ماذا يقف في طريق الوحدة الاسلامية – 2
ثم أطلّت من وراء ذلك كله عصبية العرب على العجم .. عصبية الفاتح الغالب .. على المهزوم المغلوب .. فنظرت الدولة الأموية الى العرب نظرة غير نظرتها الى المسلمين الفرس والروم ...
وأخذ المسلمون من الفرس والروم وغيرهم من غير العرب يضعون للعرب مثالب تقابل تلك المفاخر التي حاول الشعراء والقُصاص أن يبرزوها في شعرهم وقصصهم مصوّرة أمجاد الأمة العربية في جاهليتها , وكأنهم يقولون للأمم المغلوبة ذات الحضارة والسيادة : إننا أمة عريقة في المجد والحضارة , وإن يكن الاسلام قد زادها مجداً وفخراً .. وما أن أتقن من الفرس والروم اللغة العربية , واستقامت ألسنتهم عليها , وقويت ملكاتهم فيها حتى نبغ منهم الشعراء , فاتخذوا من الشعر العربي أداة للدفاع والهجوم معاً .. فكانوا يصورون مثالب العرب من جهة , ويفخرون بأصولهم من جهة أخرى .. فكان أبو نواس – على لهوه ومجونه – حامل الراية في هذه الحركة , ومعه كثير من الشعراء المتعرّبين كبشّار , ومهيار , وابن الرومي , وغيرهم .. ويكفي أن نلتقط بيتاً من هنا أو هناك ليكشف لنا مدلوله عن تلك النفسية التي قيل في جوّها .. يقول أبو نواس متهكماً على تلك " اللازمة " التي عرفت في الشعر العربي , وهي الوقوف على الاطلال وبكاء الأحباب :
لا تَبْكِ هنداً ولا تَطْرَبْ إلى دعْد ..... واشربْ على الورد من حمراء كالورد
ويقول :
صفة الطلول بلاغة الفَدْمِ ..... فاجعلْ صفاتك لابنة الكرم
ويقول متهكماً بالحياة في البادية , وبخشونة العيش فيها , واعتمادها على " الحليب " وما كان يؤخذ منه :
إذا راب الحليب فبُلْ عليه ..... ولا تأثم , فما ذاك حَوْب
ومهيار " الديلمي " يقول بملء فيه , وبمصَكّ أسماع العرب :
وجَدّيَ كسرى على إيوانه ..... أين في الناس أبٌ مثل أبـي ؟
قد جمعت المجد من أطرافه ..... سؤدد الفرس , ودين العربِ
فهذه الشعوبية , التي تجمعت في وجده العرب كانت في الواقع رد فعل لما كان من العرب , ومحاولة استئثارهم بالمكان الأول في المجتمع الاسلامي , والذي كان العصر الأموي محققاً له في هذا الجانب , على حين كان العصر العباسي – وقد كان الفرس أكبر قوة له – مهيئاً للشعوبية فرصتها في أن تكيل بالكيل الذي كيل لها به من قبل ...
ثم لا تقف الساعة عند هذا الحد .. بل لقد عاود الفرس حنين الى دولتهم التي ذهبت , والتي أصبح الاسلام دينها وشريعتها , واللغة العربية لسانها .. فلم يعد أحد منهم يذكر عن لغة آبائه وأجداده شيئاً ...
ولو استطاع الفرس – في حميّة هذه العصبية – أن يتركوا الاسلام الذي حمله العرب اليهم , بلسان عربي مبين – لو استطاعوا أن يتركوا الاسلام إذ ذاك لتركوه , حتى لا يكون للعرب عليه فضل , ولكن الدين كان قد ملك قلوبهم , وملأ مشاعرهم , واستولى على وجودهم , فلم يكن في وسعهم " والأمر كذلك " أن ينخلعوا من الدين – , ولهذا فإنهم أخذوا يعدون أنفسهم لتجربة جديدة , وهي ترك اللسان العربي , والعودة الى اللسان الفارسي , بعد أن تعطّل , وعلاه الصدأ .. وكانت التجربة قاسية , لأنها تهدم وتبني في آن معاً .. تهدم لغة , وتقيم لغة ...
وقد كان السلطان , محمود بن سبكتكين " الغزنوي " – أول حاكم فارسي اجتمع له نفوذ وسلطان , وقامت في يده دولة – كان أول من دعا الى إحياء اللغة الفارسية فدعا " الفردوسي " وكان ممن لا يزالون يحسنون الفارسية .. دعاه الى البدء بهذه التجربة , فنظم له " الشاهنامة " على نظام الشعر العربي في أوزانه وقوافيه .. كما أنها اتخذت الخط العربي أداة لها .. ومن ذلك اليوم أخذ الفرس ينسلخون شيئاً فشيئاً من اللغة العربية , حتى استقام لهم لسانهم الفارسي , فانسلخوا عن اللغة العربية جملة ! ...
وقد شعر المتنبي بهذه الغربة والوحشة , في هذا الزمن المبكر في مواطن الاسلام وهو يدخل أرض الفرس فيقول :
غريب الوجه واليد , واللسان
ثم جاء دور الاتراك بعد هذا , وكان قد ضعف شأن العرب , والفرس معاً .. وهم أمة ناشئة , تحمل في كيانها عناصر الشباب , فاستخفوا بالعرب , وجعلوا للترك المقام الأول في المجتمع الاسلامي الذي خضع معظمه لسلطانهم , فلما انتقلت الخلافة الاسلامية اليهم واجتمعت في أيديهم القوة الروحية الى جانب القوة المادية تاكدت في نفوسهم مشاعر السيادة والاستعلاء , حتى لقد عدّوا الدم التركي إذا جرى في عرق انسان اكتسب به مجداً . واكتسى به عزاً ...
وانتهى الامر بالاتراك الى ان تجسدت هذه المشاعر السوداء في كيانهم , فكانت سياط عذاب تلهب الأمة العربية بصفة خاصة , إذ كانوا يرون في العرب القوة الكامنة في المجتمع الاسلامي , التي يخشى منها على " الخلافة " التي في ايديهم , وإذ كانوا هم أول من أخذ " الخلافة " من العرب , وأخرجوها منهم , فهم لهذا يعيشون في وسواس دائم من هذا الخطر الذي يلقي في روعهم أن العرب لن يسلموا لهم أبداً " بالخلافة " ...
وكان هذا الصراع الخفي والظاهر بين الترك والعرب مما عجّل بسقوط الخلافة التركية او العثمانية , وتبديد الملك الواسع الذي كان في يدها , فانفراط عقد الدول التي كانت تحت سيلطانها , وتبدد شملها ...
من هذا نرى أن العصبية " للجنس " والتعصب للقومية قد كان لهما دور كبير في تمزيق الوحدة الاسلامية , وفي توهين عرى المودة والإخاء بين المسلمين ! ونسأل بعد هذا :
إذا قدر للمسلمين أن تقوم فيهم حكومة اسلامية واحدة , فهل يعيد التاريخ – البعيد والقريب – سيرته في جماعات المسلمين , فتفرقهم " الخلافة " بدل ان تجمعهم وتوحد بينهم ؟ أم أن المسلمين قد أفادوا من تجارب الماضي , ومن تلقيات الحاضر , وأن دوافع الوحدة بينهم اليوم أقوى منها في أي وقت مضى .. فإلى جانب الشعور الديني الذي يهتف بهذه الوحدة , يقوم داعٍ آخر يدعو اليها بقوة .. وهو داعي السياسة ,, فإن دواعي السياسة في هذا العصر قد دعت الى التقرب بين الأمم في صورة أحلاف , وإن لم يكن بينها رابطة قرابة من قومية أو دين .. وإنما المصلحة وحدها هي التي تجمع هذه الأمم الى بعضها , وتؤلف بين أشتاتها ..
والمسلمون في عددهم , وفي مساحة الارض التي يعيشون عليها , وفي الموارد الطبيعية , والمواقع الاستراتيجية , التي يملكونها .. كل هذا يجعل وحدتهم قوة هائلة , يعمل لها حسابها في المجال الدولي , فلا يطمع فيها طامع , ولا تحدّث احد نفسه بأن يطأ شبراً من ارضها ...
وإن أقلّ ما يضمنه المسلمون في هذه الوحدة هو سلامة أوطانهم , وكفالة أمتهم وسلامتهم , ولكن لنا أن نسأل أيضاً : إذا سلم المسلمون في ظل هذه الوحدة الاسلامية , من العدوان الخارجي فهل يسلمون من عدوان بعضهم على بعض ؟ .
أو بمعنى أصرح : ما الضمان الذي يحجز عدوان " الحاكم " العام للمسلمين وتسلطه عليهم ؟ مستعيناً في ذلك بأبناء قومه الذين لا شك أنهم واجدون في سلطان " الحاكم " الذي هو منهم شعوراً بالعزة والسيادة , وإن ظل هذا الشعور مكبوتاً زمناً , فإنه لا بد أن ينضج , ويعلن عن نفسه يوماً ما .. فمن يضمن للمسلمين – إذا اتحدوا – أن تقوم في داخل كيانهم نزعات قومية , وعصبيات للأهل والوطن ؟
هذه هي المشكلة ... وليس حلها بالأمر العسير !!!
إن الحل الوحيد لها – ولا حل غيره – هو أن تقوى مشاعر الدين في الجماعات الاسلامية , حتى تنكسر في النفوس حدة الإحساس بالمشاعر القومية وحتى يخفت صوتها , فلا يحسّ به أحد ... أذلك ممكن أن يكون ؟
ندع الجواب عليه الآن الى حين .. فإن لنا مع الدين وقفة اخرى , بعد قليل ..!
ويتبع بحول الله الجزء الثالث من " ماذا يقف في طريق الوحدة الاسلامية " !
مواقع النشر (المفضلة)