فقه الإيمان بالقضاء والقدر عند الفاروق عمر

بقلم : جواهر بنت صويلح المطرفي
الحمد لله، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فقضية الإيمان بالقضاء والقَدَر من أجلِّ قضايا العقيدة التي جاء الإسلام لتصحيح مفهومها وبيان أصولها لدى الناس، ولا شكَّ أن العرب قديمًا كانت تعيش تَضارُبًا في فَهْم القَدَر، فما إن يروا طائرًا إلا تطيروا به. تَوارَثها الأبناء عن الآباء، لهم في ذلك دعاوى باطلة: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].
وضرب لنا صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أروعَ النماذج في هذا الباب، وحقَّقوا في ذلك أعلى الرُّتب، مُحقِّقين في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأن تؤمن بالقَدَر خيره وشره)).
ومن خلال اطلاعي على بعض المواقف للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجدتُ أن عمر رضي الله عنه من الصحابة الذين فَقِهوا قضيةَ الإيمان بالقضاء والقَدَر فَهْمًا دقيقًا على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسأُورِد بعضَ المواقف التي تدلُّ على فِقْه الخليفة في هذا الباب، سائلة المولى سبحانه أن يجعل عملي صالحًا ولوجهه خالصًا، ولا يجعل لأحد فيه شيئًا.
موقف عمر مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما:
1- وذلك أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسَرْغ لَقِيه أهلُ الأجناد (أبو عبيدة بن الجرَّاح وأصحابه)، فأخبروه أن الوباءَ قد وقَع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادعُ لي المهاجرين الأوَّلين فدعوتُهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمر ولا نرى أن تَرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقيَّة الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقدِمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعُ لي الأنصار، فدعوتهم له، فاستشارهم فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: عني، ثم قال: ادع إليَّ مَن كان ها هنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مُصْبِحٌ على ظَهْر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قَدَر الله، فقال عمر: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة - وكان عمر يكره خلافه - نعم، نَفِر من قَدَر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوتان، إحداهما: خِصْبة، والأخرى: جَدْبة، أليس إن رعيتَ الخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله"، قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا عِلْمًا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتُم به بأرض، فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقَع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، قال: فحمد اللهَ عمرُ بن الخطاب، ثم انصرف".
الشاهد في القصة هنا هو قول عمرَ رضي الله عنه لأبي عبيدة: "نعم، نَفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله"، هذه الكلمة التي تَفوَّه بها الخليفة المُلْهم أصبحت خالدة تَرُدُّ على كثير من الطوائف المتخبِّطة في مسائل القضاء والقدر، وتقطع عليهم سيرَهم الباطل، نعم تَفر من المرض إلى العافية، وتَفِر من الموت إلى الحياة، إن أمكنك ذلك، مع عِلْمك اليقيني أنَّ هذه الآفات واقعة بك يومًا ما لا محالة، وبقدر الله، ومُتذكِّرًا قول الله تعالى: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38].
موقف عمر رضي الله عنه مع السارق:
موقف آخر عندما سرق رجل، فأمر عمر رضي الله عنه أن تُقطَع يده فقال: "يا أمير المؤمنين، سرقتُ بقَدَر الله"، فردَّ الفاروق بحكمته: "وأنا أقطعها بقدر الله".
إن المتأمِّل لمعالجة عمرَ رضي الله عنه لمن احتجَّ بالقَدَر تتَّسِم بالإقناع وسرعة البديهة؛ فقد أراد عمر رضي الله عنه أن يُبطِل دعوى القدريَّة مبيِّنًا قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: 38].
موقف عمر رضي الله عنه مع المتواكل:
ضرب عمر رضي الله عنه عاطلاً ليس له حِرْفة، وقال له: "إن السماء لا تُمطِر ذهبًا".
إن التواكلَ على القَدَر وترك العمل لا يرُوق للخليفة عمر؛ فهو يرى أن الاعتمادَ الأجوفَ على الأقدار يُناقِض التوكل.
أيضًا من أقوال الفاروق رضي الله عنه قوله: "المتوكل هو الذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكَّل على الله".
موقف عمر رضي الله عنه مع الدعاء:
عن حفصة رضي الله عنها، أن عمر كان يقول في دعائه: "اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك"، فقلتُ له: أنَّى لك هذا؟ قال: "يأتيني به اللهُ إن شاء".
ما أجملَ هذا اليقين الذي ملأَ قلبَ الفاروق! بل ما أجمل الفَهْمَ الرباني الذي أعطاه الله لأبي حفصٍ.
ويُعزِّز هذا الموقف ما ذكره ابنُ القيم في كتابه الفوائد، وهو قول عمر: "إني لا أَحمِل همَّ الإجابة، ولكني أحمل همَّ الدعاء".
كان يعلَمُ رضي الله عنه أن مَن فتح الله له بابَ الدعاء يُوشك أن يُجاب، وفَهِم جليًّا قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وأن الأهم هو الاستجابةُ لله بالدعاء: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ﴾ [البقرة: 186]، ومع الدعاء لا بدَّ من مصاحبة الإيمان الذي هو مِلاك الأمر كله: ﴿ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
ما أردتُ إيصاله عبر هذه المواقف هو أن الصحابةَ هم الصفوة الذين فَهِموا عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام حقيقة الفَهْم، وكيف لا يكون وقد أوصى عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به وبهم فقال: ((عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المَهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجِذ)).
فاللهَ أسأل أن يُوفِّقنا للاقتداء بهم وإن لم نعمل بأعمالهم، وأسأله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم بحبنا لهم، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وسلم.



tri hghdlhk fhgrqhx , hgr]v uk] hgthv,r ulv