السلطان عبد الحميد و سياسة الجامعة الإسلامية
بقلم: د ايمن زغروت الحسيني
لم تظهر فكرة الجامعة الإسلامية، في معترك السياسة الدولية إلا في عهد السلطان عبد الحميد، وبالضبط بعد ارتقاء السلطان عبد الحميد عرش الدولة العثمانية عام 1876م.
بعد أن ألتقط السلطان عبد الحميد أنفاسه وجرد المتأثرين بالفكر الأوروبي من سلطاتهم، وتولى هو قيادة البلاد، قيادة حازمة اهتم السلطان عبد الحميد بفكرة الجامعة الإسلامية وقد تكلم في مذكراته عن ضرورة العمل على تدعيم أواصر الأخوة الإسلامية بين كل مسلمي العالم في الصين والهند وأواسط أفريقيا وغيرها، وحتى إيران
وفي هذا يقول: (عدم وجود تفاهم مع إيران أمر جدير بالتأسف عليه وإذا أردنا أن نفوّت الفرصة على الإنجليز وعلى الروس فإنا نرى فائدة تقارب إسلامي في هذا الأمر وتحدث عن علاقة الدولة العثمانية بإنجلترا التي تضع العراقيل أمام الوحدة العثمانية). (1)
ويعبر عبد الحميد الثاني عن ثقته في وحدة العالم الإسلامي بقوله: (يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة. ووقتها لم يحن بعد لكنه سيأتي , سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون فيه نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد وفيه يحطمون رقبة الكفار). (2)
أهداف الجامعة الإسلامية
كانت فكرة الجامعة الإسلامية في نظر السلطان عبد الحميد وسيلة فعالة لتحقيق عدد من الأهداف السياسية و الدينية, منها (3):
1. مواجهة أعداء الإسلام المثقفين بالثقافة الغربية، والذين توغلوا في المراكز الإدارية والسياسية الحساسة، في أجهزة الدول الإسلامية عموماً، وفي أجهزة الدولة العثمانية خصوصاً، عند حدهم، عندما يجدون أن هناك سداً إسلامياً ضخماً وقوياً يقف أمامهم.
2. محاولة إيقاف الدول الاستعمارية الأوروبية وروسيا، عند حدها عندما تجد أن المسلمين ، قد تكتلوا في صف واحد، وقد فطنوا إلى أطماعهم الاستعمارية ووقفوا ضدها بالوحدة الإسلامية.
3. إثبات أن المسلمين يمكن أن يكونوا قوة سياسية عالمية، يحسب له حسابها في مواجهة الغزو الثقافي والفكري والعقدي الروسي -الأوروبي النصراني.
4. تأخذ الوحدة الإسلامية الجديدة دورها في التأثير على السياسة العالمية.
5. تستعيد الدولة العثمانية بوصفها دولة الخلافة قوتها وبذلك يمكن إعادة تقويتها، وتجهيزها بالأجهزة العلمية الحديثة، في الميادين كافة وبذلك تستعيد هيبتها وتكون درساً تاريخياً. يقول : (إن العمل على تقوية الكيان السياسي والاجتماعي الإسلامي، أفضل من إلقائه أرضاً، وتكوين كيان غريب فكرياً واجتماعياً على نفس الأرض) (4).
6. إحياء منصب الخلافة، ليكون أداة قوية، وليس صورياً كما حدث لفترة . وبذلك لا يكون السلطان وحده فقط هو الذي يقف في مواجهة أطماع الغرب وعملائه في الداخل، وإنما هي وحدة شعورية بين شعوب المسلمين جميعاً. يكون هو الرمز والموجّه والموحّد.
رؤية الغربيين لفكرة الجامعة الإسلامية
قرأت أوروبا محاولات السلطان عبد الحميد لإحياء الجامعة الإسلامية و اهتمت بها جيدا و رأت فيها خطرا محدقا بمصالحها و ريادتها, و إلى هذا أشار المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي) في قوله: (إن السلطان عبد الحميد ، كان يهدف من سياسته الإسلامية، تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادة، يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين) (5) .
وقد وصف السفير البريطاني في القسطنطينية في تقريره السنوي العام 1907م أهمية الخط الحجازي فقال: (إن بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام ثلاثمائة مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الوحي للمسلمين ، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية، ببناء سكة حديد الحجاز التي ستمهد الطريق في القريب العاجل أمام كل مسلم للقيام بفريضة الحج الى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة) (6).
و سائل عبد الحميد لنشر فكرة الجامعة الإسلامية
استخدم السلطان عبد الحميد ، كل الإمكانيات المتاحة في ذلك الوقت لنشر فكرة الجامعة الإسلامية في ربوع العالم الإسلامي من اندونيسيا و الصين شرقا مرورا بالهند و إيران و بلاد العرب و نيجيريا و إفريقيا, و قد اعتمد على عدد من الوسائل و كان له محاور رئيسية للعمل على نشر هذه الفكرة منها:
1. استخدام الدعاة المؤمنين بالفكرة:
فقام اتخاذ الدعاة من مختلف جنسيات العالم الإسلامي، من العلماء والمبرزين، في مجالات السياسة، والدعاة الذين يمكن أن يذهبوا إلى أرجاء العالم الإسلامي المختلفة، للالتقاء بالشعوب الإسلامية وفهم ما عندهم وإبلاغهم بآراء وتوجيهات السلطان الخليفة ونشر العلوم الإسلامية، ومراكز الدراسات الإسلامية، في الداخل والخارج، وطبع الكتب الإسلامية الأساسية. ولقد ألتفت مجموعة من العلماء ودعاة الأمة الإسلامية إلى دعوة الجامعة الإسلامية من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومصطفى كامل من مصر، وأبي الهدى الصيادي من سوريا، وعبد الرشيد إبراهيم من سيبريا، والحركة السنوسية في ليبيا وغيرها. (7)
2. محاولة اتخاذ اللغة العربية لأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية، لغة للدولة:
أو ما يسمى بالتعبير المعاصر "تعريب" الدولة العثمانية, و في هذا يقول السلطان عبد الحميد: (اللغة العربية لغة جميلة. ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على (خير الدين باشا -التونسي- عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر أعترض على اقتراحي هذا. وقال : (إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى -للعنصر التركي- شيء بعد ذلك.
كان (سعيد باشا) رجلاً فارغاً، وكلامه فارغاً, ما دخل هذه المسألة بالعنصر التركي؟! المسألة غير هذه تماماً, هذه مسألة ، وتلك مسألة أخرى اتخاذنا للغة العربية لغة رسمية للدولة من شأنه -على الأقل- أن يزيد ارتباطنا بالعرب) إن السلطان عبد الحميد الثاني كان يشكو وخصوصاً في بداية حكمه من أن الوزراء وأمناء القصر السلطاني ، كانوا يختلفون عنه في التفكير، وأنهم متأثرون بالغرب وبالأفكار القومية والغربية وكانوا يشكلون ضغط على القصر ، سواء في عهد والده السلطان عبد المجيد، وفي عهد عمه السلطان عبدا لعزيز، أو في عهده هو.(8)
لم يقتصر الأمر في معارضة اقتراح السلطان عبد الحميد بتعريب الدولة العثمانية على الوزراء المتأثرين بالغرب فقط: بل تعداه الى معارضة من بعض علماء الدين.
إن من الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية عدم تعريب الدولة وشعبها بلغة القرآن الكريم و الشرع الحكيم.
يقول الأستاذ محمد قطب: (ولو تصورنا أن دولة الخلافة قد استعربت ، وتكلمت اللغة العربية التي نزل بها هذا الدين فلا شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر على مقاومة عبث العابثين، فضلاً عما يتيحه تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا الدين من مصادره المباشرة: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مما كان الحكام والعامة كلاهما في حاجة إليه، على الرغم من كل ما ترجم الى التركية وما ألف أصلاً بالتركية حول هذا الدين).(9)
3. العناية بالمساجد والجوامع من تجديد وترميم وبناء الجديد منها، والقيام بحملات تبرع لإحياء المساجد في العالم.
4. الاهتمام بالمواصلات لربط أجزاء الدولة العثمانية:
و قد أبدى السلطان عبد الحميد اهتماماً بالغاً بإنشاء الخطوط الحديدية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية مستهدفاً من ورائها تحقيق ثلاثة أغراض هي: ربط أجزاء الدولة المتباعدة مما ساعد على نجاح فكرة الوحدة العثمانية والجامعة الإسلامية والسيطرة الكاملة على الولايات التي تتطلب تقوية قبضة الدولة عليها. و إجبار تلك الولايات على الاندماج في الدولة والخضوع للقوانين العسكرية التي تنص على وجوب الاشتراك في الدفاع عن الخلافة بتقديم المال والرجال. و تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة في أية جبهة من الجبهات التي تتعرض للعدوان لأن مد الخطوط الحديدية ساعد على سرعة توزيع القوات العثمانية وإيصالها الى الجبهات وكانت سكك حديد الحجاز من أهم الخطوط الحديدية التي أنشأت في عهد السلطان عبد الحميد ففي سنة 1900م بدأ بتشييد خط حديدي من دمشق الى المدينة للاستعاضة به عن طريق القوافل الذي كان يستغرق من المسافرين حوالي أربعين يوماً، وطريق البحر الذي يستغرق حوالي أثنى عشر يوماً من ساحل الشام الى الحجاز. (10)
5. استمالة زعماء القبائل العربية:
و تم ذلك إنشاء مدرسة في عاصمة الخلافة، لتعليم أولاد رؤساء العشائر والقبائل، وتدريبهم على الإدارة. أنشأ السلطان عبد الحميد في استنبول ، باعتبارها مقر الخلافة ومركز السلطنة (مدرسة العشائر العربية) من أجل تعليم وإعداد أولاً العشائر العربية، من ولايات حلب، وسورية ، وبغداد، والبصرة، والموصل، وديار بكر، وطرابلس الغرب واليمن، والحجاز، وبنغازي والقدس، ودير الزور. وكانت مدة الدراسة في مدرسة العشائر العربية في استنبول خمس سنوات، وهي داخلية، تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب، ولكل طالب "إجازة صلة الرحم" وهي إجازة مرة كل سنتين. وسفر الطالب فيها على نفقة الدولة.(11)
6. استمالة شيوخ الطرق الصوفية:
و استخدام تنظيماتهم الباطنية المتغلغلة في الدولة و لذلك فقد اتخذ من الزهاد من المتصوفة وسيلة أيضا للدعوة لفكر التجمع الإسلامي ، وتكونت في عاصمة الخلافة لجنة مركزية ، مكونة من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية حيث عملوا مستشارين للسلطان في شؤون الجامعة الإسلامية: الشيخ (أحمد أسعد) وكيل الفراشة الشريفة في الحجاز، والشيخ (أبو الهدى الصيادي) شيخ الطريقة الرفاعية، والشيخ (محمد ظافر الطرابلسي) شيخ الطريقة المدنية، والشيخ -رحمه الله- أحد علماء الحرم المكي، كانوا أبرز أعضاء هذه اللجنة المركزية للجامعة الإسلامية، وكان معهم غيرهم، وكانت الدولة العثمانية تنتشر فيها هيئات فرعية في كافة الأقاليم خاضعة لهذه اللجنة.
وبلغ من نفوذ هذه الحركة وهيبتها: أن وصفتها إدارة المخابرات الفرنسية في شمال أفريقيا بقولها: (ويمكن للسلطان عبد الحميد -بصفته رئيساً للجامعة الإسلامية- أن يجمع من خلال ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدينية في شمال أفريقيا- جيشاً محلياً منظماً، يتمكن -إذا لزم الأمر- أن يقاوم به أي قوة أجنبية).(12)
7. الاستفادة من الصحافة الإسلامية في الدعاية للجامعة الإسلامية، واتخاذ بعض الصحف وسيلة للدعاية لهذه الجامعة.
8. العمل على تطوير النهضة العلمية والتقنية في الدولة العثمانية، وتحديث الدولة فيما هو ضروري.
نتائج الدعوة للجامعة الإسلامية
إن فكرة الجامعة الإسلامية كان لها صدى بعيد في العالم الإسلامي لعدة أسباب منها:
1. كانت الدول الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتنافس على الاستعمار في الشرق وحدث سلسلة اعتداءات على الشعوب الإسلامية فاحتلت فرنسا تونس (1881م) واحتلت إنكلترا مصر (1882م)، وتدخلت فرنسا في شؤون مراكش حتى استطاعت أن تعلن عليها الحماية (1912م) مقتسمة أراضيها مع أسبانيا وكذلك توغل الاستعمار الأوروبي في بلاد أفريقية إسلامية كالسودان ونيجريا وزنجبار وغيرها.
2. تقدمت وسائل النقل والاتصالات بين العالم الإسلامي وانتشرت الحركة الصحافية في مصر وتركيا والجزائر والهند وفارس وأواسط آسيا و جاوة (اندونيسيا) وكانت الصحف تعالج موضوع الاستعمار وأطماع الدول الأوروبية في العالم الإسلامي وتنشر أخبار الأوروبيين المتكررة في الهجوم على ديار الإسلام، فتتأثر القلوب ، وتهيج النفوس، وتتفاعل مشاعر وعواطف المسلمين مع إخوانهم المنكوبين.
3. كانت جهود العلماء ودعواتهم في وجوب إحياء مجد الإسلام فقد انتشرت في ربوع العالم الإسلامي الدعوة الى وحدة الصف وازداد الشعور بأن العدوان، الغربي بغير انقطاع على الشعوب الإسلامية مما يزيدها ارتباطاً وتماسكاً وبأن الوقت قد حان لتلتحم الشعوب الإسلامية وتنضوي تحت راية الخلافة العثمانية وغير ذلك من الأسباب.(13)
و الخلاصة فإن السلطان عبد الحميد الثاني بسياسته لإحياء فكرة الجامعة الإسلامية فقد نجح في إحياء شعور المسلمين بأهمية التمسك والسعي لتوحيد صفوف الأمة تحت راية الخلافة العثمانية وبذلك استطاع مؤقتا أن يوقف نزيف الدولة العثمانية إلا أننا نرى أن هذه المحاولات جاءت متأخرة كثيرا فلم تستطع مقاومة الاختراق الماسوني الداخلي و لا مكائد الدول الاستعمارية العظمى, و ربما لو بدأت قرنا واحدا مبكرا عن ذلك لنجحت نجاحا مبهراً.
تم بحمد الله
الهوامش و المصادر
1. انظر: مذكرات السلطان عبد الحميد ، ص23.
2. المصدر السابق نفسه، ص24.
3. بتصرف من الدولة العثمانية أسباب السقوط والنهوض للصلابى , الفصل السادس المبحث الثاني.
4. انظر: السلطان عبد الحميد الثاني، ص169.
5. المصدر السابق نفسه، ص169
6. انظر: صحوة الرجل المريض، ص114.
7. انظر: السلطان عبد الحميد الثاني، ص172.
8. المصدر نفسه
9. انظر: واقعنا المعاصر، ص153.
10. الدولة العثمانية للصلابي نقلا عن صحوة الرجل المريض، د. موفق بني المرجَة، ص113.
11. انظر: السلطان عبد الحميد الثاني، ص172.
12. بتصرف من انظر: السلطان عبد الحميد الثاني، ص196.
13. الدولة العثمانية للصلابي نقلا عن صحوة الرجل المريض، ص112.



hgsg'hk uf] hgpld] , sdhsm hg[hlum hgYsghldm