قصة الحروب الصليبية
قصة مائتي عام
في تاريخ الأمة الإسلامية فترات تأججت فيها الحروب بينها وبين أعدائها، منها ما استمرَّ فترةً قصيرة، ومنها ما امتد عقودًا طويلة، أو قرونًا. ومن الفترات التي شهدت حروبًا طويلة الأمد؛ فترة الحروب الصليبية التي استمرت حوالي مائتي عامٍ، شهدت سبع حملات صليبية قام بها العديد من ملوك أوربا، وقاومت فيها الأمة الإسلامية بكل ما استطاعت من قوة بقيادة عدد من أبرز قادتها المخلصين.
تبدأ قصة الحروب الصليبية عندما تآزرت عوامل عديدة دفعت ملوك أوربا إلى شنِّ هذه الحملات؛ فلم يكن الدافع واحدًا.
دوافع كثيرة لكنها كاذبة
تعصب البابا والملوك
فقد كان التعصب الديني المسيحي ضد الإسلام على رأس هذه العوامل، وكان هو المسيطر على البابا وبعض الملوك الذين قرروا المشاركة في الحملات، وكذلك بعض الجنود كفرسان المعبد. واشتعلت الأحقاد مطالبةً باحتلال الأراضي الإسلامية في بيت المقدس خاصةً، وإخراج المسلمين منها، كما أرادت الكنيسة الكاثوليكية الغربية أن تكون لها السيطرة الدينية في الشرق كما لها في الغرب؛ لذا استباحت الكذب على الشعوب المسيحية الأوربية، وأشاعت بينهم أن المسلمين يضطهدون المسيحيين في الشرق، ويمنعونهم حرياتهم الدينية، كما أجَّجت الأحقاد التي غرستها في نفوس هذه الشعوب ضد الإسلام والمسلمين طَوَال قرون عديدة. الأطماع التجارية
كما كان هناك دافع السيطرة والتملُّك؛ إذ إن البابوية قد تمسكت بفكرة ملء الفراغ الذي نجم عن هزيمة البيزنطيين في موقعة ملاذكرد سنة 463هـ/ 1071م؛ بسبب اندفاع السلاجقة في الأراضي البيزنطية، وعجز البيزنطيين عن صدهم، فرأت أن تَهُبَّ أوربا الغربية في الدفاع عن هذه المنطقة وحُجَّاجها الأوربيين، وذلك باحتلال بلاد الشام، وقد ناصرها في ذلك معظمُ ملوك أوربا الغربية.
كذلك اشترك عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية في الحروب الصليبية بغرض استغلالي بحت؛ من أجل السيطرة على الطرق التجارية للسلع الشرقية التي أصبحت مصدر ثراء للمشتغلين بها.
الحروب المدمرة بين الإقطاعيات
كما كان للعوامل الداخلية شأن في إذكاء هذا الدافع؛ إذ كان الإقطاع يشكِّل الدعامة الأساسية للنظام السياسي والاجتماعي في أوربا، حيث كان لكل إقطاعية محاربوها، وكانت هذه الإقطاعيات تخوض حروبًا مدمرة فيما بينها؛ مما استنزف طاقاتها، وخلَّف وراءها مشاكل اجتماعية وسياسية قاسية. لذلك عمل الباباوات على توجيه الفرسان لقتال المسلمين بدلاً من الانصراف إلى الحروب الداخلية والمنازعات فيما بينهم، أي تحويل تفاقم الخطر الداخلي وتنامي الأطماع والمكاسب إلى اتجاه خارجي[1].
المجتمع الأوربي يعاني ظروف قاسية
أمَّا الدافع الثالث فقد كان الدافع الاقتصادي؛ فقد كان نشاط المسلمين التجاري قد أزعج الجمهوريات الإيطالية التي كانت تريد احتكار البحر الأبيض المتوسط لصالحها؛ لذا أرادت الدفع في اتجاه البدء في الحملات، لتحقيق تلك المصالح الاقتصادية. كما طمع هؤلاء الملوك في خيرات الشرق التي كانوا يشترونها من التجار المسلمين بأسعارٍ عالية.
