المجتمع المصري ونهضة محمد على
هل تأثر محمد على بالعلمانية ؟
يعد محمد على رائد مصر الحديثة وباعث نهضتها كما يقول بعض كتاب التاريخ أذ أنتقل بها من فوضي واضطراب العصور الوسطي إلى مشارف العصر الحديث فهو مفجر شرارة النور والعلم والمعرفة وكان ظهور هذا الرجل إيذانا بأفول ثلاثة قرون من الجهل والضعف والتخلف عاشتها مصر إبان حكم العثمانيين ، ونجم عن ذلك نهضة جديدة أخرجت مصر من كبوتها ودفعت بها إلى مستوي الدول القوية .
وقد ظهرت العديد من الآراء وتفجرت الكثير من القضايا أثارتها شخصية ذلك الرجل أثناء حكمه لمصر وتناولته الأقلام ما بين مؤيد ومعارض . ومن القضايا التى تحدث عنها المؤرخون قضية الحداثة وفصل الدين عن الدولة وإنشاء المدارس وإرسال البعثات وإنشاء الجيش القوى وغير ذلك من قضايا سوف نتعرض لها .
- وأريد قبل الخوض في هذه القضايا أن أتحدث عن الفترة التي أعقبت خروج القوات الفرنسية من مصر والتي انتهت بوصول محمد على إلى حكم البلاد بعد أن تلقي نظام المماليك ضربة قاصمة من الحملة الفرنسية شتت جمعهم وأضعفت قوتهم وكسرت شوكتهم .
ومما أثار محمد على وأغضبه من تلك البقية الباقية من فرسان المماليك أنهم كانوا يحاولون الوصول إلي السلطة وقد ظهر للشعب المصري خيانتهم وضعفهم ، هذه المجموعة تقدر بحوالي خمسة آلاف مملوك يعاونهم بعض الجنود الفرنسيين ، وهم حائرون يتنقلون من معسكر الإنجليز تارة إلى معسكر الفرنسيين تارة أخرى. كما كشفت تلك الفترة عن ضعف الدولة العثمانية من ناحية أخرى ، فالعثمانيون يريدون استغلال فرصة ضرب المماليك لكي يجهزوا عليهم وينفردوا بحكم البلاد ، وأما الإنجليز فقد كانت جيوشهم تعسكر داخل البلاد ولا يريدون الخروج منها .
إن كل هؤلاء المتصارعين الذين نسوا أو تناسوا طبقة الشعب المصري الذي شعر بكرامته وأحس بوجوده ، وقد جرح في كبريائه وعزته داخل وطنه فإذا به ينتفض محاولا التخلص من كل هؤلاء الاعداء ، وقد ظهر لهم قيادة شعبية لأول مرة خلال مقاومة الحملة الفرنسية من العلماء والتجار ومشايخ الحرف فهل تستطيع هذه القيادة أن تخلصه وتنقذه الأن وتقوده إلى بر الأمان .
لقد أثبتت الحوادث عدم قدرة هذه القيادة على استغلال الظروف المواتية والعمل لمصلحتها ولمصلحة الشعب وإذا كان هذا الأمر يعيب الزعامة الشعبية التي ظهرت فعاليتها ولكنها كانت سلبية إذاء التطلع إلي حكم البلاد ؛ أقول إذا كان الأمر كذلك فإن هناك من أخذ يتربص في دهاء ومكر لينالها لنفسه وأن يظفر بها دون غيره ألا وهو محمد على باشا والذي درس إمكانيات القوى المتصارعة آنذاك ، ولم يهمل إحداها ، لقد فهم أكثر من غيره قوة القيادة الشعبية البازغة وشدة تأثيرها إذا وجهت وعول عليها وأحسن استغلالها وأدخرها للموقف الحاسم فكسب المعركة وخسرها كل منازعيه .
لقد خرج الإنجليز من مصر وفق صلح إميان سنة 1402 (بين فرنسا وإنجلترا وهولندا وأسبانيا) وحاولت بريطانيا إستمالة تركيا إلى جانبها فلم تفلح وعملت على مساندة المماليك ليكونوا مخلبا لها في مصر فلم تفلح أيضا . ونشب الصراع المسلح بين العثمانيين والمماليك وعندما بدت كفة المماليك أن ترجح أنضم إلي جانبهم محمد على ، وعلى الرغم من أنهم عرضوا عليه أن يكون شريكا لأبراهيم بك في الحكم ولكنه رفض فأخذ يترقب سير الحوادث حتى عاد الألفي بك من إنجلترا يحمل وعدا من الإنجليز لسيطرة المماليك على السلطة ، الأمر الذي أشعل الحقد في قلب البرديسي وأتباعه وأصبح خصما عنيفا للألفي . لقد بدأت حينئذ الأمور تتكشف ، والقوات العثمانية هزمت تقريبا ، وإن كان الوالي التركي لم يزل في القلعة والمماليك قد أكلوا بعضهم بعضا ، والشعب ثائر على الضرائب التي يفرضها البرديسي على التجار ، ومحمد على له صلات طيبة بالمشايخ والتجار وقادة الشعب ، وقد أتضح له لكي ينفذ إلى هدفه عليه أن يتخلص من المماليك ويصبح الطريق حينئذ مفتوحا امامه للسلطة ، والأن يمتلك قوتين تمكنانه من هذا كما أشرنا سابقا ، الأولى وهي قوة الأرتباط بالشعب وعن طريقها يكسب شرعية لسلطته ، والقوة الثانية : الجيش الذي يحسم به الموقف وفعلا إنحاز إلى الشعب في ثورته على المماليك ، ثم أمر جنوده فهاجموا المماليك حتى فر البرديسي وإبراهيم ، وإرضاء للشعب أبطل محمد على الضريبة التي كان البرديسي قد فرضها على التجار وأصحاب العقارات . وبهذا أصبح يمثل في نظر الشعب آماله وأمانيه في التخلص النهائي من حكم المماليك . ثم أنحاز مرة أخرى إلى جانب الشعب في ثورته الثانية ( الرابعة منذ الحملة الفرنسية ) على الوالي التركي . هذه الثورة المجيدة التي انتهت بان نودي به واليا على مصر بمعرفة مشايخ المسلمين وكبير الأقباط أنئذ المعلم جرجس الجوهرى . والتجار والأعيان .( 1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
1- دراسات في تاريخ مصر السياسي – فوزي جرجس – تقديم جلال السيد – العربي للنشر والتوزيع ص 33 .
- ونعود بالحديث عن قضية الوعي القومي الذي ظهر عند المصريين من جراء تلك الأحداث فهل كان هذا الوعي عميقا قويا يكسبون به المواقف أم كان فجا ضعيفا غير قادر على شيء ، لقد تبلور ذلك الوعي وأصبح واضحا في ثورة مايو التي قام بها المصريون -كما قلنا -إذ أستمرت من أول مايو حتى 9 يوليو سنة 1907 م حتى ورد الفرمان التركي من الأستانة لتعيين محمد على باشا على عرش مصر حيث رضي به شعب مصر من العلماء والتجار والحرفيين ، وتعود أهمية تلك الثورة إلى أنها كانت ضد الدولة العثمانية لأول مرة وظهرت فيها الوحدة الوطنية من مسلمين ومسيحيين وكأنهم كتلة واحدة .
والمتأمل في اسباب قيام تلك الثورة يجدها قد قامت على دافعين الأول : الدافع الاقتصادي حيث الضرائب الباهظة التي كان يفرضها الوالى التركي على الرعية والثاني : وهو التخلص من الحكم التركي وهذا وعي أنضجه الصراع الدامي ضد القوات الفرنسية من ناحية والكره الشديد للمماليك القائمين على النهب والسرقة من ناحية أخرى . وعلى العموم فإن تلك الثورة قد حقتت هدفها بان عزلت الوالي التركي وأقامت محمد علي واليا علي مصر والذي ستبدأ به مصر عهدا جديدا .
ولكن يبقي لدينا تساءل مثير للغاية نحو الزعامة الشعبية بما كان لها من مكانة وحب بين المصريين أمثال عمر مكرم وأخضعه هو بالحديث العجيب هنا ، فإن هذا الرجل والجمهور الذي يعشقه يسعون جميعا إلى رجل أجنبي يملكونه على المصريين ولم يتقدم هو ، ولو حدث ذلك سوف يجد إقبالا من الشعب . فكيف كانت حال القوي الثورية آنذاك وهل كانت الظروف سانحة بأن يتولى على البلاد والي مصري .
لم يستطع عمر مكرم ان يصل إلى السلطة وقد ظهرت قدرته العجيبة على تهييج الجماهير وحشدها وعلى الرغم أيضا من قيام هذا الرجل بمجهود ثورى في حشد وتعبئة الشعب إلا أنه لم يجد الطبقة التي يستند إليها لكي يجمع لنفسه نتاج هذا المحصول الثورى الذي قطف ثماره محمد على ثم تنكر له بعد ذلك ! إن الوعي لدي المصريين كان بدأ يتفتح لكنه كان فجا وغير قادر على تحديد معالم الطريق فهو وعي غير قادر ينقصه التوجيه وحسن التصرف وعدم القدرة على الإحساس بالموقف وكان محصورا داخل المدن ولم يصل إلى الريف بعد ، كما أنه وعي لا يستند إلى تملك رجالها لوسائل إنتاج راقية ، فكانت الاحداث أسرع وأضخم من النضج الاقتصادي والاجتماعي ، لذلك تركت السلطة لهذا المغامر التركي الذي ربط مصيره بمصر وهى تمر بتلك الأحداث ، إن وصول هذا الرجل إلى الحكم يبين رغبة الشعب في الأستقلال والتطور ولكن تنقصه السياسة التي تمكنه من تنفيذ هذه الرغبة ، ولعل محمد على عندما خاض الحروب العديدة وأعتمد على التجار والمثقفين والحرفيين كان في ذهنه هو الوصول إلى السلطة فحسب ويهلك ما عداها .
وبوصول محمد على إلى السلطة انتهي النظام المملوكي فعلا وإن بقي يعيث فسادا في البلاد وقد أنتهت به مرحلة من مراحل الإقطاع المملوكى شكلا في مصر والتي ظلت حوالي 555سنة منذ أن وصلت المماليك البحرية إلى الحكم عام 1250 م إلى أن تولي محمد على السلطة عام 1805م . والعجيب أن محمد على لم يقض على النظام الإقطاعي نفسه بل غير شكله وتمركزت السلطة الإقطاعية في يد محمد على وكون دولة مركزية إقطاعية ، وظل أسلوب الإنتاج إقطاعيا كما هو ، يمتلك الوالي الأرض الزراعية كلها ثم يقطعها أو يهبها للأمراء والقواد والأعراب كما شاء .
لقد وصل محمد على إلى السلطة وأمامه مشاكل عديدة لكي يثبت سلطته وأول هذه المشاكل هي تركيا فقد كانت تعمل بكل الطرق لإعادة سيطرتها على مصر وكانت المشكلة الثانية وهي انجلترا التي تتربص بمصر لإحتلالها وللسيطرة على منابع المواد الخام والمشكلة الثالثة القيادة الشعبية التي أتت به إلى السلطة ويريد التخلص منها ، وأخيرا مشكلة المماليك الذين يتطلعون لإفساد البلاد وإثارة المشاغبات في شوارع مصر . هذا عن الجانب السياسي ، أما عن الجانب الآخر وهو الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي فسوف ينهض بها محمد على وذلك في مشروعه الكبير والذي ينادي فيه بإنشاء جيش قوى وتحويل مصر إلى دولة حديثة بانتشار التعليم وإرسال البعثات إلي الخارج وإقامة المصانع .
- كانت مذبحة المماليك في القلعة والتي خطط لها محمد على سرا من أهم بواعث الحراك الإجتماعي منذ أنفراده بحكم مصر ، لقد وصلت العلاقة بينهما إلى طريق مسدود وكان من الصعب على المماليك أن يقبلوا بالأمر الواقع ، وعليهم الإنزواء إلى السكون والدعة وينعمون بالحياة التي هيأها لهم محمد على ولكنهم تآمروا عليه وحاولوا إغتياله ، وقد فشلوا في ذلك وأيقن محمد على أنه لا أمل له في البقاء على عرش مصر إلا بالقضاء على المماليك الذين ينازعونه السلطة ، وهو إنسان فطر على الاستبداد ولا يقبل شريكا معه في الملك فأخذ يفكر في إحكام خطة للقضاء عليهم فكيف كانت تلك الخطة ؟ أعرب محمد على عن رغبته في الصلح مع المماليك والسماح لهم بالعودة إلى القاهرة ليعيشوا في وئام وقبلوا العرض وتوافدوا إلي القاهرة وخلعوا رداء الحرب وأصدر محمد علي بيانا بالأمان العام والصفح عن امراء المماليك ، وقامت خطة محمد على باشا على السرية التامة ووضعت ترتبات المذبحة أثناء العرض العسكرى لكتائب الجيش بحيث يتحرك الموكب وفي طليعته فرقة الفرسان الدالاة ثم والي الشرطة ، ثم الأغا ( محافظ القاهرة ) ثم المحتسب ، ثم فرقة الوجاقلية ، ثم كوكبة من الجنود الأرناؤوط يقودهم صالح قوش ، ومن بعدهم جماعة أمراء المماليك ، ومن بعدهم بقية الجنود الأرناؤوط فرسانا ومشاه ، وعندما حانت اللحظة الحاسمة أثناء العرض العسكرى دوى النفير ودقت الطبول ونهض محمد على فهب المماليك وقوفا ، وبادلوه عبارة الود والتحية وفي اللحظة المناسبة أنهمر الرصاص على المماليك من فوقهم وعن يمنهم وعن شمالهم ومن ورائهم وسدت منافذ النجاة أمامهم وقضي عليهم جميعا وتكدست جثثهم بعضها فوق بعض وعددها 470 قتيلا ولم يفلت من المماليك سوي أمين بك الذي وصل إلى الموكب متأخرا فلما سمع أصوات الرصاص هرع إلى صور القلعة وهوى بحصانه إلى الأرض ونجا من الموت وهرب نحو سيناء .
وقد أختلفت آ راء المؤرخين في تلك المذبحة : يقول عبد الرحمن الرافعي بعد أن شرح تفاصيل المذبحة بكل دقة نحن لا نريد أن ندافع عن المماليك وقد سجلنا مساوءهم التي أرتكبوها ولكن مهما بلغت سيئاتهم فإن القضاء عليهم غدرا أمر تئباه الأنسانية ولو أن محمد على باشا استمر في محاربتهم وجها لوجه حتى يتخلص منهم في ميادين القتال لكان ذلك خير له ولسمعته ويري الرافعي أن مذبحة القلعة كانت نقطة سيئة في تاريخ محمد على .
