4- الفولانيون والأسرة (ج) النوبية:
عرفت المنطقة الممتدة من الحدود الجنوبية لمصر السفلى جنوباً إلى مشارف الخرطوم – عرفت في المصادر التاريخية بـ"بلاد النوبة" (Nubia)، وتعتبر أكثر مناطق إفريقيا حظاً من اهتمام المؤرخين وعلماء الآثار، ذلك لصلتها بالحضارة المصرية القديمة. وعند حديثنا عن هذه المنطقة تحت مسمى "بلاد النوبة" نواجه إشكالية منهجية يصعب لنا في هذا المقال تعديها. فقد أثبتت الدراسات التاريخية والحفريات الأثرية أن تاريخ الحضارات التي سادت في هذه المنطقة، في مختلف صورها، موغلة في القدم وذات صلة وثيقة بالحضارات الفرعونية. ولكن المعروف هو أن الممالك النوبية (نوباطيا والمقرة وعلوة) قامت على أنقاض مملكة نبتة/مروي (850ق.م – 350م)، وأن هناك من أرَّخ لوصول المجموعات النوبية (بالمعنى الإثني لـ"النوبة") بحوالي 350 ق.م.[xlvii] فالإشكال المنهجي المعني هو متى بدأ الدور النوبي في هذه المنطقة هناك من يعتقد أن كلمة "نوبة" جاءت من اللفظة المصرية "نبو" (nbw) بمعنى الذهب افتراضاً أنها تشير إلى العبيد الذين يعملون في مناجم الذهب إلى الجنوب من مصر، أو "نبت" (nbt) بمعنى "ذوي الشعر المصفوف" إشارة إلى نفس الجماعة. إلا أن هذا التفسير لم يحظ بالقبول لدى بعض أساتذة تاريخ السودان، وذلك لعدم وقوفهم على هذا اللفظ في التاريخ المصري القديم، ومن هؤلاء سامية بشير في قولها:
أما ما ذكره بدج أن اسم نوبيين مشتق من كلمة مصرية (نبو) بمعنى جامعي الذهب يريد بذلك إرجاعه للعصر الفرعوني – فهو رأي ضعيف، لأنه لو كان الأمر كذلك لوجدنا إشارة إلى بلاد النوبة (تانبو) في اللغة المصرية، ولكن هذا اللفظ غير موجود في المعروف من الكتابات المصرية.[xlviii]
عليه يبدو أن العناصر البشرية التي كانت تعمِّر هذه المنطقة قبل قيام مملكة مروي لم يتم تحديدها بعد بالدقة الكافية، بالأخص من الناحية الإثنية. وقد اختار آدمز أسهل الطرق لتخطي هذا الإشكال، وذلك بتناوله لتاريخ هذه المنطقة تحت مسمى "بلاد النوبة" (Nubia) عبر العصور دون التوقف كثيراً عند "النوبة" كمجموعة إثنية ظهرت في زمن ما في تاريخ المنطقة. ونحن أيضاً نتبع نهج آدمز عندما نتحدث في هذا المقال عن "النوبة"، و"بلاد النوبة"، و"قدماء بلاد النوبة".
من المعلوم أن منطقة بلاد النوبة بموقعها المرموق في تاريخ الحضارة البشرية وارتباطها الوثيق بالحضارات الفرعونية، تمثل بؤرة لالتقاء جماعات إثنية متعددة جاءت من كل حدب وصوب. ونذكر منها: القبط، وشعوب ما وراء البحر الأبيض المتوسط، والشعوب البربرية، والمجموعات الكوشية، والنوبة الأصليين، ثم العرب. وقد اتصل كل هؤلاء بالمجموعات المحلية التي كانت قائمة منذ العهود الفرعونية، وتمازجوا كلهم وانصهروا في بعضهم البعض عبر العصور فجاءت الخلاصة – لظروف تاريخية – نوبية بالمعنى الإثني واللغوي، ومنها تطور المجتمع النوبي الشمالي المعاصر المتميز.
وما يهم أطروحة هذا المقال في كل هذا الأمر، ما أورده المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس (Procopius) من إشارات لوجود النوبة – كمجموعة إثنية – في القرن الخامس الميلادي في مناطق الواحات الليبية (وبلاد البربر).[xlix] فقد رُوي أنهم كانوا يجوبون حول واحة الخارجة ويشكِّلون مصدر إزعاج للرومانيين، فعرض عليهم الرومانيون مكاناً على النيل للاستقرار فيه[l]. فربما من هنا جاءت تسميتهم بـ"البرابرة". ولم تحدد الرواية المدى الزمني للاتصال بين النوبة الشماليين من جانب، والرومان والبربر من جانب آخر، ولكن عندما يصل هذا الاتصال حد استخدام كلمة "البرابرة"
للتعريف بهؤلاء النوبة، فهذا ينطوي أيضاً على درجة مقدرة من التأثير والتأثر،[lii] وربما على درجة من التمازج العرقي.
نلاحظ في الفقرة أعلاه ورود بعض العبارات ذات المغزى المهم بالنسبة لأطروحتنا في هذا المقال، مثل "الواحات الليبية"، و"بلاد البربر"، و"البرابرة" و"الرومانيين". وقد سبق أن وردت إشارات ذات صلة بكل هذه العبارات في مواضع كثيرة في هذا المقال مقرونة مع النظريات التي سيقت في أصل الفولانيين وموطنهم الأقدم في إفريقيا، من ذلك: المجموعات التي وصفها هيرودوتس ومطابقة كثير من صفاتها مع صفات الفولانيين، وملاحظة كل من ديلانقي وأديبيقبا حول الشبه الكبير بين فن الفولانيين في النقش على قرعهم من جهة، وفن البربر (الطوارق والكبيلي) في النقش على مجوهراتهم وأوانيهم الفخارية. وأهم من كل ذلك رسومات الأبقار ذوات القرون الكبيرة التي تسيطر على حفريات تسيلي في الجزائر (الحقبة البقرية Cattle Period – بعبارة ترويل) وترجيح لهوتي وغيره ارتباطها بالفولانيين. هذا هو مدخلنا في بحثنا عن العلاقة بين الفولانيين والمجموعة (ج) النوبية (C-Group).
تنتشر مواقع المجموعة (ج) في النوبة السفلى بين الشلالين الأول والثاني، ويؤرخ لها بالفترة الزمنية الواقعة بين نهايات الأسرة السادسة المصرية وبداية الأسرة الثامنة عشرة (2200-1450 ق.م).[liii] وقد حظيت هذه المجموعة باهتمام العديد من المؤرخين، وأثارت – وما زالت تثير- الكثير من الأسئلة حول الأصل الذي انحدرت منه، ولم تجد هذه الأسئلة حتى الآن الإجابة الشافية. فقد ظهرت هذه المجموعة فجأة في بلاد النوبة كمجموعة تميز عن المجموعتين السابقتين (أ) و(ب)، في نشاطها الاقتصادي الرئيس وفي مناطق سكناها وأشكال منازلها. فالمجموعتان (أ) و (ب) زراعيتان في المقام الأول، ويسكن شعباهما بالقرب من النيل أو على امتداد شاربه. أما المجموعة الجديدة (ج) فيبني شعبها منازلهم بعيداً عن النيل،[liv] وتتخذ بيوتهم الشكل الدائري مع فتحة في المنزل تتجه نحو منتصف الدائرة. كما توجد وسط الساحة أمام المنزل دائرة هي عبارة عن حظيرة الماشية.[lv] وقد لاحظ آدمز أنهم يربون الماشية (الأبقار) بغرض التباهي الاجتماعي، وليس فقط للعيش عليها. كما وجدت أعمال خزفية وفخارية عبارة عن نماذج مصقولة من الطين لأبقار وضأن وأغنام في مدافنهم وأماكن سكناهم، إضافة إلى رسومات لها على الحجارة. تجدر الملاحظة إلى أن بعض اللوحات التي خلَّفتها هذه المجموعة تشبه إلى حد كبير اللوحات المكتشفة في تسيلي من حيث الأعداد الكبيرة من الأبقار التي تحملها اللوحة الواحدة ومن حيث حجم وشكل قرون هذه الأبقار. وكذلك وُجد إناء فخاري لهذه المجموعة عليه نقوش عبارة عن لوحة تطغى عليها صور الأبقار، يقف وسطها رجل يحمل عصا يضعها على كتفيه ويمسك على طرفيها بيديه، وامرأة تضع إحدى ذراعيها على خصرها، والجزء الأعلى من جسدها عارٍ[lvi] (انظر الصورة رقم (11) أدناه وقارن مع الصورتين رقم (12) و(13)):
ونشير هنا إلى أن العصا من أهم مستلزمات رعاة الفولان. فبالإضافة إلى استخدامها في السيطرة على مواشيهم وفي رقصاتهم الشعبية، إنها أيضاً الأداة الرئيسية في طقوس العبور عندهم، وسوف يرد مزيد من الحديث حولها لاحقاً. وهيئة الرجل والعصا على كتفيه في الصورة المعنية، هي إحدى الهيئات التي يتخذها الفولاني البدوي سائراً خلف ماشيته إلى المرعى أو أثناء رعيها. والأمر نفسه ينطبق على صورة المرأة في تلك اللوحة، حيث نلاحظ أن نساء بعض بطون الأمبرورو، بالأخص الودابي الذين لم يتأثروا كثيراً بالإسلام، يتركن الجزء الأعلى من أجسادهن عارياً. وحتى النسوة من البطون الأخرى التي تأثرت بالإسلام وبقدر من المدنية، في لبسهن التقليدي يتركن جزءاً قليلاً من أعلى الجسد عارياً (انظر الصورتين رقم (12) و(13). وحول الشعر المتدلي على الكتفين يذكر أديبيقبا في معرض حديثه عن نقوش تسيلي قائلاً: "... وحتى جدائل الشعر المتدلية على ظهر المرأة في الرسومات هي صورة طبق الأصل للمرأة الفولانية اليوم".[lvii]
على أية حال، وكما ذكرنا آنفاً، لم يتفق المؤرخون بعد حول هوية المجموعة (ج). وانطلاقاً مما أفاد به آدمز نفسه من أن هذه المنطقة قد اعتراها الجدب والتصحر قبل ظهور المجموعة (ج)[lviii]، نستبعد تماماً تحرك هذه المجموعة من جهة الجنوب من المنطقة النيلية الغنية آنذاك (وما زالت غنية) إلى تلك المنطقة الصحراوية المجدبة،[lix] إذ لا يقبل المنطق ولم يسجل التاريخ تحرك مجموعات رعوية من مناطق رطبة غنية بالكلأ ويتوفر فيها الماء وتتعدد مصادره، إلى مناطق أقل غنىً بالكلأ ولا يتوفر سوى مصدر واحد للماء، أي النيل. غير أن الجدب الذي يتحدث عنه آدمز قد يكون نسبياً بمنظور تلك الحقبة (قبل أكثر من 1000عام). ولكن السؤال: أليس من الممكن أن تتحرك مجموعات رعوية من منطقة مجدبة ليس بها مصادر ماء سوى الواحات، إلى منطقة أقل جدباً ويجري فيها النيل؟ سنعود إلى هذا السؤال لاحقاً.
يشير آدمز إلى اتفاق معظم الباحثين مع رايزنر[lx] في اعتباره أن المجموعة (ج) نوبية بما لا يدع مجالاً للشك، غير أن هناك أيضاً منهم من شك في كونها أصلية ببلاد النوبة. ويستند هؤلاء على اختلاف هذه المجموعة عن سابقتيها فيما يتصل بأنواع الخزف وأنماط القبور. وفوق ذلك كله ركزوا على إدخال هذه المجموعة للاقتصاد الرعوي الذي يعكس نمطاً جديداً في الإنتاج الحرفي. إضافة إلى وجود دليل يوضح أن رفات هياكلهم العظمية تدل على وجود عنصر قوقازي فيهم.[lxi] بالتالي، فإن تميُّز هذه المجموعة بهذه التركيبة الإثنية الثقافية يقود بالطبع إلى تصنيفها بأنها تنتمي إلى شعب مهاجر جديد. وبما أن الملامح الثقافية لهؤلاء المهاجرين ليست مصرية، وأن خصائصهم الجينية ليست إفريقية، فقد استبعد قدومهم من الشمال، كما سبق أن استبعدنا قدومهم من الجنوب. إذن فإما أن يكونوا قد قدموا من جهة الشرق أو من جهة الغرب. فبالنسبة للشرق، لم يتحدث التاريخ عن سيادة ثقافة "البقرة" في بلاد البجا في يوم من الأيام. عليه، لم يتبق سوى جهة الغرب. فقد حاول العديد من الباحثين تتبع أصل هذه المجموعة في ليبيا، حيث هناك دليل لوجود الماشية في تلك المنطقة وما والاها غرباً في فترة تاريخية مبكرة،[lxii] نسبت إلى الحاميين القوقازيين، وهم دخلاء. ويوضح صاحبا كتاب "بهجة المعرفة"[lxiii] أنه إليهم تعود اللوحة التي وجدت في منطقة تسيلي، والتي تعود إلى حوالي عام 3500 ق.م، حيث ترى فيها أبقار ذوات قرون طويلة ترعى ويحاول عدد من الرجال حصرها في مكانها. وعن لوحة أخرى يقول:
إن أبقار الجرفيين التي ذكر هيرودتس أنه كانت لها قرون طويلة منحنية إلى الأمام، مما يجعلها تسير إلى الخلف أثناء الرعي، يبدو أنه وصف مبالغ فيه عند مقارنتها بما تبرزه رسوم الكهوف القديمة في جنوب ليبيا، وذلك كما يظهر في لوحة كهف جبارين في تسيلي في الصحراء.[lxiv]
لقد ثبت لنا الآن من خلال المعطيات التاريخية والآثارية، الوجود المبكر في سرينايكا (ليبيا) وما والاها غرباً، لشعب قوقازي الملامح ارتبطت حياته وثقافته بالأبقار. كما رأينا أن صفات هذا الشعب تنطبق بصورة ملاحظة مع صفات الفولانيين حسب ما وردت في مختلف الدراسات حولهم، وحسب ما نراهم في واقع الحال، علماً بأن هناك من المؤرخين من رجَّح أن يكون ذلك الشعب نفسه هم الفولانيون، مثل لهوتي، ومنهم من حاول تأكيد ذلك، مثل أديبيقبا. فلنعُد عند هذا المنعرج إلى السؤال الذي سبق أن طرحناه فيما يتصل بالجهة التي قدمت منها المجموعة (ج) النوبية، وهو: أليس من الممكن أن تتحرك مجموعات رعوية (الفولانيون؟) من منطقة مجدبة ليس بها مصادر ماء سوى الواحات (الصحراء الليبية/بلاد البربر) إلى منطقة أقل جدباً ويجري فيها النيل (بلاد النوبة)؟ لا نعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى أية درجة من التفكير والاجتهاد، لا سيما إذا انتبهنا إلى أن مسار التصحر دائماً من الشمال إلى الجنوب، مما يعني أن مناطق الصحراء الكبرى قد اعتراها التصحر قبل بلاد النوبة.
لسنا وراء كل ما تقدم بصدد الجزم بأن المجموعة (ج) النوبية هم الفولانيون، ولكنا ندعو المؤرخين في بحثهم عن أصل هذه المجموعة أن يضعوا الفولانيين أيضاً في أذهانهم. فحياة الفولانيين البدو عبر تاريخهم المديد عبارة عن سلسلة من الحل والترحال، واليوم يجوبون بمواشيهم في مساحات واسعة من حزام السافنا من السنغال حتى المرتفعات الأثيوبية،[lxv]وقبل سنوات قليلة ظهروا فجأة في قمبيلا الأثيوبية، كما ظهروا قبل عامين فجأة في كنشاسا.[lxvi] إذن فلا عجب إن كانوا قد ظهروا في يوم من الأيام فجأة في بلاد النوبة أيضاً.



hgt,ghkd,k ,hgHsvm ([) hgk,fdm: