• الود بين الجعليين وآل الإمام المهدي:
    كان الجعليون وما زالوا حتى يومنا هذا يُكِنّون وداً حميماً لآل المهدي وأنصاره، ومن أجمل آيات الوفاء ما كان من لقاءات السيد عبد الرحمن المهدي المتكررة وحفاوته البالغة بناظر الجعليين حاج محمد إبراهيم فرح وإخوانه، وقد حضرت بعضاً من تلك اللقاءات مع عمي الحاج محمد وأنا طالب في الثانوي. ولد السيد عبد الرحمن بأم درمان بعد وفاة والده الإمام محمد أحمد المهدي ببضعة أسابيع وحفظ القرآن الكريم في سن باكرة ولعب دوراً بارزاً في حركة «مؤتمر الخريجين» والتف حوله عدد من الخريجين والمثقفين وكان يدفعهم نحو مطلب الاستقلال التام. أسس صحيفة «حضارة السودان» في عام 1919م وصحيفة «النيل» في عام 1935م وحزب الأمة الذي كان شعاره «السودان للسودانيين» في عام 1945م. وقد عارض الدعوة إلى الاتحاد مع مصر والدخول تحت التاج المصري. كان متحمساً للتعليم بشقيه الديني والنظامي. ظل يعمل بقوة في سبيل الاستقلال حتى اتفق مع الاتحاديين وتم إعلان الاستقلال في 19 ديسمبر 1956 وتم جلاء الإنجليز عن السودان في أول يناير عام 1956م. «رحم الله الإمام عبد الرحمن الذي ضمد جراحات تلك الفترة»... كمال عباس. ومن أجمل آيات الوفاء ما كان من الاحتفاء الكبير بالسيد عبد الله الفاضل «أكبر أحفاد الإمام المهدي الذي كان عضواً في المجلسين الثالث والرابع لرئاسة السودان» عندما زار نظارة الجعليين في المتمة في عام 1943، وما قدمه للسيدة فاطمة سالفة الذكر وزوجة الأمير عبد الله ود سعد، وما تبادله مع عدد من أكابر الجعليين من عزاء للطرفين، وكان ذلك في لقاء مؤثر ذرفت له الأعين وأجهش هو بالبكاء وكثير ممن حضر على ذكر تلك النكبات التي أصابت الطرفين بعد وفاة الإمام المهدي. ثم ما تلقاه السيد عبد الله الفاضل من حفاوة بالغة من الأرباب سعد ابن عبد الله ود سعد بالمتمة. وكان العزاء أيضا فيما أصاب آل المهدي من نكبات لا تقل فداحة بعد سقوط دولة المهدية عام 1898 وذلك حين أعدم كتشنر، في العام نفسه في قرية الشكابة، ابني المهدي البشرى والفاضل «والد السيد عبد الله الفاضل» والخليفة محمد شريف ابن عمهما وصهر الإمام المهدي، أعدموا رمياً بالرصاص. وكان معهما السيد عبد الرحمن الذي أنجاه الله من الموت، وقد قيل إنه جرح وأخفي ثم تعافى. وفي العام نفسه أعدم الجيش الغازي محمداً، ابن المهدي، شنقاً في سنجة. وكان الإنجليز يتخوفون من قيام تجمعات جديدة حول من تبقى من رموز الثورة المهدية. ومما لا ينساه الجعليون ما كان من السيد الصديق المهدي حين أمر في حفاوة بالغة نقل جثمان ناظر الجعليين حاج محمد إبراهيم فرح على ظهر الباخرة »الطاهرة« إلى المتمة بعد وفاته في مستشفى الخرطوم عام 1959، وكان الكاتب ضمن عدد كبير ممن أقلتهم الباخرة مروراً بقرى الجعليين التي خرجت في مواكب حزينة لفقد زعيمها وشاكرة لآل المهدي. وكان الناظر حاج محمد إبراهيم فرح من أقطاب الحزب الوطني الاتحادي في فجر الاستقلال وكان ضمن الوفد الذي سافر إلِى مصر للتوفيق بين جمال عبدالناصر والرئيس محمد نجيب. وكان ممن حسموا أمر استقلال السودان في اجتماع الحزب حول هذا الموضوع في أواخر 1955م بقولته المشهورة في الاجتماع «علي الطلاق استقلال»، وكان الخيار الآخر هو الاتحاد مع مصر. ومما يُذْكَرُ عن السيد الصديق المهدي أنه بويِعَ إماماً للأنصار في 25 مارس 1959بعد وفاة والده الإمام عبد الرحمن المهدي. ومن التاريخ المشرق للسيد الصديق في تلك الفترة قيادته معارضة النظام العسكري قومياً، حيث كان بيت الأمة هو مركز المعارضة «مجمع بيت الإمام المهدي». وبادر بكتابة العديد من المذكرات: حتى اعتبرت وفاته بحق ضربة أساسية للحركة المعارضة للحكم العسكري. ومن أجمل ما كتب السيد الصديق عن الروح القومية للأمة وصيته التي أملاها وهو على فراش المرض وبحضور الأطباء وعدد من الشهود بعد أن طلب أن يمثل أمامه نجله السيد الصادق المهدي فقال «إننا لا نكن عداء خاصاً لأحد وليس لنا مطلب خاص وإن مطلبنا هو مطلب البلاد قاطبة في أن تحكم بالشورى والديمقراطية، وأن يعطى الناس الحريات الأساسية فاحرصوا على تحقيق هذه المطالب مهما كلفكم الحرص». وقال عن الشأن الأنصاري: «بعد وفاتي يتألف مجلس شورى برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي وعضوية السادة: الهادي ويحيى وأحمد والصادق المهدي. ويرعى هذا المجلس شئوننا الدينية والسياسية بكلمة موحدة حتى تنقضي الظروف الحالية في البلاد، وعندما تلتفتوا لأمر اختيار الخليفة الذي يكون إماماً، يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار». ويا لها من وصية تضاهي في عظمتها شعار السيد عبد الرحمن «السودان للسودانيين». وهذه النظرة الأبوية الحادبة على أبناء الوطن جميعاً كان مثل ذلك من سمات الشيخ زائد آل نهيان، وهي خصلة من الفطرة السليمة التي أكثر ما تجلت في صحابة رسول الله صلي عليه وسلم وخلفائه الراشدين. فكان الواحد منهم راعياً لكل الأمة ومسؤولاً عنها، ومن أحسن ما قيل في ذلك بعد الحديث الشريف قول الشاعر الأموي، ابن بيض، في مدح خالد بن عبد الله القسري، أحد أمراء الدولة الأموية، وكان أميراً غريب الأطوار، قال فيه:
    قد كان آدم قبل حين وفاته ** أوصاك وهو يجود بالحَوْبَاءِ
    ببنيه أن ترعـاهم فرعـيتم ** وكفَـيْتٍ آدَمَ عـَـيـلَةَ الأبْـنَاءِ
    والحوباء هي الروح، وقد ورد ذكر ذانك البيتين من الشعر في طرفة أدبية في كتاب «سرح العيون في شرح رسالة بن زيدون ص295» إذ دخل الشاعر ابن بيض على ذلك الأمير فقال «إني مدحتك ببيتين قيمتهما عشرة آلاف درهم فأحضر الدراهم حتى أنشدهما، فأحضر الدراهم فأنشده البيتين، فدفع إليه خالد الدراهم، وأمر أن يُضْرَبَ أسواطاً، وينادى عليه: هذا جزاء من لا يعرف قيمة شعره، ثم قال: إن قيمتهما مائة ألف». وقد أخمد ذلك الأمير فتنة عظيمة بقتله «الجعد بن درهم» الذي كان أول من تكلم بـ «خلق القرآن» من أمة محمد بدمشق، فطفئت الفتنة إلى أن أنشأها لاحقاً، في عهد الدولة العباسية، الوزير الشيعي أحمد بن أبي دُوَاد في أيام الخليفة المأمون. وقد قتل بسببها عدد كبير من علماء المسلمين وسجن وعذب وجلد آخرون غيرهم، منهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي أُتِىَ به مكبلاً ليقتل صبيحة يوم فجاءه السجان وبشره بأن المأمون قد مات من ليلته. واستمرت الفتنة في عهد المعتصم والواثق ثم أطفئت، كما جاء في خبر يطول ذكره، بعد مناظرة مع الشيخ الأزدي وهو فقيه شامي، هزم فيها بن أبي دُوَاد الذي كان يناظر العلماء ثم يقتلهم أو ينكل بهم. وأضحت تلك المناظرة من يومها حجة داحضة لكل مبتدع في أمر الدين. وإن شاء الله، سنكتب عنها في سياق آخر. ومن غريب أخبار ذلك الأمير ما كان بصدد فتنة خلق القرآن أنه قتل الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى بالكوفة، وقد أتى بـه في الوثاق، فصلى الأمير وخطب، ثم قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا بضحاياكم، فإني أريد اليوم أن أضحي بالجعد بن درهم؛ فإنه يقول: ما كلم الله تكليماً، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلاً. وكتاب «سرح العيون في شرح رسالة بن زيدون» تحفة في قمة روائع الأدب العربي وهو كما جاء في صدارة المحقق «من الكتب الفريدة التي جمعت من شتات الفوائد، ومتشعب التراجم والطرف والنوادر، ومصفي الشعر ومنخول الكلام ما لا يجمع في كتاب. ألَّفه ابن نباتة المصري «ت 686هـ» شرحاً لرسالة ابن زيدون الهزلية. وكان ابن زيدون من شعراء الأندلس «وموسوعة في فنون الأدب العربي وأخبار العرب وراوية لأشعارها وأمثالها» وكتب تلك الرسالة «في حوالي سبع صفحات» على لسان ولَّادة بنت المستكفي، إحدى الأديبات الظريفات من بنات خلفاء الغرب الأمويين، إلى أحمد بن عبدوس منافسه في حبها ومكانته عندها، بأسلوب تهكمي ساخر، وشَّاها ببديع الكنايات والتشبيهات، ورصعها بالإشارات التاريخية والمعارف الأدبية، كما ضمنها كثيراً من الأبيات الرائعة والأمثال السائرة؛ فجاء بن نباته فشرح «في كتابه، سرح العيون، في حوالي 500 صفحة» غريبها وأخبار الأعيان فيها، واستطرد إلى ذكر الوقائع والأيام والأحداث ونصوص الشعر والخطب والحكم والأمثال، مما جعل الشرح الذي يحتويه الكتاب لتلك الرسالة مرجع الباحث وغنية التأدب، ومرجع المستفيد»، ونزهة رائعة في حديقة أدبية غناء، إن جاز التعبير، عبر بضعة قرون من بداية العصر الجاهلي وإلى حين سقوط الأندلس.
    وسنذكر في الحلقة التالية أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث ونستعرض قليلاً من إنجازات بعض منهم.



hg,] fdk hg[ugddk ,Ng hgYlhl hgli]d: