مع القلوب الصخرية

الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا
الزمن أن صرنا لا نستحي من المناصحة عن قسوة القلب بينما
قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة .. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة
المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات
خطاياهم..
لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ،
وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصدقك القول أنني
رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة
الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع
المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لا غير، وكلما استعملته
رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا
العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).
دع عنك كلما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير
الرقائق التي يصفوا، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك
وإيمانك وقوتك على الطاعات وتأبيك على المعاصي وراحة نفسك
في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب. كل تقصير يقع فيه الإنسان، سواء كان تقصيراً علمياً بالتأويل
والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي
الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.
وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟
قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى االله تعالى يقول:
﴿أَلَم يأْن للَّذين آمنوا أَنْ تخشع قُلُوبهم لذكْرِ اللَّه وما نزلَ من
الْحق ولَا يكُونوا كَالَّذين أُوتوا الْكتاب من قَبلُ فَطَالَ علَيهِم
الْأَمد فَقَست قُلُوبهم] ﴾الحديد:١٦ [
أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد .. !
لما طال الأمد قست قلوبهم .. ولو جددوا العهد مع الوحي
لحيت قلوبهم..
فإذا قسا القلب تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه ..
وإذا قسا القلب تهاون الإنسان في الطاعات واستثقلها ..
وإذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل
حمل رسالة الإسلام للناس .. وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية
لدين االله ..
وما العلاج إذاً ؟
العلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداوتها بتدبر القرآن .. باالله
عليك تأمل في قوله تعالى: ﴿يا أَيها الناس قَد جاءَتكُم موعظَةٌ من ربكُم وشفَاءٌ لما في الصدورِ وهدى ورحمةٌ
للْمؤمنِين]﴾يونس:٥٧ [
هكذا تقدم الآية المعنى بكل وضوح "وشفاء لما في الصدور" ..
ولكن ما الذي في الصدور؟!
في الصدور شهوات تتشوف .. وفي الصدور شبهات تنبح .. وفي
الصدور حجب غليظة.. وفي الصدور طبقات مطمورة من الرين
﴿كَلَّا بلْ رانَ علَىٰ قُلُوبِهِم ما كَانوا يكْسِبونَ﴾[المطففين:١٤ .. [
وهذه الدوامات التي في الصدور دواؤها كما قال االله :
﴿قَد جاءَتكُم موعظَةٌ من ربكُم وشفَاءٌ لما في
الصدورِ﴾[يونس:٥٧ .. [
فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات ..
وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من
التأويل والتحريف ..
وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا ..
وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق
على الدين كله ..
وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف
الصغيرة ..
تلك الأهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة ..
الولع بالشهرة ..
وحب الظهور ..
وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس ..
وشهوة غلبة الأقران ..
النفوس التي شفاها هذا القرآن .. ترى كل ذلك حطام إعلامي
ظاهره لذيذ فإذا جرب الإنسان بعضه اكتشف تفاهته ..
وأنه لا يستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات..
فضلاً عن تقبل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي
الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي.. إلى غير ذلك
من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..
هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة
القلب؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى ﴿وجعلْنا قُلُوبهم قَاسيةً
يحرفُونَ الْكَلم عن مواضعه]﴾المائدة:١٣ .[
على أية حال ..
دعنا نعد قراءة آية الشفاء ﴿يا أَيها الناس قَد جاءَتكُم موعظَةٌ من
ربكُم وشفَاءٌ لما في الصدورِ وهدى ورحمةٌ
للْمؤمنِين]﴾يونس:٥٧ [
يا االله ..
هل قال االله "شفاء لما في الصدور" ..
نعم إنه شفاء لما في الصدور..
هكذا بكل وضوح ..
هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك
النفوس وعمارا بالشوق لباريها جل وعلا ..
وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في صناعة
الاخبات والخضوع في النفس البشرية كما يقول تعالى ﴿وليعلَم
الَّذين أُوتوا الْعلْم أَنه الْحق من ربك فَيؤمنوا بِه فَتخبِت لَه
قُلُوبهم]﴾الحج:٥٤ [
فإذا أخبتت النفوس ..
وانفعلت بالتأثر الإيماني ..
انحلت قيود الجوارح ..
ولهج اللسان بالذكر ..
وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين االله .. كما
يصور الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله: ﴿اللَّه نزلَ أَحسن الْحديث
كتابا متشابِها مثَانِي تقْشعر منه جلُود الَّذين يخشونَ ربهم ثُم
تلين جلُودهم وقُلُوبهم إِلَىٰ ذكْرِ اللَّه]﴾الزمر:٢٣ [
لاحظ كيف تقشعر .. ثم تلين ..
إنها الرهبة التي تليها الاستجابة ..
وتلك هي هيبة القرآن..


lu hgrg,f hgwovdm