النتائج 1 إلى 36 من 36

الموضوع: خصوصية بيت المقدس !

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين إلى كل عربي مسلم حر أصيل .. إلى كل من يملأ قلبه الإيمان بأن حق الأمة في المسجد

  1. #1
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي خصوصية بيت المقدس !


    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين
    إلى كل عربي مسلم حر أصيل .. إلى كل من يملأ قلبه الإيمان بأن حق الأمة في المسجد الأقصى حقٌّ إيماني وليس قومي .. إلى كل من تنزف قلوبهم الدم حزناً وحُرقة على ما يدور في رحاب القدس الشريف من محاولات تهويد متتابعة متلاحقة .. إلى كل من لا يملكون الرّد على مكيدة " صفقة القرن " التي صمت عنها العرب إلا من رحم الله .. ومع حرصنا على عدم الخوض في السياسة ! إلا أن الأمر واجب على كل من يستطيع أن يقدم ولو بالكلمة ما يرى فيه مساهمة في إيقاف هذه النار التي ستأكل الأخضر واليابس إذا ما قُدّر لها أن تمُر وتستقيم ...! إلى هؤلاء وأولائك الذين لا علم لهم بما يُدَبَّر ويُحاك لثالث الحرمين الشريفين وبيت المقدس الذي بارك الله حوله نقدم هذه الدراسة المتواضعة التي تتناول الأسس التي يجب أن يعلمها العرب المسلمون لكيفية التعامل مع هذا البلاء العظيم .. وبالله التوفيق .
    ..........

    بيت المقدس
    وأسس المعركة القادمة مع اليهود

    دراسة قرآنية ... تحليل وتنزيل
    ألمقدمـــــــة
    ألحمد لله مُعز أوليائه ومُذل أعدائه , والقاضي بسيف الحق على رقاب عباده , المنتقم من المفسدين المجرمين بتسليط أجناده وله الشكر على جليل نعمائه وعظيم آلائه .
    أنزل هذا القرآن هداية للمؤمنين يهتدون به في كل ظلمة ويسيرون بأنواره في غياهب العتمة , بحيث يخرجون بالاستعصام به من الظلمات إلى النور ويبدّدون بما فيه من الحق ركام الشرور بنسمات هَدْيِه على البشرية الحبور والسرور .
    اللهم فكما أنعمت علينا بإنزال هذا القرآن اجعلنا يا ربنا ممن تفتح عليه من أسراره وتوفّقه للوقوف على كنوزه وأنواره وتُكْرِمه بالدعوة إلى التمسّك به والعمل بما فيه والاحتكام إليه والتدبّر في آياته .
    والصلاة والسلام التامّان الأكملان على نبيّ السلام وخير الأنام حبيبنا وقرة عيوننا وسبب هدايتنا إلى مُرتقيات العِزِّ والمجد وعروش الأستاذية والخيرية والسؤدد رسولنا محمد من أتَمَّ الله به النعمة ونَشَر به بُسُط الرحمة وقمع بمنهجه الفساد وأرسى دعائم الحق والرشاد .
    صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار , الذين تعلموا المنهج فساروا عليه فأجرى الله على أيديهم الفتوح وكان من أعظمها شأناً ومن أخصّها منزلة " فتح بيت المقدس " الذي كان علامة العالمية والسيادة الدولية حيث أورثهم الله تعالى ميراث النبوات واستأمنهم على أرض الرسالات وكانوا لذلك أهلاً , حتى خلفَ خَلْفٌ من بعدهم ضيّعوا المنهج , فضاعت منهم الأرض المقدسة مع الكرامة , واعتلاهم الخزي يومها والندامة , حتى قَيَّض الله تعالى من يرفع اللواء , ويدُل الأمّة الحيرى إلى مصدر النور والضياء .
    وها نحن اليوم على أثرهم سائرون نستلهم القرآن الذي استلهموه ونتحرّى المنهج الذي انتهجوه أملاً في تحقيق المأمول والاطمئنان إلى سلامة الوصول , { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّل مرة } " الإسراء : آية – 7 " فرضي الله عنهم حتى يرضوا وعلى من اتبع هديهم وسار على دربهم إلى يوم الدين وبعد :
    فقد آن – والله – { للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نَزَل من الحق } " الحديد : 16 " وقد آن – والله – أن ينفضوا عنهم غبار الغفلة وأن يغسلوا عار الذِّلّة , وأن يُشَمّروا عن سواعد التحرير مستعينين بالعليم الخبير .
    ومن الواضح أننا أمام الهجمة الصهيونية الصليبية الأشرس وأننا في المراحل النهائية لتصفية القضية الفلسطينية – كما يخططون – وأهم معالمها " القدس الشريف " ومسجده المبارك .
    وأنه من الواضح كذلك أن الاحتلال اليهودي يحُث الخُطى ويَجِد السَّير لفرض أمرِ واقعٍ على الأرض الفلسطينية عامة وعلى القدس خاصة وعلى المسجد الأقصى قلبها .. إذ يبدو للناظر لأول وهلة الحجم الضخم من الإجراءات والمؤامرات التي تهدف إلى تقسيم المسجد تقسيماً زمنيّاً مع التحضير والتأسيس للتقسيم المكاني خطوة ممهِّدة لهدم المسجد وبناء الهيكل المُفترى .
    ويعلم المسلمون ويعلم معهم اليهود أن المعركة القادمة إنما هي بالأبواب وأن عبث اليهود وتطاولهم إنما هو قرعٌ لطبول الحرب وهي مباركةٌ إن شاء الله مقدّسة , ويعلم الجميع أن القادم مخالفٌ للمهازل التي خاضتها الدول العربية سنة 1947 و 1967 وغيرها من الوقائع العجاف , والتي أُقصِيَ فيها الإسلام عن المعركة وشُوِّه وطورِد ! ولمصلحة مَنْ ؟ لا أدري ! إلاّ أنه كان فبئس ما كان !
    لكن المعركة القادمة هي معركة الإسلام فأفسحوا !!! أرشدكم الله إلى الحق ! وكتائب الحق تنتظر النفير وجحافل الإيمان يسبقها الهدير ! طليعتها اليوم أطفالٌ في ساحات الأقصى ونساءٌ مرابطات على أبوابه نذرْن أنفسهن للدفاع عن المسرى وإن كان يُبكيهن خذلان الأشقاء وغفلة الأتقياء وقسوة العملاء .
    وتمثلها انتفاضة مباركة بأبسط الأسلحة على الإطلاق , آذنت بحياة مفاجئة عند أبناء الجيل , تمَّ التخطيط لإنتاجهم في صورة أخرى من بعد أوسلو ومخططات دايتون !
    فإذا بالمفاجأة تُفَجّر المتوقّع , وتؤذن بانهيار كل المؤامرات المُحاكة , والله يدبّر من حيث لا يشعرون ! ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين , ويمثلها شباب يذودون عن العرض في غزة , يجوعون ويعطشون ولا يأكلون بكرامتهم ولا ثوابتهم يتسابقون إلى الموت ويحرصون عليه كما يحرص المحرومون على الحياة .
    ويُمثلها عُشّاق القدس والأقصى في الأردن وفي الشام وفي جزيرة العرب وفي العراق وفي تركيا وفي مصر والسودان وفي المغرب العربي وفي كل العالم الإسلامي متحفّزون متوثّبون , شوقاً إلى الأقصى يذرفون الدمع ويتبرعون بالمال ويتحركون بالليل والنهار , ألا فحيّاهم الله من طليعة ! وبارك في أعمالهم وتقبلها بقبول حسن .
    ولا بد اليوم أثناء الاستعداد لاستقبال المعركة من تأسيس الأسس وبناء التصوّر وتنقية المعتقد , والاتفاق على الطريق , تمهيداً للولوج إلى ساحة المعركة وخوض حرب التحرير .
    أما تأسيس وبناء التصوّر وتنقية المُعتقد وكذا الاتفاق على الطريق , فلا بد فيه من العود إلى الكتاب الكريم , الذي يستهدي به المتقون { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين } " البقرة : 2 " وتحيا به الأمّة فهو الرّوح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } " الشورى : 52 " ويستنير به السائرون { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } " الشورى : 52 " .
    فلنعد إذاً إلى هذا القرآن الذي { يهدي للتي هي أقوَم } " ألإسراء : 9 " نستسقي من النبع الأصيل لإتمام أركان التصوُّر وإرساء دعائم التطوّر والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
    وقد جاءت هذه الدراسة في هذا السياق محاولة لاستنطاق القرآن فيما يخُص المعركة القادمة , والتبشير بها والإعداد لها ورسم صورتها على التفصيل .
    بحيث تناولت الموضوع بحسب المنهج المعروف لدى المختصين " بالتفسير الموضوعي " ولم أستَغْنِ بطبيعة الحال عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستعانة به في توجيه التفسير , والاستدلال على المعاني , والاستشهاد للمقاصد , وتتميم الأفكار والمشاهد .
    أكتب هذه الكلمات في وقت أجِد فيه تصاعد ألسنة اللهب من حول القدس ومسجدها وأجد فيه صليل خيل الله وحمحمتها فيحدوني الأمل في الإسهام في صناعة النصر وتوجيه جيله , جيل الفتح الثالث , الجيل المبارك المحظوظ .
    وقد جاءت هذه في مقدمة وخمسة مباحث يمثّل كل منها أساساً من أسس المعركة , على مطالِب كذلك ويحتوي بعض هذه على تقاسيم أخرى .. وتنتهي الدراسة بعد ذلك إلى الخاتمة وتلخيص النتائج وعلى الله القبول .. وهنا لا بد من أن نُقِر بالفضل لأهله .. فقد أفدت من العلامة الدكتور صلاح الخالدي ومن كتبه في خدمة قضية القدس والأقصى التي سَدَّ بها ثغرة عظيمة .
    هذا .. والله المستعان .. فما كان فيها من خير وإحسان فمن الله الرحمن , وأبرأ من حولي وقوتي إلى حوله وقوته وما كان فيها من خلل وتقصير فإنما هو من طبع العبد الفقير .. وأسأل الله التوفيق والقبول والحمد لله رب العالمين .
    يتبع – المبحث الأول " خصوصية بيت المقدس من بين بلدان الأرض " .
    منقول بتصرف عن كتاب " د . رأفت المصري " .
    ...........



    ow,wdm fdj hglr]s !

    التعديل الأخير تم بواسطة الشريف ابوعمر الدويري ; 17-06-2019 الساعة 10:16 AM

  2. #2
    باحث في الانساب
    تاريخ التسجيل
    26-10-2011
    المشاركات
    2,884

    افتراضي

    احسنت شريفنا ابا عمر الدويري .
    سلمت يداك ودمت موفقا سباقا لكل خير وبشرى تسر كل مسلم .

  3. #3
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    ألأخ الفاضل - البراهيم - رعاك الله
    أنت كما عهدناك .. سباق للخير والمكرمات !
    ومتابع لكل هموم الأمة .. حفظك الله وعافاك
    التعديل الأخير تم بواسطة الشريف ابوعمر الدويري ; 24-06-2019 الساعة 03:40 PM

  4. #4
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي خصوصية بيت المقدس - تمهيد !


    خصوصية بيت المقدس
    من بين بلدان الأرض !
    • تمهيد .
    • ألمطلب الأوّل :
    مفهوم بيت المقدس والأرض المقدسة والمباركة .
    • ألمطلب الثاني :
    مكانة بيت المقدس في الإسلام .
    .......

    ألمبحث الأوّل
    خصوصية بيت المقدس

    تمهيــــد :

    شاءت حكمة الله تعالى أن يجعل لهذه البقعة من الأرض خصائص ومزايا من بين سائر بلدانها , وله الحكمة البالغة في ذلك , وهو سبحانه صاحب المشيئة المطلقة { وربُّك يخلُق ما يشاء ويختار } " القصص : 68 " .
    نعم .. اختار الله عز وجل من بين ما خلقه من البقاع بيت المقدس كما اختار منها مكة المكرمة والمدينة المنورة صلى الله على ساكنها وسلم تسليماً كثيراً .
    وجعل في هذه البقعة من معالم الفضل والقدسية ما جعله في كل الديانات التي أنزلها على رسله , فبيت المقدس بقعة مقدسة عند اليهود تعلقت بها قلوبهم على مدى تاريخهم المليء بالكُفران والجحود , ذلك الذي حرمهم إيّاها ومنعهم منها { قال فإنها مُحرّمة عليهم } " المائدة : 26 " , وذلك بعد ما عصوا رسولهم إذ أمرهم بدخولها وواجهوه بالوقاحة المعتادة على ألسنتهم ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } " المائدة : 24 " . عندها حُرِمها بنو إسرائيل وكتب الله عليهم التيه أربعين سنة , يفنى فيها الجيل الذي استمرأ حياة العبودية تحت سياط فرعون وقومه { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } " المائدة : 26 " .
    حُرِمها بنو إسرائيل وتعلّقت قلوبهم بها , فاحتالوا لأجلها الحِيَل , واخترعوا لتثبيت حقهم المزعوم فيها الأساطير .
    أما النصارى فقد رأوا في القدس رمز القداسة وأرض المسيح التي وُلِد فيها وعاش وصُلِب – حسب معتقداتهم – فعظّموا بيت المقدس , ولطالما استعمل هذا المعنى الديني – للأسف – لتحريك الحروب الصليبية المتدفقة من أوروبا , وإثارة الحملات الآثمة المُجرمة الدمويّة تجاه أهل البلاد المسلمين , وقد سجّل التاريخ أبشع الصُّوَر لمجازر القوم وهمجيّتهم التي جاؤوا بها وصَبّوها ألماً وموتاً زؤاماً على مدى قرون من الزمان .
    أما المسلمون .. وأهل الأرض الأصليون ممن نالتهم النعمة المُسداة والرحمة المُهداة فكانوا أهل هذا الدين وحملته .. فبيت المقدس عندهم واسطة العقد , وفجر الرسالة , ووعد الآخرة , وسِرٌّ من أسرار الله في الأرض , سكَب أفاضلهم دماءهم على أعتابه , وذرفت دموع صالحيهم في محاريبه , وسيأتيك نبأ ذلك ما يشفي الغليل وتستبين معه السبيل .
    وبهذا البيان الموجز وَضَحَ كيف اختُصَّ هذا المكان " بيت المقدس " بتعظيم أصحاب الديانات جميعاً , ولله في ذلك حكمة وسِر .
    ولا شك أن هذا التعظيم المشترك أورث تنافساً وتقاتلاً بين أولائك الطامعين وأصحاب الحق والأرض , نعم هم أصحاب الحق باعتبار دينهم خاتم الأديان , وارثَ دعوة الأنبياء , صدّق أديانهم وصدّقته , من حيث بَشَّرَت به فيما أُنزل من كُتُبها وتأكّد على ألسنة رُسُلها .
    في الوقت الذي حاد فيه أتباع تلك الرسالات عن منهج الله , وتلوّثت عقائدهم بما شابها من رَجس الشِّرك وأوهاق الوثنيات , فضلّوا من قبل وأضَلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل .
    وهم أصحاب الأرض باعتبار أنهم سكانها الأصليون , وما جاءها غيرهم يوماً إلا طارئاً , ثم لا تلبث أن تلفظ الحائدين عن منهج ربهم العاصين له , كمن غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير وعَبَد الطاغوت .
    هذه الخصوصية بهذا القالب المُجْمل كانت أساساً هامّاً في الصراع اليوم على بيت المقدس , وهو هامٌّ في معرفة أصل هذا الصراع وفَهم فلسفته وطبيعة بواعثه ومنطلقاته .
    يتبع – المطلب الأول بحول الله وتوفيقه .
    ...........

  5. #5
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    ألمطلب الأول !
    .......
    مفهوم بيت المقدس
    والأرض المقدّسة , والأرض المباركة

    بيت المَقْدِس أو بيت المُقَدَّس بالتشديد , وهو بيت التقديس , والتقديس التطهير , ومنه قوله تعالى على لسان الملائكة { ونحن نُسَبّح بحمدك ونُقَدّس لك } " البقرة : 30 " , أي نُطهّر أنفسنا لك , وكذلك : من أطاعك نقدّسه , أي نُطهّره , وبيت المقدس منه , أي البيت الذي يُتَطَهَّر به من الذنوب , ويحسن أن يُستدلَّ عليه بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن سليمان بن داود عليهما السلام سأل الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين , وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة , سأله حُكماً يصادف حُكمه فأعطاه إياه , وسأله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه , وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد – يعني بيت المقدس – يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمّه ) , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ونحن نرجوا أن يكون الله قد أعطاه ذلك ) .
    ومنه كذلك : الأرض المقدسة أي الطاهرة , قيل : التقديس البركة , ويقال : أرض مقدسة أي مباركة , والمباركة من البركة , وأصل معناها : الزيادة والنماء .. حسّية كانت أو معنوية , وثبوت الخير الإلهي في الشيء ودوامه , ونسبتها إلى الله على المعنى الثاني , وقال الله سبحانه { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } " الاعراف : 96 " , لثبوت الخير فيه كثبوت الماء في اليَم , وبِرْكة الماء " بكسر أوّله وسكون ثانيه " سميت به لإقامة الماء فيه .
    والمبارك ما فيه من ذلك الخير , وعلى ذلك { وهذا ذِكرٌ مبارك أنزلناه } " الانبياء : 50 " , تنبيهاً على ما يفيض عنه من الخيرات الإلهية , ولا يُسند فعل البركة إلا إلى الله , فلا يقال : بارك زيد في الشيء وإنما يقال : بارك الله فيه .
    وقال الراغب الاصفهاني : ولما كان الخير الإلهي يصدُر من حيث لا يُحَس , وعلى وجه لا يُحصى ولا يُحصر , قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة : هو مبارك , وفيه بركة .
    تسميتها – إذن – بالأرض المباركة لما فيها من أنواع الخير الإلهي وثبوته فيها , ووجوده فيها على وجه محسوس وغير محسوس لا يُحصى ولا يُحصر , وتسميتها بالأرض المقدسة لطهارتها وبركتها , وكونها مكاناً يُتَطَهَّر به من الذنوب , أما بيت المقدس فهو مركز القداسة والطهارة فيها , منه تنبع البركة , ومنه تسيل القداسة على سائر الأرض المباركة والمقدسة , قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } " ألإسراء : 1 " ,
    فالمسجد الأقصى هو مركز البركة , وتتحرك هذه البركة في دوائر حوله , فكلما اقتربنا من مركز البركة كانت البركة أعظم , وكلما ابتعدنا عن نقطة المركز قلّت البركة .
    أما ما يتعلّق بالحدود الجغرافية للأرض المباركة , فقد اختلف أهل العلم في تحديدها , ويمكننا أن نلحظ قولين رئيسين في ذلك .
    1 – قول من قال : إن الأرض المباركة هي ما بين النيل والفرات , وإليه ذهب بعض الأفاضل من علمائنا وأساتذتنا ,إذ قالوا : ألأرض المباركة في القرآن هي أرض الرباط والتحدي والحسم , وهي الواقعة بين الفرات والنيل , والأرض المقدسة في القرآن هي هذه الأرض نفسها .
    2 – قول من قال : إنها تقع بين العريش والفرات , وهو مرويٌّ عن بعض السلف , فقد روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المباركة " ما بين العريش والفرات " , وروى عبدالرزاق وعبد بن حميد عن قتادة " أنها الشام " والمعنى واحد .
    والذي يبدو لي : أن الثاني هو الصحيح , لما أنه قول السلف , ولمظَنَّة كون الرواية الإسرائيلية تسرّبت برؤيتها , حيث يُعلَم أن اليهود ينظرون إلى هذا الحد من الأرض – ما بين النيل والفرات – ليحدّدوا به أرضهم التي يزعمون .. وقد رجّح الذي رجحته العديد من العلماء والباحثين , ومن أبرزهم الأستاذ محمد رشيد رضا في تفسيره المشهور " المنار " .
    أما فيما يتعلق بالعلاقة الجغرافية بين الأرض المقدسة والأرض المباركة , فقد نحا العلماء والباحثون في ضبطها منحيين :
    ألأول : ذهب فريق من الباحثين إلى التفريق بين الأرض المباركة والأرض المقدسة , حيث يرون أن الأرض المقدسة جزء من الأرض المباركة , أما حدود الأرض المقدسة – بناء على هذا الرأي – فإنها تنضبط بما سمّاه الدكتور عبدالفتاح العويسي " إقليم بيت المقدس " , الذي ذكر بعض العلماء حدوده من قبل , كابن قدامة المقدسي وابن فضل العمري ومجير الدين الحنبلي وغيرهم , وقد حددوها لتشمل وفق المتعارف عليه من الأسماء اليوم " من جنين شمالاً إلى بئر السبع جنوباً , ومن النهر – نهر الأردن – شرقاً وحدود البحر الميت الشرقية تقريباً إلى ما بعد شاطىء البحر المتوسط غرباً , مع أجزاء من الأردن من جهة جنوبي البحر الميت , منها الكرك وما حولها .
    بينما رأى هؤلاء الباحثون أن الأرض المباركة هي عموم الشام المعروفة , وهذا الرأي مبنيٌّ على أن هناك فرقاً في المصادر الإسلامية بين مفهومي القدسية والبركة , والأقصى في الحالتين يقع في وسط هاتين المنطقتين تقريباً , والوسطية هنا وسطية معنوية لا جغرافية , أي أنه يعتبر مركز المنطقتين , وأهم بقعة فيهما بسبب وجود إحداهما داخل الأخرى .
    وقد رأيت في تفسير ابن كثير ما فهمت منه أنه يُفرّق بين إطلاقي الأرض المباركة والأرض المقدسة , وذلك عند تفسيره قول الله تعالى في سورة الأنبياء { ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } " الأنبياء : 71 " , حيث قال : يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام أنه سلَّمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام , إلى الأرض المقدسة منها , ولكنه لم يذكر تحديداً جغرافياً لهما .
    والثاني : الذي عليه أغلب المتقدمين – فيما أعلم – عدم التفريق في التحديد بين الإطلاقين , ألأرض المباركة والأرض المقدسة , إلا أن تسميتهما – كما سيأتي – بأيّ منهما يتناسب مع السياق الواردة فيه كلّ من الكلمتين , ثم إن تسمية هذه الأرض بكل من الإسمين لملحظٍ اختُصَّ بكل منهما , ولوصف الأرض بوصفين مختلفين , البركة والقدسية .
    ولهم أن يقولوا كذلك : إن المقصود بالأرض المباركة المقدسة أرض الشام عموماً , ولا يمنع هذا أن تطلق ويراد بها جزء منها , وهذا معروف مشهور , ومن أقرب الأمثلة عليه لفظ " القرآن " , فإنه كما يطلق على القرآن كله يُطلق على جزء منه , وكذلك هنا , والاحتمال قائم , ولا دليل يحسم المسألة , فالله أعلم بالصواب .
    أما تسميتها تارة بالأرض المباركة وأخرى بالأرض المقدسة فلا يلزم منه تغاير المسمى , وإنما سمّيت الأرض مرة بالمباركة لاعتبار كثرة خيرها , وسمّيت بالمقدسة لاعتبار طهارتها وكونها سبباً في تطهير الذنوب .. ومما جاء من كلام العلماء في ترجيح هذا القول :
    - ما قاله في النهاية في غريب الحديث " ومنه الأرض المقدسة .. قيل هي الشام وفلسطين .
    - وفي جمهرة اللغة : قال قوم : التقديس البركة وبه سمّيت الشام الأرض المقدسة .
    - وفي لسان العرب : والقدس البركة والأرض المقدسة الشام وبيت المقدس من ذلك أيضاً .
    - وقال الفراء : ألأرض المقدسة الطاهرة , وهي دمشق وفلسطين وبعض الأردن , ويقال مقدسة أي مباركة .

    وقد استدل الشيخ إبراهيم العلي – رحمه الله – على أن الأرض المقدسة هي عموم أرض الشام , بما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال : أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في مسجد المدينة , فضربني برجله فقال : ألا أرك نائماً ؟ قال : قلت : يا نبي الله غلبتني عيني , قال : كيف تصنع إذا أُخرجت منها ؟ قال : قلت : ما أصنع يا نبي الله .. أضرب بسيفي , فقال النبي : ألا أدلّك على خير من ذلك , وأقرب رشداً ؟ تسمع وتطيع , وتُساق حيث ساقوك .
    وعلى كل وجه فالمعتبر من الأقوال يَعُدُّ القدس محور البركة والقداسة وتتّسع الدائرة بعد لتشمل ما حولها من بلاد الشام , بركة تنبع من المسجد الأقصى وتفيض منه على ما حوله بنَصٍّ من كتاب الله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } .
    أما التحديد الذي أجراه بعض الباحثين المشار إليهم – مشكورين – فليس عليه في الحقيقة دليل يمكن أن يُعوّل عليه إنما هو اجتهاد ونظر , وعليه : فالتعميم دون التحديد قد يكون الأقرب إلى المنطق العلمي والمسلك البحثي , والله أعلم .
    يتبع – المطلب الثاني بحول الله .

  6. #6
    باحث في الانساب
    تاريخ التسجيل
    26-10-2011
    المشاركات
    2,884

    افتراضي

    مبحث مبارك إن شاء الله سلمت يداك .

  7. #7
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي مكانة بيت المقدس في الإسلام !


    ألمطلب الثاني :
    مكانة بيت المقدس في الإسلام
    .......

    من الأسس المهمة التي ينبغي اعتبارها في الصراع مع اليهود , ما لبيت المقدس من خصوصية في الإسلام , فإنه إذا كان الدفاع عن كلِّ أرض للإسلام واجباً فإن وجوب الدفاع عن بيت المقدس أوجب , ولا يشُك مسلمٌ أن الدفاع عن بيت الله الحرام – مثلاً – أوجب من الدفاع عن غيره من الأماكن , وهكذا فإن الواجبات متفاوتة في مقادير تأكيدها .
    ثم إن هذه المكانة الرفيعة لبيت المقدس في الإسلام تنهض لتكون أساساً من أسس المعركة القادمة مع اليهود , ووجهاً يجعل من قضية بيت المقدس قضية ذات أولويّة من بين قضايا المسلمين .
    ومن البدهيِّ المعلوم من دين الله عزَّ وجلَّ أن بيت المقدس أرض قداسة وبركة , نصَّ الله تعالى على ذلك في كتابه في مواضع متعددة , حتى صار الكثيرون اليوم يطلقون عبارات دالّة على أهمية القدس , فيقولون مثلاً : القدس عقيدة , والأقصى عقيدة , وهما دين ..وما إلى ذلك من العبارات .
    والحق أن هذه الإطلاقات صحيحةٌ باعتبار أن اعتقاد بركة هذه الأرض وقدسيتها قد جاء في القرآن الكريم وفي صحيح السُّنة بحيث صار اعتقاد ذلك واجباً , وجحده كُفراً وتكذيباً لمعلومٍ منصوصٍ عليه في الشريعة .
    إن وصف بيت المقدس بالبركة قد ورد في القرآن في خمسة مواضع , حيث قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } " الإسراء : 1 " , وهذا نَصٌّ واضحٌ لا يحتمل التأويل بوجه , وقال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام { ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } " ألأنبياء : 71 " , وسُمّيت لأجل هذا : بمُهاجر إبراهيم , أي الأرض التي هاجر إليها عليه السلام .
    وقال سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام { وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتَمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائي بما صبروا } " ألأعراف : 137 " , وقال سبحانه وتعالى في قصة سليمان عليه السلام وما سَخَّر له من الريح { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } " ألأنبياء : 81 " .
    وقال عزَّ وجلَّ في قصة سبأ وما مَنَّ به عليهم من الأمن { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قُرىً ظاهرةً وقدّرنا فيها السّير سيروا فيها ليالي وأيّاماً آمنين } " سبأ : 18 " , قال الإمام الألوسي رحمه الله في تفسيره " ألمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام , لكثرة أشجارها وثمارها , والتوسعة على أهلها , وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي قرى بيت المقدس , وقال ابن عطية : إن إجماع المفسرين عليه .
    ويظهر من خلال التأمّل السريع أن كل هذه الآيات التي وصفت بيت المقدس بالمبارك بألفاظ مختلفة " آيات مكّية " بلا خلاف , وهذا يدُل على قصد القرآن إلى تعظيم بيت المقدس في قلوب المسلمين مع ما يتعلّمونه عن هذا الدين وكتابه ومقدساته , إذ المعلوم أن القرآن المكّي جاء لبناء الاعتقاد , وتصحيح التصوّر الإيماني , وورود هذه الآيات في هذا السياق العام مُنبىءٌ عــن قصــد عظيــم حقيــقٍ بالتنبيــه والملاحظة , فقد كان هذا المسلك القرآني أحد مسالك الشريعة في تعظيم بيت المقدس في نفوس الصحابة رضي الله عنهم .
    وبوقفة عاجلة كذلك مع ألفاظ الآيات في ذلك يتبيّن أن : إسناد الفعل إلى الله في المواضع جميعاً { ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } , { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } , { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } , { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السّير سيروا فيها ليالي وأيّاماً آمنين } .
    وكان التعبير في المواضع جميعاً بالموصول " التي " وما في صلته : الفعل " باركنا " , ألمُسنَد إلى الله تعالى , وفي هذا الأسلوب من التَّركيز على الفعل وفاعله سبحانه ما لا يخفى .
    ويظهر الفرق إذا ما حاولت تصوُّر اسم المفعول بدَلَها فقُلْت : إلى الأرض المباركة , إذ ليس فيها المَلْحَظ السابق الذكر , وهنا يبدو جليّاً للناظر المتأمّل أن بيــت البركــة في الأرض وبؤرتهــا هـو بيـت المقـدس .
    وأما مكّة – شرفها الله وزادها تعظيماً وإجلالاً – فهي مباركة , كما قال سبحانه { إن أوّل بيت وُضِع للناس للَّذي بِبَكَّة مُباركاً } " آل عمران : 96 " , وهو الموضع الوحيد الذي وُصفت فيه مكّة أو البيت فيها – بالبركة , وجاء التعبير عن ذلك باسم المفعول , وهو وإن أفاد الثبوت والاستقرار كما تقَرَّر في مباحث البلاغة من فوائد التعبير بالاسم , فإنه يبقى – فيما أرى – دون وصف بيت المقدس بالبركة , لتكرارها في القرآن مراراً , ولِما في التصريح بالفعل وإسناده إلى الله صراحة – كما في الآيات الأربع المذكورة .
    ولا يفهمن أحد من كلامي تفضيل بيت المقدس على مكّة المكرّمة , فإن هذا لا يقوله من له أدنى نظر في نصوص الشرع , وإنما غاية ما أريد أن أثبته : كون بيت المقدس محلّ البركة ومصدرها في الأرض – كما جاء في الآيات .
    أما الموضع الوحيد الذي جاء التعبير عن وصف بيت المقدس بالبركة مختلفاً فيه فقوله تعالى { إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } " ألإسراء : 1 " , ولا عجب , فالأوصاف السابقة جميعاً لعموم الأرض المباركة { التي باركنا فيها } , أما الكلام هنا ففي المسجد الأقصى على سبيل الخصوص { الذي باركنا حوله } , وتدُل الآية على : أن المسجد الأقصى مصدر البركة التي تفيض منه على ما حوله حتى تصل العالمين { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } " ألأنبياء : 71 " .
    فتبيّن بهذا أن أصل البركة في الأرض المقدسة هو هذا المسجد , وإذا كانت الأرض المباركة هي محل البركة ومصدرها في الأرض كلها , فإن أصل البركة ومَعْدِنها إنما هو في المسجــد الأقصــى مــن الأرض المباركة , فهو إذن بيت البركة في الأرض .
    هذا وقد عظّم الله تعالى بيت المقدس بالقسم بها في قوله تعالى { والتيــن والزيتــون " 1 " وطــور سينين " 2 " وهذا البلد الأمين " 3 " } " التين " 1 – 3 " , وذلك على وجه قويٍّ من وجوه التفسير , إذ اختلف السلف في تفسير { والتين والزيتون } على وجهين منقولين عنهم رض الله عنهم .
    ألأول منهما : على أن المقصود هو الفاكهتان المعروفتــان , أقســم بهمــا لمــا فيهمــا مــن البركــة والفائــدة .
    وأما الوجه الثاني : فعلى أن المقصود إنما هو منابت التين والزيتون , أو التين والزيتون ومنابعها على وجه الجمع , وعبارات المفسرين تختلف في التعبير عن ذلك , فقيل : التين مسجد دمشق , والزيتون بيت المقدس , وقيل : التين مسجد نوح , والزيتون مسجد بيت المقدس .
    وقد أشار إلى هذا القول – من الجمع بين القولين – ألإمام ابن جرير الطبري , إذ قال رحمه الله وأجزل مثوبته : " والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال – التيــن هــو التيــن الــذي يؤكــل , والزيتون هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت , لأن ذلك هو المعروف عند العرب , ولا يُعرف جبلٌ يُسمى تيناً , ولا جبل يُسمى زيتوناً , إلا أن يقول القائل : أقسم ربنا جلَّ ثناؤه بالتين والزيتون والمراد من الكلام بمنابت التين والزيتون , فيكون مذهباً وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل , ولا من قول من لا يجوز خلافه لأن دمشق بها منابت التين , وبيت المقدس منابت الزيتون " .
    وجاء في تفسير ابن كثير " وقال بعض الأئمة , هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار , فالأول محلّة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام , والثاني طور سينين , وهو طور سيناء الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام , والثالث مكّة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً , وهو الذي أرسل فيه محمداً صلى الله عليه وسلم ... فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان , ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهما " .
    قلت : ولم أفهم قوله رحمه الله : مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي , فمن المعلوم أن موسى صاحب الطور قبل عيسى صاحب بيت المقدس زمانيّاً , إذ يظهر أن هناك خللاً ما , حتى وقعت على نصِّ شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه , الذي عناه ابن كثير بقوله " وقال بعض الأئمة " فعرفت أن في الكلام المنقول عنه نقصاً , والكلام في الأصل هذا نصّه " ولما كان في التوراة خبرٌ عنها – وكان قد نقل قبل النَّص من التوراة إذ قد ذُكِرت فيها الأماكن الثلاثة هذه ورُتّبت حسب الزمان بدءاً بالطور ثم بيت المقدس ثم بمكّة – أخبر بها على الترتيب الزماني , فقدّم الأسبق فالأسبق , وأما في القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها , وذلك تعظيم لقدرته لأن أشرف الكتب الثلاثة " القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل " وكذلك الأنبياء , فأقسم بها على وجه التدريج .
    وقد قال الدكتور مُساعد الطيار في التعقيب على هذا القول المنقول عن السلف " وهذا الذي قاله السلف في تفسيرهم حق , ويدُل عليه ظاهر التنزيل , لأن الله سبحانه عَطف على هاتين أسماء أماكن , وهذا يشير إلى أن المُراد بالقسم هاتان الشجرتان وأماكن نباتهما , ولهذا كانت كل الأقوال المذكورة في التين والزيتون لا تخرج عن الشام .
    وإننا إذا تأملنا كل ما مضى من الآيات المعظِّمة لشأن بيت المقدس وجدنا أنها جميعاً آيات مكّية وبعضها متقدّم النزول , وهذا دالٌّ على أن خصوصية بيت المقدس قد سبقت إلى معارف الصحابة من دينهم , وأنه استقر فيها وقت قرار الأصول العقيدية والتشريعية , قبل الوصول إلى الفروع والأحكام التفصيلية من دين الله , ثم كانت سورة المائدة المتأخّر نزولها ليجيء فيها وصف بيت المقدس بالأرض المقدسة { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } " المائدة : 21 " .
    والحق أن استقصاء أدلّة المكانة المرموقة لبيت المقدس أمرٌ لعلّه يطول في مقام كهذا , لكنني أكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى المفاصل الكبرى التي أنزلت بيت المقدس في تلك المكانة المرموقة من الدين , وعظَّمَتْه في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبالإشارة إلى أثر الخطّة الشرعية في ذلك عليهم في ذلك رضي الله عنهم , وتفاعلهم مع قضية بيت المقدس , فقد تعلقت قلوب الصحابة الكرام ببيت المقدس , وتشوّقت إليه نفوسهم ورحلت إليه أرواحهم وأحلامهم قبل أن يرحلوا إليه فاتحين بأبدانهم .
    يتبع بحول الله – الجزء الثاني من " مكانة بيت المقدس في الإسلام " !
    .......