بينما حاول بعض المؤرخين تبريرها وقد أضطر محمد على إلي ذلك دفاعا عن نفسه فقد كادوا له حينما ذهب إلى السويس لتفقد السفن الناقلة للجنود المعدين لحرب الوهابين في الجزيرة العربية .
- كان الحراك العسكري في عهد محمد على من أهم القضايا التي أثرت فى الحراك الاجتماعي وإن طغي الحراك العسكرى واثر على الحراك الاجتماعي تأثيرا شديدا ، فقد عاني منه المصريون على الرغم من ضرورته فقد عاشت مصر قرونا بدون جيوش وطنية كانت تسند فيها مسؤلية الدفاع إلى المرتزقة الأجانب وفي بعض الفترات القليلة كان يسمح للمصريين بخدمة الجيش دون أن تتاح لهم فرصة للترقي إلى صفوف الضباط ومن المحزن أن حكام مصر الذين اعتلوا عرشها كانوا حريصين على إبعاد المصريين عن الجيش حتى لا تنبت لهم أظافر وطنية يدافعون بها عن بلادهم . هكذا كان حكم مصر تحت اليونان والبطالمة والقياصرة الرومان والولاه العرب وخلفاء الفاطميين وسلاطين الأيوبيين وسلاطين المماليك والدولة العثمانية .
وإذا كانت مصر حققت مكانا مرموقا ومركزا استراتيجيا وسيادة على المنطقة العربية فلا يمكننا أن ننكر أن هذا قد تحقق على أيدي المماليك العبيد وعلى أكتاف هؤلاء تحقق نصر حطين والمنصورة وعين جالوت وكان المصريون بلا شك بمعزل عن هذه الجولات الحربية إذ خاف الحكام من تجنيدهم ، وتوالت العصور والحقب والمصريون في غيبة عن الحياة العسكرية والمعارك القتالية ، مما أدي إلى تدهور الروح المعنوية وفقدان الحس القومي وضعف الشعور بالإنتماء إلى وطن يتعين عليهم الدفاع عنه والإحساس به . وظل شعبنا المصري الطيب على هذه الحالة إلى أن جاء محمد على وأحتاج إلى جيش مصري قوى ليساعده على تحقيق أهدافه ومطامعه في التغلب على الدولة العثمانية ومحاولة إضعافها ، ثم تكوين دولة قوية تكون عدة له ولأبنائه من بعده وهذا هو مشروعه الوحدوى الكبير وادرك أنه لن يحقق مشروعه إلا بأنشاء جيش قوى ، ولكي ينشأ الجيش القوى والبلد الناهض عليه أن يقيم المدارس العالية والمتوسطة ويرسل البعثات ويقيم الصناعة في البلاد .
- ووجد محمد علي أن العناصر الموجودة من المماليك الباقية لا تصلح للتجنيد فقد يصعب إصلاحهم أو تطويعهم لتقبل مقتضيات الحداثة والإصلاح ، فقد كانت فرسان المماليك غير قادرة على أن تستوعب فنون القتال الحديث التي فوجئ بها المماليك والمصريون أثناء حملة نابليون وأن العناصر القتالية آنذاك من المماليك لا يجيدون إلا الكر والفر على صهوات الجياد واستخدام السيوف والسهام والحراب وهي أدوات عفا عليها الزمان ولم تعد صالحة في وجه الأسلحة الحديثة .
لقد حاول محمد على في ذلك سبلا كثيرة يتجنب فيها تجنيد المصريين ، فحاول ان يجمع جنوده العائدين من حرب الوهابيين وأعد لهم معسكرات وصارحهم بانه يريد إدخال النظم الجديدة في صفوفهم ، وبعد فترة من المعارضة والشغب فشل هذا المشروع وخرج بتجربة انه لا يمكن أن يعتمد على هؤلاء الهمج في تأسيس الجيش النظامي لمصر الذي يحلم به ، وبدأ يتجه إلى عناصر أخرى ثم هداه تفكيره أن يكون أمر إنشاء هذا الجيش في سرية تامة ، وان يكون بعيدا عن القاهرة حيث المشاغبيين ، فأختار أسوان ، وأمر ببناء السكنات بها التي تصلح للتدريب ، وبعث إليها بألف جندي من خاصة مماليكه ومماليك أعوانه ليكونوا النواه الأولى لضباط الجيش المصري المدرب على النظام الحديث ، ثم وقع أختياره على المدرب الذي يصلح لهذه المهمة فأختار ضابطا فرنسيا الكولونيل ( سيف ) الذي أسلم بعد ذاك وأصبح أسمه ( سليمان باشا الفرنساوي ) ثم أخذ يفكر في تكوين الجيش النظامي من الجنود فأتجه تفكيره إلى تجنيد السودانيون فأحضر عشرين الفا من أبناء كردفان وسنار وأقام لهم معسكرات خاصة في الصعيد على أن يتولي تدريبهم الضباط الذين تخرجوا على يد سليمان الفرنساوي ولكن التجربة فشلت بسبب أختلاف المناخ مما أدي إلى موت الكثيرين منهم ، ولعلنا بعد ذلك كله ندرك هدف إحجام ( محمد على ) تجنيد المصريين حتي هذه المرحلة ، ولعل السبب واضح ؛ وهو خوفه من تجنيد المصريين حتى لا ينتشر الوعي القومى وحب الوطن والولاء له في نفوس المصريين وهذا أمر يضر بمشروعاته وأهدافه ومطامحه .
وأخيرا أقدم محمد على باشا على الخطوة التي أحجم عنها بهدف وقصد إذ قرر تجنيد الفلاحين المصريين وأقدم على الخطوة التي أبى أن يقدم عليها حكام مصر على مدي 23 قرنا . وهي السماح للمصريين بممارسة المهن العسكرية وتحمل عبء الدفاع عن وطنهم . وإذا كنا – نحن المصريين – نحمد لمحمد على هذه الخطوة على كره منا إلا أنه كان لها ما لها في ترسيخ الحس القومي ، وإن جاء على مضض ؛ فقد كان قاسيا في تجنيد الفلاحين المصريين وانتهج طرقا غير انسانية في جمع الفلاحين قسرا وقهرا وتقييدهم في الحبال وسوقهم كالدواب إلى معسكرات التجنيد .
وهذه الطريقة التي اتبعها محمد على في تجنيد المصريين قهرا بكل قساوة وعنف كما كان لا يدعوهم إلا بالفلاحين إحتقارا لشأنهم وإمتهانا لأدميتهم وهذا أمر غريب ، فهذا الشعب الذي أهين أدميته هكذا هو الذي أختاره وأنتخبه لحكمه وأن الأساليب التي اتبعها لجمع المجندين منفرة إلي أبعد الحدود ، الأمر الذي جعل المصريين يكرهون الجندية والتي كانت تسمي الجهادية . آنذاك .