إضافةً إلى ذلك كانت الغالبية العظمى من الطبقات الدنيا في المجتمع الأوربي تحيا حياةً ملؤها البؤس والشقاء في ظلِّ النظام الإقطاعي؛ فانتشرت بينها الأوبئة والمجاعات، وكان ذلك بسبب الظروف القاسية التي عاشها الفلاحون في غرب أوربا في تلك الفترة، فكثير من الأراضي الزراعية تعرَّض للخراب نتيجة لهجمات البرابرة؛ فقلَّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت فيه أعداد السكان، وزاد الأمر سوءًا الحروبُ والمنازعات بين الأمراء الإقطاعيين، إضافة إلى النكبات الطبيعية والاقتصادية التي عانى منها الغرب الأوربي حينذاك، فعاش الناس في المنطقة عيشة الفَقر والحِرمان والخوف. وقد دفعتهم هذه الأوضاع إلى الاشتراك في الحروب الصليبية[2].
البابا يستنفر الجائعين
وقد ضرب البابا على هذا الوتر، فقال: "لا تدعوا شيئًا يقعد بكم، ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن -والتي تحيط بها البحار وتلك الجبال- ضيقة على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضًا، ويلتهم بعضكم بعضًا. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، بل هي فردوس المباهج".
وإن جميع الوثائق تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت فرنسا بالذات تعاني من مجاعة شاملة قبيل الحملة الصليبية الأولى؛ ولذلك كانت نسبة المشاركين منها تفوق نسبة الآخرين، فقد كانت الأزمة طاحنة حيث ألجأت الناس إلى أكل الحشائش والأعشاب. وبذلك جاءت هذه الحرب لتفتح أمام أولئك الجائعين بابًا جديدًا للخلاص من أوضاعهم الصعبة، وهذا ما يفسِّر أعمال السلب والنهب للحملة الأولى ضد الشعوب النصرانية التي مرّوا في أراضيها[3].
بهذا العرض يتبين أنَّ الوضع الأوربي الداخلي كان مهيَّأً لبداية هذه الحملات العنيفة على العالم الإسلامي، ومن ثَمَّ حانت لحظة البداية!!
الأرض المقدسة بين البابا والمسيح
فقد شهدت مدينة "كليرمونت" الفرنسية حدثًا خطيرًا في (26 من ذي القعدة 488هـ/ 27 من نوفمبر 1095م) كان هو نقطة البداية للحروب الصليبية؛ حيث وقف البابا "أوربان الثاني" بابا الفاتيكان في جمعٍ حاشدٍ من الناس يدعو أمراء أوربا إلى شنِّ حرب مقدَّسة من أجل المسيح، وخاطب الحاضرين بلغة مؤثرة تكسوها الحماسة، ودعاهم إلى تخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، ونجدة إخوانهم في الشرق، ودعا المسيحيين في غرب أوربا إلى ترك الحروب والمشاحنات، وتوحيد جهودهم لقتال المسلمين في الشرق[4]. أحوال المسلمين .. فُرقة وخلافات
في هذه الفترة كانت أحوال المسلمين في الشرق في غاية السوء؛ إذ ضربت الفُرقَة أطناب البلاد والشعوب الإسلامية، فمزقتهم شرَّ ممزَّق، وجعلتهم شراذم لا يقيم لهم الناس وزنًا، واشتعلت الخلافات والحروب بينهم من أجل التنازع على النفوذ والسلطان، ومن جرَّاء ذلك كانت أراضي الخلافة الإسلامية في نهاية القرن الخامس ومطلع القرن السادس الهجريين تخضع لقوى متعددة متنافرة، وقع بينها الخلاف، وعملت كل منها على التوسُّع على حساب الأخرى، وعلى رأس هذه القوى:
1- الخلافة العباسية: وكان خلفاؤها قد قبعوا في مدينة بغداد، ورضُوا من الحكم بالاسم بعد أن خرجت عن سلطتهم غالبية أراضي الخلافة الإسلامية، ولم يبقَ بأيديهم إلا بغداد وما يحيط بها، والأمر والقول الفصل في هذه البقعة للسلاجقة سلاطين بغداد.
