( فُتِن الشَعْبي لَمّا رَفع الطرف إليها )
حفلت كتب الأخبار والسير والتواريخ بحكايات الإمام عامر بن شراحيل الشَعْبي، وهو تابعي جليل من أهل الكوفة، ويعود نسبه إلى "شعب" أحد بطون قبيلة همدان من اليمن، ويُحدّثنا ابن الأثير الجزري (المتوفى سنة 630 هـ) في "اللباب" عن قوم ونسب الإمام الشعبي - ناقلاً عن الجوهري - فيقول: شعب جبل باليمن وهو ذو شعبين، نزله حسان بن عمرو الحميري وولده فنسبوا إليه، فمن كان منهم بالكوفة يقال لهم شعبيون منهم عامر الشعبي الفقيه، ومن كان منهم بالشام يقال لهم شعبانيون، ومن كان منهم باليمن يقال لهم آل ذي شعبين، ومن كان منهم بمصر والمغرب يقال لهم الأشعوب. وتوفي الإمام الشعبي سنة 109 هـ وقيل سنة 105 هـ وقيل سنة 104 هـ.
كان الإمام الشعبي عالماً ورعاً وفقيهاً وقاضياً، وُلّي القضاء من قِبل عبد الملك بن مروان الأموي، ومما كان من أمره أن بعثه عبد الملك بن مروان إلى الروم رسولاً، فأدخلوه على الملك من باب منخفض حتى يكون منحنياً مطأطئ الرأس – أمام ملك الروم - وقت أن يدخله، ففطن الشعبي لمكرهم، فدخل الباب متقهقراً للخلف وأعطى ظهره لملكهم، فلما رأى ملك الروم كمال عقله وحسن جوابه وخطابه قال له: أمن بيت الخلافة أنت؟ قال: لا، أنا رجل من العرب. فكتب إلى عبد الملك: عجبت من قوم عندهم مثل هذا الرجل وولوا غيره أمرهم !. فقال عبد الملك للشعبي: حسدني عليك أراد أن أقتلك!.
أما الحكاية الأشهر عن إمامنا الشَعْبي، هي حكايته مع أم جعفر أو أسماء بنت عيسى بن جراد الكلابية وكانت من أجمل النساء، عندما أتته تختصم أحد الأشخاص – ويُقال بل: زوجها - إبان تولي الشعبي القضاء بالكوفة بالعراق، وكان عليها كساء خز أسود جميل زادها حُسناً على حُسنها، ولمّا رأى الشعبي قوة حجتها وضعف حجة خصمها، قضى لها، وهنا غضب الرجل – زوجها - وكان شاعراً، فأنشأ يقول قصيدته الشهيرة، التي انتشرت كالبرق في العراق والشام، والتي قيل أن الإمام الشعبي استقال من القضاء بسببها:
فُتنَ الشعبيُّ لمَّا ... رفعَ الطَرْفَ إليها
فتنته حين ولَّت ... ثمّ هزَّت منكبيها
فتنته بقوامٍ ... وبخطَّي حاجبيها
وبنان كالمداري ... وبحُسن معصميها
من فتاةٍ حين قامت ... رفعت مأكمتيها
كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها
لصبا حتى تراه ... ساجداً بين يديها
قال للجلواز: قدمها .. وأحضر شاهديها
فقضى جوراً علينا ... ثم لم يقض عليها
بنتِ عيسى بن جرادٍ ... ظَلَمَ الخصم لديها
ما على الشعبي لم يوُف ... الذي كان عليها
ويخبرنا ابن عبد ربه (المتوفى سنة 328 هـ) في "العقد الفريد" وكذا زكريا بن محمد القزويني (المتوفى سنة 682 هـ) في "آثار البلاد وأخبار العباد" أنه بعد هذه الحادثة وَفَد الشعبي على عبد الملك بن مروان، فلما رآه عبد الملك ابتسم له وقال يمازحه:
فتن الشّعبيّ لمّا ... رفع الطرّف إليها
ثم قال: ما فعلت بقائل هذه القصيدة؟ فقال الشعبي: أوجعت ظهره ضرباً يا أمير المؤمنين لما هتك حرمتي في مجلس الحكومة وبما افتري به عليّ!، فقال: أحسنت!.
وذكر أبو سعد منصور بن الحسين الرازي (المتوفى سنة 421 هـ) في "نثر الدر" عن ابن أبي ليلى أنه قال: انصرفت مرة مع الشعبي من مجلس القضاء أنا وجرير بن يزيد - وهو يمشي بيننا - فمررنا بخادمة سوداء تغسل ثوباً في إجان على باب دار، وهي تقول: (فتن الشعبي لما ... فتن الشعبي لما) وتكرره، فلما رأته سكتت، فقال الشعبي: (رفع الطرف إليها)، وقال: أردت أن يخرج اسمي من فمها. وزاد الزمخشري (المتوفى سنة 583 هـ) – في "ربيع الأبرار" - على هذه الرواية قول الشعبي: (أبعده الله، أما إنا ما قضينا إلا بحق).
وقد بحثت عن سيرة وافية لهذا الشاعر فلم أجد إلا النذر اليسير من أخباره، ومنه بيان نسبه إذ ذكره أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (المتوفى سنة 279 هـ) في "أنساب الأشراف" عند حديثه عن بني أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، فقال: ومنهم هذيل بن عبد الله بن سالم بن هلال بن الحراق بن زبينة بن هلال بن عيش بن خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع، وهو الذي هجى الشعبي.
وذكره المرزباني (المتوفى 384 هـ) في "معجم الشعراء" وذكر بعض أشعاره في هجاء القضاة مثل الشعبي وعبد الملك بن عمير وابن أبي ليلى، ومن شعره:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أودع
وقوله:
ولم أر ذا عسر يدوم ولا أرى ... مكان الغنى إلا قريباً من الفقر
فإن يك عاراً ما أتيت فربما ... أتى المرء ما يخشاه من حيث لا يدري
وذكره أيضاً الزمخشري في "ربيع الأبرار" ولكنه لم يزد أن ذكر اسمه، فقال (هذيل الأشجعي). وكذا ذكر الأبشيهي (المتوفى سنة 852 هـ) في "المستطرف" مثله.
وذكر الراغب الأصفهاني (المتوفى سنة 502 هـ) في "محاضرات الأدباء" أن قائل هذه القصيدة هو الشاعر المتوكل الليثي.
ووصف وكيع (المتوفى سنة 306 هـ) في "أخبار القضاة" هذا الرجل الشاعر بـ "البارقي" بل وفي موضع آخر ذكر أنه الشاعر "ابن عبدل"!، وذكر غير واحد أيضاً أن "البارقي" هو قائل الأبيات.
وأقول: الأشهر أن قائلها هو زوج ابنة عيسى بن جراد وهو هذيل الأشجعي، والله أعلم بالصواب.
أما أم جعفر أو أسماء بنت عيسى بن جراد هذه، فلم أعثر لها على ترجمة وافية، ولا نعلم عنها غير خبرها مع الشعبي ونسبها، إذ أنها من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وقد ذكر ابن ماكولا (المتوفى سنة 475 هـ) في "الإكمال" أنها ابنة عيسى بن جراد بن جعدة بن علس بن عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني صـ 48-49
2- أخبار القضاة لوكيع 2/ 416-419
3- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب لابن ماكولا 6/ 95
4- أنساب الأشراف للبلاذري 13/ 215
5- الأنساب للسمعاني 8/ 107
6- تاريخ دمشق لابن عساكر 25/ 405-408
7- ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري 4/ 321
8- سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 313
9- العقد الفريد لابن عبد ربه 1/ 83
10- اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير الجزري 2/ 198
11- محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني 1/ 251
12- المستطرف في كل فن مستطرف للأبشيهي صـ 110
13- معجم الأدباء لياقوت الحموي 4/ 1477
14- معجم الشعراء للمرزباني صـ 482
15- نثر الدر في المحاضرات 2/ 110
16- نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري 4/ 9

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
بحث واعداد/ أحمد عبد النبي فرغل الدعباسي
عضو اللجنة العلمية لبحوث التاريخ والأنساب بالسجادة العنانية العمرية
الأربعاء 27 يناير 2016 م


hg]ufhsd d;jf: tEjAk hgaQuXfd gQl~h vQtu hg'vt Ygdih !