فكان محمد على يكلف مدير كل مديرية بجمع العدد المطلوب ، وهذا بدوره يوزع العدد على القرى الكائنة في اختصاصه ، فيقوم العمد والمشايخ – بمعاونة الجنود بالانقضاض على القرى فجاة ، فلا يلبث أهلوها أن يروا الأبناء وقد سيقوا – وهم مصفدون بالأغلال كالمجرمين تماما – إلى عاصمة المديرية ، دون تمييز بين العجائز أو الأصحاء أو المرضي أو ذوى العاهات أو الصبية ، وتوضع في أيديهم الأغلال يتبعهم اقاربهم من النساء والأطفال بالنواح إلى مكان الفرز ، وهكذا لم يكن التجنيد يسير على نظام معين أو ترتيب للأسماء ، بل إن القوة الغاشمة التي هي أشد عمي من الحظوظ والمصادفات هي وحدها التي تلقي بالجنود في أحضان الجيش وهي في وضع من أشد ما عرف عسفا ووحشية . وفي بعض الأحيان كانوا يقبضون على المارة او الزوار لإدخالهم في زمرة المجندين إلى غير ذلك من اعمال الغش والاحتيال والرشوة والانتقام من الخصوم .( 1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر الجيش المصري في القرن التاسع عشر – د: محمد محمود السروجي- وأنظر أيضا محمد على وأولاده – مكتبة الأسرة 99 – الهيئة المصرية للكتاب .جمال بدوي ص 94 .
وقد تحدث المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن تجنيد محمد على للمصريين وقد برر اعماله التعسفية التي استخدمها في تجنيد الفلاحين ويعزوا ذلك إلى أنهم لم يألفوا الخدمة العسكرية منذ أجيال بعيدة ، وهذا نقص كبير في أخلاق الشعب الحربية ؛ لأنه ما من أمة تنزع إلى الأستقلال وتقدس الحرية إلا وتجعل الخدمة العسكرية فرضا حتما على أبنائها فلما شرع محمد علي في تأهيل المصريين قابل الفلاحون هذا المشروع بالنفور والسخط ولم ينتظموا في صفوف الجندية إلا مكرهين فكانت الحكومة نتيجة لذلك تقبض على المجندين وتسوقهم قسرا إلى المعسكرات ( 1) .
وكان للإمام محمد عبده رأيا ناقدا وجيها في تجنيد محمد على للمصريين ( يقولون انه أنشأ جيشا كبيرا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولا ضخما تثقل به ظهور البحار : فهل علّم المصريين حب التجنيد ، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم الخدمة في الجندية ، وعلمهم الأفتخار بها ؟ لا : بل علمهم الهروب منها ، وعلم أباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت ) . ثم يقول أيضا هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه ؟ وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه ؛ بأن يقول : هذا جيشي وأسطولى ، أو جيش بلدي وأسطوله ، كلا لم يكن شيء من ذلك ، فالولاء للجيش والوطن . ثم يعلق على سرعة هزيمة ذلك الجيش من أول صدمة عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي إذ دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل به دابر( 2)على قوم ثم أستقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن أستقلالها) (3 ) .
وقد كانت سياسة التغريب وإرضاء الغرب أثرها الكبير على الحراك الإجتماعي للمصريين في هذه الحقبة إذ خطا محمد على خطوة أخرى أمتد فيها حبل الموالاه والمودة للغرب الإستعماري إذ فتح البلاد على مصراعيها لأفواج النصاري للبحث والتنقيب وإكتشاف الآثار ، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة وقد رحب بهم وذلل لهم كل الصعاب( 4) .
وإن كانت تلك الخطوة تعود على مصر ببعض النفع المادي والعلمي إلا أن بعض الكتاب يرون أن أضرارها كانت كثيرة فقد تجاوز هؤلاء النصاري هدفهم الرئيسي من تلك العمليات من تنقيب وغيره ، إذ وضعوا أيديهم على مراكز الثروة من ناحية ، وأن دراستهم للمواقع دراسة تخطيطيه قد أفادتهم بلا شك في إحتلال مصر سنة 1882م . والعجيب أن الكثير من هؤلاء المنقبين كانوا من الإنجليز .
إذن قام هؤلاء المنقبون بحجة إقتصادية ، حيث قامت شركات إقتصادية ضخمة ليس هدفها الأساسي هو الاستثمار فقط ، يقول أحد المستشرقين : في كتابه الشرق الأدني مجتمعه وثقافته :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- - محمد على وأولادة – جمال بدوي ص 96 .
2- - الدابر هو الذي يدخل على القوم دون أستأذان
3- - أعلام وأقزام في ميزان الإسلام – د / سيد بن حسين العفاني ج1 ص 11.
4- أعلام وأقزام في ميزان الإسلام ج3 571 ، 617 .
( إننا في كل بلد إسلامي دخلناه ، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام / ولسنا نطمع بطبيعة الحال ان يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام ، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات .. ) .
وقد لا تخلوا أعمال هؤلاء المنقبين والمستثمرين من أهداف أخرى يخططون لها وإن كان هذا العمل قد يري من منظور المصلحة والتقدم الحضاري الذي يعيشه الغرب آنذاك ، وقد ركزوا التنقيب على الآثار ولاسيما آثار ما قبل الإسلام التي أبهرت العالم ومن خلال هذه الآثار الفرعونية التي لعب على أثرها بعض المستشرقين لذبذبة ولاء المسلمين لإسلامهم ولحضارتهم ونعوا الإسلام وحضارته بالتخلف حتى أصيب بعض الشباب بالحيرة والثنائية بين تلك الآثار العجيبة وبين آثار الإسلام ، ويري بعض المؤرخين أن محمد على هو أول من فتح الطريق وساعد هؤلاء الأجانب بتنفيذ مخططاتهم والوصول إلى أهدافهم بفتح البلاد شرقا وغربا ، هذا وإن كان محمد على قد أباح للغرب التنقيب أو البحث عن الآثار فهذا يعد بلا شك حسنة تحسب له وليست عليه فإن الأجانب بما يمتلكونه من وسائل حديثة وآلات وتقدم تكنولوجي غير موجودة في مصر فقد أفادتنا كثيرا حتى نساير الركب الحضاري العالمي وهذا هو سبب الشهرة التي تنالها اليوم آثار مصر في بلدان العالم أجمع .
- وكانت فرنسا من أكثر الدول التي استفادت من حراك محمد على نحو الغرب ، إذ كانت تلك الدولة قد أحتضنت محمد على وأيدت أغلب أهدافه وقدمت له الخدمات طائعة فإنها لم تفعل ذلك حبا في محمد على وإنما من أجل أن تستفيد من وراء مخططاته فعلى سبيل المثال ، ساعدته في تكوين جيش قوى مدرب على أحدث الأساليب ومجهز بأحدث الأسلحة وأشرف على إنشائه سليمان الفرنساوي ، كما أنشأت له أسطولا بحريا حديثا وترسانه بحرية في دمياط ، وأنشأت القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر . كل هذا وغيره ليس حبا في مصر أو في محمد على وإنما كان ذلك لتنفيذ المخطط الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بعد أن أضطرت للرحيل ، وكانوا يهدفون من وراء ذلك كله إستخدام ذلك الجيش وذلك الأسطول العربي المسلم لضرب كيانات عربية إسلامية أخرى ، وكان على رأس مخططاتهم الخبيثة القضاء على الدولة العثمانية ، وبالفعل حارب محمد على تركيا في معارك برية وبحرية ليضعف قبضتها على مصر وينفرط عقد تلك الدولة المسلمة إلى دويلات تتلقفها الدول الأخرى ، وحين حقق ذلك الرجل إنتصارته تلك التي أذهلت بريطانيا وفرنسا ، والتي كاد أن يقضي بها على الدولة الإسلامية العثمانية ، تدخلت بريطانيا وأوقفت زحفه نحو تركيا خوفا من أستئثار فرنسا بصداقة السلطان وإزدياد نفوذها في مصر . وإذا كانت بريطانيا أوقفت محمد على عند حده في الظاهر ، إلا أنها ضمنت له الاستقلال الفعلى لحكم مصر حكما وراثيا له ولذريته مع التبعية الأسمية للسلطان العثماني.
ومن الأعمال الإجرامية التي خدمت مخططات الغرب ضد الإسلام ، هو قيام محمد على بضرب الاتجاه الإسلامي السلفي في الجزيرة العربية متظاهرا بطاعة السلطان العثماني الذي فقد السيطرة على الجزيرة العربية ، ومما لا شك فيه كان هذا ستارا لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا .
إذ رأتا الوجود السعودي آنذاك يشكل خطرا على مصالحهم في الخليج العربي والبحر الأحمر . وقد شارك في تلك الحملة ضباط فرنسيون وجنود من النصاري الغربيين. (1 ) وإذا كان محمد على قد بالغ في تغريبه للعالم الإسلامي فإن هذا التغريب قد أثر على الحراك الاجتماعي تأثيرا كبيرا حيث أتجه هذا التغريب اتجاهين هما :-
1- ابتعاث الطلاب الشباب من النابهين إلى أوروبا ليتعلموا هناك .
وإذا حللنا هذه النقطة لوجدنا ظاهرها عملا جيد إذ من مصلحة البلاد أن يتعلم الشباب العلوم الحديثة التي تطورت في أوروبا وأن يقفوا على أسرار الحضارة الغربية ، ولكن على ما يبدوا أنا إشراف الدولة على هؤلاء الطلاب لم يكن دقيقا ، وأن الهدف لم يتحقق كما يقول الشيخ محمد قطب إذ بذور العلمانية بدات تدخل ساحة التعليم ومن ثم غزت الحياة في مصر الإسلامية ( 2). فعاد أغلب هؤلاء الشبان حاملين تلك الفكرة والتي حاول الغرب أن يعمل على انتشارها وخاصة قد سبق مصر إليها تركيا عن طريق المبتعثين أيضا ثم قام مصطفي أتاتورك بفرضها على البلاد وإقصاء الدين جانبا عن الحياة .
وقد كان من هؤلاء المبتعثيين الشيخ رفاعه الطهطاوي وكان إماما لإحدي البعثات وشيخا لها فقد عاد حاملا معه بذور التغريب والعلمنة للدعوة إلى تحرير المرأة وساهم بقسط وافر في زعزعة عقيدة الولاء والبراء وإن كان عن غير قصد وذلك بإغراقة في مديح أوروبا والثناء عليها في كتب كثيرة ولعل من أبرزها كتابه في مدح باريس ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) .
والغريب أنه قد تم إرسال أطفال بين الثامنة والتاسعة من الأسرة المالكة إلى أوروبا ، إذ أرسل الخديوي توفقيق نجليه الأميرين عباس حلمي وعمره أثنتا عشرة سنة ، ومحمد على وكان عمره عشر سنوات حيث أرسلهم إلى سويسرا وهذه الطريقة الخاصة بأبناء الملوك العرب أو السلاطين أو الأمراء هي الطريقة التي تبنتها أفكار الصهيونية والتي دأبت على أستقبال هؤلاء المبتعثيين من الأمراء الصغار للتعرف عليهم والأختلاط بهم حتى يجنوا الثمرة عندما يكونون حكاما في بلادهم وهذه هي القاصمة الكبري التي أصابت الحكام المستبدين في بلادنا وكيف تلعب بهم الصهيونية والغرب ويأثرون في صنع القرار .
2- إنشاء نظام تعليمي جديد على نسق الأنظمة التعليمية في الغرب.
أما السياسة التغريبية الثانية التي أتبعها محمد على فهي إنشاء نظام تعليمي جديد على نسق الأنظمة التعليمية في الغرب ، وقد يخالجنا العجب في السياسة التعليمية التغريبية هذه فكيف لذلك الرجل الجاهل الأمي أن يميز بين تعليم أزهرى متخلف لا يحقق له أغراضه وتعليم أوروبي متطور يري أنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق أغراضه وجموحه ، وقد يزول العجب والغرابة عندما ندرك ما هية الحاشية التي تحيط به فأغلبها نصاري ويهود وخبراء فرنسيين ، من هذا المنطلق أدار محمد على وجهه عن الأزهر والكتاتيب وجعلها في ناحية وفي ناحية أخرى أقام نظاما تعليميا قائما بنفسه مقتبسا من الغرب . وبهذا أحدث نوعين من التعليم يتجازبان تعليم الشباب في مصر . مما أصاب شباب الأمة بثنائية رهيبة كان لها أثرها في مجالات عديدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين – دكتور سليمان بيومي – سلسلة عالم المعرفة – جدة ص187 ، 189 .
2 - واقعنا المعاصر ص207 .
- ومن المآخذ التي أخذت على محمد على وكان هذا في مقدوره - ولكنه لم يستطع - أن ينسلخ عن مخططات الغرب أقول : كان في مقدوره إصلاح الأزهر ونظامه التعليمي ووضع الإمكانات اللازمة في هذا النظام كما وضعها في التعليم التغريبي الحديث . ولا ريب في ذلك فإنه لم يهدف من التعليم تنوير المصريين والنهوض بهم كما تفعل بلاد أوروبا وشعوبها ، ولكن كان هدفه الأسمي مقصورا على الإستفادة من التعليم في إنشاء الجيش القوى حتى تلك الصناعات التي أقامها في البلاد ، فلم يكن هدفه نهضة الصناعة في مصر وتعليم المصريين العديد من الحرف والصناعات ، ولكنها كانت صناعة مخصصة للجيش ، ولعل كان هدف محمد على الذي كان يرمي إليه من التعليم الجديد إلغاء دور الأزهر بالمجتمع ، ومن ثم القضاء عليه بصورة غير مباشرة . وسوف يتضح ذلك جليا عندما يقوم بفتح العديد من المدارس ذات النظام الغربي ومميزاته العالية التي تؤهل الدارسين فيها لتتولى المناصب الهامة والأعمال الرفيعة في دولة محمد على .
ولكن ابتعاد الأزهر عن مجال التوظيف أو عدم اتخاذه الأهبة لإعداد تلامذته بما يؤهلهم للحياة وللمجتمع الذي يعيشون فيه آنذاك ، لم يلبث أن باعد بينه وبين كثير من خاصة الناس وصرفهم عنه إلى حد كبير . فقد كانت المناصب التي يصيبها خريجو المدارس ، والثراء والاحترام اللذان يحظون به ويستهويهم يدفع الآباء لدخول أبنائهم لكل المدارس . التي أنشأها محمد على بديلا عن الأزهر .
وهل يكون إلغاء دور الأزهر وتحجيم أنشطته إلا بصرفه عن مجالات التوظيف في الحياة ، أو على الأصح بصرف مجالات التوظيف عنه ...؟ وقطع صلته بالحياة العامة ؟
وحين انشأ محمد على مدارسه الحديثة كان محتاجا إلى معلمين للغة العربية ولم يكن هناك بالطبع غير الأزهر .
لذا فقد اتجه محمد على إليه وأخذ منه ما يكفي مدارسه من المعلمين ، فكانوا فريقا هاما من موظفي المدارس .
