الكجور سلطان القبيلة الروحي
د. مدحت حسن
ارتبطت البشرية في كل الحضارات القديمة، وإلى الآن بشخصية العراف، أو الكاهن، أو الساحر، الذين عرفتهم معابد سومر وكنعان وآشور والكلدان وبابل والفراعنة والفرس واليونان والرومان والهند. وهذه الشخصية ذات السلطان الروحي في السودان هي «الكجور» كما تُسمى بالعربية، تحتل مكانة رفيعة كونه يملك سيطرة تامة على كافة أفراد القبيلة في منطقة جبال النوبة بالسودان، وهو باعتقادهم له قدرات خارقة تمكنه من التوسط بين الإنسان العادي والقوى الخفية - قوى الطبيعة وعالم الأرواح- التي يؤمنون بتأثيرها على حياة الإنسان.

.................................................. .................................

وأشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى السِحر والسَحَّرة في قصة موسى عليه السلام، وتحفل كتب التاريخ عن العصر الجاهلي بحكايات الكُهان والعرافين والمُنجمين أشهرهم (شقّ) و(سطيح)، وورد في سيرة «ابن هشام» أن «ربيعة بن نصر» أحد ملوك التبابعة في اليمن رأى رؤية هالته ، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا مُنجماً من أهل اليمن إلا وجمعهم إليه وقال لهم أخبروني بتأويلها، فقالوا أقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. قال أحدهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى (سطيح) و(شق) فليس هناك أعلم منهما فأرسل إليهما، وكان تأويلهما أن رؤياه نبؤة بغزو الحبش لأرض اليمن، واندحارهم على يد «سيف بن ذي يزن»، وظهور الإسلام من بعدها على الدين كله.

وتحتل شخصية «الكجور» مكانا مرموقا في كثير من مناطق السودان، خاصة الولايات الجنوبية وجبال النوبة في كردفان وفي منطقة الفونج أعالي النيل الأزرق، ونحن هنا نركز على منطقة جبال النوبة غرب السودان، استناداً إلى دراسة «محمد هارون الكافي»، و«الكجور عند النجمانق» لأحمد عبد الرحيم نصر، و«العراف التقليدي» لفرح عيسى محمد. والعراف أو (الكجور) في جبال النوبة يتفرد على أفراد القبيلة بتكوين روحي يؤهله للتعامل مع القوى الخفية، ويقوم الأمر حسب اعتقاد القبائل السودانية على الوراثة واختيار القوى الخفية نفسها لمن ترتضيه، واكتساب هذه القدرة غير وارد باعتقاد القبائل النوبية، لكنه وارد عند بعض الشعوب عن طريق الرياضة الروحية أو الألم والقدرة على التحمل، أو الرقص العنيف، و غير ذلك مما يؤهل الإنسان لاكتساب الشفافية التي تمكنه من القيام بدور «الكجور».

وذكر عالم الاجتماع «ميرسيا الياد» أن الأفراد الذين يتدربون على «العرافة» في بعض المجتمعات يعتقدون أن سلخ الطبقتين الأولى والثانية من جلد وجوههم يكسبهم الحساسية المرهفة التي تقودهم إلى (البعد الثالث) وتخطي الحالة الإنسانية بتجاوز الإحساس العادي، وخلق إحساس منفتح على العالم غير الطبيعي أو عالم القوى الخفية. ويتأهل «الكجور» في جبال النوبة ذات الديانات غير الكتابية لاكتساب خاصية التفاعل مع القوى الخفية عبر طقوس «أسبار» معينة؛ تجعل القوى تتصل به وتكسبه مقدرة أعلى من البشر تؤهله لأداء وظيفته في المجتمع، وهناك أربعة «أسبار» لا بد أن يؤديها بفارق أربع سنوات بين كل «سبر» وآخر، يتخطى خلالها مراحل العبور الأربعة «الانعزال، والتحول، والانفصام، والتطهر»، بعدها يكون «كجوراً كاملاً» قادراً على اجتراح الأعمال المنوطة به. وقد ذكر «أحمد عبد الرحيم نصر» في دراسته عن قبيلة «النجمانق» أنهم يعتقدون بأن روح الإنسان تعيش بعد الموت مدة مساوية لعمر من كانت تحل في جسده! وتسمى هذه الفترة بلهجتهم «فِشيين»، وإذا ما قُدِمَت لها القرابين، وعُملِت لها «الأسبار» اللازمة تحولت إلى ما يُسمَّى «كُوْني» وأصبحت روحاً خالدة، وتقمصت شخص «الكجور» وحلَّتْ في جسده!! ويصبح عندها قادراً على القيام بوظيفته في القبيلة، وتختص كل روح في اعتقادهم بمجال معين من مجالات عمل «الكجور».

ويقوم «الكجور» في المجتمعات التي تؤمن به بدور خطير ، فهو الوحيد بنظرها القادر على التعامل مع القوى الخفية، ويصطحب الأموات إلى مأواهم، إذ أن روحه الوحيدة القادرة على البقاء في رحلة «الانجذاب الروحي» حيث تُقدَم القرابين للقوى الخفية، والوحيد القادر على تطبيب الأرواح والأجساد من خلال طِبِه الروحاني أو الفسيولوجي، وهو مستشار أفراد المجتمع في كافة شئون حياتهم ومماتهم؛ وهو بهذا يمثل السلسلة الفقارية في النظام الاجتماعي كله!! ويلمح عالم الاجتماع «ليفي شتراوس» إلى أن دراسة طريقة التطبيب عند العرافين توضح نقاطاً غامضة في نظرية «فرويد» تتعلق بالأسطورة والعقل الباطن.. فحالة الانجذاب الروحي لازمة «للكجور» ولا يتم تمييزه إلا بها، لتفرَّده بها عمن سواه، وتمنحه قدرة خارقة للطبيعة تمكنه من القيام بوظيفته في المجتمع، وهي حالة يفقد خلالها وعيه وحالته الطبيعية عندما تخالطه الأرواح الخفية وتتقمص جسده، والتقمص يتم بعدة صور، يبدأ بنوع من القلق وعدم الاستقرار، ويبلغ قمته بالصراخ تقليداً لأصوات بعض الحيوانات، أو التلفظ بلغة يُعتَقَد أنها لغة الأسلاف التي يعرفها (الكجور) وحده!! وأورد الباحث «محمد هارون كافي» صورة لحالة الانجذاب هذه فقال: «إن «الكجور» يشعر بعدم الاستقرار، ويكون في دوامة من الحركة والصراخ ومخاطبة الأرواح بلغة لا يعرفها غيره».

وإذا كان زعيم القبيلة أو العمدة أو السلطان في جبال النوبة والولايات الجنوبية - ماعدا قبيلة الشلّك - يمثل السلطة الحكومية، فإن «الكجور» في جبال النوبة يمثل السلطة الروحية التي يخضع لها زعيم القبيلة نفسه، ولا يتوانى أفراد المجتمع عن إظهار بالغ التقدير والاحترام له؛ فهم يحبونه بطريقة بالغة الاحترام والتوقير، وهو يجلس على سريره بينما الناس كلهم - بمن فيهم الزعيم - يجلسون على الأرض، ولا يجوز له أن يعمل بيديه، إذ يقوم الجميع بخدمته، ويعملون في مزرعته، ويرعون ماشيته، ويبنون منزله، ويجلبون له الماء.. وحينما يموت فإنه يُدفَن مُسجى على سريره داخل القبر!!

ومن دلائل مكانة «الكجور» الرفيعة أن الوالد يوصي ابنه عند زواجه أن يحافظ على منزل الزوجية، ولا يزني، ولا يخطئ في حق جاره، وأن يعطي «الكجور» حقه من الاحترام والتوقير والطاعة والقرابين!!



hg;[,v sg'hk hgrfdgm hgv,pn