الحق لمن عرفه لك , واعلم أن قطيعة الجاهل , تعدل منّة العاقل ...قال الراوي : فما رأيت كلاماً أبلغ منه , فقمت وقد حفظته ... وأخبار حلماء العرب والنوادر المروية عنهم بطرق صحيحة كثيرة وهي في كتب التواريخ والأدب ...
ويتبع بحول الله " العرب أشجع من غيرهم " !
مواقع النشر (المفضلة)