النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رحلة جون فيلبي الي أراضي قبيلة نهد

كتابات الرحالة جون فيلبي في أراضي قبيلة نهد سوف نفرد بمشيئة الله في هذا الموضوع ماكتبه الرحالة عبدالله فيلبي ، أو كما يُسمى لدى كبار السن

  1. #1

    1 (14) رحلة جون فيلبي الي أراضي قبيلة نهد

    كتابات الرحالة جون فيلبي في أراضي قبيلة نهد



    سوف نفرد بمشيئة الله في هذا الموضوع ماكتبه الرحالة عبدالله فيلبي ، أو كما يُسمى لدى كبار السن من نهد بـ (الثلبي) في أراضي نهد ورحلته التي بدأت من نجران إلى مأرب مروراً بشبوة ودخولاً إلى أراضي نهد من الجهة الغربية. كما أن كل ما سُيدرج يعتبر نقلاً بالنص من كتاب الرحالة "بنات سبأ" حيث سندرج الفصول والصفحات الخاصة بأراضي نهد فقط.


    منطقة : قرن البنا غرباً

    كانت مجموعة الجمال قد استقرت للراحة منتصف النهار بن اشجار العناب (العلوب) ولكنهم إنضموا إلينا في البئر والتي أردت أن أقيم المعسكر فيها لإجراء ملاحظاتي. وهناكـ بعض الزوار من نهد أتوا مباشرة بعد أستقرارنا، وسمعتهم يحييون رفاقي عند وصولهم ويقولون: ((أيها الربع هل هذا نصراني)) وفي هذة المناطق تستعمل هذة الكلمة لتعني عادة شيئاً أكثر من أجنبي بقليل، وأنهم سمعوا كما أوضحوا الآن أن هنالك نصرانياً يسافر في المنطقة، لذا فقد أسرع رفاقي لتصحيح الخطأ لهم،وقد ترددوا في قبول التوضيح. وعلى كلٍ فقد جلسوا معنا ليستمتعوا بضيافتنا عند تناول وجبة العشاء. وقد لاحظت أنهم حصروا اهتمامهم على اللحم، متجاهلين عجينة الخبز والتي أصبحت منذ زمن بدلينا للأرز.

    هنا، مرة أخرى هبت علينا عاصفة رملية بعد وصولنا وأتت علينا من الشمال ومؤقتاً أخفت كل العلامات الأرضية في هذا الاتجاه، وبعد توقف العاصفة في منصف النهار تجولت بين اشجار العنّاب والتي أوت مستعمرة كبيرة من العصارة الصغيرة، لا توجد طوير أخرى عملياً لكني رأيت طائر الذعرة وطائراً صغيراً ذا ذيل طويل يهتز بالقرب من الماء. وقد كان الجو حاراً وثقيلاً أثناء النهار وساكناً جداً مع سحب العاصفة المتجمّعة حولنا في تلك الليلة الأولى وللمرة الأولى جذب الفانوس مجموعات من الحشرات ومعظمها كانت من الجنادب. وجدت في رمل القناة كتلاً من أصداف صغيرة ملتوية وفي صباح اليوم التالي 15 أغسطس لم يكن هناك مايشير إلى هبوب عاصفة ولكن ظهر الأرض ضباب خفيف أخفى العلامات الأرضية البعيدة. وكالعادة تقدمت مجموعة الجمال وسبقتنا في الرحيل وبدأنا نحن الرحيل حوالي الساعة الثامنة صباحاً وبعد التحرك مسافة ثلاثة أميال وصلنا إلى بئر عمقها ثماني عشرة قامة وهي بئر حديجان التي يوجد بها الحصن، كالمعتاد بجانبها، وتتبع الحكمان من نهد. وكانت هناك مبانٍ شبيهة تحمي البئر تحت الأرض الرأسية عاصم وحزيم التي ليست بعيدة. وإلى يمينها توجد الحواف الصخرية "بودو" التي تُكوّن الضفة اليمني لدلتا رخية عندما تظهر إلى السهل. أما بئر عاصم التي وصلنا إليها بعد ذلك تقع في وسط وادي رملي شاسع مع وجود بعض أشجار السدر وشجيرات خفيضة الإرتفاع أخرى وهذه البئر غير عميقة وذلك نسبة لامتلاء الأسطوانة العميقة بالرمل، ولكن عموماً تماثل بئر عامر في بطانة الحجارة. وخلف هذه النقطة تعرّج طريقنا وألتف كثيراً ليتجنب الألسنة الطويلة للرمال والتي كأنها قذفت إلى الخارج بواسطة أحزمة من الرمل في إتجاة المنحدر الصخري. وتظهر الآن مستوطنات نهد على مسافات متكررة وتلك التي تتبع لحزيم المذكورة من قبل، وهي عبارة عن قرية صغيرة مكوّنة من نصف دستة من المساكن الشبيهة بالحصن، ثم الحصن المنفرد دويد ثم قرية مالك الصغيرة تحت أرضها الرأسية المهيبة يتبعها حصون شريج في موقع مشابه. ويوجد عند مالك بستان نخيل صغير دون علامات لوجود تمر وخلفها يصبح الطريق وعراً على هيئة شريط من الأرض الحجرية يفصل قاعدة المنحدر الصخري من قنوات السيل الرملية التي تنحني دائرياً من تجويفها الرئيسي. والآن بدأنا نرى الأرض الرأسية قمران وكثر التي تكون بوابات حضرموت وتقدمنا عبر غطاء كثيف من أشجار السدر المنتشرة في الوادي بعيداً عن قاعدة المنحدرات الصخرية.

    وبينما كنا نمر على مستوطنة شريج أتى بعض سكانها من (آل ثابت) إلى الطريق ليعبروا عن إحتجاج خفيف، ولقد أوضحت لهم مجموعتنا من الجمال الوضع من قبل، والاحتجاج كان بسبب مرورنا عبر منطقتهم لزيارة معسكر أعدائهم الحكمان. وحقاً ، كان يجب أن نتقبل ضيافتهم، وإن رئيسهم كان موجوداً في مكان ليس ببعيد في أحد الأودية الصغيرة في طيات الجرف. وأعتذرنا لهم ووعدناهم بزيارتهم في طريق عودتنا ومن ثم تركونا نمر دون إصرار ولكن هذه الحادثة أكدت لنا أن الحالة غير المستقرة في هذه المنطقة التي نمر بها. بعد ثلاثة أميال من شريج ولمسافة بسيطة في اتجاه اليسار من طريقنا يقع نخيل وقرية حصن مبارك، مع الحوض الرملي الشاسع الخشعة، الذي يمتد شرقاً في جبهة واسعة لمسافة ثمانية أميال. وهذه المنطقة بها العديد من الحصون والقرى الصغيرة، وقد ذكر أنها تحوي ما لا يقل عن ثلاثين بئراً. ولكن هذه المنطقة ذات الإمكانيات الهائلة لإنتاج الحبوب تظل مهملة وغير مستقلة وبقيت كذلك لسنوات عديدة وذلك يرجع إلى الفوضى التي تتمتع بها قبيلة نهد التي لا تدين بولاء إلى السلطان القعيطي، فكل قسم يتبع لرئيسة أو زعيمه. وزعماء الحكمان وأهل ثابت في حروب مستمرة مع بعضهم. ومستوطنات الخشعة الأخيرة التي تقع على الطريق هي حصن دويد وقرية رهطان المكوّنة من رقعة من النخيل وثلاثة حصون في وادِ عريض يخرج من الجرف المجاور.
    ابتداء من هذة النقطة فنحن في منطقة آل عجاج ومن ثم تحت حماية زعيم الحكمان وطريقنا يقع على سهل من حبيبات رملية خشنة، والخط الواضح المؤدي للرملة يقع على بعد ميل على يسارنا، والمنحدرات الصخرية للجرف تقع على طول جانبنا الأيمن. ومن الأخيرة أصبح طريقنا قناة ذات خواص ملحية، مازالت مبتلة من الأمطار الأخيرة، حتى وصلنا إلى أول الآبار في جانب الطريق (الساقية) والتي تميز وادي حضرموت، وقد أنشئت من أجل فائدة المسافرين العطشى نتيجة لفضل تقويم الحضارم. وفم البئر محاطة بواسطة جدار حجري منخفض وهي مسقوفة بقبة بيضاء، وهذه البئر تقع عند قاعدة الأرض الرأسية في آل كثير وفي جانبها البعيد وعند التفافنا حول الزاوية رأينا هدفنا المباشر وهو قرية قعوضة وبساتين النخيل وحقول الذرة في وادي ((آل كثير)) أمامها.

    [في ضيافة نهد]


    سافرنا حوالي ثلاثين ميلاً بعيداً عن بئر عامر ولم يكن الظهر قد حل بعد عندما أرتفعنا من أعلى الوادي إلى المنحدر المكون من الحصى الخشنة، ومررنا عبر سكان القرية المتجمهرين وفي طرقاتها الملتوية ومن ثم مررنا إلى منزل الشيخ.

    بعد تجوال طويل في الصحراء بدا لنا أننا بدأنا نعود إلى الحضارة ثانية. ومضت ثلاثة أسابيع فقط منذ أن تركنا الراحة والأمان في نجران، ولكنها تبدو وكأنها أطول من ذلك. فالتعب الجسماني نتيجة للسفر في الصحراء لا يعني شيئاً مقارنة بالضغط العصبي والنفسي خاصة في الأراضي الحدودية للصحراء حيث لا يمكن الإستخفاف بالولاءات القبلية. وفي حقيقة الأمر لم نقابل بغير الود والصداقة تقديراً واضحاً لخوف الصحراء من ملك الصحراء (1) ولكن نجاح كل يوم ثمنه القلق في الليله السابقة، وأنه لشيء جميل أن نشعر أن مشاكلنا وقلقنا قد أنتهى لمدة من الزمن. ويمكن أن نستلقي ونرتاح لفترة في أحضان الترف والحضارة. ومن المؤكد أن استقبالنا في قعوضة أنتج وأكد ذلك الوهم.
    مبارك بن محمد بن منيف زعيم قسم الحكمان من نهد رجل جذاب، عمره بين خمس وخمسين وستين سنة وطقم أسنانة المصنّع بغير إعداد جيد جعل من الصعب فهم حديثه. فالرجل لاحدود لضيافته وكرمه ووجه غير زائف. ولقد زار مكة للحج في عام 1934م وكانت له احاديث كثيرة وعديدة ودية مع ابن سعود. وكان لا يخفي حقيقة أنه تابع لملك العرب (2). وعلى الأقل يرفض إرتباطه بولاءات أخرى ولكنه يحتاج للسلاح للحفاظ على موقعه في عالم القبائل المكتظ بالأعداء. وكان هذا همهُ الشاغل الآن. وعن الامور الأخرى كانت معرفته ضيئلة على الرغم من سنوات عمره المديدة، وفي المواضيع الأخرى ليس لديه مايثير الإهتمام إلا القليل. ومنزله عبارة عن قلعة من الطراز الحضرمي. فالبناء كالح وكئيب من الخارج وجميل من الداخل، وحجراته واسعة ولطيفة بسيطة الأثاث. ويلاحظ أن الدرج والممرات والحجرات لها أرضية من الأسمنت وكذلك الحمامات والمراحيض نظيفة جداً. ولقد تم توجيهنا إلى أعلى إلى الغرفة الرئيسة للضيوف في الطابق الثالث وهي غرفة كبيرة مربعة ومدعمة بأربعة أعمدة رفيعة من الخشب ومنحوته ببساطة من الوسط. والجدران مطلية بحرص خالص وبها نوافذ في ثلاث جهات متجهة إلى الخارج. ويلزم التنويه إلى أن عدداً كبيراً من الطبقة الحاكمة قد تجمعوا لإستقبالنا. وبينما كنا نجلس في شكل دائرة متكئين على وسائد على الأرض، كان أحد العبيد يصب لنا القهوة في اكواب صغيرة، كوب واحد لكل شخص من الحاضرين. وتوضع الأكواب عادة على الأرض بالقرب من الضيوف لكن بالنسبة لي فقد وضعت أمامي ثلاثة أكواب على الأقل. وكانت هذه أول تجربة لي مع هذه الطريقة المميزة الحضرمية للترفيه عن الضيوف، وثمة إشارة وهي أن الملابس التي يلبسها الناس المجتمعون كانت متنوعة.

    العديد منهم كان عارياً حتى الخصر ويلبسون قماشاً يحيط بالخاصرة ومربوطاً بعدد من قطع قماش أخرى يخرج من طياتها خنجر في غمده المحلّى بالجواهر. أما الآخرون فقد كانوا يلبسون قمصاناً تغطي الصدر (صديرية) بسيط بالإضافة إلى ما وصف، بينما يضيف البعض لهذا بدلة من قماش ملون ذات زرار عند العنق ولكن يظل الجزء الأكبر مفتوحاً.

    بعد ذلك قدمت لنا وجبة منتصف النهار في ثلاث صوان دائرية مصنوعة من أغصان الدانة مجدولة وضعت على الأرض كل واحد في ركن من أركان الغرفة وفي وسط كل منها وضعت طاسة كبيرة من المرق حولها الأرز ولحم الضأن. ولم يكن هناك خصار أو أي إضافات أخرى للوجبة والتي كانت غيرة مثيرة ولكن مطهية جيداً. وجلس مضيفنا بعدد تردد في منضدة الزعيم عند إصرارنا على الدعوة، وبعد الوجبة سألت إذا كان من الممكن أن تخصص لي غرفة للراحة، وقد دعيت إلى غرفة صغيرة نظيفة مجاورة لحجرة الضيافة الكبيرة. أيقظتني من النوم صوت عالٍ لطلقات رصاص عند الساعة الرابعة بعد الظهر ويبدو أن هنالك شخصاً كان في وضع مكشوف للعدو المتربص في المنطقة المحيطة بالقرية. كانت هذه هي الطلقات الأولى التي سمعتها منذ أن بدأت رحلتي في شهر نوفمبر السابق. وبينما كنت أنظر من خلال النافذة إلى الجمهور المتجمع حول السيارات في الشارع رأيت مجموعة صغيرة من الفتيات في البلكونة السفلى ينظرن مثلي. ومن المفترض أنهن بنات مضيفنا مع صديقاتهن وخدمهن وأعمارهن تمتد من سنوات قليلة حتى اثنتي عشرة أو أربع عشرة سنة. وكان منظرهن جميلاً للغاية، كن يلبسن ثياباً مُزَهًّرة (بها رسومات أزهار) من الأزياء المحلية، قصيرة من الأمام ولكنها طويلة مجرجرة من الخلف. ويبدو أن اللون الأحمر هو السائد مع أنماط من الأخضر والأسود والأصفر ، والعنق مربع يميل على الكتف على جانب أو آخر. رؤوسهن غير مغطاة وشعرهن مصفف باهتمام مع فاصل في الوسط وضفائرهن بها أشرطة، وبعضهن ذوات جمال خلاب مع وجود الكثير من الآثار السيئة الصغيرة من عهد الطفولة.

    كانت الساعة الخامسة بعد الظهر عندما غادرنا منزل الشيخ مبارك واعدين إيَّاه بزيارته ثانية في طريق عودتنا. وبدأنا الرحلة من قعوضة إلى هينن والتي يمكن رؤيتها بغير وضوح في الجانب الآخر من للوادي تحت المنحدر الصخري قمران والخليج العظيم المحاط بالمنحدر الصخري الذي يعرف بوادي الكثير هو حقيقة عبارة عن إتحاد لثلاثة اودية هامة، هي: وادي دوعن، ليسر، وعمد والتي تجري قناتها المشتركة الآن شمالاً عبر وادي حضرموت لتروي حقول هينن، والتي يروى جزء من منطقتها من وادي هينن الذي يجري إلى الوادي الرئيس من جهة الشمال. ولا شك أنه في مواسم السيول الاستثنائيه فإن مياة دهر ورخية تصل إلى هذه المنطقة، على الرغم من أنها قد لا تمتد خلف أرض الخشعة. وعبر الخليج عندما بدأنا رأينا صورة وديارة البقري وقد زارتهما فريا ستارك حديثاً، والتي تُطلق على قعوضة دائماً المدينة المنافسة أسفل المنحدر الصخري.

    كان الزمن كافياً للوصول إلى هينن عند مغيب الشمس ولكن تضافر بعض الظروف المعاكسة أخّر وصولنا حتى بعد الظلام. وكانت المسافة حوالي ثمانية أميال، وزامن عند مرورنا في حافة وادي حضرموت هبوب عاصفة رملية غطت المنطقة امامنا، وسرعان ما أحاط بنا الضباب الكثيف مما أرغمنا على التوقف. لم يكن بإمكاننا أن نرى إلى ابعد من ياردة أمامنا، إضافة إلى ذلك أن الوادي كان قد قطع بواسطة قنوات سيول حديثة، وعليه فإنه من الخطأ ان نتقدم دون التمكن من الرؤية. ونتيجة لهطول أمطار خفيفة توقفت العاصفة، ولكن كان تقدمنا بعد ذلك في اتجاه أسفل قناة السيل يعوقه بين الفينه والأخرى وجود بقع مشبعة بالماء والتي تتسبب في وحل السيارات، وعليه فقد وصلنا إلى قرية آدم بصعوبة وهي قرية كثيفة السكان على الضفة اليمنى للقناة لنجد أنفسنا في وسط منطقة العدو.

    وتتبع القرية إلى آل ثابت المنافسين لمضيفنا الحالي، ولم يكن هناك مايخفي أننا قضينا وقتاً في قعوضة. وقائدنا بالتأكيد واحد من رجال مبارك الموثوق بهم. وعليه فقد أوقفنا في وسط القرية بواسطة جمهور كبير من أهلها الذين لم يكونوا عدوانيين ولكن من الواضح أنهم لا يعترفون بحقنا في المرور وقد عبّروا عن إعتراضهم لقائدنا وأدعوا الحق في أن يرشحوا قائداً منهم. وكان من غير الممكن لي أن أعترض، ولحسن حظنا فإن شيخ القرية قد قرر أن يرافقنا وهو رجل صغير العمر يدعى شيبان ، يمكن أن يتخذ كنموذج لتمثال أبولو ، عارِ ماعدا وجود قطعة قماش تحيط بالخاصرة وخنجر وحزام عريض وبندقية، نموذج للإنسانية كما يمكن تخيله، ونُقلَ القائد الذي أتى من قعوضة إلى سيارة النقل بينما ركب معي شيبان كمرشد وعليه فقد خرجنا بسرعة من الجمهور المهتاج إلى الظلام المتجمع الذي عمَّ الوادي، متجنبين قناة السيل ومتقلبين على متاهات كثبان الرمل التي في طريقنا. ولحسن حظنا فإن الأمطار والسيول التي حالت دون إستخدام القناة كطريق للسفر جعلت الكثبان الرملية صلبة، أما شيبان الذي لم يركب سيارة أبداً من قبل فقد أرشدنا بكفاءة مذهلة، وكان لابد لنا من التوقف بين فترة وأخرى لنبحث عن ممر بين كثبان الرمل. وعند اقترابنا من هينن شكلت الحقول التي جُرفت حديثاً وغمرت بالمياة للزراعة، عائقاً آخر لتقدمنا، ولكن الحظ كان حليفنا، فعند الساعة السابعة في المساء تمّ الترحيب بنا في أول نقطة حدودية للسلطنة القعيطية، وهي جزيرة من الحضارة في البحر المضطرب بفوضى نهد.

    الوصول إلى حضرموت من شبوة كان من خلال منطقة قبلية مستقلة تتبع الكرب (آل مسفر) حتى قرن البنا وإلى أقسام مختلفة من نهد بين تلك البقعة وبين مداخل حضرموت. وتمتد منطقة نهد حقيقة في الوادي حتى فرت- مع عدم تبعية هينن لسلطانها- حيث تبدأ سلطنة القعيطي. وشبوة نفسها كما رأينا تقع في منطقة آل عويرة (الكرب) بينما الجروف والسهل الشاسع في حوق التي تقع إلى الجنوب من خط سيرنا تتبع لعناصر مختلفة من مجموعة قبائل بلعبيد- والتي يعرف الكرب فيها أكبر وأهم وحدة- حتى المواقع العليا من دهر ورخية، حيث وجدنا عناصر نهد "الشحابلة Sahabil" المستقلة.

    ومن ناحية جغرافية فإن محافظة حضرموت محاطة من الغرب بخط وادي عمد ووادي هينن مرتبطة عبر الوادي الرئيس بوادي الكثير من قعوضة إلى هينن. ومن الوجهة السياسية فإنها تكون سلطنتا القعيطي والكثيري مع عدد من الوحدات القبلية المستقلة أو شبة المستقلة وتعد الحدود الطبيعية الجنوبية هي الحد أو الخط الفاصل الذي يقسم وادي حضرموت من الممرات الضيقة والسهل الساحلي للشحر والمكلا، وهي إمارة تتبع للقعيطي والتي يتبع لها سياسياً القسم القعيطي من حضرموت. وإلى الشمال من هذا الحد الفاصل وإلى الغرب من خط عمد هينن توجد منطقة قبائل مستقلة تمتد حتى وصولنا إلى حدود سلطنة العوالق (العليا والسفلى) التي تقع تحت الحماية البريطانية. وإلى الشمال من خط سيرنا وخلف الحزام الرملي لرملة السبعتين تقع منطقة الصيعر التي تمتد حتى الأرض الرأسية لطرف العين في جهة الشرق، بينما الأراضي بين تلك البقعة وهينن تتبع آل زيد من الكرب. وكلا الوحدتين القبليتين مستقلتان تماماً على الرغم من أن القسم البدوي للصيعر والممتد عبر الصحراء حتى حدود نجران ينظر أهله لابن سعود كسيدهم المعروف دون حدود.

    وحسب علمي حتى الآن فغن الأوروبي الوحيد الذي حاول من قبل القيام باستكشافات جغرافية جادة في هذه البلاد التي وصفت في هذا الفصل هو قائد سرية أ. ر.م ريكاردس الذي سافر من حضرموت في عام 1933م عبر طريق أحيانا يتطابق مع طريقي هذا ويختلف في احايين أخرى، وألتفّ حول جنوب شبوة- والتي لم يرها أو يزرها- ومتقدماً من ناحية الغرب إلى أنصاب وبيحان بطريق سوف تسنح لي الظروف ان أصف جزءاً منه في فصل قادم من الكتاب. ولا يبدو أنه عرف أن الاودية المهمة دهر ورخية هي روافد من وادي حضرموت وفي خريطته غير المنشورة جعلها تجري في اتجاة العبر.

    ----------------
    [الهوامش]

    (1) يقصد بملك الصحراء الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –طيب الله ثراه- وهذا اللقب واحد من الألقاب العديدة التي أطلقت عليه من قبل الكتاب والمؤرخين. (المراجعون).
    (2) ملك العرب: لقب من الألقاب العديدة التي أطلقت على الملك عبدالعزيز –رحمه الله-. (المراجعون).



    [align=right]الفصل السادس [/align]
    [align=center]فاصــل[/align]


    بوصولنا إلى هينن في الظلام وجدت نفسي في بلاد تعيش إلى حدِ ما حياة غير سهلة وحزينة تحت ظل الأطراف القصوي لأجنحة الأمبراطورية البريطانية العظمى. وبعد الظهر في ذلك اليوم وللمرة الأولي طوال رحلتنا من مكة سمعنا فرقعة البنادق البغيضة وقد أطلقها رجلُ على آخر مثلة بسوء النية. وكان علينا أن نرى ونسمع كثيراً من هذه الأحداث في الفترة القادمة. وصلنا أول نقطة حدودية لسلطنة القعيطي والتي تقف على فوهة واديها تحت المنحدرات الصخرية لأرضها الرأسية العظيمة –جزيرة في سلام وحياد في جدول ضيق من فوضى نهد، مفصولة عن الأرض الرئيسة للسلطنة بامتداد عريض ، لواد أجرد ، لأن العداء العائلي جعل من الصعب على أي عائلة أن تزرع تربته أو أن تروي الرقع الصغيرة للنخيل الموجودة، وهي بقايا لبعض الفترات السعيدة في الماضي والتي تموت ببطء من الإهمال في الحاضر. وهينن نفسها مدينة صغيرة جذابة، بها منازلة عالية مبنية جيداً وبها بعض النخيل على طول قاعدة المنحدر الصخري والى مسافة أبعد في أعلى الوادي.


    نمت نوم قرير العين، وكانت الشمس عالية في السماء عندما استيقظت لأجد جمهرة من المعجبين بعمق نومي. نادي على إبراهيم ليجهز لي الشاي وأخذت إناء الماء وذلك للاغتسال مستغلاً الخصوصية التي تمنحني لها السيارة ثم صليت صلاة الصبح أمام الكثير من المشاهدين من سكان المدينة والذي بلاشك معتادين بما يكفي على أداء العبادة في مثل هذه الساعات المتأخرة. وكنت نادراً ما أجلس لتناول الشاي دون أن يأتي زوار ويجلسون حولي، بعضهم أذكياء ولكن هنالك البسطاء من أقارب آل مرتع الكبير والذي كان شقيقه عوض- الآن في بتافيا- يعمل كمرشد وفيلسوف وصديق وسائق لفان دير مولين وفون فيسمان بمناسبة زيارتهم لهذا الجزء من حضرموت في سنوات مضت. وفيما يبدو، فإنهم وجدوا هينن في حالة متقدمة من الدمار والضعف التي عزوها كثيراً إلى الزحف الثابت للصحراء في الوادي. ولكن السبب الحقيقي لمثل هذه الفترة من تدهور الحضارة في نظري يعود إلى الشر الذي يفعله الناس والذي يبقي بعدهم. وبعيداً في اعلى الوادي بإتجاة الغرب من هنا في الخشعة ومناطق أخرى هنالك مساحات شاسعة من الأراضي القابلة للزراعة الآن والتي تظل مهملة، وسبب ذلك فوضى نهد الداخلية المهلكة والتي هي بالتأكيد الأقل جاذبية في المجموعات القبلية التي لها صلة بها.

    بعد أن فرغت مباشرة من استقبال الزائرين، تركت تعليمات للتجهيز للرحيل باكراً وذهبت إلى منزل إبن مرتع لتناول الإفطار المكوّن من شاي وتمر. وبما أن الشيخ محمد سيرافقنا إل القطن لم يكن هناك سبب خاص للتأخير أو الاستعجال وكانت الساعة تشير إلى العاشرة قبل ان نبدأ الرحلة. في هذه الأثناء كافأت المرشدين الذين أرشدونا من قعوضة. أما آدم الشيخ الصغير من قعوضة فقد كان إنموذجاً للإنسان الطيب الذي لم يعله شيء سوى قطعة جوخ متدلية حول الخصر.

    في طريقنا إلى خارج القرية عبرنا قناة تصريف مكشوفة تنقل مياه مجاري القرية إلى بالوعة مجاورة. ومررنا على بقايا مفككة لما كان موقعاً لمولد كهرباء عندما كان إبن مرتع يضيء منزله بواسطة الكهرباء. دخلنا في الوادي عبر كثبان الرمال المتلاطمة المنقطة بالقبور البيضاء النظيفة بمنطقة الدفن (المقبرة) المحلية. وكان الشيخ محمد يركب معي بينما كانت السيارة الأخرى ممتلئة إلى سعتها القصوى بما يعادل سبعة أو ثمانية أشخاص وكتل من الأمتعة. والمساحة الكبيرة من الأرض الطفلية (رمل وطين) القابلة للزراعة والمعتمدة على هينن تتميز بإستقبال السيول من جانبي الوادي. أما المصدر الاكثر أهمية فهو قناة سيل وادي الكثير التي تجمع تصريف اودية دوعن وعمد ويسر في المصب العظيم حورة- قعوضة لتصب إلى أعلى في الوادي ويصرف وادي هينن السهل الشاسع ، وفمه يتموج بأمواج منخفضة من الرمال ويبلغ عرضه حوالي ثلاثة أميال على طول طريق السياة حيث يتحد في الوادي الرئيس تدريجياً. وبعد وصولنا إلى الأرض الرأسية مباشرة في الاتجاه المعاكس والتفافنا على طول حافتها لبعض الوقت سرنا بعيداً من الضفة الشمالية للوادي عبر المنطقة الرملية الواسعة التي تملأ وسطه. وهنا، تحت الأرض الرأسية –الأرض غير المحروثه- تقع القرية الصغيرة جوعة آل مهنا وهي مستوطنة نهدية مبنية من قسمين يبعدان عن بعض بحوالي 300 ياردة كأنها نصب تذكاري من النزاع والفوضى. ولايوجد أي أنسان ظاهر في أي من القسمين ، ومررنا دون تحية أو تحدٍّ تحت عيون كل الذين لايمكن رؤيتهم ولكن يروننا زمرة من القنّاصين الذي يتمركزون على أسقف المنازل خلف الطرف الغليظ من البنادق وهم جاهزون دائماً لإطلاق أعيرتهم النارية عند ظهور أي شيء يشبه هدفاً بشرياً في القسم المنافس.

    والشخص الغريب عندما يمر بمنطقة النزاع يُقدس وسابقاً كان النساء والأطفال من القسم المنافس يتمتعون بالحصانة نفسها ولكن السنوات الحالية تميزت بتكثيف وتصعيد للكراهية المحلية وقبل يومين فقط أو ثلاث قبل عودتنا من هينن عند نهاية إجازتنا في حضرموت كان هناك أثنتان من النساء تقدمتا لجمع الحطب لإشعال النار فقتلتهن طلقات من أبناء عمهن. ويمكن لهؤلاء الناس أن يتجرؤوا ويخرجوا فقط تحت غطاء الظلام ، بينما بساتين نخيلهم الصغيرة تموت لانعدام الري وحقولهم من غير فلاحة، قرى منافسيهم المهجورة منظرها شديد الكآبة وغير محبب للرؤية وهذا كله يعد دلالة بليغة على أخلاقيات وآثار الحماية البريطانية، وهو موضوع سنتطرق له لاحقاً. وكنت أتعجب قليلاً لماذا لايطلق علينا هؤلاء الناس الأنانيون النار من أسقفهم الساكنة ، ولكن الإجابة سهلة ، ليس لديهم الرغبة مهما يكن لإيذاء أي شخص غير اقاربهم وأنسبائهم وجيرانهم. ومن ناحية سيكولوجية فهي حالة من السادية (1) المتقدمة جداً او المازوخية (2) في بقايا مرضى من جنس شديد الإنحطاط. وهذا المرض يمكن معالجته بسهولة ولكن المعالج المحلي ينظر دون أن يمد يد المساعدة أو غير مبالٍ فهو فقط مهتم بمنع الأطباء الآخرين من التعدي على عمله.

    استمر الطريق في خط مستقيم تقريباً ولكن انحناءة للوادي جعلت قطرة يقطع الأرض الرأسية فورت على ضفته اليمنى على بعد خمسة اميال. وطريق السيارات يقع معظمة فوق أرض من كثبان رملية خفيفة مغطاة بعض الشيء بواسطة شجيرات صحراوية، ولم تكن هناك صعوبة شديدة للقيادة ما عدا انه كان من الضروري أن نبطئ في بعض الحالات مستعملين ترس السرعة الثاني. وبهدوء وصلنا إلى بستان نخيل ضبعان تحت الأرض المحروثة ، وهناك عبرنا الخط الحدودي الذي يقسم أرض نهد من المنطقة التي تقع تحت السلطة والحكم المؤثر للسلطان القعيطي تمتد من هنا دون أنقطاع ؟ لقناة السيول بوادي أبن علي وراء شبام. وبالتأكيد هناك رخاء وأمن اكثر في هذا الجزء من الوادي والذي يمتد من الحزام الأول لبساتين النخيل عملياً دون أنقطاع إلى مسافة طويلة خلف مدينة –القطن- إلى خمسة أميال او أكثر. ولكن القريتين اللتين تتبعان إلى مستوطنة فورت يمتلكهما جنود السلطان، غالباً وكانتا حتى وقت قريب في حرب مع بعضهما، وفي هدنة تحت ضغط السلطان لمدة 10 سنوات متفق عليها. حتى الآن كما أذكر فهذه النقطة السوداء الوحيدة في اللوحة النظيفة للسلام القعيطي التي لاحظناها في وادي حضرموت.

    أصبحت قلقاً في هذه الأثناء على السيارة الأخرى عندما لم تصل عند غروب اليوم السابق. وقد اعتقدت أن الخدم قد كتب لهم أن يقضوا ليلة أخرى في الراحة المتحضرة. وعليه فقد توقعت وصولها في الصباح الباكر. وعند وقت الغداء تعجبت لما حدث. وقد كنا جميعاً مستعدين للمغادرة عند وصول السيارة الأخرى. جاء واحد من شيوخ نهد للمفاوضات، شخص بدين أسمه حمد بن عبري وقد كان معنا في الغداء وأعلن عن رغبته أن يرافقنا في طريق العودة إلى مكة ومقابلة ابن سعود. أجبت مرحَّباً ولكن نوهت له بأن يحصل على سيارة لوحده لأن مايحمله من أمتعة سيتسبب في كسر سيارتنا. وفي تلك اللحظة وصل شخص من الذين يقومون بتسليم الرسائل جرياً من شبام تم تغييره بشخص آخر من القطن، حاملاً خطاباً من حسين آل عجاج معلناً أن سيارة الأمتعة قد كسر فيها محور العمود الخلفي.



    [align=right][الهوامش][/align]


    (1)السادية: إشتقاق اللذة عن طريق القيام بتعذيب الآخرين، وهي تنسب للماركز دي ساد (1740-1884).
    (2)المازوخية: إشتقاق الفرد للذة من قيام الآخرين بتعذيبه وتوجيه العدوان عليه ، تنسب إلى الكاتب النمساوي ساخرمازوخ (1836-1895م) والمازوخية نقيض السادية وعكسها. المرجع السابق ص389. (المراجعون)



    [align=right]الفصل السابع[/align]
    [align=center]القضاء والقـــدر[/align]


    وعند الثامنة صباحاً كنت أمر عبر بوابة تريم. وبعد بعض التجول غير الضروري بين لامدينة وعيديد اتجهنا في نهاية الامر نحو بيت الأخوين عبدالقادر (سعيد) ومحمد، أولاد حسين بن الشيخ آل الكاف. وكان البيت أحد المباني الأولى من العهد الجديد، ويقع بالقرب من الطرف الشرقي للمدينة. وكان عتيقاً بقدر قليل في التصميم العم، مع حمام السباة في فناء البيت، ولكن تجهزيات دورة المياه والاستحمام كانت نظيفه وصحية. وبصورة حتمية يتعذر إجتنابها اجتمع حشد هائل من آل الكاف وآخرين، بما فيهم السلطان عبدالله، واندفعوا بأعداد ضخمة إلى البيت تشدهم الجاذبية التي لا تُقاوم الناتجة عن وجود زائر جديد. إن مأساة هؤلاء القوم الاغنياء أنهم –في ظروف حياتهم- ليس لديهم عمل يفعلونه قد يبقيهم مشغولين طول اليوم. ومما يبعث السرور بدرجة كافية- ولكن ذلك ليس مريحاً جداً- أن حياتهم تمضي في التلكؤ والثرثرة والترفية. وربما يكون عندهم أحياناً عمل ولكنه يكون بصورة عرضيه ولا ينال تركيزهم وأهتمامهم.

    وكان واحد من الجماعة التي احتشدت هنا اليوم لم أره من قبل، وقد كان رجلاًَ مسناً ذابلاً تبدو على وجهة علامات المكر والخداع، وقد قدرت من منظرة أن سماً زعافاً يجري في عروقه. وكان في هينن قد أخبروني أن سيداً من قرية بور في وادي عدم قد جاء منذ زمن مضى إلى أرض نهد ليعقد صلحاً بين عشيرتي آل حكمان وآل ثابت اللتين كانتا ولا تزالان تتحاربان. وقد نجح بالعسل على طرف لسانه والسم في قلبه في أن يجعل الصلح مستحيلاً. وكان هذا هو الرجل الذي يجلس الآن بجواري، وأسمه السيد عيدروس ، يصب في أذني بلسان ذرب الحكاية الطويلة لكوارث ومصائب الحضارمة والتي لايمكن علاجها إلا بتدخل يد قوية.



    [align=right]الفصل العاشر[/align]
    [align=center]طريق الحج[/align]


    أفادنا ناصر بن شماخ بأنه يعرف الطريق جيّداً وعليه فقد صار دليل الرحلة، وبهذه الصفة الجديدة شاركني في المقعد الأمامي للسيارة. وما أن قطعنا حوالي الميل إلا ووجدنا أنفسنا تائهين وسط كثبان الرمال ،وعندها عدنا ادراجنا حتى وجدنا آثار الجمال وتبعناها. عبرنا قرية أرض آل حويل التي تقع تحت جرف قمران ، وهو جرف شديد الإنحدار، ثم عبرنا قرية صغيرة أخرى وسلكنا بعدها طريقاً يتوسط المسافة بين الجرف وطرق الكثبان الرملية، وتبلغ المسافة بينهما حوالي ربع الميل. تمتد البقعة الرملية أمامنا على هيئة اصابع طويلة وتواصل انتشارها حتى سفوح المنحدرات الصخرية الشاهقة. وبعد أن سرنا مسافة قصيرة واكتشفنا أننا ندور في حلقة مفرغة وسط الكثبان الرملية المتحركة، وكان علينا –وللمرة الثانية- أن نعود أدراجنا سالكين طريقاً يمتد على أطراف المنطقة الرملية حتى وصلنا مشارف قرية صغيرة بائسة اسمها ربيعة ، تطل عليها من جانب الجرف صخرة جيرية مستقيمة ذات منظر أخَّاذ وتسمى "عُرف الديّك" لقد قطعنا مسافة عشرة أميال منذ أن تحركنا من هينن، ولو كان سيرنا في طريق مستقيم فإن المسافة الحقيقية تبقى سبعة أميال فقط. لقد عانيت اليوم مافيه الكفاية، ثم إن الشمس كادت أن تغيب، لذا فكرت في إقامة معسكرنا وقضاء الليلة في هذه القرية والتي تبدو مكاناً مناسباً للراحة والنوم، إلا أن مساكنها المتباعدة جداً والتي تشبة الحصون بدت خالية من السكان تماماً، بعد أن رحل أهلها بحثاً عن الكلأ والماء، خاصة بعد هطول الامطار خلال الشهر الماضي.
    وبينما نحن نشق طريقنا ببطء عبر القرية التي غطس بعض أجزائها العشب الأخضر بعد أن ارتوت الأرض بمياة الأمطار، لاحظنا حركة بأحد المنازل بالطرف البعيد للقرية توحي بوجود بعض الناس، وبينما نحن نقترب ببطء من المنزل ظهر رجل فوق سطح المنزل يحمل سلاحاً نارياً. أوقفت السيارة على بعد حوالي مئتي ياردة من المنزل ونزل ابن شماخ من السيارة في انتظار ترحيب الرجل بنا، بينما نزلت أنا من الجانب الآخر للسيارة ولاحظت أن الرجل قد أسند سلاحه على حاجز سقف المنزل ووجه فوهة البندقية نحوي مباشرة، وعندها انسحبت إلى مؤخرة السيارة بعيداً عن أنظار الرجل وفي هذه الأثناء حاول ابن شماخ أن يوضح للرجل نيتنا في قضاء الليلة هناك، وبعد فترة –خلتها دهراً- نزل الرجل من سطح المنزل وقرر أستقبالنا. كان مضيفنا كبير السن بعض الشيء ولا يرتدي من الثياب إلا مايستر عورته (الإزار)، إضافة إلى سلاحة الناري، وكان منفعلاً وهائجاً بعض الشيء ولا يوحي منظره العام بأنه سليم العقل تماماً. ومع ذلك أبدى شعوراً بالرضى والمودة والاستعداد لاستضافة هؤلاء الغرباء، وبعد هنيهة بدأ سكان المنزل في الظهور وكان أول الخارجين من الدار شابان في مقتبل العمر، ثم إمرأة مسنة يبدو أنها والدتهما، وظهرت أخيراً شابة ذات حسن وجمال وهي أبنة العجوز والتي يبدو أنها استثمرت لحظات التوجس والترقب في إكمال زيتنها حتى تظهر كأجمل ما تكون أمام الغرباء!

    كانت الفتاة ترتدي ثوباً جميلاً مصبوغاً بلون نيلي ومثبتاً عند الخصر بحزام مطرز ولم تكتف الفتاة بهذا، بل وضعت العديد من الحلي الفضة اللامعة. وعلى العموم فقد كانت الفتاة لطيفة وودودة بقدر ما أعطاها الله من جمال فريد، وقد كانت تتحدث بطلاقة وبدون أي خجل أو حرج. وربما لا يكون لها أي إتصال يذكر بنساء أُخر خارج نطاق دائرة العشيرة الضيّق. تقدمنا بدعوة الفتاة وأمها لتناول طعام العشاء البسيط معنا وكان مكوناً من أرز إلا أنهما فضلتا مراقبتنا ونحن نأكل ويبدو أنهما لا تفضلان الأرز كطعام، وبما أن خرافهما ترعى بعيداً عن الديار، فلم يتيسر لنا الحصول على أي نوع من اللحم.

    ينحدر سكان قرية ربيعة من آل جذنان وهي إحدى بطون عشيرة نهد. أخبرنا علي –الرجل العجوز- بأن لديه ثلاثة أبناء إخوته يعملون في كيمسايو بالصومال الإيطالي، وأنهم يراسلونه ويمدونه بمساعدات مالية لتغطية نفقات الاسرة، وبهذا فالرجل مشدود –بصورة غريبة- إلى العالم العريض البعيد عن نطاق وعيه وإدراكه، وقد استمع الرجل وابنته –في تلك الليلة- ولأول مرة إلى صوت العالم يتحدث وسط أراضيهم اليباب، ومما يؤسف له أن الإرسال كان مشوشاً ومع ذلك فقد تعرف الرجل وأبنته على لغتهم التي سمعوها من المذياع وقد اندهشوا أيما دهشة بما سمعوا. وبعد أن أنهيت الجلسة واستلقيت أستعداداً للنوم، بدأت استعراض أحداث هذا اليوم الشاق، وبدأنا الاستعداد للرحيل في جو مفعم بالرضى والأماني الطيبة.
    كان خط سيرنا العام في اتجاه الجنوب الغربي نحو صخرة القليعة المنعزلة، وقمتي ثكمين على مصب وادي سر. ويقع الجرف وكثبان الرمال خلف طريق سيرنا بحوالي ميل واحد تقريباً. واصلنا السير فوق هضبة تكسوها –إلى حد ما- أشجار السنط القصيرة وبعض الشجيرات الصحراوية الأخرى، وبعد أن قطعنا حوالي ستة أميال مررنا قريباً من بئر رشيدة وكانت تقع على يميننا، وبعد ذلك بقليل تخطينا قصر كردان، وهو يعد من حصون قبيلة نهد. ويقع الحصن المذكور على يسارنا، وبعد مسافة خمسة أميال أخرى وصلنا بئر الجديدة وهي مثل القلعة من ممتلكات شخص إسمه عبدالله بن مبارك الكردان. يبلغ عمق البئر ثلاث عشرة قامة، وهي ذات فوهة ضيقة مصفوفة بالحجارة. وبعد حوالي ميل آخر في اتجاة الشمال الشرقي وصلنا إلى مضلاب المنحدر من اتجاة الشمال بين أراضي مهباد –بعض الأحيان تسمى مضلاب- وميس، ويتلاشى الوادي رويداً رويداً في الرمال. وتدل غزارة المياة في البئرين المذكورين والهضبة المغطاة بالعشب الأخضر على الأمطار الغزيرة والسيول التي غمرت هذه المنطقة مؤخراً.
    يمتد الوادي في هذا السهل ليلتقي بوادي سر الأكثر أهمية، حيث أنه يمثل شريان التصريف الرئيس للهضبة الشمالية والرافد الأكثر نشاطاً في أقصى الجهة الغربية ليلتقى بوادي حضرموت من الناحية الشمالية. ويمتد مجرى وادي سر حتى السهل الواقع بين هضاب ثكمين بالناحية اليسرى وخشم العفر بالناحية اليمنى، ويقع هذا الوادي في اتجاه الشمال الغربي من السهل الذي نسير فوقه الآن وهو –أي السهل- يشكل دلتا الوادي الذي تكسوه أشجار السنط الكثيفة. هناك خط من شجر الحرمل والفرد وبعض الأعشاب المختلفة يشكل المعلم الرئيس لمجرى مياه الوادي المكوّن من الرمل والحصى. ويوجد بجانبه وعلى هضبة صغيرة حصن بدر بوطويرق –ويسمى أيضاً حصن سر-. لقد لاحظت أن طريق ريدة الصيعر المركز الرئيس للفرع المستقر للقبيلة الموالية للشيخ يسلم بن جربوع، يعتلي الهضبة عن طريق عقبة شاهقة، لكن يبدو أنها ليست صعبة. وتقع قرية ريدة الصيعر في وادي المخية، وهو أحد أودية الهضبة التي تصب في اتجاه الشمال، وينتهي في السهل الكبير الذي يكثر فيه الحصى، وهو يمثل الحد الفاصل بين القرية والربع الخالي.

    توجد أيضاً سلسة من الجبال المنخفضة عند الطرف الغربي للدلتا ، وقد تخطيناها عبر ممر ضيق وانحدرنا بالجانب الآخر حتى وصلنا الحصن الوحيد بتلك الجهة، وتحيط به أكواخ قليلة مصنوعة من أغصان مضفورة بسيقان القصب والآبار الاربعة التابعة لحصن آل خويران. وتتميز هذه الآبار بفوهات ضيقة مع ضفيرة الحجر على طول البئر، وبها مياه وفيرة على عمق يترواح بين 18-20 قامة. التقينا في هذا الموضع مع مرافقينا الذين استقلوا الجمال من هينن، هذه الجمال يمتلكها صاحب الحصن الذي قرر عدم مواصلة الرحلة معنا لمقابلة زوجته والاطمئنان عليها، وكانت الزوجة وقتها تقوم بسقاية أغنامها عند البئر، وكنت أتوق إلى أكل لحم طازج، إلا أن الانتظار يعني ضياع وقت ثمين.
    استرحنا حوالي الساعة واستنفدت خلالها ملء ترمس من الشاي بينما كان المرافقون الآخرون يشربون القهوة. وقد أخبرني مضيفنا عبدالله آل خويران أن المستر بيرن لم يصل في أسفاره إلى النقطة التي نجلس فيها الآن، وانه عاد أدراجة من جوار بئر رشيدة. يقع أسهل الطرق لعبور الأرض الرملية –الجزء المعروف ببئر بايوس، إحتمال أن يكون مشتقاً من إسم بئر قديمة بالمنطقة- على بعد حوالي ميلين او ثلاثة في اتجاه الجنوب الغربي من آل خويران. والآن أستطيع ان أفهم لماذا انسحب البدو المرافقين للمستر بيرن عند السهل ذي الأشجار الكثيفة وسلكوا ذلك الطريق إلى مدينة شبوة.

    بدأت الأشجار تتباعد عن بعضها فوق السهل، بينما كنا نحن نقترب من بئر الجديدة على بعد عشرة أميال غربي آل خويران. وجدنا فوق البئر مجموعة من الرعاة مع ماشيتهم من القمازين من نهد ومعهم عدد قليل من الرعاة المطاحلة –بطن آل زيد من قبيلة الكرب- وبينما نحن في سيرنا تقدمت مجموعة مكوّنة من ثلاثة أو أربعة من هؤلاء الرعاة يحملون بنادقهم في حالة استعداد لكنهم سرعان ما تعرفوا على شخصية عبدالله آل خويران الذي كان جالساً معي في المقعد الأمامي للسيارة كدليل بدلاً عن ابن شماخ. استقبلنا الرعاة بترحاب شديد وكانت بينهم بعض النساء اللاتي كن يسحبن الماء من بئر بعمق خمس وثلاثين قامة. تقع هذه البئر على طرف الرمال مباشرة وتفصل بينها وبين الكثبان العالية مسافة تبلغ حوالي ربع ميل فقط. وعلى الجانب الآخر يرتد الجرف الى الخليج شبة دائري واسع يقع بين خشم معول بالناحية الشرقية وطرف العين بالناحية الغربية. وينحدر عبر هذا الخليج واديان هما: وادي ثاني ووادي عكبان. وتُغطي جزء من الطرف الغربي لهذا الخليج جبال برق العين وجبال مبعثرة ومنخفضة الارتفاع، أما وادي ام السمر فيقع بين جبال برق العين وجبال طرف العين وينحدر الوادي في اتجاه التربة الرملية. تكسو دلتا وادي ثاني وعكبان شجيرات وأعشاب شبة يابسة ويبدو أنه لم تنزل عليها أمطار منذ فترة ليست قصيرة.

    عبدالله آل خويران شخصيته لطيفة جداً مع أنه كثير الكلام وقد أخبرني مرة أن إقليم نهد يمتد من منطقة قريبة من القطن بالجهة الشرقية حتى الخط الذي يربط بين طرف العين وغالباً التي تقع هي الأخرى شمال وجنوب الحزام الرملي على التوالي. وغرب هذا الخط تحتل الكرب المنطقة التي تقع جنوب حزام الرمال بينما تشغل الصيعر المنطقة التي تقع شمال الرمال. وتمثل الرملة ما يمكن أن يطلق عليه ((الأرض التي لا مالك لها)) أي المنطقة المشاعة للجميع مع أن الكرب تسيطر عليها سيطرة فعلية.

    يوجد حصن طيني صغير تم تشييدة لحماية بئر حمد التي تقع على مجرى أحد فروع وادي دهر المنحدر عبر الجانب الجنوبي للمنطقة الأثرية المهجورة حتى يصل فرع الوادي إلى منطقة مليئة بالأعشاب والشجيرات في محاذاة طرف الرمال. ويبلغ عمق البئر ثمانية عشر رجلاً (قامة) وبها ماء وفير حلو المذاق، وقد وجدنا على البئر ثلاث نساء وجالاً من قبيلة نهد يسقون جمال ويرددون أغانيهم وأهازيجهم المعتادة . . هيا ، هبوبا ، هيا ، هيا ... شاركنا الرجال طعامنا بينما نهضت من مكاني حول المائدة وحملت فخذاً من لحم الغزال قدمته للنساء كما قدمنا لهن بعض الأرز إلا أنهن لم يرغبن فيه وأكتفين باللحم.




    إنتهى بحمد الله



    vpgm [,k tdgfd hgd Hvhqd rfdgm ki]


  2. #2
    مشرف مجلس قبيلة نهد القضاعية
    تاريخ التسجيل
    01-04-2016
    الدولة
    السعودية
    العمر
    44
    المشاركات
    64

    افتراضي

    [align=center]تم تحديث الموضوع ،،،

    [/align]

  3. #3
    عضو منتسب
    تاريخ التسجيل
    26-01-2016
    العمر
    38
    المشاركات
    17

    افتراضي

    والنعم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الكرب و عبدالله فيلبي في كتابه ( بنات سبأ )
    بواسطة سالم الكربي في المنتدى مجلس قبيلة الكرب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24-06-2019, 06:01 AM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-08-2017, 03:35 PM
  3. كتاب الرحَّالة جون فيلبي في أراضي قبيلة نهد
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس قبيلة نهد بن زيد
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 25-01-2017, 08:53 AM
  4. معنى أراضي(الودية) على شاكلة (الوسية والأبعادية) ؟
    بواسطة احمد عبدالنبي فرغل في المنتدى منتدى جغرافية البلدان و السكان
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 25-08-2015, 06:36 PM
  5. أراضي العوامر في حضرموت
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس قبيلة العوامر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-11-2012, 09:52 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum