موقف الإنسان من قضية الإيمان بالقضاء والقدر


بقلم : أ.د. مصطفى حلمي
إن الإنسان أمام هذه الحقيقة لا يملك فرارًا، فهو بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، والصبر مع هذين الطرفين لازم ولا يخلو من نوعين:
أحدهما:
يوافق هواه ومراده كالصحة والسلامة والجاه والمال.
والآخر:
المخالف للهوى وهو على شكلين:
(أ) يرتبط باختياره كالطاعات والمعاصي، وعليه يترتب الأجر.
(ب) لا يرتبط باختيار كالمصائب، وبه تمحى السيئات وترفع الدرجات[1].
ولكن الثابت أن الإنسان لا يملك منح نفسه القدرات والمزايا الجبلية كالذكاء والصحة والأنوثة أو الذكورة، ولا يملك اختيار أبويه فيرث عنهما مواهب وسمات معينة دون الأخرى، ولا انتخاب الزمان الصالح ليعيش فيه، ولا البيئة الصالحة لينمي فيها طفولته. هذه كلها أمور لا يملكها الإنسان وخارجة عن نطاق اختياره وليس مسؤولًا عنها[2].
ولكن المتعللين بالقدر على أفعالهم الإنسانية يحتجون بآيات قرآنية يختارونها وفق أهوائهم، كقول الله تعالى: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النحل: 93] وهذا الاحتجاج سرعان ما يدحض أمام النظرة القرآنية لآيات أخرى تخبر الإنسان بين فعلين، كقوله عز وجل: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3] وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8] والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وهذا التفسير هو أدق التفاسير الذي يلجأ إليه العلماء لأن القرآن ميسر لكل ذي بصر وبصيرة.
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
وبهذا الفهم يصبح تفسير الآية الأولى واضحًا لا لبس فيه، إذ معناها أن إضلال الله لشخص أنه آثر الغي على الرشاد فأقره الله على مراده وتمم له ما يبغي لنفسه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
إذن، فمعنى قوله تعالى: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النحل: 93] لا يتعارض وقوله ﴿ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ [البقرة: 26، 27] وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النحل: 93] وللنظر إلى قيمة الإرادة الإنسانية في قول الله تعالى وهو يتكلم عن إرادته: ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 27، 28].
ثم يأتي دور مناقشة المحتجين بالأحاديث النبوية وربما يقع أكثرهم على الحديث الآتي - ويفسرونه خطأ بأنه يدل على الجبر ونفي حرية الإرادة الإنسانية. والحديث: "ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فيصير لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].
وهذا الحديث - للبصر النافذ - لا لبس فيه[3]، أما سبق علم الله تعالى فإنه ليس حجة أيضًا للمحتجين بالقدر على معاصيهم. قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143] وقال: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142] وقوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
فروي عن ابن عباس في قوله (إلا لنعلم) أي (لنرى) وروي لنميز، وكذلك قال عامة المفسرين (إلا لنرى ونميز) وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودًا واقعًا بعد أن كان قد علم أنه سيكون ولفظ بعضهم، قال: العلم على منزلتين- علم الشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب.
قال: فمعنى قوله (لنعلم) أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالمًا سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد[4].
ويتصل الأصل الثالث بالوعد والوعيد ومضمونه عما يعبر عنه الشهرستاني أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، ولكن عقابه يكون أخف من عقاب الكفار[5].
وانسياق المعتزلة في هذا الأصل يتصل بدفاعهم عن الحرية الإنسانية واحتكامهم إلى العقل إذ أصبح الثواب والعقاب عندهم ينصب على أفعال الإنسان نفسها والتي يقتضيها العقل ومعنى هذا اعتقادهم أن إثابة المطيع ومعاقبة العاصي إن لم يتب - أمر محتوم (أي يجب) على الله تعالى أن يفعله، فخلطوا بين الوعد والوعيد، بينما يعتقد أهل الحديث والسنة أنه يجوز على الله تعالى إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة، وإسقاط ذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد على نفسه بوعده، والله لا يخلف الميعاد، ويعتقد أهل السنة والجماعة أنه من موانع وقوع الوعيد التوبة والتوحيد والحسنات العظيمة والمصائب المكفرة وإقامة الحدود في الدنيا وأضعاف أضعافها.
ويأتي أصلهم في (المنزلة بين المنزلتين) الذي فارقوا به الجماعة ليرتبوا عليه اعتقاد أن مرتكب الكبيرة فاسق، وهو منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان ولكنهم لم يكفروه كما فعل الخوارج، كما لم يستحلوا الدماء والأموال في الدنيا.
ولا ينفرد المعتزلة بالأصل الأخير - أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه مبدأ إسلامي اعتنقه كل الفرق، وهو يقضي بأمر المسلمين وتكليفهم بالجهاد في سبيل الله بأمر الآية: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104] إلى جانب اعتقادات أخرى اختلفوا فيها تزيد عن هذه الأصول مثل قولهم بأن العلم بالله تعالى يحصل بالنظر والاستدلال أي: ترتيب الأقيسة العقلية، فخالفوا جماهير الفقهاء والصوفية وأهل الحديث العامة وغيرهم، لأن سلف الأمة وأئمتها اتفقوا على أن معرفة الله تعالى والإقرار به لا يقف على الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر (لأن أصل المعرفة والإقرار بالصانع يحصل بديهة وضرورة ولا يتوقف على النظر والاستدلال ويدلل ابن تيمية على ذلك بأن جميع الأمم تقر بالصانع مع عظيم شركهم وكفرهم (ولهذا يوجد له عند كل أمة اسم يسمونه والتسمية مسبوقة بالتصور. فلا يسمى أحد إلا ما عرفه، ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجود ويكون قبولها لأسماء سائرها ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل.
[1] ابن القيم: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 47، 51، 69.
[2] الشيخ علي الطنطاوي: تعريف عام بدين الإسلام ص 131، 132 دار الرائد 1395هـ- 1975 م.
[3] الشيخ الغزالي: عقيدة المسلم ص 140 والحديث رواه البخاري بألفاظ متقاربة.
[4] ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 446 ط: لاهور 1396هـ- 1976م.
[5] الملل والنحل ج1 ص 59.



l,rt hghkshk lk rqdm hghdlhk fhgrqhx , hgr]v