غناء التوية لدى الكبابيش

إبراهيم عثمان بركية - رابطة رابطا

تناولنا في عدد سابق ألوان من الغناء الشعبي لدى قبيلة الجوامعة ، ونطرح في هذه المقالة لون آخر من ألوان الغناء لدى قبيلة أخرى من قبائل شمال كردفان وهي قبيلة الكبابيش ، وأبرز ألوان الغناء في تلك المنطقة يسمى(توية).

وقبيلة الكبابيش تنتشر في الولاية الشمالية وكردفان والجزيرة وشمال غرب كردفان ، ومقر أمارة القبيلة هو مركز سودري أو محلية سودري وتمتد منطقتهم إلى حدود الميدوب غربا ودنقلا شمالا ومحلية جبرة الشيخ شرقا( وتنسب جبرة الشيخ إلى السير الشيخ على التوم أمير عموم دار الكبابيش)وينحدر نسب هذه القبيلة ذات الفروع المتعددة كما ذكر شيخنا (عبدالرحيم محمد) في كتابه (نفثات اليراع)إلى قبيلة (جهينة) من الجزيرة العربية . وتعتبر قبيلة الكبابيش من أكبرالقبائل العربية التي هاجرت إلى السودان مؤخرا حيث استقر بها المقام في ولايات السودان الشمالية . وهذا قد كتب عن السير(هارولد ممكايل) الذي كان مفتشا بدار الكبابيش في عهد الحكم الثنائي حيث قال أن فرع البجة من النوراب هو الأصل الذي جاء منه النوراب الكبابيش، وقد سمعت من شيوخ الكبابيش ومن الشيخ علي التوم شخصيا بأن نوراب البجة هم بنو عموم نوراب الكبابيش ، وبأنهم جميعا خرجوا من منطقة (العفاص) على النحو الذي ذكرت وتفاعلوا مع البيئات التي استقروا بها، هذه مقدمة موجزة عن قبيلة الكبابيش التي هي إحدى القبائل التي تشكل السودان الحديث بقومياته المتعددة وفنونه الشعبية الغزيرة ، غير أن الفن الشعبي عموما يحتاج إلى البحث والتنقيب ، ومن هنا أهيب بالأدباء والباحثين الالتفات إلى هذا الجانب بوصفنا أمة لها عاداتها ومثلها وتقاليدها التي تشكل تراثا عزيزا.

وقديما قيل أن الأدب الشعبي يعكس حياة الأمة ، وإذا أردت أن تدرس حال أمة فأدرس أدبها الشعبي ، ونحن نأمل أن يتناول المتخصصون تراثنا الشعبي بالبحث والتصنيف وإظهار ما هو راق منه بغرض تنميته وتطويره وحفظه .

نكتفي بهذه المقدمة الموجزة لنسوق بعض النماذج من أغاني (توية) و(توية) هذه من أغاني النسيب ، الغزل والهجاء ولها شعراء معظمهم من الشباب ، وتغنى عادة في مناسبات الأفراح والأعياد وفي أيام النشوق من الدمر طلبا للماء والكلأ.

هذا وقد أتيحت لي من خلال إحدى حملات مكافحة الجراد الصحراوي في الستينيات أن أكون بدار الكبابيش في موسم من مواسم الخريف وذلك بمنطقة أبي سفيان وهي منطقة تقع جنوب الصحراء الكبرى ، وفي إحدى المرات خلال تواجدي هناك ، وجه لي أحد أبناء الكبابيش دعوة لحضور مقدمة رحيل القبيلة طلبا للماء والكلأ حيث أن الرحيل يتم على دفعات بسبب الأعداد الضخمة من الأبل والأفراد ،وقد لفت نظري هودج على ظهر بعير وبداخله عريس وعروسته ، وقد كان الهودج مزركشا من الداخل بأقمشة ذات الوان زاهية وعليه مفارع مرصعة بالودع الأبيض الذي هو تحفة للناظرين ، وكان البعير الذي يحمل الهودج يمشي الهوينى والهودج يتمايل على ظهره ذات اليمين وذات الشمال والأجراس المدلاة منه ترسل لحنا شجيا وآلاف النوق والجمال تمرح على عشب مخضر كأنه بساط سندسي أخضر يمتد بعرض الأفق اللانهائي ، وكان هناك صف طويل من الشبان يتوسطهم شاب يغني أغاني التوية ويضرب بأرجله الأرض ضربات قوية متناغمة وبقية الشبان حوله يحذون حذوه ويؤدون دور ( الكورس) ويغني ذلك الشاب واصفا فتاة أحلامه بقوله

أم طوق ماسورة الضراب فراقها حار علي يا صحاب

شقيت دار حامد والنوراب شقيت أم راضي والناصباب

خلوني يا أخواني في العذاب أم طوق ما لقيت قولاب

ويعني بذلك أنه تجول في كثير من الديار ولم يجد لمحبوبته(قولاب) أي مثيل ثم يسترسل بأغنية أخرى قائلا :

يا خضيرة القام على الغدران يا أم شعرا جناح الزام

تبعلو ربود رخا العوام

ويعني بذلك أن خضرة فتاة أحلامه أي لونها أشبه بخضرة النبات الذي ينبت على حواف الغدران فيكون ممتلئا زاهيا ، كما يشبه شعرها الغزير الناعم بريش(الزام) أي ذكر النعام عندما يرخى جناحيه تيها وهو يسير خلف(الربود) وهي جمع لإناث النعام والواحدة( ربداء)

ثم ينبري شاب آخر مشبها فتاته بالمهرة الأصيلة بقوله

يا مهيرة الجالب أم درمان ياحضرة المر بالأمدان

عليه يتطاردوا العربان الناس قالوا انت مرضان

أذاي عيل ديفة القيزان

ويعني بذلك أن فتاته كالمهرة الأصيلة التي يمتطيها التاجر الثري الذي اعتاد أن يجلب مواشيه لبيعها في سوق مواشي أم درمان وكذلك يشبهها بكبير الأعيان أو الزعيم الذي يتسابق العربان للقائه مفتخرين بذلك ، أما ديفة(القيزان) فهي تعني ظبية التلال.


حاشية:

أيها القارئ العزيز، أريد أن أتوقف بك قليلا عند تعبير ورد أعلاه وهو تعبير (هودج) ألا تعتقد أنه من الأفضل أن نستعير هذا التعبير(هودج) لنستخدمه مكان تعبير(كوشة) عند الأتراك تعني المنضدة أو(التربيزة) وربما جاءت تسميتنا لأريكة الزفاف بالكوشة من تأثرنا بالمسميات التركية التي لا زالت عالقة بعاميتنا وأن كانت قد اختفت من معاملاتنا الرسمية ومن دواوين الحكومة ، وكلمة (كوشة) عندنا أيضا تعني مكان إلقاء الأوساخ والقاذورات ، لذلك أرى أنه يجب أن نستبدل تعبير (كوشة) العرسان ليكون (هودج العرسان) وأنا من هذا الموقع أقذف بالكرة في ملعب اللغويين مطالبا إياهم بإبداء الرأي حول الاسم المقترح (هودج) من الناحية اللغوية فإذا وجدوه صحيحا ، عليهم أن يرسلوا الكرة بدورهم إلى ملعب التشكيليين ليصمموا لنا هودجا للزفاف مستوحين الفكرة من (هودج الرحيل) وإلى لقاء



ykhx hgj,dm g]n hg;fhfda