في التفضيل بين الملائكة والبشر

في التفصيل بين الملائكة والبشر اعلم أن هنا ثلاث صور: أ-الأول: التفضيل بين الأنبياء والملائكة، وفي هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأنبياء أفضل وعليه جمهور أهل السنة واختاره الإمام فخر الدين في الأربعين وفي المحصل.
والثاني:
أن الملائكة أفضل وعليه المعتزلة واختاره من أئمة السنة الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني والحاكم والحليمي والإمام فخر الدين في العالم وأبو شامة.
والثالث: الوقف واختاره إلكيا الهراسي ومحل الخلاف في غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أما هو فأفضل الخلق بلا خلالف، لا يفضل عليه ملك مقرب ولا غيره، كذا ذكره الشيخ تاج الدين بن السبكي في منع الموانع، والشيخ سراج الدين البلقيني في منهج الأصلين، والشيخ بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع، وقال: إنهم استنثوه، وإن الإمام فخر الدين نقل في تفسيره الإجماع على ذلك.
الصورة الثانية: التفضيل بين خواص الملائكة، وأولياء البشر، وهم من عدا الأنبياء وهذه الصورة لا نعلم فيها خلافا أن خواص الملائكة أفضل، وقد نقل الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد الإجماع على ذلك، لكن رأيت عن طائفة من الحنابلة أنهم فضلوا أولياء البشر على خواص الملائكة وخالفهم ابن عقيل من أئمتهم وقال: إن في ذلك شناعة عظيمة عليهم.
ج- الصورة الثالثة: التفضيل بين أولياء البشر وغير الخواص من الملائكة، وفي هذه قولان: أحدهما: تفضيل جميع الملائكة على أولياء البشر، وجزم به ابن السبكي في جمع الجوامع وفي منظومته، وذكر البلقيني في منهجه أنه قول أكثر العلماء.
والثاني: تفضيل أولياء البشر عاى أولياء الملائكة، وجزم به الصفار من الحنفية في أسئلته، والنسفي منهم في عقائده، وذكر البلقيني أنه المختار عند الحنفية، ومال إلى بعضه وهو أنه قد يوجد من أولياء البشر من هو أفضل من غير الخواص من الملائكة وهأنا أسوق نصوص العلماء في ذلك: قال البيهقي في شعب الإيمان: قد تكلم الناس قديما وحديثا في المفاضلة بين الملك والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة، وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى مفضلون على سكان الأرض، ولكل من القولين وجه، قال: ومن قال بالأول احتج بأنهم خلقوا بلا شهوة، فمن يعبد الله وطينه معجون وقع في المعصية? وذكر قصة هاروت وماروت وساقها من ثلاثة طرق.
ثم أخرج عن عبد الله بن سلام أنه قال: (إن أكرم خليفة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قيل: رحمك الله وأين الملائكة? قال: لاملائكة: خلق كخلق الخلائق، وإن أكرم الخلق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم).
وأخرج عن ابن عباس قال: إن الله تعالى فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء قالوا: ما فضله على أهل السماء? قال إن الله قال لأهل السماء )وَمَن يَقُل مِنهُم إِنِّي إٍلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّم( الأنبياء: 29 وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم )إِنَّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبِيناً لِيَغفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَمَ مِن ذَنبِكَ وَما تَأَخَر( "الفتح: 1-2".
وأخرج عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شيء أكرم على الله تعالى من ابن آدم، قيل: يا رسول الله ولا الملائكة? قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن غانم السلمي عن خالد الحذاء وعبيد الله قال البخاري: عنده عجائب قال ورواة غيره عن خالد الحذاء موقوفا على ابن عمرو وهو الصحيح قال: ومن قال بالقول الآخر أشبه أن يقول: إذا كان التوفيق للطاعة من الله تعالى؛ وجب أن يكون الأفضل من كان توفيقه له وعصمته إياه أكثر، ووجدنا الطاعة التي وجوها بتوفيقه وعصمته من الملائكة أكثر، فوجب أن يكونوا بذلك أفضل.
ثم أخرج عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة وارتفعت إلى شجرة فيهغا مثل وكرى الطائر، فقعدت في أحدهما وقعد في الآخر، فسمت وارتفعت حتى سدت بين الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست فالتفت فإذا جبريل كأنه خلس لأطىء فعرفت فضل علمه بالله على)

وأخرج عن محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميمي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أسرى بي كنت أنا في شجرة وجبريل في شجرة، فغشينا من أمر الله بعض ما غشينا، فخر جبريل مغشيا عليه وثبت على أمري، فعرفت فضل إيمان جبريل على إيماني) وأخرجه من وجه آخر بلفظ (فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس فعرفت فضل خشيته على خشيتي) قلت: هذا الحديث وإن لم نجره على ظاهره ويجب علينا السعي في تأويله لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل؛ فإنه يستدل به لتفضيل جبريل على الصحابة وأولياء البشر ضرورة، فإن قلت: بماذا يؤول? قلت: هذه قصة كانت في مبدأ البعثة، وقد ترقى صلى الله عليه وسلمبعدها إلى أسنى المقامات، وقد قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا خير البرية: (ذاك إبراهيم) إن هذا قبل أن يوحي إليه أنه خير الخلق، فيجاب بذلك هنا والله أعلم. ثم قال البيهقي: وقد ذكر الحليمي توجيه القولين واختار تفضيل الملائكة، وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى القول الأول والأمر فيه سهل وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به، ثم أخرج حديث.
لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تبارك وتعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان) ثم قال: وفي ثبوته نظر، ومن قال في الملائكة قبيلان أشبه أن يقول: إن هذا أراد القبيل الذي كان منهم إبليس دون الملأ الأعلى وهم الأشراف والعظماء والله أعلم، هذا جميع ما ذكره البيهقي في هذه المسألة، وقاله الإمام فخر الدين الرازي في كتاب الأربعين.
مسألة: في أن الملائكة أفضل أم الأنبياء عليهم السلام? مذهب أصحابنا والشيعة: أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وقال الفلاسفة والمعتزلة: الملائكة السماوية أفضل من البشر،وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي من أصحابنا، واحتج القائلون بتفضيل الأنبياء بوجوه:
I
- الحجة الأولى: أن آدم عليه السلام كان مسجود الملائكة، والمسجود أفضل من الساجد، فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: السجدة كانت لله تعالى، وآدم كالقبلة? سلمنا أن السجدة كانت لآدم، لكن لم يجوز أن يكون المراد من السجدة التواضع والترحيب? قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر؛ سلمنا أن السجدة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، لكن لا نسلم أن هذا غاية التواضع، لأن هذا قضية عرفية، والقضايا العرفية يجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة، فلعل العرف في ذلك الوقت أن من سلم على غيره وضع جبهته على الأرض، وتسليم الكامل على غيره أمر معتاد، والجواب عن الأسئلة الثلاثة: أن ذلك السجود لو لم يكن دالا على زيادة منصب المسجود على الساجد، لما قال إبليس: )أَرَأَيتُكَ هَذا الَّذِي كَرَمتَ عَلىَّ( "الإسراء: 62" فإنه لم يوجد شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه سوى هذا السجود، فدل ذلك على ان ذلك السجود اقتضى ترجيح منصب المسجود له على الساجد.
ب- الحجة الثانية: أن آدم عليه السلام كان أعلم من الملائكة، والأعلم أفضل، بيان الأول قوله تعالى )وَعَلَمَ آَدَمَ الأَسمَاءَ كُلَها( إلى قوله )قَالوا سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنَا إِلاّ ما عَلَمَتَنا إِنّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيم( "البقرة: 31-32" وبيان الثاني )هَل يَستَوي الَّذَينَ يَعلَمَونَ وَالَّذَينَ لا يَعلَمُون( "الزمر: 9.
ج- الحجة الثالثة: أن طاعة البشر أشق والأشق أفضل، بيان الأول من وجوه: الأول: أ، الشهوة، والحرص، والغضب، والهوى، من أعظم الموانع عن الطاعات، وهذه الصفات موجودة في البشر ومفقودة في الملائكة، والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع.
الثاني: أن تكاليف الملائكة مبنية على النصوص قال تعالى: )لا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ( "الأنبياء: 27" وتكاليف الشريعة بعضها مبنية على النصوص وبعضها على الإستنباط، قال تعالى: )فاعتَبِرُوا يا أُولِي الأَبصار( "الحشر: 2 وقال: )لَعَلِمَهُ الَّذَينَ يَسَتَنبِطُونَهُ مِنهُم( "النساء 83" والتمسك بالاجتهاد والإستنباط في معرفة الشيء أشق من التمسك بالنص.

الثالث: أن الإنسان مبتلى بوسوسة الشيطان، وهذه الآفة غير حاصلة للملائكة. الرابع: أن شبهات البشر أكثر، وذلك لأن من جملة الشبهات القوية ربط الحوادث الأرضية بالاتصالات الفلكية، والمناسبات الكوكبية، والملائكة ليس لهم هذا النوع من الشبهة، لأن سكان السموات مشاهدون لأحوالها فيعلمون بالضرورة أنها ليست بأحياء ولا ناطقة، بل هي مفتقرة إلى التدبير كافتقار الأرضيات، فثبت بهذه الوجوه أن الطاعات للبشر أشق، وإنما قلنا: إن الأشق أفضل للنص والقياس، أما النص فقوله عليه السلام: أفضل العبادات أحمزها، أي أشقها: وقال عليه السلام لعائشة: (أجرك على قدر نصبك) وأما القياس: فهو أن الطاعات السهلة والطاعات الشاقة لو اشتركتا في قدر الثواب لكان تحمل ذلك القدر من الشقة الزائدة خاليا عن الفائدة، وتحمل الضرر الخالي من الفائدة محظور قطعا، فكان يجب أن تحرم تلك الطاعات الشاقة، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الأشق أكثر ثوابا.
د- الحجة الرابعة: قوله تعالى )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين( "آل عمران: 33" والعالم عبارة عن كل ما سوى الله، والآل: يراد به الرجل نفسه فيبقى معمولا في حق الأنبياء، فإن قيل يشكل هذا بقوله تعالى في بني إسرائيل )وأني فضلتكم على العالمين( "البقرة: 47" فإنه لو كان الأمر كما ذكرتم لزم تفضيل أنبياء بني إسرائيل علىمحمد صلى الله عليه وسلم.
الجواب: تحمل التخصيص في ىية لا يوجب تحمله في سائر الآيات، وأيضا شرط العالم أن يكون موجودا، ومحمد صلى الله عليه وسلم ما كان موجودا حال وجود أنبياء بني إسرائيل، أما الملائكة فهم موجودون حال وجود محمد عليه السلام فظهر الفرق.
ه- الحجة الخامسة: الملائكة لهم عقول بلا شهوة، والبهائم لهم شهوة بلا عقل، والآدمي له عقل وشهوة، ثم إن الآدمي إن رجح شهوته على عقله كان أخس من البهيمة قال تعالى: )أُولَئِكَ كالأَنعامِ بَل هُم أَضَل( الأعراف: 179 فعلى هذا القياس لو رجح عقله على شهوته، وجب ان يكون أفضل من الملك.
هذا ملخص دلائل من فضل الأنبياء على الملائكة، أما الذين قالوا بتفضيل الملائكة على الأنبياء فقد تمسكوا بوجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى: )لَن يَستَنكِفَ المَسيحُ أَن يَكونَ عَبداً لله وَلاَ المَلائِكَةُ الَمقَرَبونَ( النساء: 172 وهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من المسيح، ألا ترى انه يقال: إن فلانا لا يستنكف الوزير من خدمته ولا السلان،ولا يقال: إنه لا يستنكف السلطان من خدمته ولا الوزير، فلما ذكر المسيح أولا والملائكة ثانيا، علمنا أن الملائكة أفضل من المسيح، والإعتراض من وجوه.

الأول: أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح ولا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح كونهم أفضل من محمد، والثاني: أن قوله )وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبونَ( صيغة الجمع فيتناول الكل، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، فلم قلتم إنه يقتضي كون كل واحد من الملائكة أفضل من المسيح? والثالث: أن الواو في قوله )وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبونَ( حرف العطف وهو يفيد الجمع المطلق، ولا يفيد الترتيب، فأما المثال الذي ذكرتموه فليس بحجة لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم إنه معارض بسائر الأمثلة كقوله: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فهذا لا يفيد كون المتأخر في الذكر أفضل من المتقدم، ومنه قوله تعالى )وَلا الهَدى وَلاَ القَلائِدَ وَلاَ آَمينَ البَيتَ( المائدة:2 ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم التحقيق في المسألة أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني في المسألة أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا ان السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني هو المبالغة، فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا لمجرد الترتيب في الذكر فههنا في هذه الآية لا يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله )وَلاَ الملائِكَةُ المُقَرَبونَ( بيان المبالغة إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب، وذلك دور الرابع: هب أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى وأزيد من منصب المسيح لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المنصاب أو في بعضها، فإنه إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان فهو لا يفيد إلا أن السلطان أكمل من الوزير في بعض الأشياء، وهو القدرة والسلطنة، ولا يفيد كون السلطان أزيد من الوزير في العلم والزهد، إذ ثبت هذا فنحن نقول بموجبه، وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك، فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخشوع والعبودية?، وتمام التحقيق أن الفصل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب، ثم إن كثرة الثواب لا تحصل إلا بنهاية التواضعوالخضوع وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله، لا يلائم صيرورته مستنكفا من عبودية الله تعالى، بل يناقضها وينافيها، فامتنع أن يكون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والقوة الكاملة فإنه مناسب للاتمرد وترك العبودية، فالنصارى لما شاهدوا من المسيح إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه بسبب هذا القدر عن عبودية الله تعالى، فقال تعالى: إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر عن عبوديتي ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والبطش والإستيلاء على عالم السموات والأرضين، وعلى هذا الوجه تنتظم دلالة الآية على ان الملك أفضل من البشر في الشدة والقوة والبطش، لكنها لا تدل ألبتة على أن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب، أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهية المسيح، لأنه حصل لا من أب فقيل لهم: الملك حصل لا من أب ولا أم فكانوا أعجب من عيسى في هذا الباب مع أنهم لا يستنكفون عن عبودية الله تعالى.
الحجة الثاني:

لمن قال بتفضيل الملك على البشر، التمسك بقوله تعالى )وَمَن عِندَهُ لاَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ( الأنبياء: 19 والإستدلال به من وجهين الأول: أنه تعالى احتج بعدم استكبار الملائكة عن عبادته على أن البشر يجب أن لا يستكبر عنها، ولو كان البشر أفضل من الملائكة، لما تم هذا الإستدلال، فغن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له، فإنه يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي، فمن هؤلاء المساكين? وبالجملة فظاهر ان هذا الإستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف، الثاني: انه تعالى قال: )وَمَن عِندَهُ( وهذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الفضيلة والقربة، والإعتراض على هذا الوجه الأول: لعل المراد أن الملائكة مع شدة قوتهم لا يتمردون عن طاعة الله تعالى، فما بال البشر يتمردون عن طاعة الله مع غاية ضعفهم? وهذا يوجب كون الملك أقوى من البشر، لكنه لا يوجب كونه أفضل من البشر، بمعنى كثرة الثواب، وعلى الوجه الثاني: أنه معارض بقوله تعالى في صفة البشر )فَي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَليكٍ مُقتَدَر( القمر: 55.
وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: (أَنا عِندَ المُنكَسِرِة قُلوبُهُم) وهذا أفضل لأنه قال في الملائكة: (إِنَّهُم عِندَ رَبِهِم) وقال في وصف المنكسرة قلوبهم: (إِنّ رَبَهُم عِندَهُم).
الحجة الثالثة: عبادات الملائكة أشق فتكون أفضل قلنا: إنها أشق لوجوه، الأول: أنهم آمنون من الآفات التي يكون البشر خائفين عليها مثل الغرق والحرق والقتل والمرض والحاجة والشقاوة والكفر والمعصية، وايضا فالسموات التي هي مساكنهم وأماكنهم كالجنان والبساتين الطيبة بالنسبة إلى الأرض وكل من كان بنعمة أكثر وخوفه أقل كان تمرد أشد، ولهذا قال تعالى: )فَإِذا رَكِبوا فَي الفُلكِ دَعُوا الله مُخلِصينَ لَهُ الدِينَ فَلَما نَجاهُم إِلى البَرِ إِذا هُم يُشرِكونَ( "العنكبوت: 65 ثم إن الملائكة مع كثرة أسباب النعم والتمرد منذ خلقوا بقوا مشتغلين بالعبادة، خاشعين وجلين مشفقين لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات. بل بقوا مقبلين على الطاعات الشاقة موصوفين بالفزع الشديد وكأنه لا يقدر أحد من بني يآدم أن يتقي كذلك يوما واحدا، فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة، ويؤكده قصة آدم عليه السلام، فإنه أطلق له في جميع مواضع الجنة بقوله )وَكُلا مِنها رَغَدًا حَيثُ شِئتُما( البقرة: 35 ومنعه من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع فيها، وهذا يدل على أن طاعتهم أشق من طاعة البشر الوجه الثاني: في بيان أن طاعتهم أشق أن انتقال المكلف من نوع عباده إلى نوع آخر، كالانتقال من بستان إلى بستتان، أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث الملالة، ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب مقسوما بالسور والأخماس والأعشار، ثم إن الملائكة كل منهم يواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره، كما قال تعالى: )يًسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفتَرونَ( الأنبياء: 20 وقال حكاية عنهم: )وَإِنَّا لَنَحنُ الصَافُونَ وَإِنَّا لَنَحنُ المُسَبِحونَ( الصافات: 165،166 فثبت بما ذكرنا أن عباداتهم أشف، فإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا أكثر لقوله عليه السلام.
أفضل العبادات أحمزها والإعتراض عليه أنه معارض بما ذكرنا أن عبادات البشر أشق فتكون أفضل.

الحجة الرابعة: عبادات الملائكة أدوم فوجب أن تكون أفضل إنما قلنا إنها أدوم لقوله تعالى: )يُسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لا يَفتَرُونَ( وعلى هذا التقدير لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشرن لكان طاعتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة، وإنما قلنا إن الأدوم أفضل، لوجوه: )أحدها(: أن الأدوم أشق، فكان أفضل، وقدمنا هذا الوجه. )والثاني(: قوله عليه السلام: (أفضل العبادات من طال عمره وحسن عمله) والملائكة أطول العباد عمرا وأحسنهم عملا، فوجب أن يكونوا أفضل? )الثالث( قوله عليه السلام: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته) وهذا يقتضي أن يكون الملك فيما بين البشر كالنبي في الأمة، وذلك يوجب فضلهم على البشر. )الرابع(: أن طاعات الملائكة مساوية لطاعات بني آدم في الخشية والخوف، قال تعالى: )يَخافُونَ رَبَهُم مِن فَوقِهِم( النحل: 50 وقال )لا َيَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ( الأنبياء:27 وقال: )وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ( الأنبياء: 28 وقال: )حَتى إِذا فَزِعَ عَن قُلُوبِهِم( سبأ 23 فهذه الايات دالة على أن خشوع الملائكة وخضوعهم إن لم يكن أزيد من خشوع البشر وخضوعهم فلا أقل منه، إذا ثبت هذا فنقول: طاعات الملائكة تساوي طاعات البشر في الكيفية الموجبة للثواب، وهي الخضوع والخشوع وأزيد منها في المدة والدوام، فوجب القطع بأن ثوابهم أكثر وأزيد.
الحجة الخامسة: الملائكة أسبق في العبادة من البشر، والأسبق أفضل، أما أنهم أسبق فلا شك فيه، ومن المعلوم أنه لا حصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقتدى بهم فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين، وأما أن الأسبق أفضل فلوجهين: الأول: قوله تعالى: )وَالسَابِقُونَ السَابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَبونَ( الواقعة:10، 11 والثاني قوله عليه السلام.
(من سنّ حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر.
الحجة السادسة: الملائكة رسل الله إلى الأنبياء، والرسل أفضل من الأمة، بيان المقدمة الأولى قوله تعالى: )عَلَمَهُ شَدِيدُ القُوى( النجم:5 )َنزَلَ بِهِ الرُوحُ الأَمينُ عَلى قَلبِكَ( الشعراء: 193 )يُنَزِلُ المَلائِكَةَ بِالرُوحِ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ( النحل:2 وأما أن الرسل أفضل من الأمة فلوجهين؛ الأول: أن الرسول البشرى أفضل من أمته، فهكذا هنا، فإن قيل: الفرق أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون متوليا لأمورهم وحاكما فيهم فذلك الشخص أفضل من ذلك الجمع، أما إذا أرسل شخصا واحدا إلى شخص واحد لأجل الإعلام، فالظاهر أن الرسول أقل حالا من المرسل إليه، كما إذا أرسل الملك عبده إلى الوزير، قلنا: هذا مدفوع لأن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر؛ فجبريل عليه السلام رسول، وأمته كل الأنبياء فعلى القانون الذي ذكره السائل يلزم أن يكون جبريل أفضل منهم. الوجه الثاني: الملائكة رسل الله لقوله تعالى: )جَاعِلُ المَلائِكَةِ رُسُلاً( فاطر: 1 والملك إما مرسل إلى ملك آخر، وإما أن يكون رسولا إلى البشر، وعلى التقديرين فالملك رسول وأمته أيضا رسل، وأما الرسول البشري فهو مرسل، لكن أمته ليس برسل، ومعلوم أن الرسول الذي يكون كل أمته رسلا، أفضل من الرسول الذي لا يكون أحد من أمته رسولا، فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة، ولأن إبرايم عليه السلام كان رسولا إلى لوط فكان أفضل منه، وموسى كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم، فكذا هنا.
الحجة السابعة: الملائكة أتقى من البشر، والأتقى أفضل، إنما قلنا إنهم أتقى لأنهم مبرءون عن الزلات وعن الميل إليها، لأن خوفهم دائم قال تعالى: )يَخافُونَ رَبَهُم مِن فَوقِهِم( النحل: 50 وقال: )وَهُم مِن خِشيَتِهِ مُشفِقِونَ( الأنبياء: 28 والخوف والإشفاق ينافيان العزم على المعصية، أما الأنبياء عليهم السلام فلم يخل أحد منهم عن شيء هو صغيرة أو ترك مندوب.

قال عليه السلام: (ما مِنَّا أَحَدٌ إِلاّ عَصَى أَو هُم بِمَعصِيةٍ غَيرَ يَحيَى بِن زَكَرِيا) وإنما قلنا إن الأتقى أفضل، لقوله تعالى: )إِنّ أَكرَمُكُم عِندَ الله أَتقَاكُم( الحجرات: 13 فثبات الكرامة مقرونا بذكر التقوى يدل على أن تلك الكرامة معللة بالتقوى، فحيث كان التقوى أكثر وجب أن يكون كرامة الفضيلة أكثر، لا يقال: فهذا يقتضي أن يكون يحيى عليه السلام أفضل من الأنبياء ومن محمد، لأنا نقول: هذه الصورة خصت بدلالة الإجماع فبقى الدليل حجة في سائر الصور.
الحجة الثامنة: الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا وبدأوا بالإستغفار لأنفسهم، ثم بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين قال آدم: )رَبَنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنا( الأعراف: 23 وقال نوح: )رَبِ اِغفِر لي وَلِوالِدي وَلِمَن دَخَلَ بَيتِيَ مُؤمِناً( نوح: 28 وقال إبراهيم: )رَبِّ هَب لِي حُكماً وَأَلحِقني باِلصَالِحين( الشعراء: 83 وقال موسى: )رَبِ اِغفر لِي وَلأَخي( الأعراف: 151 وأما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر، قال تعالى حكاية عنهم: )فَاغفِر لِلِذَينَ تَابُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذابَ الجَحِيم( غافر: 7 وقال: )وَيَستَغفِرُونَ لِلِذَينَ آَمَنُوا( غافر: 7 ولو كانوا محتاجين إلى الإستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم، لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
وقال عليه السلام: (ابدأ بنفسك) وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر.
الحجة التاسعة: قوله تعالى: )يَومَ يَقومُ الرُوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفاً لاَ يَتَكَلَمُونَ إِلاّ مَن أَذِنَ لَهُ الرِحمنُ وَقالَ صَواباً( النبأ: 38 والمقصود من شرح هذه الواقعة المبالغة في شرح عظمة الله تعالى، ولو كان في الخلق طائفة قيامهم بين يدي الله وتضرعهم في حضرة الله أقوى في الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من الملائكة لكان ذكرهم في هذا المقام أولى، ثم إنه سبحانه كما بين عظمته في الدار الآخرة بذكر الملائكة، فكذا بين عظمته في دار الدنيا بذكر الملائكة، فقال: )وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِينَ مِن حَولِ العَرشِ يُسَبِحونَ بِحَمدِ رَبِهِم( الزمر: 75 وهذا يدل على أنه لا نسبة لهم إلى البشر ألبتة.