ولكن يا ترى كيف كانت معاملته لهؤلاء الازهريين الذين أعوزته الحاجة إليهم وقاموا بدور كبير في تدريس اللغة العربية وفروعها داخل المدارس التي أنشأها كما يشهد بذلك كل من كتب في التعليم في ذلك العصر ..؟
يجيبنا على ذلك الدكتور أحمد عزت عبد الكريم فيقول :
( وكانت الحكومة تعلم أنهم لم يكونوا يمنحون في الأزهر مرتبات كبيرة ، ولهذا نراها تبخل عليهم بتلك المرتبات وترى أنهم إنما يقومون ( بمقاصد خيرية ) ثوابها عند ربهم ! فقد كان هناك مدرسون بل رؤساء مدرسين قضوا بمدارسهم اثنا عشر عاما لا يصيبون من الحكومة إلا مائتي قرش في الشهر ، وهو قدر ضئيل يناله خريج مدرسة خصوصية حديث العهد بالوظائف ، ثم هي تبخل عليهم بعد هذا ببضعة قروش تضيفها إلى مرتباتهم ( 1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-- أعلام وأقزام ص24-26 .
من هذا يتضح مدي البغض والاحتقار الذي كان يكنه محمد على للأزهر ورجاله وليس هذا بمستغرب على رجل داهيه في الحياة جاهلا أمي استبد به الغرب فإن القائمين على التعليم في عهده كان معظمهم من الغربيين فمجلس شوري المدارس وهو الهيئة العليا للتخطيط والتنفيذ كان جميع أعضائه من الأجانب ما عدا ثلاثة .
ولم يكتف محمد على بغض الطرف على الأزهر وعلى ما هو ديني فقام بالاستيلاء على الاوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة وبذلك أحكم السيطرة على المشايخ والقائمين على التعليم من رجال الأزهر ( 1) وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئه قد أغلقت بسبب تعطيل أوقافها ( 2) ويذكر الشيخ محمد عبده ان ما أبقاه محمد على من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءا من الألف من إيرادها ( 3) .
ويقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي :
( كان محمد على دكتاتورا مستبدا ، ومثل هذه الشخصية سرعان ما تخضع لأراء الغرب إذ أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعاله في مصر )
ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن محمد على قد أحتوته الدول الغربية وأخذ يسير في فلكها وخاصة أنهم أستغلوا مفتاح شخصيته فهو مجنون بالعظمة غليظ القلب قاسي الطبع ضعيف الديانة أو عدمها وهذه الصفات هي التي ينشدها المستعمرون دائما في حكام الدول المختلفة والنامية وبخاصة التي يكثر فيها الإنقلابات .
وقال الرحالة الإنجليزي ( كنغليك ) الذي زار الشرق الإسلامي في الثلث الأخير من حكم محمد على 1252 – 1253 هـ ( 1833 - 1834 م ) حيث يذكر تآمر الباشا المفتون ، وذكر تبعيته للغرب وعدم استقلاله الكامل بإصدار القرار إلا بعد موافقة أسياده عليه )( 4) .
ومع عظم الهاله التي احيط بها محمد على من قبل المستشرقين ومن أقتفي أثرهم من المؤرخيين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا انه من الثابت من مسيرة محمد على أنه يكره المصريين ويحتقرهم فقد قال أحدهم : إن محمد على كان يحب مصر ولم يكن يحب المصريين وكان خير مصر يستغله في ترضية أسياده من الفرنسيين والإنجليز فيقول الدكتور سليمان الغنام في كتابه قراءة جديدة في سياسة محمد على باشا التوسعية ) أن محمد على كان متواطئ مع الفرنسيين عند أحتلالهم الجزائر فقد هم أن يقوم بنفسه بإحتلال الجزائر كما أمره أسياده إلا أنهم رفضوا في النهاية حتي لا تؤدي هذه العملية إلى تهييج المسلمين وإثارتهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم وأكتفوا أن يزودهم في الجزائر بالغلال. (5 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
1- قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ص 179 .
2- الجبريتي عجائب الآثار ج3 ص478 .
3- مذكرات الإمام محمد عبده – دار الهلال – طاهر الطناحي ص44 .
4- أعلام وأقزام ص29 .
5- 4 - ( قراء جديدة .... مرجع سابق ص 48 .
- ومن أكبر المحن التي لصقت بمحمد على هو الغدر بالحراك الإجتماعي وتنكره للزعامة الشعبية التي أختارته وأحتضنته فقد أمر الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى صلاة الجمعة وكذلك العلماء الذين أوصلوه إلى سدة الحكم ولكنه ما إن ثبت أقدامه حتى أزاح الجميع عن سدة الحكم .
فكان أول عمل قام به نفي نقيب الأشراف ( عمر مكرم ) إلى دمياط وهو الرجل الذي أوصله إلى السلطة وأول من بايعه ، والمشكلة أن العلماء الذين أوصلوه إلى الملك للأسف الشديد لم يكونوا على قلب رجل واحد فقد رأوا ظلمه واضحا والمغارم التي أحدثها يدركها الجميع وقد أبطل دروس الأزهر أقول للأسف الشديد فقد كان في زمرة علماء مصر آنذاك الانتهازيون وطلاب المناصب وذلك مصيبة كل عصر وأن ما أتى للناس من مصائب وأضرار قديما وحديثا إلا من قبيل هؤلاء العلماء الذين رغبوا في الفاني عن الباقي وهل تمكن الطغاه والمتجبرون إلا على أكتاف هذه الفئة من العلماء . وهذه الفئة الضالة بلا شك هى داء كل عصر ، وهى سبب طغيان الحكام واستبدادهم .
وها نحن اليوم نرى ذلك واضحا مع علماء السلطة والفقهاء الذين باعوا ضمائرهم وأفتوا بعدما شربوا الشاي بالياسمين فحرضوا على قتل أصحاب الرأي الحر واتهموهم بأنهم خوارج ذلك العصر ، وفيهم من اشتدت حماسته متطلعا إلي نصيب أكبر من الكعكة فأدعي أن من قام بالإنقلاب إنما هو نبي مرسل .
ومن الأمور التي أود أن أشير بها على القارئ أن يقوم بالتأمل في دور محمد على وخاصة موقفه المستجيب دائما للغرب أن يتأمل فيه موقفه كزعيم فما أشبه اليوم بالبارحة . وأن يقارنه بزعماء آخرين قاموا بنفس الدور وأخذوا نصيبهم في التاريخ من شهرة وتقدير فقد تمكن محمد على من نقل مصر من ثقل موقعها في الكتلة الإسلامية إلى دولة تابعة للغرب يملي عليها السياسات والقرارات التي في مصلحتهم ، وقد كانت لتلك السياسة أثرها في الحراك الإجتماعي للمصريين في تلك المرحلة على النحو التالي :
- سواء أكان محمد على واعيا لمخطط الغرب أو مستغلا من قبله هذا أمر شكلي لايهم ولكنه على أية حال قام بتنفيذ المخطط كاملا وإذا ما قارنا حركة محمد على بحركة مصطفي كمال أتاتورك ومن بعدهما حركة جمال عبد الناصر نستطيع أن نأكد أن محمد على كان واعيا للدور الذي يقوم به وضالعا فيه ويستوي أن يكون ضالعا أو مستغلا مستغفلا وهو في الحالين يؤدي ذات الدور ويسلم إلى نفس النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين ولكننا نركز على الأهم . وهو الدور نفسه الذي يلعبه قائد الإنقلاب في مصر الذي يقود حملة سياسية أعلامية وحملة عسكرية هو وبعض دول الخليج للقضاء على الإسلام السياسي في المنطقة .
