النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: في التفضيل بين الملائكة و البشر - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي

في التفضيل بين الملائكة والبشر في التفصيل بين الملائكة والبشر اعلم أن هنا ثلاث صور: أ-الأول: التفضيل بين الأنبياء والملائكة، وفي هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأنبياء أفضل

  1. #1
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,199

    افتراضي في التفضيل بين الملائكة و البشر - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي

    في التفضيل بين الملائكة والبشر

    في التفصيل بين الملائكة والبشر اعلم أن هنا ثلاث صور: أ-الأول: التفضيل بين الأنبياء والملائكة، وفي هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأنبياء أفضل وعليه جمهور أهل السنة واختاره الإمام فخر الدين في الأربعين وفي المحصل.
    والثاني:
    أن الملائكة أفضل وعليه المعتزلة واختاره من أئمة السنة الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني والحاكم والحليمي والإمام فخر الدين في العالم وأبو شامة.
    والثالث: الوقف واختاره إلكيا الهراسي ومحل الخلاف في غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أما هو فأفضل الخلق بلا خلالف، لا يفضل عليه ملك مقرب ولا غيره، كذا ذكره الشيخ تاج الدين بن السبكي في منع الموانع، والشيخ سراج الدين البلقيني في منهج الأصلين، والشيخ بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع، وقال: إنهم استنثوه، وإن الإمام فخر الدين نقل في تفسيره الإجماع على ذلك.
    الصورة الثانية: التفضيل بين خواص الملائكة، وأولياء البشر، وهم من عدا الأنبياء وهذه الصورة لا نعلم فيها خلافا أن خواص الملائكة أفضل، وقد نقل الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد الإجماع على ذلك، لكن رأيت عن طائفة من الحنابلة أنهم فضلوا أولياء البشر على خواص الملائكة وخالفهم ابن عقيل من أئمتهم وقال: إن في ذلك شناعة عظيمة عليهم.
    ج- الصورة الثالثة: التفضيل بين أولياء البشر وغير الخواص من الملائكة، وفي هذه قولان: أحدهما: تفضيل جميع الملائكة على أولياء البشر، وجزم به ابن السبكي في جمع الجوامع وفي منظومته، وذكر البلقيني في منهجه أنه قول أكثر العلماء.
    والثاني: تفضيل أولياء البشر عاى أولياء الملائكة، وجزم به الصفار من الحنفية في أسئلته، والنسفي منهم في عقائده، وذكر البلقيني أنه المختار عند الحنفية، ومال إلى بعضه وهو أنه قد يوجد من أولياء البشر من هو أفضل من غير الخواص من الملائكة وهأنا أسوق نصوص العلماء في ذلك: قال البيهقي في شعب الإيمان: قد تكلم الناس قديما وحديثا في المفاضلة بين الملك والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة، وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى مفضلون على سكان الأرض، ولكل من القولين وجه، قال: ومن قال بالأول احتج بأنهم خلقوا بلا شهوة، فمن يعبد الله وطينه معجون وقع في المعصية? وذكر قصة هاروت وماروت وساقها من ثلاثة طرق.
    ثم أخرج عن عبد الله بن سلام أنه قال: (إن أكرم خليفة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قيل: رحمك الله وأين الملائكة? قال: لاملائكة: خلق كخلق الخلائق، وإن أكرم الخلق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم).
    وأخرج عن ابن عباس قال: إن الله تعالى فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء قالوا: ما فضله على أهل السماء? قال إن الله قال لأهل السماء )وَمَن يَقُل مِنهُم إِنِّي إٍلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجزِيهِ جَهَنَّم( الأنبياء: 29 وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم )إِنَّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبِيناً لِيَغفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَمَ مِن ذَنبِكَ وَما تَأَخَر( "الفتح: 1-2".
    وأخرج عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شيء أكرم على الله تعالى من ابن آدم، قيل: يا رسول الله ولا الملائكة? قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن غانم السلمي عن خالد الحذاء وعبيد الله قال البخاري: عنده عجائب قال ورواة غيره عن خالد الحذاء موقوفا على ابن عمرو وهو الصحيح قال: ومن قال بالقول الآخر أشبه أن يقول: إذا كان التوفيق للطاعة من الله تعالى؛ وجب أن يكون الأفضل من كان توفيقه له وعصمته إياه أكثر، ووجدنا الطاعة التي وجوها بتوفيقه وعصمته من الملائكة أكثر، فوجب أن يكونوا بذلك أفضل.
    ثم أخرج عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة وارتفعت إلى شجرة فيهغا مثل وكرى الطائر، فقعدت في أحدهما وقعد في الآخر، فسمت وارتفعت حتى سدت بين الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست فالتفت فإذا جبريل كأنه خلس لأطىء فعرفت فضل علمه بالله على)

    وأخرج عن محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميمي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أسرى بي كنت أنا في شجرة وجبريل في شجرة، فغشينا من أمر الله بعض ما غشينا، فخر جبريل مغشيا عليه وثبت على أمري، فعرفت فضل إيمان جبريل على إيماني) وأخرجه من وجه آخر بلفظ (فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس فعرفت فضل خشيته على خشيتي) قلت: هذا الحديث وإن لم نجره على ظاهره ويجب علينا السعي في تأويله لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل؛ فإنه يستدل به لتفضيل جبريل على الصحابة وأولياء البشر ضرورة، فإن قلت: بماذا يؤول? قلت: هذه قصة كانت في مبدأ البعثة، وقد ترقى صلى الله عليه وسلمبعدها إلى أسنى المقامات، وقد قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا خير البرية: (ذاك إبراهيم) إن هذا قبل أن يوحي إليه أنه خير الخلق، فيجاب بذلك هنا والله أعلم. ثم قال البيهقي: وقد ذكر الحليمي توجيه القولين واختار تفضيل الملائكة، وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى القول الأول والأمر فيه سهل وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به، ثم أخرج حديث.
    لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تبارك وتعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان) ثم قال: وفي ثبوته نظر، ومن قال في الملائكة قبيلان أشبه أن يقول: إن هذا أراد القبيل الذي كان منهم إبليس دون الملأ الأعلى وهم الأشراف والعظماء والله أعلم، هذا جميع ما ذكره البيهقي في هذه المسألة، وقاله الإمام فخر الدين الرازي في كتاب الأربعين.
    مسألة: في أن الملائكة أفضل أم الأنبياء عليهم السلام? مذهب أصحابنا والشيعة: أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وقال الفلاسفة والمعتزلة: الملائكة السماوية أفضل من البشر،وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي من أصحابنا، واحتج القائلون بتفضيل الأنبياء بوجوه:
    I
    - الحجة الأولى: أن آدم عليه السلام كان مسجود الملائكة، والمسجود أفضل من الساجد، فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: السجدة كانت لله تعالى، وآدم كالقبلة? سلمنا أن السجدة كانت لآدم، لكن لم يجوز أن يكون المراد من السجدة التواضع والترحيب? قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر؛ سلمنا أن السجدة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، لكن لا نسلم أن هذا غاية التواضع، لأن هذا قضية عرفية، والقضايا العرفية يجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة، فلعل العرف في ذلك الوقت أن من سلم على غيره وضع جبهته على الأرض، وتسليم الكامل على غيره أمر معتاد، والجواب عن الأسئلة الثلاثة: أن ذلك السجود لو لم يكن دالا على زيادة منصب المسجود على الساجد، لما قال إبليس: )أَرَأَيتُكَ هَذا الَّذِي كَرَمتَ عَلىَّ( "الإسراء: 62" فإنه لم يوجد شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه سوى هذا السجود، فدل ذلك على ان ذلك السجود اقتضى ترجيح منصب المسجود له على الساجد.
    ب- الحجة الثانية: أن آدم عليه السلام كان أعلم من الملائكة، والأعلم أفضل، بيان الأول قوله تعالى )وَعَلَمَ آَدَمَ الأَسمَاءَ كُلَها( إلى قوله )قَالوا سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنَا إِلاّ ما عَلَمَتَنا إِنّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيم( "البقرة: 31-32" وبيان الثاني )هَل يَستَوي الَّذَينَ يَعلَمَونَ وَالَّذَينَ لا يَعلَمُون( "الزمر: 9.
    ج- الحجة الثالثة: أن طاعة البشر أشق والأشق أفضل، بيان الأول من وجوه: الأول: أ، الشهوة، والحرص، والغضب، والهوى، من أعظم الموانع عن الطاعات، وهذه الصفات موجودة في البشر ومفقودة في الملائكة، والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع.
    الثاني: أن تكاليف الملائكة مبنية على النصوص قال تعالى: )لا يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ( "الأنبياء: 27" وتكاليف الشريعة بعضها مبنية على النصوص وبعضها على الإستنباط، قال تعالى: )فاعتَبِرُوا يا أُولِي الأَبصار( "الحشر: 2 وقال: )لَعَلِمَهُ الَّذَينَ يَسَتَنبِطُونَهُ مِنهُم( "النساء 83" والتمسك بالاجتهاد والإستنباط في معرفة الشيء أشق من التمسك بالنص.

    الثالث: أن الإنسان مبتلى بوسوسة الشيطان، وهذه الآفة غير حاصلة للملائكة. الرابع: أن شبهات البشر أكثر، وذلك لأن من جملة الشبهات القوية ربط الحوادث الأرضية بالاتصالات الفلكية، والمناسبات الكوكبية، والملائكة ليس لهم هذا النوع من الشبهة، لأن سكان السموات مشاهدون لأحوالها فيعلمون بالضرورة أنها ليست بأحياء ولا ناطقة، بل هي مفتقرة إلى التدبير كافتقار الأرضيات، فثبت بهذه الوجوه أن الطاعات للبشر أشق، وإنما قلنا: إن الأشق أفضل للنص والقياس، أما النص فقوله عليه السلام: أفضل العبادات أحمزها، أي أشقها: وقال عليه السلام لعائشة: (أجرك على قدر نصبك) وأما القياس: فهو أن الطاعات السهلة والطاعات الشاقة لو اشتركتا في قدر الثواب لكان تحمل ذلك القدر من الشقة الزائدة خاليا عن الفائدة، وتحمل الضرر الخالي من الفائدة محظور قطعا، فكان يجب أن تحرم تلك الطاعات الشاقة، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الأشق أكثر ثوابا.
    د- الحجة الرابعة: قوله تعالى )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين( "آل عمران: 33" والعالم عبارة عن كل ما سوى الله، والآل: يراد به الرجل نفسه فيبقى معمولا في حق الأنبياء، فإن قيل يشكل هذا بقوله تعالى في بني إسرائيل )وأني فضلتكم على العالمين( "البقرة: 47" فإنه لو كان الأمر كما ذكرتم لزم تفضيل أنبياء بني إسرائيل علىمحمد صلى الله عليه وسلم.
    الجواب: تحمل التخصيص في ىية لا يوجب تحمله في سائر الآيات، وأيضا شرط العالم أن يكون موجودا، ومحمد صلى الله عليه وسلم ما كان موجودا حال وجود أنبياء بني إسرائيل، أما الملائكة فهم موجودون حال وجود محمد عليه السلام فظهر الفرق.
    ه- الحجة الخامسة: الملائكة لهم عقول بلا شهوة، والبهائم لهم شهوة بلا عقل، والآدمي له عقل وشهوة، ثم إن الآدمي إن رجح شهوته على عقله كان أخس من البهيمة قال تعالى: )أُولَئِكَ كالأَنعامِ بَل هُم أَضَل( الأعراف: 179 فعلى هذا القياس لو رجح عقله على شهوته، وجب ان يكون أفضل من الملك.
    هذا ملخص دلائل من فضل الأنبياء على الملائكة، أما الذين قالوا بتفضيل الملائكة على الأنبياء فقد تمسكوا بوجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى: )لَن يَستَنكِفَ المَسيحُ أَن يَكونَ عَبداً لله وَلاَ المَلائِكَةُ الَمقَرَبونَ( النساء: 172 وهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من المسيح، ألا ترى انه يقال: إن فلانا لا يستنكف الوزير من خدمته ولا السلان،ولا يقال: إنه لا يستنكف السلطان من خدمته ولا الوزير، فلما ذكر المسيح أولا والملائكة ثانيا، علمنا أن الملائكة أفضل من المسيح، والإعتراض من وجوه.

    الأول: أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح ولا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح كونهم أفضل من محمد، والثاني: أن قوله )وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبونَ( صيغة الجمع فيتناول الكل، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، فلم قلتم إنه يقتضي كون كل واحد من الملائكة أفضل من المسيح? والثالث: أن الواو في قوله )وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبونَ( حرف العطف وهو يفيد الجمع المطلق، ولا يفيد الترتيب، فأما المثال الذي ذكرتموه فليس بحجة لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم إنه معارض بسائر الأمثلة كقوله: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فهذا لا يفيد كون المتأخر في الذكر أفضل من المتقدم، ومنه قوله تعالى )وَلا الهَدى وَلاَ القَلائِدَ وَلاَ آَمينَ البَيتَ( المائدة:2 ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم التحقيق في المسألة أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني في المسألة أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا ان السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني هو المبالغة، فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا لمجرد الترتيب في الذكر فههنا في هذه الآية لا يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله )وَلاَ الملائِكَةُ المُقَرَبونَ( بيان المبالغة إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب، وذلك دور الرابع: هب أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى وأزيد من منصب المسيح لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المنصاب أو في بعضها، فإنه إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان فهو لا يفيد إلا أن السلطان أكمل من الوزير في بعض الأشياء، وهو القدرة والسلطنة، ولا يفيد كون السلطان أزيد من الوزير في العلم والزهد، إذ ثبت هذا فنحن نقول بموجبه، وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك، فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخشوع والعبودية?، وتمام التحقيق أن الفصل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب، ثم إن كثرة الثواب لا تحصل إلا بنهاية التواضعوالخضوع وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله، لا يلائم صيرورته مستنكفا من عبودية الله تعالى، بل يناقضها وينافيها، فامتنع أن يكون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والقوة الكاملة فإنه مناسب للاتمرد وترك العبودية، فالنصارى لما شاهدوا من المسيح إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه بسبب هذا القدر عن عبودية الله تعالى، فقال تعالى: إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر عن عبوديتي ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والبطش والإستيلاء على عالم السموات والأرضين، وعلى هذا الوجه تنتظم دلالة الآية على ان الملك أفضل من البشر في الشدة والقوة والبطش، لكنها لا تدل ألبتة على أن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب، أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهية المسيح، لأنه حصل لا من أب فقيل لهم: الملك حصل لا من أب ولا أم فكانوا أعجب من عيسى في هذا الباب مع أنهم لا يستنكفون عن عبودية الله تعالى.
    الحجة الثاني:

    لمن قال بتفضيل الملك على البشر، التمسك بقوله تعالى )وَمَن عِندَهُ لاَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ( الأنبياء: 19 والإستدلال به من وجهين الأول: أنه تعالى احتج بعدم استكبار الملائكة عن عبادته على أن البشر يجب أن لا يستكبر عنها، ولو كان البشر أفضل من الملائكة، لما تم هذا الإستدلال، فغن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له، فإنه يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي، فمن هؤلاء المساكين? وبالجملة فظاهر ان هذا الإستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف، الثاني: انه تعالى قال: )وَمَن عِندَهُ( وهذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الفضيلة والقربة، والإعتراض على هذا الوجه الأول: لعل المراد أن الملائكة مع شدة قوتهم لا يتمردون عن طاعة الله تعالى، فما بال البشر يتمردون عن طاعة الله مع غاية ضعفهم? وهذا يوجب كون الملك أقوى من البشر، لكنه لا يوجب كونه أفضل من البشر، بمعنى كثرة الثواب، وعلى الوجه الثاني: أنه معارض بقوله تعالى في صفة البشر )فَي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَليكٍ مُقتَدَر( القمر: 55.
    وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: (أَنا عِندَ المُنكَسِرِة قُلوبُهُم) وهذا أفضل لأنه قال في الملائكة: (إِنَّهُم عِندَ رَبِهِم) وقال في وصف المنكسرة قلوبهم: (إِنّ رَبَهُم عِندَهُم).
    الحجة الثالثة: عبادات الملائكة أشق فتكون أفضل قلنا: إنها أشق لوجوه، الأول: أنهم آمنون من الآفات التي يكون البشر خائفين عليها مثل الغرق والحرق والقتل والمرض والحاجة والشقاوة والكفر والمعصية، وايضا فالسموات التي هي مساكنهم وأماكنهم كالجنان والبساتين الطيبة بالنسبة إلى الأرض وكل من كان بنعمة أكثر وخوفه أقل كان تمرد أشد، ولهذا قال تعالى: )فَإِذا رَكِبوا فَي الفُلكِ دَعُوا الله مُخلِصينَ لَهُ الدِينَ فَلَما نَجاهُم إِلى البَرِ إِذا هُم يُشرِكونَ( "العنكبوت: 65 ثم إن الملائكة مع كثرة أسباب النعم والتمرد منذ خلقوا بقوا مشتغلين بالعبادة، خاشعين وجلين مشفقين لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات. بل بقوا مقبلين على الطاعات الشاقة موصوفين بالفزع الشديد وكأنه لا يقدر أحد من بني يآدم أن يتقي كذلك يوما واحدا، فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة، ويؤكده قصة آدم عليه السلام، فإنه أطلق له في جميع مواضع الجنة بقوله )وَكُلا مِنها رَغَدًا حَيثُ شِئتُما( البقرة: 35 ومنعه من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع فيها، وهذا يدل على أن طاعتهم أشق من طاعة البشر الوجه الثاني: في بيان أن طاعتهم أشق أن انتقال المكلف من نوع عباده إلى نوع آخر، كالانتقال من بستان إلى بستتان، أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث الملالة، ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب مقسوما بالسور والأخماس والأعشار، ثم إن الملائكة كل منهم يواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره، كما قال تعالى: )يًسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفتَرونَ( الأنبياء: 20 وقال حكاية عنهم: )وَإِنَّا لَنَحنُ الصَافُونَ وَإِنَّا لَنَحنُ المُسَبِحونَ( الصافات: 165،166 فثبت بما ذكرنا أن عباداتهم أشف، فإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا أكثر لقوله عليه السلام.
    أفضل العبادات أحمزها والإعتراض عليه أنه معارض بما ذكرنا أن عبادات البشر أشق فتكون أفضل.

    الحجة الرابعة: عبادات الملائكة أدوم فوجب أن تكون أفضل إنما قلنا إنها أدوم لقوله تعالى: )يُسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لا يَفتَرُونَ( وعلى هذا التقدير لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشرن لكان طاعتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة، وإنما قلنا إن الأدوم أفضل، لوجوه: )أحدها(: أن الأدوم أشق، فكان أفضل، وقدمنا هذا الوجه. )والثاني(: قوله عليه السلام: (أفضل العبادات من طال عمره وحسن عمله) والملائكة أطول العباد عمرا وأحسنهم عملا، فوجب أن يكونوا أفضل? )الثالث( قوله عليه السلام: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته) وهذا يقتضي أن يكون الملك فيما بين البشر كالنبي في الأمة، وذلك يوجب فضلهم على البشر. )الرابع(: أن طاعات الملائكة مساوية لطاعات بني آدم في الخشية والخوف، قال تعالى: )يَخافُونَ رَبَهُم مِن فَوقِهِم( النحل: 50 وقال )لا َيَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ( الأنبياء:27 وقال: )وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ( الأنبياء: 28 وقال: )حَتى إِذا فَزِعَ عَن قُلُوبِهِم( سبأ 23 فهذه الايات دالة على أن خشوع الملائكة وخضوعهم إن لم يكن أزيد من خشوع البشر وخضوعهم فلا أقل منه، إذا ثبت هذا فنقول: طاعات الملائكة تساوي طاعات البشر في الكيفية الموجبة للثواب، وهي الخضوع والخشوع وأزيد منها في المدة والدوام، فوجب القطع بأن ثوابهم أكثر وأزيد.
    الحجة الخامسة: الملائكة أسبق في العبادة من البشر، والأسبق أفضل، أما أنهم أسبق فلا شك فيه، ومن المعلوم أنه لا حصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقتدى بهم فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين، وأما أن الأسبق أفضل فلوجهين: الأول: قوله تعالى: )وَالسَابِقُونَ السَابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَبونَ( الواقعة:10، 11 والثاني قوله عليه السلام.
    (من سنّ حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
    وهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر.
    الحجة السادسة: الملائكة رسل الله إلى الأنبياء، والرسل أفضل من الأمة، بيان المقدمة الأولى قوله تعالى: )عَلَمَهُ شَدِيدُ القُوى( النجم:5 )َنزَلَ بِهِ الرُوحُ الأَمينُ عَلى قَلبِكَ( الشعراء: 193 )يُنَزِلُ المَلائِكَةَ بِالرُوحِ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ( النحل:2 وأما أن الرسل أفضل من الأمة فلوجهين؛ الأول: أن الرسول البشرى أفضل من أمته، فهكذا هنا، فإن قيل: الفرق أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون متوليا لأمورهم وحاكما فيهم فذلك الشخص أفضل من ذلك الجمع، أما إذا أرسل شخصا واحدا إلى شخص واحد لأجل الإعلام، فالظاهر أن الرسول أقل حالا من المرسل إليه، كما إذا أرسل الملك عبده إلى الوزير، قلنا: هذا مدفوع لأن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر؛ فجبريل عليه السلام رسول، وأمته كل الأنبياء فعلى القانون الذي ذكره السائل يلزم أن يكون جبريل أفضل منهم. الوجه الثاني: الملائكة رسل الله لقوله تعالى: )جَاعِلُ المَلائِكَةِ رُسُلاً( فاطر: 1 والملك إما مرسل إلى ملك آخر، وإما أن يكون رسولا إلى البشر، وعلى التقديرين فالملك رسول وأمته أيضا رسل، وأما الرسول البشري فهو مرسل، لكن أمته ليس برسل، ومعلوم أن الرسول الذي يكون كل أمته رسلا، أفضل من الرسول الذي لا يكون أحد من أمته رسولا، فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة، ولأن إبرايم عليه السلام كان رسولا إلى لوط فكان أفضل منه، وموسى كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم، فكذا هنا.
    الحجة السابعة: الملائكة أتقى من البشر، والأتقى أفضل، إنما قلنا إنهم أتقى لأنهم مبرءون عن الزلات وعن الميل إليها، لأن خوفهم دائم قال تعالى: )يَخافُونَ رَبَهُم مِن فَوقِهِم( النحل: 50 وقال: )وَهُم مِن خِشيَتِهِ مُشفِقِونَ( الأنبياء: 28 والخوف والإشفاق ينافيان العزم على المعصية، أما الأنبياء عليهم السلام فلم يخل أحد منهم عن شيء هو صغيرة أو ترك مندوب.

    قال عليه السلام: (ما مِنَّا أَحَدٌ إِلاّ عَصَى أَو هُم بِمَعصِيةٍ غَيرَ يَحيَى بِن زَكَرِيا) وإنما قلنا إن الأتقى أفضل، لقوله تعالى: )إِنّ أَكرَمُكُم عِندَ الله أَتقَاكُم( الحجرات: 13 فثبات الكرامة مقرونا بذكر التقوى يدل على أن تلك الكرامة معللة بالتقوى، فحيث كان التقوى أكثر وجب أن يكون كرامة الفضيلة أكثر، لا يقال: فهذا يقتضي أن يكون يحيى عليه السلام أفضل من الأنبياء ومن محمد، لأنا نقول: هذه الصورة خصت بدلالة الإجماع فبقى الدليل حجة في سائر الصور.
    الحجة الثامنة: الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا وبدأوا بالإستغفار لأنفسهم، ثم بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين قال آدم: )رَبَنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنا( الأعراف: 23 وقال نوح: )رَبِ اِغفِر لي وَلِوالِدي وَلِمَن دَخَلَ بَيتِيَ مُؤمِناً( نوح: 28 وقال إبراهيم: )رَبِّ هَب لِي حُكماً وَأَلحِقني باِلصَالِحين( الشعراء: 83 وقال موسى: )رَبِ اِغفر لِي وَلأَخي( الأعراف: 151 وأما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر، قال تعالى حكاية عنهم: )فَاغفِر لِلِذَينَ تَابُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذابَ الجَحِيم( غافر: 7 وقال: )وَيَستَغفِرُونَ لِلِذَينَ آَمَنُوا( غافر: 7 ولو كانوا محتاجين إلى الإستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم، لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
    وقال عليه السلام: (ابدأ بنفسك) وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر.
    الحجة التاسعة: قوله تعالى: )يَومَ يَقومُ الرُوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفاً لاَ يَتَكَلَمُونَ إِلاّ مَن أَذِنَ لَهُ الرِحمنُ وَقالَ صَواباً( النبأ: 38 والمقصود من شرح هذه الواقعة المبالغة في شرح عظمة الله تعالى، ولو كان في الخلق طائفة قيامهم بين يدي الله وتضرعهم في حضرة الله أقوى في الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من الملائكة لكان ذكرهم في هذا المقام أولى، ثم إنه سبحانه كما بين عظمته في الدار الآخرة بذكر الملائكة، فكذا بين عظمته في دار الدنيا بذكر الملائكة، فقال: )وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِينَ مِن حَولِ العَرشِ يُسَبِحونَ بِحَمدِ رَبِهِم( الزمر: 75 وهذا يدل على أنه لا نسبة لهم إلى البشر ألبتة.
    الحجة العاشرة: قوله: )وَإِنَّ عَلَيكُم لَحافِظِينَ كِرَاماً كاتِبين( الإنفطار: 10، 11 وهذا عام في جميع المكلفين من بني آدم فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم، وهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من البشر لوجهين، الأول: أنه تعالى جعلهم حفظة لبني آدم، والحافظ للمكلف من المعصية لا بد أن يكون أبعد عن الخطأ والمعصية من المحفوظ، فهذا يقتصي كونهم أبعد عنالمعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر، وذلك يقتضي مزيد الفضل، والثاني: أنه سبحانه جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات، وحجة عليهم في المعاصي، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر، ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان بالعكس، ويقرب من هذا الدليل التمسك بقوله تعالى: )عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيبِهِ أَحَدٌ إِلاّ مَن اِرتَضَى مِن رَ سُولٍ فَإِنّهُ يَسلُكُ مِن بَيَنِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَداً لِيَعلِمَ أَن قَد أَبلَغُوا رِسالاتِ رَبِهِم( الجن: 26 وأجمعوا على أن هذا الرصد هم الملائكة، وهذا يدل على أن الأنبياء لا يصيرون مأمونين من التخليط في الوحي إلا بإعانة الملائكة وقوتهم، وكل ذلك يدل على الفضل الظاهر.
    الحجة الحادية عشرة:

    قوله تعالى: )وَالمُؤمِنُونَ كُلٌ آَمَنَ باِلله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرًسُلُهِ( البقرة: 285 فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء، فبدأ بنفسه وثنى بملائكته وثلث بكتبه وربع برسله، وكذلك في قوله: )شَهِدَ الله أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُو وَالمَلائِكَةُ وَأُولوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسط( آل عمران:18 وفي قوله: )إِنّ الله وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُونَ عَلى النَبِي( الأحزاب:56 وقال: )الله يَصطَفي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِن النّاسِ( الحج:75 والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الشرف والدليل عليه ان تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا، فوجب أن يكون قبيحا شرعا، أما أنه قبيح عرفا فلأن الشاعر لما قال: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا، فقال عمر: لو قدمت الإسلام لأعطيتك، ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وقع التنازع في تقديم الإسم، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف، إذا ثبت انه كذلك في العرف وجب أن يكون في الشرع كذلك، لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن).
    الحجة الثانية عشرة: الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل، إنما قلنا إنه أعلم لأن جبريل كان معلما للأنبياء بدليل قوله: )عَلَمَهُ شَديدُ القُوى( النجم: 5 والمعلم لا بد أن يكون أعلم من المعلم، وأيضا: فالعلوم قسمان: العقلية والنقلية؛ أما العقلية فمنها ما هو واجب وهو العلم بذات الله وصفاته، ولا يجوز وقوع التقصير فيها لا للملائكة ولا للأنبياء، ومنها ما ليس بواجب كالعلم بكيفية مخلوقات الله تعالى ومافيها من العجائب، كالعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المفاوز والجبال والبحار، ولا شك أن جبريل عليه السلام أعرف بها لأنه أطول عمرا وأكثر مشاهدة لها، فكان علمه بها أكثر وأكمل، وأما العلوم النقلية التي لا تعرف إلا بالوحي فإنها لم تحصل لجميع الأنبياء إلا من جهة جبريل فيستحيل أن يكون لهم فضيلة فيها على جبريل، وأما جبريل فإنه كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء، فهو عالم بكل الشرائع الماضية والحاضرة وأيضا: عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم، فثبت أن جبريل أعلم، فوجب أن يكون أفضل؛ أقصى ما في الباب أن يقال: إن آدم علم الأسماء كلهاولم تعلمها الملائكة، ولكن من الظاهر أن العلم بالحقائق والشرائع أفضل من العلم بالأسماء فكان جبريل أفضل من آدم.
    الحجة الثالثة عشرة: قوله تعالى: )إِنّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيم( الحاقة:40، التكوير: 19 وصف الله تعالى جبريل بستة من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولا من عند الله، وثانيها: كونه كريما على الله، وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، ومعلوم أن قوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات، وتخصيصه بالذكر في معرض المدح، يدل على أن تلك القوة غير حاصلة لغيره، ورابعها: كونه مكينا عند الله، وخامسها: كونه مطاعا في عالم السموات، وهذا يقتضي أن يكون مطاعا لكل الملائكة لأن الإطلاق وعدم التقييد في معرض المدح يفيد ذلك، وسادسها: كونه أمينا في كل الطاعات وفي تبليغ وحي الله تعالى: الحجة الرابعة عشرة: قوله تعالى: )ما هَذا بَشَرا إِن هَذا إِلا مَلَكٌ كَرِيم( يوسف: 31 فالمراد من هذا التشبيه إما تشبيه يوسف بالملك في صورته أو في سيرته، والثاني أولى لأنه شبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بالسيرة لا بالصورة فثبت أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دواعي الشهوة ونفي الحرص على طلب اللذات الحسية، وإثبات ضد ذلك، وهي صفة الملائكةن وهي غض البصر ومنع النفس عن الميل إلى المحرمات، فدلت هذه الآية على إطباق العقلاء من الرجال والنساء والمؤمن والكافر على اختصاص الملائكة بالدرجات الفائقة على درجات البشر، فإن قيل: قول المرأة )فَذلِكَ الذَي لُمتُنَنَي فِيهِ( يوسف: 32 يقتضي أن يكون تشبيه يوسف بالملك إنما وقع في الصورة لا في السيرة لأن ظهور عذرها في شدة عشقها له يحتمل أن يكون لسبب غاية زهده، لأن الإنسان حريص على ما منع، وكلما كان إعراض المعشوق اكثر كان شدة عشق العاشق أكثر.
    الحجة الخامسة عشرة:

    قوله تعالى: )وَفَضلَناهُم عَلى كَثَيرٍ مِمَن خَلَقَنا تَفضِيلاً( الإسراء: 70 ومخلوقات الله تعالى: المكلفون وما عداهم، ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم، وأما المكلفون فهم أربعة أنواع: الملائكة والجن والإنس والشياطين؛ ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كانوا أيضا أفضل من الملائكة لزم أن يكونوا أفضل من جميع المخلوقات فكان ينبغي أن يقول: وفضلناهم على من خلقنا، وعلى هذا التقدير يصير لفظ كثير ضائعا، وذلك غير جائر، فعلمنا أنه ليس أفضل من الملك، فإن قيل: هذا تمسك بدليل الخطاب ويجوز أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن حال الباقي بخلافه وأيضا: فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس البشر، لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أفراد ذلك الجنس أشرف من كل فرد من أفراد ذلك الجنس، وأيضا يجوز أن يكون المراد: وفضلناهم في الكرامة المذكورة في أول هذه الآية وهي الكرامة في جنس الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة، وإذا ثبت هذا فنحن نسلم أن البشر ليس أفضل من الملك في هذه الصورة، لكن لم قلتم إنه ليس أفضل منه في كثرة الثواب? قلنا: أما السؤال الأول فجوابه من وجهين، الأول: هب أن هذا تمسك بدليل الخطاب غلا أنه حجة بدليل أن من قال: اليهودي إذا مات لا يبصر شيئا، فإنه يضحك من هذا الكلام، بعلة أنه لما كان المسلم كذلك، لم يبق لذكر اليهودي فائدة، وهذا يدل على أن تخصيص الشيء بالذكر يوجب نفي الحكم عما عداه، والثاني: أن هذا ليس تمسكا بدليل الخطاب، بل هو تمسك بأنه لو كان البشر مفضلا على الكل لكان لفظ كثير ضائعا، ومعلوم أنه غير جائر، وأما السؤال الثاني فجوابه: أن التمسك بهذه الآية في بيان أن جنس الملك أفضل من جنس البشر لا في بيان أحوال الأفراد، وإذا ثبت هذا التفاوت في الجنسين كان الظاهر فضل الفرد على الفرد إلا عند بيان المعارض، وأما السؤال الثالث فجوابه أن قوله: )وَلَقَد كَرَمنَا بَنَي آَدَم( الإسراء: 70 تناول تكريمهم بالهداية والتوفيق والطاعة فقوله: )وَفضَلَناهُم عَلى كَثَيرٍ( الإسراء: 70 يجب ان يكون عائدا إلى كل واحد من هذه الأحوال.
    الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: )قُل لاَ أَقُولُ لَكُم عِندي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعلَمُ الغَيبَ وَلاَ أَقُولُ عِندي خَزَاِئنُ الله وَلاَ أَقَولُ لَكُم إِنّي مَلَك( الأنعام: 50 وهذا يدل على ان أحوال الملك أشرف.
    الحجة السابعة عشرة: قوله تعالى: )ما نَهاكُم رَبُكُما عَن هَذَهِ الشَجَرَةِ إِلا أَن تَكونَ مَلَكَينِ( الأعراف: 20 وهذا يدل على أن منصب الملك أشرف وفي هذين الدليلين ابحاث دقيقة.
    الحجة الثامنة عشرة: قوله عليه السلام حكاية عن الله: )وَإِذا ذَكَرَنَي عَبدِي فَي ملإ ذكرَتُهُ فَي مَلأٍ خَيرٌ مِن مَلائِهِ) وهذا يدل على ان الملأ الأعلى أشرف.
    الحجة التاسعة عشرة: لا شك أن كمال حال الأجساد لا يحصل إلا عند اتصال الأرواح بها، والملائكة أرواح محضة، والجسم جسم كثيف استنار بنور الأرواح، ثم إن كمال هذه الأرواح، ثم إن كمال هذه الأرواح هو أن يتصل بعالم الملائكة كما قال تعالى )يَأَيَتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ اِرجِعِيِ إِلى رَبِكِ رَاضِيَةً مَرضِيَةً فَادخُلِي فَي عِبادِي( الفجر: 27-29 فجعل كمال حال الأرواح المنفصلة من هذا العالم أن في عبادة وأولئك العباد ليسوا إلا الملائكة، فإن قوله )يَأَيَتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّة( خطاب مع جميع الأرواح البشرية، والعباد الذين يتصل بهم جميع الأرواح البشرية ليسوا إلا الملائكة، وأيضا: قال في شرح عظيم ثواب المطيعين: )وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِ بابٍ سَلاٌم عَلَيكُم( الرعد: 23، 24 فجعل تسليم الملائكة عليهم منزلة عالية ودرجة عظيمة لهم، ولولا أن عالم الملائكة أشرف وإلا لم يكن اتصال أرواح البشرية بهم سببا لسعادة هذه الأرواح البشرية.
    الحجة العشرون:

    أن الملائكة مبرؤون عن الشهوة والغضب والخيال والوهم وهذه الصفات هي الحجب القوية عن تجليى نور الله،ولا كمال إلا بحصول ذلك التجلي، ولا نقصان إلا بحصول ذلك الحجاب، فلما كان هذا التجلي حاصلا لهم أبدا وفي أكثر الأوقات تكون الأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلي، علمنا أنه لانسبة لكمالهم إلى كمال البشر، والذي يقال: الخدمة مع كثرة العوائق أدل على الإخلاص من الخدمة بدون العوائق، كلام خيالي لأن المقصود من جميع العبادات والطاعات حوصل ذلك التجلي، فأي موضع كان حصول ذلك للتجلي فيه أكثر، وعن المعاوق أبعد؛ كان الكمال والسعادة أتم، ولهذا قال في صفة الملائكة )يُسَبِحونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفتَرُونَ( الأنبياء: 20.
    الحجة الحادية والعشرون: الروحانيات فضلت الجسمانيات من وجوه: الأول: أنها نورانية علوية، والجسمانيات ظلمانية سفلية.
    وثانيها: أن علومها أتم وذلك لأن الحكماء برهنوا على أن الروحانيات السماوية مطلعون على أسرار المغيبات، ناظرون في اللوح المحفوظ أبدا ناظرون عالمون بكل ما سيوجد في المستقبل، وبكل ماوجد في الماضي.
    وثالثها: أن علومهم فعلية كلية دائمة وعلة البشر ناقصة انفعالية منقضية.
    ورابعها: أن أعمالهم أتم لأنهم دائما مواظبون على الخدمة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يلحقهم نوم العيون، ولا سهر العقول، ولا غفلة الأبدان، فطعامهم التسبيح، وشرابهم التقديس والتمجيد، وأنسهم بذكر الله، وفرحهم بخدمة الله، متجردون عن العلائق البدنية مبرؤون عن الحجب الشهوانية والغضبية، فأين أحد البابين من الآخر? وخامسها: الروحانيات لهم قدرة على تغيير الأجسام، وتقليب الأجرام والقدرة التي لهم من القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب، ثم إنك ترى السفلية الضعيفة م النبات في بدء نموها تفتق الأحجار وتشق الصخور وما ذلك إلا لقوة فاضت عليها من جواهر القوى السماوية، فما ظنك بتلك القوى السماوية? فالروحانيات هي التي تنصرف في الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا، لا يستثقلون حمل الثقال، ولا يستصعبون نقل الجبال، فالرياح تهب بتحريكها، والسحاب يعرض ويزول بتصريفاتها، والزلازل تطرأ بقوتها والآثار العلوية تحدث بمعونتها،والكتاب الكريم ناطق بذلك، كما قال: )فَالمُقَسِماتِ أَمراً( الذاريات:4 وقال )فالمدبرات أمرا( النازعات: 5 ومعلوم أن شيا من هذه الأحوال لا يصدر عن الأرواح فأين أحدهما عن الآخر.
    الحجة الثانية والعشرون: الروحانيات مختصة بالهياكل الشريفة وهي السيارات السبع وسائر الثوابت، فالأفلاك لها كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح، فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلىالأبدان، ثم إنا نعلم أن اختلاف أحوال الكواكب والأفلاك مبادىء لحصول الإختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركة الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة وكذا مناطق الأفلاك تارة ينطبق بعضها على بعض وهو الرتق، وعنده تبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض وهو ذلك الفتق وعنده تنتقل العمارات في هذا العالم من جانب إلى جانب، فإذا رأينا أن هياكل العالم العلوي مستولية علىهياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي، لا سيما وقد دلت المباحث على أن أرواح هذا العالم معلولات لكمال ذلك العالم ونسبة أرواح هذا العالم وكمالات هذه الأرواح إلى أرواح ذلك العالم وكمالاته كالشعل الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة في البحر الأعظم، فهذه الأرواح البشرية كالذرات وأما البحار والعيون والجبال والمعادن فهي الأرواح العلوية فكيف يمكن أن يعلل أحدهما بالآخر? فهذا حكاية أدلة الفريقين في هذه المسألة على الاختصار والله اعلم، هذا ما أورده الإمام فخر الدين في الأربعين وأقول: هذه الحجج التي احتج بها من فضل الملائكة لا نقول بمقتضاها في تفضيلهم على الأنبياء لأدلة أخرى قامت على تفضيل الأنبياء عليهم، لكنها تنفع في تفضيل الملائكة على غير الأنبياء من البشر.
    وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:



    td hgjtqdg fdk hglghz;m , hgfav - lk hgpfhz; hofhv hglghz; ggsd,'d


  2. #2
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,199

    افتراضي

    تابع ..

    وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:

    فصل في معرفة تفضيل بعض الموجودات
    الحادثات على بعض الجواهر والأجسام
    والأجسام كلها متساوية من جهة ذواتها وإنما يفضل بعضها على بعض بصفاتها وأعراضها وانتسابها إلى الأوصاف الشريفة والأفعال النفيسة، والفضائل ضربان: أحدهما: فضل الجمادات كفضل الجوهر على الذهب وفضل الذهب على الفضة وفضل الفضة على الحديد، وفضل الأنوار على الظلمات وفضل الشفاف على غير الشفاف وفضل اللطيف على الكثيف والنير على المظلم والحسن على القبيح، والضرب الثاني: فضائل الخيرات وهي أقسام: أحدها: حسن الصور، والثاني: قوة الأجسام: كالقوى الجاذبة، والممسكة والدافعة والقاذية، والقوى على الجهاد والقتال، وحمل الأعباء والشجاعة والسخاء والحلم، والرابع: العقول، والخامس: الحواس، والسادس: العلوم المكتسبة وهي أقسام: أحدها: معرفة وجود الإله وصفاته الذاتية والسلبية والفعلية،.
    والثاني: معرفة إرسال الرسل وإنزال الكتب وتنبيه الأنبياء، الثالث: معرفة ما شرعه الله من الأحكام الخمسة وأسبابها، وشروطها، وموانعها، السابع: الأحوال الناشئة مما ذكرنا من المعارف: كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل، والتعظيم، والإجلال، الثامن: القيام بطاعة الله في كل ما أمر به أونهى عنه.