الحجة العاشرة: قوله: )وَإِنَّ عَلَيكُم لَحافِظِينَ كِرَاماً كاتِبين( الإنفطار: 10، 11 وهذا عام في جميع المكلفين من بني آدم فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم، وهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من البشر لوجهين، الأول: أنه تعالى جعلهم حفظة لبني آدم، والحافظ للمكلف من المعصية لا بد أن يكون أبعد عن الخطأ والمعصية من المحفوظ، فهذا يقتصي كونهم أبعد عنالمعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر، وذلك يقتضي مزيد الفضل، والثاني: أنه سبحانه جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات، وحجة عليهم في المعاصي، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر، ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان بالعكس، ويقرب من هذا الدليل التمسك بقوله تعالى: )عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيبِهِ أَحَدٌ إِلاّ مَن اِرتَضَى مِن رَ سُولٍ فَإِنّهُ يَسلُكُ مِن بَيَنِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَداً لِيَعلِمَ أَن قَد أَبلَغُوا رِسالاتِ رَبِهِم( الجن: 26 وأجمعوا على أن هذا الرصد هم الملائكة، وهذا يدل على أن الأنبياء لا يصيرون مأمونين من التخليط في الوحي إلا بإعانة الملائكة وقوتهم، وكل ذلك يدل على الفضل الظاهر.
الحجة الحادية عشرة:

قوله تعالى: )وَالمُؤمِنُونَ كُلٌ آَمَنَ باِلله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرًسُلُهِ( البقرة: 285 فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء، فبدأ بنفسه وثنى بملائكته وثلث بكتبه وربع برسله، وكذلك في قوله: )شَهِدَ الله أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُو وَالمَلائِكَةُ وَأُولوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسط( آل عمران:18 وفي قوله: )إِنّ الله وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُونَ عَلى النَبِي( الأحزاب:56 وقال: )الله يَصطَفي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِن النّاسِ( الحج:75 والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الشرف والدليل عليه ان تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا، فوجب أن يكون قبيحا شرعا، أما أنه قبيح عرفا فلأن الشاعر لما قال: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا، فقال عمر: لو قدمت الإسلام لأعطيتك، ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وقع التنازع في تقديم الإسم، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف، إذا ثبت انه كذلك في العرف وجب أن يكون في الشرع كذلك، لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن).
الحجة الثانية عشرة: الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل، إنما قلنا إنه أعلم لأن جبريل كان معلما للأنبياء بدليل قوله: )عَلَمَهُ شَديدُ القُوى( النجم: 5 والمعلم لا بد أن يكون أعلم من المعلم، وأيضا: فالعلوم قسمان: العقلية والنقلية؛ أما العقلية فمنها ما هو واجب وهو العلم بذات الله وصفاته، ولا يجوز وقوع التقصير فيها لا للملائكة ولا للأنبياء، ومنها ما ليس بواجب كالعلم بكيفية مخلوقات الله تعالى ومافيها من العجائب، كالعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المفاوز والجبال والبحار، ولا شك أن جبريل عليه السلام أعرف بها لأنه أطول عمرا وأكثر مشاهدة لها، فكان علمه بها أكثر وأكمل، وأما العلوم النقلية التي لا تعرف إلا بالوحي فإنها لم تحصل لجميع الأنبياء إلا من جهة جبريل فيستحيل أن يكون لهم فضيلة فيها على جبريل، وأما جبريل فإنه كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء، فهو عالم بكل الشرائع الماضية والحاضرة وأيضا: عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم، فثبت أن جبريل أعلم، فوجب أن يكون أفضل؛ أقصى ما في الباب أن يقال: إن آدم علم الأسماء كلهاولم تعلمها الملائكة، ولكن من الظاهر أن العلم بالحقائق والشرائع أفضل من العلم بالأسماء فكان جبريل أفضل من آدم.
الحجة الثالثة عشرة: قوله تعالى: )إِنّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيم( الحاقة:40، التكوير: 19 وصف الله تعالى جبريل بستة من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولا من عند الله، وثانيها: كونه كريما على الله، وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، ومعلوم أن قوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات، وتخصيصه بالذكر في معرض المدح، يدل على أن تلك القوة غير حاصلة لغيره، ورابعها: كونه مكينا عند الله، وخامسها: كونه مطاعا في عالم السموات، وهذا يقتضي أن يكون مطاعا لكل الملائكة لأن الإطلاق وعدم التقييد في معرض المدح يفيد ذلك، وسادسها: كونه أمينا في كل الطاعات وفي تبليغ وحي الله تعالى: الحجة الرابعة عشرة: قوله تعالى: )ما هَذا بَشَرا إِن هَذا إِلا مَلَكٌ كَرِيم( يوسف: 31 فالمراد من هذا التشبيه إما تشبيه يوسف بالملك في صورته أو في سيرته، والثاني أولى لأنه شبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بالسيرة لا بالصورة فثبت أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دواعي الشهوة ونفي الحرص على طلب اللذات الحسية، وإثبات ضد ذلك، وهي صفة الملائكةن وهي غض البصر ومنع النفس عن الميل إلى المحرمات، فدلت هذه الآية على إطباق العقلاء من الرجال والنساء والمؤمن والكافر على اختصاص الملائكة بالدرجات الفائقة على درجات البشر، فإن قيل: قول المرأة )فَذلِكَ الذَي لُمتُنَنَي فِيهِ( يوسف: 32 يقتضي أن يكون تشبيه يوسف بالملك إنما وقع في الصورة لا في السيرة لأن ظهور عذرها في شدة عشقها له يحتمل أن يكون لسبب غاية زهده، لأن الإنسان حريص على ما منع، وكلما كان إعراض المعشوق اكثر كان شدة عشق العاشق أكثر.
الحجة الخامسة عشرة:

قوله تعالى: )وَفَضلَناهُم عَلى كَثَيرٍ مِمَن خَلَقَنا تَفضِيلاً( الإسراء: 70 ومخلوقات الله تعالى: المكلفون وما عداهم، ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم، وأما المكلفون فهم أربعة أنواع: الملائكة والجن والإنس والشياطين؛ ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كانوا أيضا أفضل من الملائكة لزم أن يكونوا أفضل من جميع المخلوقات فكان ينبغي أن يقول: وفضلناهم على من خلقنا، وعلى هذا التقدير يصير لفظ كثير ضائعا، وذلك غير جائر، فعلمنا أنه ليس أفضل من الملك، فإن قيل: هذا تمسك بدليل الخطاب ويجوز أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن حال الباقي بخلافه وأيضا: فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس البشر، لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أفراد ذلك الجنس أشرف من كل فرد من أفراد ذلك الجنس، وأيضا يجوز أن يكون المراد: وفضلناهم في الكرامة المذكورة في أول هذه الآية وهي الكرامة في جنس الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة، وإذا ثبت هذا فنحن نسلم أن البشر ليس أفضل من الملك في هذه الصورة، لكن لم قلتم إنه ليس أفضل منه في كثرة الثواب? قلنا: أما السؤال الأول فجوابه من وجهين، الأول: هب أن هذا تمسك بدليل الخطاب غلا أنه حجة بدليل أن من قال: اليهودي إذا مات لا يبصر شيئا، فإنه يضحك من هذا الكلام، بعلة أنه لما كان المسلم كذلك، لم يبق لذكر اليهودي فائدة، وهذا يدل على أن تخصيص الشيء بالذكر يوجب نفي الحكم عما عداه، والثاني: أن هذا ليس تمسكا بدليل الخطاب، بل هو تمسك بأنه لو كان البشر مفضلا على الكل لكان لفظ كثير ضائعا، ومعلوم أنه غير جائر، وأما السؤال الثاني فجوابه: أن التمسك بهذه الآية في بيان أن جنس الملك أفضل من جنس البشر لا في بيان أحوال الأفراد، وإذا ثبت هذا التفاوت في الجنسين كان الظاهر فضل الفرد على الفرد إلا عند بيان المعارض، وأما السؤال الثالث فجوابه أن قوله: )وَلَقَد كَرَمنَا بَنَي آَدَم( الإسراء: 70 تناول تكريمهم بالهداية والتوفيق والطاعة فقوله: )وَفضَلَناهُم عَلى كَثَيرٍ( الإسراء: 70 يجب ان يكون عائدا إلى كل واحد من هذه الأحوال.
الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: )قُل لاَ أَقُولُ لَكُم عِندي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعلَمُ الغَيبَ وَلاَ أَقُولُ عِندي خَزَاِئنُ الله وَلاَ أَقَولُ لَكُم إِنّي مَلَك( الأنعام: 50 وهذا يدل على ان أحوال الملك أشرف.
الحجة السابعة عشرة: قوله تعالى: )ما نَهاكُم رَبُكُما عَن هَذَهِ الشَجَرَةِ إِلا أَن تَكونَ مَلَكَينِ( الأعراف: 20 وهذا يدل على أن منصب الملك أشرف وفي هذين الدليلين ابحاث دقيقة.
الحجة الثامنة عشرة: قوله عليه السلام حكاية عن الله: )وَإِذا ذَكَرَنَي عَبدِي فَي ملإ ذكرَتُهُ فَي مَلأٍ خَيرٌ مِن مَلائِهِ) وهذا يدل على ان الملأ الأعلى أشرف.
الحجة التاسعة عشرة: لا شك أن كمال حال الأجساد لا يحصل إلا عند اتصال الأرواح بها، والملائكة أرواح محضة، والجسم جسم كثيف استنار بنور الأرواح، ثم إن كمال هذه الأرواح، ثم إن كمال هذه الأرواح هو أن يتصل بعالم الملائكة كما قال تعالى )يَأَيَتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ اِرجِعِيِ إِلى رَبِكِ رَاضِيَةً مَرضِيَةً فَادخُلِي فَي عِبادِي( الفجر: 27-29 فجعل كمال حال الأرواح المنفصلة من هذا العالم أن في عبادة وأولئك العباد ليسوا إلا الملائكة، فإن قوله )يَأَيَتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّة( خطاب مع جميع الأرواح البشرية، والعباد الذين يتصل بهم جميع الأرواح البشرية ليسوا إلا الملائكة، وأيضا: قال في شرح عظيم ثواب المطيعين: )وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِ بابٍ سَلاٌم عَلَيكُم( الرعد: 23، 24 فجعل تسليم الملائكة عليهم منزلة عالية ودرجة عظيمة لهم، ولولا أن عالم الملائكة أشرف وإلا لم يكن اتصال أرواح البشرية بهم سببا لسعادة هذه الأرواح البشرية.
الحجة العشرون:

أن الملائكة مبرؤون عن الشهوة والغضب والخيال والوهم وهذه الصفات هي الحجب القوية عن تجليى نور الله،ولا كمال إلا بحصول ذلك التجلي، ولا نقصان إلا بحصول ذلك الحجاب، فلما كان هذا التجلي حاصلا لهم أبدا وفي أكثر الأوقات تكون الأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلي، علمنا أنه لانسبة لكمالهم إلى كمال البشر، والذي يقال: الخدمة مع كثرة العوائق أدل على الإخلاص من الخدمة بدون العوائق، كلام خيالي لأن المقصود من جميع العبادات والطاعات حوصل ذلك التجلي، فأي موضع كان حصول ذلك للتجلي فيه أكثر، وعن المعاوق أبعد؛ كان الكمال والسعادة أتم، ولهذا قال في صفة الملائكة )يُسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفتَرُونَ( الأنبياء: 20.
الحجة الحادية والعشرون: الروحانيات فضلت الجسمانيات من وجوه: الأول: أنها نورانية علوية، والجسمانيات ظلمانية سفلية.
وثانيها: أن علومها أتم وذلك لأن الحكماء برهنوا على أن الروحانيات السماوية مطلعون على أسرار المغيبات، ناظرون في اللوح المحفوظ أبدا ناظرون عالمون بكل ما سيوجد في المستقبل، وبكل ماوجد في الماضي.
وثالثها: أن علومهم فعلية كلية دائمة وعلة البشر ناقصة انفعالية منقضية.
ورابعها: أن أعمالهم أتم لأنهم دائما مواظبون على الخدمة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يلحقهم نوم العيون، ولا سهر العقول، ولا غفلة الأبدان، فطعامهم التسبيح، وشرابهم التقديس والتمجيد، وأنسهم بذكر الله، وفرحهم بخدمة الله، متجردون عن العلائق البدنية مبرؤون عن الحجب الشهوانية والغضبية، فأين أحد البابين من الآخر? وخامسها: الروحانيات لهم قدرة على تغيير الأجسام، وتقليب الأجرام والقدرة التي لهم من القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب، ثم إنك ترى السفلية الضعيفة م النبات في بدء نموها تفتق الأحجار وتشق الصخور وما ذلك إلا لقوة فاضت عليها من جواهر القوى السماوية، فما ظنك بتلك القوى السماوية? فالروحانيات هي التي تنصرف في الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا، لا يستثقلون حمل الثقال، ولا يستصعبون نقل الجبال، فالرياح تهب بتحريكها، والسحاب يعرض ويزول بتصريفاتها، والزلازل تطرأ بقوتها والآثار العلوية تحدث بمعونتها،والكتاب الكريم ناطق بذلك، كما قال: )فَالمُقَسِماتِ أَمراً( الذاريات:4 وقال )فالمدبرات أمرا( النازعات: 5 ومعلوم أن شيا من هذه الأحوال لا يصدر عن الأرواح فأين أحدهما عن الآخر.
الحجة الثانية والعشرون: الروحانيات مختصة بالهياكل الشريفة وهي السيارات السبع وسائر الثوابت، فالأفلاك لها كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح، فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلىالأبدان، ثم إنا نعلم أن اختلاف أحوال الكواكب والأفلاك مبادىء لحصول الإختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركة الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة وكذا مناطق الأفلاك تارة ينطبق بعضها على بعض وهو الرتق، وعنده تبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض وهو ذلك الفتق وعنده تنتقل العمارات في هذا العالم من جانب إلى جانب، فإذا رأينا أن هياكل العالم العلوي مستولية علىهياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي، لا سيما وقد دلت المباحث على أن أرواح هذا العالم معلولات لكمال ذلك العالم ونسبة أرواح هذا العالم وكمالات هذه الأرواح إلى أرواح ذلك العالم وكمالاته كالشعل الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة في البحر الأعظم، فهذه الأرواح البشرية كالذرات وأما البحار والعيون والجبال والمعادن فهي الأرواح العلوية فكيف يمكن أن يعلل أحدهما بالآخر? فهذا حكاية أدلة الفريقين في هذه المسألة على الاختصار والله اعلم، هذا ما أورده الإمام فخر الدين في الأربعين وأقول: هذه الحجج التي احتج بها من فضل الملائكة لا نقول بمقتضاها في تفضيلهم على الأنبياء لأدلة أخرى قامت على تفضيل الأنبياء عليهم، لكنها تنفع في تفضيل الملائكة على غير الأنبياء من البشر.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:



td hgjtqdg fdk hglghz;m , hgfav - lk hgpfhz; hofhv hglghz; ggsd,'d