أراد الغرب من محمد على ومن مخططاتهم القضاء علي الإسلام شكلا ومضمونا وكل ما يمت إليه بصلة من حيث تاريخه وحضارته وشرائعه وعاداته وتقاليده وأعرافه ، وقد وضعوا في مخططهم أهدافا مرحلية معينة لتنفيذ أهدافهم من هذه الاهداف أيضا القضاء على الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية آنذاك وعرفنا كيف تم ذلك عن طريق الحروب المتواصلة مع الغرب حتى ضعفت الدولة وأجهدت وأطلق عليها آنذاك المسألة الشرقية أي الرجل المريض ثم تم تغريب العالم الإسلامي متتبعين في ذلك نظرية الرأس والأطراف فإن تغربت تركيا فسوف يقضي إلى سيادة العلمانية في المنطقة وإنزواء الإسلام فالبداية تركيا ثم تتبعوا الأطراف بعد ذلك والتي سوف تتأثر تلقائيا بالتغريب وخاصة مصر بلد الأزهر التي غربت أو تكاد على أيدي العلمانيين والغزو الفكري والإعلام المضلل .وقد تطلب ذلك قتل روح الجهاد الإسلامية في نفوس المسلمين ، حتى يتم القضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغرب المسيحي المسلح من الشرق المسلم وإذا ما قتل روح الجهاد لدي المسلم فإنه يندفع نحو التغريب بكل سحره واشكاله الحضارية وبخاصة ما تثيره الغرائز منها إن التغريب هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب .
- ومن الآثار الناجمة عن التغريب والتي يسعي إلى إثارتها في العالم الإسلامي هو خضوعه عسكريا للغرب حيث يفقده الثقة في نفسه والمقدرة على أتخاذ القرار ، فقرار الحرب أو المقاومة بيد الغرب وبذلك لا نعجب أن كانوا يعاونونا باهداء السلاح أو طيران الاباتشي وذلك لخدمة مصالحهم ومصالح إسرائيل أولا ز كل ذلك راجع لعدم قدرته على تصنيع السلاح الذي يدافع به عن نفسه وقد يساهم التغريب في ذلك مساهمة كبيرة إذ إن الشخص الذي تم تغريبه والذي سرت رياح التغريب في نفسه يحس أن أنتماءه وولاءه لم يعد للإسلام وإنما أصبح للغرب حينئذ يعشق الغرب وثقافة الغرب وحضارة الغرب وكل شيء ينتمي إلى الغرب دون فرز أو تمييز . حتى وإن كان حماية عدونا الإستراتيجي .
- وقد تم تغريب مصر بمخطط أستطاعت فرنسا على وجه الخصوص أن تقوم به ووجدت سبيلها إلى ذلك في سياسة الابتعاث بإرسال الطلاب الشبان إلى أوروبا وخاصة فرنسا ليتعلموا هناك وكان هذا أخطر ما فعله في الحقيقة حيث بدأت العلمانية تتسرب إلى عقول هؤلاء الشباب ومن ثم إلى ساحة الحياة السياسية والاجتماعية والعملية في مصر ، ونلاحظ مدي تأثير التغريب على نفس محمد على عندما أراد أن ينهض بالتغرب أرسل البعثات من مدارسه العليا التي أنشأها على نمط التعليم الغربي وأغفل تماما أن يبتعث شبابا من الأزهر لينهض بالتعليم الديني الأزهرى كما قلنا وكان هذا هو السبيل الأوفق والأفضل فلو فعل ذلك لنهض بالأزهر معقل العلم للعالم الإسلامي كله ويرده إلى الصورة الزاهية التي كانت عليها المعاهد الإسلامية في عصور النهضة حيث كانت تعلم العلم الشامل الشرعي والعلوم الدنياوية أيضا وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون إلى غير ذلك ، وبناء على ذلك تخرج شباب متعلم محافظ على إسلامه ومتزود من العلوم بما ينفي عنه تخلفه العلمي .
ولدينا وثيقة مهمة في هذا الصدد وهي وثيقة مبكرة تظهر أهداف الاستعمار وتوضح مقاصده الخبيثة وهي رسالة ارسلها نابيلون إلي نائبه كليبر في مصر التي أصبحت هي الأساس في عملية الاستشراق والمستشرقيين يقول نابليون في رسالته ( اجتهد في جمع 500 أو 600 شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا ، وإذا لم تجد عددا كافيا من المماليك فاستعض عنه برهائن من العرب ومشايخ البلدان فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا وحينما يعودوا إلى مصر يتكون لنا منهم
حزب يضم إليهم غيرهم . وكنت قد طلبت مرارا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتماما خاصا بارسالها لك لانها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد )( 1) .
إن تلك الرسالة إنما هي رسالة نابعة من عقول تخطط وتدبر لأهداف بعيدة المدي محققه لذلك ما جاء في رساله نابليون لكليبر سالفة الذكر .
وقد حدثت نفره شديدة بين علم الأزهر ومن يتربون عليه والذي يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل ، وبين علم الغرب ومن درجوا عليه والذي بدا في أعين الأزهريين أنه علم غريب خاص بضعاف الإيمان وهذه الإزدواجية في التعليم هى الخطأ الفادح وقد بدأت في عالمنا الإسلامي بتعليم ديني ضيق محدود وتعليم لا ديني غربي يشمل نشاطات الفكر كلها وهكذا كما يقولون كان محمد على إمتداد لنابليون في مصر بعد خروج الفرنسيين فكلاهما تحركه أهداف علمانية فمحمد على قوض سلطة الأزهر وأضعف نفوذ علماء الدين وأتي بكل ما لا يتفق وفكرة الحاكم والتصور الإسلامي الذي يجسد صورة العدل بمعناها الشرعي وأتجه هذا الرجل إلى التحديث استمرارا لمخطط الغرب في التحديث ونسف الهوية الإسلامية بكل ملامحها واتجاهاتها .
وللشيخ محمد عبده مقاله نشرها في المنار يقول فيه : ( إنه – أي محمد على – أطلع نجم العلم في البلاد ولكنه لم يفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب أو وضع حكومة منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل وحتى الكتب التي ترجمت إلى فنون شتى ترجمت برغبة من الأوروبيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد . وفي مجال آخر حرم المصريين من بلوغ الرتب في الجيش لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت وظهر الأثر عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي ... ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها . ولقد لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول : إن محمد على جعل من جدران سلطانه بنية من الدين .... فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي إلا مسألة ( الوهابية ) وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين ) ( 2) .
- وقد ذكر في المرجع السابق صورة أخرى من صور التغريب يحكيها لنا رفاعه الطهطاوى وهو مؤرخ زار فرنسا وفتن بحضارتها ويصور حضارة فرنسا في ( الرقص ) وذلك في كتابه المشهور ( تخليص الأبريز في حضارة باريز ) فهو يثني على رقص الغرب حيث يتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقه والشلبنه لا من الفسق ولذلك كان دائما غير خارج عن قوانين الحياء بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء لتهيج الشهوات اما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدا وكل إنسان يعزم أمرأة يرقص معها وإذا رفضت الرقص عزمها آخر للرقصه الثانية وهكذا سواء كان يعرفها أو لا ، وتفرح النساء بكثرة الراغبين بالرقص معهن ( 3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أعلام وأقزام ص 54 .
2- أعلام وأقزام مصدر سابق ص 56 .
3- أرجع إلى كتاب الطهطاوي تخليص الأبريز في تلخيص باريز.
إن الكلام السابق الذي ذكر في كتاب الطهطاوى يبرز لنا أفتتانه بالعلمانية وعلى ما يبدوا أنه قد تأثر بها لانه يستنبط من كتابه :
1- أن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين ، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء ، فها هو المجتمع يمارس ألوان الديانة التي لا يرضاها الدين طبعا ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء ، ولا يشم منها رائحة العهر بل هي معدودة في باب الأدب !!! وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة : أن الحجاب وسيلة لستر الفواحش ، وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة ، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق .
2- إن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها ، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض لكنه يحتقر المرأة – حسب الواقع آنذاك وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وجد في أوربا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين فما لم ينبذ الدين فلن تحصل المرأة على هذه الحقوق وهكذا وجدت البذرة الأولى لما سمي ( بقضية المرأة ) ! . أو تحرير المرأة .
ونلمس الدلالات السابقة التي أشرنا إليها عندما يتحدث رفاعه الطهطاوي عن الدستور الفرنسي ( الشرطة ) إذ يقول ( فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل ... ومعنى الشرطة في اللغة اللاتيني ورقة ، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة فلنذكره لك وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسول الله صلي والله عليه وسلم لتعرف كيف قد حكم قولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد ، وكيف انقادت الحكام والرعايا ، لذلك عمرت بلادهم وكثرت مصارفهم وتراكم بناهم وارتاحت قلوبهم فلا تسمع فيها من يشكو ظلما أبدا والعدل أساس العمران ) .
وعبد الرحمن الكواكبي ت 1902م ذلك المفكر القومي هو ممن نادي بفكرة العلمانية على ما يبدو حسب مفهومها الأوروبي الصريح يقول ( يا قوم وإعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين ادعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد ، وما جناه الآباء والأجداد ، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين ، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون . فهذه أمم أوروبا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الأتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي دون المذهبي والأرتباط السياسي دون الإداري .
( دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الآخرة فقط ! دعونا نجتمع على كلمات سواء ألا وهي فلتحيا الأمة فليحيا الوطن فلنحيا طلقاء أعزاء)( 1) .
ومن أجلى مظاهر التغريب الذي يبكي الإنسان ويضيق صدره هو ذلك الخبر الذي يدل على ضياع معنى الولاء والبراء من قلوب القائمين عليه وهو عقد مؤتمر للتبشير ( للتنصير ) في بيت زعيم الأمة أحمد عرابي فقد أراد القسيس زويمر رئيس أرسالية التبشير العربية في البحرين هو أول من أبتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع أرساليات التبشير للتفكير في مسألة نشر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- - طلائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي ص 112 ، 113.
الإنجيل بين المسلمين وفي يوم أربعة من أبريل سنة 1906 م أفتتح المؤتمر في منزل عرابي باشا في القاهرة وبلغ عدد المندوبيين من المبشرين 62 بين رجال ونساء وكان عدد مندوبي الأمريكان الذين في الهند وسوريا والبلاد العثمانية وفارس ومصر 21 وعدد مندوبي التبشير الإنجليز 5 وكان برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها : عدد المسلمين في العالم ، الإسلام في أفريقيا – الإسلام في الملايو – الإسلام في الصين – النشرات التي ينبغي إزاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام – التنصير – الإرتداد – وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين – شئون نسائية إسلامية – موضوعات تتعلق بتربية المبشرين وقد جمعت هذه الموضوعات ووضعت في كتاب كبير أسمه ( وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين ) وقد اسفر المؤتمر على نتائج من أهمها :
1- أنهم عرفوا أحوال البلاد وافكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم .
2- أنهم حصلوا على ثقة عدد من المسلمين بهم .
3- أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى ما تطمح إليه نفوسهم من الإستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية ما يمكنهم أن يدخلوا إلي قلوبهم .
وقد تحدث أحد أعضاء المؤتمر وطال حديثه ثم ختمه قائلا : ربما كانت العزة الإلاهية قد دعتنا إلى أختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإسلامية ( 1) .
وقد خاض المؤتمر في موضوعات كثيرة تدور حول عرض العقيدة النصارنية والمناظرة والاحتكاك بالنفوس الإسلامية ثم أنتهي المؤتمر بعرض نظريات أولية منها :
1- الشعب البسيط يلزمة أنجيل بسيط .
2- الشرق سئم المجادلات الدينية .
3- الشرق يحتاج إلى دين خلقي روحي .
وأستنتج مفكروا المؤتمر النظريات الأولية والقواعد الآتية :
1- يجب ألا نثير نزاعا مع مسلم .
2- يجب أن لا نحرض المسلم على الموافقة والتسليم بمبادئ النصرانية إلا عرضا وبعد أن يشعر المبشر أن الشروط الطبيعية والعقلية والروحية قد توفرت في ذلك .
3- إذا حدث سوء تفاهم حول الدين المسيحي أن يزال في الحال ولو أفضي الأمر إلى المناقشة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أعلام وأقزام ص 67 .
والعجيب في هذا الأمر أن أحمد عرابي الذي أكتوي بخيانة الغرب أثناء الحملة المصرية علي الحبشة ورأي تأمرهم وغدرهم أنه بعد ذاك يقع في شراكهم وينخدع بهم ونستمع إليه يقول ( ولما أستلمت منصبي الجديد كثر توارد المتظلمين على .. في تلك المدة حضر إلى منزلى الرجل المتفاني في حب الحق والعدل والحرية محب الشرقيين عموما والمصريين خصوصا المستر ( ولفرن سكاون بلنت ) وكان معه صاحبه العلامة القس الصابر نجى صاحب جرنفل النحلة وعرض علي قبول صداقتي فقبلت منه ذلك فمد يده إلي ومددت يدي إليه وتصافحنا وتعاقدنا على الصداقة والإخلاص ) وكان أحمد عرابي يظن أنه بتلك الصحبة يمكن تذليل الصعبات التي يلقيها الإنجليز في طريق حريتنا ونجاح بلادنا بدعوة الإنسانية والعدل والإنصاف بين الأمم والشعوب وهذا ما يدعيه الغربييون زورا وبهتانا فهي كلمات يدسون فيها السم في الدسم ليتمكنوا من الإستيلاء على البلاد ( 1) .
ولكن هذه الوعود تلاشت وخدع بها أحمد عرابي وعبر الأسطول الأنجليزي قناة السويس وجثم الاحتلال الانجليزي على صدر مصر قرابة السبعين عاما .
ولعلنا ندرك طبيعة المأساة التي تعانيها الأمة من حكام وقواد غير جديرين وغير مؤهلين لقيادتها مع إخلاص بعضهم إلا أن جهلهم للإسلام وبعقيدته الغراء وتأثرهم بالتغريب كان سببا في إخفاقهم ونكبة أممهم وشعوبهم ، ومن هؤلاء القائد الساذج أحمد عرابي الذي تصدي لقيادة الثورة والجهاد وقاد العلماء وجموع الأمة خلفه ولكنه كان غير خليق بالقيادة . إن كان صادق النية محبا لبلده لعوامل كثيرة سنوضحها بعد .
ولو فكرنا قليلا وأضطلعنا علي مذكرات قادة هذه الثورة ومفكريها لوجدنا أرواح بعضهم تهيم وتطوف نحو العلمانية فلو قدر لهذه الثورة أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفي كمال أتاتورك بأشياء كثيرة,
فمحمود سامي البارودي أحد زعمائها يقول ( كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا ولكن وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة لانهم كانوا متأخرين عن زمنهم ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل ان نموت )( 2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
1- كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية لاحمد عرابي الحسيني ج1ص270 .
2- - العلمانية لسفر الحوالي ص574 .
مواقع النشر (المفضلة)