    التاسع: ما رتبه الله تعالىعلى هذه المعارف، والأحوال والطاعات، من لذات الآخرة وأفراحها بالنعيم الجثماني والروحاني: كلذة الأمن منعذاب الله تعالى، والأنس بقربه وجواره، وسماع سلامه وكلامه وتبشيره بالرضى الدائم وكذلك النظر إلى وجهه الكريم مع الخلاص من العذاب الأليم، فهذه فضائل بعضها أفضل من بعض، فمن اتصف بأفضلها كان أفضل البرية ولا شك أن معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته ولذات رضاه والنظر إلى وجهه أفضل مما عداهن، وأفضل الملائكة من قام به أفضل هذه الصفات، فإن تساوى اثنان من الملائكة في ذلك لم يفضل أحدهما على الآخر وكذلك إن تساوى اثنان من الملائكة في ذلك لم يفضل أحدهما على الآخر وكذلك إن تساوى الملك والبشر في ذلك لم يفضل أحدهما على الآخر فإن فضل الملك على البشر بشىء من ذلك كان أفضل منه، وإن فضل البشر على الملك بشيء من ذلك كان أفضل منه، والفضل منحصر في أوصاف الكمال والكمال إما بالمعارف والطاعات والأحوال وإما بالأفراح واللذات، فإذا أحسن إلى أجساد الأنبياء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأحسن إلى أرواحهم بالمعارف الكاملة والأحوال المتوالية وأذاقهم لذة النظر إليه وسرور رضاه عنهم وكرامة تسليمه عليهم فأين للملك مثل هذا? واعلم أن الأجساد مساكن الأرواح وللساكن وللمسكن أحوال. أحدها: أن يكون الساكن أشرف من المسكن، الثانية: أن يكون المسكن أشرف من الساكن، الثالثة: أن يستويا في الشرف فلا يفضل أحدهما على الآخر، فإذا كان الشرف للساكن فلا مبالة بخساسة المسكن، وإذا كان الشرف للمسكن فلا يتشرف به الساكن، والأجساد مساكن الأرواح وقد اختلف الناس في التفضيل الواقع بين البشر والملك، فإن فاضل بينهما مفضل من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح، فلا شك أن أجساد الملائكة أشرف وأفضل من أجساد البشر المركبة من الأخلاط، وإن فاضل بين أرواح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر عن الأجساد التي هي مساكن الأرواح. فأرواح الأنبياء أفضل من أرواح الملائكة، لأنهم فضلوا عليهم من وجوه: الإرسال ورسل الملائكة قليل؛ ولأن رسول الملائكة يأتي إلى نبي واحد ورسول البشر يأتي إلى الأمم وإلى أمة واحدة فيهديهم الله على يديه فيكون له أجر بتبليغه ومثل أجر من اهتدى على يديه وليس مثل هذا للملائكة. الوجه الثاني: القيام بالجهاد في سبيل الله، الوجه الثالث: الصبر على مصائب الدنيا ومحنها والله يحب الصابرين، الوجه الرابع: الرضى بمر القضاء وحلوه، الوجه الخامس: نفع العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع المكاره وجلب المنافع، وليس للملائكة شيء من هذا. الوجه السادس: ما أعده الله لعباده في الآخرة مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم ينسب للملائكة شيء من هذا، الوجه السابع: ما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم الروحاني كالأنس الرضى والنظر إلى وجهه الكريم، فإن قيل الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون والأنبياء ينامون ويفترون، قلت: إذا فتر الأنبياء عن التسبيح يأتون في حال فتورهم بالثناء على الرب عز وجل ومن الطاعات والعبادات بما هو أفضل من التسبيح والنوم يختص بأجسادهم وقلوبهم متيقظى غير نائمة، وسيساوونهم في الآخرة في إلهام التسبيح كما يلهمون النفس، الوجه الثامن: مختص بآدم عليه السلام أن الله عز وجل عرفه من أسماء كل شيء ومنافعه مالا يعرفون، الوجه التاسع: أيضا مختص بآدم أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود له، ولا شك أن المسجود له أفضل من الساجدين، وعلى الجملة فلا يفضل الملائكة على الأنبياء الإهجام بنى التفضيل على خيالات ثوهمها وأوهام فاسدة اعتمدها، ولم يتقرر بالخيالات والتوهمات من أمور يعلم الله خلافها، بل قد يرى الإنسان اثنين يظن أحدهما أفضل من الآخر، لما يراه من طاعته الظاهرة، والآخر أفضل خمنه بدرجات كثيرة لما اشتمل عليه من المعارف.
    والأحوال، والقليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف وأين الثناء من المستحضرين لأوصاف الجلال ونعوت الكمال من ثناء المسبحين بألسنتهم الغافلين بقلوبهم ليس التكحل في العينين كالكحل، ليس استجلاب الأحوال باستذكار المعارف كحضور المعارف بغير سعي ولا اكتساب، فإن قيل: سلمنا أن الأنبياء فضلوا الملائكة بما ذكرتم فإن أجساد الملائكة فضلت أجساد الأنبياء بما ذكرتموه ومعظم الفضائل إنما هو بشرف المعارف والأحوال فلم قلتم بأن الأنبياء أفضل من الملائكة? قلنا: إنكم مطالبون بمثل هذا، ثم لا يخلو ما ذكرتموه من أحوال.
    أحدها: أن يستوي الملك والنبي في المعارف والأحوال فيفضل على الملائكة بما ذكرناه من نعيم الجنان ورضى الديان والنظر إلى الرحمن.
    والثاني: أن يكون ما للأنبياء أفضل من الملائكة في المعارف والأحوال مع ما انضم إليه من الأعمال ونعيم الجنان ورضى الديان والنظر إلى الرحمن ولا عبرة بفضل أجسادهم على أجساد الأنبياء، لأن الأجساد مساكن ولا شرف بالمساكن وإنما الشرف بالأوصاف القائمة بالساكن والإعتبار إنما هو بالساكنين دون المساكن فإن الأنبياء قد سكنوا في بطون أمهاتهم مع القطع بأنهم أفضل من أمهاتهم، فروح المسيح أفضل من جسد مريم، وكذلك روح الرسول أفضل من جسد أمه، وإذا استوى اثنان في حال من الأحوال هما في التفضيل سيان فإن تفاوتا في ذلك بطول الزمان وقصره كان من طال زمانه أفضل ممن قصر زمانه عند اتحاد الحالين، وإن تفاوتا في الأحوال فإن كانت إحدى الحالين أشرف وأطول زمانا فلا شك أن صاحبها أشرف وأفضل، مثاله الخائف مع الهائب، فإن الهيبة أفضل من الخوف فإذا طال زمان الهيبة وقصر زمان الخوف فقد فضلته من وجهين، وإن استوى الزمان كان الهائب أفضل، وكذلك إن قصر زمان الهيبة وطال زمان الخوف كانت الهيبة أفضل لعلو رتبتها وشرفها، ألا ترى أن وزن دينار من الجوهر أفضل من الدينار؛ والدينار أفضل من الدرهمين، والعشرة لشرف وصفه على وصف الفضة، والدرهم أفضل من مائة درهم من النحاس؛ لشرف وصفه، وبهذا الميزان يعرف تفاوت الرجال، فيعرف الخائف بظهور آثار الخوف عليه كما يعرف الهائب بظهور آثار الهيبة عليه، وكذلك القول في المحبة والرضى والتوكل والرجاء وسائر الأحوال فإن ظهرت آثار الهيبة على إنسان وآثار الخوف والرجال على آخر علمنا أن من ظهرت عليه آثار الهيبة أفضل من صاحبه وكذلك إذا ظهرت على أحد رجلين آثار محبة الإنعام والإفضال، وظهرت على الآخر آثار محبة الجلال والجمال، فصاحب المحبة على معرفة الجلال والجمال أفضل من صاحب محبة الإنعام والإفضال لتعلق محبة الجلال والجمال بذات الله تعالى وصفاته، وتعلق بمحبة الإنعام والإفضال بغير الله تعالى، وبمثل هذا الأسلوب تعرف محبة الرجال، وكذلك تعرف مراتب الطائعين بملابسة بعضهم لأفضل الطاعات وبملابسة الآخرين لأدنى الطاعات، فإن استووا في الطاعة؛ لم يجز لأفضل الطاعات وبملابسة الآخرين لأدنى الطاعات فإن استووا في الطاعة؛ لم يجز التفضيل في باب الطاعات وإن كثرت طاعات أحدهم وقلت معارف الآخر وأحواله؛ قدم شرف العلم والأحوال على شرف الأعمال والأقوال ولهذا جاء في الحديث: (ما سبقكم أبو بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بأمر وقر في صدره) وقال صلى الله عليه وسلم لما استقصر بعضهم طاعته: (إنى لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) ففضل المعرفة وشدة الخشية على كثرة الأعمال، وليس لأأحد أن يفضل أحدا على أحد ولا يسوى أحدا بأحد حتى يقف على أوصاف التفضيل أو التساوي، فمن لا يعرف ما اشتملت عليه أرواح الأنبياء وأرواح الملائكة من المعارف والأحوال لا يجوز له أن يتعرض لشيء من التفضيل والتساوي إلا بمدرك شرعي، ولا يقدم على ذلك إلا هجوم لا يتقي الله ولا يخشى التمضخ بعار الكذب وقد جاء في التنزيل ما يدل على تفضيل البشر على الملائكة، فإنه تعالى ذكر جماعة من الأنبياء في سورة الأنعام فقال فيهم )وكلا فضلنا على العالمين( الأنعام: 86 والملائكة من جملة العالمين لأنك إن اشتققت العالم من العلم فالملائكة من العلماء، وإن أخذته من العلامة اندرج فيه الملائكة وكل موجود سوى الله تعالى، لأن في كل منهم علامة تدل على قدرة الصانع وإرادته وعلمه وحياته وحكمته، انتهى كلام عز الدين.

    وقال الحليمي في المنهاج: المختار أن الملأ الأعلى أفضل من سكان الأرض لقوله تعالى: )لَن يَستَنكِفَ المَسيحَ أَن يَكونَ لله وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبُونَ( النساء: 172 لأن هذا السياق في مثله يدل علىأن المذكور ثانيا أفضل مما قبله وأن في نفي الإستنكاف عن الأول دلالة على أن من دونه أولى بذلك، وكذلك في نحو نفي العلم بقولك: ما يدري هذا فلان ولا فلان، وأيضا فإن الشيطان غر آدم وحواء بقوله لهما )ما نَهاكُمَا رَبُكُما عَن هَذَهِ الشَجَرَةِ إِلا أَن تَكونَا مَلَكَينِ( الأعراف: 20 فلو لم يعلما أن الملائكة أفضل لما دلاهما بغرور، وأيضا فقد جعل الله تعالى من جملة نعيم أهل الجنة دخول الملائكة فيها وتسليمهم على أهلها، ولو كانوا أدون من بني آدم لم تكن زيارتهم لهم نعمة في حقهم، وأيضا فإن الرسول أفضل من المرسل إليه؛ بدليل رسل الله من البشر، وأيضا فقد سماهم الله الملأ الأعلى، وكل من الملأ والأعلى يدل على أفضليتهم، إذ الملأ في اللغة: هم العظماء والأشراف، والأعلى: باعتبار المكانة أو المكان إذ لا يسكن أدون الخليقتين أفضل المكانين. وأيضا فإن التقى النقى من البشر أفضل من الذي يخلط العمل الصالح بالسيء، وليس في الملائكة من يخلط طاعته بشيء من المعصية أو يفتر عن العبادة، والأتقياء من البشر إن عصموا من الكبائر لا يعصمون من الصغائر، ولا يسلمون من الهم، ولا من الفترة في العبادة، لا يقال فيكون يحيى عليه السلام أفضل الأنبياء، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر عنه أنه: ما هم بخطيئة قط، لأنا نقول: قد يفضله غيره بأمر آخر كالجهاد والذب بالسيف عن دين الله وأوليائه، وكالحج والهجرة وغير ذلك مما كان لغيره، ولم يكن له فإن قيل: فكذلك البشر قد يفضلون الملائكة بهذه الأشياء، أجيب: بأن نزول الملائكة إلى الأرض وكتابتهم الأعمال وغير ذلك من الأمور الإلهية لا يتقاعد عن الحج والهجرة وقد جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضا فمنهم الصافون حول العرش، ويحتمل أن يكون النائى عنه مأمورا بحضوره، وقياما وغير ذلك، كالطواف والحج واحتج من فضل البشر بأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وأجيب بأنهم أمروا بالسجود لله تعالى مستقبلين آدم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد ابن آدم قال الشيطان: أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار) ومعلوم أن ابن آدم لم يؤمر إلا بالسجود لله تعالى فكذلك الشيطان، لا يقال: لو أمر به لما امتنع لأنه كان يعبد الله تعالى قبل ذلك لأنا نقول: إنما امتنع منه لا لأنه سجود لله تعالى، بل لما أمره بن في وجه آدم من تكريم آدم المشار إليه بقوله )أَرَأَيتُكَ هَذا الذَي كَرَمَتَ عَلَيَ( الإسراء: 62 وقال في نفسه )أَنَا خَيرٌ مِنهُ( ص: 76 فكيف لم يؤمر أحد بالسجود لله في وجهي عند تمام خلقي، فحسد آدم على ذلك، فإن قيل: إذا كان السجود لله تعالى في وجه آدم تكريما له على الساجد فقد حصل المطلوب من تفضيله على الملائكة، أجيب: بأنه لا يلزم من توهم إبليس ذلك تحققه إذ لا يلزم من سجود المصلين إلى الكعبة تكريم لها عليهم بل على سائر البقاع والجهات، كذلك اللازم فيما نحن فيه تكريم آدم على غيره من الجن والحيوانات، ومن لم يؤمر بالسجود في وجهه من سكان الأرض، واحتج أيضا بقوله تعالى )وَفَضَلَناهُم عَلىَ كَثَيرٍ مِمَن خَلَقَنَا تَفضِيلا( الإسراء: 70 لدخول الملائكة في ممن خلقنا وأجيب: بأنهم فضلوا على الجن الداخلين فيه أيضا، فوجب أن لا يفضلوا على الملائكة، عملا بمقتضى التبعيض إذ العقلاء ثلاثة أصناف، انتهى.

