ما كان للعرب من المعرفة بعلم الملاحة
إعلم أن من العرب كان يسكن جزيرتهم سواحل بحر القلزم " الأحمر " , ومن جهة الجنوب بحر الهند المتصل به بجر القلزم , ومن جهة الشرق خليج العرب الخارج من بحر الهند الى الشمال الى بلاد البحرين والعراق , وهناك بلاد كثيرة من اليمن والحجاز وعمان والبحرين , وغير ذلك مما يطول ذكره ...
كان سكنة هذه البلاد والأقطار كلهم من العرب , ولهم متاجر في الهند والحبشة والروم وغيرهم , فكانوا ممن تمَسْ حوائجهم ركوب البحر , ومعاناة سيره , والقيام بما يعين على ذلك وهو " علـــم الملاحـــة " الذي أطنب المؤلفون الكلام عليه , وفي عدة آيات من الكتاب الكريم دلالة على ركوبهم البحر , وجري الفلك بهم , واهتدائهم في سيرها إذا اشتد الظلام بنجوم السماء وكواكبه المعلومة لديهم ! وكذلك في الأحاديث ما يفيد ذلك , وفي شعرهم أيضاً ما يستدل به على ما ذكرنا , قال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته :
ملأنا البر حتى ضاق عنا ..... وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنـا صبــيٌّ ..... تخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا
كأنَّ حُدوجَ المالكيـــةِ غُـــدْوَةً ..... خلايا سَفينٍ بالنواصف مــن دَدِ
عَدوليّةٌ أو من سفين ابن يامنٍ ..... يجور بها الملاّح طَوراً ويهتدي
يَشُقُّ حُباب الماء حيزومها بها ..... كما قَسَم التُّرْبَ المفايل باليــــدِ
والشعر في هذا الباب كثير , وفي لغتهم أيضاً ما يُستدل به على ما ذكرناه : فالمركب اسم لما يركب في البر والبحر , والسفينة وهي الجارية من " سفنه يسفنه قشره " وسمّيت بذاك لقشرها وجه الماء وجمعها " سفائن وسفن وسفين " وصانعها سَفّان , وحرفته السَّفانة , والدسار واحد الدّسر وهي خيوط تُشَد بهل ألواح السفينة , ويقال هي المسامير الخشبية , وفي التنزيل { وحملناه على ذات ألواحٍ ودُسُر } ودُسُر أيضاً مثل عُسُر وعُسْر .. قال بشر :
مُعَبَّدَة السقائف ذات دُسْرٍ ..... مُضَبَّرَة جوانبها رداح
والمجداف ما تجدف به السفينة , قال ابن دريد : مجداف السفينة بالدال والذال جميعاً لغتان فصيحتان , وهو مأخوذ من جدف الطائر يجدف جدوفاً إذا كان مقصوصاً فرأيته إذا طار كأنه يردْ جناحيه الى خلفه , والقِلْع الشراع والجمع قلاع , قال قائلهم :
يَكبّ الخليّة ذات القلاع ..... وقد كاد جؤجؤها ينحطم
وسفن مُقْلِعات إذا كان لها قلاع , وأقلعت السفينة رفعت شراعها , والشراعة كالملاءة الواسعة فوق خشبة تصفقه الريح فتمضي بالسفينة , وجمعه أشرعة وشُرْع , والدَّقْل سهم السفينة وأصله الأول , والفلس حبلها ويسمى الجمل ! وهو حبل ضخم من ليف أو خوص من قلوس السفن والجؤجؤ صدرها , والكَوْثَلُ ذنبها , والمردي والقيقلان خشبة يدفع بها السفينة ورأسها في الارض , قال شاعرهم :
وجاريةٍ قعدتُ على صَلاَها ..... أدارىء صدرها بالقيقلان
والمِرساة آلة ترسى بها السفينة ! وهي حديدة تُلقى في الماء متصلة بالسفينة فتقف , والمَرْساة بفتح الميم البقعة التي رست فيها السفينة , والرُّبَّان بالضم رئيس الملاحين كالرباني , والنُّوتي الملاح والجمع النَّواتي , والعَرَكيّ الملاّح أيضاً , والملاح الذي يلي الشراع , والمِلاح ككتاب ريح تجري بها السفينة , والنوْل جُعْلُ السفينة , الى غير ذلك مما هو معلوم للمتتبّع , ومن أسماء السفينة : الفلك , والقُرقُور , والجارية , والخلية " اسماء للسفينة الكبيرة " , ومن اسماء الصغيرة : الزورق , والبوص , وقال الجوهري : والبوصييُ ضرب من سفن البحر ! وقال الأعشى :
مثل الفراتيّ إذا ما طمى ..... يقذف بالبوصي والماهر
والقارب سفينة صغيرة تكون مع اصحاب السفن البحرية تُستخَف لحوائجهم , وعلم الملاحة علم واسع موقوف على معارف كثيرة , منها معرفة سموت الأبحر , ومعرفة مهاب الرياح , وعواصفها ورخائها وممطرها وغير ممطرها وسائر الأنواء , ومعرفة ما في البحار من الجبال والجزر , ومعرفة صناعة النجارة ...
قال ابن خلدون : قد يحتاج الى صناعة النجارة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح والدُّسُر , وهي أجرام هندسية صنعت على قلب الحوت , واعتبار سبحه في الماء , بقوادمه وكلكله , ليكون ذلك الشكل أعون لها في مصادمة الماء , وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح , وأنت تعلم أن السفن في قدبم الزمان , لم تكن صناعتها مُتقنة كل الإتقان , فماءٌ ولا كصدَّاء , ومرعى ولا كالسعدان ...
مواقع النشر (المفضلة)