من مناطق التدبر

كثير من الناس يتساءل ويقول: ماذا أتدبر بالضبط في القرآن؟
والحقيقة أن القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمة
مفاتيح كثيرة لفهم القرآن..
أعظم وجوه ومفاتيح الانتفاع بالقرآن تدبر ما عرضه القرآن من
(حقائق العلم باالله) فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي
من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيراً من المنتسبين للفكر المعاصر يظن
الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو
قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجـل والأعظـم،
ولذلك قال الإمام ابن تيمية: "فإن الخطاب العلمـي في القـرآن
أشرف من الخطاب العملـي قـدراً وصـفة " [درء التعـارض،
.[٣٥٨/٥
وأنا شخصياً إذا التقيت بشخصية غربية متميـزة في الفكـر أو
القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه،
لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل باالله سبحانه وتعـالى، امـتلأت
نفسي إزراءً بهم، ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزء معين من العلـوم
وأنت جاهل بأعظم مطلوب للإنسان.. إنه لا يختلف عـن سـائق
مركبة يتقن تفاصيل بعض الطرق الفرعية ويجهل الطرق الرئيسية
في المدينة.. فهل مثل هذا يصل؟! أي تخلف وانحطاط معـرفي يعيشـه
هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي..
ويؤلمني القول بأن كثيراً من المنتسبين للفكـر العـربي المعاصـر
يجهلون دقائق العلم باالله التي عرضها القرآن.. وأما أئمة السـلف
الذين ورثنا عنهم علوم الشريعة فقد كانوا في ذروة التبحر في دقائق
القرآن، فمن تأمل - مثلاً - رسالة الإمام أحمـد في الـرد علـى
الزنادقة، أو رسالة الدارمي في النقض على المريسي، فستسـتحوذ
عليه الدهشة من عمق علمهم بالقرآن وما فيه من أسـرار المعرفـة
الإلهية، وشدة استحضار الآيات وربط ما بينها، ليست معرفة آحاد
وأفراد الألفاظ فقط، بل معرفة السلف بالقرآن مركبة، فتجـدهم
يلاحظون منظومة لوازم معاني القرآن، ويستخلصون في تقريراتهم
حصيلة توازنات هذه المعاني القرآنية..
ومن وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً- تدبر أخبار الأنبياء الـتي
ساقها القرآن وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار
عن الأنبياء ليست قصصاً للتسلية، بل هي (نماذج) يريد القرآن أن
يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله بهذه الأخبار؟ مثل التفطن لعبودية الأنبياء وطريقتهم في التعامل مع
االله كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبيـاء،
وتوباتهم، واستغفارهم" [تلخيص الاستغاثة:١/١٦١
وتلاحظ أن االله يثني ويعيد قصص القرآن في مـواطن متفرقـة،
وليس هذا تكراراً محضاً، بل في كل موضع يريد االله تعالى أن يوصل
رسالةً ما، وأحياناً أخرى يكون في كل موضع إشارة لجـزء مـن
الأحداث لا يذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلاً:
"وقد ذكر االله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود
والحجر والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعاً مما جرى" [الرد
على المنطقيين:٤٩٤ .[
والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغـاة، وأخبـار
الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيهـا؛
من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.
ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً - أن يضع الإنسـان
أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة
والحضارة والتقدم والرقي والإصلاح والاستنارة الخ.. ويضع كـل
القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم والرقي ..
ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار
للتقدم والرقي ..
تأمل فقط باالله عليك كيف ذكر االله الانقياد والتوكل والـيقين
والإخلاص والاستغفار والتسبيح والصبر والصدق والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر... الخ في عشرات المواضع ..
بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعاً ..
قارن حضور هذه القضايا في الخطابـات الفكريـة لتجـده
حضوراً شاحباً خجولاً ..
أي إفلاس فكري أن تكون الأعمال التي يحبها االله ويـثني بهـا ويجعلها مقياس الرقي والتقدم والتنوير هي في ذيل القائمـة لـدى
الخطابات الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة ..
يا خيبة الأعمار ..
حين يتدبر قارئ القرآن كيف وصف االله القرآن بأنـه هـدى
وبينات ونور فإنه يستنتج من ذلك مباشرة بأن مراد االله من عبـاده
في القرآن ليس لغزاً .. هل يمكن أن يكون االله تعالى يعظم ويمـنح
الأولوية لتلك القضايا التي ترددها الخطابات الفكرية ثم يكـرر في
القرآن غير ذلك؟! هل القرآن يضلل الناس عن مراد االله؟! شـرف
االله القرآن عن ذلك، ولذلك كان الإمام ابن تيمية يقول : "ومـا
قُصد به هدى عاماً كالقرآن، الذي أنزله االله بياناً للناس، يـذكر
فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة". [الفتاوى: ٩/٢١١ [
وهذا لا يعني أن الأئمة الربانيين لا يختصـهم االله بمزيـد فهـم
للقرآن، وتتكشف لهم دلالات وأسرار لا تنكشف لغيرهـم مـن
الناس، فالقلب المعمور بالتقوى يبصر ما لا يبصره مـن أغطشـت
عينه النزوات، نسأل االله أن يسبل علينا ستر عفوه، وقد أشار الإمام
ابن تيمية لذلك في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله :" ومن المعلوم
أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس
فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا، والقرآن الذي يقرأه النـاس بالليـل
والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع االله بعـض
الناس على بعض درجات" [درء التعارض:٧/٤٢٧ .[
ومن أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن - أيضـاً - أن يستحضـر
متدبر القرآن أن جمهور قرارات القرآن وأحكامه علـى الأعيـان
والأشياء إنما هي (أمثال)، ومعنى كونها أمثال أي (يعتبر انها ما كان
من جنسها) بمعنى أن القرآن يقدم في الأصل نماذج لا خصوصيات
أعيان، وقد أشار القرآن لذلك كثيراً كقوله تعالى في سورة الحشر
﴿وتلْك الْأَمثَالُ نضرِبها للناسِ لَعلَّهم يتفَكَّرونَ﴾[الحشـر :٢١ ،[
وقوله في سورة الروم ﴿ولَقَد ضربنا للناسِ في هذَا الْقُرآن من كُلِّ مثَلٍ﴾[الروم:٥٨ .[
فماذا يريد االله في مطاوي هذه الأمثلة القرآنية؟ هذا أفق واسـع
للتدبر..
لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية (تدبر القرآن) في صحة
المنهج والطريق أنها دافع عظيم للتدبر .. لكن ثمة أمراً آخر علـى
الوجه المقابل لهذه القضية .. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه
منسوب القلق قطعاً .. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن االله
قدر عليه أصلاً ذلك الانصراف لأن االله تعالى سبق في علمه أن هذا
الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه االله للتدبر
والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قولـه تعـالى : ﴿ولَو علم اللَّه فيهِم خيرا لَأَسمعهم ولَو أَسمعهم لَتولَّـوا وهـم معرِضونَ﴾[الأنفال: ٢٣ .[
كلما رأى الإنسان نفسه معرضاً عن تدبر القرآن، أو معرضاً عن
بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى: ﴿ولَو علم اللَّـه فـيهِم
خيرا لَأَسمعهم ﴾يجف ريقه من الهلع لا محالة..
على أية حال .. هذا القرآن ينبوع يتنافس الناس في الارتشاف منه
بقدر منازلهم، كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن مـورد يـرده
الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسـم االله لـه " [درء
.[٤٢٧/٧ : التعارض


من كتاب الطريق الى القرآن/ عمر بن إبراهيم السكران


lk lkh'r hgj]fv