زعيم البجا التاريخي

"2-2"

طه بلية يدينا حقنة شرجيِّة كيّة وغيظة للحبشية


دخل قلوب الناس بلا استئذان، أحبوه، لطيبة قلبه وعطائه اللا محدود، كان همه البناء، التعمير والنهضة، دافع عن القضية التي اختارها حتى الرمق الأخير، لم يكن يطمع في جاه أو سلطان، فقد كانت أقصى طموحاته توفير التنمية لأهله وعشيرته في الشرق، فعاش من أجل المبدأ والفكرة ومات للقدوة والعبرة، هكذا كان الدكتور طه عثمان بلية مؤسس مؤتمر البجا في الخمسينيات وحادي ركبه، الرجل الذي أعطى أهله في شرق السودان كل ما يستطيع ورحل قبل أن يكمل المسيرة التي لو قدر لها أن تمضي لتغير الكثير. في المساحة التالية يفتح معنا ابن أخيه عثمان علي بلية وابنة عمه زوجة أخيه فاطمة أبو فاطمة بلية بعض من صفحات حياته التي انطوت في العام (1960)م.
إنسان وإنسانية
بجانب عمله في المستشفى كان د. طه يستقبل المرضى في منزله، لا يسد بابه في وجه أحد مهما كان، هكذا قال عثمان. وأضاف: كان المرضى يقصدونه آناء الليل وأطراف النهار قادمين من كل صوب وحدب ليتلقوا العلاج بين يدي رجل البر والإحسان والقلب الرحيم من سواكن وأربعات وسنكات، وبالرغم من عناء الرحلة وعنتها، وتكبد المشاق يأتون إليه يستقبلهم ويذهب بهم إلى المستشفى يعالجهم يرشدهم ويقضي حوائجهم ويلبي طلباتهم ثم يرجع منزله، كان إنسانياً لدرجة كبيرة يحب الناس ويزورهم باستمرار متواضع ويتقرب إلى الناس بشتى أنواعهم لا يفرق بين غني أو فقير، فضلاً عن أنه أجبر الشركات على علاج منسوبيها، وفي حالة الوفاة إما أن يعطوا أهل المتوفي نفقة وإما يعينوا أحد أبنائه، ولم يترك حتى عمال الشحن والتفريغ في البواخر.
نادي البجا والسينما
كان دائم التفكير في أهل منطقته ومهموماً بأمر ثقافتهم ورفعتهم وأول ما فكر فيه هو إنشاء نادٍ يقضون فيه أوقات فراغهم، قال عثمان إن عمه كان يفكر في تطويره، فقد فكر في أن يبني النادي طابقين لراحة الجميع، فقد كان يجلس الناس فيه كل ليلة، يتسامرون ويتبادلون الأفكار والرؤى.
ولأن د. طه سافر للعديد من البلدان، ورأى مدى التطور والحضارة التي وصلت إليها تلك المدن فكر في نقل تجربة السينما إلى بورتسودان، فالتقى بصفوة المجتمع والمتعلمين آنذاك وشرح لهم ما يود فعله ووافقوه، قال عثمان: بعد أن اتفقوا على الأمر، وجاءوا بالسينما إلى بورتسودان، وبعد نجاح التجربة الكبير طمع شركاؤه فيها واتفقوا أن يخرجوه منها بإعطائه سهمه، وقالوا له "أنت واحد ونحن الأغلبية وأقرباء بعض، خذ سهمك واطلع منها". غضب د. طه غضباً شديداً، وقال لهم "هي فكرتي وجمعتكم عليها تجوا تقولوا لي هذا الكلام".
هنا تدخلت فاطمة والذكريات تملأ رأسها، قالت: في ذلك اليوم عندما علم العرب (البجا) في ديم العرب بهذا الأمر الذي لم يرض الدكتور "جابوا شوالات الفحم وسوا جبنة وشاي، والعندو درق جابو والعندو عصاية أو سكين أو سيف جابها"، اعتراضاً على ما حدث مع الدكتور، وقالوا للمساهمين "كيف تفرزوا د. طه وتقولوا له اطلع من السينما، الكلام ده ما برضينا"، ولما أحسوا بغضب الشعب "كل واحد منهم فكَّ عربيته وجروا مشوا بيوتهم قالوا الليلة (الشعب) (العرب) ويقصدون البجا، عاملين شكل في النادي"، وقال العرب لـ (د. طه) "نحن ما حنطلع من هنا إلا لما يريحوا بالك، وباتوا في النادي". ضحكت فاطمة ثم واصلت حديثها "العساكر لما جوا النادي وعرفوا المشكلة قالوا المشكلة يحلوها براهم ومشوا". ثم اجتمع الشركاء وعدلوا عن قراراهم، وقالوا لم نكن نتوقع أن يكون محبو د. طه بهذا القدر من الناس، وقالوا له "طالما انت زعلان اعطينا أسهمنا ومشيها بطريقتك التي تعرفها" وفعل.
مؤتمر البجا
وفي العام (1955)م، فكر في إنشاء حزب يدافع عن أهل الشرق ويطالب بحقوقهم المهضومة، وبعد أن تبلورت الفكرة وجمع الناس عليها، قال عثمان: اجتمع أهل بورتسودان وذهبوا لمولانا علي الميرغني وقالوا له "نحن في الطريقة الختمية معاك، لكن سياسياً نحن مع ولدنا طه بلية، لأنه ولدنا ومننا ونحن نعرف ما سيقدمه لنا"، لكن هذا الحديث لم يرق لمولانا ونزل عليه كالصاعقة، فقد كان بمثابة الانقلاب، وحاول مولانا إبعاده، بابتعاثه إلى لندن فهاتف د. طه، وقال له "نحن نرى من الأفضل أن تذهب إلى لندن لتدعيم دراستك وتتخصص في الطب"، لكن د. طه رفض عرض مولانا، وقال له "أنا ما محتاج لمنحة من أحد"، وبعدها أعلن عن المؤتمر العام لمؤتمر البجا في (13) أكتوبر من عام (1958)م، بحضور رئيس الوزراء آنذاك عبدالله خليل وكبار رجالات البلد والمشايخ، وقد حوت أجندته العديد من المطالب التي تصب في مصلحة أهل الشرق، وأهمها مطالبته بالتنمية المستدامة.
وأضاف عثمان أن د. طه قد تنبأ بنزوح سكان الأقاليم إلى الخرطوم، ولو بعد مائة سنة إذا لم تتوفر لهم التنمية والخدمات من تعليم وصحة، فكانت رؤيتة ثاقبة.
الوفاة والرثاء
قالت فاطمة: ذهب د. طه وبعض أصدقائه إلى أركويت في نزهة، فأمطرت السماء مطراً بسيطاً، وفجأة قال لهم "آخ مسكني صداع"، أخذوه وذهبوا به إلى المستشفى وعند فحصه قال الطبيب لقد فقد الدكتور بصره "عمي"، حاولوا علاجه لكن دون جدوى، فقرروا أن يذهبوا به إلى لندن، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات، لكن القدر لم يمهله طويلاً، وتوفي بلندن في (16) أغسطس من العام (1960)م، ونعته (البي بي سي)، صمتت فاطمة قليلاً ثم تابعت والحزن والحسرة بادية على وجهها "فجر الأمل بعد اكتمل اتلاشى في ليل الضياع ومات بلية، وكان الفقد عظيماً والحزن عليه كبيراً فقد حزنت عليه مدينة بورتسودان والختمية والشعب العرب (البجا)، محمد قول، اشد، سواكن وسنكات وطوكر، التف حول جثمانه شعب بأسره حتى حُمل على الأكتاف وغبر بمدينة بورتسودان، فكانت جنازة مهيبة جمعت كل الناس بعيداً عن الديار والأهل، وكان من بينهم د. بعشر وجرتلي، وأبناء حوش الكابلي وكل زول سمع جا".
قبل مماته قالن عنه نساوين كوريا "د. طه يدينا حقنة إن شاء الله شرجية كية وغيظة للحبشية"، ولأن فقده كان عظيماً رثاه الجميع، ورثته الحكامات وقلنّ فيه "ود القبيلة يا سراج النور الليلة هيا أهلو مخلولين حي النادي أهلوا مخلولين بعد فقده" .



.udl hgf[h hgjhvdod (2)