نابليون و اليهود

بقلم : الأستاذ الدكتور محمد زغروت (والد مؤسس الموقع)
أستاذ التاريخ المغاربي - دار العلوم جامعة القاهرة
150796459677651.png

كما قلنا سابقا فقد تم نوع من التعاون بين اليهود و النصاري وبين نابليون لضرب مصر وترتب على ذلك أحداث خطيرة لضرب الإسلام والإساءة إلى أهله ولهذه الإساءة شواهد كثيرة في تاريخنا الإسلامي منها ما حصل في الحملات الصليبية على مصر ومنها ايضا مجيئ الحملة الفرنسية ، فقد تعود اليهود ـ على مدى تاريخهم ـ على استغلال الأحداث ، و عطفها لصالحهم ، و ليس كما يقال إنهم ـ دوماً ـ هم الذين يصنعون الأحداث ، و يخططون لها ، فهم ـ مثلاً ـ استفادوا من الثورة الفرنسية ، ووظفوها لرفع كاهل الاستعباد عنهم الذي طالما أرهقهم عسراً . فشعار الحرية والمساواة والإخاء الذي رفعه المتظاهرون الفرنسيون خدم اليهود بالذات ، فأصبح لهذا الشعار مفهوم خاص عندهم جدوا في تعميمه . فالحرية استغلوها في كسر التقاليد ، ونبذ الأخلاق ، و الخروج عن المعهود من الحشمة و الحياء . أما المساواة والإخاء فنظروا إليها على أنها وسيلة لهم للتسرب إلى أجهزة الدولة ومرافقها المختلفة ، ثم التساوي مع غيرهم في العلم بها ، ومن ثم تخلصهم من سبة الاحتقار و موجة الازدراء التي كانت تلاحقهم أينما حلوا في هذه المعمورة ( 1) .
ولقد كان مفكرو اليهود أيام الثورة الفرنسية و بعَدها يتناقلون الأحاديث فيما بينهم عن مستقبل بني جلدتهم ، ويتداولون الأراء و المشروعات حول عودتهم إلى الأرض التي اعتقدوا أن أنبياءهم بشروهم بالعودة إليها ، مثال ذلك ما عرضه بهذا الشأن البرنس دي لينيه في سنة 1212هـ (1797م ) على إمبراطور النمسا(2 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
1- انظر : سفر الحوالي : العلمانية ، ط ، الأولى 1402/1982، ص175 .
2 - عبدالله التل : الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام ، ص.الثانية ، ص 17.






ثم إنه لما نزل نابليون سواحل مصر في محرم 1213هـ ( يوليو 1798) واتجه صوب بلاد الشام لاحتلالها في شهر رمضان من السنة نفسها ( فبراير 1799)( 1) أطل اليهود برؤوسهم وسعوا لاستثمار التحرك الفرنسي لصالحهم . ففي ( 17 فبراير 1799) عرض توماس كوربت الضابط في الجيش الفرنسي على عضو حكومة نابليون المسيو بول باراراس Paul Bararas مشروعاً يقترح فيه الاستفادة من اليهود في تحركات نابليون في بلاد الشام ، فدعاه ـ في ذلك المشروع ـ إلى أن يتصل بكبار اليهود ، ويثير في نفوسهم تحقيق تلك الأمنية التي ما برحوا يأملون تحقيقها ألا وهي اجتماع شتاتهم في فلسطين ، ومن ثم يطلب منهم جمع الأموال لا بتياع الأراضي هناك من فرنسا ، فضلاً عن تجهيز المراكب البحرية ، و التدريب العسكري للشباب اليهود للاشتراك في حروب نابليون الشامية ، ثم يعود كوربت مرة أخرى في خطابهِ الذي يحمل تفاصيل المشروع إلى باراراس ـ ليؤكد أهمية الاستعانة باليهود في مخططات نابليون في الشرق ، إذ يرى أن مصالح فرنسا تتفق تماماً مع مصالح اليهود في المنطقة ، فأموال اليهود ـ حسب قوله ـ ستنشط التجارة بين أوربا وآسيا ، كما أن اليهود أنفسهم سيوفرون لفرنسا عنصراً بشرياً موالياً يرسخ استعمارها لمصر وبلاد الشام ، لأنه ليس من المعقول أن يهاجر الفرنسيون إلى تلك البلاد البعيدة و يُخلون وطنهم الأصلي ( فرنسا ) ، بل أنه أشار إلى أن اليهود سيقدمون أهم الضمانات لبث الفوضى وإشعال الفتن في إمبراطورية العثمانيين .
بادر باراراس بإيصال مشروع كوربت إلى نابليون الذي استصوب الفكرة ، واستعان بعلماء يهود مثل فنتور أستاذ اللغات الشرقية بجامعة باريس و المتبحر باللغة العبرية الذي صاغ نداءً إلى اليهود استوحاه من مقترحات كوربت ، فأشار فيه إلى أن فرنسا رغم الصعوبات التي تواجهها فهي بحكم رسالتها لدفع الظلم عن الشعوب فإنها مصممة على تقديم مهد إسرائيل لليهود . ومما جاء في هذا النداء : " .. يا ورثة فلسطين الشرعيين إن فرنسا تناديكم الآن للعمل على إعادة إحتلال وطنكم ، و استرجاع ما فقد منكم ... أسرعوا فإن هذه اللحظة لن تعوض قبل آلاف السنين للمطالبة باسترجاع حقوقكم المدنية بين شعوب العالم (2 ) .




وقد أُعلن هذا النداء في الجريدة الرسمية الفرنسية يوم 20 أبريل سنة 1799م(3 ) . و يصادف ذلك محاصرة نابليون لمدينة عكا التي كان قد بدأ بحصارها في 16 مارس( 4). وفي هذا إثبات بأن حكومة نابليون آنذاك قد اقتنعت بما عُرض عليها في شأن اليهود، وشرعت ـ فعلاً ـ في التعامل معهم على أساس منحهم أرض فلسطين التي ما فتئوا يتطلعون إليها لإقامة دولتهم عليها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
1- عبدالرحمن الجبرتي ، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار ، ط. دار الجيل ، 2/180 ، 251 .
2- - انظر نص الخطاب في : عبدالله التل. الأفعى اليهودية ، ص : 18، 22 .
3- - عبدالله عزام : حماس ، ط. الأولى 1409هـ /1989 ، ص: 14.
4- - الياس الحويك ، تاريخ نابليون الأول ، ط. دار ومكتبة الهلال 1/131 .



خصوصاً وأن ذلك يتضمن تطابقاً في مصالح الطرفين ، واتفاقاً في وجهات النظر إزاء المسلمين بتمزيق دولتهم الامبراطورية العثمانية ، وبث بذور الشقاق في أرجائها، بل والعمل على تحطيم الولاء و البراء في وسط المسلمين (1 ) .
وصفوة القول إن ما تم من خطوات تعاونية بين نابليون واليهود فهو تجسيد لتلك السنة الخالدة في ولاء اليهود والنصارى لبعضهم بعضاً . ومهما قيل عن نابليون بأنه لا يعتقد بدين ، أو إنه عدو للأديان بما فيها الدين النصراني ، فالسنة الربانية تنطبق عليه ، لأنه ليس هو الوحيد حينذاك الذي يدبر شئون فرنسا ، أليس الشعب الفرنسي جله من النصارى ؟ ناهيك عن كون الكفار عامة من يهود و نصارى و ملحدين من عادتهم الاجتماع على حرب المسلمين (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ( 2) ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم (3).

- ويذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته أن علاقة نابليون بالجماعات اليهودية تأخذ ثلاثة أشكال وتستند في معظمها إلى مبدأ نفع اليهود :

1- كانت جيوش فرنسا تكتسح النظم الإقطاعية في طريقها وتنصب نظماً أكثر ليبرالية. وقد وصلت هذه الجيوش حتى بولندا ، حيث كانت توجد الكثافة السكانية اليهودية. وأينما حلَّت هذه الجيوش، كانت تقوم بإعتـاق أعضـاء الجماعات اليهودية ووضْع أسـس تحديث هوياتهم المختلفة. ورغم هزيمة جيوش فرنسا ونابليون، فإن العملية التاريخية التي بدأتها هذه الجيوش كان لها أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية. ومع هذا، لابد من الإشارة إلى أن نابليون قام بتجنيد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في روسيا واستغلهم كطابور خامس خلال حربه مع روسيا، أي أنه حولهم إلى جماعة وظيفية جاسوسية (لكن غالبية يهود روسيا الساحقة وقفت ضد نابليون وساعدت الحكومة القيصرية).
كما كان لعلاقة نابليون بأعضاء الجماعات اليهودية في فرنسا أعمق الأثر فيهم. فبعد اندلاع الثورة وإعتاق اليهود في فرنسا، انتشر يهود الألزاس (الإشكناز) الذين كانوا متخلفين حضارياً ويعملون أساساً بالتجارة والأعمال الطفيلية كما كانوا يعملون بالربا، وهو ما أدَّى إلى ظهور مشكلة بينهم وبين فلاحي الألزاس. وقد نشأت مسألة يهودية إشكنازية في فرنسا لم يكن السفارد طرفاً فيها، فأبدى الإمبراطور اهتماماً بالقضية (عام 1806 ) دعا مجلس وجهاء اليهود في باريس، وجمَّد بشكل مؤقت الديون التي اقترضها الفلاحون من المرابين اليهود. وقام الوجهاء بمناقشة القضايا التي قدمتها لهم السلطات مثل: عادات الزواج بين اليهود، والأعمال التي يقومون بها، وواجبهم تجاه الدولة، ومدى إحساسهم بالولاء تجاهها والانتماء إليها. ووافق المجتمعون على أن ولاءهم يتجه إلى الدولة الفرنسية أساساً، وأن اليهود يشكِّلون جماعة دينية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
1- التل : الأفعى اليهودية ، ص 20 ، 21 ،22 .
2 - سورة الأنفال ، آية 73 .
3 - سورة البقرة ، آية 105 .

لا جماعة قومية أو إثنية أو عرْقية. ثم دعا نابليون عام 1807 لعقد السنهدرين الأكبر، وأسَّس إدارة يهودية مركزية تعمل من خلال مجالس مختلفة هي المجالس الكنسية. ولا يزال هذا النمط هو المعمول به في فرنسا بل طُبِّق أيضاً في الجزائر. ثم أصدر نابليون قرارات تحد من النشاط التجاري والمالي لليهود؛ ليتحوَّلوا إلى عناصر نافعة في المجتمع مندمجة فيه، كما أصدر قرارات تشجعهم على الاشتغال بالزراعة والصناعة لدمجهم في المجتمع الفرنسي.

3- قام نابليون بأولى حملات الثورة الفرنسية الاستعمارية في الشرق، فاحتل مصر عام 1798. وكانت حكومة الإدارة الفرنسية قد أعدت خطة لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين، وذلك مقابل تقديم المموِّلين اليهود قروضاً مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية. وكان المفروض أن يموِّل اليهود الحملة المتجهة صوب الشرق، وأن يتعهدوا ببث الفوضى وإشعال الفتنة وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها. ويبدو أن نابليون كان مطلعاً على الخطة. ولذا، فقد أصدر، بمجرد وصوله إلى مصر، بياناً يحث فيه اليهود على الالتفاف حول رايته لإعادة مجدهم الغابر ولإعادة بناء مملكة القدس القديمة، أي أن نابليون أصدر أول وعد بلفوري في تاريخ أوربا. ويبدوا لنا بعد ذلك تساؤل مهم للغاية . ما أهداف نابليون من خلال ما سرده الدكتور عبد الوهاب المسيري ؟

1- كان نابليون يحذو حذو مؤسسي الإمبراطوريات الذين كانوا يهتمون بفلسطين لأهميتها الإستراتيجية، ولذا كانوا يحاولون غَرْس عنصر سكاني موال لهم. ويبدو أن نابليون وجد في يهود الشرق ضالته، حيث يمكن تحويلهم إلى مادة استيطانية تدور في مدار المصالح الفرنسية وتكون عوناً له في دعم نفوذه وتثبيت سلطانه. واليهود إن وُطِّنوا في فلسطين فإنهم سيكونون بمثابة حاجز مادي بشري يفصل ما بين مصر وسوريا، ويدعِّم الاحتلال الفرنسي، ويهدِّد المصالح البريطانية من خلال إغلاق طرق مواصلاتها إلى الهند. ويبدو أن نابليون كان يحاول كسب رضا وتأييد حاييم فارحي، اليهودي الذي كان يتمتع بنفوذ مالي في عكا ويتولى مسئولية تزويدها بالمؤن الغذائية. وأخيراً، فإن نابليون كان يهمه كسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المالي في صراعه الذي بات وشيك الوقوع مع حكومة الإدارة.

2- ولكن، مهما كانت الدوافع، فإن نابليون كان من نتاج عصر الاستنارة، وكان نفعياً لا يؤمن بأية عقيدة دينية، ولذا فإنه لم يكن ليتوانى عن استغلال الدين أو أية عقيدة أخرى. وعلى هذا، فإنه، في ندائه إلى يهود العالم، يتحدث عن حقوقهم التي وردت في العهد القديم وعن احترام الأنبياء (وهو لا يؤمن بأيٍّ منهم). وحينما يصل إلى مصر، فإنه يتحدث عن الإسلام بإجلال شديد ويعلن أنه لم يأت إلى ديار المسلمين إلا للدفاع عن الإسلام ولحمايتهم من الظلم.
ومما يجدر ملاحظته أنه، على الرغم من أن سياسة نابليون بالنسبة ليهود فرنسا كانت ترمي إلى تحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة لها سماتها وخصوصيتها إلى جزء من التشكيل الطبقي والحضاري الفرنسي، لا خصوصية له بل مندمج تماماً في محيطه، فإن سياسته في الشرق كانت تقف على الطرف النقيض من ذلك، فقد كانت ترمي إلى تأكيد خصوصية اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً، إذ أن هذه الخصوصية هي مصدر عزلتهم، وعزلتهم هي التي ستجعل بالإمكان تحويلهم إلى جماعة وظيفية قتالية استيطانية تُوطَّن اليهود في فلسطين لتقوم على خدمة الاستعمار الفرنسي والغربي.

ويُلاحَظ أن ( المسألة الشرقية ) أي ضعف الدولة العثمانية والميراث الذي ستتركه بعد موتها، قد بدأت تلتقي بالمسألة اليهودية. وتتبدَّى عبقرية نابليون في أنه قرر توظيف المسألة اليهودية والجماعات اليهودية في حل المسألة الشرقية حلاًّ يتناسب مع مصالحه.
والنمط الكامن في تفكير نابليون هو أيضاً النمط الكامن في النظرية الاستعمارية الغربية تجاه الشرق وتجاه أعضاء الجماعات اليهودية، وقد تبدى هذا النمط في وعد بلفور في بداية الأمر، ثم وصل ذروته مع توقيع الاتفاق الإسـتراتيجي بين إسـرائيل والولايات المتحـدة عام 1982.



khfgd,k , hgdi,]