2- السلاجقة: وقد توسَّعت سلطتهم تدريجيًّا حتى شملت أغلب مناطق الخلافة العباسية الشرقية، ونهضوا في عهد سلاطينهم: طُغرل بك، وألب أرسلان، ومَلِكْشاه بحماية أراضي الخلافة الإسلامية، وأثبتوا أنهم سيوف الإسلام الذائدون عنه؛ فقد نهضوا للوقوف في وجه البيزنطيين، وتوسّعوا غربًا على حسابهم. وتوّج ألب أرسلان نضاله مع البيزنطيين بمعركة ملاذكرد، تلك المعركة التي كانت آثارها كبيرة على الصعيدين المحلي والدولي؛ فعلى صعيد المنطقة، فإنها فتحت أبواب آسيا الصغرى أمام السلاجقة، ودحرت القوات البيزنطية باتجاه الغرب، وأتاحت الفرصة للسلاجقة لتأسيس دولة سلاجقة الروم. وعلى الصعيد الخارجي، فإن هذه المعركة كانت سببًا من أسباب توحيد قلوب أوربا المسيحية ضد المشرق الإسلامي، إِثْر استنجاد أباطرة القسطنطينية بالبابوية لرد خطر السلاجقة، الذين أخذوا في اجتياح ممتلكاتهم[5]. ولم تستمر قوة السلاجقة بالصعود، فقد أخذت قوتهم بالانحلال إثر وفاة ملكشاه سنة 485هـ/ 1902م. وانقسم السلاجقة على أنفسهم، ووقعت الحروب بينهم.
ولعل أكبر مظهر لانحلال سلطان السلاجقة في بلاد الشام والعراق وغيرها، ظهور عدد كبير من البيوت الحاكمة لا يجمعها رابطة سوى الاتصال بالبيت السلجوقي، ومن تلك البيوت ظهرت وحدات سياسية أطلق عليها اسم الأتابكيات، وعلى أصحابها اسم الأتابكة.
3- الدولة العُبَيْدِيَّة (المسمَّاة بالفاطمية):
أمَّا القوة الثالثة التي كان لها أثر كبير في أحداث المنطقة في تلك الفترة، فهي الدولة العبيدية (التي تنتسب زورًا للسيدة فاطمة بنت رسول الله )، وقد كانت تلك الدولة على مذهب الشيعة الإسماعيلية الباطنية الخارجة عن الإسلام، وكان قيامها بشمال إفريقية سنة 296هـ/ 909م، ثم انتقلت إلى مصر سنة 358هـ/ 972م. وأخذت من ثَمَّ تُنازع الخلافة العباسية زعامة العالم الإسلامي؛ فبعدما دان المغرب العربي ومصر لسيطرتها اتجهت بأطماعها إلى الشام، واستطاعت بسط هيمنتها على معظم بلاد الشام، حتى أصبحت ملحقات مصر في بلاد الشام حتى دمشق تابعةً للفاطميين.
وكانت الدولة العبيديَّة على أتم الاستعداد لفعل كل ما يضر بالمسلمين، وقد ظهر ذلك فيما بعد بتعاونها مع الصليبيين ضد العالم الإسلامي، وقد دخلت -في ذاك الوقت- في طور من الضعف جعل السلطة الحقيقية بأيدي الوزراء لا الخلفاء.
يتبع إن شاء الله
lojwv rwm hgpv,f hgwgdfdm
مواقع النشر (المفضلة)