صفحات من تاريخ وحضارة المغرب الإسلامي


قصة قادة فتح المغرب العربي:
دخل المغرب العربي في الإسلام بعد فترة من الفتح امتدت نحو سبعين سنة، فقد بدأ الفتح منذ سنة 23هـ، واستمر حتى عام 90 هـ فهو بهذا أطول فتح إسلامي في التاريخ.

وقد برز في فترة الفتح هذه أبطال مسلمون ضربوا أروع الأمثال في الإخلاص لدينهم والأناة في نشره، والاعتماد على فتح أقفال القلوب والعقول وليس لمجرد التسلط والاستغلال، ومن هؤلاء عقبة بن نافع باني القيروان، وفاتح تونس، وأبو المهاجر دينار فاتح الجزائر والذي أسلم على يديه أحد فرعي البربر الكبيرين، وهم البرانس، وحسان بن النعمان الذي أخضع الفرع البربري الآخر للإسلام، وهو فرع البنز، وموسى بن نصير الذي كان له فضل كبير في إتمام المغرب إسلاميًا، وعربيًا. بل والاستعانة بهؤلاء البربر أنفسهم، وهم حديثو عهد بالإسلام في فتح الأندلس 92 هـ، بقيادة مولاه البربري طارق بن زياد!

صفحات من حضارة المغرب الإسلامية:
إن هذا المغرب الإسلامي، ما إن استقر الإسلام في وجدانه حتى بدأ ينصهر في بوتقة الحضارة الإسلامية، ويشكل بمدنه الكبرى التي ظهرت في التاريخ حافلة بالحياة والحركة صفحة رائعة من صفحات حضارتنا الإسلامية.

ففي القرن الثاني الهجري الذي أعقب فترة الفتح مباشرة تألقت مدن مغربية كثيرة، كان من أبرزها تاهرت عاصمة بني رستم (الدولة الرستمية) في الجزائر، والقيروان عاصمة الأغالبة في تونس، وفاس عاصمة الأدارسة في المغرب الأقصى، أما في القرن الرابع الهجري، ثم الخامس. فقد اتسعت دائرة المراكز الحضارية، وتألقت بعضها تألقًا عظيمًا حتى أصبحت مدنًا شبه عالمية، وعلى رأس هذه المدن تقف (القيروان) عاصمة بني زيري، وبجاية عاصمة بني حماد، ومراكش عاصمة المرابطين.

ومنذ القرن الرابع الهجري الأنف الذكر، والعربية هي الغالبة على اللسان المغربي، والمشرق يبدو وكأنه قد أعطى المغرب ما يكفيه ليبرز ذاته في إطار الإسلام، وفي وعاء العربية، ويحكي المؤرخون أنه بدءًا من هذا القرن صار المغاربة يزاحمون العرب في لغة الضاد، وأصبح علماء البربر يناظرون فقهاء العرب في قواعد الأصول وتفاريع الفقه ومبادئ علم الكلام.

وقريبًا من منتصف القرن الخامس الهجري حدث ما هو معروف عن زحف القبائل العربية من بني هلال وبني سليم على المغرب، وقد أدى هذا إلى تعريب المغرب تعريبًا شبه كامل.

ومن الجدير بالذكر هنا أن (المسجد) قام بدور كبير في تعريب المغرب وتثقيفه، وقد عرف المغاربة ملحقًا بالمسجد أطلق عليه (المسيد) وكان هذا الملحق أو (المسيد) مفردًا للناحية التعليمية. أي أن المسجد في المغرب كان مسجدًا ومدرسة في الوقت نفسه.

كما عرف المغاربة الكتاتيب، وبالطبع فإنهم نقلوها عن المشرق، وإن كانوا في بعض الأحيان أطلقوا هذه عليها لقبًا خاصًا هو (الشريعة)، وغالبًا ما تكون الشريعة مدرسة في البادية، ومن المحتمل أن تكون الشريعة هي المدرسة البدوية في مقابل (المسيد) الذي هو المدرسة الحضرية.

والغريب أننا نعجب حين نعلم أنه في المدن الغربية الكبرى في فترة القرون عرف لون من التعليم الجامعي (كمعهد سيدي التواتي) في بجاية الذي كانت تدرس فيه العلوم الفلكية وغيرها، وفي هذه الجامعات عرفت منزلة الاختصاص، بل وقدمت بعض الأطروحات، وتوفرت المكتبات العامة، بل وعرف نظام الأساتذة الزائرين والمحاضرين، فخلال القرن الخامس الهجري -هذا- وفي معهد سيدي التواتي قام بإلقاء المحاضرات علماء من أسبانيا وإفريقية والشرق، وقد ارتحل إلى الجزائر ابن حمديس الصقلي الشاعر، وعاش في كنف حكامها من بني حماد الزيريين.

كما أنه خلال هذا العصر غصت الحواضر كبجاية والمهدية وفاس والقلعة وأشيروطبنه والزاب والمسيلة، بمئات العلماء من الفقهاء والنحاة والمفسرين والأدباء والرياضيين وغيرهم.

ويدل على كثافة أعداد العلماء ما أورده (أبو العباس الغبريني) عن علماء بجاية وحدهم في قرن واحد، وذلك في كتابه المعروف: عنوانه (الدراية في علماء المائة السابعة ببجاية). والغبريني نفسه بعدما أورده يعتذر بقوله: "وقد بقي خلق كثير من أهل المائة السادسة ولكن شرط الكتاب (أي منهجيته) منع من ذكرهم. ثم يورد الغبريني نقلًا عن أبي علي المسيلي (من المسيلة) يقول فيه: "لقد أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتيًا منهم من يعرفني" فإذا كان المفتون في جبل واحد تسعين، فكم يكون المحدثون والنحاة والأدباء وغيرهم في هذا البلد الواحد!!

وجدير بالذكر أنه مع أن المذهب المالكي سيطر على المغرب، كما سيطر على الأندلس -إلا أن المغاربة لم يكونوا- في كثير من الأحايين مجرد متبعين، بل ظهر منهم طائفة مجتهدون من أعلام الفقه كابن أشرس والكتامي والبرادعي وغيرهم ممن أوردهم ابن فرحون صاحب كتاب (الديباج في أعيان المذهب).

وخلال القرون التالية سواء في عصر بني عبد الواد في الجزائر، ومعاصريهم من بني حفص في تونس، وبني مرين في المغرب الأقصى، ظلت الحركة العلمية نشطة تستمد قوتها من تلك الدول العظمى التي سيطرت على المغرب في القرنين الماضيين، وهم المرابطون والموحدون.

وقد ظهر دور جديد للمغرب على مسرح حضارتنا، وهو دور ذو شقين. شق يتعلق بواجبه في مناصرة الأندلس من جانب، وشق في إفساخ المجال للاجئي الأندلس والإفادة منهم حضاريًا من جانب آخر، مما جعل الأثر الأندلسي يبدو قويًا خلال هذه القرون على طابع الحضارة الإسلامية في المغرب. بل جعل مدنًا مغربية بأكملها تبدو وكأنها مدن أندلسية.

إن هذه بإيجاز بعض خيوط جمعناها من نسيج الحضارة المغربية الإسلامية، وإنه لنسيج إسلامي فيه من أصالة العروبة المسلمة الكثير، وفيه من عبق البيئة المغربية والأندلسية لون ورواء، وإنه لنسيج يحتاج إلى مزيد من المعايشة والدراسة والادّكار.
د/عبدالحليم عويس


wtphj lk jhvdo ,pqhvm hglyvf hgYsghld