  8. #8
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي مكانة بيت المقدس في الإسلام ! الجزء الثاني .


    ألمطلب الثاني " 2 " !
    مكانة بيت المقدس في الإسلام
    .......

    والناظر في تاريخ السيرة وتاريخ الأحكام وتَنَزُّل القرآن يدرك السبب ويدرك المُسبب تمام الإدراك , فبالإضافة إلى ما ذُكِر من قبل , فقد توجَّه المسلمون إلى بيت المقدس فور توجههم إلى الله تعالى بالصلاة , وبقوا على هذا قريباً من أربعة عشر عاماً ونصف , ثلاثة عشر عاماً في مكّة المكرمة منذ أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً كما ورد في حديث البراء رضي الله عنه قال " صلّينا مع النبي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً , ثم صرفه نحو القبلة " يقصد المسجد الحرام .
    والصلاة وإن لم تكن فُرِضَت على النحو الأخير إلا ليلة أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , إلا أن المسلمين قد صلّوا منذ عرفوا الإسلام , وإنما صلّوا نحو بيت المقدس طول تلك المدّة , وإن كان نفرٌ من العلماء ذهبوا إلى أن مدّة استقبال بيت المقدس كانت تلك التي صلاّها أول مقدمه المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً , والأول قول الجمهور , ويمكن تقرير الخلاف في المسألة والترجيح فيها على وجه العجل كما يأتي :
    ألإجماع قد انعقد على أن المسلمين قد استقبلوا بيت المقدس بعد هجرتهم إلى المدينة مدّة من الزمان حدّدها البراء بن عازب بستة عشر أو سبعة عشر شهراً وقد ذُكر خلافٌ في تحديدها لكن الخلاف إنما وقع في قبلة المسلمين قبل الهجرة إلى المدينة , هل كانوا مأمورين باستقبال الكعبة أو بيت المقدس ؟ فقالت طائفة : كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فُرضت الصلاة بمكّة إلى أن قدم المدينة ثم بالمدينــة حينــاً مــن الزمان اختلفوا في تقديره – كما أشرت - .
    ورووا في ذلك عن مجاهد عن ابن عباس قال : " صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وهو بمكًة والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً ثم صُرف إلى الكعبة " , وقال ابن إسحق : " كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إلى الشام وكانت صلاته بين الركن اليماني والركن الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام .
    وذهبت طائفة أخرى إلى أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى أوّل ما افترضت عليه الصلاة إلى الكعبة ولم يزل يصلّي إلى الكعبة طول مقامه بمكّة ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهراً أو ستة عشر شهراً أو نحوها حتى صرفه الله إلى الكعبة .
    ورووا كذلك آثاراً منها : عن ابن جريج قال : صلى نبي الله أوّل ما صلى إلى الكعبة ثم صُرف إلى بيت المقدس فصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث جُمَع وصلى بعد قدومه ستة عشر شهراً ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام .. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أوّل ما نُسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره أن يستقبل بيت المقدس ففرحت يهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهراً ثم انصرف إلى الكعبة .
    وقد رجّح ابن بطّال في شرحه على البخاري رأي الفريق الأول من منحى حديثي فقال في الموازنة بين الروايات المذكورة عن ابن عباس – والتي سلف ذكرها : " ففي خبر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه عليه السلام لم يُصّلِّ إلى بيت المقدس إلا بالمدينة خلاف ما في خبر مجاهد عنه وخلاف ما قال ابن جريج , وخبر مجاهد أولى بالصواب لآن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس .
    وأما ابن عبد البر فقد رجّح الرأي الثاني واستدلَّ بحديث البراء – الذي ندرسه – فقال " فظاهر هذا الخبر يدُل على أنه لمّا قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك .
    وتُسمّى هذه الدلالة من الحديث " مفهوم المخالفة " وفيها يُعطى للمسكوت عنه حكم بخلاف الحكم الذي أعطي للمذكور , وفي حديث البراء نصَّ على أنه صلى بالمدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس فدلّ – على طريقة مفهوم المخالفة – على أنه قبل هذه المدة قد استقبل المسجد الحرام .
    والحق أن مفهوم المخالفة هو أضعف المفاهيم عند الأصوليين , ففي الاستدلال به ضعف غير خافٍ خصوصاً عند التأمّل في السياق .
    وعلى أية حال فالمسألة محتملة وآيات سورة البقرة كذلك النازلة في المسألة لا تدُل من وجه القطع على أحد الأمرين , على أن الأوّل هو الأشهر بين العلماء , وهو الذي يميل إليه خاطري بسبب النظر في المسألة ودواعيها وملابساتها والله أعلم بالصواب من ذلك .
    وإذا كان هذا صحيحاً فقد صلى المسلمون معظم البعثة النبوية باتجاه بيت المقدس , فلا غرو إذا أن تتعلّق قلوبهم وأن يتشوَّقوا إلى تحريره وتخليصه من الرومان في ذلك الأوان .
    ثم إن المتأمل يدرك توجه الأحداث نحو تحقيق مكانة المسجد الأقصى في قلوب المسلمين وفي عقيدة الإسلام , ذلك أنه كان يمكن أن يعرج بالنبي صلوات الله وسلامه عليه إلى السماوات العُلى مباشرة بدون الإسراء به إلى بيت المقدس , لكن حكمة العليم الخبير اقتضت أن يكون ذلك المسجد وتكون تلك الأرض محطة رئيسة في هذه الرحلة الشهيرة , يؤم فيها النبي سائر الأنبياء , في إشارة إلى تسليم زمام الإمامة إليه عليه السلام , وإيكال مهمة رفع راية التوحيد لهذه الأمة المسلمة , خاتمة الأمم وخيرها .
    وإنما كان ذلك والله أعلم ليُشار إلى أن إرث الأنبياء الأقدم في هذه البقعة وعمق جذور التوحيد فيها قد تسلمتها هذه الأمة " رسمياً " من أنبياء الله جميعاً , ينوب عنها نبيها صلوات الله وسلامه عليه وعليهم , فيزداد المسلمون تعلقاً بمسرى نبيهم ومشهد لقائه مع إخوانه الأنبياء , ويُسَطّر القرآن الحادثة – حادثة الإسراء – في سورة الإسراء في منتصف كتاب الله تقريباً , ألأمر الـــذي أدرك رواد الدعـــوة الإسلامية الأُوَل مغازيه وأسراره , فأوقع في قلوبهم ما ذكرنا من التعلّق بتلك الأرض والتحرك في الفتوح تجاهها .
    ثم بيّن النبي أن المسجد الأقصى أحد ثلاثة مساجد تُشَد إليها الرحال ولا تُشَد لغيرها , فقال عليه السلام ( لا تُشّدٌّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد , المسجد الحرام ومسجد رسول الله والمسجد الأقصى ) , ولم يكن المسلمون بطبيعة الحال – إذ ذاك – قد فتحوا المسجد الأقصى ولا خرجوا خارج جزيرة العرب بجيوشهم – اللهم إلا إن كانوا قد خرجوا إلى مؤتة وتبوك .
    فكان في الحديث إلماحاً إلى الحَثِّ على تخليص المسجد من السيطرة الرومانية على طريق اللزوم , إذ يلزم حتى تُشَد الرحال إليه وتتم العبادة فيه على وجهها أن يتم تحريره , وقد قعّد الأصوليون أن " الأمر بالشيء أمر بلازمه " .
    ومثل هذا حديث ميمونة بنت سعيد مولاة رسول الله قالت : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ؟ قال ( إيتوه فصلوا فيه – وكانت البلاد إذ ذاك حرباً – فإن لم تأتوه وتصلّــوا فيــه فابعثــوا بزيــتٍ يُســرج فــي قناديله ) .
    وقد استوقفني قولها " وكانت البلاد حرباً " , والمقصود أنها دار حرب لأنها لم تُفتح إلا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة خمس عشرة أو ست عشرة من الهجرة , فهل في هذا الحديث على الرغم من الحالة السياسية في بيت المقدس أمر بإتيانه على ما أحدثه فيه الرومان ؟ أم أنه إذ أمر بإتيانه أمر بلازم الإتيان – وهو الفتح والتحرير - ؟ يميل خاطري إلى الثاني لأسباب , الأستطراد في بيانها قد يخرج بنا عن مقصود الطلب .
    وفي غزوة تبوك يروي لنا مالك بن عوف الأشجعي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم له , يقول فيه : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قُبَة من أَدَمٍ فقال ( اعدُد سِتّاً بين يدي الساعة .. موتي ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقُعاصِ الغنم ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً ثم فتنة لا يبقى بيتٌ من العرب إلا دخلته ثم هُدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتوكم تحت ثمانين غاية , تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً ) .. وهذا وإن كان خبراً من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا منه التوجيه نحو الفتح , وهذا ما كان منهم , حيث توجه أشياخهم نحو تنفيذ الوصية النبوية .
    وحاصل الأمر أن كل هذا قد أحدث في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم اهتماماً بالغاً بأمر بيت المقدس , حتى إنه – كما رأينا في حديث ميمونة – وهي مولاة رسول الله – يصل الاهتمام ببيت المقدس إلى الصحابيات بل إلى الموالي منهن , حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة " أفتنا " المنبّئة عن وجود ما يقتضي الفصل والبيان .
    وحتى يتذاكر الصحابة مسائل بيت المقدس في مجلس رسول الله , وتذهب طائفة منهم – كما يبدو – إلى تفضيل بيت المقدس على مسجد رسول الله إلى أن بيّن لهم – عليه الصلاة والسلام – أن مضاعفة أجر الصلاة في المسجد النبوي أعظم من مضاعفتها في المسجد الأقصى , فعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل .. أمسجد رسول الله أفضل أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه , ولنعم المصلى , وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً ) .
    وفي الحديث فوائد عظيمة , منها التنبيه على مضاعفة أجر الصلاة في المسجد الأقصى , وأنها تعدل مائتين وخمسين صلاة فيما سواه , إذ ثبت أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه , وأما الفائدة الثانية ههنا , فهي في قوله عليه الصلاة والسلام " وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً " , وشطن الفرس هو الحبل الذي يُربط به , وهذا حديث عجيب .
    أيُّ منزلة تلك التي تجعل لبيت المقدس كل تلك المكانة العظيمة في قلوب أجيال التحرير " أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يُرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً " ؟؟
    وفي الحديث إخبارٌ بالغيب , وهو وجود مثل هذه الحالة العجيبة من الشَّوق إلى بيت المقدس بل إلى رؤيته ولو من بعيد .
    فقوله " ليوشكن " دليل ذلك والإشارة فيه إلى زمن يَقدُم ليست صِفَته حاصلة وقتها فهو إخبار عن قُرب ذلك العهد الذي تقع فيه هذه الصورة .
    والأعصُر التي كان المسلمون فيها محافظين على مسجدهم الأقصى لم يكن هذا الوصف واضحاً إذ كان الرجل يمكنه أن يأتي المسجد الأقصى كما يأتي مكّة والمدينة فيُطفىء شوقه إلى الصلاة فيه والاعتكاف ويروي ظمأه من ذلك وتقرّ عينه بجماله ويبرد شوقه بوصله , لكن مثل هذه المشاعر إنما تفيض في زمن حيل بين المؤمنين أصحاب الحق وبين المسجد ومُنِعوا دونه وهم يتوقون إلى رؤيته ويذوبون شوقاً إلى تحريره , ولعله هذا الزمان .
    لعل التأمل في هذا الحديث يُسهم في تصوّر مكانة بيت المقدس في الإسلام , نعم , " حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً " .
    ويمكن للكلام أن يكون أطول بكثير مما قدّمت في الصفحات القليلة لكن أكتفي بما ذُكر ليدُل على ما وراءه , والحمد لله رب العالمين .
    يتبع المبحث الثاني " العداء اليهودي للدعوة الإسلامية " !
    .......

  9. #9
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي ألمبحث الثاني .......

    ( ألمبحث الثاني )
    ألعداء اليهودي للدعوة الإسلامية
    .......
    ألمطلب الأول :
    تاريخية العداء وأسبابه .
    ألمطلب الثاني :
    من صُوَر العداء اليهودي للدعوة الإسلامية وطبيعة الكيد فيها .
    .......

    ( ألمبحث الثاني )
    ألعداء اليهودي للدعوة الإسلامية

    تمهيـــــد :

    من الأسس المهمة التي يقوم عليها الصراع مع بني إسرائيل , وتنتهض على أساسها المعركة القادمة معهم : ألأساس العقيدي والتاريخي والاستراتيجي للعداوة اليهودية للإسلام وأهله .
    ولا يمكن فهم المعركة مع اليهود بمعزل عن هذا الأساس , إذ قد أضفى لونه الخاص وطابعه المميّز عليها يوم أعلنت يهود عداوتها التاريخية والأبدية لهذا الدين يوم زاحمها في المدينة وسيأتي بيان ذلك .
    ويصعُب في هذا المبحث استقصاء العنوان على الوجه الأتَمْ الأكمل " العداء اليهودي للدعوة الإسلامية " فقد صنَّف فيه بعض كبار أهل العلم اليوم تصنيفات واسعة شاملة كأمثال : الشيخ البهيّ الخولي في كتابه الرائع " بنو إسرائيل في ميزان القرآن " الذي عرض الموضوع فيه عرضاً أدبيّاً فكريّاً ثريّاً أتى فيه على شيء من حقيقة القوم وبواعث نفوسهم وخبثها .
    وألَّف فيه كذلك الشيخ – الموفَّق عبد الرحمن حبنكة الميداني – كتاباً متفرّداً سمّاه " مكايد يهودية عبر التاريخ " عرض فيه لأساليب وسُبُل المكر والكيد التي سلكتها يهود في حرب الحق عامة , وخصوصاً الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة إلى يومنا هذا .
    وألَّف شيخنا " الدكتور صلاح الخالدي " كتاباً استقصى فيه سمات – الشخصية اليهودية – وصفاتها على طريقة التفسير الموضوعي , أجاد فيه وبيَّن وأفاد .
    كما ألَّف غيرهم – جزاهم الله خيراً – في الموضوع ما يُغني عن الاستقصاء الذي لن يخلو عن التكرار لما تمَّ بيانه وتحريره على وجه بديع في الكُتُب المُشار إليها .. ويكفينا ههنا الإشارة إلى ما يستقيم به موضوع الكتاب ويكتمل " أسس المعركة القادمة مع اليهود من المنظور القرآني " وأُضيف ما فتح به الله سبحانه وأعان ووفّق وله الحمد في الأولى والآخرة وهو السميع العليم .
    .......
    يتبع – المطلب الأول " تاريخية العداء وأسبابه " .
    .......

  10. #10
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المطلب الأول : تاريخية العداء وأسبابه !


    ألمطلب الأوّل
    تاريخية العداء وأسبابه
    .......

    ..... لم يكن عداء اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه أوَّل عداءٍ للحق , فإن اليهود قد اعتادوا على هذا وأَلِفوه حتى صار لهم سَجِيّة وخُلُقاً , قال الله تعالى في حقّهم ( سأصرف عن آياتِيَ الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق وإن يَرَوا كل آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يَرَوا سبيل الرُّشْد لا يتّخذوه سبيلاً وإن يَرَوا سبيل الغَيِّ يتّخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } " ألأعراف : 146 " , نعم , صار هذا لهم سجِيّة وخُلُقاً وهذا ما أورثهم إيّاه تكبُّرهم فــي الأرض بغيــر الحــق وإعراضهــم عمــا اقتضتــه مقتضِيات الإيمان ومُقتضَياتُه ولقد قال لهم نبيّهم الأعظم موسى عليه السلام { يا قـوم لِـم تؤذوننـي وقـد تعلمون أنّي رسول الله إليكم } " الصف : 5 " , وما كان منه عليه السلام بعد طول صحبة ومعاينتهم لآيات قريبة من الآيات المُلْجِئَة إلا أن رفع يديه إلى السماء مُعلناً براءته وإياسه من قياد القوم إلى الإيمان وطَبْعِهم بطباعه فقال – كما في قصة التيه من سورة المائدة – وهي آخر مشهد تاريخي في العلاقة بين موسى وبني إسرائيل { قال ربِّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين } " 25 " .
    ..... { لا أملك إلاّ نفسي وأخي } ... هي هكذا مُنبئة عن عناد كُفريّ وخُبثٍ نفسيّ فَقَدَ معه نبيّهم الأكبر آخر أملٍ في استقامة القوم وانعدال منهجهم وانقياد نفوسهم .
    ..... مشهدٌ مؤيِسٌ من " صلاحهم " أو إمكانية " تعايشٍ " معهم , وقاطعٌ لطمع المؤمنين في إيمانهم لهم { أفَتَطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يُحَرّفونه من بعــد مــا عقلــوه وهــم يعلمون } " البقرة : 75 " .
    ..... أما مقدِم محمد صلى الله عليه وسلم المدينة فشَرُّ يومِ رآه اليهود أقسموا معه التزام غضب الله عليهم غضبٍ على غضب بعداوتهم لرسوله ودينه ودعوته إذ تروي أمُّ المؤمنين صفيّة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت ابنة حُيَي بن أخطب سيد بني النضير وأحد كبار أحبار اليهود , تقول " كنت أحَب ولد أبي إليه وإلى عمّي أبي ياسر بن أخطب لم ألقهما قَط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه .. قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قباء , غدا عليه أبي وعمّي أبو ياسر لينظرا إليه فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس وأتيا كَسلانَين ساقِطَين يمشيان الهُوينى فهششت إليهما , فوالله ما التفــَت إلــَيَّ واحــدٌ منهما لما بهما من الغَم فسمعت عمّي وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهــو هــو ؟ قــال : نعــم ! قــال : أتعرفه وتُثبته ؟ قال : نعم ! قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت " !!.
    ..... لم تكن هذه حالة خاصّة في القوم , بل هي الحالة العامّة قال تعالى { ولمّا جاءهم رسول من عند الله مُصَدّقٌ لما معهم نَبَذَ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } " البقرة : 101 " .
    ..... بل العجيب أنه على الرغم من معلومية النبي عندهم وورود خبره في التوراة التي بين أيديهم ظاهر الوصف لا تُخطئه عين راءٍ كما قال تعالى { ألذين يتَّبعون النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهــم فــي التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر ويُحِل لهم الطيبات ويُحَرّم عليهم الخبائث ويَضَع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزَّروه ونَصَروه واتَّبَعوا النَور الذي أُنزِل معه أولائك هم المفلحون } " ألأعراف : 157 " , وقال سبحانه { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } " البقرة : 146 " , على الرغم من ذلك كانوا أوّل كافرٍ به والذي يزيد الأمــر غرابــة ويزيــد مُتأملَه دهشةً وذهولاً .. أنهم هم الذين كانوا يستفتحون على العرب بمَقْدِمِه ويُبَشّرون به , قـال سبحانــه { ولمّا جاءهم كتاب من عند الله مُصَدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } " البقرة : 89 " .
    ..... اختار اليهود لأنفسهم عداء الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وسعوا في إفساد الأرض مقابلة لإصلاح النبي الجديد فيها وأوضعوا خلال أصحابه يبغونهم الفتنة وودّوا لو منعوا وحْيَ السماء وخيرها أن يُنَزَّل عليهم { ما يَوَدُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنَزَّل عليكم من خيرٍ من ربّكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } " البقرة : 105 " { وَدَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يَرُدّوكم من بعد إيمانكم كُفّاراً حَسَداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق } " البقرة : 109 " .
    أما الإسلام فقد مدَّ في مواجهة ذلك من أوّل يوم آصرة الإيمان التي لا تنقض ناموساً ولا تثير ضغينة , إذ تُمَجّد الله وتؤمن بالرُّسَل كافة , ولذا كان يُعجِّب من حالهم المناقض لدعاوهم في منطق ســامٍ حاســمٍ { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنّا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل من قبل وأن أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " , فإذا رأيت هذا المنطق سموّه ونُبله فانظر قوّته في كشف المستور من بواعث الضغن للاشيء بل بواعث الضغن لأعلى قِيَم الحياة { هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله } !! وهــل ذلك أمــر يثيــر النقمة ؟!.
    ..... والناظر في القرآن الكريم يجد كثرة وجود قصص بني إسرائيل وكثــرة وصفهــم وبيــان أخلاقهــم وسماتهم الاجتماعية والإيمانية حتى أن قصصهم لهي أكثر قصص القرآن وجدالهم وبيــان مؤامراتهــم ومواجهتهم لهي سمة بارزة في كتاب الله تعالى .. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في بيان الحكمة من هذا في تفسيره " إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصّلها القرآن أوسع تفصيل ذلك لحكمة مُتَشَعّبة الجوانب " !
    ..... من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أوّل من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها فقد كانوا حرباً على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأوّل , هم الذين احتضنوا النّفاق والمنافقين في المدينة وأمدّوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معاً , وهم الذين حرّضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة وهم الذين تولّوا حــرب الإشاعــات والــدَّس والكيد في الصّف المُسلم , كما توَلّوا بث الشُّبُهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة وذلك كله قبل أن يُسفروا بوجوههم في الحرب المُعلنة الصريحة فلم يكن بُدٌّ من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها ؟ وما طبيعتهم ؟ وما تاريخهم ؟ وما وسائلهم ؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟
    ..... ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمّة في تاريخها كله كما كانوا اعداء هدى الله في ماضيهم كله , فعرض لهذه الأمّة أمرهم كله مكشوفاً ووسائلهم كلها مكشوفة .
    ..... ومن جوانب هذه الحكمة .. أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير وقد امتدّ تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تُلِمَّ الأمّة المسلمة – وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها – بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم لتضُم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنتفــع علــى مــدار القــرون ولتتقي – بصفة خاصة – مزالق الطريق ومداخل الشيطان وبوادر الانحراف على هدى التجارب الأولى .
    ..... ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسوا قلوبها وتنحرف أجيال منها وأن الأمّة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائي فجعل أئمّة هذه الأمّة وقادتها ومُجَدّدي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تُلِمُّ بالأمم , يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته , ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلــوب التــي عرفــت ثــم انحرفت !.
    ..... فالقلوب الغُفْل الخامّة أقرب إلى الاستجابة لأنها تُفاجأ من الدعوة بجديد يهُزُّها وينفضُ عنها الرّكام لِجِدّته عليها وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأوّل مرّة , فأما القلوب التي نوديتْ من قبل فالنداء الثاني لا تكون له جِدّته ولا تكون له هزَّته ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجِدِّيَّته ومن ثَم تحتاج إلى الجهد المضاعف وإلى الصبر الطويل .
    ..... وقد يقول قائل : إن القرآن كان يتحدث عن بني إسرائيل في تاريخهم القديم وحديثه عنهم لا يقتضي الانطباق على خَلَفهم من المعاصرين ! وبالتالي كيف يمكن أن نعُدَّ هذا أساساً من أسس المعركة مع بني إسرائيل اليوم ؟ وهذه مغالطة خطيرة الآثار فإننا على يقين من أن تحليل القرآن للنفسية اليهودية يتَّصف بالصدق الفنّي المؤَثّر ويتَّصف كذلك بالصدق الواقعي .
    ..... وصف القرآن لبني إسرائيل وأخلاقهم ونفسيّاتهم وانحرافاتهم وأمراضهم ينطبق على أولائك الأفراد الذين كانوا زمن موسى عليه السلام وينطبق عليهم بعده , زمن أنبياء آخرين من أنبيائهــم , مثــل داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام , وينطبق كذلك عليهم زمن محمد صلى الله عليه وسلم كما ينطبق على اليهود في القرون اللاحقة , أينما أقاموا وحيثما استوطنوا في الشرق أو في الغرب .
    ..... ونرى نحن المسلمين اليوم – الذين ابتلينا بالفتنة اليهودية – هذا التحليل القرآني ينطبق تماماً على اليهود المعاصرين ونكاد عندما نتلوا الآية التي تصفهم وتكشف مكايدهم وخُبثهم نقول : لعلّها تنزّلت تقصد القوم اليوم فالتاريخ والواقع شاهدان عدلان على صحة التحليل القرآني ودقّته للنفسية اليهودية وإن كان صدقُ النَّص القرآني ودقّته لا تعوزها شهادة الشهود .
    يتبع – الجزء الثاني من تاريخية العداء وأسبابه !
    .......

  11. #11
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألجزء الثاني من
    تاريخية العداء وأسبابه
    .......

    ..... نعم .. سلك اليهود في مواجهة دعوة الإسلام كل سبيل وبذلوا كل جهد واتَّقدَت في نفوسهم جذوة العداء أيما اتّقاد , حتى أحرقت قلوبهم فكانوا أشد الناس عداوة لهذا الدين وأهله لا يزاحمهم في هذا إلاّ عبدة الأوثان , مَنْ أطاح الإسلام بعروشهم { لتجِدَنَّ أشَدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } " المائدة : 82 " .
    ..... " لَتَجِدَنَّ " بهذين التوكيدين – اللام والنون – نون التوكيد الثقيلة مخاطباً بها كل مَنْ يَصْلُح له الخطاب ., لكأن وضوح عداوة يهود وشراستها للذين آمنوا أمرٌ " يَجِده " كل ناظر ويُدركه كل واحد ويلاحظه كل من يَصلُح له الخطاب فضلاً عن كونه متأمِّلاً متدبّراً عاقلاً حصيفاً .
    ..... وما زالت يهود تكيد للمسلمين في المدينة شتى المكائد – كما سيأتي بيان شيء منه في المطلب الثاني – حتى أَرداها كيدها وأصاب نحرها وفَرَّق جمعها وأخرجها من ديارها , إذ نقضت العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتآمرت عليه بعد سلسلة طويلة من الكَيد الخفيّ , آل ذلك كله إلى تسليط الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم { ولكنَّ الله يُسَلّط رُسُلَهُ على مَن يشاء } " الحشر : 6 " , فاستأصل شأفة بعضهم بقتل وإخراج وأوهى أركان الوجود اليهودي في الجزيرة حتى كان إخراج آخرهم في عهد الفاروق عمر تربت يداه ورضي الله عنه وأرضاه .
    ..... ويمكن – بعد – إجمال الأسباب الكامنة وراء تحريك هذا الحقد اليهودي وبناء منظومة العداء تجاه هذا الدين بما يلي :
    ..... أولاً : اعتقادهم أنهم شعب الله المختار , وأنهم أبناء الله وأحبّاؤه , وما ترتَّب على ذلك من فساد في التّصَوُّر وفسادٍ في الأخلاق وفسادٍ في العمل .
    ..... أمّا أنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار فهي الفِرْية الكبرى التي تَعالَوا بها على عباد الله فاحتقروهم , وتجَرّؤوا بها على محارم الله فانتهكوها , ثم نظروا إلى كل مَن آتى الله خيراً فحسدوه وآذوه , وكان من الطبيعي – إذ ذاك – أن يقفوا في الشّقِّ والجهة التي تُقابلُ الحق ويعادوه .
    ..... قال تعالى { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه } " المائدة : 18 " , ومن ثَمّ لمّا كان هذا الاعتقاد السخيف مِفصلاً من مفاصل العقلية اليهودية وأساساً يتعامل فيه هؤلاء مع الخالق والمخلوق لم يُتْرَك المَقام من غير تعقيب ولا الكلام من غير رَد { قُل فَلِمَ يُعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممّن خَلَق يغفر لمن يشاء ويُعَذّب من يشاء ولله مُلك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير } " المائدة : 18 " .
    ..... لم تكن الفِرية بذلك جديرة بأن تُعرَض مَعرِض المناقشة والرَّد , ولكن القرآن عَرَض لها من ناحية إبطال التهويل التاريخي الذي أحاطوها به لتنكشف الأُكذوبة عن فصيلةٍ مدحورةٍ مغلوبة , ولم يَزِد في ذلك على أن أشار إلى ما لقيَه " الشعب المختار " في تاريخه الطويل من الاستعباد والــذُّل والقتــل والأســر والتشريد إشارة مُعجزة في إيجازها ودِقّة عرضها الذي يكشف القناع عن الزَّيف , فإذا رفعوا صدورهم متعالين بقولهم " نحن أبناء الله وأحبّاؤه " قال لهم " فلم يعذبكم بذنوبكم " , أي فلــِمَ ضـــرب عليكـــم بخطاياكم ملاحم النِّكال التي لاحقكم بها فلَم تسلموا منها في أيّ عهد ؟.
    ..... وهذا السؤال – وإن اكتُفي فيه بالإشارة عن العبارة – لا يستطيعون المكابرة في إجابته , وهو بذلك ينزع عنهم دعوى الامتياز الكاذب , لأن الله لا يَضرِب أحبابه ومُختاريه بالذُّل والعار , ولأن مختاريه لا يقترفون ما يجعلهم في كل دهرٍ أمثولة في الفساد والخطيئة .
    ..... وقصْد القرآن من ذلك إنصاف العقول , فلا تؤخذ بزَيْف الدعاية لِتَرى هؤلاء على حقيقتهم ولذا عقّب القرآن بأحكم ما يُناسب المقام إذ قال { بل أنتم بشرٌ ممّن خَلَق يغفر لمن يشاء ويُعذّب من يشاء } " المائدة : 18 " , وقد ترتّب على هذا المُعتقد – بطبيعة الحال – سلسلة من الانحرافات العقيدية والسلوكية , منها زعمهم بأن الله لن يُعذبهم في النار إلاّ أيام معدودات !! مهما فعلوا واقترفوا واجترحوا من السيّئات !! { ذلك بأنهم قالوا لن تمسّنا النار إلاّ أيّاماً معدودات } " آل عمران : 24 " .
    ..... وكفاك بهذا انحرافاً عقيديّاً أفقدهم شرعيّة الإيمان بالآخرة , كما قال تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يُحَرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحــق مــن الذيــن أوتــوا الكتــاب } " التوبة : 29 " , إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي عنهم الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر أصلاً .
    ..... والمسألة – من ثَم – ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب , إنما هي كذلك فساد الحياة كلهــا بنــاءً على هذا الانحراف .
    ..... واليهود والنصارى بادّعائهم أنهم أبناء الله وأحبّاؤه كانوا يقولون تبعاً لهذا .. إن الله لن يُعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار – إذا دخلوا – إلا أياماً معدودات { وقالوا لن تمسّنا النار إلا أيّاماً معدودة } " البقرة : 80 " , ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مُجراه ! وأنه سبحانه يحابي فريقاً من عباده فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يُعذبهم عذاب المُفسدين الآخرين ! فأيُّ فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن يُنشئه مثل هذا الانحراف ؟.
    ..... ومن الانحرافات التي ترتّبت على هذا المُعتقّد كذلك احتقارهم الناس واستباحة حُرُماتهم , واعتبار ذلك ديانة فلا يلحقها تأنيب للضمير , ولا خوفٌ من مراقبة العليم الخبير { ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يُؤدّه إليك ومنهم مَن إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دُمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } " آل عمران : 75 " .
    ..... والمعنى : أن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلاً , وقد ذكروا السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً منها .. أن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه , والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال العبيد .
    ..... وإذا كان اليهود على هذه الطريقة في التخالق مع عباد الله في الدرهم والدينار , فأجدر إذاً أن ينازعوا الناس فيما هو أكبر وأعظم وأخطر , وهو النبوّة ووراثة الدين .
    ..... فلا جرم إذن أن تحصل في قلوب اليهود العداوة العظمى لهذا الدين وأهله , فينقموا منهم ومن عقيدتهم ومقدساتهم , ويأخذوا على كواهلهم حرباً لا تهدأ ولا تنتهي إلا أن تقطّع قلوبهم , عجّل الله تقطيعها وردّ كيدهم في نحورهم وأورثهم عاقبة مكرهم .
    ..... حدّثنا الله عن كل ذلك في كتابه الهادي , تعريفاً لنا بطبيعتهم وهداية لنا إلى سبيل التعامل معهم وتحذيراً لنا من الطمع في تحصيل إيمانهم وانقيادهم للحق واحترامهم للمواثيق { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يُحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } " البقرة : 75 " .
    ..... ألا إنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء , فللإيمان طبيعة أخرى واستعداد آخر , إن الطبيعة المؤمنة سمِحةٌ هيّنة ليّنة , مُفَتّحة المنافذ للأضواء مستعدّة للاتصال بالنّبع الأزلي الخالد بما فيه من نداوة ولينٍ وصفاء , وبما فيها من حساسية وتَحَرُّج وتقوى , هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تُحرّفه من بعد ما تعقله , تحرّفه عن علمٍ وإصرار , فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمةٌ تتحرّج من هذا التحريف والالتواء .
    ..... والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المُنَزَّلة عليهم في كتابهم , هم الأحبار والربّانيون الذين يسمعون كلام الله المُنَزَّل على نبيِّهم موسى في التوراة ثم يحرّفونه عن مواضعه ويُؤَوِّلونه التأويلات البعيدة التي تَخرُج به عن دائرته , لا عن جهل بحقيقة مواضعه , ولكن عن تعَمّد للتحريف وعلمٍ بهذا التحريف .. يدفعهم الهوى وتقودهم المصلحة ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب " أولى " ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم , وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى عليه السلام , ومن باب أولى – وهذا خراب ذممهم وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه – أن يعارضوا دعوة الإسلام ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب .
    ..... ولعلّ هذا الكلام يفضي بنا إلى سبب آخر متصل بهذا السبب , لأجله كانت عداوة يهود للإسلام على هذا الوجه وبهذه الطريقة , وهو ما أذكره على سبيل الاختصار في النقطة التالية .
    ..... ثانياً : فسق اليهود وعتوّهم وجرأتهم على الله تعالى , وكثرة المعاصي التي جرّت القوم إلى شقِّ طريق الفُسق طريقاً مسلوكاً لهم , ونهج الشَّر نهجاً مرغوباً عندهم , ففي تفسيــر للآيــة السابقــة الذكــر { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد مــا عقلــوه وهــم يعلمون } " البقرة : 75 " , يقول شيخ المنار " فدلّ هذا – يقصد التأييس من إيمانهم وقد صدر منهم ما صدر – على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبّر , ومكابرة الحق والتفصِّي من عقال الشريعة , كان شنشنة قديمة فيهم , ثم تأصّل فصار غريزة مطبوعة , فإعراضهم عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه ولا القول بتسلُّق شيء من الرَّيْب إليه , فإنهم حرّفوا وبدّلوا وعاندوا وجاحدوا وهم يشاهدون الآيات الحِسّيّة ويؤخذون بالعقوبات المعاشية , فكيف يُسْتَنكَر بعد هذا أن يُعرِضوا عن دينٍ دلائله عقليّة وآيته الكُبرى معنوية ؟ .
    يتبع – الجزء الثالث من تاريخية العداء وأسبابه !
    .......

  12. #12
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي الجزء الثالث من تاريخية العداء اليهودي للإسلام .


    ألجزء الثالث من ...
    تاريخية العداء وأسبابه
    .......

    ..... أما فُسْق اليهود وكثرة معاصيهم وجرأتهم على ربهم فشواهده أكثر من أن تُحصى في مثل هذا المقال , وهو الذي أنزل بهم عذاب الله وعقابه وحرمهم من فضله ورحمته .
    ..... من ذلك : نقضهم مواثيق الله وعهوده , قال تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما ءَاتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأُشْربوا في قلوبهم العِجْل بكُفرهم } " البقرة : 93 " , وقال سبحانه وتعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبَيّننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } " آل عمران : 187 " , وقال عزَّ وجّلَّ { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رُسُلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهـوى أنفسهــم فريقــاً كذّبــوا وفريقــاً يقتلــون } " المائدة : 70 " .
    ..... وقد وُصِفوا بالفُسق كثيراً في كتاب الله تعالى , بل لعله لم يَكَد يُطلَق الفُسق في القرآن وصفاً على أحد إلا وكان اليهود هم المقصودين , ومنه قوله تعالى { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أُنْزل إلينا وما أُنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " , وقوله سبحانه { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيّ وما أُنزِل إليه ما اتّخذوهم أولياء ولكنَّ كثيراً منهم فاسقون } " المائدة : 81 " .
    ..... وقد أورثهم الله عزَّ وجلَّ عاقبة فُسقِهم , أورثهم إياها في الدنيا , وهو مورثهم إيّاها فــي الآخــرة : { فبما نقضهم ميثاقهم وكُفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غُلف بل طَبَع الله عليها بكُفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } " النساء : 155 " , وقال { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهُم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحَرّفون الكَلِم عن مواضعه ونسوا حظّــاً ممــا ذُكّــروا بــه ولا تــزال تطّلــع علــى خائنــة منهــم } " المائدة : 13 " .
    ..... ثالثاً : ومن الأسباب التي لأجلها اندفع اليود في عدائهم لهذا الدين وأهله " الحسد " ذلك الحسد الذي تمكّن من قلوب اليهود تاريخيّاً تجاه الإسلام ونبيّه , ذلك أنهم كانوا يرَون – ابتداءً – أحقيّتهم بالنبوّة !! { أهم يقسمون رحمة ربّك } " الزخرف : 32 " , فلما آتاه الله تعالى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم حسده اليهود وتمنّوا أن لو زالت عنه النعمة , وآلوا عداوته للأبد { أم يحسـدون النــاس علـى ما آتاهم الله من فضله } " النساء : 54 " .
    ..... وإذا كان اليهود إنما يَحكُم نظراتِهم للآخرين الحسد والنّقمة فإن أعظم ما قد يحسدون عليه نعمة النبوّة لنبي الإسلام ونعمة الهداية لأتباعه { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلاّ أن آمنّا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل من قبل وأن أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " .
    ..... ويرُد الله تعالى على اليهود عَجَبَهم من نزول النبوة في غيرهم , وإفضال الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بها , وما ترتّب على ذلك من كُفرهم وعنادهم وعدائهم له ولدينه { ولما جاءهم كتاب من عند الله مُصَدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن يُنَزِّل من فضله على من يشاء من عباده فباؤا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مُهين } " البقرة : 89 , 90 " .
    ..... ومعنى الآية : بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم الكُفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى عليه السلام من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم , والأمر بتصديقه واتباعه , من أجل أن أنزل الله من فضله , وفضله حكمته وآياته ونبوته – على من يشاء من عباده – يعني محمد صلى الله عليه وسلم , بغياً وحسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان من ولد إسماعيل ولم يكن من بني إسرائيل .
    ..... وهذه الآية وما أخبر الله فيها من حسد اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب , من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل , حتى دعاهم ذلك إلى الكُفر به مع علمهم بصدقه وأنه نبي الله مبعوث ورسول مُرسَل , نظيره الأية الأخرى في سورة النساء { ألم تَرَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً * أولائك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً * أم لهم نصيب من المُلك فإذاً لا يؤتون نقيراً * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينـا آل إبراهيــم الكتــاب والحكمــة وآتيناهم مُلكاً عظيما ً } " النساء : 51 – 54 " .
    ..... والمقصود بالناس في قوله سبحانه – أم يحسدون الناس – محمد صلى الله عليه وسلم , وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين , وإنما حسن ذكر " الناس " مراداً بهم طائفة منهم , لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية , كما قال تعالى { وما خلقت الجِنَّ والإنس إلا ليعبدون } " الذاريات : 56 " , فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه , كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس ولا ثمة غيرهم , وهو من لطائف الإطلاق هنا .
    ..... لم يقف حسد اليهود عند مشاعر دنيّة يرمقون بها من أنعم الله عليه بالنبوة والحكمة . بل تعدى إلى رغبتهم الشديدة في رد المؤمنين كفاراً حسداً من عند أنفسهم , كما قال سبحانه { وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعدما تبيّن لهم الحق } " البقرة " 109 " .
    ..... هذا الحسد الذي اشتعل في قلوبهم نارا لا تنطفىء , اخبر الله عز وجل باستمرارها ودوامها في قلوبهم أبد الآباد فقال { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبِع مِلَّتَهم } "البقرة : 120 " في إخبار بالغيب من علاّم الغيوب سبحانه , وفي تقعيد أساس من أسس الصراع الذي لا ينبغي لمسلم أن يجهله ولا أن يتوهّم خلافه , إذ هو إخبار العليم الخبير .
    ..... إذن فهذا الحسد الدائم سبب رئيس لاتِّقاد عداوة يهود لهذا الدين وأهله , عداوة لا تسكن ولا تهدأ , ولا تطمئن بل يزداد أوارها ويشتد سُعارها { ولا يزالون يقاتلوكم حتى يرُدّوكم عن دينكم إن استطاعوا } " البقرة : 217 " .
    ..... وقد وصف القرآن الكريم جملة المشاعر اليهودية تجاه المسلمين ب " النّقمة " , وذلك في قول الله تعالى { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل من قبل } " المائدة : 59 " , والنقمة المبالغة في كراهية الشيء , وهذه هي حقيقة المشاعر اليهودية تجاه الإسلام والمسلمين : " نقمة " ومبالغة في الكراهية , وعمل على إيصال الأذى شفاء لما في صدورهم من حقد وحسد وغِل .
    ..... والعجب أن الآية بيّنت سبب هذه " النقمة " وتلك المبالغة في الكراهية وهي { إلاّ أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " .
    ..... إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد رسول الله , وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي إلاّ أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله وما أنزله الله إليهم من قرآن , وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب .. إنهم يُعادون المسلمين لأنهم مسلمون , لأنهم ليسوا يهوداً ولا نصارى , ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدّقة لما بين أيديهم – لا ما ابتدعوه وحرفوه – ولا يؤمنون بالرسول الأخير , وهو مصدّق لما بين أيديهم مُعَظِّمٌ لرُسُل الله أجمعين .
    ..... إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء التي لم تضع أوزارها قط ولم يَخْبُ أوارها طوال ألف وأربعمائة عام , منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة وتميّزت لهم شخصية وأصبح لهم وجودٌ مستقلٌّ ناشىءٌ من دينهم المستقل وتصوّرهم المستقل ونظامهم المستقل في ظلِّ منهج الله الفريد .
    ..... إنهم يشُنّون على المسلمين هذه الحرب المشبوهة لأنهم قبل كل شــيء مسلمــون , ولا يمكــن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوهة إلاّ أن يردّوا المسلمين عن دينهم فيصبحوا غير مسلميــن , ذلك أن أهــل الكتاب أكثرهم فاسقون , ومن ثمّ لا يُحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين , والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة وهو يقول لرسوله في السورة الأخرى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع مِلّتهم } " البقرة : 120 " , ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " .
    ..... وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المتين , هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهــل الكتــاب وكثيــرون ممــن يُسمّــون أنفسهــم " مسلمين "باسم تعاون " المتدينين " في وجه المادية والإلحاد كما يقولون !!.
    ..... أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي – أو الذي كان إسلاميّاً بتعبير أصَح – وتحدي الوعي الذي قد كان بَثّه فيهم الإسلام بمنهجه الربّاني القويم .
    ..... ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليماً لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمَد الإسلامي , فضلاً على أن يستعمر الوطن الإسلامي , ولم يكن بُدٌّ لهؤلاء – بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة , وفي حرب التبشير كذلك – أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير , فيتظاهروا ويُشيعوا بين " ورثة المسلمين " أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت , وانها كانت مجرّد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعاً ! ثم تَنَوَّر العالم وتقدّم فلم يعُد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة ! وإنما الصراع اليوم على المادة !.
    ..... وحين يطمئن أهل الكتاب – وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين – إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير , وحين تتميّع القضية في ضمائرهم فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله وللعقيدة ... الغضبة التي لم يقفوا لها يوماً , ويصبح الأمر سهلاً بعد التنويم والتخدير , ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها , بل يكسبون معها ما وراءها من الأسباب والمغانم والاستثمارات والخامات , ويغلبون في معركة المادة بعدما يغلبون في معركة العقيدة ... فهما قريب من قريب .
    ..... إن الغفلة عن هذا العداء التاريخي والإستراتيجي اليهودي , وعدم فهم طبيعته لهو البوّابة السوداء التي تنزلق الأمّة منه إلى الهاوية , وحينئذٍ تتخطّفها الطير أو تهوي بها الريح في مكان سحيق .
    ..... إن فهم هذا الأساس من أسس المعركة أمرٌ لا بُد منه , إذ لا يمكن المضِيُّ في المعركة القادمة مع بني إسرائيل وثمّة شَك في مقدار العداء اليهودي وأصالته , أو في طبيعته وبواعثه , ذلك أن أي خلل في هذا الأساس سينحرف بسبيل المواجهة عن الطريق , وسيُطرِق إلى الأذهان ألواناً من الحلول , كلّها – ولا شك – مؤذنة بخسارة المعركة , خسارة العقيدة والدين , وخسارة الأرض والمقدسات , وخسارة الحاضر والمستقبل .
    يتبع – المطلب الثاني – من صوَر العداء اليهودي للدعوة الإسلامية وطبيعة الكيد فيها !
    .......

  13. #13
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي من صُوَر العداء اليهودي !


    ألمطلب الثاني :
    من صُوَر العداء اليهودي
    للدعوة الإسلامية وطبيعة الكَيد لها
    .......

    ..... لم يقف العداء اليهودي للإسلام عند الحسد والنقمة والغِل , بل تعدّى ذلك بكثير , وقد ذكر لنا القرآن طرفاً مما كاده اليهود وآذوا فيه الإسلام ونَبيّ الإسلام .
    ..... وقد أفرد الشيخ " عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني " كتاباً في هذا سمّاه – مكايد يهودية عبر التاريخ – عرض فيها لمكايدهم مع الأنبياء السابقين ثم مكايدهم مع خاتم المرسلين , ثم ما تلا تلك المرحلة من مكايد إلى يوم الناس هذا .
    ..... وقد ألّف العديد من العلماء والباحثين والسياسيين كتباً وأبحاثاً ودراسات , عرضت لمكر اليهود والتآمر والتخطيط والكيد , لا على المسلمين خاصة بل على شعوب العالم كله , وما " بروتوكولات حكماء صهيون " منّا ببعيد !! .
    ..... ويهمنا في هذا المقام التعريج على صُورٍ من ذلك الكيد والتآمر الذي ذكره القرآن , والنّظَر في ذلك كيما نتعرف من خلاله على الطريقة اليهودية والأسلوب " الإسرائيلي " في المواجهة والحرب والمكر , فمن ذلك :
    ..... أوّلاً : ما قاله الله تعالى يفضح مكيدة خسيسة من مكائدهم , قال تعالى { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أُنزل على الذين آمَنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم قُل إن الهُدى هُدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أُوتيتم أو يُحاجّوكم عند ربّكم قُل إن الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء والله واسع عليم } " آل عمران : 72 – 73 " .
    ..... وبيان هذه المكيدة : أن طائفة من اليهود خطّطوا أن ينالوا من عقيدة المسلمين ويُخلخلوا إيمانهم في نفوسهم , فقال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار وأظهروا الإيمان بما جاءهم حتى إذا كان آخره اكفروا وارجعوا إلى دينكم , فلعل هذا يُدخل إلى نفوس المسلمين الريب فيما جاءهم , إذ يتأمّلون رجوعكم عن دينهم بعد إيمانكم به , فيقولون : ما رجع هؤلاء إلاّ لعيب اطلعوا عليه أو خلل في الدين وجدوه , فيفضي ذلك إلى رجوعهم عن الإسلام وانفضاضهم عن رسوله .
    .....تستهدف هذه المكيدة إذاً عقيدة المسلمين , كما تستهدف ثقتهم بقيادتهم النبويّة وصفّهم المؤمن , وذلك بإثارة نوع شبهة في قلوب الضعفاء يرجعون بها عن الإيمان والانقياد للإسلام ونبيّه والثّقة به والانتماء لصفّه .
    ..... وقد عَرَفَت ألاعيب السياسة الحديثة هذه الخطّة الشيطانية اليهودية , ذلك أن بعض الخصوم السياسيين قد يُرسلون من جماعتهم المُقَنَّعين المستورين فئاتٍ تنتسب إلى جماعات خصومهم وتتظاهر بالاندفاع في تأييدهم بأعمال حزبية خادعة , ثم في يوم الضرورة للعمل الحازم المتماسك يُحدِث هؤلاء المندسون تصدّعاً في الصف الداخلي , وذلك بأن يفتعلوا خلافاً في بعض الأمور , وقد لا يستطيعون أن يُحدثوا إلا خلافاً تافهاً ولكنهم يهوّلونه ويُجَسّمونه ويثيرون حوله معركة داخلية مُبَدِّدَة للقُوى , صارفة للأنظار والنفوس عن واجب العمل في ذلك اليوم , وذلك ريثما يتم ظَفَرُ خصومهم وهم شُغُل عمّا يجب عليهم من عمل بالخلاف الداخلي الذي اصطنعه المندسّون .
    ..... ثانياً : من صُوَر مكائدهم : محاولة إسقاط الدّاعية , ومثالها من كتاب الله ما جاء في سبب نزول قوله سبحانه { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتَّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزَل الله إليك فإن توَلّوا فاعلم أنما يُريد الله أن يُصيبهم ببعض ذُنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون } "المائدة : 49 " .
    ..... إذ روى الطبري وغيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشأس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه , فأتوا فقالوا : يا محمد , إنك عرفت أننا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم , وأنّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يُخالفونا , وأن بيننا وبين قومنا خصومة , فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونُصدّقك ! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله فيهم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } إلى قوله { لقومٍ يوقنون } .
    ..... وهذه الصورة من ألوان الكيد والمكر اليهودي , إذ أرادوا أن يتوسَّلوا بهذا إلى الإساءة إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأن يُسقطوه في شَرَك – حاشاه أن يسقط – ثم يُشهروا به ويتّخذوا من الموقف حجّة عليه وعلى صدق دعوته , وقد يلجئون في مثلها إلى ابتزاز المسلم وتوجيهه والضغط عليه بها ! .. وقد كثُر مثله في صراعنا اليوم مع اليهود , واتخذوا لعنهم الله من هذه الشّراك والكمائن أُسلوباً جنّدوا فيه مَنْ سَقَطوا وزلّوا في مزالقهم , وانطوت عليهم حِيَلُهم فوقعوا في أحابيلهم .
    ..... أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تَفَطّن إلى كيدهم وتنبّه إلى مكرِ صنيعهم , وقد أمره الله عزّ وجلّ بالحذر منهم والثبات على ما أنزل الله إليه , فقال سبحانه { وأن احكم بينهم بما أنزَل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزَل الله إليك } " المائدة : 49 " , نعم , غايتهم من هذا الشَّرَك فتنته عن " بعض " ما أنزل الله إليه , لأن الفتنة ولو عن القليل آيلةٌ إلى تخلخل ثبات المجاهد وطمأنينته إلى ما معه من الحق , ودليل على قابلية للاستقطاب والتنازل والانحراف .
    ..... وهذا ما ينبغي التنبّه له في المعركة القائمة والقادمة مع اليهود , وهو أساس من أُسسها : الثبات على الثوابت ,والتنبّه والحذر أمام المكايد وعلى المزالق .
    ..... والحاصل : أن الذي يجب على المسلم المجاهد أن يتشبّث بالثوابت , ويرسم خطوطها وحدودها في كل مجال , ويَعرِف حقوق أمّته ودينه , ثم لا يجعل شيئاً من ذلك محلاًّ للمساومة أو المفاوضة فضلاً عن التنازل والتهاون , فإن فَعَلَ فقد حَقَّ عليه الوعيد { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتّخذوك خليلاً * ولولا أن ثبّتناك لقد كِدت تركَن إليهم شيئاً قليلا * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } " الإسراء : 73 – 75 " , إن الواجب على المسلم في هذه المعركة أن يثبت تمام الثبات , ويعلن ذلك قاطعاً رجاء أعداء الله وأطماعهم في تحصيل أي تنازلات .
    ..... ثم لا يتوَهّمَن أن شيئاً من التنازل قد يورثه خُلّتهم وصُحبتهم والوصول معهم إلى نقاط التقاء , فالعواقب ثمّة وخيمة , والركون إليهم – ولو شيئاً قليلاً – مورِث إلى غضب الله وعقوبته والتخليةَ من توفيقه , ومن نزع الله عنه رداء التوفيق فلا يطمح في بلوغ أمنيته ولا في تحقيق نجاح , ثم فلْيطلب في ذلك كلّه التثبيت من الله { ولولا أن ثبّتناك لقد كِدت تركَن إليهم شيئاً قليلاً } " الإسراء : 74 " .
    ..... ومن الأمثلة التي أشار إليها القرآن كذلك ما جاء في سبب نزول قوله تعالى { قُل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتى تُقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربّكم وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طُغياناً وكُفراً فلا تأس على القوم الكافرين } " المائدة : 68 " .
    ..... فقد روى الطبري عن ابن عباس قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف فقالوا : يا محمد , ألست تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه , وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى , ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أُخِذ عليكم من الميثاق , وكتمتم منها ما أُمِرتم أن تبيّنوه للناس , وأنا بريء من أحداثكم , قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى , ولا نؤمن بك ولا نتّبعك ! فأنزل الله تعالى ذِكرُه { قُل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربّكم } ... { وليزيدّنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طُغياناً وكُفراً } , إلى , { فلا تأس على القوم الكافرين } .
    ..... ويظهر في هذه القصة حرص اليهود على اقتناص كلمة واحدة من فم النبي صلى الله عليه وسلم ليطيروا بها مستغلّينها للتشغيب والفتنة , وكذلك هم اليوم , أساليبهم هي هي , ومكرهم هو هو , ينتظرون كلمة واحدة من المسلم المجاهد الثابت يستنطقونه بما لا يرى مشكلة فيه , ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حذراً أن ينالوا من على لسانه مرادهم , على أنه لو قال : بلى , وسكت , لما كان – من حيث الالفاظ المجردة – مفرطاً ولا مساوماً , لكن الفَطِن يحرص على أن لا يُهدي إلى عدوّه ما يُفرحه ويشغِّب عليه به , وينظر إلى مآلات الألفاظ والتصريحات , التي قد يجيد اليهود توظيفها بخُبث ومكر معهودين .
    ..... ثالثاً : ومن صوَر حربهم على الإسلام وكيدهم للحق , الضغط النفسي والتّعبير والتّنقيص لمن أسلم وانقاد إلى الحق , ومحاولة تشويه صورته والحملة على سمعته .
    ..... وقد كان من سُنّة اليهود ومما سجّله القرآن عليهم , صدّهم عن سبيل الله فقال مخاطباً لهم { قُل يا أهل الكتاب لِم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قُل يا أهل الكتاب لِم تصُدّون عن سبيل الله مَن آمَن تبغونها عِوَجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلٍ عمّا تعملون } " آل عمران : 98 – 99 " , بل أئمّتهم وأحبارهم هم من كان يباشر هذا ! قال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرّهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصُدّون عن سبيل الله } " التوبة : 34 " .
    ..... ومن صُوَر صدّهم عن سبيل الله مل ذكرته في مطلع الكلام ههنا من الضغط النفسي والتعبير والتنقيص لمن أسلم منهم أو ظهر منه انقياد للحق , ومن أظهر أمثلة هذا ما حصل منهم مع عبد الله بن سلام رضي الله عنه وثُلّة معه آمنت , فقد روى الإمام الطبري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما : لمّا أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأُسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم , فآمنوا وصدّقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه , قالت أحبار يهود وأهل الكُفر منهم ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا , ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره , فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم { ليسوا سواءً من أهل الكتاب أُمّة قائمة يتلون آيات الله } إلى قوله { وأولائك من الصالحين } " آل عمران : 113 – 114 " .
    يتبع – الجزء الثاني من صُوَر العداء اليهودي !
    .......

  14. #14
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي ألجزء الثاني من صوَر العداء اليهودي ...!


    ألجزء الثاني
    من صُوَر العداء اليهودي للدعوة الإسلامية
    .......

    ..... وقد روى البخاري في صحيحه تفاصيل القصة التي حصلت مع عبد الله بن سلام رضي الله عنه , وفيها إنباء عن طبيعة القوم وصورةٌ عمليةٌ تُمَثّل هذه المكيدة فيهم , فقد روى بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه " أن عبد الله بن سلام بَلَغَه مَقْدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة , فأتاه يسأله عن أشياء , فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلاّ نبيْ : ما أوّل شرط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه ؟ قال ( أخبرني به جبريل آنفاً ) قال ابن سلام : ذاك عدو الله من الملائكة , قال : ( أما أوّل أشراط الساعة فنارٌ تحشُرهم من المشرق إلى المغرب .. وأما أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت .. وأما الولد فإذا سَبَقَ ماء الرجل ماء المرأة نَزَع الولد .. وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نَزَعَت الولد ) قال : أشهد أن لا إله إلا الله , وأنك رسول الله , قال : يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي , فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أيُّ رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ ) قالوا : خيرنا وابن خيرنا , وأفضلنا وابن أفضلنا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ ) قالوا : أعاذه الله من ذلك .. فأعاد عليهم , فقالوا مثل ذلك , فخرج إليهم عبد الله بن سلام فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , قالوا : شَرَنا وابن شرّنا وتَنَقّصوه , قال : هذا كنت أخاف يا رسول الله .
    ..... وفي القصة : بيان طريقة اليهود في النَّيل ممن ينقاد إلى الحق منهم , ومحاولة تشويه صورته والضغط عليه وتنقيصه .. وها هو عبد الله بن سلام وهو أعرف الناس بهم , إذ كان من كبار أحبارهم , يصفهم بقوله " إن اليهود قوم بُهُت " وهي بضم الهاء وقد تُسَكّن , والمعنى : أنهم يبهتون بالكذب , فإن علموا بإسلامي بهتوني عندك , أي كَذَبوا عليَّ مع حضوري , والبُهتان : الكذب الذي تتحيّر من بطلانه وتعجب من إفراطه .
    ..... وفي الحديث : ذكاء عبد الله بن سلام في التعامل معهم والمكيدة لهم في توقُّع مكيدتهم , ليستنطقهم بالحق , الذي يُعرف من طبائعهم أنهم كاتموه , وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له , بل إجابة النبي له وتعاونه معه لمواجهة طبيعة اليهود , كل ذلك يدُلّ المسلم على الطريقة في التعامل معهم , وعدم افتراض حُسن الطبع وسلامة النيّة في ما يقع منهم , بل الواجب عليه أن يعاملهم وفق هذا المنظور في الكتاب والسُّنة وعلى ألسِنَةِ أعرف الناس بهم , وإن لم يفعل فليس بمعذور وقد جاءه البيــان الصــادق والقــول الحق .
    ..... وفي الحديث : بيان جرأتهم على الكذب , وعدم حيائهم من إظهاره , وكمال كِبِرِهم عن الانقياد إلى الحق , وشدّة عدائهم له , ذلك أنهم حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن سلام أثنوا عليه وكالوا له المديح " خيرنا وابن خيرنا , وأفضلنا وابن أفضلنا " ثم لمّا عرفوا بإسلامه لم يُخجِلهم أن يُبَدّلوا كلامهم اللحظة إلى النّقيض , وأظهروا الكذب وجاهروا به , وكلُّ ذلك دليل على قِلَّة المروءة والحياء وانمحاق الفضائل والأخلاق , واستمراء الرذيلة والدنايا .
    ..... ولقد صدّق فيهم عبد الله بن سلام ظنّه , فكانوا كما توَقّع على أبشع صورة وأوضحها , فدلّ على اطِّراد هذه الأخلاق فيهم , وتمكُّنها منهم وعدم مجاوزتهم حدّها في تعاملاتهم وسلوكاتهم .
    ..... ثم إن موطن الشاهد منه : حملتهم على من أسلم منهم وتنقيصه وتشويه صورته والكذب عليه , وهو ظاهرٌ مُطَّرد حتى يومنا هذا , إذ يحرص اليهود على إذلال مَن حولهم وتسجيل نقاط الضّعف عند أعدائهم وأصدقائهم على حدٍّ سواء , وتسجيل عثراتهم واصطناعها في أحيان كثيرة لتهديدهم بها , ومنعهم من شهادة الحق والانقياد له , وقد شهد الواقع المُعاش كثيراً من الوقائع التي تشهد لهذا .
    ..... ومَنْ مَنَّ الله عليه بسلوك مدافعة اليهود وحربهم ومقاومتهم وجَبَ عليه أن يحتاط لنفسه وعرضه , ويحذر من مكائد يهود وشِراكهم , { وَدّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميْلة واحدة } " النساء : 102 " .
    ..... رابعاً : نقضهم للعهود والمواثيق , وهي صفة بارزة جداً في تكوين الشخصية اليهودية , وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى هذا , وبيّنت نماذج من المواثيق التي أُخِذت على اليهود , , والملاحظ أن أيّاً من هذه المواثيق لم تُحتَرم لدى اليهود , ولم تُوَفّ بها الأمّة اليهودية , بل نقضتها جميعاً , ومنها :
    1 – قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حُسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم تولّيتم إلا قليلاً منكم وأنتم مُعرضون * وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أُسارى تُفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفَتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خِزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملــون } ... " البقرة : 83 – 85 " .
    أ – الناظر في بنود هذا الميثاق المأخوذ عليهم لا يلحظ فيه مشَقّة البَتّة , بل هي بنود عامة تعود – أولما تعود – بالنفع المباشر عليهــم " لا تعبــدون إلا الله وبالوالديــن إحسانــاً وذي القربــى واليتامــى ... " , " وقولوا للناس حُسناً ... " , لا تسفكون دماءكم ولا تُخرجون أنفسكم من ديارهم ... " فعلام يعمد القوم إلى النقض ؟ولماذا يفرحون به ؟ .
    ب – أن القرآن يسجّل على بني إسرائيل وقوع نقض الميثاق من عمومهم وأكثرهم " ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون " , إضافة إلى التثريب عليهم بصيغة المخاطب المنبّئة عن المعنى نفسه بخطاب المعاصرين منهم لنزول القرآن بما وقع من أسلافهم , في إشارة إلى أن الخَلَف ليسوا بأفضل حالاً من السّلف فيهم , وأنهم على الطريقة والنّهج { تشابهت قلوبهم } " البقرة : 118 " , فساغ لومهم والتثريب عليهم بما وقع من سلفهم .
    ج – يسجل عليهم القرآن التناقض العجيب في المفاهيم الإيمانية , وفي السلوكيات العقيدية سواء , وبيانه أنه سبحانه قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم إلا أنهم نقضوا العهد وأخلفوا الله ما وعدوه , فقتلوا أنفسهم وأخرجــوا بعضهــم مــن ديارهــم وتظاهــروا عليهــم بالإثــم والعدوان , والعجيب أنهم إن وجدوهم أسارى فادوهم , وقد كان مــن المحــرّم عليهــم أصالــة إخراجهــم والمظاهرة عليهم بالإثم والعدوان !! فسمى الله تعالى – في التعقيب – هذا العمــــل منهــم إيمانــاً ببعــض الكتاب وكُفراً ببعض " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعــض " حيــث سمّى الائتمار بأمــــــر الكتــاب وأتباعه إيماناً , وسمّى تركه والإعراض عنه كفراً , ثم رتّب هذا المسلك في التعامل مع مواثيق الله وشرائعه أشَدّ العذاب وأخزاه في الدنيا والآخرة { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خِزْيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُرَدّون إلى أشدّ العذاب } .
    2 – من الآيات قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خُذوا ما آتيناكم بقُوّة واسمعوا قالوا سمعنا وعَصَينا وأُشْرِبوا في قلوبهم العِجْل بكُفْرِهِم } " البقرة : 93 " .
    ..... وهذه الآية فيها الدليل الأعظم على تَمَكُّن نقض العهود والمواثيق منهم , ذلك أن الله تعالى يُبَيّن نموذجاً من المواثيق التي أُخِذت عليهم في ظل ظروف خاصّة لا يكاد يتصَوّر أحدٌ حصول النّقض فيها , وبيان ذلك : أن هذا الميثاق قد أُخِذ عليهم تحت التهديد الرعيب المتمثّل برفع جبل الطّور فوقهم وتهديدهم بالسحْق في حال لم يُعطوا موثقهم , وقد تكرّر المشهد مراراً في القرآن , ومنه في سورة الأعراف { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة وظَنّوا أنه واقعٌ بهم خُذوا ما آتيناكم بقوّة واذكروا ما فيه لعلكم تتّقون } الآية 171 من سورة الأعراف .
    ..... ثم إن التركيب القرآني قد جاء فيه إسناد فعل " أخذ الميثاق " إلى الله , فقال { وإذ أخذنا ميثاقكم } وفيه من تصوير شدّة الميثاق وغلظه ما لا يخفى , والعجيب المُنْبىء عن تمَكُّن هذه الطريقة من نكث العهود ونقض المواثيق في بني إسرائيل أن يتْبَع كل هذا التأكيد تحت هذا الظرف غير العادي , وفي هذا المشهد الرهيب تملُّصٌ سهلٌ من بني إسرائيل , في صورة غير العابىء بكل ذلك , المُستَمرىء النّقض حتى مع الله تعالى , وفي ذلك الظرف الاستثنائي والمشهد العجيب المُلْجِىء .
    ..... وقول الله عزّ وجلّ في الآية " وأُشْربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " تصوير لشدّة حبّهم للمعصية واستحكامها من قلوبهم .. ومناسبتها لما سبقها من الآيات : أنه سبحانه لمّا ذكَر عنهم حالهم مع الميثاق المأخوذ عليهم في قوله " قالوا سمعنا وعصينا " ذكر بعدها أقبح أمثلة هذا النّقض والعصيان بعبارة مدهشة في بلاغتها فقال " وأُشربوا في قلوبهم العجل بكُفرهم " وهذه الاستعارة من فرائد الاستعارات يُتَمَثّل بها عند ذكر بلاغة القرآن .
    ..... وإشراب الشيءِ الشّيءَ : مخالطته إيّاه وامتزاجه به , يُقال : بياضٌ مشرَّبٌ بحُمرة , أو هو من الشُّرب , كأن الشيء المحبوب شرابٌ يُساغ , فهو يسري في قلب المُحِب ويُمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في لَهاتِه , وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إيّاه , كقولهم " أولع بكذا وشُغِف " .
    ..... صورة فريدة عجيبة فالقوم قد أُشربوا بفعل فاعل سواهم , أُشربوا ماذا ؟ أُشربوا العجل ! وأين اُشربوه ؟ اُشربوه في قلوبهم ! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة وتلك الصورة الساخرة الهازئة : صورة العجل يُدْخَل في القلوب إدخالاً , ويُحشر فيها حشراً حتى ليكاد يُنسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسّمة لتؤدّيه , وهو حبهم الشديد لعبادة العجل حتى لكأنهم أُشربوه شراباً في القلوب .
    ..... وبعد : فهذه الآية تُخبر عن نموذج فريد يُصَوّر الخيانة اليهودية للمواثيق أعجب تصوير وأبلغه , يصوّر تمكُّن هذه الصفة من قلوبهم , واعتياد هذا السبيل في مسلكهم , وإذا كان الأمر على هذا النحو , فأنّى تحصل الثقة في موثق يعطونه أو في عهد يُبرمونه .
    يتبع – الجزء الثالث من صور العداء اليهودي !
    .......

  15. #15
    مشرف مجلس عشيرة الدويرية
    تاريخ التسجيل
    16-09-2016
    الدولة
    العقبة
    العمر
    54
    المشاركات
    99

    افتراضي

    اجزلت وافضلت ياعمنا المتالق دائما بآرآئه وافكاره النيرة حفظكم الله ونسال الله العلي العظيم رب العرش العظيم ان يبرم امر رشد لهذه الامه يعز فيه اوليائه ويخزي اعدائه هو المولى ونعم النصير

  16. #16
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    أللهم آمين ...
    حفظك الله وعافاك أبا عريب !

  17. #17
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي ألجزء الثالث - من صُوَر العداء اليهودي ...


    ألجزء الثالث من صُوَر
    العداء اليهودي !
    .......

    3 – ومن ذلك قول الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبَيّننّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } " آل عمران : 187 " .
    ..... هذه الآية تذكر محتوى ميثاق من المواثيق التي أُخذت عليهم , في زمرة من الآيات التي تَذكر شيئاً من تفاصيل مواثيقهم وبنودها , من مثل :
    أ – قوله تعالى { ورفعنا فوقهم الطّور بميثاقهم وقُلنا لهم ادخلوا الباب سُجّداً وقُلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً * فبما نقضهم ميثاقهم وكُفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غُلْف بل طَبَع الله عليها بكُفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } " النساء : 154 – 155 " .
    ب – قوله تعالى { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنَيْ عشر نقيباً وقال الله إنّي معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسُلي وعَزّرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لآُكَفّرن عنكم سيئاتكم ولأُدخلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار فمن كَفَر بعد ذلك منكم فقد ضَلَّ سواء السبيل * فبما نقضهم ميثاقهم لَعَنّاهُم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحَرّفون الكَلِم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذُكّروا به } " المائدة : 12 – 13 " .
    ج - وقوله تعالى { فخَلَف من بعدهم خلفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عَرَض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا وإن يأتهم عَرَضٌ مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودَرَسوا ما فيه والدار الآخرة خيرٌ للذين يتّقون أفلا تعقلون } " ألأعراف : 169 " .
    ..... فهذه الآيات كلها وغيرها دالّة على تفاصيل مواثيق بني إسرائيل التي أُخذت عليهم ولا يجد الناظر عناء في إدراك نقضهم لها جميعاً وعدم وفائهم بأيّ منها .
    ..... ثم بعد هذا التَّطواف فيما قصّه الله تعالى علينا من قصصهم وذكره من أخبارهم , لا يعجب المرء مما يراه من نقضهم لعهودهم مع البشر وتنصُّلهم من الاتفاقيات الدولية العامة والخاصّة , وعدم عبئهم بما يوقّعون عليه ويُقسمون الأيمان المُغلّظة , وما يفعلونه اليوم بالتناوب من نقض عهد أبرمّه فريق منهم كلما أبرم فريق منهم عهداً وأعطى ميثاقاً { أَوَكُلّما عاهدوا عهداً نبَذَه فريقٌ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } " البقرة : 100 " .
    ..... فهي مكيدة إذاً ! وهي من أشهر مكائدهم لا يحيدون عن سبيلها ولا يكُفّون عن نَصْبها ولا والله ما تركوها يوماً ! وهذه المقررات القرآنية من شأنها أن تحمي من الوقوع في شَرَكِهم وتحفظ من السقوط في مكايدهم , إذا ما جُعلت قانوناً ومرجعاً في التعامل مع اليهود , ومن سقط بعد ذلك ووقع , فلا يلومنّ إلا نفسه فإنه إنما أُتِيَ من قبل إعراضه عن كتاب ربه ورجوعه إلى غير ما علّمه الله وأنزل في كتابه , والله يهدي القوم الظالمين .
    خامساً : ألتحالف مع المنافقين ودعمهم داخل المجتمع المسلم .
    ..... من أبرز مكايد اليهود وصور عدائهم للدعوة الإسلامية دعم تحالف قوى النفاق داخل المجتمع المسلم , والمجتمع المسلم – بطبيعة الحال – يشتمل على أفراد لا يدينون لعقيدته ولا ينتمون لهويّته , يمنعهم ما يحرصون عليه من المكاسب والمناصب من التصريح بذلك والجهر به , وقد يمنعهم من ذلك إرادة التخريب والقصد إلى حرب الإسلام من الداخل , إذ الحرب من الداخل أخطر وأخفى وأكثر تأثيراً .
    ..... وفي كثير من الأحيان يُزرع هؤلاء في جسم الأمّة زراعة , ويُستَنبتون فيها استنباتاً بفعل قوىً خارجية تسعى في الإضرار بعقيدة الأمّة وتشُن الهجمات الشرِسَة على صفّها وقيادتها .
    ..... وعلى كل حال , فإن اليهود عنصرٌ بارزٌ – دائماً – في صناعة هذا الجسم المزروع المُستَنبت في جسم الأمّة أو في دعمه واستثمار وجوده وتوجيهه تسعيراً للحرب وتأجيجاً للفتنة .
    ..... وللحدّ من تأثير هذه العلاقة الآثمة بين اليهود والمنافقين نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين عن موالاة يهود وغيرهم في صفِّ الكُفر وحزب الشيطان , وجعل ذلك علامة الانحياز الواضح الجاهر إلى معسكرهم في مقابل المعسكر المؤمن , فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تَتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومَن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } " المائدة : 51 " .
    ..... ففي الآية الإخبار " بأنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً ووليّاً من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم في التّحَزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين , وأن الله ورسوله منه بريئان " .
    ..... هذه الآية وشبيهاتها من آيات القرآن الكريم المشدّدةِ على حُرمَة موالاة اليهود والنصارى , الجاعلة هذه الموالاة علامة على الانحياز إلى صفّ الباطل , من شأنها تضييق الخناق على حركة التعاون بين المنافقين واليهود ,فهي وإن كانت تعطي حكماً شرعيّاً وتصوّر حالة اعتقادية , فإنها في الوقت نفسه تدل على بُعدٍ سياسي في معالجة هذه الظاهرة الخطيرة , وتمثّل حجر زاوية في التعامل معها .
    ..... ومن اللافت أن تأتي الآيات بألفاظ حاسمة كحَدّ السّيف , واضحة المعالم , صريحة الدلالات , لتُعالج الحالة وتقضي على الظاهرة التي تُمَثّل خَطَراً حقيقياً على بيضة الأمّة وهويّتها وعقيدتها ومسارها , فإن التمييع ههنا من شأنه الإنذار بحصول المحذور .
    ..... لا بُدَّ لِجُنْد الحق اليوم وحُماة الأقصى وأبطال المعركة القادمة مع بني إسرائيل من إعمال الآيات وأحكامها , وإسقاطها على الواقع وتطبيقها بذات الوضوح وبنفس المعالم التي جاءت بهما الآيات حسماً لمادة " العمالة " لليهود , تلك " العمالة " التي أضاعت الحق , وأخَّرَت النصر , وأزهقت أرواح كثير من المجاهدين وقَيَّدت الشعوب دهوراً بالسلاسل والأغلال لتحول دون الاستجابة إلى أمر الله وإجابة استغاثات المَسْرى والحُنُوّ على أنّات اليتامى والثكالى وتضميد الجراح وكسر القيود { لله الأمر من قبل ومن بعد } " الروم : 4 " .
    ..... وقد عجّب القرآن من طبيعة هذه العلاقة غريبة التكوين , وأوعد على الموالاة لليهود أشد الوعيد , وآذَن بمُهين العذاب , فقال { ألم تَرَ إلى الذين تولّوا قوماً غضِب الله عليهم ما هُم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعدّ الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدّوا عن سبيل الله فلهم عذابٌ مُهين } " المجادلة : 14 – 16 " . تعجيبٌ من هذه الموالاة مرافق لإعدام مسَوّغاتها المنطقية , " ما هُم منكم ولا منهم " , ثم سيلٌ هادر من الوعيد والتثريب حقيقٌ بخطورة الظاهرة , نجيع في علاجها .
    ..... ومن الأمثلة الواقعية التي ذكرها القرآن على هذا التحالف ما كان من يهود بني النضير ومنافقي المدينة بعد عزم النبي على تأديب بني النضير بقول الله تعالى { ألم تَرَ إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخرِجتم لنَخرجنَّ معكم ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليُوَلُّنَّ الأدبار ثم لا يُنصرون * لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محَصَّنة أو من وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون * كمَثَل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذابٌ أليم * كمثَل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلمّا كَفَر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاءُ الظالمين } " الحشر : 11 – 17 " .
    ..... وأوّل لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب – وهم يهود بني النضير كما في أسباب النّزول - , " ألم تَرَ إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب " , فأهل الكتاب هؤلاء من اليهود كفروا , والمنافقون إخوانهم , ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام .
    ..... أما اللفتة الثانية فهي تصوير التحالف العسكري الاستراتيجي بين الفئتين ذاتَيْ المصالح المشتركة , وبيان مستوى هذا التحالف " لئن أُخرجتم لنَخْرُجَنَّ معكم ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرَكُم .
    ..... واللفتة الثالثة في التنبيه على هشاشة هذا التحالف وإن بدا صلباً متيناً , وبيان حقيقة " الأخوّة " ومداها بين المنافقين واليهود " لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليُوَلّن الأدبار ثم لا يُنصرون " ... " وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى " ... " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلمّا كفَر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " .
    ..... وهي في مجملها حقائق لا بُدّ للصَّف المسلم من معرفتها , فهي مُنبئَة عن طبيعة العدو وطبيعة تحالفاته , ومُنبئَة كذلك عن حقيقة حجمه وقوّته , الأمر الذي لا بُدّ أن يعرفه المسلمون جيداً , فلا يخدعهم بريقه ولا يخيفهم منظره ولا تغُرّهم صولته ورجولته .
    ..... وعَوْداً على ما بدأنا به الكلام في النقطة , فإن القرآن يصف بدقّة هذا المنحى الآثم في العلاقة بين اليهود والمنافقين , ويؤكّد طبيعة العلاقة بينهم , وأنها سُنّة لا تكاد تتخلّف , إذ ليس ثمة منافقون إلا واليهود يمدونهم في الغَيّ ويدعمونهم في حرب المعسكر المسلم , ويتآمرون معهم لخلخلة العقيدة وتوهين الصّف .
    ..... فانظر – سدّدك الله – إلى من يواليهم اليهود لتعلم أنهم المنافقون الذين سمّى الله في كتابه , وانظر إلى المنافقين والْحَظْ أيدي اليهود في تحريكهم وتأييدهم .
    ..... حتى إذا أتى الله بأمره وفتْحِه انحلّت عُرى المواثيق بين القوم , وتحطَّم ما بينهم من التحالف والتناصر { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلمّا كَفَر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } .
    ..... قال تعالى { فترى الذين في قلوبهم مرض يُسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ مِن عنده فيُصبحوا على ما أَسَرّوا في أنفسهم نادمين } " المائدة : 52 " .
    ..... تذكر الآية صنفاً من مرضى القلوب من المنتسبين إلى الأمّة ودينها , يتذرّعون لموالاة اليهود والنصارى بخشية تقلّبات الزمان وانقلاب موازين القُوى , قِلّة ثقة بوعد الله , وضعف انتماء إلى الصّف المسلم , يتذرّعون بذلك إلى موالاتهم والمسارعة فيهم , وسبحان مُنَزّل هذا الكتاب الحكيم ويا لِجلال ودِقّة التنزيل " يسارعون فيهم " وإنما قيل " فيهم " مبالغة في بيان رغبتهم فيها واتّكالهم عليها , وإيثار كلمة " في " على كلمة " إلى " للدلالة على أنهم مستقرّون في الموالاة , وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعضٍ آخر منها , كما في قوله تعالى { أولائك يُسارعون في الخيرات } " المؤمنون : 61 " , لا أنهم خارجون عنها مُتوجّهون إليها , كما في قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة } , " سورة آل عمران : 133 " .
    ..... ويلهّج اللسان بعد القلب تسبيحاً لله , وتعظيماً لكتابه , إذ يرى مَنْ يتكلم عنهم القرآن ويَصِف خلجات نفوسهم وحركات مشاعرهم , يراهم بعينيه ويسمعهم بأذنيه يتنطّعون مُبَرّرين مسارعتهم في موالاة يهود "نخشى أن تصيبنا دائرة " .
    ..... والحديث عن تبرير الواقع المُذِل بحجة " تــوازن القــــُوى " و " القانون الدولــي " وحصــول " الاعتراف الرسمي الدولي " واستراتيجية الخيار السّلمي وغير ذلك من مُسَوّغات التسليم وذرائع الركوع إلى اليهود والرّضا بالأمر الواقع .
    ..... وبعد , فهذه جولة موجزة في عَرض القرآن للمكايد اليهودية , كاد بها اليهود للدعوة الإسلامية , كلها ما تزال أصولاً يجري وَفقها اليهود في حربهم للإسلام وأهله .
    ..... وكثيرٌ لم أذكره , إذ لم أعمد إلى الاستقصاء وإنما أردت التمثيل , وقد حصل بما تم ذكره , وليُرجَع إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني " مكايد يهودية " , وكذا إلى كتاب شيخنا العلامة الدكتور صلاح الخالدي " الشخصية اليهودية " فإن فيهما ما تشدُّ لأجله الرحال وتُركب المطايا .
    يتبع – المبحث الثالث : إسلامية المعركة وهويتها العقدية !
    *******

  18. #18
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المبحث الثالث - اسلامية المعركة وهويتها العقدية .


    ( ألمبحث الثالث )
    __________
    إسلاميّة المعركة وهويّتها العقديّة
    .......
    • ألمطلب الأول :
    ألمقصود بإسلامية المعركة , وإثبات بُعدها العقدي !
    • ألمطلب الثاني :
    ما ذا جنى القوم بسَلْخ القضيّة الفلسطينية عن بُعدها الإسلامي
    .......

    ألمبحث الثالث
    ألمطلب الأوّل :
    ألمقصود بإسلامية المعركة وبُعدها العقدي !
    ماذا نقصد ب" إسلامية المعركة وهويتها العقدية " ؟
    من المُهِم قبل الولوج إلى هذا الموضوع من بيان المقصود به دفعاً لوهم رائج , ذلك أننا لا نعني بإسلامية المعركة وهويتها العقدية أن الحرب قائمة على أساس العداء للدين اليهودي , وأن هذا هو سبب الحرب ودافعها , وهذا لا يعني – بطبيعة الحال – عدم وجود تناقض بين اليهودية المنحرفة التي يدين بها اليهود وبين الإسلام .
    وإنما نعني بإسلامية المعركة أنها ليست معركة للفلسطينيين وحدهم , بل ولا للعرب وحدهم كذلك , بل هي معركة تخصُّ كل واحد من المسلمين بصفته منتمياً لهذه الأمّة يعتقد بعقيدة المسلمين التي توجب الدفاع عن أرض الإسلام والذَّب عن حياضها , فضلاً عن كون هذه الأرض : بيت المقدس التي يعتقد كل مسلم مَزِيَّتها وخصوصيتها من بين بلدان الأرض , كما ورد في المبحث الأوّل من الموضوع .
    جاء في وثيقة الثوابت الإسلامية المتعلّقة بالمسجد الأقصى التي أصدرتها لجنة القدس في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الثابت الرابع " إن قضية بيت المقدس والمسجد الأقصى ليست قضية فلسطينية وطنية , ولا عربية قومية فحسب , بل هي قضية عقدية إسلامية تخُص كل مسلم على وجه الأرض بحُكم دينه وعقيدته , لا بحُكم نسبه ووطنه , وعليه , فكل مسلم مسؤول تجاه بيت المقدس والأقصى , يجب عليه الدفاع عنه والجهاد لتطهيره وتحريره " .
    والحق أن الاعتبار الإسلامي للمعركة أمر واجب لا يجوز الإخلال به ولا إهماله أو التقليل من شأنه خصوصاً في ضوء ما سيأتي بيانه :
    أوّلاً : أن الله تعالى أخبر في كتابه عن دوام العداء اليهودي للمسلمين سعياً منهم لرَد المؤمنين عن دينهم , كما قال سبحانه تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا } " البقرة : 217 " وقال تعالى { ودَّت طائفة من أهل الكتاب لو يُضِلّونكم وما يُضِلّون إلا أنفسهم وما يشعرون } " آل عمران : 69 " .
    بل وأعلم الله تعالى المؤمنين بأن طاعة أهل الكتاب – اليهود بالدرجة الأولى كما يظهر من السياق وسبب النزول – آيِلٌ إلى ردّهم بعد إيمانهم كافرين , فقال { يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم عن بعد إيمانكم كافرين } " آل عمران : 100 " , ثم عَجَّب سبحانه من ضلالهم أتباعاً لأهل الكتاب وقد أنزل عليهم كتابه يهديهم إلى الصراط السويّ ويدُلّهم على طريق النجاة { وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله , ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم }" آل عمران : 101 " .
    إن هناك عداءً تاريخياً أخذه اليهود على عواتقهم تجاه هذا الدين وأهله – كما مَرّ في مبحث سابق – وأمام هذا العداء ليس أمام المؤمنين إلا الاعتصام بالله والاستمساك بهَدْيِه , والاستنارة بنور كتابه واستلهام الرُّشد في المواجهة مع العدو من الهداية الربانية – القرآن الكريم – { ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم } .
    ثانياً : لا يمكن إغفال البُعد الديني عند اليهود في معركتهم مع المسلمين على أرض فلسطين , وأنا لا أُنكِر هنا أن نفراً كثيراً منهم " علمانيون " بعيدون عن التديُّن بكلّيته , لكني أسجّل ههنا ملاحظتين :
    أ – أن التيأر المتديّن فيهم ما يزال بازدياد , وما تزال شعبيته بينهم بانتشار وتوَسُّع , ولعلنا بِتنا نرى أثر ذلك في انتخابات العدوّ وتزداد حجم الأحزاب الدينية المتطرّفة في إدارة دولته وتوجيه دفّة القيادة فيها .
    ب – أن العلمانيين منهم استعملوا الدين في تحقيق أهدافهم واعتبروه مصدر قوّة يُلهمون به شُذّاذ الآفاق منهم ليستقطبوهم استدراراً لدعمهم , واستخدموا الشعارات الدينية والرموز والنبوءات التوراتية – المحرفة – دعماً لمشروعهم وحشداً لطاقات اليهود لتحقيقه " أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل " .
    بل إن اختيار فلسطين لتكون دولة لليهود يوم سعوا إلى إقامة دولة قومية لهم , فيه بُعدٌ ديني واضح , إذ كان أمامهم يومها خيارات متعدّدة في مناطق أخرى من العالم , كانت لتكون أسهل عليهم وأقل مُؤنة , إذ المعلوم لديهم ولدى كل أحد أنَّ اختيارهم لفلسطين لن يمُرّ سهلاً , ولن تكون الُّلقمة سائغة , بل ستكون كالجلوس على أسنّة الرماح , وإذا كان كذلك فما الذي دفع القوم إلى هذا الاختيار الصعب إلا أن يكون هذا الدافع دينياً , عن اعتقاد منهم أو عن غير اعتقاد , ولكن عن استعمال لهذا البُعد الديني في تحقيق المكاسب السياسية عبر الطّرق المتنوعة .
    ولا مانع من اعتبار البُعد الاستعمارى لدى الغرب , واستخدامه اليهود كقاعدة هامّة لرعاية مصالحهم , والتعامل معهم كجماعة " وظيفية " تؤدي الأدوار التي تُنيطها بها دول الاستعمار , كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتبه .
    وإن كان ينبغي أن لا يمُر الأمر ههنا بعيداً عن الإشارة إلى ما كتبته الكاتبة الأمريكية " غريس هالسل " في كتابها المعروف " النبوءة والسياسة " الذي سجّلَت فيه موقف " المسيحية الإنجيلية " من دعم اليهود . واعتبارهم ذلك جزءاً من العقيدة التي صرّحوا بها في كل محفل , وحشدوا لأجلها كل جُهد والعجيب أن هذه المسيحية الإنجيلية لم تكن كتلة على هامش صناعة القرار الأمريكي , بل كانت في قلبه , ولو راجعت – متفضّلاً – الكتاب لترى العجب العُجاب الذي لا يَحْسُن إغفاله للإفادة منه في فهم طبيعة المعركة ووسائل المواجهة .
    ..... وهذا – في الحاصل – يعطي المعركة بُعداً دينياً واضحاً يستند كلٌّ من المتصارعين إلى عقيدة يستمد منها وكتبتها أيدي أحبار السوء والكُفر والظلام , وعقيدة الإسلام التي عاش الناس – كل الناس – يوم سادت وحكمت بالسلام والحرية والأمن .
    ..... ولو تأملنا العبَث الصهيوني اليوم بالمسجد الأقصى , والمحاولات الجادّة والإصرار العظيم على تهويده وتقسيمه تمهيداً لهدمه وبناء الهيكل لعلمنا قطعاً أن الذي يدير دفَّة القيادة ويتولّى الحُكم عقليات أيدلوجية عقيديّة , لا عقليات علمانية سياسية , إذ أن من المعلوم أن المسجد الأقصى على سبيل التحديد هو فتيل الانفجار الذي تفَجَّرت به معظم الثورات السابقة والانتفاضات المباركة في وجه المُحتَل , ولا غرو , فهو الوتَر الحساس عند كل مسلم على وجه الأرض .
    ..... ومع ذلك نرى محاولات العدو جادّة وخطّته عازمةٌ على النّيْل من المسجد ! وسيكون المسجد إن شاء الله شرارة المعركة القادمة , معركة التطهير والتحرير ومعركة الانتفاضة الإسلامية الكُبرى , التي تتغيّر فيها مُعطيات القُوى في العالم , وتعود الأمور إلى نصابها في ريادة الأمّة الإسلامية وعِزّتها وأستاذيتها في الأرض , { ويقولون متى هو قَل عسى أن يكون قريباً } " الاسراء : 51 " .
    ..... وللتدليل على ما وصفنا به اليهود من السعي وفقاً لبرامج دينية ودوافع عقيدية أنقُل بين أيديكم شيئاً مما قالوه بأنفسهم أو قيل عنهم من حلفائهم , أنقُله ملخّصاً من كتاب " الخطر الصهيوني على العالم الإسلامي " للأستاذ ماجد كيلاني – رحمه الله – صاحب المؤلفات المفيدة الماتعة يقول بعد بيان معالم الحملة التي شُنَّت على هُوِيّة الأمّة العقيدية والمحاولات التي بُذِلَت لإقناعها بأن الحرب التي تخوضها بعيدة عن الدين , بينما في الجانب الآخر نرى أن القضية حَرَّكتها العوامل الدينية في جميع ظروفها وملابساتها وخَطّط لتنفيذها إجماع العَقْلَيْن " اليهودي والصليبي " .
    ..... لِنَسمَع لما كَتَبه زعيمٌ من زعماء الصهيونية الذين عملوا في القضية منذ بدء المؤامرة حتى نهايتها , وهذا الزعيم هو " نورمان بنتويش " وقد كاتَفَ – وايزمن – وغيره من زعماء الصهيونية في التخطيط للمؤامرة , ثم عمل نائباً للمندوب السامي في فلسطين , وكان له سُلطة إصدار القوانين والتشريعات والأنظمة الملائمة لتهويد فلسطين , كتب بنتويش هذا في مذكراته يقول " لم يكن وعد بلفور وليد شعور أو تَهَوُّر بريطانيّ عابر , كما اعتاد الكثيرون أن يصوّروه ولكنه كان وليد سياسة مدروسة بدِقّة , وبعد طول التشاوُر مع أمريكا ومع غيرها من الدول الحليفة " .
    ..... ويمضي بنتويش ليُفَصّل هذا التقرير المُجمل فيقول " إن الكثير من البريطان ومن اليهود كانوا شديدي الإيمان بالنبوءات الواردة في التوراة بشأن دعوة اليهود إلى فلسطين .. وكان لويد جورج متشدّداً بإيمان بعدالة فكرة وعد بلفور , وبأنها حقّ لا شك فيه , وكانت التوراة هي دعامة إيمان لويد جورج ومعتقداته , وكان خيال لويد جورج وبُعد نظره قد قاداه إلى أن يختار هربرت صموئيل أوّل منوب سامٍ لفلسطين عام 1920 م .
    ..... ويمضي بنتويش في تفصيل الزعماء الإنكليز : وتولّى سالسبوري رئاسة الوزارة البريطانية عام 1897 م , وهو العام الذي نظم فيه هرتزل الحركة الصهيونية على أنها نهضة سياسية وقومية , واستطاع وايزمن أن يُقنع اللورد سيسل ابن سالسبوري منذ ذلك الأمد وقبل صدور وعد بلفور بالعبقرية اليهودية في الشؤون الروحية الفكرية .
    ..... " واجتمعت مرّة بهارون هارنسون في حزيران 1917 م ووجدته مسروراً جداً لأنه استطاع بالتعاون مع سوكولوف ووايزمن أن يحصلوا من " قداسة البابا " على موافقة لإعلان سياسة بريطانيا الخاصة بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين .
    ..... هذا جانب من الظروف التي تمَّ من خلالها التخطيط للمؤامرة على فلسطين , فمن السخافة إذاً أن نُعَلّل أسباب وعد بلفور وما أعقبه من جهود بريطانية وأمريكية في هذا المجال بعوامل مركبة فرضتها الظروف الطارئة على الحلفاء ثم نذهب بعد ذلك في معالجتها على أساس هذا الفهم السخيف .
    ..... وإذا كنّا نتكلم ههنا عن أسس المعركة القادمة مع اليهود , فليكُن من أهمها هذا الأساس : ألبُعد الديني للمعركة , بالمعنى الذي بيّناه , ثم التَّنَبُّه من بعدُ إلى خطورة الغفلة عن هذا الأساس .
    يتبع – المطلب الثاني : ماذا جنى القوم بسلخ القضية الفلسطينية عن بعدها الإسلامي ؟
    ******

  19. #19
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المطلب الثاني - ماذا جنى القوم بسلخ القضية الفلسطينية ...!


    ألمطلَب الثاني !
    ماذا جنى القوم بسلخ القضية الفلسطينية
    عن بُعدها الإسلامي ؟
    .......

    ..... إذا كان الأمر على ما ذكرنا فما الفائدة التي تُجنى من سلخ القضية الفلسطينية من بُعدها الإسلامي ؟ وما الفائدة من التركيز على قومية القضية ؟ بل وعلى فلسطينيتها أحياناً كثيرة ؟ .
    ..... وأحب أن أذكُر ما سمعتُه من مخضرم عاصر تطورات القضية الفلسطينية عن قُرب , ونظر إليها نَظَر البصير , وخالط أبرز عناصرها , ذلك الدكتور " عبد اللطيف عربيات " حفظه الله ونفع به , رئيس مجلس النواب الأردني الأسبق والنائب عن الحركة الإسلامية , إذ ذكر لي في أكثر من مجلس ما يتعلّق بهذا المنحى ورصد تطوراته من يوم كانت قضية بيت المقدس إسلامية محضة لا مراء في ذلك ولا جدل , وبقي الأمر كذلك حتى اجتمع القوم في القدس عام 1966 م , وكان من بينهم الشيخ العالم " مشهور الضامن " رحمه الله أحد علماء فلسطين , وهو الذي يُحَدّث الدكتور عبد اللطيف , فيقول – بالمعنى – بينما نحن مجتمعون في القدس ضمن أبرز شخصيات العمل السياسي في فلسطين إذ خَرَج أحدهم يقول : آن الأوان قبل البدء بالعمل أن نحدد هويّة قضيتنا , فهل قضية بيت المقدس قضية إسلامية أو قضية عربية ؟ قال الشيخ مشهور : فقُمت فانتهرته , قُلت : كيف تسأل هذا السؤال وأنت في بيت المقدس ؟ حتى أجلسني القوم وقالوا : اجلس يا شيخ , نُخضِع المسألة للتصويت , وكان , وكانت نتيجة التصويت أن يتم التعامل مع قضية بيت المقدس من مُنطلق عربيِّ قوميٍّ لا علاقة له بالبُعد الإسلامي , مجرّدٍ عن الهوية العقيدية !.
    ..... يقول الدكتور عبد اللطيف : ولم يقف الأمر عند هذا , بل تمَّ طرح السؤال نفسه " تقريباً " في السبعينات من القرن المنصرم في مؤتمر القمة العربية في الرباط في المغرب , لكن مع تعديل بسيط على صيغته , إذ طُرِحت المسألة لتحديد هوية القضية : أعربية هي أم فلسطينية ؟ .
    ..... وفرغ المؤتمرون يومها إلى التصويت على أن القضية قضيّة فلسطينية وليست عربية !! ثمّ حُجّمَت أكثر باتجاه اختيار ممثل " شرعي ووحيد " للشعب الفلسطيني وُكّلت إليه مهمة النيابة – زوراً وبهتاناً – عن الشعب الفلسطيني بالاعتراف بدولة الاحتــلال وإعطائهــا شرعيــة الوجــود والتنــازل – قبــل بــدء المفاوضات – عن 78 % من أرض فلسطين !!.
    ..... على أية حال , وعلى التسليم بحُسن النوايا , فما الفائدة في إقصاء الإسلام عن المعركة ؟ وتحييد العقيدة وما تُعطيه من قوّة لأصحابها ؟ إن المُقاوم المسلم لا يُهزم أبداً , فإنه يعتقد القتل الذي يَفِرُّ منه الناس فوزاً مبيناً , وهو أسمى أمنية من أمانيه , وهو يُرَدّد : والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .. وأبلغ منه قول الله تعالى { قُل هل تربصون بنا إلا إحدى الحُسنيين ونحن نترّبص بكُم أن يُصيبكم الله بعذاب من عِنده أو بأيدينا } " التوبة : 52 " .
    ..... والمسلم بعقيدته يؤمن بأن الرزق والأجل إنما هما بيد الله وحده فلا تُقلقه سُبُل تحصيل الرزق , ولا يَرُدّه خوف انقطاع الأجل عن الدفاع عن دينه وأرضه وعن الانتصار لبيت المقدس .
    ..... وهو – إذ يبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك – لا ينتظر عليه جزاءً دنيوياً , لا مالاً ولا منصباً يسيل لعابه في انتظاره , إنما يَرْقُب رضا الله ويتطَلَّبه في الحركات والسّكَتات , ويسعى قاصداً دخول الجنّة وما أَعَدّه الله فيها لعباده المؤمنين المجاهدين { إن الله اشترى من المؤمنين أنفُسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة يُقْاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } " التوبة 111 " , ثم هو في طريقه هذا لا تشغله الشهوات ولا تُفسده المُغريات , ولا يجد عدوّه نقطة ضعف يتسلّل من خلالها إليه وإلى أمّته , وليست هذه الميزات في غير المسلم , ولا يحصل عليهــا مــن مصــدر آخــر غيــر العقيــدة الإسلامية .
    ..... ولأجل هذا حرص عدوّنا على تحييد هذا النوع من المقاتلين والمقاومين " الإسلاميين " . وعَدّوهن أخطر ما يُهَدّد مشروعهم الاستعماري الخبيث , ذكر الدكتور أحمد شوكت – عن البرمشادور – الذي تحدث عن المسلمين فقال " ومن يدري ؟ قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين , فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب والزمن الموقوت .. لست أدّعي النبوءة ولكن الأمارات على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذّرّة ولا الصواريخ على وقف تيّارها " .
    ..... وكتبت مجلة التاريخ الجاري الأمريكية بحوثاً بهذا المعنى تماماً , ومن عناوين هذه البحوث " محمد يتهيأ للعودة " , " المسلمون رقدوا 500 عام , ويتحرّكون الآن ويتوَثّبون إلى السُّلطان " .
    ..... ويقول غوستاف يونج : إن العالم الإسلامي قد أفلت من قبضة الموت الذي أعدّه وشَقَّ أكفانه الاستعمار الأوروبي , وإن العالم الإسلامي ليُسْرِع الخُطى إلى الشباب ليُصَفّي حسابه مع الاستعمار الأوروبي الصهيوني , وهو حساب عسير رهيب .
    ..... ويقول باحث يهودي آخر : منذ بدء التغلغل الغربي في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا كانت أهَم الحركات الفكريّة المتميّزة المهمّة الأصيلة التي قامت في وجه هذا التغلغل حركات إسلامية , ولقد كان اهتمام هذه الحركات بمشاكل الإيمان والعقيدة وبمشاكل الجماعة المسلمة التي سيطر عليها غير المسلمين أكثر من اهتمامها بأرضٍ أو بلدٍ احتلّه الأجانب , وأقوى الحركات الثوريّة التي قامت والتي اكتسبت أقوى التأييد وأثارت به حماس أغلب الجماهير كانت دينية شعبية في أصولها وفي شعاراتها, وفي الأسلوب الذي عبّرت به عن غايتها وسبيلها .
    ..... ولا داعي لتتبّع مقولاتهم فسلوكهم اليوم في محاولة سلخ الأمّة عن دينها , وسلخ قضاياها عن عقيدتها واضحة لا تخفى على أحد , وليست إلا انعكاساً لبروتوكولات وضعها شياطينهم , إذ جاء في البروتوكول الرابع من بروتوكولات حكماء صهيون " يحتم علينا أن ننزع فكرة " الله " , وعندها يصير المجتمع مُنحَلاًّ , ومُبغضاً من الدين والسياسة , وستكون شهوة الذهب رائده الوحيد , وسيكافح هذا المجتمع من أجل الذهب متّخذاً اللذات المادية التي يستطيع أن يمدّه بها الذهب مذهباً أصيلاً , وحينئذٍ ستنضم إلينا الطبقات الوضيعة ضد منافسينا الذين هم الممتازون من " الأمميين " دون احتجاج بدافع نبيل , ولا رغبة في الثورات , بل تنفيساً عن كراهيتهم المحضة للطبقات العليا " .
    ..... إن الدعوة إلى تحييد الإسلام عن ساحة الصراع مع اليهود هو جريمة نكراء , في حق القضية والأمّة وفي حق الصراع والمعركة .
    ..... ثم إن هناك مسألة أخرى لا ينبغي أن نغفل عنها , وهي أن الكثيرين من أبناء الأمة الإسلامية – من غير العرب – هم أشدّ ولاء للمعركة المباركة وأكثر عطاء لقضية بيت المقدس من كثير من العرب , وإنما كانوا كذلك للاعتبار الإسلامي للقضية وللبعد العقيدي للمعركة .
    ..... ألا يكون تحييد هؤلاء عن المعركة – بجعل الصراع سياسياً مجرداً أو قومياً عربياً – جريمة لا تُغتفر بحق قضيتنا المباركة ؟ خصوصاً في الوقت الذي تمــدُّ دول العالــم الظالــم أياديهــا لليهــود بالدعــم فــي كل صورة .
    ..... ولعلّ بعضهم يتشبّث بشبهة تقريرها : أن في القدس من النصارى المسيحيين من أصحاب الدار , من لا يسوغ إقصاؤهم خارج حدود ساحة المعركة , وقد وقع عليهم من الظلم ما يمكن أن يلحق بما وقع علينا , وأسلمة المعركة – كما يظن هؤلاء – يستثني هؤلاء من الخطاب , ويظلمهم حقهم ويُخسِرنا عنصراً يمكن أن يكون في جانبنا .
    ..... والجواب أن نقول : إن عقيدية المعركة وإسلامية القدس لا تنافي الوجود المسيحي ولا الاعتراف بحق أهل القدس من النصارى فيها , بل ولا تمنع أيّاً كان حيثما كان أن يحضر إلى الأرض المقدسة متعبّداً لله كما في شريعته التي يعتقدها , وعلى هذا عاشت القدس القرون المتطاولة في ظل حكم الإسلام , لا يُمنع أحد أرادها للصلاة منها , ولم تُهدَم كنيسة , ولم يُغلَق دَيْر ولم يُطرد راهب ولم يؤذَ ! إلا أن هذا لا ينافي إسلامية القدس , كما أنه لا ينافي إسلامية غيرها حيث عاشت الأديان السماوية في ظل دولة الإسلام يتمتع أهلها بكل حقوقهم ويؤدون كامل واجباتهم , مثلهم في ذلك مثل أي مواطن آخر يعيش في دولة الإسلام ويحترم دستورها ونظامها .
    ..... إن النظام الوحيد الذي كفل للناس .. كلُّ الناس حرية العبادة عموماً وحريتها في القدس خصوصاً هو النظام الإسلامي , وإن الحقبة التاريخية الوحيدة التي شهدت ذلك هي الحقبة الإسلامية المتطاولة , حتى بعد أن ذاق المسلمون ويلات الحروب الصليبية ورأوا المجازر التي اقترفتها جيوش أوروبا يوم دخلت هذه البلاد في القرن الخامس الهجري , أقول : حتى بعد أن رأوا ذلك لم يمنعهم هذا من استمرار التسامح الديني , والحفاظ على النهج الإسلامي المعلوم تجاه أهل الكتاب – حتى الأوروبيون منهم – مِنْ تَرْك الباب مفتوحاً أمام قاصدي القدس للوصول إليها وعبادة الله فيها , والتاريــخ – حتى الذي كتبــه مؤرخوهــم – شاهد على ذلك أتَمّ شهادة , لم يستطع كاتبوه على الرغم من عــدم حياديــة كثيــر منهــم إلا أن يعترفــوا للمسلمين بهذا الفضل وأن يُسَجلوا لهم هذه السابقة .
    ..... بل وأبعد من ذلك يمكن أن نقول : إن المسيحيين النصارى من أبناء القدس هم شركاء للمسلمين في المدينة , وسلّموها يوم سلّموها لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على شروط معروفة تاريخياً باسم " العهدة العمرية " , ضَمِن لهم فيها رضي الله عنه الأمان والحفاظ على كنائسهم .. وأن لا يساكنهم فيها أحدٌ من اليهود !.
    ..... وعلى ذلك , فنحن مسؤولون أمامهم عن الوفاء بهذه الشروط وتنفيذها على الوجه الأتَم الأكمل , وهم في مقابل ذلك مسؤولون كمال المسؤولية عن الوفاء أمام المسلمين بعهود الانتماء للحضارة وللأمّة التي عاشوا فيها قروناً متطاولة آمنين ينعمون بالحرية والعدل والمساواة .
    ..... وبعد , فإسلامية المعركة وهُويّتها العقدية أساسٌ مُهِمٌّ جداً من أسس المعركة القادمة مع اليهود , وهي نقطة قوّة تُستخرج بها الطاقات , وتتجمع لأجلها القلوب , ويلتئم بها جسم الأمّة الكبيرة ويحيى , وتكون القدس معراجها إلى فضاءات العِزِّ والمجد والريادة , كما كانت معراج نبيّها صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى , وتؤم بها الأمّة الأمم والشعوب , كما كانت إمامة نبيّها عليه الصلاة والسلام بالأنبياء جميعاً , صلوات الله وسلامه عليهم .

    يتبع – المبحث الرابع – عُقم العقلية السِّلمية وحسم جدلية نتائجها !
    *******

  20. #20
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المبحث الرابع .. عقم العقلية السلمية ...


    " ألمبحث الرابع "
    عُقْم العقلية السّلمية وحسم جدليّة نتائجها
    .......
    ألمطلب الأول :
    ألنتائج الواقعية للعملية السلمية .
    ألمطلب الثاني :
    تأكيد النصوص الشرعية على حتمية الصدام وعبثيّة الحل السلمي .
    .......

    ألمطلب الأول :
    ألنتائج الواقعية للعملية السلمية

    ..... بعد مراحل متعددة من الصراع مع اليهود وما كان فيها من نكبات ونكسات أحاطت بالنظام العربي الرسمي فَجَّر الرئيس المصري " أنور السادات " المفاجأة بافتتاح المسار " العلني " للتفاوض مع الكيان الغاصب , وذلك في سنة 1977 م . حين زار المذكور الكيان , ووقّع في عام 1978 م الاتفاقية المشؤومة المعروفة باتفاقية " كامب ديفيد " .
    ...... وعلى الرغم من الموقف العربي الذي بدا يومها رافضاً للموقف الرسمي المصري , إلا أن القوم تهافتوا بعده بحين ليحذوا حذوه .
    ..... وكان من أهم الاتفاقيات التي عُقِدَت مع الكيان الصهيوني منذ بدء المسار العلني للمفاوضات : اتفاقية أوسلو في " أيلول – سبتمبر " 1993 م , التي وقعتها السلطة الفلسطينية , واتفاقية مدريد سنة 1991 م التي وقعتها الأردن , وتوالت بعد ذلك الاتفاقيات واحدة تلو أخرى , واستمر التفاوض حتى هذه اللحظة التي أُسَطّر فيها هذه الكلمات .
    ..... والحق أن اليهود قد نجحوا أيّما نجاح في إدارة الصراع وكسب الوقت وتحصيل الاعتراف الفلسطيني والعربي " الرسمي " بدولة " اسرائيل " والسيطرة على ما يزيد على 78 % من أرض فلسطين قبل البدء بالتفاوض أصلاً .
    ..... وعَوَّل قومنا على أخلاق اليهود كثيراً , متأمّلين أن يجود عليهم اليهود بوهبهم " الدولة الفلسطينية " المزعومة على ما تبقّى من أرض فلسطين بعد الكثير من المستوطنات التي ملأت القدس والضفة الغربية .. وقدّم المفاوضون " العرب " لليهود كل ما كان بالنسبة إليهم حُلماً , وقدّموا من ضمن ما قدموه من القرابين : المقاومة الفلسطينية وسلاحها , وعملوا على مطاردتها وتدمير بُنْيتها , وإغلاق مؤسساتها , يتوسلون بذلك إلى تحصيل الرضا اليهودي والإنعام بالدولة المنتظرة : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم } " البقرة : 120 " .
    ..... أكتب هذا بعد ما يزيد عن رُبع قرن من توقيع أوسلو والاعتراف بالدولة الإسرائيلية , والمشكلة الكبرى أن قومنا ما تزال جذوة الوهم مُتَّقِدَة في نفوسهم , يَحُثّون الخطا وراء السراب .
    ..... لا غرو ولا عجب , فالانحراف المنهجي عن الصراط السويّ كان واضحاً من أول الطريق حين أُبْعِد الإسلام وحوصر واتُّهِم , وانقلبت الموازين وائتُمِن الخائن وخُوِّن الأمين ونَطَقَ الرُّوَيْبِضَة .
    ..... ولم يجد بعضهم حَرَجاً بأن يُصَرّح بأن المفاوضات والحلّ السلمي هو الحل الاستراتيجي والوحيد الذي " يعبدونه " وحَكَموا على الشعب الفلسطيني بأن يجثو على ركبتيه بانتظار قرار الجلاّد , اللهم إلا ما حفظ الله به جذوة المقاومة بتدبيره في غزة أعزّها الله , وفي جيوب هنا وهناك في سائر فلسطين .
    ..... إن قرار الولوج إلى شَرَك العملية السلمية بهذه المعطيات والمواصفات كان أكبر جريمة اقتُرِفَت في حق قضية فلسطين وقُدسها وأقصاها وشعبها وأجيالها , وإن الأجيال القادمة – أجيال الفتح – لن تغفِر لهؤلاء الذين اقترفوا في حق أمّتهم وقضيتهم بتهمة الانتماء أو التعاون أو التعاطُف معها .
    ..... وتغُص أسواق هذه البلاد بالمنتجات الإسرائيلية في خطوة متقدّمة لتحقيق ما يُسمّى بالتطبيع , وهذا بعد فتح السفارات والقناصل والمكاتب لدولة الاحتلال في عواصم الدول العربية والإسلامية , وتتقدم بعضها لتَرهن قرارها السيادي باليد الصهيونية الآثمة عن طريق ربط بعض سلعها الأساسية والحيوية والاستراتيجية بالعدو , متندّرة بأن دولة الاحتلال دولة شرعية , ومن شأن العلاقة معها أن تكون طبيعية وبأن كثيراً من السّلع الأخرى الإسرائيلية تملأ أسواقها .
    ..... ألا يتّعِظ قومنا بما يرونه ويسمعونه من خُبث اليهود ومكرهم ونهمهم وجرائمهم ؟! ألم يتعلموا من التاريخ , وكان لهم فيه دروس وعِبَر – لو كانوا يعلمون ؟! ألم يستمعوا إلى كلام ربهم ينهاهم عن الوثوق باليهود والاطمئنان لهم والطمع في انقيادهم ووفائهم للحق ؟!.
    ..... أمّا إنّه قد كان لهم في كل ذلك كفاية تكفيهم مؤنة التذلُّل تحت أقدام اليهود , وانتظار الجود من شحيح طباعهم : { أم لهم نصيب مِن المُلك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } " النساء : 53 " .
    ..... لكن النصر نعمة من الله يُنعم بها على مَن لم يتلَوّث بالركون إلى اليهود ولم يتفاوض على أرضها – فلسطين - , ولم يُفَرّط في قُدسها وأقصاها ولم يَعْدِل عن منهج الله إلى مناهج الضلال والانحراف : { يا أيها الذين آمنوا مَن يرتَدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يُحبهم ويُحبونه أذِلّة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين يُجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومّة لائم ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله واسعٌ عليم } " المائدة : 54 " .
    ..... وحتى نُدرك الآثار والنتائج الواقعية بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه , فإنه يَحسُن عرض بعض بنود اتفاقية أوسلو وما ترتّب عليها عملياً على الأرض :
    1 – انفردت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بإقرار اتفاق أوسلو دون الرجوع إلى الشعب الفلسطيني حيث توجد معارضة قوية لهذا الاتفاق في أوساط الإسلاميين والوطنيين واليساريين على السواء وحتى في أوساط حركة فتح نفسها .
    2 – أجَّل هذا الاتفاق البتّ في أهم القضايا الرئيسية وأكثرها حساسية وأصبح حسمها مرتبطاً بمدى " كرَم " الطرف الصهيوني الذي استغَلّ قوّته لفرض شروطه على الطرف الفلسطيني الأضعف وأبرز هذه القضايا :
    • مستقبل مدينة القدس .
    • مستقبل اللاجئين الفلسطينيين .
    • مستقبل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية .
    • طبيعة الكيان الفلسطيني المستقبلي وصلاحيته وحدوده وسيادته على أرضه .

    3 – وافق هذا المشروع رغبة صهيونية هدفت إلى التخلّص من عبء مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية بما تحمله من مشاكل أمنية واقتصادية .
    4 - الحصيلة العملية للاتفاق : إدارة حكم ذاتي ذات صلاحيات تنفيذية محدودة مرتبطة بالاحتلال وتحت هيمنته المباشرة وللكيان الصهيوني حق النقض " الفيتو " على قراراتها وقوانينها التشريعية كما حُرِمت السلطة الفلسطينية من حق تشكيل جيش خاص بها وهي لا تملك أن تُدخل أيّة أسلحة إليها إلا بإذن الكيان الصهيوني .
    5 – أصبحت إدارة الحُكم الذاتي مضطرة لقمع وسحق أي جهاد وعمليات مسلّحة ضد الكيان الصهيوني والقبض على مجاهدي المنظمات الفلسطينية لإثبات " حُسن نواياها " وحرصها على " السلام " وتشكّلت لها أجهزة أمْنيّة تُحصي على الناس أنفاسهم بينما كان أداؤهــا أكثــر ضعفــاً فــي المياديــن الاقتصاديــة والسياسية والاجتماعية واستشرى الفساد في أجهزتها ولم تُخَفّف السلطة من قبضتها الأمنيّة على الناس إلا إثر اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول – سبتمبر – 2000 م ,
    6 – ظلت الحدود تحت السيطرة " الإسرائيلية " وظل دخول مناطق السلطة الفلسطينية أو الخروج منها مرتبطاً" بحق " الصهاينة في إعطاء الإذن بذلك أو منعه .
    7 – لا تُشير الاتفاقية إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإنشاء دولتهم المستقلّة ولا نتحدث عن الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها أراضٍ مُحتلّة .
    8 – فَتَح هذا الاتفاق الباب على مصراعيه للدول العربية والإسلامية لعقد اتفاقيات وبناء علاقات مع الكيان الصهيوني وأعطى الفرصة للتغلغل الصهيوني في المناطق وتحقيق الهيمنة الاقتصادية وضرب القوى الإسلامية والوطنية .
    ..... ألأمر الذي أدّى إلى ترك الشعب الفلسطيني وحيداً دون نصير عربي أو إسلامي بعد توقيع سلسلة من الاتفاقيات لا تقِل خطراً عن " أوسلو " بل وضع – كما تبيّن – الشعب الفلسطيني في المواجهة مع السلطة الفلسطينية نفسها , التي اعتبر رئيسها " التنسيق الأمني " مع الاحتلال " مُقدّساً " .
    ..... وقد صدرت الفتاوى الجماعية والفردية الكثيرة التي تُحَرّم مثل هذه الاتفاقيات المُذِلّة ومن ذلك ما أصدره مجموعة من علماء المسلمين الثقات الذين أفتوا بعدم جواز التسوية السلمية حسبما يريد الداعون إليها وبوجوب الجهاد المقدس لتحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة وتحريرها كاملة تحت راية الإسلام وباعتبار هذه المعركة مع الصهيونية على أرض فلسطين المباركة معركة حق وباطل تتوارثها الأجيال حتى يأذن الله بالنصر والتمكين , كما أن قضية فلسطين هي قضية كل المسلمين الذين يرفضون التنازل عن حقهم مهما طال الزمن وليست قضية الفلسطينيين وحدهم فضلاً عن أن تكون قضية منظمة التحرير الفلسطينية أو قيادتها وهناك فتاوى عديدة أصدرها العلماء وقد نُشِرَت إحداها سنة 1990 م , وجاء فيها " الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين وليس لشخص أو جهة أن تُقِرّ اليهود على أرض فلسطين أو تتنازل لهم عن أي جزء منها أو تعترف لهم بأي حق فيها " .
    ..... وقد وقّع هذه الفتوى عشرات العلماء الكبار مثل : العلامة د. يوسف القرضاوي .. والشيخ محمد الغزالي .. ود . وهبة الزحيلي .. والعلامة د .عمر الأشقر .. ود ابراهيم زيد الكيلاني .. والشيخ خالد المذكور .. والشيخ المجاهد د . عبد الله عزام .. ود . همام سعيد .. والشيخ عجيل النشمي .. والشيح محرم العارفي .. والاستاذ محمد أحمد الراشد .. ود . عصام البشير .. والشيخ فيصل مولوي .. والشيخ طه جابر العلواني .. والشيخ أحمد العسال .. والشيخ عبد السلام الهراس .
    ..... كما وقعها جمعٌ من قادة الحركات الإسلامية أمثال : راشد الغنوشي .. ومصطفى مشهور .. ونجم الدين أربكان .. وبرهان الدين رباني .. وحكمتيار .. ومحفوظ النحناح .. وابو الليث الندوي .. وقاضي حسين أحمد .

    يتبع – المطلب الثاني – تأكيد النصوص الشرعية على حتمية الصدام وعبثية الحل السلمي .
    *******

  21. #21
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي تأكيد النصوص الشرعية ...!


    ألمطلب الثاني :
    تأكيد النصوص الشرعية على حتمية الصِّدام
    وعَبَثِيّة الحلّ السّلمي
    .......

    ..... لم يكتَفِ اليهود بالموقف السّلبي تجاه الإسلام , فقد امتلأت قلوبهم حقداً وبُغضاً لهذا الدين ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهله , حتى صاروا أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا كما قال تعالــى : { لتَجِــدَنّ أشــد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } " المائدة : 82 " .
    ..... ولعلّ التعبير بالموصول للإشارة إلى عِلّة عداوة اليهود " للذين آمنوا " فإيمان المسلمين وصلاحهم واستقامتهم هو سبب عداوة اليهود لهم كما قال تعالى في آية أخرى : { قُل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل مِنْ قبل وأنّ أكثركم فاسقون } " المائدة : 59 " .
    .... ولعل التعبير – كذلك – هنا بالنقمة " هل تنقمون " يُصَوّر طبيعة المشاعر التي يتوجّه بها اليهود إلى المؤمنين , فالنّقمة مرضٌ نفسيٌّ خبيثٌ يدُلُّ على الحقد والبُغض والكراهية , ولذلك وَصَف به الكُفّار وأعمالهم ولم يُسند إلى المؤمنين أبداً وإن كان " الانتقام " قد أسند في القرآن إلى الله تعالى الذي يعاقب المجرمين على سوء صنائعهم : { والله عزيزٌ ذو انتقام } " المائدة : 95 " .
    ..... وكانت مشاعرهم هذه تقودهم إلى تمنّي زوال كل نِعمة يُنعم الله بها على المؤمنين : { ما يَوَد الذين كفروا مِن أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنَزّل عليكم من خيرٍ من ربّكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } " البقرة : 105 " .
    ..... ولما كانت نعمة الهداية إلى دين الله تعالى والاستمساك بحبل الوحْي أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على المؤمنين كان اليهود " يودّون " زوالها عن المسلمين ويتمنّون رؤيتهم يتدحرجون في وديان الضلال التي أنقذهم الله منها !! وعودتهم إلى جاهليتهم يعبدون الطواغيت من دون الله ويلهثون وراء الشهوات , ليمسكوا بأزمة قيادهم وتكون لهم السيادة الفكرية والسياسية – كما كانت من قبل - !! { وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يرُدّونكم من بعد إيمانكم كُفّاراً حَسَداً من عند أنفُسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير } " البقرة : 109 " وأيضاً قال تعالى : { وَدَّت طائفة مِن أهل الكتاب لو يُضِلّونكم وما يُضِلّون إلا أنفسهم وما يشعرون } " آل عمران : 69 " .
    ..... ولم يتوقف الأمر – بطبيعة الحال – عند " الوُدّ " والمشاعر والأمنيات وإنما تعدّاه إلى " الإرادة " فقد أرادوا إضلال المؤمنين والإرادة خطوة على طريق التنفيذ قال تعالى : { أَلَم تَرَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويُريدون أن تَضِلّوا السبيل } " النساء : 44 " .
    ..... وبدأوا حقاً بالتنفيذ والمحاولة ولا غرو , فقد نقل عن العرب قولهم ( وَدَّت الزانيــة لــو أن النّساء كلّهنَّ زواني ) ولقد جاءك من قبل في مبحث " العداء اليهودي للدعوة الإسلامية " ما تحصل به الكفاية .
    ..... وقد أخبر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن اليهود لن ترضى عنهم أبداً إلا أن ينسلخوا من دينهم , ويتّبعوا دين يهود وينقادوا إليهم بالكلّيّة قال الله عزّ وجَلّ : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع مِلّتهم قُل إن هُدى الله هو الهُدى ولئِن اتّبعت أهواءهم بعد الذي جاءك مِن العِلم ما لَكَ مَن ولِيٍّ ولا نصير } " البقرة : 120 " .
    ..... وأراد الله تعالى حسم أطماع المؤمنين في إيمان اليهود لهم وانقيادهم بسلاسة للحق الذي جاؤوا به قال تعالى : { أَفَتَطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يُحَرّفونــه مِــن بعــد ما عَقَلوه وهم يعلمون } " البقرة : 75 " , وإذا كان هذا سلوكهم مع كلام الله " يحرفونه من بعد ما عقلوه " فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم ؟.
    ..... وتعديَة فعل الإيمان باللام "أن يؤمنوا لكم " يشير إلى أن المقصود بالإيمان لهم هنا .. الاستسلام والانقياد والاتباع والطاعة كقوله تعالى : { فآمن له لوط } "العنكبوت :26 " بخلاف معناه إذا عُدّي بالباء حيث يُقصَد به : التصديق , وقد يُضمَّن فعل الإيمان هنا " الاستجابة , فيعود إلى المعنى الأوّل , قال القاسمي في محاسن التأويل : واللام في قوله " لكُم " لتضمين معنى الاستجابة , كما في قوله عزَّ وجلَّ : { فآمن له لوط } , أي في إيمانهم مُستجيبين لكم , أو للتّعليل أي في أن يُحدِثوا الإيمان لأجل دعوتكم .
    ..... هو إياسٌ – إذن – من سلوكهم للحق وتعايشهم معه , وإذا كان اليهود قد سَكَنوا يوماً فإنما سَكَنوا تحت بريق السيوف يتحيّنون الفرصة للانقضاض على أهل الإيمان في لحظة غفلة , فهم "أشد الناس عداوة للذين آمنوا " حقيقة ثابتة إلى يوم القيامة لا يتغافل عنها إلا مغبون فاســق يــورد أمّتــه أسبــاب الهلاك .
    ..... وليأذن لي القارىء الكريم بنقل تعليق الأستاذ سيد قطب عند تفسيره قول الله تعالى { لتجِــدَنّ أشــدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } " المائدة : 82 " .
    ..... قال " إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم وأن تكون كذلك خطاباً عامّاً خَرَجَ مخرج العموم , لأنه يتضمّن أمراً ظاهراً مكشوفاً يجده كلُّ إنسان , وهي صيغة لها نظائرها في الاسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم , وهي في كلتا الحالتين تُفيد معناها الظاهر الذي تؤدّيه .
    ..... فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صَدد أنهم أشدُّ الناس عداوة للذين آمنوا , وأن شدّة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مُقَرّر يراه كل من يرى ويجده كل من يتأمّل .
    ..... نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيباً ولا ترتيباً , ولكن تقديم اليهود هنا , حيث يقوم الظّن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين – بما أنهم أصلاً أهل كتاب – يجعل لهذا التقديم شأناً خاصّاً غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه – على الأقل – يوجّه النظر إلى كونهم أهل كتاب لم يُغَيّر من الحقيقة الواقعة , وهي أنهم كالذين أشركوا , أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول : إن هذا " على الأقل " , ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدّة العداء عن الذين أشركوا .
    ..... وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الربّاني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة , فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشدّ وأقسى وأعمق إصراراً وأطول أمداً من عداء الذين أشركوا ! لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولــى التــي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة , وكادوا للمسلمين منذ اليوم الأوّل الذي أصبحوا فيه أُمّة .
    ..... وتضمّن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنّها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى الأمّة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تَخْبُ لحظة واحدة قُرابة أربعة عشر قرناً , وما تزال حتى اللحظة يتسَعّر أوارها في أرجاء الأرض جميعاً .
    ..... لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم أوّل مقدمه إلى المدينة معاهدة تعايش مع اليهود ودعاهم إلى الإسلام الذي يُصَدّق ما بين أيديهم من التوراة , ولكنهم لم يَفوا بهذا العهد , شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل , حتى قال الله تعالى : { ولقد أنزلنا إليك آياتٍ بيّنات وما يكفُر بها إلاّ الفاسقون * أوَ كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولمّا جاءهم رسول من عند الله مُصَدّقٌ لما معهم نَبَذ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهــم كأنهــم لا يعلمــون } " البقرة : 99 – 101 " ., ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأوّل الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام , فلم يعُد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مَخْرَج , ومنذ اليوم الذي تحدّدت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تعُد لليهود فرصة للتَّسَلُّط .
    ..... ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتَّقت عنها عبقرية المكر اليهودية , وأفادتها من قرون السَّبْي في بابل , والعبودية في مصر , والذُّل في الدولة الرومانية , ومع أن الإسلام قد وسِعَهُم بعد ما ضاقت بهم المِلَل والنِّحَل على مدار التاريخ , فإنهم ردّوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأَم المكر منذ اليوم الأول .
    ..... ولقد ألَّبوا على الإسلام والمسلمين كلّ قُوى الجزيرة العربية المُشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرّقة لحرب الجماعة المسلمة : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } .
    ..... ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق – يوم أن كان الناس مسلمين – استداروا يكيدون له بدَس المفتريات في كُتُبه , لم يسلم من هذا الدَّس إلا كتاب الله الذي تَكَفَّل بحفظه سبحانه , ويكيدون له بالدَّس بين صفوف المسلمين , وإثارة الفِتَن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقــه مــن مُسلِمَــة الأقطار .
    ..... ويكيدون له بتأليب خصومة عليه في أنحاء الأرض , حتى انتهى بهم المُطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يخوضون المعركة مع الإسلام في كل شِبْرٍ على وجه الأرض , وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة , وهم الذين يُقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتّسمون بأسماء المسلمين ويشنّونها حرباً صليبية صهيونية على كل جَذْرٍ من جذور هذا الدين ! وصدق الله العظيم : { لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } .
    ..... إن الذي ألَّبَ الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش في مكّة , وبين القبائل الأخرى في الجزيرة , يهودي , والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الروايات والسِّيَر , يهودي .
    ..... ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة , ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزْل الشريعة عن الحُكْم واستبدال " الدستور " بها في عهد السلطان عبد الحميــد , ثــم انتهــت بإلغــاء الخلافة جُمْلة على يدي " البطل " أتاتورك , يهودي .
    ..... وسائر ما تلا ذلك من الحرب المُعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكــان علــى وجــه الأرض وراءه يهود ! ثم لقد كان وراء النَّزعة الماديّة الإلحادية , يهودي .. ووراء النزعة الحيوانية الجنسية .. يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدّامة لكل المقدسات والضوابط .. يهود ! ولقد كانت الحرب التي شنّها اليهود على الإسلام أطول أمداً , وأعرض مجالاً , من تلك التي شنّها عليه المشركون والوثنيون – على ضراوتها – قديماً وحديثاً .
    ..... إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتدّ إلى أكثر من عشرين عاماً في جملتها , وكذلك كانت المعركة مع فارسٍ في العهد الأول , أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنيــة الهنديــة والإســلام ضراوة ظاهرة ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية .
    ..... فإذا سمعنا الله سبحانه يقول : { لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ويقدم اليهود في النَّص على الذين أشركوا .. ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي , فإننا ندرك طرفاً من حِكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا ! إنهم هذه الجِبِلَّة النَّكِدَة الشّريرة , التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام , فيحذّر الله نبيّه وأهل دينه منها .. ولم يغلب هذه الجِبِلّة النَكِــدة الشريــرة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه .
    ..... إننا إذ نواجه اليهود في المعركة المباركة الكبرى يجب علينا الاعتقاد بمُقتضى هذه النصوص الشرعية , التي تجَلّت واقعاً في التاريخ وفي الحاضر وستتجلّى في المستقبل كذلك , حتى يقضي الله بيننا وبينهم في المعركة الكبرى التي يتّبعون فيها الدّجّال ونقاتلهم وراء نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام .
    ..... إن الاعتقاد بحتمية الصراع مع بني إسرائيل وبِعَبَثِيّة الحل السلمي أساس هامٌّ من أُسس المعركة القادمة معهم , تتبخّر معها أوهام السلام وينكشف بها حجاب التزوير والكذب ويُلْجَم بها خيار الذين لا يؤمنون .
    ******



    يتبع " المبحث الخامس " حتمية النصر ... سنكملها بعد الشهر الفضيل بحول الله تعالى .____________________

  22. #22
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المبحث الخامس - حتمية النصر على اليهود .


    ألمبحث الخامس
    -----------
    حتميّة النصر على اليهود والخطوط الرئيسة
    في صورة المعركة


    ..... جاءت النصوص الشرعية مبشّرة بحتمية زوال إفساد اليهود وتتبير عُلُوّهم وتدمير دولتهم , بل وتجاوز الأمر مُجرّد إزجاء البُشريات فتعدّاه إلى رسم الخطوط الرئيسة في شكل المعركة وصورتها وأَعْرِض هذا المبحث في مطلبين اثنين يتناصفان عُنوان المبحث .. أما المطلب الأول فبعنوان " حتمية النصر على اليهود " . وأما المطلب الثاني فبعنوان " الخطوط الرئيسة في صورة المعركة " .
    وأسأل الله التيسير والتوفيق إنه رحيم ودود

    ___________
    ألمطلب الأول :
    حتمية النصر على اليهود
    ..... ألإيمان بحتمية الانتصار على اليهود أساسٌ هامٌّ من أسس المعركة , فإن تسلّل اليأس إلى قلوب المؤمنين هو رِهانُ العدوّ الذي يُجلِب بخيله ورَجِله قاصداً تحطيم معنويّة الأمة وإقناعها بأن وجوده أمرٌ واقع وأن قوّته لا تُضاهى وجيشه لا يُهزم فعمل على نشر الأكاذيب حول ذلك وأقنع كثيراً من الذين لا يوقنون بأسطورة " الجيش الذي لا يُقهر " .
    ..... ثم استعمل الإعلام لتضخيم صورته وتعظيم قوّته , ونشَر أبواقه وسَحَرَتَه في كل مكان ف { سَحَروا أعيُن الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيم } " الأعراف : 116 " .
    ..... وليست هذه الطريقة غريبة على أولياء الشيطان , بل إنها مكيدة شيطانية معروفة , عرّفنا الله تعالى بها ودلّنا عليها وحذَّرنا منها , فقال { إنما ذلكم الشيطان يُخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين } " آل عمران : 175 " .
    ..... وقد تكلم المفسرون في قوله تعالى " إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه " فذكروا فيه وجهين , ألأوّل أن الشيطان يخوّفكم أيها الناس بأوليائه فيُعَظّمهم في أعينكم ويجعل منهم قوّة لا تُقهَر وهم في الحقيقة خواء ... والثاني أن الشيطان إنما يملك تخويف أوليائه ولا يملك تخويف أولياء الله فإن كنتم من أولياء الله لم تخافوا الشيطان ولم تستجيبوا له .
    ..... ألمؤمنون لا ينخدعون بمكايد الشيطان وأوليائه , لأنهم يكشفون هذه المكايد وينظرون بعين الإيمان واليقين ويعلمون أن الله تعالى هو من بيده النصر وهو الذي { أمْره إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون } " يس : 82 " , وأنما أمره كلمح البصر .
    ..... وقد سمعوا الله في كتابه يقول لهم { لا يغُرّنك تَقَلُّب الذين كفروا في البلاد * متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } " آل عمران : 196 – 197 " , فلا تملأُهم أسلحة العدو رهبة ولا عدَدَه ولا عُدَده ولا تستحوذ عليهم سطوته ولا يُرهبهم تنكيله لأنهم رأوا الحقائق ونظروا إلى قوته بجانب قوة الله , فعلموا ضعفه وسُخفه وقدرة الله وإحاطته به { لا تحسبنَّ الذين كفروا مُعجِزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير } " النور : 57 " .
    ..... وعلموا أن الله إنما ابتلاهم بعدوّه وابتلى عدوّهم بهم لينظر كيف يعملون , ولو أراد سبحانه لانتهت المعركة ولانحسم الصراع { ذلك لو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض } " محمد : 52 " .
    ..... إن المؤمنين في مواجهة عدوّهم فائزون في كل حال { قُل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحُسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون } " التوبة : 52 " .
    ..... وقد صدق شيخ الجهاد " عز الدين القسام " يوم أعلنها شعاراً " إنه جهاد .. نصر أو استشهاد " , أما النصر فهو عاجل البُشرى يُعِز الله به أولياءه , ويُذل أعداءه , ويرفع رايته , ويحقق للدين غايته { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهِرَه على الدين كُلّه ولو كَرِهَ المُشركون } " التوبة : 33 " ,وأما الشهادة فإنها أسمى الأماني بطلبها تلهج ألسنة المؤمنين وترتفع دعواتهم وتتضــرّع قلوبهــم إذ يرونها الفوز المبين يقيناً بقول الله تعالى { ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون * فرِحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألاّ خوف عليهــم ولا هــم يحزنون } " آل عمران : 169 – 170 " .
    ..... وأمام هذه العقيدة وبإزاء هذه الخيارات يجد المؤمنون أعتى قوى الأرض ضعيفة خاملة لا تملك من أمرها شيئاً إلا أن يشاء الله تعالى القدير العظيم الفعّال لما يريد { إن بطش ربك لشديد * إنه هو يُبدىء ويُعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعّالٌ لم يريد } " البروج : 12 – 16 " .
    ..... وبعد , فحتمية النصر على اليهود أمرٌ من اعتقاد المسلمين , استمداداً من كلام ربهم وما وردهم صحيحاً عن نبيّهم صلى الله عليه وسلم وعداً عليه حقاً سبحانه إنه لا يُخلِف الميعاد , كما أن اليهود في أصل تركيبتهم المجتمعية وصفاتهم النفسية والخُلُقيّة يحملون عوامل انهزامهم وانتهائهم .
    ولذلك يَحسُن أن أعرض القادم ضمن نقطتين والله الموفق
    الفرع الأول : الوعود الربانية بنصر المؤمنين :
    ..... تكاثرت النصوص الشرعية من القرآن والسُّنة في بيان نهاية المعركة بين الحق والباطل والإيمان والكُفر , نصرٌ مؤزرٌ للحق وأهله وهزيمةٌ مُذلّةٌ للباطل وحِزبِه .
    ..... وبيّن الله تعالى أن الغاية من إرسال هذا الرسول الخاتم وإنزال الرسالة الغرّاء هي الانتصار للحق والتوحيد وإظهار هذا الدين على كلِّ دين وهيمنة هذه الرسالة على كل رسالة { هو الذي أرسل رسوله بالهُدى ودين الحق ليُظهِره على الدين كلّه ولو كرِه المشركون } " الصف : 8 " ... وأحب أن أقف مع الآية وقفتين :
    ألأولى : في الآية استعارة محتوية على تشبيه وبيانه : أن الذي يحاول مدافعة قدر الله في إظهار دينه ونصره شريعته وإعلاء كلمته كالذي يقف محاولاً إطفاء نارٍ عظيمة ونور ساطع يقف محاولا إطفاءها بفيه ينفخ عليها ظاناً أنه يتمكن من ذلك ... ساذجٌ وأحمق ذلك الذي يقف يدفع بكفّيه الضعيفتين قدر الله ودين الله { والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } " يوسف : 21 " .
    ألثانية : قوله تعالى " والله مُتِمُّ نوره " حيث جاء التعبير بالإسم " مُتِمّ " ولم يقُل " يُتِم " أو " سيُتِم " ذلك أن الإسم يدل على الثبوت والاستقرار , والفعل يدل على التجدُّد والحدوث وإتمام الله تعالى لنوره ثابتٌ مستقرٌ لا يمنعه مانع ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء .. وقريب من هذا – على وجه من وجوه التفسير – قوله تعالى { من كان يظُن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يُذهبنّ كيده ما يغيظ } " الحج : 15 " .
    ..... وهذه الآية دالّة على أن انتصار دين الله تعالى حتمية لا يمكن لأحد أن يكيد لإيقافها وقد دلّت على هذا المعنى بألطف طريقة وأطرف إشارة , إذ فيها إرشاد المغتاظ من نُصرة الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام ولدينه ورؤية الإسلام يقتحم قلاع النصر ويبني قصور العزّ والمجد وينشر على الدنيا بُسُط الكرامة والحريّة , فيها إرشاد له إلى الطريقة الوحيدة التي يمكنه أن يُذهب بها ما يجده في صدره من الغيظ والحنق وهي أن يمُدّ حبلاً إلى سقف بيته ويربطه حول عنقه ثم ليشنق نفسه وليقتلها ثم لينظر بعد ذلك هل ذهب ما يجده من الغيظ أم لا ؟؟؟.
    ..... وهذا الوجه قوي في تفسير الآية وقد ذهب إليه نفر من السلف من محققي المفسرين , يقول الإمام الألوسي في تفسيره لهذه الآية مع بيانه لسياقها الواردة فيه " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا " الضمير في – ينصره – لرسول الله صلى الله عليه وسلم , على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل والضحّاك وقتادة وابن زيد والسُّدّي .. واختاره الفرّاء والزجّاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه يُدلي بحُجّة ما ضرورية أو نظريّة ضرورية أو نظرية سمعيّة ولما يؤول إليه أمره من النكال وفي الآخرة بما هو أطَمّ وأطَمّ ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمّم خسارهم في الدارين .. ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله صلى الله عليه وسلم وبالغ في كونه منصوراً بما لا مزيد عليه واختصر الكلام دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم الْعَلَمُ الذي لا يشتبه وأن الكلام فيه وله ومعه وأن ذِكرَ غيره بتبَعِيّة ذكره فالمعنى : أنه تعالى ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وإدخال من صدّقه جنات تجري من تحتها الأنهار والانتقام ممن كذبه وإذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارفٌ ولا يعطفُه عنه عاطف فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحُسّاده ويظُنُّ أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور , ومباشرة ما يرُدّه من المكايد , فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجهد كل حد معهود فقُصارى أمره خيبة مساعيه وعُقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله , وقد وضع مقام هذا الجزاء قوله سبحانه " فليمدد بسبب " أي فليمدد حبلاً " إلى السماء " أي إلى سقف بيته ... ثم " ليقطع " أي ليختنق .
    ..... كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى " فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " تقدير النظر وتصويره وإلاّ فبعد الاختناق لا يتأتّى منه ذلك .. أي فليُقَدّر في نفسه النظر .. هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر ويجوز أن يراد : فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه ؟ وجُوّزَ : أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأوّل ممن يصح منه النظر وأن يكون الكلام خارجاً مخرج التهكّم كما قيل " إن تسمية فعله ذلك كيداً خارجةٌ هذا المخرج , وقال جمع : إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهة به , فإن الكائد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه العدو الحسود " .
    يتبع بحول الله وتوفيقه
    *****

  23. #23
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي حتمية النصر على اليهود - الجزء الثاني .


    ألجزء الثاني – حتمية النصر على اليهود !


    ..... هذا وقد سبقت كلمة الله تعالى بنصره أوليائه وكانت من قدر الله الأزلي الذي لا يمحوه الليل والنهار { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } " الصافات : 171 " .
    ..... إنها كلمة الله على لسان كل رسول , أساسية من أساسيات كل رسالة { وإن جندنا لهم الغالبون } , بهذه التأكيدات " إن " واللام , والتعبير بالإسم " الغالبون " وإقحام ضمير الفصل " هم " تجتمع كلها على وجه بديع لِيَقِرَّ الخبر في قلب القارىء فيعتقده ولا يحيد عن الإيمان به تحت ضغط الواقع , الذي يعلو فيه صوت الباطل أحياناً .
    ..... ثم إن هذه الحقيقة مكتوبة كتبها الله بنفسه سبحانه , إذ يقول { كَتَب الله لأغلبَنَّ أنا ورسلي إن الله قويٌّ عزيز } " المجادلة : 21 " .
    ..... إن الكتابة تثبيت للمكتوب وإن الذي باشر كتابتها الله عزّ وجلّ تطميناً للمؤمنين وتثبيتاً لهم وإعلاماً – كذلك – بثبات انتصار الله لدينه ورسله وجنده ولا غرو فالله " قويٌّ عزيز " " قويٌّ " بنفسه " عزيزٌ " لا يغلبه احد ولا يُعجزه شيء , كل هذه النصوص وغيرها مؤكدةً على حتمية انتصار الإسلام وحقيقة حسم المعركة لصالح جند الله .
    ..... وقد ورد من النصوص ما هو خاصٌ بالمعركة مع اليهود ووراثة الأرض المقدسة , من ذلك قول الله تعالى مطمئناً المؤمنين بأن اليهود مهما حاولوا فإنهم لن يضُرّوا المؤمنين بأكثر من الأذى , قال تعالى { لن يضرّوكم إلاّ أذى وإن يقاتلوكم يُوَلّوكم الأدبار ثم لا يُنصَرون } " آل عمران : 111 " .
    ..... " لن يضروكم إلا أذى " مكونة من جملتين : ألأولى " لن يضروكم " قرّرَت فشلهم في إيقاع الضرر بنا والقضاء علينا – كما بيّنا – والثانية " إلاّ أذى " استثناء من الجملة الأولى تُقَرّر حقيقة قاطعة جديدة وهي نجاح اليهود في إيذائنا , أي أن ما يكسبونه من حرب لنا هو إيقاع الأذى بنا , فما هو هذا الأذى ؟ وما مدى تأثيره ؟ .
    ..... هذا الأذى ظاهريٌّ سطحيٌّ خارجيٌّ يُصيب القشرة السطحية الظاهرة فينا , لكنه لا ينفذ إلى أعماقنا , هذا الأذى يقع على الأجساد والأبدان ويصيب الحواس والأطراف وينتج عنه آلام ومشقّات وتنزف فيه دماء , هذا الأذى يصيب الأفراد والجماعات ولكنه يبقى خارجياً سطحياً .
    ..... لن يستطيع اليهود النفاذ إلى قلب الأمة وتحقيق أهدافهم فيها ولا أمانيّهم منها , لن يستطيعوا – رغم مكايدهم – القضاء على بيضة الأمة , على عِظَم مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال .
    ..... ثم قال تعالى مؤكداً على حتمية انتصار المسلمين وهزيمة اليهود " وإن يقاتلوكم يُولّوكم الأدبار ثم لا يُنصرون " جاءت الآية على طريقة الشّرط وجوابه , فإذا ما جاء الشّرط " وإن يقاتلوكم " جاء الجواب " يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصرون " .
    ..... وقد سبقت الآية مساقَ التقريرات والسُّنَن الثابته التي لا تتغيّر ولا تتبدّل وهي سُنَّة جارية دائمة ما دامت السماوات والأرض مُخبِرَةٌ عن مصير المواجهات ونتائج المعارك بين المؤمنين واليهود , وإن بدا حيناً أن ثمّة مشكلة ما في نتائج المعارك والمواجهات فليس الخطأ وارداً – حاشا – على هذه السُّنّة !.
    ..... وقد يستشكل بعضهم فهم هذه الآيات في ضوء التاريخ الحديث الذي شهد هزائم متعددة للجيوش العربية التي خاضت معاركها مع اليهود !! وكانت النتيجة هزائم متوالية أصابت هذه الجيوش وانتصارات محققة سجلها اليهود .
    ..... ويَحْسُن أن أنقل كلام شيخنا الدكتور صلاح الخالدي حفظه الله ليدفع هذا الخاطر الذي قد يجول في ذهن القارىء , يقول نفع الله به ومتعنا بحضوره :
    ..... " لكن هذه الحقيقة قد تلتبس على بعض الناس في هذه الأيام ويراها متخلّفة غير محققة فيتشكّك في هذه الآية ويراها غير منطقية على الواقع وقد يشتط بعض الناس فيُكَذّبون مضمونها لأنهم يرون الواقع يُناقضها !!
    ..... يقولون : لقد قاتلنا اليهود أكثر من ثلاثة حروب في هذا القرن العشرين فمن هم الذين ولّوا الأدبار وانهزموا ومن هم الذين انتصروا ؟ ألم ننهزم أمام اليهود في عام 48 و 56 و 67 وما بعدها ؟ ألم ينتصروا علينا ؟ فكيف نفهم هذه الآية ؟
    ..... نقول لهم : نعم لقد قاتلونا في هذه الحروب وهزمونا وانتصروا هم علينا وأخذوا فلسطين وغيرها منّا ولكنْ قاتلوا مَنْ ؟ ما هي صفات من وقفوا أمام اليهود ؟ وما هي شعاراتهم وراياتهم ؟ ما هي طروحاتهم وتصوّراتهم ؟ ومن ثَمَّ نعرف من هم الذين قاتلوا اليهود وانهزموا أمامهم ؟ لم نحارب اليهود حرباً إسلامية حتى الآن ! ولم يواجه اليهود الجنود الربانيين المجاهدين حتى الآن ومن ثم لم يدخل الإسلام المعركة حتى الآن ولم يقُل كلمته إلى الآن !
    ..... إن قومنا أصَرّوا على إقصاء الإسلام عن الواقع والمجتمع ومن ثم إقصائه وإبعاده عن ميدان المواجهة , ولقد حارب قومنا دعاة الإسلام وجنوده لما دخلوا المعركة مع اليهود وطعنوهم من الخلف وغدروا بهم واعتقلوهم بدمائهم وجراحهم .
    ..... حارب قومنا اليهود بقوميّتهم واشتراكيّتهم ويساريّتهم ويمينيّتهم فانهزمت هذه الرايات والدعوات أمام اليهود .
    ..... لقد تغلّب اليهود على القومية والقوميين والاشتراكية والاشتراكيين والثورية والثوريين والرجعية والرجعيين واليسارية واليساريين واليمينية واليمينيين والرأسمالية والرأسماليين , قاتل قومنا اليهود بغير السلاح الرباني فانهزموا وأخذ اليهود منهم فلسطين .
    ..... وهذه الآية التي قدَّمَت هذا الوعد الرباني " وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصرون " لا تُخاطب القوميين ولا تَعِدهِم , إنما تخاطب المؤمنين بها , تخاطب الناس المسلمين الملتزمين المجاهدين الربانيين وتعدهم هذا الوعد النافذ .
    ..... وعندما " يُسْلِم" قومنا حقاً ويلتزمون بدين الله حقاً ويتخلّون عن كل ما يناقضه حقاً ويواجهون اليهود بالإسلام والقوة حقاً عندها سيرون مصداق هذا الوعد ويقطفون هم ثمرته في عالم الواقع .
    ..... إذا قال الإسلام كلمته وإذا دخل المجاهدون المعركة بثقلهم وأسلحتهم وقوّتهم , وإذا خاضوا مع اليهود معركة " متكافئة " تلاحظ العوامل الربانية والأسباب المادية , فإن اليهود سيولّون الأدبار ثم لا يُنصرون .
    ..... ونحن على يقين قاطع بأن الإسلام سيقول كلمته الجهادية بإذن الله وأن المعركة الكبرى بين المجاهدين وبين اليهود قادمة بإذن الله وأن نصر هؤلاء سيتحقق بإذن الله وأن اليهود سيولّون الأدبار ثم لا يُنصرون إن شاء الله " .
    ..... وقد كتب شيخنا هذا الكلام في النصف الأول من عقد التسعينات من القرن المنصرم ثم خاض الإسلاميون في غزَّة بعدما يزيد عن خمسة عشر عاماً معارك مع الاحتلال وقد رُفِعت فيها راية الإسلام فكان القتال تحتها واشتغلت عقيدة المسلمين فحرّكت النفوس إلى مزيد من الثبات وإلى تحصيل الشهادة وأعملَ الشباب في غزّة القوانين , فأعدّوا لعدوّهم ما استطاعوا وربّوا الشباب على الإسلام وعلى حُب القرآن واتباع النبي صلى الله عليه وسلم فعجزت آلة الحرب والقتل الصهيونية يسندها تآمر عالمي من ورائه شياطين الإنس والجن , ولم يستطيعوا النّيل من كتائبهم ولا هَزَّ حُكمهم ولا تنفير الناس عنهم بل ما زادتهم هذه الحروب إلاّ قوّة استمساكاً بالحق المبين وإصراراً على المِضِيِّ في طريق المجاهدين الصابرين .
    ..... لقد خاضت غزّة حروباً عدّة تكللت جميعها بانتصار الإسلام عبر ثبات هؤلاء الشباب ووقوفهم أمام تكنولوجيا الحرب اليهودية الأمريكية رغم حصار خانق عليه اليوم ما زاد عن عقد من السنين وجريمتهم التي عاداهم لأجلها العرب قبل غيرهم أنهم رفعوا راية الإسلام واستعلنوا بها ومكّنوا لها ولم يعترفوا لليهود بما اغتصبوه من فلسطين .
    ..... وستشهد الأيام القادمة فتحاً قريباً يغذوه الثبات والدم والصبر على سنة الله وقانونه { ويقولون متى هو قُل عسى أن يكون قريباً } " ألإسراء : 51 " ... { أحسِب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون } " العنكبوت : 2 " .
    ..... وقد ورد كذلك في القرآن حول مصير الأرض المقدسة وأيلولة مُلكيّتها وذلك قول الله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذك أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } " ألأنبياء : 105 " , وهذا على وجهٍ من وجوه التفسير إذ قيل : إن المقصود بالأرض في الآية " أرض بيت المقدس " وقيل " الشام " والمقصود بقوله تعالى " عبادي الصالحون " أمّة محمد صلى الله عليه وسلم .
    ..... وهذا الوجه – وإن كان الأضعف من الناحية التفسيرية , إذ ذهب أكثرهم إلى أن المقصود عموم الأرض والأرض المقدسة منها على رأسها – فإنه يقوّيه الإشارة إلى داود عليه السلام – عند ذكر الزبور – لصلته بالأرض المقدسة فلا يبعد أن يكون قد قرّر له أن الأرض التي مكّن له فيها ليست الوراثة فيها لذريّته وقومه وإنما تكون وراثتها – سُنّة إلهية – للصالحين من عباد الله جلّ وعَزّ وهم { الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحِل لهم الطيبات ويُحَرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولائك هم المفلحون } " ألأعراف : 157 " , فهؤلاء هم ورثة الأرض المقدسة وحُماتها وهم ورثة الأرض كلها وهم ورثة أرض الجنة كذلك .
    ..... وأما ما جاء في سورة الإسراء من قوله تعال { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسِدُنَّ في الأرض مرتين ولتعلُنَّ علُوّاً كبيراً } " ألإسراء : 4 " ... إلى قوله { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبّروا ما عَلَوا تتبيراً } " ألإسراء : 7 " .
    ..... أما هذه الآيات فهي نَصٌّ – على ما نرى – فيما نعيشه اليوم من صراع مع اليهود على الأرض المقدسة وهي مُنَبّئَة عن نهاية إفسادة بني إسرائيل الثانية وذهاب ريحهم وزوال دولتهم رِجسة الخراب ... وسنؤجل الكلام في هذه الآيات إلى المطلب الثاني وهناك نودع ما تيسّر ويأذن الله به هو مولانا عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .
    يتبع – عوامل الهزيمة عند اليهود !
    *******

  24. #24
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي عوامل الهزيمة عند اليهود .


    عوامل الهزيمة عند اليهود
    ----------

    ألفرع الثاني : عوامل الهزيمة عند اليهود
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
    قدمنا في الفرع الأول وعود الله تعالى بنصر المؤمنين { فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } " الروم : 47 " , وكان حقاً على المؤمنين الاطمئنان إلى وعد ربهم واليقين به والعمل لتحصيله , وفي المقابل فإن عوامل الانهزام التي تحتويها التركيبة اليهودية وتتصف بها النفسية والعقلية اليهودية تقضي بزوال دولتهم وانحسار صولتهم على سبيل القطع إن شاء الله .
    ثم إن عوامل الانهزام هذه , بعضها خارجي كتبه الله عليهم – بظلمهم وبغيهم بطبيعة الحال – وبعضها يحملونها في أنفسهم . جُبِلوا عليه وتناقلوه جيلاً فجيلاً ونُسجّل أهمها هنا للتمثيل لا للاستقصاء .
    أولاً : غضب الله تعالى عليهم بكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وبكثرة معاصيهم وعدائهم لدين الله , وغضب الله تعالى الذي حلَّ باليهود كفيلٌ بحلول الخِزْيِ والعار وانعدام التوفيق والتّيه عن دَرْكِ الهداية والصواب .
    إن التوفيق منوطٌ برضا الله تعالى وعصمته وهدايته وبغيره ليس ثمّة إلا الخذلان , ومن خذله الله جلّ وعزّ , فمن ذا الذي يوفقه ويهديه ؟
    قد حلّ غضب الله تعالى باليهود لكفرهم بآيات الله عن علم بها وعدائهم للحق عالمين بأنه الحق فذلك نبيّهم موسى عليه السلام يخاطبهم منكراً عليهم أذِيَّته مع علمهم بأنه رسول من الله تعالى ويقينهم بذلك { وإذ قال موسى لقومه يا قومِ لِم تؤذونني وقد تعلمون أنّي رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } " الصف : 5 " .
    تأمّل – حفظك الله – كيف انتهت قصة نبيّهم موسى عليه السلام معهم بمشهدٍ مؤثّر مؤذنٍ بقسوة قلوب القوم وانعدام الحيلة معهم , إن آخر ما عرضه القرآن من حلقات بين موسى وبني إسرائيل تلكم التي أوردتها سورة المائدة المُسمّاة " بقصة تيه بني إسرائيل " أنجاهم الله على يدي موسى عليه السلام وقد رأوا بأعينهم الآيات البينات : العصا واليد والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم وغيرها .
    ورأوا فوق هذا كله مصرع الطاغية أمام أعينهم في آية قريبة من آيات الإلجاء , حينما شقَّ الله لهم البحر , فكان كل فِرقٍ كالطّود العظيم { فلمّا ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمُدركون * قال كلاّ إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرقٍ كالطّود العظيم * وأزلفنا ثمّ الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } " الشعراء : 61 – 67 " .
    ومن بعد ذلك توالت عليهم الآيات تترا حتى إذا ما أمرهم نبيّهم بدخول الأرض المقدسة وكان منهم ما كان قال موسى { ربِّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين } " المائدة : 25 " .
    وقد تقدم في هذه الدراسة واحتوى البيان المُفصّل لعظائم اليهود وألوان كفرانهم , ألأمر الذي استأهلوا به غضب الله تعالى عليهم .
    فكان غضب الله عليهم أعظم عوامل الانهزام والخذلان حيث لا قوّة إلاّ بالله ولا توفيق إلاّ به سبحانه { قل هل أُنبئكم بشَرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعَبد الطاغوت أولائك شرٌّ مكاناً وأضلّ عن سواء السبيل } " المائدة : 60 " .
    ثانياً : ضرب الذلّة والمسكنة : إن من نتائج غضب الله عليهم أن عاقبهم بضرْب الذلّة عليهم والمسكنة , قال تعالى { ضُرِبَت عليهم الذلّة أين ما ثُقِفوا إلاّ بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وباءوا بغضبٍ من الله وضُربَت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } " آل عمران : 112 " .
    وليأذن لي القارىء أن أقف مع الآية العظيمة وقفات تدلُّ على عظيم ما أصابهم والأسباب الكلّية لذلك وأسبابها كذلك على نسق عجيب من التركيب والترتيب .
    1 – التعبير عن لزوم الذلّة لهم بالضّرب " ضُربت عليهم الذلّة " قال الإمام الرازي رحمه الله في دِقّة اللفظ وأبعاده " المعنى : جُعِلَت الذلّة مُلصَقة بهم كالشيء يُضرب على الشيء فيُلصَق به , ومنه قولهم : ما هذا بضربة لازب . ومنه تسمية الخراج ضريبة .
    وتقرير هذا وتمام بيان تأصيله نجده عند صاحب التحرير والتنوير أجزل الله مثوبته إذ يقول : والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهرِ جسمٍ بظاهرِ جسمٍ آخر بشدّة , يقال : ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها وتفرّعت عن هذا معانٍ مجازيّة ترجع إلى شدّة اللصوق .
    فقوله " ضربت عليهم الذلّة " و " المسكنة " استعارة مَكْنيَّة إذ شُبّهَت الذلّة والمسكنة في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبّة يضربها الساكن ليلزمها وذكرُ الضرب تخييلٌ لأنه ليس له شبيهٌ في علائق المُشبّه ويجوز أن يكون " ضربت " استعارة تبعيّة وليس ثمّة مكنيّة , بأن لزوم الذلّة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ومعنى التبعيّة أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعياً لفاعل , كما في التخييلية بل بعنوان كونه حديثاً وهو معنى قولهم – أُجْرِيَتْ في الفعل تبعاً لجريانهما في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل " ضُربت " تخييلاً وجعله تبعيّة وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشّاف وخالفه التفتازاني وجعل الضرب استعارة تبعيّة بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبّة أو الطين وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء .
    وبعبارة واضحة رشيقة عبّر الراغب بقوله : وتشبيهاً بالخيمة قال " ضُربت عليهم الذلّة " أي التحفتهم الذلّة التحاف الخيمة بمن ضُربت عليه وعلى هذا : " وضربت عليه المسكنة " .
    ذلك أنك إذا قلت : ضَرَبتُ الخيمة قصدت أنك ضربت أوتادها فثبتت في الأرض ولزمتها وأحاطت بما في داخلها , وقد ذُكِر هذا الضرب عليهم في سورة البقرة في سياق مقابلتهم نِعَم الله بالكفران والجحود بالمعصية فقال { وضُربت عليه الذلّة والمسكنة } " البقرة :61 " , وعلى هذا فكلٌّ من الذلّة والمسكنة مضروب على اليهود لازمٌ لهم ومن عبدوا العجل منهم لهم ذلّة خاصة نالتهم بمعصيتهم { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربهم وذلّة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } " ألأعراف : 152 " .
    2 – الذلّة والمسكنة وذلك في قوله " وضربت عليهم الذلّة " و " وضربت عليهم المسكنة " .. الذلّة الصغار والذُّل بالضم ما كان من القهر وبالكسر ما كان بعد شِماس من غير قهر , وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة " الذال واللام في التضعيف والمطابقة أصل واحد يدلُّ على الخضوع والاستكانة واللين ... والذلُّ ضد العِزّ وهذه مقابلة صحيحة تدلُّ على الحكمة التي خُصَّت بها العرب دون سائر الأمم لأن العِزّ من العَزاز وهي الأرض الصلبة الشديدة .
    والمسكنة مفعلة من السكون , لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر , قال القرطبي بعد نقلٍ قريبٍ في المعنى من النّص السابق : فلا يوجد يهودي – وإن كان غنياً – خالياً من زيّ الفقر وخضوعه ومهانته .
    ثم إن معنى لزوم الذلّة والمسكنة لهم وضربها عليهم أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت كالعدم لديهم ولذلك صار الحرص لهم سجيّة باقية في أعقابهم .
    وهذا والله غاية الغايات في المذلّة والمسكنة أن لا تحصل بسبب انعدام المال وقلة العطايا وإنما بوجودها مع عدم الشعور معها بالقدرة والقوّة والعِزّ .
    وكذلك شأن المعصية فإنها تجُرُّ الذلّة والعار والشنار بشؤمها وعقاب الله تعالى في الدنيا والآخرة , وسيأتي الكلام في آخر التعليقات على الآية على قريبٍ من هذا المعنى .
    3 – قوله تعالى " ضُربت عليهم الذلّة أين ما ثُقِفوا إلاّ بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس " , في الآية ألإعلام بلزوم الذلّة والمسكنة لهم أينما وُجِدوا , في أي وقت وفي كل مكان وهذا ما تجلّى على واقعهم قبل الإسلام وبعده , مطرودون معذّبون أَذِلاّء منبوذون يُسلّط الله عليهم أولياءه وأعداءه يسومونهم سوء العذاب , قال تعالى { وإذ تأذّن ربّك ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربّك لسريع العقاب وإنه لغفورٌ رحيم } " ألأعراف : 167 " .
    ثم استثنى من حالة الذلّة المضروبة عليهم حالتين اثنتين :
    الحالة الأولى : إلا بحبل من الله " حبل الله والمقصود به – على ما أرى – الحالة التي يستقيمون فيها على أمر الله ويتبعون أنبياءه ومثلُ ذلك في تاريخهم : العهد الذي حكم فيه نبيّا الله داود وسليمان عيهما السلام .
    ذلك أن الذلّة والمسكنة مضروبة عليهم أيام عصيانهم موسى عليه السلام أي قبلهما بكثير فجاءت أيامهما ليرتفع عن بني إسرائيل ما كان مضروباً عليهم لازماً لهم , فلما زاغوا عن المنهج انقطع الحبل فرّتّعوا في مستنقعات الذلّة والمسكنة وعادوا ليعيشوا الوضع الطبيعي لهم .
    وقد انقطع هذا الحبل عنهم نهائياً , لا منذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وإنما منذ كفروا من قبله بعيسى بن مريم الذي كانت رسالته خاصة بهم { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مُصدّقا لما بين يدي من التوراة ومُبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحرٌ مبين } " الصف : 6 " .. فلا حبل بعده من الله يُمَدُّ لهم بما كفروا بأنبيائه وعادوا دينه ورسالاته .
    الحالة الثانية : " وحبل من الناس " وحبل الناس صُورُهُ كثيرة منها : العهود التي يعطونهم إياها والإمداد والتأييد والتحالف والتناصر والحبال التي تُمَدُّ لهم من الناس تستنقذهم من الحالة الدائمة من الذلّة ومثالها : ما نعيشه اليوم من الإمداد العالمي – الغربي والشرقي – لهم ولكيانهم ومشروعهم الخبيث في فلسطين وما ترتب على ذلك وأدّى إليه – في الحقيقة – من نفوذ لهم سياسي وإعلامي وماليٍّ في الأجهزة المؤثرة في العالم { ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً } " ألإسراء : 6 " .
    والملاحظ أن الاستثناء إنما هو من الذلّة فحسب , وليس من المسكنة , تأمّل , " ضربت عليهم الذلّة أين ما ثُقفوا إلاّ بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " , وهذا والله العجب .
    نعم إن الله قد شاء لحكمة أن تكون هناك حالات استثنائية يعيشها اليهود بعيداً عن أوحال الذلّة وأرجاسها وأثقالها , إلاّ أنه ضرب عليه المسكنة ضرباً لازماً ما كانوا وما عاشوا , لا يُنتشلون منها بحبل ولا يتخلّصون منها بسبيل , حتى في ذروة علوّهم وطغيانهم .
    يتبع – الجزء الثاني من عوامل هزيمة اليهود
    *******

  25. #25
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي الجزء الثاني من عوامل هزيمة اليهود !


    ألجزء الثاني من عوامل هزيمة اليهود :

    وهكذا ينحل لغز خطاب المسكنة الذي يُسَوّقون أنفسهم من خلاله في العالم اليوم , قد لا يعيش اليهود اليوم في ذلّة , بل ويعيشون أعظم صُوَر علُوّهم وطغيانهم ونفوذهم وتأثيرهم { ولتَعْلُنَّ علوّاً كثيراً } " ألإسراء : 4 " , إلاّ أنهم وهم في الذّروة من ذلك لم يخرجوا من إطار المسكنة , والتّوَسُّل بها , والاصطباغ بصبغتها ولونها .
    4 – ألوقفة الأخيرة " وإن كانت الآية تستدعينا للوقوف أكثر معها – قوله تعالى " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " , في هذه التعقيب بيَّن الله تعالى السبب الذي لأجله حَكَم عليهم بما حَكَم وعاقبهم بخزي الدنيا والآخرة , وهو كفرهم بآيات الله الواضحات البيّنات وقتلهم أنبياء الله وصفوته من خلقه الذين ينقلون إليهم دعوة الله ويُعَرّفونهم به , فالباء في " ذلك بأنهم كانوا يكفرون " سببيّة بيّنت سبب ذلك العقاب .
    لكن الذي يستدعي مزيداً من التأمّل في تركيب الآية أنّه سبحانه بيّن السبب وهو العقوبة – كما تقدم – ثم بيّن سبب السبب فقال " ذلك بما عصَوا وكانوا يعتدون " فدلّ ذلك على أن معاصيهم وفسقهم وفجورهم وكثرة اعتدائهم أدّت بهم إلى خطيئات أكبر وموبقات أعظم , هي الوقوع في الكُفر وقتل الأنبياء وقد قيل " ألمعاصي بريد الكُفر " .
    ذلك أن الله لما رأى استهتارهم برسالاته واستخفافهم بحدوده وأحكامه عاقبهم , بل خلّى بينهم وبين ما هو أكبر من المعاصي والآثام وهكذا حتى وصلوا الدّرْك الأسفل حين تجرّؤوا على الكُفر بآيات الله وقتلوا أجلّة أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم .
    والذي ينبغي أن يُتَنَبّه إليه أن هذا ليس خاصاً ببني إسرائيل بل هي سُنّة سائرة , تصيب من انتهج هذا النهج وسار على هذا الخط , أَلا فلْيتنبّه أبطال المعركة القادمة مع اليهود إلى خطورة المعاصي وسوء عاقبتها وظُلْمة مآلها !
    إذ كانت سبباً في الكُفر وقتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس فكانت العاقبة ذلًّ مضروباً ومسكنةً أبديّة وفي الآخرة عذاب شديد والساعة موعدهم والساعة أدهى وأمَرْ .
    ثالثاً : شدّة الجُبْن والخوف من المؤمنين : إن من عوامل الانهزام عند اليهود شدّة جُبنهم وخوفهم من المؤمنين وحرصهم على الحياة الدنيا .
    قال تعالى مبيّناً للمؤمنين شدّة خوف اليهود منهم { لأنتم أشدّ رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون } " الحشر : 13 " , وفي الآية دلالة على :
    • شدّة خوف اليهود من المؤمنين واستيلاء هذا الخوف والرهبة على قلوبهم .
    • قلّة تديُّنهم وعدم تقديرهم لمقام الله عزّ وجلّ { وما قدروا الله حق قدره } " ألأنعام : 91 " , ذلك بسبب فساد عقيدتهم واضمحلال إيمانهم وعطب تصوّرهم .
    • وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي تقوية قلوب المؤمنين على أعدائهم وتجريئهم عليهم , ببيان خوف العدو ورهبته والإشارة إلى نقاط ضعفه .
    • وأنه ينبغي عدم تعظيم قوة العدو في قلوب المؤمنين لما ينتج عنه من التثبيط والإرجاف , قال القاسمي " وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم والحمل عليهم وتبشير لهم بأنهم المنصورون الغالبون .

    ولا يعني هذا بحال الاستخفاف بالعدو وترك الإعداد لمواجهته اتّكاءً على ضعفه , بل الواجب أخذ الحذر واستكمال الإعداد والتّجَهُّز للمواجهة .
    وقد قَصَّ الله تعالى علينا طُرفاً من قصص جُبنهم , ذلك في سورة المائدة من قصّة " التّيه " وإن كنا استشهدنا بها مراراً على المعاني المختلفة فإنها حقيقة بذلك , لما ذكّرهم نبيّهم بنِعم الله سبحانه عليهم وقد رأوا من الآيات الكبرى ما لم يره أحد من قبلهم ثم أمرهم بدخول الأرض المقدسة وطمأنهم إلى انتصارهم على أعدائهم إن هم فعلوا ذلك فما كان من الجبناء إلاّ أن نكصوا عن الجهاد وعصوا أمر نبيّهم بل أظهروا من التوقّح في خطابه والاستخفاف به وبربّه , فعاقبهم الله بالحرمان : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون * قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * قال ربِّ إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأسَ على القوم الفاسقين } " ألمائدة : 20 – 26 " .
    هكذا " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " جرأة على الله ورسول الله وجُبنٌ عن مواجهة العدو ومقارعة السلاح , هذا دأب الجبناء الفسقة من اليهود .
    وقومٌ هذه صفتهم يحملون في نفوسهم هزيمتهم إذ كان الحرص عندهم على الحياة هاجساً يؤرّق مسيرتهم ويحول دون نيل الكرامة ولذلك كانت هذه الجِبِلَّةُ من الناس أحرص الناس على الحياة لا يُنافسهم في ذلك إلا الوثنيّون الكُفّار الذين يُنكرون وجود آخرة ينتقلون إليها { ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يوَدّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعمّر والله بصير بما يعملون } " البقرة : 96 " .
    ومما ترتّب على ذلك : أنهم لا يجرؤون على قتال المؤمنين مواجهة وإنما في قرىً محصّنة أو من وراء جُدُر { لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً مُحصّنة أو من وراء جُدُر } " الحشر : 14 " .
    ويأتي التَّجَلّي الواقعي للآيات , يفسرها تفسيراً تراه العين , حين ترى اليهود يتحصنون في ما يسمى " المستوطنات " , " القرى المحصّنة " وتراهم يفصلون ما بينهم وبين قومنا بما يسمونه " الجدار العازل " , " أو من وراء جُدُر " , وكأن تسميتهم له بهذا الإسم أمرٌ يُساقون إليه ليتوافق مع التسمية القرآنية تماماً , فالحمد لله رب العالمين .
    ويكون ذلك مؤكداً لجُبن القوم وشدّة فزعهم , ومُظهراً لحرصهم على الحياة , وإن كان ذلك على حساب مشروعاتهم وطموحاتهم .
    وهم لا يُخفون اعترافاتهم بأن " العنصر البشري " نقطة ضعفهم , وأنهم لا يحتملون الخسائر في هذا الجانب على سبيل التحديد , ولهذا فهم يتعاملون مع جيشهم وكأنهم حُماتُه , وكأنه نقطة الضعف عندهم لا نقطة القوة والبأس .
    ألا فلْتَثْبت المقاومة ! وليجرأ المسلمون على عدوهم , ولننظر جميعاً يومها كيف يتهاوى القوم ويبيعون أحلامهم مقابل الإبقاء على حياتهم { والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } " يوسف : 21 " .
    وأختم هذه النقطة بوجهٍ آخر طريف , ذلك في قول الله تعالى { بأسهم بينهم شديد } " الحشر : 14 " , فإن في الآية وجهاً من وجوه التفسير وهو منقول عن مجاهد رحمه الله إذ قال : " بأسهم بينهم شديد " بالكلام والوعيد ليفعلُن كذا , والمعنى أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس , وإذا لاقوا العدو ذلّوا وخضعوا وانهزموا .
    والمقصود الإشارة إلى جُبنٍ مُغلّفٍ بطبقةٍ ساذجةٍ من الشجاعة المُدّعاة بينهم , بعيداً عن أخلاق الرجال وطرائقهم , فهم جبناء قد يدّعون القوّة والبأس الشديد , حتى إذا جَدَّ الجدُّ لم تثبت أقنعة البأس التي ارتدوها أمام بعضهم , ولم تلبث أن تزول , وهذا الوجه – وإن لم يكن راجحاً في تفسير الآية – فإنه لطيف , يدُلّ على خُلُقهم الذي أكّدته الكثير من النصوص والوقائع .
    رابعاً : تشتت قلوبهم وما بينهم من العداوة : أخبر الله تعالى في كتابه عن العداوة المستحكمة بين اليهود أنفسهم , وأن هذه العداوة" ألقاها " الله بينهم جزاء طغيانهم وكفرانهم وجرأتهم على ربهم , وأخبر سبحانه أن هذه العداوة والبغضاء ملقاة بينهم إلى يوم القيامة , فقال { وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزِل إليك من ربك طُغياناً وكُفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } " المائدة : 64 " .
    أي أوقعنا بين طوائف اليهود الخصومة الشديدة بقوّة , ومكّنا في قلوبهم بُغض بعضهم بعضاً بسبب جرائمهم , فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم أبداً إلى يوم القيامة , وقد كانوا كذلك طوال تاريخهم , منذ أن أرسل الله إليهم الرُّسُل , قال تعالى { بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى } " الحشر : 14 " .
    ويُستفاد من هذه الجملة الكريمة دفعُ ما عساه يخطر بالبال من أثر شدّتهم في الكُفر , وغلُوّهم في الطغيان , من أنهم قد يجتمعون على أمر يؤدّي إلى الإضرار بالمسلمين , فدفع هذا الخاطر ببيان أنهم لا يجتمعون على كلمة أبداً .
    وأكثر أهل العلم على هذا في تفسير قوله تعالى " بأسهم بينهم شديد " , قال الزمخشري " يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا , ولو قاتلوكم لم يبقَ لهم ذلك البأس والشدّة , لأن الشجاع يَجْبُن والعزيز يُذَل ُّ, عند محاربة الله ورسوله .
    أما قوله " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى " فالخطاب هنا إما للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة , وإما لكل من يصلح له الخطاب , والمقصود أن الناظر بادي الرأي إليهم يقع في قلبه اجتماعهم ووحدة كلمتهم , لكن قلوبهم في – حقيقة الأمر – متفرّقة مختلفة متشاحنة , وهذا – ولا شك – من عوامل الانهزام الخطيرة والمباشرة , والواقع في المجتمع اليهودي يؤكّد هذا , ويُسَرّع انهزامهم إن شاء الله وزوال دولتهم .
    وفيه كذلك عبرة للمسلمين وتحذرٌ لهم " فإن الدولة الإسلامية ما هَدَّ كيانها وأضعفها أمام أعدائها إلاّ تخاذلها أفراداً وجماعات , وانفراط عقد وحدتها , ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم , ودخلوها فاتحين , وأذاقوا أهلها كؤوس الذُّل والهوان , وفرّقوهم شَذَر مَذَر , وجعلوهم عبيداً في بلادهم , والتهموا ثرواتهم ولم يُبقوا لهم إلاّ النفاية وفتات الموائد , ولله الأمر من قبل ومن بعد , وعسى الله أن يأتي بالفتح أو نصر من عنده , فيستيقظ المسلمون من سباتهم , ويثوبوا إلى رشدهم , فيستعيدوا سابق مجدهم وتدول الدولة لهم " .
    هذا , وقد بيّنت فيما مضى بعض العوامل المهمة التي تُقَوّض علوّ اليهود اليوم وتُذهب ريحهم , وتزيل دولتهم , ومن قبل ذلك كله سيف قضاء الله على رقابهم , وتسليط جنده عليهم , إنه عزيزٌ كريم .
    يتبع – المطلب الثاني : صورة المعركة المباركة ومعالمها الرئيسة !
    *******

  26. #26
    مشرف المجالس الاسلامية
    تاريخ التسجيل
    01-07-2017
    المشاركات
    619

    افتراضي

    مقالة رصينة في حب بيت المقدس جزيت خيرا يا شيخنا

  27. #27
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    بارك الله بك أخي الفاضل
    أسعدنا مروركم ومتابعتكم لهذا الموضوع الهام
    متعك الله بالعافية وابقاك خادما للقرآن

  28. #28
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي ألمطلب الثاني - صورة المعركة المباركة ومعالمها الرئيسة !


    ألمطلب الثاني
    ---------

    صورة المعركة المباركة ومعالمها الرئيسة
    ---------

    ----- أردت من هذا المطلب أو أُسلّط الضوء على صورة المعركة المباركة القادمة مع اليهود , وأردت أن يكون ذلك من خلال آيات سورة الإسراء , إذ نقف مع الآيات التي ذَكَرَت إفسادتي بني إسرائيل وعلوّهم , ونتكلم ما شاء الله لنا في تحديد الإفسادتين , وننتقل – بناءً على ذلك – إلى تحليل مشهد المعركة القادمة .
    ----- وقبل أن أَلِجَ إلى هذا الموضوع يحسُن أن أُسجّل مظهرين من مظاهر المعركة مع اليهود , وهما – وإن يكونا خاصّين بهذه المعركة القادمة – فانهما ينبغي أن لا يُغفلا أثناء تصورنا للمشهد .
    ----- ألأول : في قوله عزّ وجلّ : { وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصرون } " آل عمران : 111 " , ألآية في بيان حتمية انهزام اليهود وانتصارنا – كما تقدم – إلاّ أنها تُضيف معنى آخر , وهو أن شكل الهزيمة اليهودية سيكون بالفرار وتولية الأدبار , والتعبير ب " تولية الأدبار " فيه تصوير لحالة الفرار – على طريقة القرآن بالتصوير – ترسم في ذهن القارىء للقرآن صورة اليهود وقد انكسرت قلوبهم وانفرط عقد دولتهم , يُسلّمون للمسلمين ظهورهم " يولّوكم الأدبار " ليفعلوا فيها ما يشاءوا من ضربٍ وتقتيل .
    ----- ألثاني : في قوله تعالى : { لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرىً مُحصّنة أو من وراء جُدُر } " الحشر : 14 " , في الآية أن المواجهة مع بني إسرائيل في المعركة القادمة – كما هي المعارك الماضية – لن تكون على هيئة جيشين يتعاركان عراكاً رجوليّاً , وإنما سيكون قتالهم في القرى المُحصّنة ومن وراء جُدُر .
    ----- ويتحصّل من هاتين السُّنّتين والقانونين الذين يحكمان المعارك مع اليهود , أن المعركة ستكون من غير مواجهة شاملةٍ كاملة , وستنتهي بفرار اليهود وترْكهم الأرض ومُكتسبات عهد العُلُوّ , الذي تركوه إلى غير رجعة إن شاء الله .
    ----- ولننتقل بعد هذا إلى آيات سورة الإسراء التي تحدثت عن إفسادتين لبني إسرائيل , ووصفت نهاية الإفسادتين بصورة دقيقة واضحة .
    ألفرع الأول : تحديد الإفسادتين المذكورتين في سورة الإسراء :
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    ----- اختلف المفسرون في تحديد هاتين الإفسادتين وكثُر الخلاف , حتى قال الشيخ سعيد حوّى في تفسيره هذه الآيات مما كثر فيه الخلاف بين المفسرين , ولا يكثر الخلاف إلا إذا كان لذلك مبرراته , فما هما هاتا الإفسادتان ؟ ومتى كانتا ؟ ومن هم الأقوام الذين يُسلّطون على بني إسرائيل مرّة بعد مرّة ؟ وهل المراد ب " الكتاب " التوراة أو القرآن أو اللوح المحفوظ ؟ وهل المرّتان حدثتا أو أنهما ستحدثان بعد نزول القرآن ؟ أو أن واحدة حدثت من قبل والثانية في طريقها ؟ وهل للأقوام المتسلّطين صلة عداء أو ولاء للمسجد الأقصى حتى ذُكروا به : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة } " ألإسراء : 7 " ؟ هذه كلها تحتاج إلى أجوبة دقيقة , ومن ثَمّ وقع الخلاف .
    ----- وقد تكلّم كثير من الأكابر في هذه المسألة , ولا أقصد إلى عرض المسألة هنا بكلّيتها , ولكني أنَبّه على أن الأقوال في تحديد الإفسادتين تعود إلى أربعة , وهي :
    1 – أن الإفسادتين قد وقعتا قبل الإسلام .
    2 – أن إحداهما وقعت قبل الإسلام , والأخرى ما يقع الآن .
    3 – أن الإفسادتين وقعتا في زمن الإسلام , ألأولى في أول الإسلام , والأخرى ما نعيشه اليوم .
    4 – أن الإفسادتين كلتيهما تقعان في الزمن المعاصر , وهو رأي شيخنا العلامة الدكتور عمر الأشقر رحمه الله .

    ----- وقد ذهب أكثر المفسرين القدامى والمحدثين , إلى أن الإفسادتين اللتين ذكرتهما سورة الإسراء قد وقعتا قبل الإسلام بمدّة طويلة , وأن بني إسرائيل اليوم واقعون تحت القانون الإلهي المتمثل في قوله سبحانه في آخر سياق تلك الآيات " { وإن عُدْتُم عُدْنا } " ألإسراء : 8 " .
    ----- ومن القائلين بهذا القول من القدامى : الطبري والقفّال والزّمخشري والبيضاوي وأبو حيّان , ومن المحدثين : الشيخ المراغي , والأستاذ سيد قطب , والشيخ محمد رشيد رضا , والدكتور يوسف القرضاوي , والبهي الخولي , والدكتور محمد سيد طنطاوي .. وذهب إلى الثاني : الدكتور عبد الكريم الخطيب والأستاذ بسام جرار وخالد عبد الواحد .
    ----- واختار الثالث : زمرة من أكابر علمائنا وأساتذتنا , ومنهم العلاّمة الدكتور فضل عباس رحمه الله , والعلامة الدكتور أحمد نوفل , والعلامة الدكتور صلاح الخالدي , حفظهما الله تعالى , وذهب إليه من قبلهم الشيخ الشعراوي رحمه الله , كما ذهب إليه الشيخ عبد المعز عبد الستار , والدكتور محمد سعيد حوّى , وقد جوّزه مع نوع مَيْل الشيخ سعيد حوّى رحمه الله .
    ----- أما الرابع فقد انفرد به شيخنا الدكتور عمر الأشقر رحمه الله , وذلك في كتابه الماتع المفيد
    " وليتبّروا ما عَلَو تتبيرا " وقد ذكر هذا الترجيح في تفسيره الذي طُبِع بعد وفاته رحمه الله المسمى ب " المعاني الحسان في تفسير القرآن " .
    ----- وقد ردَّ الأساتذة في بحث " آراء المفسرين في إفسادي بني إسرائيل " على هذا القول وبيّنوا مشكلات عدّة تتوجّه عليه , ولا أقصد إلى عرض الأقوال ومناقشة أدلّتها , إلاّ أنه يجـدر التنبيه علـى ما يلي :
    1 – أن الآيات لا تشترط في الإفسادة الأولى علوّاً , ويمكن فهم الآية على أن العلُوّ مُقتَرِن بالإفسادة الثانية فحسب : { لتُفْسدُنَّ في الأرض مرّتين ولَتَعلُنَّ عُلُوّاً كبيراً } " ألإسراء : 4 " , مما يُطرق إلى الاحتمال أن الإفسادة الأولى لم يرافقها " عُلُوٌ كبير " والاحتمال باقٍ على الوجهين .
    2 – أن الظاهر من الآيات أن القوم الذين يواجههم بنو إسرائيل في الإفسادة الأولى , هم الذين يواجهونهم في الإفسادة الثانية , بعد أن تَكِرَّ الكَرَّة لهم عليهم بين الإفسادتين , وهذا ظاهر من استعمال الضمائر : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا * ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبّروا ما عَلَوا تتبيراً } " ألإسراء : 5 – 7 " , ومؤدّى هذا نتائج أهمها :
    أ – استبعاد الأقوال التي تجعل أعداء اليهود في الإفسادة الأولى غيرهم في الإفسادة الثانية .
    ب – أن التاريخ لم يُسَجّل كرّة لليهود على أحد ممن سُلّط عليهم باستثناء ما يحصل اليوم من رَدِّ الكرّة لليهود على المسلمين , بعد أن سُلّط عليهم المسلمون أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
    3 – وأن التعبير بقوله " عباداً لنا " مما يزيد احتمالات كون هؤلاء المبعوثين على بني إسرائيل من أهل الصلاح والدين القويم , وهو وإن لم يكن مطَّرداً في القرآن إلاّ أن :
    أ – إضافته إلى الله تعالى " عباداً لنا " وما يُلمح به من تشريف لا يخفى على من يتذوّق لغة العرب .
    ب – أن ذِكر " العباد " في سورة الإسراء جاء مراراً وفي صورة تدُل على اختصاص هذا الاستعمال بالصالحين منهم , مثل :
    • { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } " ألإسراء : 1 " .
    • { إنه كان عبداً شكوراً } " ألإسراء : 3 " .
    • { وقُل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } " ألإسراء : 53 " .
    • { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } " ألإسراء : 65 " .
    وإن ذُكرت في أماكن أخرى غير مُختصّة بهم فإنهم مشمولون بها على الأغلب :
    • { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل } " ألفرقان : 17 " .
    • { وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } " ألإسراء : 17 " .
    • { إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } " ألإسراء : 30 " .
    4 – أن كلمة " المسجد " في قوله " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل " تُشْعِر بأنهم المسلمون , فهم أصحاب المسجد , وهم وإن لم يأخذوه من اليهود مباشرة أوّل مرّة , فقد أخذوه المرّة الأولى فاتحين .

    يتبع – الجزء الثاني من صورة المعركة المباركة !
    *******

  29. #29
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألجزء الثاني من صورة المعركة المباركة !
    -----------

    ----- وأخلص من هذا – وغيره بطبيعة الحال مما لم تقصد الدراسة إلى استقصائه – إلى ترجيح القول الثالث , القاضي بأن الإفسادتين إنما كانتا في زمن الإسلام , وأن الإفسادة الأولى منهما ما كان من اليهود في عصر النبوّة , وأن فهم طبيعة إفسادهم يتجلّى بالنظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والاطلاع على دور اليهود القذر في إسناد الكُفر والنفاق , والتآمر على الدعوة الإسلامية وعدائها , واستغلال كل لائحة وخافية للنُّبل الفكريّ العقيديّ والواقعي المادّي منها , ولقـد جـاءك من نبـأ ذلك شـيء فـي هـذه الدراسة .
    ----- ويتجلّى الفهم كذلك بالنظر في القرآن وفي المقدار الذي توجّه منه للجدل مع بني إسرائيل , وإسكات حُججهم , وتَعريَة باطلهم , والحق أن هذا وحده يحتاج إلى بحثٍ مستقِل , ولك أيها القارىء أن تُراجع متفضّلاً تفسير الأستاذ سيد قطب لآيات سورة البقرة من قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قِبْلتهم التي كانوا عليها } " البقرة : 142 " , لتُدرك مستوى الخطر والإفساد الذي اضطلع به اليهود في مهد الدعوة وانطلاقها , لتُدرك قُرب تفسير الإفسادة الأولى بذاك , والله أعلم .
    ----- أما الثاني فهو ما نعيشه اليوم – ولا شك عندي في ذلك – ولم يشهد التاريخ اليهودي عُلُوّاً كالذي نشهده اليوم , ولا صولة ولا دولة كالتي يتربّعون عليها اليوم .. آية واضحةٌ دالّةٌ على ربّانية هذا القرآن وإعجازه .
    ----- ومن كان يخطُر على باله خلال القرون الطويلة من قبل الإسلام ومن بعده , أن سيكون لهذه الشرذمة المحتقرة من البشر هذا العُلُوّ والنفوذ والتّحَكّم والسلطان ؟
    ----- والله سبحانه الذي أرانا علوّهم – في هذا الزمن – وقد كان مستبعداً غريباً , سيُرينا بمَنِّه وكرمه زوال دولتهم , وانحسار صولتهم , وانتهاء إفسادهم , على أيدي العباد المبعوثين , إن الله لا يُخلــف الميعاد !
    ----- وقبل مغادرة المقام أحِب أم أعَرّج على ما قد يستشكله القارىء من ترك قول المتقدمين من المفسرين , القاضي بأن الإفسادتين قد وقعتا قبل الإسلام , وانتهيتا !
    ----- إذ زعم بعض أهل العلم أن تفسير الإفسادتين بغير الرأي الأول القاضي بأنهما قد مضتا وانقضتا قبل الإسلام على ما جاء في كلام المتقدمين لا يجوز , وسبب عدم تجويزه أنه مخالف للإجماع , , قالوا : فإن المتقدمين مجمعون على أنهما قد انقضتا قبل الإسلام , والتفسير بغير ذلك مخالفة لما أجمعوا عليه , ومخالفة الإجماع لا تجوز !
    ----- وللجواب على هذه الشُّبهة " القويّة " المورَدَة على اختيارنا السابق لا بدَّ من تقرير ما يأتي :
    أوّلاً : أن ادّعاء كون هذا القول " محل إجماع لا تجوز مخالفته " , دونه " لبن العصفور " , وبيانه : أنك إذا نقلت ما تيسّر من أقوال المتقدمين في هذه المسألة , فإن ذلك لا يكفي في إثبات أن أحداً من أهل العلم لم يقُل بغيره , خصوصاً وأن أحداً لم ينقُل الإجماع صراحة من المتقدمين , وإنما زعمه بعض المتأخرين بعد اطلاعهم على ما تيسّر من كتب التفسير , ونحن لم ننكر أنه قول عامّتهم , أما القول بأنه إجماع قال به كلُّ عالمٍ منهم فهو مجازفة كبيرة لا تنبغي , وقد ورد عن الإمام أحمد وغيره فيما يصلُح الاستشهاد به في مثل هذه المواطن من رواية ابنه عبد الله قال : سمعت أبي يقول : ما يدَّعي الرجل فيه الإجماع هذا كذب , من ادّعى الإجماع فهو كذب , لعلّ الناس قد اختلفوا , هذا دعوى بشر المريسي والأصم , ولكن لا يعلم الناس يختلفون أو لم يبلغه ذلك ولم ينتهِ إليه , فيقول لا يعلم الناس اختلفوا " فما أدري أين هو الإجماع المزعوم ؟ وما أدلّته ؟ ومن نَصَّ عليه من أهل العلم ؟
    ----- ثانياً : أنه وإن سلّمنا أنه لم يقُل أحدٌ من السّلف بهذا القول الذي ذهب إليه كثيرٌ من المعاصرين من المفسرين , فإن الخلاف الذي وقع بين السّلف في تحديد محل الإفسادتين يُسَوّغ الإجتهاد في تحديد موضعهما , فإن السّلف قد اختلفوا في تحديدهما ولم يتفقوا , فمِنْ قائل : إن الإفسادة الأولى هي قتلهم " زكريا " ومِن قائل إنه قتلهم " أشعيا " ومن قائل قتلهم : يحيى بن زكريا " عليهم السلام .
    ----- وفي تفسير العباد " أولي البأس الشديد " أكثر من خمسة أقوال منقولة عن السّلف , وقد اختلفوا كذلك في تفسير الإفسادة الثانية على أقوال عديدة , حتى إذا أردت أن تُحصي ما ورَد في التفاسير المتناولَة فقط من الأقوال فيهما لكان كثيراً ... والمقصود أن تفسير الإفسادتين موضع خلاف لا موضع إجماع , وكيف يكون الخلاف " إجماعاً " في صورة من الصُّوَر ؟
    ----- ولعل القائل أراد أن الخلاف الذي وقع بينهم لا يخرج عن الأقوال المذكورة , وكلها مما يذهب أصحابها إلى أنها مما مرَّ قبل الإسلام , على خلاف في التحديد ؟
    ----- والذي يتوجّه على المُحتَج بهذا سؤال , بيانه : أنة مثل هذا " الخلاف " الذي ادّعيته " إجماعاً " , هل ينهض للاحتجاج القطعيّ الذي لا تجوز مخالفته ؟
    ----- أقول : في هذه المسألة خلاف بين الأصوليين , فقد اعتبره بعضهم إجماعاً , بحيث لم يجيزوا الخروج عن مجموع هذه الأقوال , ويبقى التّخيّر بينها .
    ----- وذهب آخرون إلى أنه ليس كذلك , وأنه لا يمكن للخلاف أن يكون إجماعاً لا تجوز مخالفته ! والوجه : أن مثل هذا " الخلاف " ليس " إجماعاً " حقيقة , بل إن في إطلاق الإجماع عليه نوع تجوّز !
    ----- وهذه مسألة معروفة في كتب الأصول تُسمّى : إحداث قول جديد , أو إحداث قول ثالث , وهي مسألة طويلة الذيول , فإن كان الأمر كما سبق البيان فإن الاجتهاد والنظر ومواجهة الدليل بالدليل والاستعانة بالسّياق والقرائن هو ميدان الكلام في المسألة , والحمد لله رب العالمين .
    ألفرع الثاني : المعالم الرئيسة في صُوَر المعركة
    ---------------
    ----- الذي ذهب إليه كثير من المحققين أننا اليوم نعيش الإفسادة الثانية لبني إسرائيل – كما سلف البيان في المطلب السابق – وإذا كان الأمر كذلك فإن آيات سورة الإسراء التي سبق ذكر الخلاف في تفسيرها تذكر لنا الخطوط الرئيسة في المعركة , وتُبيّن معالمها الأساسية بصورة بدّت فيها هذه المعالم واضحة إلى حدٍّ بعيد .
    ----- قال الله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتبّروا ما عَلَوا تتبيراً } " ألإسراء : 6 " , وأواخر السورة جاء قوله تعالى : { وقُلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً } " ألإسراء : 104 " .
    ----- وهذه الآيات في الموضعين تُمثّلان ما يُصَوّر المعركة ومعالمها الأساسية , بالإضافة إلى قوله تعالى في مطلع السورة : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريَهُ من آياتنا إنه هو السميع البصير } " ألإسراء : 1 " .
    ----- وسأبيّن إن شاء الله مدخل هذه الآية في موضوعنا هذا , وليأذن لي القارىء بالتنقُّل بين هذه المواضيع حسب المقتضى الذي تفرضه الدراسة , والله الموفّق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
    ----- يبدأ المشهد في الإفسادة الثانية بقوله تعالى " ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " .
    ----- بعد مدّة متراخية عن الإفساد الأول , وما حصل فيه من تسليط الله جنده على اليهود { ولكن الله يُسَلّط رُسُله على من يشاء } " الحشر : 6 " , وقد فسرناه وقتها بأنه تسليط الله لنبيّه وأصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم , ورضي الله عن صحابته بعد هذا بمدّة متراخية , كما يُفهم من استعمال " ثم " المفيدة للترتيب والتراخي , تُرَدُّ الكرّة لبني إسرائيل على أمّة الإسلام , ويمُد بنو إسرائيل بالأموال والبنين ويُجعلون أكثر نفيراً .
    ----- وهذه الآية تبيّن مظاهر قوّة اليهود ومَدَدِهم في إفسادتهم الثانية , وهو المعبّر عنه في قوله تعالى : { ضُرِبت عليهم الذلّة أين ما ثُقفوا إلا بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وبآءوا بغضب من الله وضُربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتدون } " آل عمران : 112 " .
    ----- وقد يسأل سائل فيقول : إذا كان هذا حبل الناس كما تقول , فلماذا أسنده الله إلى نفسه ؟ رددنا , وأمددناكم , وجعلناكم أكثر نفيراً ؟.
    ----- والجواب أن الإسناد هنا للإشارة إلى أنه حصل بإذن الله ومشيئته , وأن عُلُوّ بني إسرائيل وإفسادهم لم يكن سبقاً منهم لرب العالمين , ولم يكن خارجاً عن إحاطته وقبضته وتقديره سبحانه .
    ----- وتبيّن لنا هذه الآية أن الإمداد الخارجي لليهود يتم بوسيلتين عظيمتين وقناتين كبيرتين , ألأولى: إمداد بالأموال , والثانية : أمداد بالبنين , وهاتان الوسيلتان هما قاعدة القوّة المادية لليهود في هذا الزمان , فالمال هو عصب الحياة الاقتصادية , والاقتصاد ضروري لأي دولة , وينتج عن المال , والاقتصاد مظاهر الحياة الماديّة , من صناعة وتقدّم ودَخَل , والبنون هم أساس استمرار الكيان , فوجود الكيان المادّي وقوّته مرتبطٌ باستمرار النموّ السكاني وكثرة المواليد وزيادة عدد السكان .
    يتبع الجزء الثالث من – صُوَر المعركة المباركة !
    ******

  30. #30
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    [align=right]
    بارك الله فيك شيخنا الحبيب , ونفع بعلمك, ولعلنا نقوم بادرج هذا البحث كإصدار ضمن سلسلة "كتاب النسابون العرب" اتماما للفائدة ان شاء الله.
    [/align]

  31. #31
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي

    أخي الفاضل أبا عبد الله - حياك الله وعافاك
    فكرة طيبة ولفتة مميزة تعبر عما لبيت المقدس من مكانة عقيدية لديك .
    فإذا كان بالإمكان ضم البحث الى " كتاب النسابون العرب " فمرحباً وأهلاً .. لكنه طويل جداً .. ولك التقدير !
    لك منا أطيب التحية مع خالص المودة والمحبة .

  32. #32
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي



    الجزء الثالث من
    صورة المعركة المباركة مع اليهود
    -------

    ----- وهناك بُعدٌ واقعي معاصر لقوله تعالى " وأمددناكم بأموال وبنين " , إذ هو أبرز ما ينطبق على الكيان اليهودي القائم الآن على أرض فلسطين , حيث تمكّن اليهود من السيطرة على الدول الكبرى والصغرى , وتسخيرها لهم , وتحويل قنواتها لتصُب في كيانهم في فلسطين , إلاّ أننا نرى قناتين واسعتين غزيرتين تصُبّان في كيان اليهود :
    ----- ألقناة الأولى : ألقناة الماديّة المتمثلة في المساعدات المالية من الدول الغربية : كأمريكا وألمانيا وفرنسا , التي تُقدّم لليهود , وأكثر هذه الأموال تأتي من أمريكا , وتتمثّل في عشرات المليارات من الدولارات تقدمها أمريكا لليهود سنوياً !
    ----- ولولا هذه الإمدادات المالية لما تمكّن الكيان اليهودي من الوقوف على قدميه في فلسطين , ونتخيّل ماذا سيحدث لهذا الكيان عندما تُغلَق هذه القنوات المالية الأوروبية والأمريكية , وستُغلق بإذن الله ليتحقق وعد الله الذي وعدنا إياه .
    ----- ألقناة الثانية : ألقناة البشرية المتمثلة في البنين اليهود القادمين إلى فلسطين , إمداداً لليهود المقيمين فيها من قبل , هؤلاء اليهود القادمون في صورة مهاجرين عائدين إلى أرض الميعاد , وقادمين من مختلف بلاد العالم , مثل : يهود الفلاشا القادمين من إثيوبيا , وذلك السيل البشري القادم من روسيا – الاتحاد السوفيتي سابقاً – ودول أوروبا الشرقية والغربية .
    ----- وستبقى هذه القناة البشرية مفتوحة , وستبقى تَضُخُّ في الكيان اليهودي في الأرض المقدسة بنين وأولاداً وقادمين يهوداً , حتى تتحقق مشيئة الله في تجميع كل اليهود في هذه المنطقة تمهيداً لساعة الحسم .
    ----- وهذا المعنى المتحقق في الواقع اليوم , هو وعيد الله الذي أوعده بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام , حيث قال تعالى " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً " .
    ----- وسكناهم الأرض : تشتّتهم فيها وتقطّعهم أمماً , وتفرّقهم مُزَقاً , كما قال الله تعالى : { وقطّعناهم في الأرض أمماً } " ألأعراف : 168 " !
    ----- ووعد الآخرة , أي : إلإفسادة الثانية , كما قال الله تعالى : " فــإذا جــاء وعــد الآخــرة ليسوؤا وجوهكــم " .
    ----- ولفيفاً : مُلتَفّين مُجتمعين , وهي تُصوّر الحالة التي يأتي فيها اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى فلسطين , وجاءت الأحداث المعاصرة لتُفَسّر هذه الآية تفسيراً عمليّاً واقعياً , فاليهود كانوا يأتون " لفيفاً " إلى فلسطين منذ بداية توجههم للاستيطان في فلسطين , منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي , وانتهاءً بهذا اليوم , وقد سمعنا قبل وقت قصير – في مطلع عام 2015 م – رئيس وزراء الكيان يستثمر حادثة إطلاق النار على مجلة " شارلي إيبدو " الفرنسية وما حصل من الأحداث المرافقة ليدعو يهود فرنسا إلى القدوم إلى " موطنهم الأصلي " فلسطين ! ألا خابوا وخسروا ! إنما يأتون على قدر , وما ينتظرهم أدهى وأمَرَّ !
    ----- أما قوله تعالى " وجعلناكم أكثر نفيراً " من آية الإسراء , فأصل كلمة النفير من " نَفَرَ " والنّفرة الإزعاج عن الشيء , وإلى الشيء , يقال : نَفَر عن الشيء نفوراً , قال تعالى : { ما زادهم إلاّ نفوراً } " فاطر : 42 " , والنفير : ينفر مع الرجل من قومه , أو الجماعة الصائرون إلى الأعداء مع أوليائهم .
    ----- فالمقصود إذاً أن حلفاء اليهود وأعوانهم ومن يحمل معهم علينا أكثر , والمساعدات التي تقدم إليه كذلك , ومن يصطفّون معهم في أيّة صورة أخرى , ويكونون في صفّهم كذلك .
    ----- وها هو الواقع يصدّق كلام علام الغيوب سبحانه وتعالى , ويكون اليهود الأكثر نصيراً والأعظم حليفاً , يمدّهم حلفاؤهم بالمال وأنواع السلاح , وسائر المساعدات , ويوالونهم ويناصرونهم في شتّى البقاع والساحات , في الساحة العسكرية والقانونية والاقتصادية , ويُجلبون جميعاً على المسلمين بخيلهم ورَجِلِهم , ولله الحكمة البالغة , وإليه يرجع الأمر كلّه , وهو العزيز الحكيم .
    ----- وهذه كلها عناصر قوة اليهود في هذه الإفسادة " وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " وفي هذه المعطيات تثبتُ طائفة من هذه الأمّة على أمر الله تواجه هذا المَد اليهودي , ويأتي الكلام على هؤلاء ودورهم في القادم من الكلام إن شاء الله .
    ----- وبعد هذا البيان يأتي تفصيل نهاية الإفساد الثاني لبني إسرائيل , ومعالم هذه النهاية بالتعبير القرآني المُلفِت المُعجِز المُختصَر , حيث قال الله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما عَلَوا تتبيراً } " ألإسراء : 7 " , وتذكر الآية ثلاثة معالم واضحة تبيّن نهاية إفسادة بني إسرائيل ودمار علُوّهم , وهي مُرَتّبَة كالآتي :
    • إساءة وجوههم .
    • دخول المسلمين المسجد كما دخلوه أوّل مرّة .
    • تتبير ما عَلَوا وتدميره بشكل كامل وتام , إذ التتبير التدمير ولعلّه أشدّ .

    ----- وأحسب أن هذه المعالم مراحلٌ وخطواتٌ مُرتّبةٌ تبدأ بإساءة وجوه اليهود وتنتهي بتدمير دولة اليهود وسائر مظاهر علوّهم بعد أن يُطردوا من المسجد .
    ----- وقد يقول لي قائل : إذا كانت مراحل مرتّبة – كما تزعم – فلماذا لم يأت العطف بين هذه المراحل ب " ثم " المفيدة للترتيب والتراخي , أو الفاء المفيدة للترتيب والتعقيب , أو الواو العاطفة المستعملة في الآية فهي مفيدةٌ – على رأي الجمهور من السلف والخلف – لمطلق الجمع ؟
    ----- الذي يبدو لي – والله أعلم بمراده – أن هذه المراحل لمّا كانت متداخلة تبدأ التالية فيها قبل انتهاء ما قبلها , جاء العطف بينها بالواو المفيدة للجميع , دون العاطفات المفيدة للترتيب .
    ألمَعْلَم الأوّل : إساءة وجوه بني إسرائيل :
    ----- ألمّعلَم الأول من معالم نهاية الإفسادة اليهودية : إساءة وجوه بني إسرائيل , قال تعالى " ليسوؤا وجوهكم " والخطاب بطبيعة الحال لليهود , أمّا الذين أُسنِد إليهم الفعل " ليسوؤا " على أنهم فاعلوه فهم المسلمون على ما تقدّم , هم الذين بعثهم الله على بني إسرائيل لمّا أفسدوا أوّل مرّة , حيث وُصِفوا بقوله " عباداً لنا أولي بأس شديد " وهم الذين رُدَّت الكرّة لبني إسرائيل عليهم .
    ----- وإساءة المسلمين وجوه بني إسرائيل : نسبة السوء إلى هذه الوجوه , ويتمثّل هذا واقعياً , بصورتين ذاتَي بُعدَين : عالميٌّ وإعلاميٌّ , أذكرهما وأُنَبّه على بُعدٍ ثالثٍ هام .
    ----- أما البُعد العالمي : فباعتبار أن الإساءة لوجوه بني إسرائيل ذات بُعد عالمي عام , أما المسلمون فوجوه اليهود مُساءةٌ أصلاً أمامهم , فالإضافة هنا إنما تقع بإساءة وجوه بني إسرائيل أمام العالم .
    ----- وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار العلاقة بين هذه النقطة وبين قوله تعالى " ضُربت عليهم الذلّة أين ما ثُقِفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس " , اتصل الكلام واتضحت الصورة , حيث كنا قد بيّنا أن اليهود إنما انتُشلوا اليوم في إفسادهم بحبل من الناس , الذين دعموا اليهود , وانهالت معوناتهم ومساعداتهم الماليّة واللوجستية عليهم , كما قال سبحانه " وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ".
    ----- ألعلاقة واضحة إذاً , فإساءة وجوه بني إسرائيل بمراعاة هذا البُعد العالمي آيلةٌ إلى قطع حبل الناس , ألمتمثّل بانفضاض العالم عن التحالف مع اليهود , وكَفّ اليد عن مساعدتهم ودعمهم , فإن تَمَّ ذلك وقع اليهود في مستنقع الذّلّة التي انتُشِلوا منها بحبل من الناس .
    ----- وواضح أمامك – أيها القارىء الفطن – أن إساءة وجوههم بمعنى فضح جرائمهــم وبيــان قُبــح حقائقهم وصلف عنصريتهم واحتقارهم للإنسانية ولشعوب الأرض جميعاً , فالبُعد العالمي واضحٌ على هذا تمام الوضوح كما ترى , وهو البُعد الأوّل .
    ----- أما البُعد الثاني : وهو البُعد الإعلامي , فهو أداة إساءة وجوه بني إسرائيل , وهو الوسيلة التي توصل إلى العالم حقيقتهم , وتكشف القناع الذي يغطّي الوجه القبيح الشرّير لليهود , الذي لبسوه يوم توسّلوا بما هم فيه من الذلّة والمسكنة إلى التنفّذ والسيطرة بعد اكتساب تعاطف تلك الشعوب والتمثيل عليها .
    ----- وقبل مغادرة هذه المرحلة الهامّة من مراحل الوعد الربّاني بانتهاء دولة اليهود , ينبغي أن أُنَبّه على معنيين هامّين وركيزتين أساسيتين في فهم قوله تعالى " ليسوؤا وجوهكم " .
    ----- ألأولى : أنه لن يتولّى المسلمون وحدهم فضح اليهود وكشف قناع باطلهم , وبيان عُتُوّهم وجرائمهم , وإنما سيساعدهم على ذلك اليهود أنفسهم !
    ----- وسيكون ذلك باجتراح اليهود أعظم الجرائم , وارتكاب أقبح الخطايا والاعتداءات , وسيظهر للعالم صَلَفٌ وقِحَةٌ وتكَبُّرٌ غير معهود . كما فعلوه بقطاع غزة بمعركة الفرقان كالقصف بالقنابل الفسفورية لمدارس الأمم المتحدة , وقصف القنوات الفضائية العالمية .
    يتبع – الجزء الرابع من صُوَرة المعركة المباركة !
    *******

  33. #33
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألجزء الرابع من صورة المعركة المباركة
    -------

    ----- وتبعه سلسلة أحداث كبيرة : ألإعتداء الدموي على سفينة الحريّة التركية التي استشهد فيها – إن شاء الله – عدد من الإخوة الأتراك رحمهم الله , أثناء محاولتهم " الإنسانية " الوصول إلى شواطىء غزّة وكسر الحصار المضروب على أهلها منذ 2006 م وحتى يومنا هذا .
    ----- ومنها كذلك : اغتيال المجاهد محمود المبحوح في الإمارات العربية في عملية كبيرة ضخمة نفذها الموساد الإسرائيلي باستعمال جوازات سفر مزوّرة لدول متعددة , ألأثر الذي سبب إنزعاجاً لدى شرائح سياسية واسعة ثمة .
    ----- وتبع ذلك وسبقه صلفٌ صهيونيٌّ عجيبٌ حتى مع القوى الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني يصعب الاستقصاء في ذكره أو التمثيل على كل جزئيّة منه !
    ----- وقد توقّعت وقتها أن يبدر من اليهود مثل هذه الأفعال التي عدَدت بعضها أثناء الكلام السابق , بل لعله يبدر ما هو أشنع وأقبح مما سيفضح الإجراء ويكشف الحقيقة اليهودية , وقد حصل بالفعل , من استمرار الحصار وقتل المدنيين وإحراق أجزاء كبيرة من غزّة ثبّتها الله وأعزّها في المعارك التالية لمعركة الفرقان , وخصوصاً في معركة العصف المأكول سنة 2014 م .
    ----- وها هم اليوم يخوضون معركتهم الكبرى على المسجد الأقصى , وعلى القدس , يبغون فرض الواقع وتغيير الهويّة , وتزوير التاريخ , في أنكَد عمليّة سطو على مقدسات أُّمّة , واقتحام لحماها المُحرّم , واستهداف لأخطر ما يُحَرّك بواعث الإيمان فيها والنّجدة والحميّة .
    ----- كل هذا وغيره تسبب وسيتسبب مع الاستمرار فيه والإيغال والمبالغة بنفورٍ يؤول إلى " إساءة وجوه بني إسرائيل " وانفضاض شعوب العالم عنهم , وبالتالي : انقطاع حبل الناس الذي انتشلهم من قيعان الذّلْ , ومستنقعات المسكنة .
    ----- وأما الملاحظة الثانية فإن ثمّة أمراً في غاية الأهمية , ولعلّه الأهم في معادلة إساءة وجوه بني إسرائيل , ذلكم أن آلة الوهم الشيطانية صنعت دولة اليهود وعظّمت قوتهم وهوّلت إمكاناتهم , حتى صوّرتهم بصورة " الجيش الذي لا يُقهر " , { إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه } " آل عمران : 175 " لكنه اليوم – وفقاً للوعد الرباني – سيُساء ويُكسَر إن شاء الله , وستُرغم أنوف اليهود , وستُذَل جباههم , وإنما يَصنع بهم هذا : الثُّلّة المؤمنة الثابتة الصابرة المجاهدة التي لا يضُرّها خُذلان المتخاذلين , ولا مكر المتآمرين ( لا تزال طائفة من أمّتي على الحق ظاهرين , لا يضُرّهم من خالفهم ولا من خذلهم , حتى يأتي أمر الله وهم كذلك , قالوا وأين هم يا رسول الله ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) .
    ----- فيُسَلّط الله على اليهود هذه الطائفة المجاهدة التي تُلْحِق باليهود ألوان الهزيمة , وتريهم آيات الثبات , وتُحطّم بذلك أسطورة الجيش الذي لا يُقهر , ويَظهر عوار القوة اليهودية المزعومة , فيتجرّأ المسلمون عليهم , ويكون فيما يحققه هؤلاء الشباب من نتائج عبرة ودافع لبقيّة المسلمين أن يقتحموا غِمار المعركة ويُسهموا في الاقتصاص من اليهود , فتُساء وجوه بني إسرائيل بذلك كله , والله أعلم .
    ----- ويتحصّل من الذي مضى أن أبطال هذه المرحلة – مرحلة إساءة وجوه بني إسرائيل – أطــراف ثلاثة :
    1 – هؤلاء المجاهدون الثابتون , الذي يُخزون اليهود ويُظهرون جُبنهم وخَوَرَهم وضَعفهم , ويمنع الله بهم اليهود من تحقيق الأهداف وقطف الثمرات ولا غرو ولا عجب { إن الله لا يُصلح عمل المفسدين } " يونس : 81 " , { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } " يوسف : 52 " .
    ----- وهؤلاء المرابطون والمرابطات في المسجد الأقصى وسائر فلسطين الذين يقفون شوكة في حلوق اليهود وحلفائهم , يُنغّصون عليهم حياتهم , ويُخَرّبون عليهم أمانيّهم , هم عنصر من أهم العناصر المؤثرة في هذه المرحلة , وهم أداة الاشتعال التي تُحافظ على اتّقاد المعركة , وتُدَفّق الدّم في عروق الأمّة وتحفظ الحق الإسلامي من الضّياع , وتحول دون ذوبان القضيّة وتميُّعها .
    ----- 2 – الضحايا من أهالي فلسطين , والمظلومون منهم , الذين يُشكّلون مادّة الإفساد والظُّلم والعُلُو اليهودي , ولا يحسَبَنَّ أحدٌ أن الدماء المسفوكة ثمّة لا فائدة منها , وأنها هَدْر , كلا , إنما يُشكّل هذا الطرف من أبطال المعركة ركناً مهماً من أركان المرحلة , ومَعلماً بارزاً فيها , إذ كيف تُساء وجوه بني إسرائيل ويَظهر طغيانهم من دون وقوعه على أحد ؟!
    3 – ألإعلاميون الصادقون , والشباب الملتهبون شوقاً وحُباً لقضية بيت المقدس , الذين يُسَخّرون طاقاتهم وقنواتهم في الفضائيات وصفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي للتوعية بهذه القضية , ولتعبئة جهود المسلمين للعمل بها والتّحرُّك لأجلها والتفاعل معها , ولبيان جُرم اليهود وفضح انتهاكاتهم وتصوير اعتداءاتهم , ودعوة شعوب العالم إلى تحمُّل مسؤولياتهم في هذا السياق , والتوقّف عن دعم اليهود والانجرار إلى أهدافهم ومرغوباتهم , ويقيمون لأجل ذلك الفعاليات المختلفة ويُنَظّمون النشاطات .
    ----- وهذه العناصر الثلاثة المتكاملة المنسجمة الأدوار , هي العناصر التي تصنع المرحلة , وتُمَهّد للمراحل القادمة , وتتحمّل الاستحقاقات الثقيلة وطول الطريق فيها , لكن العاقبة للمتّقين .
    ألمَعْلَم الثاني : دخول المسجد كما الدخول الأوّل
    -------

    ----- ألمعلم الثاني من معالم انتهاء دولة اليهود وزوال إفسادهم هو تحرير المسجد الأقصى من قبضتهم , وتخليصه من سطوتهم , وهو المُعبّر عنه في الآية بدخول المسجد , قال تعالى " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما عَلَو تتبيرا " .
    وفي هذا الجزء من الآية " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة " فوائد وإشارات متعددة منها :
    ----- أولاً : أن مركزيّة الصراع في إفسادة بني إسرائيل الثانية إنما هي دخول المسجد الأقصى , وهذا ظاهر من الآية " وليدخلوا المسجد " فدخولهم المسجد هو علامة النصر , وسقوط دولة اليهود , وانحسار مَدِّهم , كما إذا نشبت حربٌ بين دولتين , ثم استطاعت إحداهما دخول عاصمة الأخرى , فإذا كان ذلك انتهت الحرب " الرسمية " تقريباً , وكان هذا علامة سقوط الدولة االمهزومة , فالعاصمة وثباتها أمام الغزو هي علامة الثبات , وحولها تدور المعركة .
    ----- فقوله " وليدخلوا المسجد : قد اختزل حرباً طويلة وصراعاً مريراً بين المسلمين واليهود حول هذا المسجد , وهو ما نعيشه اليوم , فالمسجد – على سبيل التحديد – بؤرة الصراع وعنوانه وقلبُ القلب منه , وإن كانت فلسطين كلها في قلب الصراع .
    ----- واليهود اليوم متفقون على قضية القدس , بل على قضية " الهيكل " المزعوم تحت المسجد , العلمانيون منهم والمتدينون , أما المتدينون فيرون القضية من المنحى العقيدي , ومن خلال نبوءات " التوراة المحرّفة " والأساطير المزيّفة .
    ----- وأما العلمانيون فينظرون إلى الهيكل على أنه رمزٌ قوميٌّ يجتمع عليه اليهود ! وفي هذا إشارة – والله أعلم بمراده – إلى ضرورة توجّه البوصلة نحو المسجد الأقصى وقضية القدس وفلسطين , لِما أنها محلّ النّزاع , ولِما أن انتهاء الإفسادة الإسرائيلية مرتبط – في هذه المرحلة – بتحرير المسجد ودخوله .
    ----- ثانياً : هذا الموطن في السورة هو الموطن الثاني الذي يذكر فيه المسجد الأقصى , فالموطن الأوّل هو قوله تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " , وفيه وصف المسجد بأنه " الذي باركنا حوله " .
    ----- وهنا في نهاية إفسادة اليهود الثانية قال " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة " وهذا يُطْرِق إلى أذهاننا بُعداً مُهمّاً في تفسير البركة المقصودة في قوله " الذي باركنا حوله " .
    ----- ومن الهام التنبيه إلى أنه سبحانه لم يقُل " الذي باركنا فيه " أو " الذي باركناه " وإنما " الذي باركنا حوله " ! ففيه إشارة إلى أنه سببٌ لبركة ما حوله , وأن البركة تفيض منه لتسيل ما حوله !
    ----- نعم , قد قيل في البركة هاهنا : إنها طيب العيش , ورخاوة الجوّ , وخصب الأرض ... , لكن وضع الآيتين معاً " إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " و " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة " , تجعلنا نفهم البركة التي تفيض من المسجد الأقصى على ما حوله فهماً أوسع من هذا وأشد علاقة , وأدَقّ ملحظاً .
    يتبع – الجزء الخامس من صورة المعركة المباركة مع اليهود !
    *******

  34. #34
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألجزء الخامس من صورة
    المعركة المباركة
    -------

    ----- إن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل تكون في مرحلة شديدة على المسلمين , يعيش المسلمون فيها ظروف الوَهَن والتّشرذم , ويتجرّعون فيها مرارة الهزيمة والذُّل , وتلهب سياط الظلم والطغيان أضلعهم ! ومن ثم تَدُق قضية المسجد الأقصى ناقوس اليقظة , وتقــدح شــرارة الانتفاضــة , انتفاضــة الصحــوة الإسلامية في بلدان المسلمين .
    ----- إن من بركات المسجد الأقصى أن يكون السبب في إيقاد جذوة الإسلام فيما حوله من البلاد , أن يكون المنار الذي يستضيء به السائرون إلى المجد والعزّ في ليل هذا الزمان الصعب .
    ----- وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يُمكن أن يُسْتشهد به على هذا المعنى الذي نلمحه من وراء ستر رقيق , جاء في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل : أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل , أم بيت المقدس ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه , ولنِعم المُصلّى , وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً ) .
    ----- ففي الحديث , ألإخبار عن ولادة جيل من أجيال المسلمين يملك الاستعداد أن يُضحّي لأجل بيت المقدس بالدنيا جميعها , ويعدُّ قضية بيت المقدس أولويّة أولى , يتوجّه إليها بكلّيته وجمعيّته .
    ----- ثالثاً : قوله تعالى " كما دخلوه أوّل مرّة " , وهذا مُهمٌّ جداً في تَصَوّر المعركة القادمة , وبيانه : أن الآية شَبَّهت الدخول المنتظر بالدخول الأوّل للمسلمين إلى المسجد , وقد دخلوه أوّل مرّة في زمن أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وقد كان لهذا الدخول " النظيف " يومها من المواصفات المهمة , التي يمكن أن نتصوّر أهم معالمها كما يأتي :
    1 – حصول هذا الدخول على أيدي عصبة طاهرة مؤمنة , وجيش رباني فريد التكوين , إذ شارك في فتح بيت المقدس أربعة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم , وعلى رأسهم أمير المؤمنين عمر , وأبو عبيدة , وعمرو بن العاص , وآخرون , وكذلك سيكون الفاتحون القادمون , قادة ربانيين , وجنداً مطهرين , يقاتلون في سبيل الله , ويقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم , كثيرة طاعاتهم , قليلة معاصيهم , واضح منهجهم , نقيّة رايتهم .
    2 – أنه قد تقدّم فتح بيت المقدس يومها فتوحٌ وانتصارات مهّدت له ودلّت عليه وأدّت إليه , وكانت مُقدّمة بين يديه , وكان ثمرة طبيعية لها .
    3 – أن الروم وقتها سلّموا بيت المقدس تحت وطأة قوة جيش المسلمين وحصارهم , وقد عرفوا أن لا منجى لهم ولا سلامة إلا بتسليم بيت المقدس , والنزول على حكم المسلمين .

    ----- والذي أحسبه في القادم إن شاء الله أن الدخول القادم سيكون شبيهاً بهذا الدخول , إذ ستتعاظم قوة الإسلام , وستتوجّه جيوش المسلمين البرَرَة لتُحكم قبضتها وتضرب ضربتها , ووقتها – والله أعلم – سيتنازل اليهود عن بيت المقدس , وسينزلون عن المسجد الأقصى للمسلمين حفاظاً على بيضتهم وخوفاً على أرواحهم , واحتياطاً لاستمرار دولتهم : { لا يُقاتلونكم جميعاً إلاّ في قُرىً مُحصَّنة أو من وراء جُدُر } " الحشر : 14 " , { وإن يقاتلونكم يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصَرون } " آل عمران : 111 " .
    ----- ولا يتوهّمَن أحد أن المسجد سيعود للمسلمين عبر قنوات التفاوض المُذِل , وعمليات السلام الاستسلامية , التي اعترفت بحق اليهود في ما اغتصبوه ! إنما سيُخضِعُ اليهود وهَجُ بريق السيوف , وسنابك الخيل , وصيحات التكبير واشتداد الحصار , والله غالبٌ على أمره , ومُمْضٍ حكمه , ومُنْفِذٌ قضاءه , وهو العزيز الحكيم .
    ----- واللفظ في قوله تعالى { كما دخلوه أوّل مرّة } يشعر أنهم دخلوه أكثر من مرّة , وإلاّ لما كان ثمة فائدة في وصفه ب " أوّل مرّة " , إذ لا تُعَد المرّات إلاّ إذا تعدّدت , وهو مشيرٌ إلى المرّة الثانية , التي دخل المسلمون فيها المسجد , وهي التي حصلت بقيادة صلاح الدين والدنيا رضي الله عنه , وأجزل مثوبته ومثوبة شيخه نور الدين محمود , والدخول القادم إن شاء الله هو الثالث , ويُشبه الدخول الأوّل في معطياته ومظاهره , وهذا ما فهمناه إشارة من الآية والله أعلم .
    ألْمَعْلَمْ الثالث : تدمير عُلُوِّ اليهود والقضاء المُبرَم على دولتهم
    ----- ولا تنتهي الآية حتى تُبيّن آخر أمرِ هذه الإفسادة طمأنة للمؤمنين وتبشيراً لهم بأن كل عُلُوٍّ صنعه اليهود آيلٌ إلى الدمار الكامل , الذي لا تبقى معه لذلك العُلُوِّ باقية , " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبروا ما عَلَو تتبيراً " , وهذا التدمير الموعود لِعُلوّ اليهود وإفسادهم هو المَعْلَم الأخير من معالم انتهاء صولتهم ودولتهم , وعودتهم إلى مستنقع ووحل الذلّة " وضربت عليهم الذلّة والمسكنة " .
    ----- أما التتبير فمن " تَبِرَ " , يقال : تَبِرَ الشيء يَتْبَرُ تباراً إذا هلك , وتبَّره أهلكه , ومنه في القرآن قوله تعالى { إن هؤلاء مُتَبّرٌ ما هم فيه } " ألأعراف : 139 " , وقوله { وكلاًّ ضربنا له الأمثال وكلاًّ تبّرنا تتبيراً } " الفرقان : 39 " , وقوله على لسان نبيّه نوح عليه السلام { ولا تَزِد الظالمين إلاّ تباراً } " نوح : 28 " .
    ----- فمعنى : " وليُتبّروا ما عَلَو تتبيراً " أي " ليُهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه , أو بمعنى : مدّة عُلُوّهم " .
    ----- وجاء تأكيد الفعل بالمصدر " وليتبروا ما علوا تتبيرا " للإشارة إلى أنه تدمير شديد مكافىء لعلُوّهم " الكبير " فالعلو الكبير سيقابله التتبير الشديد , بحيث لا يبقى من آثار هذا العلو وذيوله إلا الذكريات والأحاديث إن شاء الله .
    " وفي هذا إشارة إلى أن المسلمين سيجيئون بقوة قاهرة , ذات بأس متمكّن غالب , يأتي على القوم وعلى كل ما معهم من سلاح وعتاد " .
    ----- وهذا الفتح والتحرير يُخالف بهذه الخلَّة والصفة الفتح الثاني لبيت المقدس , الذي أجراه الله على يد الناصر صلاح الدين رحمه الله , إذ بقيت يومها للصليبيين شوكة وقوة , تمكنوا بها من العود إلى المنازعة على بيت المقدس ومحاولة استلابه ثانية , وكادت المحاولات تنجح , لولا أن مَنَّ الله ووفّق , وبقيت لهم في شواطىء فلسطين والشام قلاع ٌ وحصون , وهي وإن كانت أضعف من تهديد وجود المسلمين في بيت المقدس إلا أنها كانت أقوى من أن تُطرَد , وكان المسلمون أضعف من أن يحملوا عليهم لأسباب بيّنها المؤرخون .
    ----- وما نحن بصدده – إن شاء الله – نصرٌ مؤزّرٌ لجند الله وعُشاق مسجده , وهزيمةٌ نكراء لأعداء الله وقَتَلَة الأنبياء .
    ----- إنّه إنْ مَنَّ الله علينا بشهود هذا الفتح – وهذا سؤلنا نتوجّه به إليه سبحانه – فإن من الواجب العمل على ما أشير إليه في هذه الآية من أخذ اليهود والتدمير عليهم , وهذا ما سيكون إن شاء الله باعتبار أن الآية سيقت مساق الخبر .
    ----- والتعبير هاهنا ب " ما " في قوله " ما عَلَوا " يُلمح إلى إشارة دقيقة , ذلك أنَّ " ما " اسم موصول , لغير العقلاء , يُراد به بنو إسرائيل وما معهم من معدات الحرب وأدوات القتال التي جلبوها من كل مكان ورصدوها للشر والعدوان , إن بني إسرائيل بغير معدات الحرب هذه لا حساب لهم ولا وزن , فلهذا كان ميزان الأسلحة والمعدّات أثقل من ميزانهم , ولهذا جاء التعبير بلفظ " ما " تغليباً لغير العاقل – وهو الأسلحة والمعدات – على العاقل – وهم بنو إسرائيل – كأن السلاح أرجح منهم كفّة , وأعظم أثراً , فإنهم بغير هذا السلاح شيء لا وزن له .
    ----- إن التعبير العجيب " وليتبروا ما علوا تتبيرا " له مدلول نفسي يُدرِكه الذين اصطلوا اليوم بنار ظُلم اليهود وجبروتهم , وذاقوا ما أحدثوه من قتلٍ ودمارٍ وتبار , إن الله تعالى ليطمئن هذه القلوب المكلومة , ويمسح عليها لتتصبّر على لأواء طريق النصر , وأشواك الثبات , وحرارة التضحية , ومرارة الانتظار , ثم ترقب بعينها بزوغ الفجر وانسلاخ الليل المظلم , وقد قيل " من لمح فجر الأجر , هان عليه ظلام التكليف " .
    ----- ألا فلتصبروا أيها الثابتون على أمر الله , ألا فلتصبروا أيها الظاهرون على دين الله الحق , ألا فلترقبوا يوم الدخول إلى المسجد رُكّعاً وسُجّداً لله شاكرين , لعدوّكم قاهرين , ولإفسادهم مغرقين , ألا فلترقبوا يوم التتبير والتدمير لذلك العُلُوِّ الكبير , يوم تشفى صدوركم , ويُخْزى عدوّكم , ويُبلّغكم الله آمالكم { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } " المعارج : 6 " .
    يتبع – الخاتمة
    *****

  35. #35
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألخاتمـــــــة
    -----

    ----- ألحمد لله مُعِزّ عباده المؤمنين , مُذِلّ أعدائه المتكبّرين , وبعد : فقد كانت هذه الدراسة ممّا يَمُنُّ الله علينا به خدمة لقضية بيت المقدس , وإسهاماً في صناعة النصر الموعود , والفتح المشهود .
    ----- هذه الدراسة – بيت المقدس وأسس المعركة القادمة مع اليهود – نحونا في تناوله منحىً قرآنيّاً لبيان الصورة الشرعية " العامة " لقضية بيت المقدس في الكتاب والسُّنة .. وإن كانت " التفاصيل " الهامة لهذا الموضوع فيهما " الكتاب والسنة " في محلِّ الطموح درْساً وتحقيقاً في القادم إن شاء الله تعالى وبتوفيق منه وفضل .
    ----- وانتهت هذه الدراسة إلى استعراض الأسس العامة للمعركة القادمة مع اليهود , بحيث عدَدنا الأُسس كما يأتي :
    • خصوصية بيت المقدس من بين بلدان الأرض .
    • ألعداء اليهودي للدعوة الإسلامية .
    • إسلامية المعركة وهويتها العقدية .
    • عُقم العملية السلمية وحسم جدلية نتاجها .
    • حتمية النصر على اليهود والخطوط الرئيسة في صورة المعركة .

    ----- وقد شملت دراسة كلٍّ من هذه الأسس منظومة من الآيات والمسائل , التي تفصل ما يُحتاج إليه في فهمها فهماً تاماً متوازناً , يُرسي دعائم التصوّر الإيماني حول كلٍّ منها , ويحوم في سماء التفكر القرآني والتدبّر التفسيري للإنتهاء إلى ما يُحدد السبيل ويروي الغليل .
    ----- هذا , وإني بعد هذه الدراسة أزداد إيماناً إلى إيماني بقُرب القلب بنصر الله , وإقرار العين بتحرير بيت المقدس , وانتهاء الإفساد اليهودي في الأرض .
    ----- وإنني لأرجو أن يُدرِك كل كاتب وقارىء هذا النصر , ويكون جزءاً من صناعته , وجندياً , بإذن الله { ويومئذٍ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصُر من يشاء وهو العزيز الرحيم } " الروم : 4 – 5 " .
    والحمد لله رب العالمين
    *******

  36. #36
    مشرف مجلس قبيلة عتيبة الهيلاء
    تاريخ التسجيل
    09-01-2010
    المشاركات
    790

    افتراضي

    بارك الله فيك يا أبا عمر لا شك أن قضية المسجد الأقصى هي قضية كل مسلم عربي أو كردي أو أمازيغي أو تركي أو غير ذلك

    لذلك يؤسفني حقيقة أن البعض بل الجميع يسميها "القضية الفلسطينية" وينادى عليها باسم العرب والعروبة !!! بل الأدهى من ذلك أن يقول بعض من يحمل لواء تحرير فلسطين أن عداءنا مع اليهود ليس عداءاً دينياً بل عداء دنيوي على الأرض فبنتهاء العداء الدنيوي لن يكون هناك عداء ديني لأننا واليهود - حسب زعمه - تجمعنا "الأخوة الإنسانية" التي تجمع سائر البشر باختلاف دياناتهم في بوتقة واحدة تلغي معها كل الخلافات !!!

    فخلافنا مع اليهود ليس من أجل الوطن بل من أجل الدين وعراكنا على الأرض ليس من أجل الوطن بل من أجل الله وهذا ما كان يفترض أن يعتقده كل مسلم فنحن نقاتلهم حتى نحيي حكم الله في الأرض وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

    فمن قاتل لعصبية كمن يقاتل لقومية أو وطنية أو غير ذلك فلا ينتظر النصر من الله لأنه على الأرجح إن لم تشمله رحمة الله فينصره رحمة منه به فإن الله سوف يكله إلى نفسه فهذا الرجل لا يقاتل في سبيل الله بل في سبيل القومية والوطنية.

    ومن رأى حال الأحزاب الفلسطينية من فتح وحماس لا شك أنه سوف يغسل يديه منهما وأن النصر إن لم يأتي على يد رجل صالح يقاتل في سبيل الله وفي سبيل أن يكون الدين كله لله تعالى فلا أظن أن القضية الإسلامية في فلسطين سوف تنحل حتى ياتي ذاك الرجل الصالح لا أقول هو المهدي أو المسيح عليه السلام فلست ممن يؤمن بان نبقى قابعين بكسل تحت مضلة التفائل بالمستقبل الواعد الذي يأتي من تحت الغبار على يدي المهدي الذي لم تصح رواية واحدة على ظهوره فإهمال هذه القضية على اعتقاد أنه لا يمكن حلها إلا على يدي المهدي المنتظر أو ننتظر المسيح حتى يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر حمق وغباء لكن أقول الأمل بالله كبير والأمة الغسلامية لا زالت أمة ولود فننتظر إن شاء الله من يبعث الله على يديه هاذ الدين من جديد ليطهره من رجس أهل البدع ويقود الأمة إلى نصر عظيم يعز الله فيه المؤمنين ويمحق الله فيه الكافرين

    وصدقني أنه إن لم يرجع المسلمين إلى دينهم وكتابهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويطبقوا أوامر الله ويجتنبوا نواهيه فإن النصر بعيد أهم اسباب النصر هو أن تأـمر بأوامر الله وتجتنب نواهيه

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. خصوصية تاريخ علي بن أبي طالب
    بواسطة د ايمن زغروت في المنتدى الدراسات الإسلامية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-05-2021, 01:18 AM
  2. خصوصية التطبيع وبشاعة التقريع
    بواسطة د جعفر المعايطة التميمي في المنتدى مجلس عشيرة المعايطة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 20-01-2018, 07:51 AM
  3. من نشاطات نقابة اشراف بيت المقدس واكناف بيت المقدس في صور
    بواسطة حازم زكي البكري في المنتدى منتدى السادة الاشراف العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 29-03-2017, 05:56 AM
  4. بيان صادر عن نقابة آشراف بيت المقدس وأكناف بيت المقدس
    بواسطة حازم زكي البكري في المنتدى منتدى السادة الاشراف العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-03-2017, 10:31 PM
  5. لقــــــــــــاء مــــــــع نقيب الاشراف في بيت المقدس واكناف بيت المقدس
    بواسطة حازم زكي البكري في المنتدى ساحة التواصل بين الاعضاء
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 19-02-2016, 11:09 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum