* من أشعار البحتري /
ترسم البحتري خطو أبي تمام في الشعر ومضى على أثره في البديع ، إلا أنه أجاد في سبك اللفظ على المعنى " وأراد أن يشعر فغنى " كما قال فيه ابن الأثير واستمد معاينة من وحي الخيال وجمال الطبيعة لا من قضايا العلم والمنطق ، فأعاد للشعر ما ذهب من بهجته وروعته ،
وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله :
{ أنا وأبو تمام حكيمان ، والشاعر البحتري } ،
ثم صارت له طريقة خاصة في الجزالة والعذوبة والفصاحة امتاز بها من أستاذه ومدربه ، ونهجها معاصروه ومن جاء بعدهم من الشعراء .
وعرفت بطريقة أهل الشام . وقد تصرف أبو عبادة في فنون الشعر إلا في الهجاء ، فإن بضاعته فيه نزره وجيده منه قليل .
ويقال إنه أحرق هذا النوع قبل موته وهو الأرجح .
ولم يسلم شعره من الساقط الغث لكثرته ، وإنما يمتاز بالإجادة في المدح والقصد فيه ، والقدرة على تصوير أخلاق الممدوح ، والإبداع في وصف القصور الفخمة والأبنية العجيبة ، كوصف إيوان كسرى ، وبركة المتوكل ، وقصر المعتز بالله .
وقصائده تكاد لا تخلو من افتتاح بالغزل .
وقد جمع شعره أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف . وله غيره كتاب معاني الشعر وحماسة البحتري . وهي كحماسة أبي تمام ، إلا أنها تمتاز بكثرة أبوابها وخلوها مما تنبو الأسماع عنه ؛ وطبعت في بيروت .
رحل البحتري بعدها الى بغداد وسر من رأى، يتصل بالوزراء وكبار الرجال. ومن الشعراء الذين اتصل بهم وعاصروه غير ابي تمام: دعبل الخزاعي، وابن الرومي، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وابن الزيات، وابن طاهر.
نشأ البحتري فقيراً وانتهى غنياً، لأنه كان يسعى مثل شعراء عصره الى الاكتساب من مدح الخلفاء والوزراء والكتاب والقوّاد. وقد سعى البحتري جهده في ذلك، فاكثر من شعر المديح يفتتحه بالغزل ويضمنه بالحكمة، والعاطفة، والفخر والوصف وتسجيل حوادث العصر.
اتصل البحتري بالخليفة المتوكل، وصار شاعره يرافقه ويؤانسه ويسجل مآثره زهاء خمسة عشر عاماً، ومما قال في مدحه:
يا ابن عم النبي حقاً و يا
ازكى قريش نفساً، وديناً، وعرضا
بنت بالفضل والعلّو فاصبحت
سماء، واصبح الناس أرضــا
وحين ولى المتوكل اولاده الثلاثة ولاية العهد قال البحتري:
حاط الرعية حين ناط امورهــا
بثلاثة بكروا ولاة عهـــود
كانوا أحق بعقد بيعتها ضحـــا
وبنظـم لؤلؤ تاجها المعقـود
ويقول في وصف بركة قصر الجعفري الذي بناه المتوكل احلى قصائده في الوصف:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتهـــــــــــا
والآنسات اذا لاحت مغانيهــــــــــــــا
كأن جنّ سليمــــــــان الذين ولــــــوا
ابدعهــــا فـــــــادقوا في معانيهــــا
تنصبّ فيها وفود المـــــــاء معجلـــــة
كالخيل جــــــــارية من حبل مجريهــــا
واتصل البحتري بمستشار المتوكل ونديمه الفتح بن خاقان فمدحه، ومن ذلك وصفه لمبارزة ابن خاقان اللأسد:
هزبر مشى يبغي هزبراً، وأغلبٌ
من القوم يغشى باسل الوجه أغلباً
وحين قتل المتوكل في مجلس كان يحضره، اعتزل فترة متألماً، ثم دفعته الحاجة الى مدح المنتصر بعده ثم المستعين، دون ان تكون صلته بهما قوية، فقال يمدح المنتصر:
وبحـــر يمــدّ الراغبون عيونهــــــم
الى ظــــــاهر المعـــروف فيهم جزيلة
تـــــرى الأرض تسقى غيثها بمــــروه
عليهـــــــــا وتكسي نبتها بنذولــــه
وقد هجا المستعين بعدما آلت الخلافة الى المعتز، ومن المعتز نال جاهاً ومالاً كثيراً. وفي آخر ايامه عاد الى منبج، ومات فيها.
طرق البحتري، فضلاص عن المدح، باب الرثاء والغزل والحكمة، لكنه اجاد في الوصف، فهو قدير على تصوير ما يرى، يصف لك احساسه ويشرك في ذلك عينيه وقلبه. فيقول في وصف الطبيعة:
سرى البــــــــرق يلمــــــع في مزنةٍ
تمــــــــدّ الى الأرض أشطانهـــــــا
فكــــــــم بالجزيرة في روضـــــــةٍ
تضـــــــاحك دجلة ثغبانهــــــــــا
تـــــــريك اليواقيت منثـــــــــورةً
وقد جلّل النـــــــّورُ ظهرانهـــــــــا
هذي الرياض بدا لطـــرفك نورهـــــــــا
فــــــأرتك احسن مـــن ربـــاط السندس
ينشرن وشياً، مــــذهباً، ومـــــديحـــــاً
ومطـــــارفـــــاً نسجت لغيــــر الملبس
وقال في وصف الربيع احلى الصور:
اتاك الربيع الطلق يختال ضاحكــــاً
من الحسن حتى كــاد ان يتكلمــــا
وقد نّبه النيروز في غسق الدجــــى
اوائل وردٍ كن بالأمس نومــــــا
يفتقها برد الندى، فكأنــــــــه
يبث حديثاً كان من قبل مكتمــــاً
* وصف إيوان كسرى/
لقد وصف البحتري إيوان كسرى في المدائن . وكانت المدائن عاصمة الأكاسرة قرب بغداد قصدها الشاعر في يأسٍ وكآبةٍ شديدة ، ووقف في طلولها متأملاً ، وراح يبثها أشجانه معبراً عما آلت إليه بعد عز طبق الآفاق ، ومجدٍ حسدتها عليه الدهور فعملت على هدمه وجعلته عبره لمن اعتبر .
المدائن : جمع مدينة ، اسم لمجموعة من المدن أنشأها الغزاة والملوك عصراً بعد عصر ، في بقعة جميلة قريبة من دجلة . وقيل أن الاسكندر بنى هنالك مدينة وسورها ، ثم بنى أنوشروان بن قياذ المدائن وأقام بها هو ومن بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطاب ، وكان كل واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه مدينة إلى جنب التي قلبها وسماها باسم ، وكان فتح المدائن كلها على يد سعد بن أبي وقاص . وقيل إنها كانت بعاً بين كل مدينة إلى الأخرى مسافة قريبة أو بعيدة ، فلما ملك العرب ديار الفرس واختطت الكوفة والبصرة انتقل إليهما الناس عن المدائن وسائر مدن العراق ، ثم اختط الحجاج واسطاً فصارت دار الإمارة ، فلما زال ملك بني أمية اختط المنصور بغداد فانتقل إليها الناس ، ثم اختط المعتصم سامراً فأقام الخلفاء بها مدة ، ثم رجعوا إلى بغداد . والمدائن اليوم بلدة صغيرة بينها وبين بغداد نحو أربعين كيلومتراً ، وفيها بقايا الإيوان المشهور .
الإيوان : في المدائن من بناء كسرى أبرويز ولم يبق منه إلا الطاق ، وهو مبني بآجر طول كل آجرةٍ نحو ذراع في عرض أقل م شبر ، قيل إن أبا جعفر المنصور هو الذي أمر بتخريبه عندما أراد بناء بغداد . والطاق عظيم في ضخامته ، ولا يزال إلى اليوم مشمخراً في عزلته وانفراده ، يروى للأجيال المتعاقبة خبر الممالك والدول ، وحكاية الحياة التي تكتنفها عوامل الزوال .
وكثيراً ما تردد الناس إليه ، وكثيراً ما وقف الشعراء عنده متأملين ، وخطواً على جدرانه آيات التأمل والاعتبار كما فعل الملك العزيز جلال الدولة البويهي عندما اجتاز على الإيوان وكتب عليه بخطه :
يا أيها المغرور بالدنـيـا اعتـبـر
بديار كسرى ، فهي معتبر الورى
غـنـيت زمـانـاً بالـمـلـوك أصـبـحـت
مـن بـعـد حـادثـة الـزمان كما ترى
وايوان كسرى الذي زاره في المدائن تخفيفاً عن الآم نفسه، فاسترجع صور حضارة الفرس في وصفه، نظم فيه قصيدته السينية الشهيرة، منها:
وكأن الايوان من جب الصنعة
جوب في جنب ارعن جلس
مشمخر تعلو له شرفات رفعت
في رؤس رضوى وقدس
لابسات من البياض، فما
تبصر منها الا غلائل بـــرس
* تأثر البحتري بالشعراء العرب/
تأثر البحتري بكبار الشعراء، خاصة بابي تمام، فأخذ كثيراً من اقواله وقاس عليها، لكنه لم يجعل الحكمة بين اغراض شعره، ولا صبغة فلسفيته، ولقد تخير الاسلوب وانتقى الألفاظ ليوضح المعاني. وللبحتري مكانه رفيعه بين الشعراء العرب، فقالوا ((انه من المطبوعين علة مذاهب الأوائل، ولم يفارق عمود الشعر)).
تجنب البحتري التعقيد، والالفاظ المستكرهة، والاستعارات الغريبة، وقد كان قديراً في مدحه شأن شعراء عصره، لكنه بزهم فقد (( اسقط في ايامه اكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم وانفرد باخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم)). ولو كان هذا القول مبالغة، لكنه يصور حقيقة منزلته.
ترك البحتري ديواناً ضخماً رتبه علي بن حمزة الاصفهاني ونشر حديثاً. كما ان له كتاب الحماسة اختار فيه من شعر نحو ستماية شاعر، اكثرهم من الجاهليين والمخضرميين، وجعله في ثلاثة ابواب: واحد للحماسة، وواحد للرثاء، وواحد للأدب. وهو يشترك مع ابي تمام في كثير من الشعراء الذين رويا عنهم.
تلك هي صفحة من حياة الشاعر العربي الوصّاف ابي عبادة البحتري، مليئة بالإحساس، محفوفة بالمجد. وان اشعاره صورة صادقة من حياته الواقعية المليئة بالكفاح والنضال.
* أدبه:
للبحتري " كتاب الحماسة" وديوان شعر كبير فيه مدح ورثاء وفخر وعتاب ، وخير ما فيه الوصف .كان مدحه وسيلة تكسُب وأسلوبه فيه تقليدياً ، وقد امتاز بالصفاء والتلقائية والعذوبة والائتلاف بين الطبيعة والصنعة.
المصادر:
*أعلام الشعراء العباسيين
الطبعة: 259
للمؤلف:سلمان هادي الطعمة.
منشورات دار المعارف الافاق الجديده. بيروت.
*موسوعة عباقرة الأسلام (في العلم والفكر والأدب والقيادة).
للمؤلف: الدكتور محمد أمين فرشوخ.
دار الفكر العربي. بيروت.
*الجامع في تاريخ الأدب العربي.. الأدب القديم.
للمؤلف: حنا الفاخوري.
*كتاب تاريخ الأدب العربي.
للمؤلف: أحمد حسن الزيان.
مواقع النشر (المفضلة)