    وأورده الشيخ علاء الدين القونوي في مختصره المسمى بالإبتهاج بهذا اللفظ، إلا أنه لم يصرح بموافقة الحليمي على اختيار تفضيل الملائكة على الأنبياء، وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المعالم: المختار عندي أن الملك أفضل من البشر ويدل عليه وجوه، أحدها: أنه تعالى لما أراد أن يقرر عند الخلق عظيم استدل بكونه إلها للسموات والأرض وما بينهما فقال في سورة عم يتساءلون )رَبِ السَمَوَاتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما الرَحمَنَ لاَ يَملِكُونَ مِنهُ خِطِابا( النبأ: 37 ثم لما أراد الزيادة في تقرير هذا المعنى قال بعده )يَومَ يَقُومُ الرُوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفاً لاَ يَتَكَلَمُونَ إِلاّ مَن أَذِنَ لَهُ الرَحمَنُ وَقَالَ صَوابا( النبأ: 38 ولولا أن الملائكة أعظم المخلوقات درجة؛ وإلا لم يصح هذا الترتيب.
    الثاني: أنه تعالى قال: )كُلٌ آَمَنَ بِالله وَمَلائِكَتَهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلُهِ( البقرة: 285، هذا هو الترتيب الصحيح؛ لأن الإله هو الموجود الأشرف ويتلوه درجة الملائكة، ثم إن الملك يأخذ الكتاب من الله تعالى ويوصله إلى الرسول، وهذا يقتضي أن يكون الترتيب هكذا: الإله والملك والكتاب والرسول، وهذا هو الترتيب المذكور في القرآن، وهذا يدل على شرف الملك على البشر.
    الثالث: أن الملائكتة جواهر مقدسة عن ظلمة الشهوات وكدورات الغضب قطعا، وطعامهم التسبيح وشرابهم التقديس، وأنسهم بذكر الله تعالى فكيف يمكن مناسبتهم مع الموصوف بالغضب والشهوة.
    الرابع: أن الأفلاك تجري مجرى الأبدان للملائكة، والكواكب تجري مجرى القلوب ونسبة البدن إلى البدن والقلب إلى القلب كنسبة الروح إلى الروح في الإشراق والصفاء. انتهى، وقال الإمام سيف الدين الآمدي في كتاب مناهج القرائح: ذهب الشيعة وأكثر أصحابنا وأكثر الناس إلى تفضيل الأنبياء على الملائكة، خلافا للفلاسفة والمعتزلة والقاضي، حجة أصحابنا أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم والسجود من أعظم أنواع الخدمة للمسجود له وهو دليل كونهم مفضولين بالنسبة إلى آدم عند الله، فإن كان ذلك حالة ثبوته؛ فهو المطلوب، وإن كان قبلها فالفضيلة بعدها أولى، فإن قيل السجود الذي يتحقق به المفاضلة إنما هو السجود الحقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض وهو غير مسلم التصور في حق الملائكة، إلا أن تكون أجساما وهو ممنوع وإن تصور ذلك في حقهم، لكن يحتمل أن يكون المراد بالسجود التواضع اللازم للسجود فعبر باسم الملزوم عن اللازم، وتواضع الشخص لغيره لا يدل على كونه مفوصلا، ودليل إرادة هذا الإحتمال ما يأتي وإن كان الأمر بنفس السجود لله وآدم قبلة لاه، وإن كان السجود لآدم، لكن إنما يدل ذلك على كون المسجود له أفضل من الساجد، أن لو كان عرف الملائكة كعرفنا، وهو غير مسلم، سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تفضيل الأنبياء، لكنه معارض مما يدل على تفضيل الملائكة من جهة العقل والنقل، أما العقل: فهو أن الملائكة جواهر روحانية علوية غير كائنة ولا فاسدة وهي مبادىء الكائنات الفاسدات ولا يلحقها غفلة ولا غضب ولا ألم ولا غيره من صفات النقائض بخلاف الأنبياء، فكانوا افضل منهم، وأما النقل فمن وجوه، منها: أن الله تعالى وصفهم بأنهم عنده بقوله: )وَمَن عِندَهُ لاَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ( الأنبياء: 19 وليست العندية بمعنى الجهة والحيز لعدم ذلك في حقه، فكانت بمعنى الفضيلة، ومنها: أن عبادة الملائكة دائمة من غير فتور لقوله: )يُسَبِحُونَ اللَيلَ وَالنَّهارَ لاَ يَفتَرُونَ( الأنبياء: 20 فكانت اشق من عبادات الأنبياء، فكان ثوابها أكثر لحديث عائشة ولئلا تخلو زيادة المشقة عن حكمة لكونه قبيحا، ولا معنى لكونهم أفضل غير زيادة ثوابهم ومنها: أن عباداتهم أسبق فكانوا أفضل لقوله تعالى: )وَالسابِقُونَ السَابِقُونَ أَولَئِكَ المُقَرَبونَ( الواقعة: 10، 11ومنها: قوله تعالى: )وَتَرَى المَلائِكَةَ حافِينَ مِن حَولِ العَرشِ( الزمر: 75 تنبيهاعلى علو عظمته ولو كان من هو أفضل منهم لكان أولى بذكره هنا ومنها: انهم الحفظة للبشر عن المعاصي لقوله تعالى: )وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِين( الإنفطار: 10 والحافظ لغيره عن المعصية لا بد أن يكون أبعد عنها فكان أفضل، ومنها: أن الله تعالى ابتدأ بذكر الملائكة ثم الأنبياء بقوله: )الله يَصطَفَى مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ( الحج: 75 والعرف شاهد بفضيلة المتقدم في الذكر والأصل تنزيل العرف الشرعي عليه، ويدل عليه قول عمر للقائل: ........................... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

    لو قدمت الإسلام لأعطيتك" ومنها: أنهم أعلم من الأنبياء بالأمور العلوية لكثرة مشاهدتهم لها. وبالقضايا الشرعية، لأنهم الوسيلة في معرفة الأنبياء بها، على ما قال تعالى: )عَلَمَهُ شَدِيدُ القًوى( النجم:5 وأراد تعليم جبريل فكانوا أفضل لقوله تعالى: )هَل يَستَوي الذَيَنَ يَعلَمُونَ وَالذَينَ لاَ يَعلَمُونَ( الزمر: 9 ومنها: أن الله تعالى فضل البشر على كثير من المخلوقات بقوله تعالى: )وَفَضَلَناهُم عَلَى كَثَيرٍ مِمَن خَلَقَنا تَفضيلاً( الإسراء" 70 ومفهومه أنهم ليسوا أفضل من الكل ولا شك أنهم أفضل من كل مخلوق سوى الملائكة، فلو كانوا أفضل من الملائكة كان على خلاف المفهوم من الآية، ومنها: أن الملائكة، فلو كانوا أفضل من الملائكة كان على خلاف المفهوم من الآية، ومنها: أن الملائكة رسل إلى الأنبياء، والأنبياء رسل إلى غير الرسل فكانت الملائكة بذلك أفضل، ومنها: تشبيه يوسف بالملك في قوله تعالى )إنَّ هَذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيم( يوسف: 31 والمشبه بالشيء دونه، ومنها: قول الرسول: )وَلاَ أَقُولُ إِنّي مَلَك( هود:31 في معرض سلب التعظيم، ولولا أن الملك أفضل منه لما صح ذلك، ومنها: قوله تعالى: )لَن يَستَنكِفَ المَسيِحُ أَن يَكُونَ عَبداً لله( ثم ثنى بالملائكة فقال: )وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَبُونَ( النساء: 172 وهو دليل فضيلة الملائكة وإلا فلو كانوا مفضولين لما حسن تأخرهم في الذكر كما لا يحسن أن يقال: الملك لا يستنكف عن كذا بل ولا الوزير، ومنها: قوله تعالى في وصف جبريل:
    إنَّهُ لَقَولٌ رَسُولٍ كَرِيم( إلى قوله: )مُطاعٍ ثَمَّ أَمِين( التكوير: 19-21 والجواب عن الأول: أن الأصل تنزيل لفظ السجود على حقيقته وكل ما يذكرونه في بيان امتناعه فهو غير مسلم عندنا وبه اندفاع الثاني وما يذكرونه من دليل التأويل فسيأتي جوابه، وعن الثالث: لو كان آدم قبلة لكان الأمر بالسجود إليه لا له وفرق بين الأمرين، وعن الرابع: ان عرف الملائكة في ذلك إنما كان التفضيل ولذلك قال إبليس: )أَرَأَيتُكَ هَذا الذَي كَرَمَتَ عَلى( الإسراء: 62 أي فضلت وهو عين عرفنا فيه، وعن المعارضة بالمعقول بمنع تفضيلها بما ذكروه من الصفات، أما من جهة أنها جواهر فلتوقف ذلك على نضو اختلاف الجواهر وهو غير مسلم عندنا على ما عرف وأما من جهة أنها روحانية، وإن كان بمعنى أنها أرواح مجردة فهوغير مسلم، بل أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذ1المفهوم غير مسلم، وإن كان بمعنى أنها ذات روح وراحة، فمسلم لكن لا يلزم من ذلك فضلها على الأنبياء وإلا كان كل من كان في روح وراحة أفضل ممن لم يكن كذلك حتى العامي بالنسبة إلى النبي وهو محال، وإن كان بغير ذلك فلا بد من تصويره، وأما من جهة أنها علوية فلا تستحق التفضيل وإلا كانت أجرام السموات أفضل من الأنبياء، وهو خلاف إجماع الخصمين، وأما باقي الصفات فغير مسلمة على ما عرف من أصولنا.
    وعن الأول: من جهة المنقول بأنه وإن دل على الفضيلة لا يدل على الأفضلية مع معارضته بقوله تعالى في حق البشر: )فَي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِر( القمر:55 وعن الثاني: بمنع زيادة المشقة في عبادات الملائكة وما ذكروه في ذلك فهو مقابل بما يدل على زيادة المشقة في عبادة الأنبياء، وذلك أنهم مكلفون بها مع استيلاء الموانع عنها عليهم، كالشهوة والحرص والغضب والهوى، ووسوسة الشيطان وضعف الأبدان إلى غير ذلك مما لا تحقق له في حق الملائكة، وذلك إن لم يوجب الزيادة فلا أقل من المساواة.
    وعن الثالث: بمنع دلالة سبقهم على الفضيلة والآية فقد قال بعض المفسرين فيها: المراد بذلك السابقون في الدنيا إلى الخيرات وقد قيل: إلى الرواح إلى المسجد والخروج في سبيل الله، وقيل: إلى التصديق بالأنبياء من أممهم ولا مدخل للملائكة في شيء من ذلك.
    وعن الرابع: أنه وإن دل على عظمة الله بخدمة الجبابرة والعظماء له وأن الملائكة أشد وأقوى، فليس في ذلك ما يدل على فضيلتهم بكثرة ثوابهم.
    وعن الخامس: بمنع نسبة حفظ البشر عن المعاصي إلى غير الله تعالى بل غايته أنهم حفظة وشهداء على أفعال البشر، ولا يلزم أن يكون الشاهد أفضل من المشهود عليه.

    وعن السادس: أن تقديم الملائكة على الأنبياء في الرسالة ذكرا إنما كان لأنه على وفق الترتيب لا الدلالة على الفضيلة ويدل على ذلك أنه تعالى قدم ذكر الملائكة على كتبه والكتب على الرسل في قوله تعالى: )كُلٌ آَمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ( البقرة: 285 والكتب إن كانت هي الكلام القديم النفساني فهي أفضل من الملائكة، وقد قدم الملائكة في الذكر عليها، وإن كانت العبارات والكتابات الدالة فالرسل أفضل منها بالإتفاق، وقد أخر الرسل في الذكر عنها.
    وعن السابع: بمنع كون الملائكة أعلم، فإن آدم كان أعلم منهم بدليل قوله تعالى: )وَعَلَمَ آَدَمَ الأَسماءَ كًلَها( البقرة: 31 الآيات، والمراد بالأسماء أصحاب الأسماء، وهي المسميات، بدليل قوله: )ثُمَّ عَرَضَهُم( ولو أراد الأسماء لقال: ثم عرضها كما قاله وإن كانت الملائكة أعلم، فذلك يدل على اختصاصهم بالأعلمية، وليس يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل عند الله بمعنى أكثر ثوابا وأرفع درجة.
    وعن الثامن: أن المراد بالتفضيل في الآية ليس في رفع الدرجة في الدار الآخرة وزيادة الثواب كما قاله المفسرون بل المراد به تفضيلهم في الدنيا بأكلهم بأيديهم وحملهم في البر والبحر على السفن وأظهر الحيوانات وأكلهم الطيبات على مانطقت به الآية من قوله تعالى: )وَلَقَد كَرَمَنا بَني آَدَم( الإسراء: 70 ومفهوم هذا المنطوق سلب فضيلة البشر على الملائكة في هذه الأمور، ولا يلزم منه سلبها بمعنى رفع الدرجة عند الله تعالى.
    وعن التاسع: بمنع كون الأنبياء ليسوا رسلا إلى الأنبياء فإن إبراهيم كان رسولا إلى لوط، وموسى إلى أنبياء بني إسرائيل، وإن سلم ذلك لكن لا يلزم منه التفضيل وإلا كانت فضيلة الرسول مستفادة م المرسل إليه لا من نفسهوذاته ويلزم من ذلبك أن تكون فضيلة النبي مستفادة له من المبعوث إليهم وهو محال.
    وعن العاشر: بمنع تشبيه يوسف بالملك في الفضيلة بل في الحسن والجمال وذلك لأن سبب تشبيه النساء له بالملك إنما كان لدهشتهن بحسنه عند خروجه عليهن، حتى أنهن قطعن أيديهن بالسكاكين على ما نطقت به الآية من قوله تعالى: )وَآتَت كُلُ وَاحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِيناً وَقالَت أُخرُج عَلَيهِنَّ فَلَمَّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ وَقَطَعَنَ أَيدِيَهُنَّ) يوسف: 31 حتى قالت امرأة العزيز )فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمتُنَنَي فِيهِ( يوسف: 32 أي في حبه.
    وعن الحادي عشر: أن ذلك إنما ذكره النبي عليه السلام عند سؤال كفار قريش له بتعجيل العذاب استهزاء به فأنزل قوله تعالى قل)لاَ أَقُولُ لَكُم عِندِي خَزَائِنُ الله( أي مفاتيح نزول العذاب )وَلاَ أَعلَمُ الغَيبَ( أي متى ينزل عليكم )وَلاَ أَقُولُ لَكُم إِنّي مَلَك( هود: 31 أي ممن يقدر على إحاطة العذاب بكم كما فعل بالأمم السالفة وهو دليل كون الملك أقدر لا أفضل.
    وعن الثاني عشر: أن ذلك إنما ورد ردا على النصارى في اعتقادهم إلهية المسيح لما رأوه يقدر على إحياء الموتى وأنه لا أب له، فقال تعالى: )لَن يَستَنكِفَ المَسيحُ( النساء: 172 مع هذه الصفات بل ولا من هو أقوى منه وأقدر منه ولا يفتقر في وجوده إلى أب وأم وهم الملائكة أن يكونوا عبيدا لله، وهو دليل التفاوت في هذه الصفات لا في الفضيلة عند الله بمعنى رفع الدرجة وكثرة الثواب.
    وعن الثالث عشر: أن ذلك إنما ورد ردا على كفار قريش في قولهم محمد صلى الله عليه وسلم مجنون وأن القرآن من إلقاء الشيطان إليه فأقسم تعالى )بِالخُنَس( وما بعدها )إِنّهُ لَقَولُ رَسًولٍ كَرِيم( ووصفه بما وصفه مبالغة في أنه ليس بقول شيطان )وَما صاحِبُكًم بِمَجنُون( كما زعمتم وإنما وقعت المبالغة في صفات جبريل دون النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم بصفاته لكونه عربيا منهم دون صفات جبريل. انتهى.
    وقال الإمام أبو بكر الكلاباذي في كتاب "التعرف لمذاهب أهل التصوف" قولهم في الملائكة والرسل: سكت الجمهور منهم عن تفضيل الرسل على الملائكة، وتفضيل الملائكة على الرسل وقالوا: الفضل لمن فضله الله تعالى ليس ذلك بالجوهر ولا بالعمل ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل، وفضل بعضهم الرسل وبعضهم الملائكة، وقال محمد بن الفضل جملة الملائكة أفضل من جملة المؤمنين وفي المؤمنين من هو أفضل من الملائكة كأنه فضل الأنبياء عليهم السلام.

    قال العلامة علاء الدين القونوي في شرحه: اختلف الناس في التفاضل بين الملائكة والبشر، وأسلم الأقوال ما نقله المصنف عن جمهور الصوفية وهو السكوت عن المفاضلة بينهما والسلامة لا يعادلها شيء، كيف وأدلة الجانبين متجاذبة، وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرفة الحكم فيها، فالصواب تفويض علمها إلى الله تعالى واعتقاد أن الأفضل من فضله الله تعالى، ليس الفضل بشرف الجوهر، ليقال: الملائكة أفضل لأن جوهرهم أشرف فإنهم خلقوا من نور وخلق البشر من طين، وذلك لأن أصل إبليس وجوهره وهو النار أشرف وأصفى من جوهر البشر، وما أفاده ذلك فضلا، ولا بالعمل ليقال عمل الملائكة أكثر فيثبت لهم الفضل لأن إبليس أكثر عملا أيضا وليس بأفضل، ومعنىقوله: ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر، أنهم لم يروا أن تفضيل أحد القبيلين أوجب من تفضيل الآخر لما ذكرناه من تجاذب الأدلة من الجانبين، وانتفاء ما يرجح أحدهما من جهة النقل والعقل، وقال في قول آخر: كأنه فضل الأنبياء أي مع القول بأن جنس الملائكة أفضل من جنس البشر إذ لا يلزم من تفضيل الجنس تفضيل كل فرد كما في قولهم الرجل خير من المرأة.
    وقال القاضي تاج الدين بن السبكي في منع الموانع: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- قال جمهور أئمتنا: إنهم أفضل من الملائكة عليهم السلام، وقالت المعتزلة، ومنا القاضي أبو بكر والإمام فخر الدين: إن الملائكة أفضل، ومنهم من استثنى المصطفى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم،وقال: إنه أفضل من الملك والبشر وهو خير الخلق أجمعين.
    وذهب الشيخ الإمام الوالد إلى موافقة الجماهير على تفضيل الأنبياء على الملائكة، وقطع القول بأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف مخلوق وأزكاه وأكرمه على الله، غير أن الشيخ الإمام قال: هذه المسألة وهي تفضيل البشر علىالملك أو الملك على البشر ليست مما يجب اعتقاده ويضر الجهل به. ولو لقى الله ساذجا من المسألة بالكلية لم يكن عليه إثم فما هي مما كلف الناس بمعرفته، قال القاضي تاج الدين: فالناس ثلاثة: رجل عرف أن الأنبياء أفضل من الملائكة واعتقده بالدليل، وآخر جهل هذه المسألة ولم يشتغل بها بالكلية وهذان لا ضرر عليهما، وثالث قضى بأن الملك أفضل، وهذا على خطر. وهل نقول إن من قضى بتفضيل الأنبياء على خطر، فيكون الساذج أعلم منه? أو أنه لإصابته الحق إن شاء الله تعالى ناج من الخطر، هذا موضع نظر، والذي كنت أفهمه عن الوالد: أن السلامة في السكوت عن هذه المسألة، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين علىالله تعالى من غير ورود دليل قاطع دخول في خطر عظيم، وحكم في مكان لسنا أهلا للحكم فيه، وقد جاءت أحاديث تحسم بإشارتها مادة الدخول في ذلك، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني علىيونس بن متى) ونحوه، ونحن على قطع بأنه أفضل من يونس ولم يختلف في ذلك أحد، لعله إشارة إلى أنكم لا تدخلون في أمر لا يعنيكم وما للسوقة والدخول بين الملوك وأعنى بالسوقة في هذا أمثالنا وبالملوك الأنبياء والملائكة عليهم السلام، والذي ينشرح الصدر له، ويثلج له الخاطر، إطلاق القول بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خير الخلائق أجمعين من ملك وبشر، فهذا ينبغي أن يطلق إطلاقا ويصمم عليه اعتقادا، ثم قال بعد ذلك: وخير الناس بعد الأنبياء والملائكة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهذا مقرر في كتب الكلام وكتب الحديث بما لا يحتاج معه إلى إعادة، وقال في منظومته النونية:

    ونبينا خير الخـلائق أحـمـد

    ذو الجاه عند الله والسلطـان
    لا خلق أفضل منه ولا بشـر

    ولا ملك ولا كون من الأكون
    والرسل بعد محمد درجاتهـم

    ثم الملائك عابدو الرحـمـن
    ثم الصحابة مثل ما قد رتبـوا

    فالأفضل الصديق ذو العرفان
    وقال في جمع الجوامع: أرسل الرب تعالى رسله بالمعجزات الباهرات وخص محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين المبعوث إلى الخلق أجمعين المفضل على جميع العالمين وبعده الأنبياء ثم الملائكة، قال الشيخ جلال الدين المحلى في شرحه: فهم أفضل من البشر غير الأنبياء، وقال الزركشي في شرحه: نقل الإمام في تفسيره الإجماع على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع العالمين واستثنوه من الخلاف في التفضيل بين الملك والبشر.
    وقال الإمام صفى الدين الأرموى في رسالته: وذهب أكثر أصحابنا والشيعة إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة وقال القاضي أبو بكر والحليمي وغيرهما من أصحابنا كالإمام: الملائكة السماوية أفضل من الملائكة ومنهم من فصل وقال: خواص المؤمنين أفضل من الملائكة دون عوام المؤمنين، لنا وجوه منها: قوله تعالى: )إِنَّ الله اِصطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبراهِيمَ وِآَلَ عِمرانَ عَلَى العالَمِين( آل عمران: 33 والعالم كل موجود سوى الله ترك العلم به فيمن لم يكن نبيا منهم فيبقى العمل به في الأنبياء،وقال ابن عقيل من الحنابلة في كتاب (الإرشاد): مؤمنو ولد آدم من الأولياء والزهاد- والأنبياء من طريق الأولى- أشرف من الملائكة على قول أصحابنا، وعندي أن فيه تفصيلا وذلك أن في الملائكة من لا يجوز أن يفضل عليه الأولياء مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والمقربين، ولكني أفضل عليهم الأنبياء، ومنهم من يفضل عليه أولياء بني آدم وهم من عدا المقربين من الملائكة السياحة وغير ذلك.
    قال: والدلالة على أن خواص الملائكة المرسلين والمقربين خير من الأولياء خلافا لأصحابنا ان هؤلاء ساووهم في العبادة وفضلوا بالقرب والرسالة وسماع الكلام من الله سبحانه الذي شرف بسماعه موسى على غيره، وهذه الرتبة عظيمة لمن عقلها، وفارق الأنبياء لأنهم فضلوهم بالرسالة والنبوة ومعاناة الأمم والتعليم، وجعل الملائكة خدما لهم، ولأن قولنا بأن صالحا من بني آدم خير من جبريل شناعة عظيمة علينا من حيث سوينا بينه وبين رتبة الأولياء، مع جلالة جبريل وعظمته وشرفه عند الله؛ فإن جبريل سفير الرحمن وحامل وحيه إلى الأنبياء، ثم قال: واستدل من قال بالعموم بما روى أبو هريرة قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال (أوسعوا لمن خلفكم) فقلنا: ولمن نوسع يا رسول الله? قال: (للملائكة إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ولا من خلفكم وإنما يكونون عن أيمانكم وشمائلكم) قالوا: أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا? قال: (أنتم أفضل منهم).
    وأيضا عن النبي صلى الله عليه وسلمك (المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده).
    وأيضا اللفظ المشهور: (إن الله يباهي ملائكته بأهل عرفات) ولا يباهي إلا بالأفضل، وأيضا فإن جبريل افتخر بأن يسمى من أهل البيت، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخله تحت الكساء وكان تحته فاطمة والحسن والحسين. انتهى.
    قلت: أما حديث أبي هريرة الأول فإنه موضوع لا تحل روايته فضلا عن الإحتجاج به، وممن حكم بوضعه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات باختصار، فلم يذكر قوله: قالوا: أمن فضلنا عليهم" إلى آخره، وحكم بوضعه، وأما حديث (المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده) فالمعروف في لفظه: (المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته) كذا رواه ابن ماجه، وهذا اللفظ لا يدل على تفضيل الأولياء على جميع الملائكة بل على بعضهم، وحديث المباهاة لا يدل على الأفضلية والحديث الرابع لم أقف له على أصل في شيء من كتب الحديث وكيف يجسر أحد على تفضيل غير الأنبياء من البشر على جبريل وميكائيل. والله أعلم

    وفي أسئلة الصفار من أئمة الحنفية: سئل عن تفضيل الملائكة والبشر أيهما أفضل? فقال: خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم، وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة. وكذا في عقيدة الإمام أبي منصور الماتريدي، وقال النسفي في العقائد: وصل البشر أفضل من رسل الملائكة، ورسل الملائكة أفضل من عامة البشر وعامة البشر أفضل من عامة الملائكة، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرحه: أما تفضيل رسل الملائكة على عامة البشر فبالإجماع بل بالصرورة، وأما تفضيل رسل البشر على رسل الملائكة وعامة البشر على عامة الملائكة فلوجوه؛ - الأول: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم على وجه التعظيم والتكريم بدليل قوله تعالى حكاية عن إبليس: )أَرَأَيتُكَ هَذا الَّذي كَرَمتَ عَلَى( الإسراء: 62.
    - و )أَنَّا خَيرٌ مِنهُ خَلَقَتَنَي مِن نَارٍ وَخَلَقَتَهُ مِن طِين( ص: 76 ومقتضى الحكمة، الأمر للادنى بالسجود للأعلى دون العكس.
    - الثاني: أن كل واحد من أهل اللسان يفهم من قوله تعالى: )وَعَلَمَ آَدَمَ الأَسماءَ كُلَها( البقرة: 31( الآية أن القصد منه إلى تفضيل آدم علىالملائكة وبيان زيادة علمه واستحقاقه التعظيم والتكريم.
    - الثالث: قوله )إِنَّ الله اِصطَفى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبرَاهِيمَ وِآَلَ عِمرَان عَلَى العالِمينَ( آل عمران: 33 والملائكة من جملة العالمين، وقد خص ذلك بالإجماع عدم تفضيل عامة البشر على رسل الملائكة فبقى معمولا به فيما عدا ذلك، ولاخفاء ان هذه المسألة ظنية يكتفي فيها بالأدلة الظنية.
    - الرابع: أن الإنسان يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل في الإخلاص فيكون أفضل، وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة، وتمسكوا بوجوه: - الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل، مبرأة عن مبادىء الشرور والآفات كالشهوة والغضب وعن ظلمات الهيولى. والصورة قوية على الأفعال العجيبة عاملة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.
    - والجواب: أن ذلك مبني على الأصول الفلسفية دون الإسلامية.
    - الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منه بدليل قوله تعالى )عَلَمَهُ شَديدُ القًوى( النجم: 5 وقوله تعالى: )نَزََل بِهِ الرُوح الأَمين( الشعراء: 193 أفضل من المتعلم.
    - والجواب: أن التعليم من الله عز وجل والملائكة إنما هم المبلغون.
    - الثالث: أنه قد أطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء لتقدمهم في الشرف والرتبة.
    والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود أو لأن وجودهم أخفى، فالإيمان بهم أقوى والتقديم أولى، وقال الإمام أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروى في أرجوزته المسماة بالجواهر المضيئة:

    القول بالـمـلائك الـكـرام

    فريضة لـصـحة الإسـلام
    وهم عباد الخالق الـقـهـار

    قد خلقوا من خالص الأنوار
    حياتهم بالذكر والـتـسـبـيح

    وما لهم في الذكر من تبريح
    قاموا صفوفا للعزيز الماجـد

    يدعونه على مـقـام واحـد
    قد طهروا عن شهوة العصيان

    وعن شرور النفس والشيطان
    وما لهم من نعمة الـجـنـان

    حظ ولا من رؤية الرحمـن
    وما لهـم نـسـل ولا ولادة

    ولا لهم شغل سوى العبـادة
    فمنهم كاتب أعمـال الـورى

    ومنهم حافظ سكان الـثـرى
    ومنهم مـوكـل بـالـرزق

    يوصل أو يزوى بأمر الحق
    فوصف حال القوم بالتفضـيل

    في صحف الآثار والتنـزيل
    ونفيهم بالجحـد والإنـكـار

    كفر صريح موجب للـنـار
    ومن جرى لسانه بالطـعـن

    والنقص فيهم فهو أهل اللعن
    ثم قال:
    كذا لجنس الإنس فضل بـاد

    بالعلم والفطنة والـجـهـاد
    على كرام الملأ الـعـبـاد

    من ساكن السبع العلا الشداد
    فموعد اللقاء والنـعـيم

    للإنس دون الملك الكريم
    وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في كتاب منهج الأصلين: الأكثر من الأشاعرة على تفضيل الأنبياء على الملائكة، وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والحليمي إلى أن الملائكة العلوية أفضل، وينبغي أن يكون محل الخلاف في غير النبي صلى الله عليه وسلم، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل خلق الله أجمعين، وأما الصالحون من البشر غير الأنبياء فأكثر العلماء على تفضيل الملائكة عليهم وعندنا أن من كان منهم تقيا نقيا موافيا الموت على ذلك فقد يفضل على الملك باعتبارات المشقات في عبادته مع ما فيه من الدواعي إلى الشهوة وغيرها، لا سيما من كان خليفة سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن قيل: كيف يستقيم أن يعتقد العصمة في جميع الملائكة ثم يقول هذا في غير المعصوم? وجوابه: أن ليس الكلام من جهة العصمة وإنما الكلام في التفضيل من جهة المشقة الحاصلة للعابد من البشر، ومع ذلك لا يكون ولى أفضل من نبي قط لاستوائهما في البشرية وزيادة النبي بالعصمة، والمختار عند الحنفية أن خواص البشر وهم المرسلون أفضل من جملة الملائكة، والملائكة الخواص أفضل من الأنبياء غير المرسلين والأنبياء غير المرسلين أفضل من غير الخواص من الملائكة ومنهم من وقف في التفضيل بين صالح البشر والملائكة، والحجة للمتقدم تكريم آدم عليهم بأمرهم بالسجود له وتفضيله عليهم بالخلافة والعلم، ولأن طاعة البشر أشف والآتي بالأشق أفضل، وقال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع: أما تفضيل الأنبياء على الملائكة فهو عقيدة الأشعري وجمهور أصحابه، وهو آخر أقوال أبي حنيفة فيما ذكره شمس الأئمة، لاجتماع العصمة مع التركيب المعرض للنوائب التي يجب الصبر عليها والشهوات التي يجب الصر عنها، ومن أحسن الأدلة قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: )وَكُلاً فَضَلَنا عَلى العالَمِين( الأنعام: 86 والملائكة من العالمين، فدل على أنهم أفضل منهم، وقوله )إِنَّ الَّذَينَ آَمَنوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ أَولَئِكَ هُم خَيرُ البَرِيَة جَزاؤُهُم عِندَ رَبِهِم جَناتُ عَدنٍ( البينة: 7،8 وأراد بني آدم لأن الملائكة لا يجازون، بل هم خدم أهل الجنة ولأن بهم قامت الحجة على خلقه بخلاف الملائكة، حتى قال تعالى: )وَلَو جَعَلَناهُ مَلَكاً لَجَعَلنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلنَاهُ رَجُلاً( الأنعام:9 ولأن الناس في الموقف إنما يستشفعون بالأنبياء لا بالملائكة، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا شك أن للبشر طاعات لم يثبت مثلها للملائكة كالجهاد والغزو ومخالفة الهوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على البلايا والمحن والرزايا، وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم ولم يثبت مثل هذا للملائكة، وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واختاره القاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق والحافظ أبو عبد الله الحاكم والحليمي والإمام الرازي في المعالم وأبو شامة، وفي المسألة قول ثالث بالوقف وإليه صار الكيا في تعليقه، ونقل بعضهم قولا آخر أن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر وعزاه للمحققين. والظاهر أنه تنقيح مناط الخلاف، وإليه يشير كلام المصنف فإنه جعل المسألة بين البشر والملائكة، وقال أبو المظفر الأسفرايني في كتاب التوحيد: اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة، فأما المطيعون فاختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة على قولين، وقال ابن يونس في مختصره في الأصول بعد ذكر القولين: وقال الأكثرون منا: المؤمن الطائع أفضل من الملائكة، وقيد الإمام في الأربعين الملائكة بالسماوية، وقال ابن المنير: مذهب أهل السنة أن الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من الملائكة لكان كل البشر أفضل من الملائكة. معاذ الله، وذكر الإمام فخر الدين: أن الخلاف في التفضيل بمعنى أيهما أكثر ثوابا على الطاعات ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على أفضلية الملائكة بأنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية وقال: هذا لم يلاق محل النزاع وبهذا يزول الإشكال في المسألة. انتهى.

  3. #3

    افتراضي

    سبحان الله

  4. #4

    افتراضي

    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

  5. #5

    افتراضي

    استغفر الله واتوب اليه استغفر الله العظيم

  6. #6
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    [align=center]إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
    اللهعم صلِّ وسلم وبارك على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه الطيبين ![/align]

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. في تمثل الملائكة - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس الايمان بالملائكة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-01-2018, 03:42 PM
  2. حكم الصلاة على الملائكة - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس الايمان بالملائكة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-01-2018, 03:30 PM
  3. حكم شتم الملائكة - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس الايمان بالملائكة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-01-2018, 03:29 PM
  4. كثرة الملائكة جدا - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس الايمان بالملائكة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-01-2018, 02:28 PM
  5. مبدأ خلق الملائكة - من الحبائك في اخبار الملائك للسيوطي
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى مجلس الايمان بالملائكة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-01-2018, 02:27 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum