2- "البقرة" و"الشمس" و"النار" في اللغة الفولانية – مدخل آخر للنقاش
بما أن أطروحة هذا المقال تستند على معطيات تاريخية وثقافية، مادية وغير مادية، وأن اللغة مرآة للثقافة، فسوف نحاول في هذا الجزء من المقال استجلاء بعض المعطيات اللغوية التي تعضد أطروحتنا، لا سيما وأن مفاهيم الفولانيين للكائنات حولهم وكذا فلسفتهم في الحياة نجدها مجسَّدة في لغتهم، ليس فقط في ألفاظها، كما هو الحال في اللغات الأخرى، بل في أبنيتها الصرفية والنحوية. ولكن قبل أن ندخل في الموضوع ينبغي الإشارة مرة أخرى إلى الإشكال القائم حول العلاقة بين الفولانيين كمجموعة إثنية من ناحية، واللغة الفولانية التي يتحدثونها اليوم من ناحية أخرى. فقد رأينا في ما تقدم أن شعب الفولاني قادم من خارج القارة الإفريقية، وهذا أمر يكاد يحظى باتفاق العلماء. غير أن اللغة التي يتحدثونها هي لغة مجموعات إسمية (Noun Class Language)، ولها صلة رحم باللغات السنغالية واللغات البانتوية. فبهذا المعنى، إنها لغة إفريقية صرفة لم يجد علماء اللغة أمثلة لفصيلتها اللغوية خارج القارة الإفريقية. على أية حال، حتى إذا صدق الرأي القائل إنه ربما يكون الفولانيون قد تخلوا عن لغتهم الأصلية وتبنوا هذه اللغة الإفريقية لغةً لهم،[xxv] فإن إفريقيتها تنحصر في ألفاظها وتراكيبها، بينما ترجع المفاهيم التي تقوم عليها إلى ثقافة الفولانيين ونظرتهم للحياة.
إن أهم ما يميز اللغة الفولانية - وكذلك بقية لغات الفصيلة التي تنتمي إليها – هو أن أسماء كل الكائنات تتوزع في نظام مجموعات، تنضوي كل مجموعة تحت حقل دلالي معين وينتظمها (أي المجموعة) نمط صرفي خاص بها من حيث الإفراد والجمع. فمثلاً كل الأسماء التي تشير إلى مجموعة الآدميين (الإنسان) نجد المفرد منها ينتهي باللاحق (suffix) o-، والجمع باللاحق e– كما في كلمة gorko "رجل" وجمعها worb’e "رجال"، وكلمة laamiid’o "ملك" وجمعها laamiid’e "ملوك". ونجد أسماء السوائل كلها تنتهي باللاحق am-، كما في كلمة ndiam "ماء" و kosam "لبن"، وهكذا في بقية المجموعات.[xxvi] وتحتوي اللغة الفولانية (لهجة الوسط – نيجيريا) على خمس وعشرين مجموعة من هذا النوع، كل منها يضم عدداً من الأسماء (nouns) يتراوح بين حوالي عشرين وثمانين اسماً تقريباً، باستثناء مجموعتين، هما: مجموعة (nge-class) nge التي تضم ثلاثة أسماء فقط، ومجموعة (kol-class) وقوامها اسم واحد فقط. وهاتان هما المجموعتان موضوع اهتمامنا في هذا المقال.
إن الملفت للنظر في مجموعة nge ليس فقط اقتصارها على ثلاثة أسماء، بل إن هذه الأسماء، على عكس ما هو الحال في المجموعات الأخرى كالآدميين والسوائل، يصعب من الوهلة الأولى التعرف على أي رابط دلالي بينها يبرر تصنيفها في مجموعة واحدة. والأسماء الثلاثة هي: "البقرة" nagge ، و"الشمس" naange و"النار" yiite.
إذا تذكرنا أن كل الفولانيين في الأساس كانوا رعاة أبقار قبل أن يهجر بعضهم حياة البداوة، نجد أن البقرة تمثل كل شيء في حياتهم، بل (في مفهوم المجموعات البدوية منهم) هي أسباب وجودهم raison d'etre، حيث يعتقدون أنهم خلقوا لخدمتها: يتعاملون معها بنوع من القدسية، فيقسمون بحوافرها ويتواصلون معها، إذ إن أبقار الامبرورو لا ترعى إلا إذا وقف الراعي في هيئة معينة وأعطاها الضوء الأخضر للانطلاق في الرعي.
تشير الأساطير المتواترة حول أصل البقرة – على الأقل في حزام السافنا في غرب ووسط إفريقيا – إلى أن الفولانيين هم أول من امتلك البقرة، ومنهم أخذتها وأخذت ثقافتها بقية الشعوب التي امتلكتها فيما بعد.[xxvii] فتقول الأسطورة السائدة عند عرب الشوا حول بحيرة تشاد:
في الزمان الغابر كان البقر يعيش في الماء، ولم يتم ترويضه بواسطة الإنسان بعد. فرأى عالم فولاني هذه الحيوانات وأعجب بها، فقام عن طريق السحر والأعشاب (العروق) بإخراجها من الماء. وكان الناس في البداية يخافون من هذه الحيوانات الضخمة ويفرون منها، ولكن سرعان ما ألفوها، وتعلموا كيف يوقدون النار حول الزرائب التي تتجمع فيها فتحس بالراحة.[xxviii]
وهناك أسطورة أخرى تقول أن أحد أسلاف الفولانيين سمع صوتاً يناديه يخرج من البحر. فذهب وجلس بشاطيء البحر (النهر؟) وأوقد ناراً، وعند شروق الشمس خرجت البقرة من البحر، وكان قرص الشمس بين قرنيها. فجاءت ورقدت بجوار النار وأخذت تتكاثر.[xxix]
إلى جانب فكرة كون الفولانيين هم أول من امتلك البقرة في مناطق غرب ووسط إفريقيا،[xxx] فإن الأسطورتين أعلاهما تحتويان على كلمات مفتاحية قد تفسر لنا كنه مجموعة nge (nge class) التي نحن بصدد الحديث حولها، وهذه الكلمات (والتي تحتها خط) هي: "البقرة" و"الشمس" و"النار". فهذه الكلمات هي المكونة لمجموعة nge، وما ورد في الأسطورتين يعطينا تفسيراً مقنعاً لتصنيفها في مجموعة واحدة رغم عدم تجانسها دلالياً. إذن فإن "البقرة" و"الشمس" و"النار" تشكل مجموعة متجانسة دلالياً (مجموعة nge)، وهي مجموعة العناصر الحيوية في الوجود عند الفولانيين، بما في ذلك المعتقد. وتجدر الإشارة إلى أنه إلى يومنا هذا يمارس الفولانيون الرعاة عادة إيقاد النار في المساء حول زرائب الأبقار لتستريح، وتسمى هذه النار تحديداً في اللغة الفولانية d’uud’al "تكاثر" اعتقاداً منهم بأنها تعين على توالد الأبقار (تبعاً لما ورد في الأسطورة الأولى) وتجلب لها النماء.
أما "قرص الشمس بين قرني البقرة"، فيذكر بآلهة قدماء المصريين (انظر الصورة رقم (6))، وما زال الفلانيون الرعاة يرمزون له في احتفالاتهم بطقوس العبور، كما رأينا في إفادة روبرت برين التي ورد ذكرها فيما تقدم. وسوف نعود إلى هذا الموضوع عند حديثنا عن صلة الفولانيين بقدماء المصريين.
أما مجموعة kol(kol-class)، فقوامها – كما أسلفنا – اسم واحد فقط، وهو nyalahol "العجل". وهذه المجموعة أيضاً ذات مغزى كبير في نظرة الفولانيين للحياة. فالعجل هو ابن البقرة ورمز لاستمراريتها، يعظمونه ويقسمون أيضاً بحوافره. لذلك لم يجدوا له كائناً آخر يدانيه في المقام فيشاركه هذه المجموعة، أي مجموعة kol. كما هو الحال بالنسبة لـ"قرص الشمس بين قرني البقرة"، فإن للعجل أيضاً مكانة خاصة من بين معبودات قدماء المصريين، كما سنرى لاحقاً.
نخلص مما تقدم إلى أن البقرة تمثل عصب الحياة وأسباب الوجود عند الفولانيين وأهم عنصر في ثقافتهم. فقد أورد تيلر Taylor 82 اسماً للأبقار في اللغة الفولانية، حسب ألوانها، وطباعها، وأعمارها، وأشكال قرونها، الكسول منها والنشط، التي تسير في مقدمة القطيع منها والتي تسير خلفه، الضعيف منها والوديع، الولود منها وغير الولود، وحسب كمية لبنها، وحسب عدد البطون التي خلفتها، وما إذا كان صغيرها قد نفق أم على قيد الحياة، إلخ.[xxxi] كل هذا يؤيد الاعتقاد السائد لدى بعض شعوب غرب ووسط إفريقيا بأن الفولانيين هم أول من امتلك البقرة. وقد أثبت براوكيمبر (Braukand#228;mper) أن ثقافة البقارة (Baggarization) قد تطورت على أيدي الفولانيين، وأن من يُعرف اليوم بـ "البقارة" في دارفور، عند تحولهم من "أبالة" (رعاة الإبل) لظروف مناخية، امتلكوا فصيلة البقر التي كان، وما زال، يرعاها الفولانيون، كما أخذوا ثقافتها منهم.[xxxii] وكذلك رأينا العنصر الرابط بين "البقرة" و"الشمس" و"النار"، والذي يبرر تصنيفها في مجموعة إسمية واحدة في اللغة الفولانية، باعتبارها العناصر الحيوية في وجود الفولانيين. وكذلك رأينا أن للعجل مكانة أخص في مفهومهم للأسباب التي سقناها أعلاه، وأن "العجل" و"قرص الشمس بين قرني البقرة" يعودان بنا إلى معتقدات ومعبودات قدماء المصريين، مما سيساعد على مناقشة موضوع الجزء التالي من هذا المقال.



2- "hgfrvm" ,"hgals" ,"hgkhv" td hggym hgt,ghkdm – l]og Nov ggkrha