بيت المقدس بين الفاطميين والسلاجقة
الدكتور عبد المنعم ماجد
كلية الآداب ـ جامعة عين شمس ـ القاهرة


لا شك في أن من أسباب تحرك الفاطميين من المغرب إلى مصر هو استنقاذ بيت المقدس من تطلعات بيزنطة، أو ما سماه العرب بالروم؛ لأنهم وإن كانوا يونان في الأصل، فإنهم اعتبروا ورثة الرومان في الشرق. وبيزنطة دولة نصرانية أصابها الضعف بعد أن نفاها العرب في أيام الخلفاء الراشدين والأمويين إلى أقصى بلادها في آسيا الصغرى وسيطروا على ممتلكاتها، وكادت تمحى من الوجود تماماً على أيديهم ثلاث مرات على الأقل. ولكن الروم قويت لما حكمتها الأسرة المقدونية النشيطة، وبضعف العباسيين المجاورين لهم([1]) والذين حكموا المسلمين بعد الأمويين. فشرعت الروم تغزو بلاد الشام بدءاً من حكم نقفور فوقاس (Nicephorus Phocas) (963 ـ 969 م/ 352 ـ 359 هـ) الذي سماه العرب نقفور الفقاس والذي غزاها غزوات متتالية من 352 هـ/ 962 م([2])، واقترب في إحداها من بيت المقدس. فقد اعتبرت الروم المسيح إمبراطورها([3]) (Christos Basilieus) وأنها حامية للمسيحية في الشرق، وكانت قد أقامت على "قبره" في القدس كنيسة القيامة المبجلة، مزار النصارى، والتي بناها الأسقف ماكسيموس (Maximus) ([4]) بأمر من قسطنطيس (Constantinus)، الأكبر، أول إمبراطور لدولة الروم.

فعلى حسب قول المؤرخ المصري ابن تغري بردي([5])، فإن من أسباب مجيء الفاطميين إلى الشرق هو استيلاء الروم على الشام. وكان المعزّ لدين الله (341 ـ 365 هـ/ 952 ـ 975 م)، أول خليفة فاطمي لمصر، لما جاء إلى الأسكندرية كان يلمح مع جماعة من سكان الفسطاط أتت لاستقباله عن الحرب المقدسة، وأنه لم يسر لازدياد في مُلك ولا رجال، وإنما سار للجهاد ضد الروم؛ فقد اعتبر الفاطميون مبدأ الجهاد، الذي يراه أهل السنة ضرورة، دعامة من دعائم الإسلام، وركناً من أركانه([6]).

وما أن أسس الفاطميون خلافتهم في مصر، وكانت أعظم دولة إسلامية في وقتها تستند إلى أيديولوجية مذهبية تختلف عن مذهب العباسيين (فهم شيعة، والعباسيون سنة) وإلى قوة عسكرية ضاربة، وإلى اقتصاد متين، حتى قاتلوا الروم بشدة في الشام، ومارسوا عليهم حرب الثغور بحماس شديد لم يحدث مثله منذ فترة طويلة. وقد لجأوا إلى وسائل متعددة في حربهم مع الروم، وكان أغلبها بالمجابهة بسبب تكرار غزو الروم للشام في عهدي تزيمسكس (Tzimiskes) الذي سماه العرب ابن الشميشقيق في 363 هـ/ 973 م، وباسيل الثاني (Basilios) الذي سماه العرب عظيم الروم، واشتهر بقاتل البُلغار (Bulgaroktnos)، والذي دخل الشام بمساعدة أسطول كبير في 375 هـ/ 985 م.

فظهر لأول مرة في مصر التجنيد الإجباري (La levée en masse)، وهو ما سمي بالنفير أو النفير العام([7]) في المصريين "الناس"، فيأتي المصريون من أسوان إلى الإسكندرية، فيجمع منهم أعداد هائلة، ويكون ذلك بالمناداة بالسجلات أو الكتب([8]) في مصر وسائر بلاد الشام إلى صد العدو والسير نحو ملك الروم؛ فاجتمع منهم بدمشق ما لم يجمع من قبل من العسكر. ولكن في بعض الأحايين لجأ الفاطميون إلى السلام مع الروم([9]). فعقدت أول هدنة في عهد الحاكم بأمر الله لمدة عشر سنوات في 391 هـ/ 1001 م، تلتها هدنات أخرى في عهدي الظاهر والمستنصر.

ولما أراد الروم نقض الهدنة، أمر الحاكم بهدم كنيسة القيامة المقدسة في 400 هـ/ 1009 م، حتى لا تُتخذ حجة من جديد يتحرك الروم بسببها إلى بيت المقدس بقصد حمايته وحماية ذكرياته المسيحية الأخرى؛ إذ أصبحت أمنية الروم الأولى الوصول إليه. ولدينا نص الأمر بذلك. فقد أصدر الحاكم سجلاً([10]) إلى واليه على القدس، كتبه أحد أقباط مصر جاء فيه: »أمر ال N مامة إليك بهدم قمامة ـ تسمية عربية لكنيسة القيامة ـ فاجعل سماءها أرضاً وطولها عرضاً«؛ وعُرفت باسم القمامة، لأن الخشبة التي صُلب عليها المسيح في رأيهم ألقيت عليها القمامة([11]). ويقول المؤرخ الأوربي وليام (وليم) الصوري ([12]) (Willemero Terensi) عن هدم هذه الكنيسة: إنه سوى البناء بالأرض. كذلك أوقف الحاكم في بيت المقدس الاحتفال بالأعياد النصرانية ([13])، وأجبر الروم فيه على لبس علامات مميزة، بلبس ثياب سوداء، وتعليق الصليب وإبرازه. وفي الوقت ذاته، أرغم الحاكم جالية الروم في مصر على الخروج منها ([14])، وكانت لهم حارة خاصة بهم في القاهرة([15]). ولكن الروم تراجعت عن أطماعها، وجددت الهدنة، وأرسلت مهندسيها لإصلاح كنيسة القيامة، وعادت الزيارات التي توقفت إلى بيت المقدس. ويشيد وليام الصوري([16]) بحسن مقابلة الفاطميين لزوار بيت المقدس، مثلما كانت الحال في أيام عمر بن الخطاب؛ فمن قبل صاهر العزيز بالله الفاطمي (360 ـ 386 هـ/ 970 ـ 996 م) بطريرك المقدس([17])، ولم يكن العزيز بالله متسامحاً مع النصارى وحدهم، ولكن مع اليهود؛ وكانوا يزورون المقدس أيضاً.

ومن اليقين أن الفاطميين قدروا تماماً ضرورة وحدة مصر والشام لوقف خطر الروم على بيت المقدس، وبدأوا تجربتهم الرائدة والفريدة في توحيد القطرين، لتكوين جبهة واحدة منهما، وذلك على الرغم من دسائس أعداء هذه الوحدة، ولا سيما من قبل العباسيين في العراق، الذين كانوا أقوى أعدائهم، حتى أنهم أخرجوهم من دين الإسلام، وأطلقوا عليهم "الرافضة"، أي أنهم رفضوه، وسموهم المجوس واليهود. وفي الواقع إن جميع خلفاء الفاطميين في مصر قاتلوا بشدة في سبيل الإبقاء على وحدة مصر والشام، والدليل على ذلك تمسك الفاطميين بتوحيد عملة القطرين، وجعل ميزانيتهما واحدة، وتوحيد القضاء، وغيره من نظم الدولة. وأكثر من ذلك، نشر الفاطميون دعوتهم في الشام على نطاق واسع، وهي الدعوة التي لا تزال باقية فيه حتى الآن على الرغم من زوالها نهائياً من مصر. فقد كانت وحدة مصر والشام الأساس لما يجب أن يكون عليه الحال كلما دق أعداء الإسلام ناقوس الخطر.

ومن المؤكد أن الفاطميين منذ أن ظهرت دولتهم في مصر كانوا ملتزمين بإحساس قويّ بقضايا العرب، الذين نشأت عندهم في وقتهم إحساسات قومية، نتيجة للتراكمات التاريخية، ولعيشهم في دار الإسلام في إطار حدودي محدد واحد. فقد اعتبر الفاطميون قضايا العرب رسالة لهم، ولم يحاولوا الهروب من أثقالها ونكساتها ونكباتها. فأدركوا أهمية وحدة مصر والشام وتطبيقها عملياً؛ مما كان سبباً في إبعاد خطر الروم عن بيت المقدس. يُضاف إلى ذلك أن ثورة التعريب التي حدثت بين المصريين في وقتهم جعلت مصر جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، بحيث أصبحت رأساً في سياسة وحدة العرب، وعليها مسؤولية الدفاع عن قضاياهم.

ولكن حدثت متغيرات في العالم الإسلامي بظهور المارد السلجوقي التركي الأصل([18]) والذي جاء من أعماق القارة الأسيوية، وهم أبناء عم الغُزّ، نزحوا من شمالي قزوين إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا لهم دولة دائبة الحركة، واشتهروا بالاسم الفارسي "تركمان"، أي أنهم مسلمون بإيمان، مما أوجد خطراً جديداً على وحدة مصر والشام، ولا سيما على بيت المقدس في فلسطين، حيث سعوا إلى السيطرة عليه، وهو البقعة المقدسة عند المسلمين جميعاً([19]). لم تكن المقدس في يوم من الأيام مركزاً صناعياً ولا مركزاً حربياً على عكس حلب ودمشق، بل كانت بقعة مقدسة، ترتبط أشد الارتباط بالإسلام، بسبب أن إبراهيم أقام فيها المسجد الأقصى، مثلما أقام المسجد الحرام أو الكعبة المشرفة في مكة، ليكون هو أيضاً مقراً لعبادة الله الواحد، أو ما عرف بدين الحنيفة أو الحنيفية السمحة التي جاء الإسلام ليحميها، وكان قبلة المسلمين قبل أن تُحول القبلة إلى الكعبة، وبسب وجود الصخرة المقدسة، وهي حجر أزرق مسته أقدام إسماعيل بن إبراهيم، أبي العرب العدنانية، وكانت معراج نبي الإسلام. ولذلك اعتبر المسلمون بيت المقدس ثالث الحرمين بعد مكة والمدينة، وسمى بالقدس وإيلياء وأورشليم([20])؛ وكلها أسماء تعني القداسة، والطهارة، وبيت الله.

فبسبب ظهور السلاجقة المسلمين، عادت المشاعر الإسلامية قوية، وأصبح الدين عندهم هو كل شيء، بينما لم يكن وحده عند الفاطميين، وإنما كان البشر أيضاً، متمثلاً في الإمام الفاطمي. لذلك انكمشت القوميات والعصبيات، ومنها القومية العربية؛ فلم يتعصب السلاجقة لجنسهم، على عكس الفاطميين الذين ركزوا على الهوية المصرية، بحيث اشتهر الخليفة الفاطمي بالخليفة المصري، ودولته بدولة المصريين. بل كان السلاجقة يرون أن الدين الإسلامي يجب أن يكون سنِّيّاً ـ وهو مذهب الخلافة العباسية ـ وأن يلتف حوله بصفته وسيلة تسير بها الشعوب الإسلامية جميعها في طريق واحد، خصوصاً وأنهم أظهروا لها احتراماً كبيراً. فعلى أيديهم ظهرت المدرسة الفقهية، التي بلورت فكر السلاجقة السني، في القرن الرابع الهجري، واشتهرت باسم المدرسة النظامية، وهي أول مدرسة بنيت في الإسلام نسبة إلى المفكر والوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485 عـ/ 1092 م)، الذي كانت المساجد إلى عهده معاهد للعلم تعقد فيها حلقاته ودروسه. وكان نظام الملك أول من أنشأ معاهد مستقلة للتعليم يتفرغ فيها الطلاب للتعلم والمدرسون للتدريس. وقد أوقفت الأوقاف الكثيرة عليها وأسماها مدارس، بحيث عُممت في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وانتشرت في مدن العراق وفارس وخراسان، وبخاصة في بغداد عاصمة الخلاف. وكانت نحو الثلاثين كما ذكر الرحالة ابن جبير (540 ـ 614 هـ/ 1145 ـ 1217 م). فكان تعيين مدرسيها من صلاحية الوزير، وأهمها المدرسة الشافعية التي كانت في حرب مع المذهب الشيعي. فقد اعتبر هذا الوزير والمعلِّم أن التعليم في المدرسة من الوسائل في حربه، ولنشر المذهب الشافعي في مصر تولّى التدريس في المدرسة النظامية عدد من كبار الفقهاء الشافعية وأشهرهم الغزالي، كما تحولت المساجد هي أيضاً إلى خدمة المذهب السني، واعتبرت امتداداً للمدرسة. بل أحرقت أجزاء من كتاب إخوان الصفا ببغداد، ونُهي الناس عن قراءته، وقُتل من الإسماعيلية جماعة منهم([21]).

كذلك كان من أهداف السلاجقة الثابتة في عهد ألب أرسلان([22]) سلطانهم الثاني، الذي خلف زعيمهم طغرلبك، الاستحواذ على ثقة المسلمين؛ إذ نجحوا في القضاء على أكبر عدو للمسلمين في وقتهم، وهو الروم، بالانتصار عليهم في موقعة منزيكَرت([23]) (ملازكَرد أو منازكَرد)، على الفرات الأعلى في مدخل آسيا الصغرى في 463 هـ/ 1071 م، وهو انتصار لا يدانيه أي انتصار فاطمي سابق على الروم. فقد أبيد الجيش الرومي، وأسر إمبراطور بيزنطي لأول مرة، وهو رومانوس الرابع ديوجانس (Romanus IV Diogenes) ـ ويُسميه العرب أرمانوس ـ الذي تولى مهمة صَدِّ الأتراك السلاجقة، وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوربا وآسيا، مما قضى نهائياً على طموحات الروم وتطلعاتهم إلى استرداد بيت المقدس. فبعد ذلك، انتشر جنس الترك في آسيا الصغرى، وما يزالون فيها إلى وقتنا الحاضر. فكان ما قام به السلاجقة بانتصاراتهم المتواترة على الروم رد فعل لما حدث في العالم الإسلامي من تمزق وضعف، وتجديداً للنشاط الإسلامي؛ إذ اعتبروا أنفسهم امتداداً للعباسيين.

وقد اضطربت دولة الفاطميين في مصر لوصول السلاجقة في عهد ألف أرسلان إلى حدود الشام([24])، ثم انتشارهم في الشام الفوقاني في عهد ابنه ملكشاه([25])، الذي أقطع أخاه تاج الدولة تُتش بن ألف أرسلان أملاك الفاطميين، وقرر له فتح الشام وديار مصر وبلاد المغرب([26]) ؛ فقرر تُتش لقائده أتسز بن أوق الخوارزمي المعروف بالأقسيس التحرك في جنوب الشام. ويعتبر المؤرخ سبط بن الجوزي المصدر التاريخي([27]) الذي انفرد بأخبار مفصلة عن تحركات السلاجقة نحو بيت المقدس، الذي كان في أيدي الفاطميين منذ مجيئهم إلى مصر، ولهم نائب فيه سماه السلاجقة نائب المصري، ويقصدون به الخليفة الفاطمي، ومعه حامية فاطمية من سودان مصر والمصامدة البربر؛ فقد قال أتسز: »حرم الله، لا أقاتله، وإنما أريد إقامة الدعوة الإمامية والسلطانية«. فدخل أتسز بيت المقدس في شوال 465 هـ/ 1073 م، ولم تُرق فيه دماء لحرمته، ونودي بالأمان لأهله؛ فأقام الدعوة للقائم العباسي والسلطان. كذلك جعل أتسز بيت المقدس قاعدة للانطلاق لاستكمال سيطرته على بلاد جنوب الشام.

ولكن هزيمة أتسز في مصر على يد بدر الجمالي، وزير الفاطميين القوي الذي فرضه الخليفة المستنصر أمور مصر والشام وجميع ممالكه، جعلت بيت المقدس يخرج من نفوذ السلاجقة. فقد أعلن([28]) القاضي والشهود فيه الخروج عن طاعة أتسز، واستولوا على أمواله وأولاده، مما جعل أتسز يعود إلى بيت المقدس، ويقتل في أهله. حتى الذين اجتمعوا بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة فإنهم لم يسلموا من عقابه؛ مما أغضب عليه تُتش لهزيمته في مصر ولقسوته وكثرة من قتل على يديه في بيت المقدس وقتله بذلك؛ وولى بدله سكمان أو سقمان بن أرتق وأخاه أبلغازي([29]) في بيت المقدس. ولكن الوزير الفاطمي أمير الجيوش الأفضل ـ وهو لقبه الوزاري([30]) ـ أبا القاسم شاهنشاه الذي تقلّد مثل أبيه بدر الجمالي تدبير مملكة مصر، سار على رأس حملة عسكرية لاستنقاذ بيت المقدس من أيدي السلاجقة؛ فاستولى عليه هو أيضاً بالأمان بمعاونة أهله، بعد حصار دام أربعين يوماً، في 489 هـ/ 1096 م([31])، وأناب فيه رجلاً عُرف بافتخار([32]) الدولة، وأقام معه حامية مصرية.

وقد بقى بيت المقدس بأيدي الفاطميين إلى وقت مجيء الفرنجة، حيث وقف الفاطميون السلاجقة بالمرصاد لمنعهم من العودة إليه، تارة بإثارة أهل الشام عليهم، وتارة بالدس بين قوادهم؛ كما وجدت بالشام فرقة شيعية منشقة عليهم عرفت بالإسماعيلية الشرقية أو الباطنية واشتهرت بالفداوية، كانت ذات تنظيم دقيق، وامتد نشاطها الأكبر في الشام، فعملت على قتل كبار السلاجقة؛ هكذا قتلوا منهم وزير ملكشاه والمتكلم في الدولة([33]) نظام الملك وغيره؛ مما كان سبباً في إضعاف السلاجقة في الشام.

ومهما يكن، فإن الصراع بين الفاطميين والسلاجقة على بيت المقدس أوقف الزيارات (Passagium) إليه، بحيث اتخذت ذريعة لحرب المسلمين من قبل الفرنجة أو الإفرنج أو فرنج (Frankos)، نسبة إلى أمة عُرفت بهذا الاسم في أوربا، فأطلق على كل أمم أروبا، وكانت تحولت إلى المسيحية، وأصبحت لها كنيسة قائمة بذاتها غير كنيسة الروم الأرثوذكسية. ويؤكد مؤرخو الفرنجة وحدهم أن هارون الرشيد جعل لأمبراطور الفرنجة شارلمان (Charlemagne) حق الإشراف المعنوي على بيت المقدس، وأرسل له جملة هدايا منها مفاتيح كنيسة القيامة المجيدة، مزار النصارى.

فكان شعار الفرنجة في حرب المسلمين: »الله يريد ذلك« (Dieux le volt)، ويعلقون على الكتف الأيمن أو على الكتفين صليباً (Crux) من قماش أحمر زاهي اللون، فعرفت حروبهم ضد المسلمين بالحروب الصليبية (Cruzada) واعتبروا أنفسهم امتداداً للروم في حماية المسيحية. أما المؤرخون العرب، فسموا حروبهم بحركة الفرنج([34]).

وقد تحركت موجات الفرنجة المكثفة والشرسة إلى الشرق الإسلامي بمساعدة أوربا كلها، ليس بهدف تأمين سبل الحجاج فقط، بل بهدف تخليص بيت المقدس نهائياً من سيطرة المسلمين وعودة الزيارات إليه، وبمشروع مبيت للاستيطان على الشام، ولا سيما في فلسطين، التي تعتبر واسطة العقد من المنطقة العربية، ولتحقيق رجحان أوربا في الميزان السكاني لصالحهم، مما أوجد ما عُرف في أوربا من يومئذ بالمسألة الشرقية (La Question d’Orient).

وقد تحمل بنو سلجوق الضربات الأولى من الفرنجة وعجزوا عن صدهم، لأن دولتهم كانت تحمل في أساس نشأتها جرثومة الانحلال، إذ جرى سلاطين السلاجقة على عادة توزيع أملاكهم بين أبنائهم، على أن يكفلوا تربيتهم إلى قوادهم الذين يسمونهم بالأتابكة([35])، وهي لفظة تركية مفردها »أتابك«، مركبة من كلمة »أتا« بمعنى أب وكلمة »بك« بمعنى السيد أو الأمير، الذي يربي أولاد الملوك. فكان الأتابكة أشبه بالوزراء المستبدين. فلما توفي ملكشاه وترك من الأولاد أربعة([36])، قسّمت دولته بينهم في العراق والجزيرة وإيران وخراسان، فضلاً عن أنهم ومن بعدهم أبناؤهم كانوا يتنافسون على السيطرة على الخليفة العباسي الضعيف في بغداد. وكان من يسيطر عليه منهم يتخذ لقب سلطان، كما أن أقاربهم كانوا يستقلون ببلاد صغيرة أو كبيرة مبعثرة مثل جبله أو صُور، يتخذ الواحد منهم لقب أتابك، بحيث تحولت الدولة السلجوقية الواحدة إلى دويلات متحاسدة، تغمرها حروب داخلية.

حقاً إن الفاطميين لم يتعاونوا مع الأتراك السلاجقة في صد الفرنجة، الذين استولوا على نيقية أو أنيقية([37]) أو قونية ـ التي هي بلدة في آسيا الصغرى ـ وعلى أنطاكية([38]) في شمال الشام، وهي مدينة عظيمة، على الرغم مما بذله السلاجقة والعرب في الدفاع عنها. ومع ذلك، لا نصدق ما قيل من أن الفاطميين خانوا المسلمين، وأنهم هم الذين استدعوا الصليبيين إلى الشام ليستعينوا بهم على السلاجقة، أعدائهم، أو أنهم اتفقوا على اقتسام ممتلكات السلاجقة في الشام؛ فهم يحكمون شماله والفاطميون جنوبه. ومن الغريب أن بعض المؤرخين الحديثين يؤيدون ذلك([39]). ولكن ينفي هذا الرأي أنا رأينا كيف كان الفاطميون دائماً حماة الإسلام؛ فاستماتوا في الدفاع عنه، حينما هاجم الروم في الشام. ثم إن ابن الأثير صاحب هذه الرواية القديمة، وهو من بلاد الجزيرة في شمال العراق، هو نفسه يُشكِّك فيها، ويقول: »والله أعلم«([40]). وعلى العكس، فإن السلاجقة كانوا هم الذين اتفقوا مع بيزنطة، في عهد أول زعيم سلجوقي وهو طغرلبك، على أخذ دولة الفاطميين([41]). وأكبر الظن أنه لو أيدت المصادر الأوربية وقوع مفاوضات مع الفاطميين، لكانت مع الروم، وليس مع الفرنجة، وهي عادية في سياسة الفاطميين الذين عقدوا معهم معاهدات من قبل؛ إذ هادنوهم في زمن الحاكم بأمر الله كما ذكرنا. وعلى كل حال، كانت مفاوضات الفاطميين مع الروم ـ حتى إذا صحت في أثناء حملات الفرنجة ـ في مصلحة الإسلام، لأنها جعلت المعسكر المسيحي ينقسم على نفسه. والدليل على ذلك أنه لما احتل الفرنجة أنطاكية، ولوا عليها بطريكاً أرثوذكسيّاً، أي أنه تابع للروم ـ البيزنطيين ـ، وذلك بناء على الاتفاق السابق بين الفرنجة وألكسيوس الأول، ولكنهمْ عزلوه بسبب تفاوض الروم مع الفاطميين، واتهموا الروم بالخيانة ([42])، وأجبروا الروم على الرجوع إلى القسطنطينية. فالأفضل كان قد أرسل سفارة إلى ألكسيوس الأول كومنينوس (Alexis Comnenus) (1081 ـ 1118 م)، يستوضحه عن حقيقة نوايا الفرنجة، وأنكر ألكسيوس أن تكون له بهم علاقة([43]).

ولما كان الفرنجة عازمين على الوصول إلى بيت المقدس، فإن مؤرخي الفرنجة وحدهم يذكرون أنه لما وصلوا إلى أطراف الشام في أنطاكية، أرسل إليهم الوزير الأفضل الفاطمي سفارة([44])، أقامت عندهم لبضعة أسابيع، حيث يذكرون أن الأفضل عرض عليهم أن يسمح لهم بزيارة الأماكن المقدسة، وأن يتمتعوا بحرية أداء شعائرهم الدينية، على أن لا تزيد مدة إقامتهم على شهر واحد، وأن يدخلوها دون سيوفهم. ولكن الفرنجة ردوا على الأفضل ردّاً شديداً بأنهم سوف يستمرون في الوصول إلى بيت المقدس([45])، ولكن ينفي وقوع هذه المفاوضات بين الفاطميين والفرنجة استعداد الفاطميين لمجابهة الفرنجة أيّاً كان الثمن؛ ذلك بأن الوالي الفاطمي في بيت المقدس افتخار الدولة([46]) اتخذ استعدادات لمجابهة الفرنجة، فطمس الآبار المحيطة بالقدس ووضع السم فيها، وأخفى الماشية، وقام بتقوية التحصينات، وطرد النصارى من المدينة خوفاً من أن يتعاونوا مع الفرنجة، وطلب النجدة من مصر.

وعلى كل حال، ظهرت نيات الفرنجة في الوصول إلى بيت المقدس بحصاره وضربه بالنار والحجر من المنجنيقات. وقد دافع عنه عسكر مصر بشجاعة نادرة مدة أربعين يوماً، وكانوا يفضلون الانتحار ـ بإلقاء أنفسهم من بروج الجدران ـ على التسليم([47]). فلما استولوا عليه في »يوم الجمعة« من شعبان 492 هـ/ 5 يونيه 1099 م([48])، ذبحوا كل من وجدوه فيه من المسلمين من شيوخ ونساء وأطفال، وأحرقوا من هرب منهم إلى مسجدي قبة الصخرة والأقصى بمن فيهم العلماء والفقهاء، وجمعوا اليهود وأحرقوهم أيضاً([49])، وإن سمحوا لافتخار الدولة بالخروج([50]). وتقول المصادر النصرانية ذاتها: لم نر مثل هذا الذبح من قبل في المسلمين([51]). فقد استمر القتل ثمانية أيام، إذ كانوا يعتقدون أن المسيح عانى كثيراً من العذاب([52])؛ ولذلك يجب أن يشفى غليل المسيحية من المسلمين لما حدث له. وقد فرح الفرنجة بالوصول إلى مقبرة المسيح ربهم، وكانوا يبكون من شدة الفرح، ودقت نواقيس روما، وأعلنت انتصار الصليب على الهلال. وهكذا سقط بيت المقدس في يد الفرنجة بعد أن ظل في أيدي المسلمين منذ فتحه في عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ/ 638 م.

ومع ذلك، لم يقف الفاطميون من سقوط بيت المقدس في أيدي الفرنجة مكتوفي الأيدي. فالوزير الأفضل لما بلغه وصول الفرنجة إلى بيت المقدس، حشد العساكر المصرية وسار بهم لاستنقاده. وقبل أن يتحرك، أرسل إلى الفرنجة يهددهم ويطلب منهم الرحيل. وقد أقام الأفضل خارج عَسْقلان بالشام منتظراً وصول النجدات التي يحملها الأسطول المصري. ولكن الفرنجة أنفسهم بعد سقوط بيت المقدس بيومين، باغتوا العسكر الفاطمي خارج عَسْقَلاَن وأوقعوا بهم وهزموهم([53]) وذبحوا من التجأ منهم إلى الغابات المجاورة، فدخل الأفضل عسقلان وتحصن بها، ولم يعد الفرنجة إلى القدس إلا حينما عاد الأفضل إلى مصر.

وعلى العكس، حينما وصل نبأ سقوط بيت المقدس في يد الفرنجة، أرسل الخليفة العباسي المستظهر بالله إلى السلطان السلجوقي بركيا ورق بن ملكشاه يخبره بما تعرض له المسلمون فيه، ويدعوه لنصرتهم. إلا أنه لم يقم بأي عمل، ولا بمساعدة الفاطميين لاستنقاذه. ويذكر المؤرخ ابن الجوزي (أبو الفرح) حدث »التقاعد«([54]) عن إنجاد الفاطميين. ولكن حدث تغيير في موقف السلاجقة بعد ذلك، نتيجة لضياع ثالث الحرمين من أيدي المسلمين، ودق إسفين الفرنجة الاستيطاني في فلسطين؛ فقد حدث منهم تقارب مع الفاطميين، وهو التقارب الذي أخذ يتسع رويداً رويداً، ووجد قبولاً تاماً من الفاطميين، الذين كانوا أول من سعوا إليه، وذلك على الرغم من الاختلاف المذهبي بينهما. فقد كان الخطر داهماً عليهما معاً، وعلى أملاكهما، التي كانت لا تزال بأيديهما في الشام.

ولوقف المد الصليبي في الشام، زاد الفاطميون من استعداداتهم الحربية بالاهتمام بطائفة الحجرية([55])، من أولاد الناس، أي المصريين. وكان إنشاؤها في وقت المعز لدين الله أول خليفة فاطميّ لمصر، وتتألف من جند كبار وصغار، وتكون مستعدة للعمل الحربي في أي لحظة؛ فطلب الأفضل أن تكون الحجرية الصغار من أولاد الأجناد، فجمع له منهم ثلاثة آلاف. ولدينا سجلات([56]) عديدة بتقليد أمراء مصر ـ أي القواد ـ وتوليهم أمر الجهاد ضد الصليبيين؛ فلم يكن بد من إرسال تجريدات من العسكر المصري من حين إلى حين نحو الشام، وظهر لها قواد عظام نعرفهم بأسمائهم وألقابهم، منهم اثنان من أبناء الوزير الأفضل، وذلك مثلما حدث في 495 هـ/ 1102 م و496 هـ/ 1103 م، و499 هـ/ 1105 م([57]). إلا أن أغلبها لم تكن تحرز انتصارات ذات قيمة؛ وحتى لو استردت شيئاً، فإنه لا يلبث أن يسترده الصليبيون منهم. كذلك اهتم الفاطميون بالأسطول، ولا سيما قطعة الكبيرة من الشواني وهي أقواها وأطولها، وهي مزودة بالأبراج والقلاع للدفاع والهجوم. فكانت سفن الأسطول المصري تحمل إلى مدن الساحل التي في أيديهم في الشام الرجال والذخائر والأسلحة والأموال، لتساعدها على الصمود، حيث كانوا يرسلون جنداً في كل عام إلى عَسْقلان، كما أصبح كل من فيها مجنداً حتى الأطفال.

والأهم تعاون الفاطميين والسلاجقة في المجال الحربي، لوقف المد الصليبي؛ فقد كتب الأفضل إلى طُغتكين ـ طغدكين ـ السلجوقي أمير دمشق من جمادى الأولى سنة 498 هـ/ 1104 م([58])، الذي أسس له أتابكية فيها، برعايته لدقاق بن تتش أخي ملكشاه، وانفرد بالسلطة بعد ذلك؛ لإرسال حملة سلجوقية مشتركة لقتال الفرنجة في جبهة واحدة. وبالفعل التقى الجيشان السلجوقي والفاطمي في جانب، والجيش الفرنجي في الجانب الآخر وكان بقيادة بلدوين (Balswin) ـ أو بخدوين أو برديُل ـ أول ملك لبيت المقدس، الذي استظهر عليهما. ومن قبل، حدث تعاون فاطمي مع دقاق أو قماق بن تتش تاج الدولة، حينما أرسل الأفضل تجريدة إلى الشام بقيادة ابنه شرف المعالي في 496 هـ/ 1102 م([59]). كذلك كان الأفضل يرسل الأسطول المصري إلى مدن الشام سواء كانت فاطمية أو سلجوقية، ويقبل تعيين ولاة سلاجقة في مدن فاطمية، وأصبح تبادل السفارات([60]) والهدايا شيئاً عادياً بين الفاطميين والسلاجقة.

والحاصل أن الفاطميين استطاعوا استنقاذ بيت المقدس ثالث الحرمين من الروم، ولكن انشغالهم بالصراع مع السلاجقة كان سبباً في ضياعه من أيدي المسلمين، ليقع في أيدي الفرنجة، الذين أصبحوا حماة العالم المسيحي، بدلاً من الروم؛ مما اعتبر فترة حرجة للمسلمين جميعاً. حقاً، حدث تقارب بين الفاطميين والسلاجقة بعد سقوط بيت المقدس؛ إلا أنه لم تكن له نتائج حاسمة في استنقاذه، لأن وزراء الفاطميين من ناحية شغلوا بالاستئثار بالسلطة التي أصبحت غرضهم الأسمى الذي يتنافسون عليه، فلم يتحمسوا لطرد الصليبيين. وأما من ناحية السلاجقة، فعلى الرغم من تفتت دولتهم وكثرة رؤوسها، فقد اعتبروا المخفر الأمامي لحماية المسلمين من المد الصليبي؛ فبهم بدأ الصمود الإسلامي التدريجي أمام أوربا، مما مهد ليقظة المسلمين في استعادة بيت المقدس في عهد صلاح الدين الأيوبي.

مجلة التاريخ العربى



fdj hglr]s fdk hgth'lddk ,hgsgh[rm>> hg];j,v uf] hglkul lh[]