الهواوير والحسانية في منطقة الشايقية والبديرية
كلام عن الهوية

حين زار السيد محمد عثمان المرغني منطقة الشايقية والبديرية في الستينات من القرن الماضي بعد اكتوبر، كان من ضمن ما وجده من الترحيب به قول العربية:
سيدي الهاشمي الحر شرف عرّوبة الحمر
وهؤلاء العروب كان أجدادهم عرباً لفظتهم أرضهم العربية، أرض الجذور الأولى، قبل مئات السنين، فجاوءا ونزلوا في أرض النوبة من بلاد السودان وهم يحملون ثقافتهم العربية ودينهم الاسلامي. وكان في أرض النوبة دين وثقافة، واختلط العرب بالنوبة وكل أخذ شيئاً من صاحبه وأعطى شيئاً واحتفظ لنفسه بشئ من أصوله القديمة، كل فقد شيئاً لكن فقد العرب كان أعظم.. فقدوا الأرض سبب الوجود الأول ومصدر العزة الأولى والالهام الأول، وهذه امور لا تنسى ولا تعوض، وما الحب الا للحبيب الأول، ودم الانسان لا ينسى. هذا الدم الذي يجري في العروق من سلف إلى خلف منذ آلاف السنين، هذا الدم لا ينسي الحبيب الأول وعشاق الرسول من عرب السودان كان من أسباب عشقهم ان الرسول (ص) كان أرقي ما اخرجته ارضهم العربية، فالعشق بعضه لتلك الارض التي انبتت محمداً (ص) والنوبة احتفظوا بما ورثوه من آبائهم من ارض، وما زرعت فيهم الارض من ثفافة ومن خصائص ومن هوى، واحتفظوا بشئ غير قليل من لغتهم النوبية القديمة، لغة الاشميق والكروق والدفيق.
وكان من نتيجة الاختلاط بين العرب والنوبة ان اتخذ الوجود العربي في المنطقة اشكالاً، الشكل الأول ان النوبة صاروا مسلمين يخلطون لغتهم بلغة العرب، وبعد زمان لم يصيروا عرباً وانما شايقية وبديرية، وذلك لان حياتهم في أرضهم النوبية لم ينقطع تيارها. والعرب جعلوا بينهم وبين النوبة مسافة واتخذوا من صحراء بيوضة موطناً، وبعد زمان صاروا هواوير وحسانية.
الشكل الثاني من أشكال الوجود العربي أن بعض الهواوير والحسانية وهم العرب، خالطوا الشايقية والبديرية حتى صاروا منهم وهؤلاء صاروا لا فرق بينهم وبين أهل المنطقة من شايقية وبديرية، وإن ظل فيهم شئ من العّروب ظاهر أو خفي الشكل الثالث هم الذين جاوروا لكن على بعد فسكنوا (الوعر) بيوتهم لا تكاد تبين بين تلال الرمال أو شجيرات العشر والطندب، أغنامهم مرعاها نوار العشر والطلح والسنط، والخريم في شجر الحراز طعام لغنمهم وأطفالهم. والصبيان بدل الكتابة كانوا يفتلون من نبات الحلفاء سياطاً يحركونها فتخرج منها أصوات فرقعة تطير لها الطيور من فوق سنابل الذرة، ويكون لهم عند الحصاد نصيب ونساؤهم يعملن مع الشايقيات والبديريات في الجروف والجزائر ويأخذن أجورهن ذرة ولوبيا وويكة وعيش ريف، وبعض اللبن يبدلنه بالذرة منهن (البداليات) قطاع اللبن بقطاع الذرة، والقطاع إناء صغير من القرع، فإذا شربوا به غير اللبن فهو (كأس) والرجال جمالهم كانت تحمل البضائع للتجار من أسواق تناقسي وكورتي وقنتي والدبة، ومن (بابور البحر) تنقل البضائع والعفش.
ومن طول المعاشرة مع الشايقية والبديرية تعلموا كلامهم النوبي القديم: الديناب لحجرة الجلوس الكبيرة، والدانقة للصالة، والدونكا للمطبخ، والهبود الرماد، والأرنيق. الأمنية تنتصب في منتصف الحجرة تسند المرق، والكبد الباب، والكشر مفتاحه، والكتاريق البيوت المهدمة القديمة، والباريق الزقاق الضيق، والأرتيق ظل الجدار الشرقي في صباح الصيف، والتكيقة شمس الجدار الغربي في صباح الشتاء، والكرقة الراكوبة، والكادق البخسة يحفظ فيها اللبن، والكشمبير مثلث الأرجل تعلق منه القربة فيها الماء والسعن فيه الماء أو اللبن يخض فتخرج منه الفرصة والروب، والبشنتيق قطع البرش القديم، والكفريق فصوص القصب الجاف، والدفيق أول أطوار التمر يكون أخضر، ثم يصفر أو يحمر فيكون رطباً، ثم يصير أم رأس، أي يبدأ النضج من رأسه، وأخيراً يصير تمراً، والأشهيق ليف النخلة، والكروق ما بقى على جزع النخلة من أصول الجريد بعد قطعه، والتمساح أبكروق، وإذا قيل للرجل أبكروق فقد مدحوه. والكركتي طمي النيل يجف ويتشقق فيصير ألواحاً صغيرة. ومن أدوات المزارع الواسوق والأربل والكارديق، ومن أدوات المطبخ المسديق وهو المعراكة أي الدلق الذي تعرك به الدوكة مع الطايوق، قال الشايقي مهمش ميت السوق شن جبلك بلا الطايوق شن جبلك وقال الآخر لزوجته:
جيت فتران من قنتي أرقدي جنبي ترقدي ميتي
وهكذا كان العروب والشايقية والبديرية تيبادلون أدوات الثقافة، ومن أدواتها اللفة، وهي وعاء يصب فيه الناس العسل، وبعض الناس يدس في العسل السم ومن الحروف تنطبع في القلب كلمة الحب، وعند بعض الناس الحقد وفي عبارة (ترقدي ميتي) طريقة في التعبير عن العواطف لها طعم يعرفه اهل المنطقة. جونثان إسويفت في كتابه (رحلات قلفر) يعرف الكذب بأنه.
To say the thing which is not والشايقي يتخذ نفس الطريقة ولكن في فن الغزل.
وعرب الهواوير والحسانية هم عرب الخلا سكان صحراء بيوضة، وهؤلاء كانوا يأتون إلى النيل أفراداً بين الحين والآخر، وهم حمر المطايا والقرابيب، والحمرة كانت من صبغة التراب في صحراء بيوضة. كانوا يأتون وعلى ظهور جمالهم حطب الوقود والفحم ولحم الصيد. وربما جاء معهم أحد أصحاب تأبط شراً وعينه على إبل إخوانه من عرب المنطقة وربما كان لهم بعض صبية في خلوة الغريبة أو غيرها من خلاوي المنطقة ويملأون جربانهم بضائع وهي جمع جراب يدبغ من جلد بهائمهم فيصير كيساً، من أسواق تنقاسي وكورتي وقنتي والدبة.
وحتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان (درب الترك) الذي يربط المنطقة من مروي إلى الدبة، كان يسوق إلى قري المنطقة ألواناً من الناس، فكان عربي بيوضة حين يأتي إلى النيل يرى العربي المقيم والشايقي أو البديري، ويرى الحلبي السمكري ومبيض الحلل، والفلاتي بائع الخرز أو جراح العيون (الشلاق)، والبشاري جزاز الغنم، والشرطي الهجان راكب الجمل، وموظف الدولة راكب الكومر، ويرى البيوت المرصوصة وراء الأسوار، وربما يسمع صوت راديو، ويرى المدرسة والشفخانة ومركز البوليس، ويرى البضائع في دكاكين الأسواق والقرى.. ومن وراء البيوت والدكاكين يرى أشجار النخل وخضرة الجروف، يرى كثافة الخضرة، ومن ورائها كثافة الماء.
وحين ضرب الجفاف أرض بيوضة وفقد أهلها إبلهم وغنمهم جاء أغلبهم إلى أرض النيل، أرض الشايقية والبديرية، يبحثون عن ملجأ وعن مأوى، وبنوا بيوتهم (بي فوق لي عود السلك) وهؤلاء النازحون من صحراء بيوضة، مثلما فقد اجدادهم من قبلهم اسباب وجودهم في ارضهم الاولى قبل مئات السنين بعد ان عجزت الأرض عن ان تكون مصدراً للحياة والألهام وأجبرتهم على النزوح إلى صحراء بيوضة من بلاد السودان، كذلك صاروا بعد الجفاف والتصحر ونوح الريح فوق هياكل الابل النافقة، وهكذا لفظتهم صحراء بيوضة وأجبرتهم على النزوح إلى النيل، ولكن في هذه المرة من صحراء في أرض السودان إلى النيل في أرض السودان. وهؤلاء الذين اكتشفوا هويتهم العربية الاسلامية في آخر الزمان، هل كانوا ساعدوهم في زمن الجفاف التصحر، هؤلاء الذين كانوا أصحاب بنوك منذ عهد نميري، هل بنى لهم واحد منهم بيتاً، أو حفر لهم بئراً، أو مول لهم مشروعاً للإغاثة أو الإعاشة أو التعليم أو العلاج من المرض؟
في زيارة نميري لكورتي في تلك الأيام الجافة وبالرغم من الحاجب الأمني الغليظ استطاعت الهوارية أن تصل إلى نميري وأن تصرخ في وجهه: نحن جيعانين وتعبانين، أدنا شي! فكان جوابه: امشي للكوارتة يدوك عندهم القروش كتار. قالت بصوت منفعل: الكوارته أدونا وفتروا، فضلت إنت! والآن الإنسان إبن الأرض، وهي التي تشكله ومنها (غصباً عنو) تخرج أفكاره وثقافته، وتخرج افراحه وأحزانه وحين يقول وطني فإنما يقصد هذه الارض بكل ما فيها من اشياء وهذه الارض بين منطقتي مروي والدبة ظلت تفرض واقعها على ساكنيها مهما كانت اسماؤهم، نوبة كانوا او عرباً أو حلباً أو جكسيم بيه وهكذا فعلت في كل بلاد العالم.
وحين كانت الارض ارض النوبة كانت الهوية نوبية وحين صارت الارض ارض القبيلة صارت الهوية شايقية او هوارية، وحين صارت الارض ارض السودان صارت الهوية سودانية، والمقصود من وراء ذلك كله هو الأرض، فكيف يقول الإنسان (وطني) وفي ذهنه وطن بلا أرض! لماذا يريدوننا أن نكون عرباً ونحن نسكن في أرض السودان؟ لماذا لا يريدوننا أن نكون كما أراد لنا الله.. سودانيين؟ إن صاحب الهوية العربية في السودان صاحب وطن بلا أرض، وفي هذه الحالة، حين لا يتعلق الوطن بالأرض وأهل الأرض يكون الوطن هو الأنا وبارك الله في اليمني الذي ينتمي إلى الأرض اليمن، وفي الليبي الذي ينتمي إلى ارض ليبيا، وفي كل انسان ينتمي إلى ارضه وإلى الناس في ارضه، وخاصة الذين ينتمون إلى الارض في جنوب افريقيا.



hgi,h,dv ,hgpshkdm td lk'rm hgahdrdm ,hgf]dvdm