صراع محمد علي مع الدولة العثمانية:
مقارنة بين إصلاحات محمود الثاني و محمد علي
بقلم: د ايمن زغروت الحسيني
يعد كلٌ من السلطان محمود الثاني العثماني و محمد علي باشا والي مصر من أصحاب النهضات الحضارية في دولتيهما , و قد جمعتهما قواسم و منطلقات مشتركة محركة لنهضتيهما كما انه توجد اختلافات جوهرية في الأهداف و الوسائل.
منطلقات مختلفة
خطط محمود الثاني لتجديد ملك بني عثمان, بنهضة عامة لبلاده في شتى المجالات , توقف انحدارها نحو السقوط و الانحلال, و تصد مكائد التقسيم و الأطماع الاستعمارية ضد بلاده.
أما محمد علي فقد احتاج إلى بناء دولة ذات بنية تحتية عصرية لمصر تدعم استقلاليته و تحقق طموحاته في حكم مصر هو و ذريته من بعده.
الإصلاحيان و صعوبة الانطلاق في الإصلاحات العسكرية
الإصلاح العسكري لمحمود الثاني:
واجهت السلطان محمود الثاني صعوبة شديدة في بدايات حكمه فقد ثارت الانكشارية على عمه السلطان سليم الثالث عندما قرر أن يؤسس جيشا حديثا على النمط الأوروبي و قاموا بعزله, فلما تولى محمود الثاني السلطنة اضطر إلى الانحناء في البداية أمام رغبات الانكشارية، فأمر بإلغاء كل الإصلاحات حتى يرضيهم الى أن تحين الفرصة لتطبيق وتنفيذ خطط الإصلاح. وكان محمود يتذرع بالصبر انتظاراً لساعة الخلاص من الانكشارية الذين هددوا كيان الدولة العثمانية ولكن الفرصة لم تتح له قبل مرور عدة سنوات، خاصة وأن عهده قد أمتلئ بالحروب والتطورات الهامة التي استنزفت معظم جهوده وكافة إمكانياته(1).
رأى السلطان محمود الثاني ان المشكلة الرئيسية للدولة هي تسلط الانكشارية و تدخلهم في الحكم ,فجمع السلطان مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضباط الانكشارية في بيت المفتي، وقام الصدر الأعظم سليم أحمد باشا خطيباً فبين الحالة التي وصلت إليها الانكشارية من الضعف والانحطاط وبين ضرورة إدخال النظم العسكرية الحديثة، فأقتنع الحاضرون ثم أفتى المفتي بجواز العمل للقضاء على المتمردين. وقد أعلن الموافقة كل من حضر من ضباط الانكشارية من حيث الظاهر وأبطنوا خلاف ذلك ولما شعروا بقرب ضياع امتيازاتهم وبوضع حداً لتصرفاتهم أخذوا يستعدون للثورة واستجاب لهم بعض العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعض الانكشاريين بالتحرش بالجنود أثناء أدائهم تدريباتهم ثم بدأوا في عصيانهم فجمع السلطان العلماء وأخبرهم بنية المتمردين فشجعوه على استئصالهم فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعد لقتالهم ملوحاً باللين والتساهل في الوقت نفسه خوفاً من تزايد لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقدم السلطان ووراءه جنود المدفعية وتبعهم العلماء والطلبة الى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاة هناك يثيرون الشغب وقيل إن السلطان سار معه شيخ الاسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الاعظم سليم باشا أمام الجموع التي كانت تزيد على 60.000 نفس ثم أحاطت المدفعية بالميدان واحتلت المرتفعات ووجهت قذائفها على الانكشارية فحاولوا الهجوم على المدافع ولكنها صبت حممها فوق رؤوسهم فأحتموا بثكناتهم هروباً من الموت، فأحرقت وهدمت فوقهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسوم سلطاني قضى بإلغاء فئتهم وملابسهم واصطلاحاتهم واسمهم من جميع بلاد الدولة وإعدام من بقي منهم هارباً الى الولايات أو نفيه، ثم قلد حسين باشا الذي كانت له اليد الطولى في إبادتهم قائداً عاماً (سرعسكر) وبدأ بعدها نظام الجيش الجديد( 2).
ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حراً في تطوير جيشه، فترسم خطى الحضارة الغربية فأستبدل الطربوش الرومي بالعمامة ، وتزيا بالزي الأوروبي ، وأمر أن يكون هو الزي الرسمي لكل موظفي الدولة العسكريين منهم والمدنيين، وأسس وساماً دعاه وسام الافتخار(3 ) فكان أول من فعل ذلك من سلاطين آل عثمان(4 ).
الإصلاح العسكري لمحمد علي:
واجهت أيضا محمد علي عدة صعوبات في بدايات حكمه كان لابد له من التغلب عليها كي يصفو له حكم البلاد ليستطيع تطبيق أفكاره النهضوية, فقام بتثبيت حكمه بتفاهم مالي مع السلطان العثماني بدفع مبلغ سنوي مجزي, و قام بمذبحة المماليك للتخلص من كياناتهم العسكرية المتسلطة على البلاد, ثم قام بالتخلص من القيادات الشعبية و الدينية التي لا تسلم له القياد كالسيد عمر مكرم و الشيخ الشرقاوي و الشيخ السادات.
و في جانب محمد علي فقد استقدم عددا من العسكريين الفرنسيين الذين أسسوا له أسطولا بحريا قويا و ترسانة لصناعة السفن , بالإضافة إلى تأسيس جيش نظامي مصري و إنشاء مدارس للمدفعية و للحربية لتخريج ضباط ذوي خبرة و دراية, و نستطيع القول أن محمد علي لم يجد صعوبة في تأسيس جيشه الجديد لأنه لم يكن هناك جيش قبله, كما انه كان قد قضى على المماليك قبلها بأعوام.
الإصلاح في مجال التعليم
اشترك المصلحان في استهداف المنظومة التعليمية بالتحديث و التطوير عُنِي محمود الثاني بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الابتدائية المسماة "صبيان مكتبي" لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، والمدارس الثانوية "مكتب رشدية" لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد، كما أنشئت مدارس تُعِدّ طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها.
اعتنى محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان مصطفى الرابع لتخريج المترجمين، وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة. أكثر محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، وكلف سفيره في باريس "أحمد باشا" بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم.
ومنها أيضا اهتمامه بالمكتبات حيث قام بتجديد المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.(5)
اما محمد علي , أدرك محمد علي أنه لكي تنهض دولته، يجب عليه أن يؤسس منظومة تعليمية، تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي. لذا فقد بدأ محمد علي بإرسال طائفة من الطلبة الأزهريين إلى أوروبا للدراسة في مجالات عدة، ليكونوا النواة لبدأ تلك النهضة العلمية. كما أسس المدارس الابتدائية والعليا، لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة. (6)
إصلاحات أخرى
حاول السلطان محمود الثاني إصلاح أجهزة الدولة المركزية بالطريقة الأوروبية ، فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الأوقاف الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.
شهد عصر السلطان محمود نشاطا في حركة التعمير، وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال، فأنشأ في سنة (1241 هـ = 1825م) "جامع نصرت" أي جامع النصر في إستانبول، وأعاد تعمير مسجد "آيا صوفيا" وغيره من مساجد العاصمة.
عمل حتى على إصلاح الملابس ، حيث استحدث لباسا يشبه اللباس الأوروبي و استبدل العمامة بالطربوش الذي كان يرتديه الرعايا العثمانيون في ولايات الأفلاق و البغدان ( قبعة رومانية) ، وأجبر موظفي الحكومة المدنيين و العسكريين على ارتداء اللباس الجديد في أماكن عملهم.
قام بزيارة الولايات الأوروبية للوقوف على حالها و أخذ على عاتقه تحديث الدولة العلية لتجاري الدول الكبرى من جديد.(7)
أما في جانب محمد علي , فلكي يحقق الاستقلال السياسي، كان في حاجة إلى إنماء ثروة البلاد وتقوية مركزها المالي، لذا عمد إلى تنشيط النواحي الاقتصادية لمصر، واستخدم لتحقيق ذلك عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين عملوا في تلك المجالات بالسخرة. (8)
- بني محمد علي قاعدة صناعية لمصر، وكانت دوافعه للقيام بذلك في المقام الأول توفير احتياجات الجيش، فأنشأ عددًا من مصانع الغزل والنسيج ومصنع للجوخ في بولاق ومصنع للحبال اللازمة للسفن الحربية والتجارية ومصنع للأقمشة الحريرية وآخر للصوف وثالث لنسيج الكتان ومصنع الطرابيش بفوه، إضافة إلى معمل سبك الحديد ببولاق ومصنع ألواح النحاس التي كانت تبطن بها السفن، ومعامل لإنتاج السكر، ومصانع النيلة والصابون ودباغة الجلود برشيد ومصنع للزجاج والصيني ومصنع للشمع ومعاصر للزيوت. كما كان لإنشاء الترسانة البحرية دورًا كبيرًا في صناعة السفن التجارية.(9)
- اهتم محمد علي بالزراعة، فاعتنى بالريّ وشق العديد من الترع وشيّد الجسور والقناطر. كما وسّع نطاق الزراعة، فخصص نحو 3,000 فدان لزراعة التوت للاستفادة منه في إنتاج الحرير الطبيعي، والزيتون لإنتاج الزيوت، كما غرس الأشجار لتلبية احتياجات بناء السفن وأعمال العمران. وفي عام 1821، أدخل زراعة صنف جديد من القطن يصلح لصناعة الملابس، بعد أن كان الصنف الشائع لا يصلح إلا للاستخدام في التنجيد.(10)
الهوامش
1. انظر: الدولة العثمانية ، د. إسماعيل ياغي، ص127،128.
2. انظر: تاريخ الدولة العثمانية، د.علي حسون ،ص169.
3. انظر: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية، عبدالله بن حمد، ص73.
4. انظر: تاريخ الدولة العثمانية ، د.علي حسون ،ص169.
5. حركة الإصلاح العثماني- دار التراث- القاهرة 1398هـ=1978م.
6. عبد الرحمن الرافعي تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي. مكتبة الأسرة ص 401-490
7. حركة الإصلاح العثماني- دار التراث- القاهرة 1398هـ=1978م.
8. الجيش المصري في عهد محمد علي باشا الكبير
9. نفس المصدر السابق
10. عبد الرحمن الرافعي "أعمال العمران والحالة الاقتصادية". تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي. مكتبة الأسرة. القاهرة: مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 491-517



Ywghphj lpl,] hgehkd , lpl] ugd hfhk hgwvhu fdkilh