النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي

حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي الطبعة : الطبعة الاولى المؤلف : سميح عاطف الزين فئة الكتاب : فكر معاصر عدد الصفحات : ١١٢ تاريخ النشر : ١٩٨٥ الفصل الأول:

  1. #1

    افتراضي حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي

    حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي
    الطبعة : الطبعة الاولى
    المؤلف : سميح عاطف الزين
    فئة الكتاب : فكر معاصر
    عدد الصفحات : ١١٢
    تاريخ النشر : ١٩٨٥

    الفصل الأول: مَعنى حَركة التَاريخ
    ما الحركة؟
    ــــــ إنها ضد السكون. وقد أعطاها القدماء تعريفات عدة... ومن هذه التعريفات أن «الحركة هي شغل الشيء حيّزًا بعد أن كان في حيّز آخر. أو هي كونان في آنين ومكانين، بخلاف السكون الذي هو كونان في آنين ومكان واحد».
    والحركة عند القدماء على أقسام، منها:
    ــــــ الحركة في الكم، أي انتقال الجسم من كمية إلى أخرى كالنمو والذبول.
    ـــــــ الحركة في الكيف، أي انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى كتسخّن الماء وتبرّده.
    ـــــــ الحركة في الـــــــ «أين»، أي انتقال الجسم من مكان إلى آخر، وتسمى نقلة. والمتكلمون حين كانوا يطلقون لفظ الحركة، كانوا يعنون به «الحركة الأينية» فقط.
    ـــــــ الحركة في الوضع، وهي الحركة المستديرة التي ينتقل بها الجسم من وضع إلى آخر، كما في حركة حجر الرَّحى، أو حركة الكرة في مكانها أو في مدارها.
    أما في التعريف الحديث فإن الحركة تطلق على التغيّر المتصل الذي يطرأ على جميع الأجسام والأوضاع في المكان، وتبعيَّتها للزمان، فلا يشغل الجسم المتحرك مكانين في زمان واحد، وهو يتحرك بسرعة معيّنة تكون عادة النسبة بين المسافة التي يقطعها والزمان اللازم لقطعها.
    والحركة أيضًا تطلق، مجازًا، على حركة النفس في الانفعالات والميول. فالشهوات والكراهية، والتَّقرُّبُ والنُّفور مثلًا هي حركات للنفس، لا من حيث تأثيرها في انتقال النفس من مكان إلى آخر كما ينتقل الجسم، بل من حيث تأثيرها في اتحاد النفس بالأشياء أو انفصالها عنها... وقد يطلق لفظ الحركة في مجال النفس على التصورات. ومن قبيل ذلك الحركة الجدلية التي هي انتقال الذهن من تصور إلى آخر بحسب المشاركة، أو التضمّن، أو التقابل...
    هذه بعض مدلولات الحركة، فما التاريخ؟
    التاريخ في اللغة يعني: تعريف الوقت. وتاريخ الشيء: وقته وغايته.
    أما التاريخ ـــــــ في الاصطلاح ـــــــ فهو العلم الذي يبحث في الوقائع والأحداث الماضية... وهنا قد يقتصر دور بعض المؤرخين على ذكر أو سرد الوقائع والأخبار من دون ذكر أسبابها. وقد يقوم بعضهم بتمحيص الأخبار وتعليل الوقائع. فإذا كان همّ المؤرخ تمحيص الأخبار ونقد الوثائق وتفنيد الحوادث كان تاريخه انتقاديًّا... وإذا استخرج من الأحوال الماضية عبرًا كان تاريخه أخلاقيًّا... وإذا انصرفت عنايته إلى أخبار الدول وعلاقاتها بعضها ببعض كان تاريخه سياسيًّا... وإذا عمد إلى تعليل الوقائع لمعرفة كيفية حدوثها، وأسباب نشوئها، كان تاريخه فلسفيًّا...
    وعلى الرغم من هذا التعدّد في أنواع العلم التاريخي فإنّ الحدث التاريخي، مهما كان نوعه، لا يمكن أن تصنعه قوة واحدة، ولا أن يصدر عن طرف واحد، لأن أيّ حركة تاريخية يجب أن تكون نتاجًا مشتركًا بين أوامر الله تعالى ومباشرة الإنسان للعمل بعد تفهمه للسنن الكونية التي سنّها الله سبحانه وتعالى بما فيها الزمن. وإن إغفال أي من هذه العناصر الأساسية إنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركة التاريخ.
    والتاريخ في حقيقته ليس إلَّا ما دل على آثار الإنسان، كفردٍ أو كأمة، إما على شكل مآثر أو على شكل مساوئ. كما أن المأثرة أو السيئة ليست إلّا ما حفل به عمل الفرد أو الأمة أو الجنس البشري على طول امتداد وجوده الأرضي، فكانت من جراء ذلك تلك الحركة المتواصلة في كل شيء...
    والقرآن الكريم يتناول الحركة الدائمة للإنسان والنتائج المترتبة عليها، سواء صدرت عن الفرد أو عن الجماعة. ويعبِّر عن ذلك بكلمة واحدة هي: «الكتاب» كما في قوله تعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (سورة الإسراء: الآية 14)، وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (سورة الكهف: الآية 49).
    وسواء الآية الأولى التي تدلُّ على ثمرة العمل الفردي الواحد، أو الآية الثانية التي تدل على ثمرة العمل الجماعي، فكلتاهما تتعلقان بالإنسان، وبأفعال الإنسان. وهذه الأفعال، وما ينجم عنها من آثار وما يتصل بها، هي التي يتكوَّن منها تاريخ البشرية. فيكون الإنسان قد شارك مشاركة فعلية وفاعلة في إنشاء حركة التاريخ ومسارها... بل هناك ما هو أبعد من ذلك، إذ نجد أن كل نشاط البشر وأعمالهم، وجهدهم وجزائهم، وكسبهم وحسابهم (التي تمثل في مجموعها وجوهًا متعددة لحركة التاريخ) مرتبطة كلها أشد الارتباط بالنواميس الكونية الكبرى، ومحكومة لها في مجالات كثيرة، كما في حالة النواميس التي تحكم حركة الشمس والقمر، والليل والنهار، أو كما في حالة النبتة التي تتحرَّك وتتفاعل بتأثير الهواء والماء والتراب وغيرها من العوامل الأخرى للحياة... فهذه النواميس الكونية التي ترتبط بها أفعال الإنسان، قد أوتيت أنظمة دقيقة جعلتها قائمة على قواعد وسنن تحكمها إرادة الخالق لأنه الصانع العظيم والمدبر الحكيم. وقد سارت أمور هذا الكون على ذلك النظام الذي وضع لها، والذي لا يصيبه الخلل ولا يدركه العطل، كما أنّ حركة التاريخ قد انضوت إلى مسار هذا النظام أو ذاك لتعبِّر عن أفعال الإنسان في مختلف مجالات وجوده...


    الحركة والخاصيّة:
    إن القانون الذي سنَّهُ اللهُ تعالى، يبقى هو الإطار العام للأشياء التي يحكمها، في حين أن كل شيء من هذه الأشياء يتحرك وفقًا للخاصيَّة التي أوجدها الله تعالى فيه، كون الخاصية هي ما ينتجه الشيء نفسه، وأن كل شيء يجب أن تكون له خاصيته. ومن هنا، مثلًا، كانت خاصية العين أن تنتج الرؤية، وخاصية الأذن أن تنتج السمع، وخاصية النار أن تنتج الإحراق، وخاصية النور أن تبدّد الظلمة {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (سورة الإسراء: الآية 12).
    إذن فالخاصيات لا يمكن أن تتحقق إلَّا بقوانين. وهذه القوانين ليست من صنع الإنسان، بل هي قوانين سنَّها الله سبحانه ولا مبدّل لها إلَّا بأمره. فعندما شاء الله سبحانه أن يسلب النار خاصيتها جعلها بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، وعندما شاء الله، أن يردّ للعين خاصيتها أعاد يعقوب عليه السلام مبصرًا لمـــّــــا أُلقي على وجهه قميص يوسف عليه السلام. وهكذا بالنسبة إلى جميع القوانين التي هي في حقيقتها من سنن الله تعالى: لا مبدِّل لها، ولا محوِّل لها عن مسارها إلَّا أن يشاء الله. وبذلك اقتضى أن تكون كل حركة تاريخية محكومة بمشيئة الله تعالى أولًا، وبمباشرة الإنسان للعمل ثانيًا مع خضوع هذه المباشرة لتلك القوانين التي سنها الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة سواء في الكون بأسره أو في الوجود البشري برمّته.
    وإن مهمّة الإنسان تقتصر على مباشرة العمل، وأن يجمع في هذه المباشرة كلَّ أسباب النجاح وشروطه، مراعيًا السنن التي قدّرها الله سبحانه لإنجاح هذا العمل. أمّا النجاح نفسه، أي الثمرة المرجوّة من هذا العمل، فلا يستطيع الإنسان أن يضمن الحصول عليها لأنها من تقدير الله عزّ وعلا. إن الفلاح الذي يلقي البذور في الأرض قد عرف بعض سنن الكون من حوله وفهم حركتها وتأثيرها، فتراه يختار وقتًا معيّنًا مؤاتيًا للقيام بعمله. إلّا إن الله وحده هو الذي ينبتُ الزرع ويتعهّده بالنماء والخصب، ولو شاء سبحانه لما نبت زرعُ ولا أينع... قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (سورة النمل: الآية 60).
    النظرة القرآنية لحركة التاريخ:
    إن القرآن الكريم يُعدّ التاريخ وحدة زمنية لا ينفصل فيها الماضي عن الحاضر أو المستقبل. فالانتقال السريع، في عرض القرآن، بين الماضي والمستقبل، أو بين الحاضر والماضي، أو بين المستقبل والحاضر، إنما يوضّح حرص القرآن على إزالة الحدود التي تفصل بين الزمن كونه وحدة حيوية متصلة، فتغدو حركة التاريخ التي يتسع لها الكون، حركةً واحدة تبدأ يوم خلق الله السماوات والأرض وتستمرُّ متجهةً إلى يوم الحساب.
    لذلك ومن خلال القرآن الكريم بالذات يمكن أن تُعدّ حركة التاريخ بأنها تعبير عن إرادة الله تعالى. وهي منبثقة عن قدرته المطلقة، وعلمه اللامتناهي الذي وسع كلَّ شيء، وعن أوامره التي تصنع الوقائع التاريخية وتضعها في مكانها المرسوم من خارطة التاريخ البشري والكوني على السواء. ومن هنا كانت نظرة القرآن إلى الأحداث نظرة واقعية شاملة في امتداداتها الزمنية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، أي فيما كانت عليه، وما هي عليه، وما سوف تكون عليه...
    وتكتسب حركة التاريخ أهميتها في القرآن الكريم ليس بإحاطتها لوقائع التاريخ بأبعادها الزمنية فحسب، بل ببعدها الذي يغور في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ثم يمتد إلى نموِّ مداركه وقوة أحاسيسه، وإرادته المسبقة، وما تؤول إليه هذه جميعًا من معطيات حتى تعطي حركة التاريخ أبعادها الحقيقية وتجعلها منصهرة في العلاقات الشاملة مع المصير المرسوم للكون والحياة والإنسان.
    وإذا كان القرآن الكريم يعبّر عن السنن التي تسيّر عملية التاريخ، فما على الإنسان إلا أن يعي تلك السنن حتى يدرك ماهية حركة التاريخ، ويفيد منها ليكون له دوره الفاعل والمؤثر تعبيرًا عن وجوده الإنساني.
    الساحة التاريخية:
    من هنا يمكن القول بأن سنن التاريخ هي تلك الضوابط أو القوانين التي تتحكم في عملية التاريخ، وتنشئ ما يُسمى بالساحة التاريخية التي تكون لها ضوابطها وقوانينها مثل سائر الساحات الكونية الأخرى: الفيزيائية والكيميائية والفلكية والحيوانية والنباتية إلخ...
    والمقصود بالساحة التاريخية تلك الساحة التي تحتوي على جميع الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها في كتبهم. ولكن هل إن كل الحوادث والقضايا التي يرصدها أو يسجلها المؤرخون والتي تكون داخلة عادة في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، محكومة بالسنن التاريخية ذات الطابع النوعي المتميز من سنن بقية حدود الكون والطبيعة، أو أن جزءًا معينًا من تلك الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟
    في الواقع نرى أن جزءًا معينًا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ، لأن هنالك حوادث لا تخضع لتلك السنن، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيولوجية أو الفيزيائية أو قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى عائدة إلى مختلف الساحات الكونية الأخرى.
    فمثلًا: موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وموت خديجة أم المؤمنين، في سنة واحدة معينة، يشكلان حادثة مهمة في التاريخ الإسلامي، وتدخل في نطاق ضبط المؤرخين. وعلى الرغم من ذلك فإنها كانت محكومة بقوانين الحياة التي فرضت الموت بسبب العجز أو التقدم في السنِّ، أي إن موتهما كان محكومًا بقوانين فيزيولوجية، هي في الأصل من صنع الله تعالى، ولم يكن قطّ محكومًا بسنّة تاريخية من السنن التي تنشئ الساحات التاريخية.
    وبخلاف ذلك حادثة موت علي بن أبي طالب ـــــــ كرَّم الله وجهه ـــــــ على يد اللعين ابن ملجم الذي أقدم على ضربه بالسيف وهو يؤدي صلاة الصبح في مسجد الكوفة... فبمقتل الخليفة الإمام عليّ، الذي كان قد خرج لوأد الفتنة وجمع شمل المسلمين، استشرت هذه الفتنة، واستفحل أمرها، مما أثر تأثيرًا كبيرًا في مجرى التاريخ الإسلامي. وبسبب هذه الفتنة دبّ التفسخ في صفوف المسلمين، وعمّت إساءة التطبيق لأحكام الإسلام. بل إن آثارها ظلّت تتفاعل حتى أوصلت المسلمين إلى أن يفترقوا شيعًا فظهرت فرق إسلامية كثيرة قد تكون هي الفرق التي عناها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة». قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»...
    من أجل ذلك كله فإن حادثة اغتيال علي بن أبي طالب عليه السلام تُعدّ محكومة بسنّة من سنن التاريخ، لأنها نجمت مباشرة عن فعل الإنسان، وكان لها تأثيرها في مسار الأمة الإسلامية.
    وهذا لا يعني أن الحادثة التاريخية ليس لها تأثير. فقد يكون تأثيرها كبيرًا جدًّا إذا كانت ذات أهميةٍ كبيرة. وقد لا تكون في عداد ضبط المؤرخين نظرًا إلى عدم أهميتها، سلبًا كانت أو إيجابًا، على إنسانٍ فردٍ وقعت أو على مجموعة أُناس عاشوا مراحلها.


    القرآن الكريم حدَّد الإطار العام لسنن التاريخ:
    التاريخُ، كما أشرنا، علمٌ مثلُ سائر العلوم، وله قوانينه الخاصةُ به.
    والقرآن الكريم عندما يعالجُ حركةَ التاريخ، فإنه يبيّن لنا السننَ التاريخيةَ التي تعالج قضايا الإنسان وارتباطه بالحياة والكون. فهو إذًا ليس كتاب علم، بل كتابٌ أنزله الله تعالى على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإثباتِ قضايا ثلاثٍ رئيسية هي: حاكميةٌ الله تعالى في الكون، ومنه الأرضُ وإنسانُها، وشريعتُه ومنهجُه الإلهيان. وهدفه أن يبحثَ هذه القضايا على حقيقتها وأن يثبتَها في نفوس الناس، وأن يزيلَ كلَّ المعتقدات والمفاهيم البالية التي تشوّه تلك القضايا أو تبعدها عن حقيقتها. فهو إذًا كتابٌ أُنزل ليُخرجَ الناسَ من ظلمات الجاهليات القديمة، والغشاءات أو المعميات الحديثة، إلى نور الهداية والحقيقة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (سورة البقرة: الآية 2). وبذلك فإن القرآنَ الكريمَ هو كتابُ هدايةٍ وتغييرٍ وليس كتابَ علومٍ واكتشافاتٍ واختراعات. وقد وردت فيه إشاراتٌ ومدلولاتٌ لحقائقَ في الميادينِ العلميةِ لا تعدّ ولا تحصى، لتضعَ أمام العقل البشري سبلَ الجهد والعمل، فيُعمل مواهبه وطاقاته في كل ميادين الحياة، وخصوصًا في ميادين العلم والمعرفة والتجربة. فهو إذًا طاقةٌ روحيةٌ موجِّهةٌ للإنسان، مفجِّرةٌ لقدراته، محركةٌ له في المسار الصحيح. من هنا تُعدّ السننُ التاريخيةُ أمرًا مرتبطًا أشدَّ الارتباط بوظيفة القرآن ككتابِ هدايةٍ وتغيير، بخلاف السنن الكونية الأخرى التي تتضمنها مختلف الساحاتِ الكونيةِ والتي يجب أن يعرفها الإنسان ليدركَ قدرةَ الله تعالى في خلقه، وعظمةَ هذا الخلق ودقة ضبطه وإحكامه.
    عمليّة التغيير وجوانبها:
    لعملية التغيير التي يريدها القرآن الكريم جانبان:
    الجانب الأول: هو الجانبُ الإلهيُّ الربانيُّ. وهو جانبُ المحتوى والمضمون من حيثُ الأحكامُ والمناهجُ والتشريعات. وهذا الجانب يمثلُ العقيدةَ التي نزلت على جميع المرسلين والنبيين. وقد تمثلت في مختلف الشرائع الإلهية التي نزل آخرها على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهي الشريعة التي تصلح لمختلف الأزمان والعصور ومختلف البيئات والمجتمعات البشرية، لأنها أكبرُ من المحيط الذي نزلت فيه، ومن البيئة التي ظهرت فيها.
    الجانب الثاني: هو الجانبُ البشريّ. بمعنى أن عملية التغيير التي تقع على الساحة التاريخية إنما تكون بالجهد البشريّ، ويكون القائمون بها أناسًا مثلَ سائر الناس، تتحكم فيهم إلى درجةٍ كبيرةٍ سنن التاريخ التي تتحكم في مختلف الجماعات والفئات على مر الزمن. وهكذا فإن عملية التغيير التي قام بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصحابتُهُ الأبرارُ تجسدت في تلك الجماعة من الناس التي أرادت التغيير وعملت له. ودخلت في صراعٍ عقائديٍّ وسياسيٍّ وعسكريٍّ واقتصاديٍّ مع مختلف التيارات التي حاولت منع إحداث هذا التغيير.
    إذًا فعملية التغيير التي يتضمنها ويريدها القرآنُ الكريمُ من حيث صلتها بالوحي والشريعة هي فوق التاريخ. وأما من حيث كونها عملًا بشريًّا مارسه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعُهُ فإنها تُعدّ عملًا تاريخيًّا تحكمه سننُ التاريخ، وتتحكم فيه الضوابطُ التي وضعها الله تعالى لتنظيم مختلف الظواهر في الساحة المسماة بالساحة التاريخية. ولهذا نرى أن القرآنَ الكريمَ عندما يتحدث عن الجانب الثاني من عملية التغيير، أي الجانب الإنسانيّ، عن أناس تتحكم بهم السنن كما تتحكم بغيرهم من الناس. ففي روايته لمعركة أُحُد يبين خسارة المسلمين أمام أعدائهم في تلك المعركة، ولم يقل بأن رسالة السماءِ هي التي خسرت، لأن رسالةَ السماء، وفقًا لمقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ، لا تعزم، لكن الإنسان هو الذي يهزم، حتى ولو كان مجسِّدًا وحاملًا لرسالة السماء، لأن هذا الإنسان تتحكم فيه سنن التاريخ، وعليه أن يعيَ هذه السنن حتى يستخدمها في قضيته، وتكونَ النتيجة لصالحه...
    ويذهب القرآن الكريم في معرض تلك الأمور إلى أبعدَ من ذلك، فهو يحذّر وينبّه أولئك المسلمين بأنهم إن لم يقوموا بدورهم التاريخيّ، ويتحملوا المسؤولية التي أناطها الله تعالى بهم، فإن هذا لا يعني أن تتعطلَ رسالةُ السماء، ولا يعني أن تسكت عنهم حركة التاريخ، بل إن حركة التاريخ سوف تستبدلهم ـــــــ بإذن ربها ـــــــ وتأتي بأقوام آخرين لكي يؤدوا هذا الدور المطلوب. يقول الله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة التوبة: الآية 39). ويقولُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة: الآية 54).
    ولقد كان المسلمون الأوائل، والحمد لله، على قدر المسؤولية، تفضَّل اللهُ تعالى عليهم فهدى بصائرهم إلى إدراك سنن التاريخ فاستخدموها لصالح نشر دينهم وإعلاء كلمة الله، ويسّر اللهُ أمورهم بتوفيقه فبذلوا كلَّ طاقاتهم وجهودهم من أجل تلك الأهداف العليا التي نذروا أنفسهم لتحقيقها.
    ولقد أوجد القرآن الكريم إطارًا عامًّا لسنن التاريخ. وأيُّ بحثٍ في هذه السنن يجب أن يكون مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بهذا الكتاب بصفته كتاب هدى للناس، يتضمَّن التوجيه والإرشاد والتبصّر الموضوعي للأحداث والظروف والشروط التي يجب توافرها لإعمال سنن التاريخ وتفعيلها. ولذلك نجد أن الساحة التاريخية في القرآن الكريم عامرةٌ بالسنن كما هي الحال بالنسبة إلى كل الساحات الكونية الأخرى. وهذه الحقيقة واضحة في القرآن الكريم وقد أوردها بأشكالٍ وأساليبَ متنوعةٍ في عدد من الآيات التي بيّنت أن للتاريخ سننه وقوانينه، كما عرضت تلك الآيات أمثلةً عن هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان وذلك عندما مزجت بين المفهوم الكليّ لسنن التاريخ، والحث على الاستفادة من الأحداث الماضية، وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتاريخ وللأحداث. وإن عملية الاستقراء هذه عملية علمية بطبيعتها لأنها تبحث عن سنّة أو عن قانون، وإلَّا فلا معنى للاستقراء إن لم تكن غايتُهُ الوصولَ إلى سنّةٍ أو قانون.
    وسوف نورد بعض الآيات القرآنية ـــــــ كشواهد ـــــــ على أن الساحةَ التاريخيةَ لها سننٌ وضوابطُ مثل سائر الساحات الكونية الأخرى.
    سنّةُ التاريخ تسري أيضًا على المسلمين:
    يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (سورة البقرة: الآية 214). في هذه الآية الكريمة يستنكر الله تعالى على المسلمين أن يعدّوا أنفسهم خارج سنة التاريخ، وأنها قد استثنتهم من الخضوع لقوانينها، وأن يتحقق لهم النصر، ويطمعوا في دخول الجنة، من دون أن يعيشوا الظروف الشاقة التي عاشتها أممٌ سابقةٌ صبرت وناضلت حتى وصلت في بعض الحالات إلى حدّ الزلزال النفساني ـــــــ على حدّ تعبير القرآن ـــــــ وكان ذلك طريقَها إلى النصر ودخول الجنة...
    بأي شيء أنتم، أيها المسلمون، تمتازون من غيركم؟!... لا تتخيلوا أن النصر حقٌّ إلهِيٌّ لكم... إنما النصر حقٌّ طبيعيٌّ لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية للحصول عليه، بحسب واقع سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى، ومنها تحمل البأس، والضرّ، والكرب، والصبر على هذا البلاء. ومتى فقدتم التحملَ والصبر والثبات فسوف تهزمون. وكيف تطلبون نصرًا من الله إن لم تتحقق لكم شروطه كاملة؟!...
    هنا قد يُطرحُ هذا السؤال: لماذا تمسِّ البأساءُ والضرّاءُ المؤمنين؟
    إنها سنّةٌ من سنن الله تعالى لاختبار إرادة المؤمنين، وكذلك لاختبار إرادة الدعاة إلى سبيل الله تعالى في كل وقت، واختبار إرادة المصلحين في الأرض، ومعرفة مدى ثباتهم وصمودهم أمام التحديات التي تواجههم. فإن كان ثَمَّةَ ثباتٌ وصمودٌ كان النصر الذي يَعِدُهُم الله تعالى به.
    سنّة الله في المترفين والمسرفين:
    ومن سنن التاريخ التي يبرزها القرآن الكريم العلاقةُ بين الأنبياء والمرسلين ـــــــ على مر التاريخ ـــــــ وبين المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات...
    يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سورة سبأ: الآيتان 34 ـــــــ 35).
    العلاقة بين رسل الله تعالى والمترفين والمسرفين تمثل سنّة من سنن التاريخ. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول بأن أثرياء كل أمة وسادتها كانوا على رأس من يتصدَّون للدعاة إلى الله تعالى. ومن الطبيعي أن تكون بينهم وبين أولئك الدعاة علاقةُ تصادمٍ وتناقض، وهي علاقة قد ثبتت في مراحل التاريخ البشري. وعندما يخبرنا القرآن الكريم عن قصص الأنبياء يُظهر بوضوحٍ تلك العلاقة التي كان فيها رؤساءُ القوم هم الذين يكذبون الرسل، ويتفاخرون عليهم بأنهم أكثر منهم ومن أتباعهم أموالًا وأولادًا وعشيرة، ويسألونهم منكرين: كيف يجوز لكم أن تدَّعوا بأن لكم منزلةً أو شأنًا أعلى منّا؟!... بل يذهب بهم الشطط إلى الظن أو التوهم بأنهم غيرُ معذبين، لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى وعقابه وعذابه... مع أنه في الحقيقة، وهذا ما يبرزه القرآن الكريم بوضوح، ما من قوم أنكروا رسالة ربهم، وكذبوا الرسولَ المبعوثَ إليهم، إلَّا كتب عليهم العذاب، ما لم يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويمنحهم جلّ وعلا عفوه عن تلك المواقف العدائية من رسالاته.
    إن وجود المترفين والمسرفين بوجه عام يؤدي إلى هلاك القوم كما يؤكد القرآن الكريم، لأنهم يمارسون الظلم والفسوق في مجتمعاتهم، ونتيجة هذا الظلم والفساد لا بد من أن تجرهم إلى الهلاك. وهكذا يجعل القرآن الكريم من وجود تلك الجماعات وتصرفاتهم وما يترتب عليها من نتيجة سنّة من سنن التاريخ، لأن العلاقة بين ظلمٍ وفسادٍ مسيطرين وعذاب وهلاك للقوم هي علاقة حتمية. قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (سورة الإسراء: الآيتان 16 ـــــــ 17).
    بالإيمان والتقوى يفتح الله بركاتِ السّماء والأرض:
    ومن السنن التاريخية التي يثبتها القرآن الكريم أن تطبيقَ شرع الله تعالى في الأرض، وإقامةَ المنهج الرباني في دنيا الناس يؤديان إلى وفرة الإنتاج وزيادة الثروة، شرط أن تكون هنالك عدالةٌ في توزيع الثروة أو الإنتاج، بلا احتكار وتلاعب وسيطرةٍ من ذوي النفوذ على مقدرات الشعب. يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف: الآية 96). ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (سورة المائدة: الآية 66). وقال تعالى على لسان رسوله نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح: الآيات 10 ـــــــ 12).
    في هذه الآيات المباركة تأكيدٌ على أن شريعة الله تعالى في دنيا الأرض إنما هي من أجل خير الإنسان. فإن طُبقت هذه الشريعةُ تطبيقًا صحيحًا وشاملًا، فإن تطبيقها يؤدي حكمًا إلى إقامة العدالة والتوازن، وتوفير سبل التكافل والتضامن بين أبناء المجتمع أو الأمة، بل بين الناس جميعًا. وهذا وجه من وجوه الخير للإنسان، لأن تطبيق شريعة الله تعالى ومنهجه له وجوه كثيرة، ونتائجه كلها لخير الإنسان ونفعه. وعندما تتحقق تلك العدالة في توزيع الثروة فإنه لا يبقى هناك محتاج أو فقير، ولا يقع الناس في ضيق العيش، بل تكثر الخيرات والبركات، وتزداد الأموال، ويعم الرخاء والازدهار. وعلى خلاف ذلك فإن التخلي عن عدالة التوزيع يخلق الفوارق الكبيرة بين أبناء المجتمع الواحد، أو بين أبناء الأمة الواحدة، أو بين الأمم والدول. فتكون أممٌ فقيرة وأخرى مترفة، وأممٌ متقدمة وأخرى متخلفة.
    وهكذا يكون التطبيق لشريعة الله تعالى وما يحقق من عدالة في العلاقات بين الناس سنّةً من سنن التاريخ، كما أن فقدان العدالة وما يؤدي إليه من سوء توزيعٍ للثروة هو أيضًا سنّةٌ من سنن التاريخ...
    ومن يتتبع النصوص القرآنية يجد أن القرآن الكريم عندما جعل للساحة التاريخية سننًا وضوابط فإنه قاوم بذلك النظرة العفوية أو النظرة السطحية لتفسير الأحداث. فالإنسان العادي قد يفسر أحداث التاريخ بأنها كومة متراكمة من الأحداث التي تتالى وقوعها عبر الزمن، وجرى حدوثها على أساس الصدفة. إن القرآن يقاوم مثل هذه التفسيرات وينبِّه العقل البشري إلى أن للساحة التاريخية سننًا وقوانين، وأن على الإنسان كي يستطيع أن يكون إنسانًا فاعلًا ومؤثرًا، أن يكشف عن هذه السنن، وأن يتعرف هذه القوانين لكي يستطيع أن يتحكم فيها، وإلَّا تحكمت هي فيه وهو غافل عما يدور حوله.
    وهذا يُعدّ فتحًا قرآنيًّا جليلًا لأنّ كتاب الله تعالى هو القائل بأن للساحة التاريخية سننًا وضوابط، وهو الممهّد لتنبيه الفكر البشري لذلك. وقد جرت محاولات لفهم التاريخ على هذا الأساس بعد نزول القرآن بنحو ثمانية قرون. وبدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه. ثم بعده بأربعة قرون أو أكثر، اتجه الفكر الغربي في بدايات ما يُسمّى بعصر النهضة، لكي يجسد ذلك المفهوم الذي ضيَّعه المسلمون عندما لم يتوغلوا في أعماقه. ومن هنا نشأت عند الغرب أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ، وفهم سنن التاريخ، ونشأت عنها اتجاهات مثالية ومادية ومختلطة ما بين المثالية والمادية. كما نشأت مدارس متعددة راحت كل واحدة منها تحاول أن تحدد قواعد التاريخ وأسسه بحسب آرائها وقناعاتها. والمثال البيِّن على ذلك: المادية التاريخية التي كوِّنت إحدى أكبر النظريات وأشهر المدارس في التاريخ الحديث... وإذا كان ذلك الجهد البشري، في الحقيقة، استمرارًا للتنبيه القرآني، إلَّا إنه يبقى للقرآن مجده في أنه طرح هذه الفكرة لأول مرة على ساحة المعرفة البشرية...
    وإن الآيات القرآنية التي تتحدث عن السنن التاريخية التي تعطي الفكرة الكلية، أي فكرة أن التاريخ له سنن وضوابط، هي كثيرة لا تحصى. ومنها على سبيل المثال قول الله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة يونس: الآية 49). وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف: الآية 34).
    والأجل في الآيتين الكريمتين قد أضيف إلى الأمة، أي إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك بالذات. وهذا يعني أن وراء الأجل المحتوم لكل فرد أجلًا آخر للأمة بصفتها مجتمعًا تقوم بين أفراده العلاقات والصلات التي تفرضها المصالح المشتركة في ما بينهم.
    إن هاتين الآيتين الكريمتين تعطيان فكرة كلية واضحة عن أن للتاريخ البشري سننًا تتحكم به، وهي غير السنن الشخصية التي تتحكم بحياة الأفراد ووجودهم.
    ويلتقي مع مفهوم هاتين الآيتين قولُه تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآيتان 58 ـــــــ 59).
    وقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (سورة فاطر: الآية 45).
    إنَّ الله تعالى يبيِّن لنا أنه لو كان سبحانه يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم، وبما كسبوا من المعاصي والذنوب والآثام، لما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة، ولأهلك الناس جميعًا.
    العقاب الجماعي في دار الدنيا:
    وقد برزت مشكلةٌ في كيفية تصور هذا المفهوم القرآني، إذ إن الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، ففيهم الأنبياء، وأولياء الله المخلصون، والمؤمنون الصادقون، فهل يقع العذاب على هؤلاء أيضًا؟
    الحقيقة أن القرآن يتحدث هنا عن عقاب دنيوي، لا عن عقاب أخروي. إنه يتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أمة عن طريق الظلم والطغيان، وهذه النتيجة لا تصيب الظالمين من أبناء المجتمع وحدهم، بل نعم جميع أبناء المجتمع على اختلاف اتجاهاتهم، وعلى اختلاف نواحي سلوكهم. فحين وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما اكتسب هذا الشعب من ظلمه وطغيانه وتمرُّده، لم يُختص هذا التيه بالظالمين من بني إسرائيل وحدهم، بل شمل أيضًا موسى عليه السلام الذي بعثه الله تعالى لمواجهة الظالمين والطواغيت، وشمل أخاه هارون عليه السلام وجميعَ المؤمنين بالله تعالى، لأنهم كانوا يشكلون جزءًا من تلك الأمة.
    وحين حلَّ البلاء بالمسلمين في غزوة أحد (نتيجة مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولهم من «جبل عينين» واندفاعهم وراء المغنم والمكسب) لم يسلم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه من ذلك البلاء، إذ رماه المشرك ابن قميئة الليثي بالحجارة حتى أصيبت رباعيته الشريفة وشُجَّ في وجهه الكريم وكُلِمت شفتاه ودخلت حلقتان من المغفر الذي كان يستر به وجهه الرضيّ في وجنتيه. بل تقدم ذلك اللعين يريد أن يقتله لولا أن ذبَّ عنه مصعب بن عمير رضوان الله عليه.
    وها نحن نسمع في أيامنا هذه بحصول كوارث طبيعية: من زلازل تدمر وتقضي على مناطق بأسرها، أو فيضانات تجتاح مدنًا وقرًى وتأتي على ممتلكاتها وأناسها، أو حرائق تصيب أقسامًا كبيرة من غابات كثيفة... كذلك تصلنا الأخبار عن حوادث مفجعة: مثل تسرّب الإشعاعات من المفاعلات النووية، أو سقوط الطائرات، واصطدام القطارات، وحوادث السيارات التي لا تحصى... كلّ ذلك يذهب ضحيته المئات أو الألوف من الناس... وليس جميع من يُشوَّه أو يموت من جرّاء هذه الحوادث هم من الظالمين، بل قد يكون فيهم المؤمنون، والمتقون، والعابدون، والصادقون... ومع ذلك يحلّ بالجميع البلاء الدنيوي، أو يُقضى عليهم في تلك الفواجع.
    وهذا كله يجري وفق سنّة الله تعالى في خَلْقِهِ التي تقول بأنَّ العذاب حين يأتي في الدنيا على مجتمع أو على أمة من الناس، فإنه لا يختص بالظالمين وحدهم من أبناء ذاك المجتمع أو تلك الأمة. لهذا قال الله تعالى في آية أخرى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: الآية 25). فهذه الآية المباركة تتحدث عن سنّة للتاريخ أوجدها الله تعالى في خلائقه بحيث لا يأتي عقابه ـــــــ سبحانه ـــــــ أو عذابه في الدنيا ليقتصَّ من الظالمين وحدهم، وإنما قد يصيب الجميع أو السواد الأعظم من الجماعة، جزاءً بما كسبت تلك الجماعة ـــــــ في غالبيتها ـــــــ من إثم سعيها بالفساد، أو انحرافها عن طريق الحق، عاصيةً بذلك أوامر الله تعالى ونواهيه.
    والقرآن الكريم يبين لنا ـــــــ بصورة عامة ـــــــ وفي مواضع كثيرة، ثبات السنن التاريخية ونفاذها وعدم تبدلها أو تحولها. فإنها موجودة أساسًا في صميم تركيب الكون، وفي قلب العلاقات المتبادلة بين الإنسان والحياة... ولم يفعل القرآن سوى أن كشف عنها النقاب وأكد وجودها الدائم وثقلها المؤثر في حركة التاريخ.
    وهذه السنن لا تتحدَّد في القرآن الكريم بتفاصيل وجزئيات موقوتة. بل هي تمتد مرنة، منفتحة، شاملة، لكي تضُمُّ أكبر قدر من الوقائع، وتحتوي في سيرها أكبر عدد من التفاصيل والجزئيات لتبقى الحصيلة النهائية، والدلالة الكبرى لحركة التاريخ. إنها تريد أن تقول لنا ــــــ باختصار ـــــــ إن حركة أيّ جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية، وإنها بما قد ركب فيها من قوى العقل والعاطفة والإرادة، مسؤولة خلال حركتها تلك، مسؤولية كاملة، حيث ينتفي العبث واللاجدوى، وحيث وجب أن يكون عمل الإنسان مدركًا مخططًا يقف به أمام الله تعالى والعالم، وفق ما جاء به أنبياء الله، وما تفرضه العلائق الإنسانية، والروابط الأخوية في الأمة الواحدة. أما إذا انعدم العمل المدرك الواعي والمخطط، وانْتُهِكَتْ القيم الأخلاقية المنبثقة عن قوى العقل والدين والإرادة... فإن الجزاء يكون من جنس العمل، ويؤول الأمر بالجماعة البشرية إلى التدهور والانهيار.
    والآيات التي تبين هذه السنن التاريخية العامة كثيرة، فمنها قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب: الآية 62). وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (سورة فاطر: الآية 43). وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران: 137 ـــــــ 141).
    وهذه الآيات الأخيرة من سورة آل عمران في القرآن الكريم يمكن اعتمادها مقياسًا لسنن التاريخ الثابتة والدائمة في حياة الناس، وما تنطوي عليه من تقلبات وتغيّرات في مسار وجودهم الأرضي.
    الحقائق التي تقوم عليها سنن التاريخ:
    وإذا ما حاولنا أن نسبر غور المعاني التي تنطوي عليها الآيات القرآنية التي أوردناها كشواهد على السنن التاريخية العامة فإننا نستخلص حقائق أربعًا.
    1 ـــــــ الحقيقة الأولى هي الاطِّراد في السنَّة التاريخية. والاطِّراد يعني أن السنَّة التاريخية ليست علاقة عشوائيةً أو رابطة قائمة على أساس الصدقة، بل هي علاقة ذات طابع موضوعي، لا تختلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة... وهذا يعني أيضًا أن طابع الاطِّراد في السنّة التاريخية هو تأكيد على الطابع العملي للقانون التاريخي، لأنَّ أهمَّ ما يميّز العملي من غيره من الفروض والنظريات والمعادلات هو الاطراد والتتابع، وعدم التخلف. وتأكيد القرآن الكريم على طابع الاطِّراد في السنَّة التاريخية يهدف إلى إيجاد شعور في الإنسان المسلم، يكون شعورًا واعيًا متبصرًا، لا مستسلمًا ولا ساذجًا، وذلك وفقًا لمجرى أحداث التاريخ بصورة طبيعية. {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب: الآية 62) {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (سورة الإسراء: الآية 77) {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} (سورة الأنعام: الآية 34). أي إن كلمة الله، تعني أيضًا أنها سنّة من سنن التاريخ، أوجدها الله تعالى بإرادته التي رسمت القانون العام لقضية لا تقف عند حدود الزمان والمكان، بل تتناول الإنسان الفرد، أو تتناول الجماعة العامة، إذا تحققت الشروط المفروضة للقضية وفق السنّة أو القانون الذي قامت عليه.
    2 ـــــــ والحقيقة الثانية هي أن السنّة التاريخية ربانية. أي إنها من خلق الله سبحانه وتعالى، وهي في علمه وبإرادته ومشيئته. وقد عبَّرت عن ذلك النصوص القرآنية بتعابير متعددة ومنها سنّة الله، وكلمة الله.
    وهذا يعني أن كل قانون من قوانين التاريخ، أو سنّة من سننه، تدبير رباني، وأن الاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في الساحات الكونية بأسرها، لا يمكن أن تكون إلا رهنًا بأمر الله تعالى. فالله سبحانه يظهر لنا قدرته من خلال هذه القوانين والسنن، كونها تمثيلًا لإرادته وحكمته، وتدبيره في الكون بأسره. لكنَّ ذلك لا يعني وجود تناقض وتعارض في علاقة الحادثة التاريخية بالأسباب والمسبِّبات ولا في العلاقات والروابط المتعلقة بها على الساحة التاريخية، بل يعني وجود الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية بحيث تكون هذه الروابط والعلاقات تعبيرًا عن حكمة الله والبناء التكويني للساحة التاريخية.
    والمثال على ذلك ظاهرة سقوط المطر. وتفسير هذه الظاهرة يكون على أساس الأسباب والعلاقات التي تجعلها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء، التي تؤدي إلى بيان كيفية نزول المطر. وذلك بأن يتبخر الماء ويتحول إلى غاز ثم يتصاعد الغاز سحابًا، فإذا انخفضت الحرارة في الجو تحول السحاب إلى سائل، وهطل المطر.
    كذلك الأمر في تحليق الطائرات التي تخطر في الأجواء كأنها من المعجزات. وما ذلك بمعجزة إذا علمنا أن له علاقةً بقوانين الجاذبية، وحركة الرياح، ومقدار العلو والانخفاض، وطريقة الإقلاع والهبوط... وبالشروط التي يتأمن معها صلاح المطارات بصورةٍ تامة... هذا كلّه جعل من هذه الكتلة المعدنيّة الهائلة طائرًا يحلّق بجناحيه في فضاء الله الواسع بأمان.
    ومثل ذلك الإبحارُ في الأنهار والبحار: له سننُهُ المحدّدة وقوانينُهُ الخاصة التي يجب معرفتها لنفهم كيف تستطيع هذه المنشآتُ الحديديّةُ الضخمةُ أن تعومَ على وجه الماء آمنةً مطمئنة، من دون أن تغرق في قعر الماء.
    قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (سورة الرحمن: الآية 24).
    وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (سورة الشورى: الآيتان 32 ـــــــ 33). وهذان المثلان يظهران النتيجة التي يصل إليها الإنسان بفعل هدى الله وبإلهامه لبعض العباقرة حتى توصلوا إلى ما توصلوا إليه من اختراعات واكتشافات. قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (سورة النمل: الآية 93). ففي كل يوم يرى الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم، ويكشف لهم عن بعض أسرار سنن هذا الكون الحافل بالأسرار.
    فهذه السنن إذًا لها طابعٌ غيبيّ، لأنها تعبّر عن إرادة الله تعالى ومشيئته. وهي في الوقت نفسه تستهدفُ ربط الإنسان بخالقه، وإشعارَهُ بأن الاستعانةَ بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادةَ من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات... كل ذلك لا يمكن أن يكون بمعزل عن الله تعالى في تدبيره وتسييره للكون.
    وهذا الطابعُ الغيبيُّ للسنن التاريخية دفع بمدارس الفكر اللاهوتيِّ المسيحيِّ إلى تفسير التاريخ تفسيرًا إلهيًّا، بمعنى أن الفكرَ اللاهوتيَّ يتناول الحادثةَ التاريخيةَ ويربطها بالله سبحانه وتعالى، قاطعًا أيَّ صَلةٍ أو علاقةٍ بينها وبين الأحداث الأخرى. أما في القرآن الكريم فإن الطابعَ الغيبيَّ للسنّة التاريخية لا يعني فصلَها عن كلِّ شيءٍ وربطها باللهِ تعالى فقط. بل إنَّ القرآن، بقدر ما يُضفي على السنة التاريخية الطابعَ الغيبيَّ، بجعلها معبّرةً عن إرادة الله تعالى وتدبيره، بقدر ما يربطُ هذه السنّةَ بالعلاقاتِ والأحداثِ التاريخية الأخرى التي تكون ذاتَ صلاتٍ معينةٍ بها.
    لذلك لا يجوز إبعادُ القرآن عن التفسير الموضوعيّ للتاريخ لكي تبقى الصلةُ وثيقةً بين العلم والإيمان. وبقدر ما ينظر الإنسانُ المسلمُ إلى السنن نظرةً علميةً، فإنه ينظرُ إليها نظرةً ربانيةً، أي إنها منبثقةٌ عن إرادة الله تعالى وحكمته.
    وبعض النصوص القرآنية توضح هذا المعنى وتفسره. يقول الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (سورة آل عمران: الآيتان 124 ـــــــ 125).
    هنا نجد الطابع الغيبيَّ، وهو الإمدادُ الإلهيُّ للمؤمنين بالملائكة حتى تساعدوهم على النصر، مشروطًا بسنّة التاريخ. وشرطُه {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}. فالمطلوب أولًا الإعدادُ، والتنظيمُ، والتهيئةُ الكاملةُ لملاقاةِ العدو، ثم الصبرُ والثباتُ في المعركة واتقاءُ الله تعالى في عدم مخالفة أوامره. فإن تحققت هذه الشروط كان الإمدادُ وكان النصر. والهدفُ من هذا الربط هو اكتمالُ التّوجة الإسلامي نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.
    وهكذا فإن خالق هذه السنن هو وحده صاحب الأمر لأنه سبحانه، هو الذي وفَّر هذه الإمكانيات الضخمة من خلال هذه السنن وسخرها لخير الإنسان.
    التسخير:
    هو النعمة الكبرى التي أسبغها الله سبحانه وتعالى على بني آدم عندما قضى عليهم أن يتخذوا هذه الأرض مستقرًّا لهم إلى حين. لقد أراد سبحانه برحمةٍ منه ولطف، أن يُسَهِّلَ لهذا المخلوق الضعيف سُبُلَ العيش على هذه الأرض. فجعل لكل ما يحيط به سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، إنما يكون التغيير في نفس الإنسان الذي يتعامل معها: نحو الأحسن لمن يباشرها بتفهم ودراية، ونحو الأسوأ لمن يخالفها أو يقابلها بجهل وعناد. يستوي في ذلك الفرد والجماعة. والله تعالى قد ذلَّل فهْم بعض هذه السنن للإنسان ولولا هذا الفضل من الله سبحانه لما استطاع الإنسان أن يؤثر فيها ويسخرها لمصلحته، وبالتالي لما استطاع العيش على هذه الأرض. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك: الآية 15). وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (سورة لقمان: الآية 20)، وقال سبحانه: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} (سورة إبراهيم: الآية 33)، وقال عزَّ من قائل: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} (سورة الزخرف: الآية 12)... إلى قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (سورة الزخرف: الآية 13).
    ومن قول للإمام علي كرَّم الله وجهه: «ألا إنَّ الأرض التي تقلكم والسماء التي تظلكم مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعًا عليكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أُمِرَتا بمنافعكم فأطاعتا، وأُقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا».
    إذن فلا بد لهذا الإنسان الذي سُخِّر له ما في السموات والأرض، من أن يعي ما أُودِع من أسرار وأن يتفهم سنن ما وُضِعَ بتصرفه ولخيره، ليستطيع أن ينتفع به، ويكون في مستوى المسؤولية للاستفادة منه.
    وهكذا يتبين أنه وفقًا لهذا المفهوم لا يمكن أن نعزل ظاهرة سقوط المطر عن بقية الحوادث، وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها. إلَّا إن تسلسل الحوادث وترابط بعضها ببعض منذ حالة التبخر وحتى نزول المطر، إنما هو ظهور لذلك القانون العام الذي قدَّره الله تعالى لسقوط المطر في حال تحقق ظروفه وعوامله كافة... والقاعدة نفسها تسري على تحليق الطائرات أو سير البواخر والسفن فوق الماء... وهكذا هي سنن الطبيعة كلها، وسنن التاريخ. فعلى الإنسان أن يفقه هذه السنن ويتجاوب معها كي يستفيد منها.
    لقد استفاد الغربُ كثيرًا عندما استطاع أن يستكشف بعض سنن الكون، ويتفهّمها. وبذلك أصبح أكثرَ تجاوبًا مع حركة التاريخ التي تسير وتتحرك وفقًا لهذه السنن. وهذا ما نجم عنه كثيرٌ من الاختراعات أي اكتشاف بعض أسرار هذا الكون. وبتنا نرى الغربَ، بفضل ذلك، قد بلغ من التمدّن شأوًا بعيدًا.
    وهكذا، فلا يمكن لأيّ فردٍ أو جماعةٍ، ضمان التقدّم في مضمار هذه الحياة، من دون تفهّمٍ لسنن الكون. إذ إن ذلك هو الشرطُ الأساسيُّ للتقدّم وفقًا لحركة التاريخ. وفي ذلك وحده يكون تغيّرُ حال الفرد أو الجماعة نحو الأحسن، أي نحو الرقيّ والتقدم.
    3 ـــــــ والحقيقة الثالثة هي الاختيار عند الإنسان. وهذا يعني أن محور تسلسل كثير من الأحداث والقضايا إنما هو ناشئ عن مباشرة إرادة الإنسان، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (سورة الرعد: الآية 11).
    فلو فكرنا قليلًا فيما تشير إليه هذه الآية الكريمة لأدركنا أن التغيير يجب أن يكون نابعًا من القوم بمباشرة تطبيق إرادتهم بتغيير ما بأنفسهم، لأن تغيير ما بالنفس يكون من نتائجه تغيير السلوك، وعند تغيير سلوك القوم، سواءٌ من الأسوأ إلى الأحسن أو من الأحسن إلى الأسوأ، فإن الله سبحانه سيغير الأوضاع التي يعيشها هؤلاء الذين غيَّروا سلوكهم وتصرفاتهم بحسب ما اختاروا لأنفسهم.
    فإنْ كان التغيير من الحسن إلى السيّئ لا بد من أن يعمَّهم البلاء، وإن هم أصروا على ما هم عليه من التمادي وعدم التغيير إلى الأحسن نزل في ساحتهم الهلاك مصداقًا لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآية 59) وأما إن انتبهوا إلى ما هم فيه من سوءٍ واستغفروا لذنوبهم وسلكوا سُبُلَ الطاعة فإن الله سيأخذ بيدهم، ويمدُّهم بعنايته، ويهديهم إلى تغيير أوضاعهم إلى الأحسن.
    وهذا واضح في قوله تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10)‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح: الآيات 10 ـــــــ 12).
    لا تعارضَ بين إرادة الإنسان وسنن التاريخ:
    ولقد ذهب بعضُ المفكرين إلى أن هنالك تعارضًا بين إرادة الإنسان وسنن التاريخ. ومدار هذا الرأي إما أن نؤمنَ بأن للتاريخ سننًا وقوانين وهذا يلغي كلَّ دورٍ لإرادة الإنسان واختياره، وإما أن نسلّمَ بقدرةِ الإنسان وإرادته وعمله، فلا يكون ثَمَّةَ حاجةٌ لسنن التاريخ وقوانينه على الساحة التاريخية. وهذا يعني أن الساحة التاريخية تصبح وفق هذا التفكير من دون سنن وقوانين، في حين أن كل الساحات الكونية الأخرى تكون لها قوانينها وسننها.
    طبعًا إن مثل هذا التفكير لا يستقيم مع التفسير الموضوعي للنصوص القرآنية. وقد تدارك القرآنُ الكريمُ هذا الأمرَ، وعالج هذه النقطة بالذات، عندما بيّن لنا في كثيرٍ من الآيات الكريمة أن المحورَ في تسلسل الأحداث والقضايا إنما هو إرادةُ الإنسان، ولكن ليس بعيدًا من سنن الله تعالى. ومن تلك الآيات الكريمة، التي أتينا على ذكرها سابقًا، قولُ الله تعالى:
    {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (سورة الرعد: الآية 11).
    {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (سورة الجن: الآية 16).
    {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآية 59).
    إذن فنحن لا نقدر أن نلغيَ السننَ والقوانينَ لأنها تعبيرٌ عن إرادة الله تعالى ومشيئته، وفي الوقت عينه لا يمكن إنكارُ دور الإنسان ومواقفه المؤثرة في الساحة التاريخية. إنما يكون لمواقفه تلك، ولأعماله، نتائجها أو جزاءاتها المناسبة. وعندما يعطي القرآن الكريم هذا الدورَ الإيجابيَّ لإرادة الإنسان واختياره فلكي يحمِّلَه أكثرَ فأكثرَ مسؤوليتَهُ على الساحة التاريخية، وليجعله يعتقد أن ما يصل إليه من نتائج إنما هو مرهون بفعله وإن كان لا يخرج عن مشيئة الله تعالى المطلقة.
    فتلك الآيات الكريمة وكثير من مثيلاتها في القرآن الكريم تبين أن سنن التاريخ لا تجري خارج إرادة الإنسان، ولا من فوق رأسه بل تجري من خلال إرادته، وبحسب ما كسبت يداه... وهذا يُظهر أنَّ للإنسان دورًا مهمًّا وأساسيًّا في حركة التاريخ.
    4 ـــــــ والحقيقة الرابعة تعبِّر عن أبعاد العمل التاريخي بمعنى أن السنن التاريخية متميزة تميزًا نوعيًّا عن سنن بقية الساحات الكونية. وهذا التمييز للسنن التاريخية يتمثل في العمل الإنسانيّ الذي تجري عليه سنن التاريخ. إذ لا بد لهذا العمل، حتى يكون عملًا تاريخيًّا، من أن يكون عملًا هادفًا وقائمًا على أبعادٍ ثلاثة: السبب، الغاية أو الهدف، الأرضية الصالحة.
    هذا هو العمل الإنساني الذي تحكمه سنن التاريخ، إنه العمل الذي ينبثق عن علاقاتٍ وروابطَ وأسبابٍ ويتوخّى غاياتٍ وأهدافًا سامية، ويكون ذا أرضيةٍ أوسعَ من حدود الفرد، وذا أوجهٍ متعددة، أي هو عمل الأمة.
    ومن خصائص القرآن الكريم أنه ميّز بين عمل الفرد وعمل الأمة، وذلك من خلال استعراضه للكتب الغبية التي تحصي على الفرد عمله، وتلك التي تحصي على الأمة عملها. فالعمل الذي يكون له بعدان: سبب وهدف، يدخل في كتاب الفرد، والعمل الذي يكون له ثلاثةُ أبعاد: سبب وهدف وأرضية، يدخل في الكتابين معًا: كتابِ الفرد وكتابِ الأمة. فلنستمع إلى قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة الجاثية: الآيتان 28 ـــــــ 29).
    هنا أمةً جاثيةٌ بين يدي ربها، وأمامها سجلُّ حياتها وممارسةِ نشاطاتها كافة.
    هذا عن الأمة...
    أما عن الفرد فالقرآن الكريم يقول: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (سورة الإسراء: الآيتان 13 ـــــــ 14).
    وهذا أيضًا سجلُّ كلِّ إنسان بمفرده. شريطُ حياته يُعرضُ أمامه، تمامًا كما يُعرضُ شريطُ حياة الأمة أمامها بمجموعها. هذا هو التمييزُ النوعيُّ القرآنيّ الذي يفرِّق بين كتاب الفرد وكتاب الأمة، أي العمل الذي قام به الفرد لنفسه ولأمته، وللإنسانية، والأعمال التي قامت بها الأمة ككيان جماعي لمصلحتها ومصلحة أفرادها ومصلحة الإنسانية.
    والعملُ التاريخيّ هو العملُ الذي يعود إلى الأمة، والذي تحاسب عليه يوم القيامة.
    وقد ميّز القرآن الكريم تمييزًا نوعيًّا بين العلاقات الإنسانية. فعندما يجري حساب الأمة بين يدي ربها، يعود لكل ذي حقٍّ حقُّه الذي غُبِنَهُ في الحياة الدنيا، حيث لا إنصاف ولا عدالة... حيث لا يكون هنالك تطبيقٌ كاملٌ لشريعة الله تعالى. ولكن لا يحسبنَّ أحدٌ أن ذلك يمرّ في هذه الدنيا وينتهي. أبدًا. فهناك بين يدي رب العالمين الحسابُ الجماعيُّ لإعادة الأمور إلى نصابها، وردِّ الحقوق إلى أصحابها. وهذا ما يسميه القرآن الكريم {التَّغَابُنِ} في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (سورة التغابن: الآية 9).
    في هذه الحياة الدنيا قد يكون إنسانٌ مغبونًا، وحقه مهضومًا مهدورًا. أما هنالك في الآخرة فإصلاح للغبن. وبقدر ما يكون الإنسان مغبونًا في موقعه في الأمة، يُزال عنه الغبن يومَ الحساب، ويأخذ صاحبُ الحقّ حقَّه، لأنه اليوم الذي لا كلمة فيه إلَّا للحق.
    أشكالُ السننِ التاريخيّة:
    من مجمل الآيات القرآنية التي تقدمت، نلاحظ أن السنن التاريخية تتخذ أشكالًا ثلاثة:
    1 ـــــــ الشكل الأول: القضية الشرطية التي تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الأحداث التاريخية، وتؤكد العلاقة الثابتة والأكيدة بين توافر الشرط وحصول النتيجة.
    وهذا الشكل نجده في القوانين الطبيعية، فمثلًا شرط تعرض الماء إلى درجة حرارة معينة (مئة) يؤدي حتمًا إلى غليان هذا الماء، وتصاعد البخار.
    وهذا القانونُ الشرطيُّ يُعدّ موجهًا عمليًّا للإنسان في حياته. وهنا تتجلى حكمة الخالق العظيم في صنع نظامٍ للكون بأسره قائمٍ على القوانين المطردة والسنن الثابتة. فعندما يعرف الإنسان هذا النظام يمكنه أن يهتديَ إلى الوسائل التي يجب أن يسلكها من أجل تكييف حياته وبيئته والوصول إلى إشباع حاجاته.
    2 ـــــــ الشكل الثاني: القضية الفعلية الناجزة، الموجودة المحققة.
    وهذا الشكل أيضًا له أمثلته وشواهده في القوانين الطبيعية والكونية والجسدية، مثلًا العالِمُ الفلكي عندما يحدِّد موعدًا لكسوف الشمس أو لخسوف القمر، فإنه يتحدث عن قانونٍ كونيِّ، قائمِ الوجود، وثابتٍ عِلميًّا، فلا يمكن للإنسان أن يُغَيِّرَ من ظروفه أو يعدِّل في سيره. لكنه يملك معرفته وزمانَ حدوثه والتصرف إزاءَ هذا الحدوث.
    وكذلك بالنسبة إلى الإدراك والحسِّ ولا سيّما فيما يتصل بالقانون المفروض على الرؤية بالعين وعلى السمع بالأذن...
    وكما تحدثنا عن التسخير ضمن الحقيقة الثانية، نتحدث هنا عن الاستخلاف حتى تتبين لنا حقيقة العلاقات البشرية في تركيب المجتمع من خلال المفاهيم الإسلامية التي نستخلصها من قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 30).
    يمكن أن نجد في قول الله تعالى ثلاثة عناصر:
    1 ـــــــ الإنسان.
    2 ـــــــ الأرض أو الطبيعة.
    3 ـــــــ العلاقة التي تربط الإنسان بالأرض أو الطبيعة من ناحية، والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان من ناحية أخرى.
    الاستخلاف:
    والعلاقة المعنوية هذه في مجملها هي التي يسميها القرآن الكريم (الاستخلاف). ونلاحظ أن المجتمعاتِ البشريةَ تتفق جميعها بوجود العنصرين الأول والثاني لكنها تختلف في طبيعة العنصر الثالث الذي هو العلاقة المعنوية التي تقوم بين الناس ومحيطهم الطبيعي، وبين بعضهم بعضًا. وهذا العنصر المعنوي وفقًا للمفهوم القرآني هو العنصر المرن والمتحرك في تركيب المجتمع.
    لأن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان، خلق فيه غريزة حبِّ البقاء، التي كان من مظاهرها التكتل، لذلك كان اجتماعُ الناس طبيعيًّا. إلا إنَّ اجتماعَ الناس لا يجعل منهم مجتمعًا، وإنما يجعل منهم جماعة. أما إذا نشأت بينهم علاقات لجلب المصالح ودفع المفاسد، فإنَّ هذه العلاقات تجعلُ من هذه الجماعة مجتمعًا. ثم إنَّ هذه العلاقات وحدها لا تجعل منهم مجتمعًا واحدًا، إلَّا إذا توحَّدت نظرتهم إلى هذه العلاقات بتوحيد أفكارهم، وبتوحيد رضاهم وسخطهم، كما أنه يجب أن تتوحد معالجتهم لهذه العلاقات بتوحيد النظام الذي يعالجها، لذلك كان لا بدّ من النظر إلى الأفكار والمشاعر والأنظمة عند دراستنا للمجتمع، لأنها هي التي تجعلُهُ مجتمعًا معينًا، لهُ لونٌ معين.
    أما الاستخلاف فيقوم على أربعة أطراف: وجود الإنسان ـــــــ علاقة الإنسان بالأرض أو الطبيعة ـــــــ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. والمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى، والمستخلَف هم البشر، والمستخلَف عليه هو الأرض وما عليها.
    وبمنطوق القرآن فإنّ فكرة الاستخلاف تقوم على أن المالكَ الحقَّ هو الله تعالى، فلا إله ولا مالك ولا متصرف في الكون والحياة غير الله سبحانه وتعالى. أما الإنسان فدوره فقط الاستخلاف، أي إنه مؤتمن يقوم على أمانةِ عهد بها ربُّهُ إليه لكي يعمِّر هذه الأرض، فإن كان إعمارها بما يرضي الله تعالى حقق الإنسان الغاية من الاستخلاف، وإلَّا فإنه بَعُدَ من الله تعالى وخان الأمانة. ومهما رأيت من علو المباني، وأشكال الازدهار المادي، ومعالم الجمال والتنسيق، ومظاهر التمدن والرقي، فكلها تصبح جوفاء، ولا فائدة منها، إن لم يقم تعمير الأرض على تقوى الله رب العالمين. وهذا ما يريده القرآن الكريم ويؤكد عليه، أي استدامة صلة المستخلف بالمستخلِف، وطاعته، وخشيته .
    أما المجتمعات التي تقطع صلتها بالمستخلِف فتكون مجرد تركيبات بشرية، أو تركيبات إعمارية بعيدة من الغاية من الاستخلاف.
    لذلك عدّ القرآن الكريم أن الأساس الذي يقوم عليه الاستخلاف هو رضى الله تعالى وهو وحده المغيِّر النوعيّ لتركيب العلاقات الإنسانية وصلتها بخالقها، لذلك كان الاستخلاف بعناصره أو بأطرافه الأربعة أهمَّ السنن التاريخية وأعظمها.
    3 ـــــــ الشكل الثالث: الاتجاه الطبيعي في حركة التاريخ والتمييز بين الاتجاه والقانون.
    إن السنّة التاريخية في القرآن الكريم هي التي تصاغ على شكل اتجاه طبيعي في حركة التاريخ وليس على شكل قانون صارم حدِّيّ، لا يقبل التحدّي من قبل الإنسان، مَثَلُهُ مثلُ سائر القوانين الكونية والسنن الموضوعية. فالإنسان مثلًا لا يمكنهُ أن يحول دون غليان الماء إذا توافرت شروط هذا الغليان. هنا قانون صارم، والصرامة لا تقبل التحدي. أما بالنسبة إلى حركة التاريخ فيمكن أن توجد اتجاهاتٌ موضوعيةٌ تكون على شيء من المرونة، ويمكن أن تقبل التحدي على المدى القصير، وليس على المدى الطويل. فمثلًا العلاقات بين الذكر والأنثى في الحياة الإنسانية الاتجاه الطبيعي والموضوعي فيها قيام العلاقة الزوجية. وهذا الاتجاه هو في صميم تركيب الإنسان وتكوينه من أجل بقاء النوع البشري. ولكن قد يخرج أفراد أو قوم عن هذا الاتجاه الطبيعيّ كما فعل قوم لوط عندما تحدَّوا هذا الاتجاه الطبيعيَّ أو هذه السنّة الثابتة في الحياة الإنسانية. لكن سنّة التاريخ التي قبلت التحدي في زمان معين، عادت وانقضَّت على قوم لوط لتزيلهم من الوجود، أي إن هذه السنّة عملت على تحطيم الّذين تحدَّوها، وكان بالتالي زوالُ قوم لوط وهلاكُ مجتمعهم الفاسد.
    والمثال الأبرز الذي يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن التاريخية هو الدينُ نفسه الذي هو في المفهوم القرآني سنّةٌ من سنن التاريخ. فعندما يعرض القرآن الدينَ في صورة تشريعٍ إلهيٍّ يقول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (سورة الشورى: الآية 13).
    وفي آيةٍ ثانية يُظهر القرآن الكريم أن الدينَ قانونٌ ثابتٌ يدخل في صميم الخلق البشري، كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الروم: الآية 30).
    الدين فطرة في الناس، طبيعةٌ في صميم تركيبهم وتكوينهم. هكذا خلقهم الله تعالى على هذه الطبيعة والدين مركوز فيها، فهل يمكن أن ننزع هذا الدين من صلب الطبيعة الإنسانية؟ أبدًا! فكما لا يمكن أن تنزع من الإنسان أيَّ جزء من أجزائه التي تجعله كاملًا، كذلك لا يمكن أن تنزع من نفسه غريزة التدين.
    فالدين إذن ليس مقولةً حضاريةً مكتسبةً على مرّ التاريخ، ولا ابتداعًا من صنع الإنسان ليجمّلَ به حياته، بل إن الدين، كما بينه القرآن الكريم، طبيعةٌ في خلق الإنسان من صنع الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي خلقه الذي خلقهم عليه. ولذلك كان الدين سنّة في الطبيعة البشرية. لكن هذه السنّة ليست صارمة، مثل القانون الطبيعي، لا تقبل التحدي، بل يمكن تحديها عن طريق الشرك أو الإلحاد. إنما هذا التحدي يكون لمدى قصير لأن سنّة الله تعالى في خلقه سوف تعود وتقهر المتحديَ على المدى الطويل، كما حصل للاتحاد السوفياتي في عصرنا الحاضر، لأن سنن التاريخ تفرض القضاء على هذا التحدي، في كلّ أمّة تريد أن تبدِّل خلق الله الذي لا تبديل له.
    يقول الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (سورة الحج: الآية 47). القرآن يتحدث هنا عن السرعة التي تتحرك فيها السنّة التاريخية {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}. أي إن المشركين كانوا يتحدون رسول الله، في سنّة الله تعالى، ولم يدركوا أن وعد الله هو سنّةٌ تاريخيةٌ ثابتةٌ. أما متى تتحقق هذه السنّة، ومتى ينزل العذاب فهذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى. هم يريدون وقوعه في زمن قصير، لكن زمنَ الله تعالى غيرُ الزمن الاصطلاحيّ الذي يسير عليه الناس في الأرض. فمقدار اليوم الواحد عند الله تعالى كألف سنة من السنين التي نعدها في هذه الأرض أو التي درج الإنسان على حسبانها. واليوم الذي يريده الله سبحانه وتعالى بعيد من معرفة الإنسان، فإن تحدَّى المشركون وعد الله تعالى، وذلك بإنزال العذاب بهم في الحال، فهذا التحدي لا يدوم، والردُّ عليه لن يطول. وقد ثبت أن تحديهم قد زال بانتصار الإسلام على كل معتقداتهم وتبديل كل مقومات وجودهم. وكان في ذلك عذابٌ عظيمٌ لهم قبل أن يذوقوا طعم حلاوة الإسلام، ويتحسسوا مدى أهمية هذا الدين في حياتهم. لقد جاء الإسلام ليعيدَهم ويعيدَ الناسَ إلى أصالة طبيعتهم الإنسانية، وليردَّهم إلى الحقيقة الكامنة في أعماق نفوسهم، فإن لم يستجيبوا للفطرة وتحدوها فالهلاك لا محالة حالٌّ بهم، ومسارُ التاريخ البشريِّ يشهد على هذه الحقيقة... فأين الأمم الغابرة، وأين الامبراطوريات، وأين العروش، وأين دول وأين حكام؟!... لذلك كان هذا الشكلُ عبارةً عن اتجاهاتٍ موضوعيةٍ في مسار التاريخ، وفي حركة التاريخ ومن ضمنها حركةُ الإنسان على مدار التاريخ.
    نعم إنَّ حركة التاريخ بمفهومنا هي حركة هادفة، لها حكمة غائية متطلعة إلى المستقبل، أي إنها ليست حركة سببية فقط ومشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى غاية هادفة مستقبلية، بمعنى أن المستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل بحقيقته إنما يُحرَّك من خلال الوجود الذهني للإنسان. من هنا كان دور الإنسان في صناعة حركة التاريخ دورًا حاسمًا، إذا ما حرَّكهُ المستقبل الهادف.
    المثل الأعلى عند الفرد والجماعة:
    إذن هنالك المحتوى الداخلي للإنسان، وهذا المحتوى الداخلي يتمثل في وجوده الذهني الذي يجسِّد من ناحية جانبًا فكريًّا هو الذي يضم تصورات الهدف، ويمثل من ناحية أخرى طاقة الإرادة التي تحفز الإنسان وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. وبالامتزاج ما بين الفكر والطاقة الحيوية، وبالتصميم والإرادة، تتحقق فاعلية المستقبل. فالوجود الذهني بذلك ـــــــ أي بالفكر والإرادة ـــــــ هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، بل لبناء المجتمع بكل ما يسوده من أنظمة، وأفكار وتفاصيل، تتضافر بعضها مع بعض وتتوثق بالعلائق والروابط لتؤلف كلًّا منسجمًا يكوِّن الإطار الصحيح لعيش الجماعة البشرية...
    نعم إن التفكير والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي للإنسان، ولكن هل هذا المحتوى الداخلي هو الأساس لحركة التاريخ؟ كلا، إنَّه ليس كافيًا، بل يجب أن يقترنَ بالمباشرة بالعمل للوصول إلى الهدف أو السعي له. وعند ذلك يصبح المحتوى الداخلي ومباشرة العمل معًا، هما الأساس لحركة التاريخ، لأن المحتوى الداخلي يبقى خفيًّا ولا يظهر إلا مع المباشرة والسعي.
    ومباشرة الأمور: هي أن تليها بنفسك، يقال باشر الأمر: تولاه بنفسه. والسعي هو المشي السريع، وهو دون العَدْو، ويستعمل للجدِّ في الأَمر شرًّا كان أو خيرًا.
    والإرادة: هي قوة مركبة من رغبةٍ أو شهوة أو حاجةٍ أو أملٍ محكومة بالعقل. والإنسان عندما يستخدم عقله للقيام بمباشرة فعله الإرادي، فإنه لا يعني فقط ما يفعل، بل يشعر أيضًا بما يفعل لبلوغ هدف معين، وهو حينئذٍ يستعمل كامل قدراته وإمكانياته من أجل بلوغ هدف معين.
    والعمل أو السعي الذي يقوم به الإنسان يتعدى المحتوى الداخلي الذي هو التفكير والإرادة ولا يتجسد إلا بالمباشرة. فمباشرة العمل مع الإرادة إذن هما أساس حركة التاريخ.
    وإذا كان المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، فإن هذه الغايات يحددها المثل الأعلى للإنسان في حياته الفردية، أو المثل الأعلى للجماعة البشرية في حياتها العامة. لذلك كان هذا المثل الأعلى هو المحور الذي تدور فيه كل الغايات وتعود إليه كل الأهداف. وبقدر ما يكون المثل الأعلى للفرد أو للجماعة البشرية صالحًا وساميًا، تكون الغايات الفردية والجماعية صالحة وعالية. وبقدر ما يكون ذلك المثل الأعلى محدودًا او منخفضًا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة أو منخفضة أيضًا.
    والمثل الأعلى هنا هو الذي يرتبط بنظرة عامة إلى الكون والإنسان والحياة، ويتحدَّدُ من قِبَلِ كلِّ جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها إلى الحياة والكون. ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع وجهة نظر تلك الجماعة البشرية إلى الحياة والكون يتكوَّنُ فكرها، وتتحقق إرادتها، ويتحدّد مصيرها.
    أنواع المثل العليا:
    والمثل العليا كثيرة لعلَّ أبرزها ثلاثة:
    ـــــــ النوع الأول هو المثل الأعلى الذي يستمد تصوره من الواقع. أي من واقع الجماعة بجميع شؤونها، بحدودها وقيودها، وأمورها وقضاياها. وهو يعني في الحقيقة تجميد الواقع على حاله بدلًا من التطلع إلى المستقبل، بحيثُ يكون المستقبل بمقتضاه تكرارًا للواقع، ومن هنا تصبح حركة التاريخ حركة رتيبيَّة، أي تكرارًا لماضيها وتثبيتًا لواقعها.
    ويعود هذا النوع من المثل العليا إلى سببين:
    ـــــــ سبب نفسي داخلي، هو الأُلفة للواقع الذي تعيشه الجماعة وركونها إلى الخمول.
    ـــــــ وسبب اجتماعي خارجي، هو تسلط المستكبرين والطواغيت الذين يتحكمون في شؤون الجماعة ويجعلونها مرتبطة بنظرتهم حفاظًا على مراكزهم ومصالحهم التي تتأثر لمجرد وعي الناس للواقع ومحاولتهم تغييره. في حين أن هدف المتسلطين هو إبقاء الجماعة أسيرة لمطامعهم.
    ـــــــ النوع الثاني هو المثل الأعلى الذي ينبثق عن طموح الأمة وتطلعها نحو المستقبل، ولكن بنظرة جزئية محدودة لا تستوعب الطريق الطويل للمستقبل. أي إن هذا الطموح الذي منه انتزعت الجماعة مثلها كان طموحًا محدودًا مقيدًا لم يستطع أن يجتاز المسافات الطويلة، بل استطاع أن يكوِّن رؤية مستقبلية محدودة، انتزع منها الطموحُ المحدود مثلَه الأعلى... وبمعنى آخر، إن هذه النظرة الجزئية المستقبلية عندما يحولها الإنسان إلى مثل أعلى، إنما يحولها إلى شيء مطلق. وهنا يكمن الخطر، لأن هذا المثل الأعلى سوف يخدم الإنسان في المرحلة الحاضرة بما يهيّئ له من إمكانيات السعي نحو المستقبل، ولكن سرعان ما يصل هذا السعي إلى حدوده القصوى، وحينئذٍ قد يتحول المثل الأعلى إلى قيد للمسيرة المستقبلية الطويلة أي إلى عائق عن التطور بل إلى مجمّد لحركة الإنسان. والمثال على ذلك الفكر الأوروبي في بدايات عصر النهضة الأوروبية عندما وضع له مثلًا أعلى هو الحرية... فقد رأى أن الإنسان الغربي إنسانٌ محطم مقيد، في عقائده الدينية وأفكاره كلها نتيجة حكم الكنيسة وتعنتها، تمامًا كما هو مقيد في قوته ورزقه بحكم أنظمة الإقطاع. فأراد الفكر الأوروبي أن يحرر الإنسان من تلك القيود ليصبح هذا الإنسان كائنًا مختارًا، يفعل بجوارحه، ويفكر بعقله، ويتصور ويتأمل بذاته، لا أن يتلقّى هذا التصور والتأمل كصِيَغٍ ناجزةٍ عن الآخرين.
    فماذا حصل؟
    لقد فات الإنسان الأوروبي المحتوى والمضمون لقيمة الإنسان، بحيث جعل الحرية هدفًا، وهذا صحيح فالحرية هدف يسعى إليه ويجاهد في سبيل تحقيقه، لكنه صيَّر من هذا الهدف مثلًا أعلى في حين أنه لا ينبغي أن يكون في الحقيقة إلا إطارًا، يحتاج إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جُرِّدَ من محتواه فسوف يؤدي إلى الويل والدمار. وهو ما تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الرفاهية ولكن حولتها إلى وسائل دمار، لأن الإطار بقي بلا محتوى أساسي عن الوجود كله، وبلا مضمون روحي متعلق بنهاية هذا الكون...
    ومن المقارنة بين النوعين من المثل العليا اللذين أتينا على ذكرهما سابقًا وهما: المثُل العليا المستمدة من الواقع، والمثل العليا المنبثقة عن طموحٍ محدود، نلاحظ أن المثل من النوع الأول هي امتداد للمثل من النوع الثاني. أي إنَّ المثَل الأعلى يبدأ منبثقًا عن طموح محدود، ولكن حين يتحقق هذا الطموح المحدود، يتحول المثل الأعلى إلى واقع محدود، وحينئذٍ يصبح مثلًا تكراريًّا. وعندما يتبدَّدُ هذا المثل التكراري فإن الأمة تتحول إلى شبحٍ لأمة.
    وهذا يعني أن الأمة في هذه الفترة الزمنية تمرُّ بمراحل أربع:
    المرحلة الأولى: هي مرحلة فاعلية يكون فيها عطاء وتجديد بقدر ما يكون لها من ارتباط بالمستقبل. لكن هذا العطاء، وهذا التجديد، يبقيان قصيرَي المدى لأنَّ المثل الأعلى محدودٌ وسوف يتحول في لحظة من اللحظات إلى قوة إبادة لكل ما أعطاه من مكاسب.
    والمرحلة الثانية: هي مرحلة تجميد، لأنَّ المثلَ الأعلى حين يستنفد طاقته وقدرته على العطاء، يصبح بلا محرك، فتتوقف فاعليته. والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون إلى سادة وكبراء تنتفي عنهم صفة القيادة. وجمهور الأمة يتحول إلى مطيعين ومنقادين لا إلى مشاركين في الإبداع والتطوير.
    والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الامتداد التاريخي لأولئك الحكام، إذ تتحول السلطة إلى طبقة تتوارث المقاعد عائليًّا أو بأي شكل آخر من أشكال الوراثة. وهذه الطبقة تصبح هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الأهداف الكبيرة، المنشغلة بهمومها الصغيرة وإشباع غرائزها وحاجاتها العضوية، وهذا ما يؤدي إلى تفتت الأمة.
    والمرحلة الرابعة: هي المرحلة التي تفقد فيها الأمة ولاءها حتى للمثال التكراري، فيسيطر عليها مجرموها، الذين لا يرعون عهدًا ولا ذمة، فيحل بها الدمار، وتتمزق، ويذهب كل ما أنشأته وقامت به...
    هذان هما المثالان السائدان في العالم اليوم وهذه هي نتائجهما التي نشاهدها ونتألم من قسوتها، وبُعْدها من إنسانية الإنسان.
    أما النوع الثالث من المثل العليا فهو الذي يتمثل بالمثل الأعلى الحقيقي، وهو رضوان الله سبحانه وتعالى... فالمثل الأعلى الحق بالنسبة إلى الإنسان يجب أن يكون غير محدود، ومن غير نتاج الإنسان، بل لا ينبغي أن يكون إفرازًا ذهنيًّا للإنسان، بل يجب أن يكون مثلًا أعلى حقيقيًّا، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق. وهذا لا يكون إلّا من الله سبحانه وتعالى.
    الإنسان والمثل العليا:
    يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} (سورة الانشقاق: الآية 6). هذه الآية الكريمة تخاطب الإنسان، وتنبِّهه إلى ضرورة أنْ يجعل هدفًا أعلى لنفسه، بل للإنسانية ككل، وهذا الهدف الأعلى هو كَدْحُه نحو الله سبحانه وتعالى، أي السير المستمر بالمعاناة وبالجهد والمجاهدة لتحقيق نيل مرضاة الخالق عزَّ وجل.
    المثل الأعلى والشعور بالمسؤولية:
    كلَّما تقدم الإنسان في هذا المسار، واعيًا المثل الأعلى وعيًا موضوعيًّا، كان سيرُه صُعدًا، وسعيُهُ هادفًا لأنه يتوخى فيه الارتقاء والتكامل باستمرار. وهذا هو التقدُّم المسؤول، وهو بخلاف التقدم غير المسؤول عندما يكون السير غير هادفٍ أو عندما يكون التقدم منفصلًا عن الوعي.
    لذلك فإن المثل الأعلى في الحقيقة يحدث تغيُّرًا كيفيًّا في مسيرة الإنسان لأنه يمنحه الشعور بالمسؤولية. من هنا كان دور دين التوحيد الأخذَ بيد الإنسان لإزالة العوائق كافة، وكان كذلك دعوةً صريحة واضحة إلى نبذ كل المثل المصطنعة، والمنخفضة، والتكرارية التي تريد أن تجمد حركة الإنسان، وتنتزعه من دخيلته حتى تبعده من الشعور بالمسؤولية، ومن ثَمَّ من الكدح لتحقيق الوصول إلى المثل الأعلى الذي هو رضوان الله تعالى.
    ومن هنا أيضًا كان التأكيد على دور الإنسان، بما يمكن أن يتحمل من مسؤولية للتأثير في حركة التاريخ، سعيًا وراء هذا المثل الأعلى في حياته. والركيزة الأساسية لهذا الدور هو الاختيار عند الإنسان، بفكره ومشاعره وبإرادته. وكلَّما توافق هذا الاختيار مع المثل الأعلى تمثل بمواقف إيجابية لهذا الإنسان، وهي المواقف التي تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية جزاءاتها المناسبة. فالجزاء يأتي من جنس العمل {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (سورة الطور: الآية 21) كما قال عزَّ وعلا. بحيث يكون لاختيار الإنسان موضعه الرئيسي في الساحة التاريخية، ومسؤوليته المهمة على هذه الساحة. وإن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو كلُّ عمل هادفٍ ذي غاية، والذي تكون له في الوقت عينه أرضيةٍ أوسع من حدود الفرد، وأرضية هذا العمل هي عادةً المجتمع أو أرضية الجماعة. وبذلك يكون موضوع السنن التاريخية العمل الذي يتوخَّى دائمًا مثلًا أعلى ساميًا يتَّخذ من المجتمع أو الأمة أرضية له، سواء اتسعت هذه الأرضية أو ضاقت.
    الحالات التاريخية التي تصيب الأمة:
    عندما يتداعى كيان الأمة، وتهترئ مقومات وجودها، فإن التاريخ يدلنا على أن هنالك إحدى ثلاث حالات يمكن أن تنطبق على هذه الأمة:
    الحالة التاريخية الأولى: أن تتداعى الأمة أمام غزو عسكري خارجي، لأنها تكون قد تخلت عن وجودها كأمة، وصارت مجموعة أفراد، لا يهم كل فرد إلَّا تأمين حاجاته ومصالحه الذاتية. وهذا ما وقع للأمة الإسلامية بعد أن تخلى المسلمون عن مَثَلِهِم الأعلى، وعن ولائهم لهذا المثل الأعلى، فوقعوا فريسةَ غزو التتار لبلادهم، وسقطت حضارتهم تحت وطأة هذا الغزو الهمجي.
    الحالة التاريخية الثانية: أن ينصهرَ أفراد الأمة وتذوبَ شخصيتهم الجماعية في مثلٍ أعلى أجنبيّ، يكون طارئًا أو مستوردًا من خارج بلادهم. ذلك أنَّ الأمة عندما تفقد حيوتها، ويضعف كيانها، وتتخلى عن المـــُثُلِ العليا والقيم الرفيعة النابعة من ذاتها، فإنها تبحث عن مَثَلٍ أعلى من خارجها تقدم له الولاء, وتمنحه القيادة عليها.
    وهذا ما حصل للأمة الإسلامية عندما رزحت تحت وطأة الاستعمار، إذ كان بعض قادتها يبحثون عن مثلٍ أعلى مستوردٍ من الخارج حتى يطبقوه في حياة الأمة. ومن الحكام المسلمين الذين نجحوا في ذلك: رضا خان في إيران، وكمال أتاتورك في تركيا وبعض حكام العرب.
    ذلك أن أولئك الحكام الذين لبسوا ثوب الإسلام، وفرغت نفوسهم من مفاهيمه، راحوا ينشرون في حياة شعوبهم المثلَ الأعلى لما يقوم به الإنسانُ الأوروبيُّ المنتصر، ويحاولون أن يجعلوا المسلمين يقدمون الولاء لهذا المثل الأعلى الذي استوردوه من أوروبا. وأهمُّ الأساليبِ الخبيثةِ التي استعملها المستعمرُ الأوروبيُّ لدعم أولئك الحكام بذرُ روحِ الانشقاق في صفوف الأمة الإسلامية، وبثُّ الروحِ القوميةِ بين شعوبها. فارتفعت رايات القومية الإيرانية، والقومية التركية، والقومية العربية. وقد عُمِّيت تلك الحقيقةُ عن أبصار المسلمين وبصائرهم، فراحوا يساعدون أعوان الاستعمار على توطيد الروح القومية بعيدًا من دينهم ومن ربهم الذي أنزل لهم هذا الدين هدى ورحمة لهم وللعالمين أجمعين. ونجح المخطّطُ الاستعماريُّ، وراح المثلُ الأعلى الأوروبيُّ ينتقل من بلد إلى آخر من بلاد المسلمين، حتى بلغ هؤلاء الدرك الأسفل من الانحطاط والتقهقر...
    الحالة التاريخية الثالثة: أن تعود وتغرس في أعماق هذه الأمة بذور المثل الأعلى من جديد، وتتمسك به بآفاقٍ فكريةٍ جديدةٍ تكون على مستوى العصر الذي تعيشه.
    ويبدو أن هذه الحالةَ قد عادت إلى ساحة الأمة الإسلامية بفضل الله تعالى وبفضل روادٍ في الفكر الإسلاميِّ ظهروا في بدايات وفي أثناء عصر الاستعمار لشعوب الأمة وبلادها. وقد بذل أولئك الرواد جهودًا مخلصة، ومنهم من استشهد من أجل إعادة غرس المثل الأعلى في نفوس المسلمين، وحتى يأتي العمل متوافقًا مع روح العصر ومتناسبًا مع حاجات المسلمين.
    المسار الحقيقي لحركة التاريخ:
    وفي دراسة حركة التاريخ، لا بد من أن تواجهنا قاعدتان أصليتان ينبغي أن نتذكرهما دائمًا حتى نضعَ هذه الحركة في نطاقها الصحيح، ونعطيها مسارها الحقيقي. وهاتان القاعدتان هما:
    ـــــــ أنَّ خلق الأفعال من الله تعالى، لأنَّ له وحده الألوهية والرُّبوبية والخلق.
    ـــــــ أن مباشرة الأفعال هي من الإنسان، لأنه يملك قدرة المباشرة، ولأنه يملك خاصية الإدراك. إن قدرة الإنسان على المباشرة، وامتلاكه ملكة الإدراك، تتيحان له فهمَ حركة التاريخ، كي يستطيع التأثير في واقعه، وتغيير هذا الواقع انطلاقًا من فهمه لهذه الحركة.
    وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن حركة التاريخ هي مدار الجهد الإنساني منذ فجر الخليقة، وستظل كذلك حتى نهاية هذا الكون... أي إنها ذلك النتاج الكبير، والتجمع الضخم للأحداث ـــــــ الغامضة منها والواضحة، المستترة منها والمعلنة ـــــــ التي شهدها الإنسان في مختلف مراحل تطوره، ابتداءً من اكتشاف حاجاته الأساسية، وحتى بلوغه أقصى درجات النضوح الفكري الذي أمده، ولا يزال يمدُّه، بعناصر وعوامل التقدم والرقي... أي إنها ذلك النتاج والتجمع من إرادة البشرية ونضجها، وذكائها وجهودها، بحيث تتكون الحصيلة النهائية للجهد البشري في كل زمان، عند مفترق مرحلة من المراحل، لكي تتوثَّب للانتقال إلى مرحلة أخرى. لذلك فإن هذه الحركة هي التي تعطي لكل مرحلة من مراحل التطور إشارة البدء، من دون أن يكون لديها إشارة للختام، لأنه لا نهاية لها هي مثلما أنه لا ختام ملحوظًا أو مرئِيًّا للجهد الإنساني، ما دام الإنسان قائمًا على هذه الأرض...
    فالمهم أن حركة التاريخ لا تتوقف، وكذلك تقدم الإنسان، فهو في إطارها وضمن مسارها، لا يتوقف أيضًا... وتبقى حركة التاريخ مستمرة، ويبقى معها الإنسان دائرًا في فلكها إلى أن يحين الميعاد، وينتهي كل شيء بأمر الله تعالى، لأنَّ إلى ربك المنتهى... ففي النهاية كل شيء يرجع إلى الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لأن إليه المصير، مهما امتدت الأزمان، ومهما تعاقبت الأجيال، وتداولت الأمم، ومهما طال عمر الكرة الأرضية.
    ملاءمة حركة التاريخ:
    وكما أن حركة التاريخ مستمرة في جريانها وفق ما قدَّر لها اللهُ تعالى، فإنَّ هذا الجريان يبرز على عدة مراحل، وبطرق متنوعة بحيث لا تأتي نتائجه واحدة على البشرية ككل في صفٍّ واحدٍ، ولا وفق خطة واحدة، وزحف واحد، وظروف واحدة... ذلك أن المجال واسع أمام كل جماعة، أو شعب، أو أمة، لوضع الخطط ورسم الطرق، وتعيين الأهداف وفق الإمكانيات المتاحة والاحتياجات المطلوبة، وظروف التطور لكل منهم. أي بمعنى آخر أن حركة التاريخ تكون عبارة عن ملاءمة الطرق والمراحل والظروف لكل جماعة بشرية تعي حاجياتها، وتستفيد من إمكانياتها، وتعرف كيف تطوِّر ظروف حياتها، حتى تحقِّق الأهداف التي ترسمها، والآمال التي تصبو إليها. فإن كانت لها القدرة على استيعاب تلك الملاءمة وعرفت كيف توظفها لصالحها، أمكنها الوصول إلى أهدافها عن طريق استخدامها لحركة التاريخ الاستخدام الصحيح. وإلَّا بقيت تدور حول نفسها، لا تعلم كيف تبتدئ ولا كيف تسير ولا كيف تصل. وبقيت ترسف في قيود الجهل والتخلف، بعيدة من كل تقدم وتطور، أي خارج ملاءمة حركة التاريخ...
    وحركة التاريخ لا يصنعها، ولا يمكن أن يصنعها، فرد أو أفراد مهما علا شأنهم ونمت أفكارهم، ومهما كان حظهم كبيرًا في العبقرية والسلطان... قد يستطيعون بقواهم الخارقة أو شبه الخارقة ـــــــ ومدلول الخارقة هنا يعني تميُّزهم بالقدرة الفائقة بالنسبة إلى غيرهم ـــــــ أن يسيطروا على بعض الفرص الموجودة أصلًا في حركة التاريخ من خلال سيرها المرسوم، وبالتالي أن يسيطروا على بعض الأحداث الكبيرة التي تظهر في أيامهم. بل ربما كانوا هم الذين يقومون بافتعال هذه الأحداث، محققين أحيانًا نجاحات باهرة، لكنهم غير قادرين، أحيانًا أخرى، على تحقيق أي شيء، ما دامت الظروف كثيرة المفاجآت، والاحتمالات شديدة التقلُّب، وهذه الاحتمالات وتلك الظروف قد لا تكون متوقعة أبدًا عندهم...
    وقد يساعد هؤلاء العباقرةَ ذكاؤهم على أن يسارعوا الخطى، وأن يقطعوا طريقهم وثبًا... لكن المفاجأة تكون عند الخطوة الأخيرة التي تفصلهم عن هدفهم، حيث لا يجدون شيئًا، بل قد يجدون أنفسهم ـــــــ بكل حساباتهم، وبكل عبقريتهم، وبكل اقتدارهم ـــــــ منكفئين إلى الوراء أو منزلقين في هوة سحيقة... من دون أن يقدروا على تحقيق شيء من تطلعاتهم وطموحاتهم...
    وليس ذلك فحسب، بل قد يكتشفون ـــــــ بعد فوات الفرصة ـــــــ أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمون الفرص التي أتيحت لهم استخدامًا ذكيًّا لتحقيق أهدافهم، بحيث تأتي النتائج مغايرة تمامًا لما حسبوه هدفًا محسوبًا ومدروسًا، وله ميقاته المعلوم، وله وسائله وأساليبه الملائمة. ذلك أن حركة التاريخ، وهي تسير بأمر الله تعالى، كانت خارج إطار حساباتهم، وقد عملوا بخلاف السنن المقدرة لها. لذلك نجدهم، على الرغم من لهاثهم وراء ما نسجوا، فإنهم قد وقعوا في الأخطاء الفادحة التي قادتهم إليها قناعات ضالة أدَّت جميعها في النهاية إلى الفشل.
    وهذا ما حدث مع «نابليون» ومع «هتلر» ومع «كارل ماركس» ومع كثيرين غيرهم من السابقين عبر التاريخ الطويل... فقد تصور كل واحد من هؤلاء، أنه قادر بما يملك من قوةٍ فكرية أو مادية، أن يغيِّر مجرى التاريخ، وأن يتحكم بمصير القارة التي يعيش عليها، أو بمصائر العالم بأسره. لكن النتائج جاءت في النهاية تثبت أنه لم يستطع تحقيق أحلامه، لأنه لم يفقه حركة التاريخ، أو لم يتجاوب مع سننها الإلهية وفق المنهج الرباني الذي رُسِمَتْ له...
    ومع ذلك لا أحد يُنكر بأن «ماركس وأنجلز» ـــــــ كونهما فيلسوفي الماركسية ـــــــ كانا من الذين حركوا الأفكار لنيل الثقة بحركة التاريخ. مع أن الماركسية من الوجهة النظرية تقوم على جهالةٍ عميقةٍ بالنفس البشرية وبحركة التاريخ. فهي تصوِّر جميع الدوافع الإنسانية على أنها جوعة المعدة، والصراع على لقمة العيش. كما أنها تصوِّر حركة التاريخ بأنها تتغيّر تبعًا لتغيّر أدوات الإنتاج... وبذلك تلغي الماركسية أهمَّ مقوِّمات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ الحيوان. ثم هي، فجأةً، تتصوّر المستقبل خِلْوًا من كلّ وراثات البشرية... وتفترض أن الناسَ سيتحوّلون ملائكةً خيّرين، يُنتج كل منهم أقصى ما يستطيع ولا يأخذ إلّا قدرَ ما يكفيه... وكلّ هذا يجري بنظرهم من دون رقابةٍ ومن دون حكومةٍ، ومن دون إيمان الإنسان بجنة ترغِّبه أو بنارٍ تردعه. أو من دون سبب مبنيٍّ على حقيقة الواقع... اللّهمّ إلّا ذلك الانقلاب الخرافيّ العجيب الذي يتمُّ في طبائع البشر بمجرد تحطيم العناصر البورجوازية، وتسليم الأمر للبروليتاريا... كما يزعمون.
    ولقد حاول ماركس نفسه اكتشاف الأهمية البالغة لحركة التاريخ فنجح فقط بصفته فيلسوفًا للماركسيّة. أما حين أراد أن يتجاوز هذه الصفة، وراح يشترك في قيادة ثورات بعض بلاد أوروبا، فقد حاق به، وبتلك الثورات، فشل ذريع، لأنه وفقًا لمفهوم حركة التاريخ الصحيح لم تكن الفرص ـــــــ حتى ذلك الوقت ـــــــ قد أصبحت مؤاتية لظهور تلك الثورات... وبذلك فشل ماركس في محاولته الإفادة من حركة التاريخ وواجه عواقب تعجُّله وتسرُّعه.
    بيد أن «لينين» مهندس الماركسية وقائدها، والذي لم تكن إحدى ظواهر حركة التاريخ في بلاده روسيا من صنعه، قد أمكنه أن يُتِمَّ نجاح الثورة بقيادته. فقد عاش في المنفى سنين طويلة، يعلِّم شعبه من بعيد الامتعاض والرفض، ويعبِّئه ويهيئه بنداءاته وتوجيهاته التي كان يرسلها إليه سرًّا... وعلى الرغم من أن تلك التعبئة كانت ضد الطغيان والفساد والجهل، وأن ذلك التهيؤ كان ليوم الثورة، فإنه لم يستطع أن يبلغ أهدافه الثورية. إلَّا بعد أن عرف كيف يفيد من الفرصة المؤاتية لتلك الثورة.
    ذلك أنه عندما شارفت الحرب العالمية الأولى على نهايتها، وأمست ألمانيا تواجه هزيمتها، فإنها راحت تلعب بكل الأوراق المتبقية لديها... وكان أخطر تلك الأوراق، وأكثرها احتمالًا للنجاح والغلبة: «لينين» و«روسيا»... تلك كانت هي الفرصة التي هيأتها الحرب برجوع لينين إلى بلاده، ودخولها خفيةً حتى صار في وسط الأحداث، يراها ويسمعها، ويحاول أن يكفيها بما يخدم أغراضه وأهدافه... ولولا تلك الحرب لما استطاع «لينين» أن يصنع شيئًا، ولو في ذلك الحين على الأقل. بل وما كان بقادرٍ على أن يعود إلى روسيا، ليخطوَ تلك الخطوات التي قادت إلى تغيير النظام برمَّته، وإقامة حكم جديد أساسه الفلسفة الماركسية، وهيكليته الاشتراكية... من هنا يمكن القول بأن لينين أفاد من حركة التاريخ في خضم تفاعلات الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها زوال أنظمة بأسرها في أوروبا وآسيا وغيرهما، وقيام أنظمة أخرى بديلة.
    ومع ذلك فإن من يفهم حركة التاريخ بجميع جوانبها، ويقف على مفهوم سننها هو الذي يقدر وحده أن يستفيد منها، كما فعل «لينين» عندما فهم بعض جوانبها... فقدرة هذا الرجل كقائدٍ ومعبِّئٍ ومناضل... بغضّ النظر عن النظام الذي أقامه، والفلسفة التي ارتكز عليها هذا النظام، وبغضّ النظر عن الماركسية ككل لما تنطوي عليه من نظريات مادية وإلحادية ولا سيما في اعتبارها أن حركة التاريخ هي من صنع الإنسان، في حين أنها في الحقيقة هي من صنع الله الحكيم الخبير... نعم بغضّ النظر عن ذلك كله، فإن قدرة لينين تكمن في فهمه لبعض جوانب حركة التاريخ، واحترامه لها، واستشرافه توقيتها، لذلك أمكنه أن يفيد من بدء جولة جديدة من جولاتها، ولعلَّه بهذا كان أكثر توفيقًا من أستاذه «ماركس»...
    أما على المستوى الدولي فقد تثبَّتَت الاشتراكية كنظام في مقابل النظام الرأسمالي. ثم راح ينمو كل من هذين النظامين بزعامة الاتحاد السوفياتي للنظام الاشتراكي، وزعامة الولايات المتحدة الأميركية للنظام الرأسمالي، إلى أن توزعت سائر الدول الأخرى بين تبعيَّة هذا النظام أو ذاكَ. وقد وقف المسلمون بين الطرفين كأمة وسط، تدين بالإسلام عقيدةً ومنهجًا للحياة، وتسودُ بلادَهم أنظمةٌ وضعية فرضها عليها أعداؤهم فرضًا، وذلك نتيجة لتفرق كلمتهم ولعدم تفاعلهم مع تعاليم إسلامهم الصحيحة...
    وهكذا يتأكد لنا أن «حركة التاريخ» حركة مستمرة، وتبرز بالآثار والنتائج المقدَّرة أصلًا من الله تعالى، أيًّا كانت أعمال البشر وقدراتهم التي يتوهمون امتلاكها.
    إننا نعود فنؤكِّد أن حركة التاريخ هي الدليل على مجريات الأحداث ونتائجها، وأنه لا يمكن لأحدٍ أن يتحرَّك وينجح بمحض إرادته إذا لم يكن قد أتى دورُ تحرُّكه المفروض في مرحلة معيَّنةٍ لا يتمكَّنُ من استباقها ولا من التأخر عنها. قال تعالى مخاطبًا نبيَّه موسى عليه السلام: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (سورة طه: الآية 40). أي جئتَ في الوقت المقدّر لنبوّتك: لم تستبقْهُ ولم تتأخّر عنه.
    فاعلية حركة التاريخ:
    أما إذا حاولنا الإلمام ـــــــ ولو بنظرة سريعة ـــــــ بفاعلية حركة التاريخ في مسار الحياة البشرية من خلال استعراضٍ جزئي للأحداث العامة التي وقعت في قارتي آسيا وأفريقيا، خلال المدة الزمنية التي بدأت منذ الحرب العالمية الأولى واستمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لوجدنا أن أيًّا من زعماء البلاد في القارتين لم يكن صاحب دور جوهري، وحقيقي، ومنفرد في تحرير بلاده... بل هي حركة التاريخ التي شاء الله تعالى أن يوظفها بعد الحرب العالمية الثانية لحساب شعوب القارتين الكبيرتين، بحيث أفضت نتائج تلك الحرب إلى تخليص معظم الشعوب من الاستعباد والاستعمار العسكري بما مكَّنها من إقامة دول ذات أنظمة معيَّنة... وكل ذلك ضمن حركة التاريخ، التي انعكست بتغيُّر الأحوال في القارتين، وإفساح الطريق أمام الشعوب المناضلة علَّها تنجح في إبعاد شبح الظلم والاستبداد من حياتها في تينك القارتين.
    ولو عُدنا إلى الوراء قليلًا وفق دورة الزمان، لوجدنا أن ما حصل في أعقاب الحرب الثانية، وما تمخَّضت عنه من نتائج، لا يختلف كثيرًا في جوهره عما كان قد حصل منذ قرنين من الزمن في القارة الأميركية، ولا سيما في أميركا الشمالية. لقد استفاد بعض زعماء هذه البلاد من الفرصة السانحة التي مكَّنتهم من التخلص من الاستعمار الإنكليزي لبلادهم، فقاموا يستنهضون الهمم، ويصوِّرون للناس أهمية التحرر والاستقلال، حتى كانت الاستجابة، وعقدت المؤتمرات التي جمعت في بادئ الأمر ثلاث عشرة ولاية. ثم انطلقت المسيرة لتنضوي كلُّ الولايات الأخرى، شيئًا فشيئًا، إلى لواء العلم الاتحادي الذي جعل منها دولة اتِّحادية. وراح زعماؤها يقتنصون الفرص، مستفيدين من حركة التاريخ، وباذلين الجهود لمواكبة سير التقدُّم، حتى أوصلوا دولتهم إلى ما هي عليه من القوة والسلطان، وصارت اليوم دولة عظمى يمكن لها أن تتحكَّم، حقيقةً أو جزافًا، بمصير العالم كلّه.
    ولكن إذا كانت التغيّرات الحاصلة في العالم، وبحكم مسيرة حركة التاريخ، قد أفسحت في المجال لقيام دولٍ عظمى لم تكن موجودة من قبل، كالولايات المتحدة الأميركية، فإنها، في المقابل، قد أزالت امبراطوريات وملكيات سيطرت على أجزاء كبيرة من الأرض خلال حِقبٍ طويلة من الزمان... فعندما اعتقد الأباطرة والملوك ـــــــ الذين كانوا يحكمون بنظرية الحق الإلهي ـــــــ أنهم ملكوا زمام الأمور، وأنهم قادرون على التحكم برقاب الشعوب، ظهرت حركة التاريخ بوجهٍ آخر لتثبت لهم أن الأمر منوط بقدرة من يسيِّرها ـــــــ وليس بقدرتهم هم ـــــــ وأنه يكون لها تأثيرها، بأمر ربِّها، أن تنعكس في التبديل والتغيير الحاصلين، وليس لأيِّ امبراطور أو ملكٍ أن يتسلَّح بقدرته، ولا بعبقريته بعيدًا ممّا يشاء الله تعالى، ولا السير بخلاف ما قدَّره ـــــــ سبحانه ـــــــ لمسار حركة التاريخ. فغابت من جراء ذلك امبراطورية الرومان، وذهب حكم كسرى، وهوت عروش أوروبا، واندثرت جبابرة آسيا. وزالت دول وشعوب غازية كثيرة، وبقيت مع ذلك حركة التاريخ تتفاعل مع الأحداث التي تحصل هنا أو هناك بما ينفعُ حينًا، أو يضرُّ أحيانًا الأفراد والجماعات.
    وليس النفع أو الضرر بفعل حركة التاريخ نفسها، لأنها في النهاية، لا تملك هي مصيرها حتى يمكنها أن تتحكم بالمصائر، بل إنها تهيّئ الأسباب والإمكانيات، وتتيح الفرص والمجالات، فإن جاءت النتائج ضارة وسلبية، فذلك لسوء مباشرة الإنسان للأفعال، نتيجة جهله لحقيقة حركة التاريخ، وإن جاءت النتائج مفيدة وإيجابية، فذلك لحسن مباشرة الإنسان للأفعال، من جراء فهمه لحقيقة حركة التاريخ...
    حركة التاريخ ومباشرة الأفعال:
    لا شك في أنَّ مباشرة الأفعال إنما هي من فعل الإنسان ولكن بالقدرة التي منحه إيَّاها الله تعالى... وما يجب أن ينطلق منه الإنسان هو تلك القاعدة التي تفرق بين المباشرة غير السليمة والمباشرة السليمة. فالإنسان عندما يباشر أعماله في الحياة يجب أن تكون هذه الأعمال متفقة مع أوامر الله تعالى ونواهيه حتى تكون المباشرة سليمة وحتى تجيء النتائج مؤاتية. وإذا كان من الصحيح أنَّ انطلاقة مباشرة الأفعال هي من الإنسان، إلّا إنّ النتائج تأتي دائمًا وفق إرادة الله تعالى وعلى النحو الذي قدَّره سبحانه، في النهاية، وأراده.
    ولكن في أثناء مباشرة الإنسان للأفعال من الممكن أن تعترضه عقبات، أو قد تحدث له مفاجآت لم تكن في حسبانه، ولم يكن ينتظرها. فإذا كانت مباشرته قد ارتكزت على أسسٍ سليمةٍ، واعتمدت وسائل وأساليب صحيحة، فإنّ الاحتمال الأكبر أن تأتي النتائج لصالح هذا الإنسان كونه يكون قد باشرها على الأسس المبنية على أوامر الله ونواهيه... أي أن هذه المباشرة الصحيحة السليمة هي التي سوف تؤدي إلى النتائج الحسنة والمفيدة. ومن هنا تكون النتائج النهائية من الله المدبّر الحكيم، وعلى النحو الذي أراده سبحانه وتعالى...
    وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية الكريمة بقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (سورة النجم: الآيات 39 ـــــــ 42)... ومثلها أيضًا آيات بيِّنات تؤكد هذا المعنى. قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (سورة الليل: الآيات 3 ـــــــ 13)... أو ليس واضحًا أنَّ السعي للأعمال (أي مباشرتها) متروك للإنسان بفعل اختياره؟
    ثم أليس واضحًا أيضًا أن لا نتيجة محتومة مهما كان السعي، لأن المشيئة لله سبحانه، وهو تعالى يقدِّر النتائج بصورتها النهائية؟ ولكن يبقى الإيمانُ بقدرة الله سبحانه وعظمته، والتسليمُ لحكمته ومشيئته، الدافعَ الأول والأخير، والأساسَ الصلب المتين الذي يجب على الإنسان أن يتمثل له، ويعمل بموجبه... أما إذا تنكَّر لذلك فقد كفر. وقد توعَّد الله هؤلاء الكافرين، الذي يتوهمون أن الأعمال بيدهم، وأن النتائج التي يرغبون فيها بامتلاكهم، توعَّدَهم بما يستحقون على سوء ظنهم. وفي الحقيقة إذا كان الإنسان يملك المباشرة إلَّا إن النتائج لا يملكها إلا الله وحده. وهو الذي أخبر في كتابه الكريم أن نتائج أعمال الذين كفروا بربهم كرمادٍ تذروه الريح العاصفة، أو كسرابٍ في أرض جرداء لا ماءَ فيها، وذلك في قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (سورة إبراهيم: الآية 18). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة النور: الآية 39) .
    هذه هي الحقيقة التي لا مراءَ فيها. فالإنسان يعمل، لكنَّ عملَهُ مرهونٌ بإيمانه بحقيقة وجود الله تعالى، أو بكفره بربه، ومحكوم بالنهاية بالنتائج التي تترتب على الإيمان والكفر... ولا مجال لتجاهل هذه الحقيقة، بل إن تجاهلها هو الجهلُ المطبق، والضلال المبين. فليدرك الإنسان عظمة الله تعالى، فهو الخالق، وهو الإلهُ، وهو الربُّ العزيز القدير. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (سورة الأعراف: الآية 54)، كما يقول عن نفسه سبحانه وتعالى، بحيث لا يعود بعد هذا القول من مجالٍ لأي وهمٍ أو تمنٍّ... روي أنه عند نزول هذه الآية الكريمة، وتلاوتها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصحابة الكرام، خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول للناس: «مَن بقي له شيء فليطالب به»...
    الله سبحانه يُمِدُّ الإنسانَ من عطائه:
    ويزيد القرآن الكريم تأكيدًا على هذه الحقيقة بقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (سورة الزخرف: الآيات 82 ـــــــ 84) فسبحان الله الذي هو في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ، عمَّا يعاندون، ويكابرون حين لا يردون النتائج لأمره سبحانه وتعالى... إذ كثيرًا ما يتوهم الجاهلون بأن في الأرض خلائق كثيرين من بني البشر يسعَوْن ويكدون، ويَغْنَون ويعلون، ثم يتصرفون بلا وازع إيماني، ولا مناقبية إنسانية، فيعجب الجاهلون، كيف أنّ أولئك الجاحدين المنكرين يمدُّهم الله سبحانه بأسباب الغنى والجاه، وكيف أنَّ آخرين، من المؤمنين، قد لا يحصلون على مالٍ، ولا على جاهٍ، ولا على غير ذلك من أسباب الحياة... لذلك كان لا بد من تصحيح المفاهيم عند مَن لا يتبصَّرون في القرآن، الكتاب المجيد الذي فيه تبيان كل شيء، والذي ردَّ على تعجُّب الجاهلين، وغير الجاهلين، بتقريره أنّ العطاء والرزق من الله، فهو يعطي من يشاء من عباده مؤمنين وكافرين، ويمدُّ من يشاءُ منهم وفقَ ما يريد، فليس عطاء الله تعالى محظورًا... كُلًّا يعطي، وكُلًّا يعجِّل له... ولكن إلى أين ذلك كله، والمصير بيد الله تعالى، والنتائج مردُّها إليه عزّ وجلّ؟ فمن كان يريد الدنيا يُعطى، ومَن كان يُريد الآخرةَ يُعطى... ولكن ماذا بعد هذه الدنيا... إلّا الآخرة؟ إذًا فهنالك المصير المحتوم!...
    يقول الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} (سورة الإسراء: الآيات 18 ـــــــ 20). وفي ذلك أيضًا يقول الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (سورة الشورى: الآية 20).
    فكلام الله تعالى يجري دائمًا على السعي، والعمل والحرث، والمراد بها مباشرة الأعمال. فمن عمل لدنياه فحسب، فإنَّ الله سبحانه يعجل له فيها ما يشاء لمن يريد، ولكن يجعل له جهنَّم مصيرًا. ومن عمل لآخرته وسعى لها سعيها، وهو مؤمن، كان سعيُهُ مشكورًا ونال الجزاءَ الأوفى.
    وحرثُ الإنسان، هو كل ما يباشره من أعمال... فمن كافح صابرًا مثابرًا محتسبًا لإقامة العدل وإحقاق الحق، أمده الله بعونه وتوفيقه، وزاد في حسناته أضعافًا مضاعفة، وإن لم يؤتَها في الدنيا، فهي له حتمًا في الآخرة... وأما من عمل لنفسه، وقاس الحق والعظمة بسيادته، والعدل والخير بمعاشه ولباسه، فإنه يمكن أن ينال ما أرادَ، كلَّه أو بعضَه، لكنه عند الله وعند المؤمنين يُقدَّرُ بما قاسَ به الحق والعدل، وما له في الآخرة من نصيب... هكذا هي حياة الإنسان أمام الحقائق المطلقة، يباشر العمل وفق أوامر الله ونواهيه فتأتي النتائج طيبة. أما إذا باشره بخلاف ما يرضاه الله تعالى فإن النتائج تأتي ويلًا عليه. وجميعُ ذلك مردُّهُ لأمر الله. ألا له الخلقُ والأمر في السماء وفي الأرض، إنه هو الحكيم العليم...
    ويبقى عمل الإنسان في ذلك كله ضمن دائرة حركة التاريخ، أي إنه بأمر الله سبحانه وتعالى تكون لبني الإنسان أحوال وأوضاع شتَّى، كما تكون للدول والجماعات أحوالها وأوضاعها حيث تندثر جماعات، كما رأينا، وتقوم أخرى، وحيث تزول دولٌ وتنشأ أخرى...
    حركة التاريخ جند من جنود الله:
    وقبل أن ننهي هذا الفصل لا بدّ من القول: إنَّ أهم ما يجب تقريره هنا، بل التأكيد عليه، أن حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي، إنما هي جندٌ من جنود الله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة الفتح: الآية 4). {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (سورة المدثر: الآية 31)... أو هي كلمة من كلمات الله، كما يعبر عنها بعضهم. وسواء قيل إنها جندٌ من جنود الله أو كلمة من كلماته، فهي أخيرًا من صنع الله، بحيث لا يحدث شيء في السماء أو في الأرض إلَّا بأمره وبعلمه، ووفق مشيئته المطلقة... ومن هنا كان دور حركة التاريخ مهمًّا، وبارزًا، لأنها تجري بأمر الله، فتشهد على تداول الأحوال، وتبدل الأوضاع ـــــــ للأفراد والجماعات ـــــــ بالانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، من غير أن تتأثر أو أن تنتج آثارها إلَّا بما شَاءَ لها الله وما قدَّر، لأن الأمرَ كله، في النهاية، إليه وحدَه. وقد قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة آل عمران: الآية 26).
    فالله ـــــــ سبحانه ـــــــ هو وحده المالك، بلا شريك ولا منازع. يملِّك من يشاء من ملكه وبقدر ما يشاء. يملِّكه إيَّاه ملكية إعارة خاضعة لشروط صاحب الملك وأمره، فإذا تصرف المستعير تصرُّفًا مخالفًا لشروط المالك وقع هذا التصرف باطلًا، وتحتّم على المؤمنين ردُّه في الدنيا... أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب الملك الأصيل.
    والله ـــــــ سبحانه ـــــــ هو وحده أيضًا يُعِزُّ من يشاء، ويُذلُّ من يشاء بلا معقِّب على حكمه، ولا مُجير عليه، وبلا رادّ لقضائه. فهو ـــــــ سبحانه ـــــــ صاحب الأمر كله، وأنه هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم الخبير.
    وفي قيُّوميةِ الله هذه، الخير كل الخير، فهو سبحانه يتولاها بالقسط والعدل، فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل. ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل. فبيده الخير الحقيقي في جميع الأحوال، وفي جميع الحالات، ومشيئته مطلقة، وقدرته مطلقة على تحقيق هذا الخير، لأنه على كل شيء قدير.
    فهل يمكن بعد، أن يكون لأحدٍ في الأرض ملك أو سلطان، أو قدرة أو أمر، إلا أن يشاءَ اللهُ تعالى؟!...
    وهل تدلّنا حياة الإنسان إلَّا على هذه الحقيقة المطلقة؟ فكم من شخص وصَلَ، بعد الفاقة والقهر، إلى أعلى مراتب الغنى والعزّ، وكم من جماعة ارتقت وارتفعت في سؤدد الحكم والسلطان ثم هبطت، وتقهقرت، وزالت من الوجود... فهؤلاء حكام الرومان وحاشيتهم أكبر مثال على ذلك. لقد انصرفوا بعد حروب دامية واحتلالات متعاقبة دامت طويلًا، إلى حالة الارتخاء، وإلى المتع والملاذّ، والإغراق في مباهج الحياة حتى كان أحدهم، لكثرة المآكل والمشارب أمامه، وقد امتلأ شبعًا، يذهب ويتقيّأ حتى يستطيع أن يعود للأكل والشرب من جديد... ولكن ها هُمْ أولاء قد أصبحوا في التاريخ نسيًا منسيًّا: ذهبت سِيَرُهم، وأضحت قصورهم وأملاكهم هباءً منثورًا، بعد أن دالت الأيام عليهم، كما دالت على غيرهم، وقذفتهم في متاهات النسيان...
    {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (سورة آل عمران: الآية 13)... صدق الله العظيم.

    المصادر
    2 انظر إلى كتاب المدرسة القرآنية للعلامة المفكر محمد باقر الصدر.

    3 القِيعة: الأرض الجرداء الخالية. والباء هي حرف جرٍّ بمعنى في.



    pv;m hgjhvdo td hglti,l hgYsghld


  2. #2

    افتراضي

    [align=right]الفصْل الثَاني: حَركَة التَاريْخ وَالفِكر الإسْلَامي
    نعم لقد مرَّت على التاريخ البشري دورات تقلّبت فيها أحوال الناس وتبدلت كثيرًا، فكان من الطبيعي أن تطاول تاريخ المسلمين، الذي مرَّ ـــــــ جريًا على قاعدة الحياة ـــــــ بمراحل القوة، وبمراحل الضعف، بحيث ظهرت فيه دول كبيرة وقوية، كما ظهرت فيه دويلات هزيلة وضعيفة. لكنَّ ميزته الأساسية، أنه في جميع مراحله تلك، لم ينفك يمدُّ المجتمعات التي عرفته بـــــــ «الفكر الإسلامي» المتجدِّد الذي لم يتوقف يومًا عن إتاحة الفرصة للنموِّ الإنساني والحضاري، وإفساح المجال لالتقاء الإسلام بالحياة والحضارة، وجعل الحركة متصلةً في العلاقة بين مجتمعه ومختلف الحضارات والثقافات والمجتمعات الأخرى. وذلك كله مع القدرة على الأخذ والعطاء، ومع المحافظة الدائمة على مقوماته الأساسية التي لم تجرِ إضافةُ أيِّ شيء جديد إليها، بعد أن كانت مفاهيم الإسلام وعقيدته قد استُكملت تمامًا، وخطوطه العامة قد رسمت فعلًا، خلال حياة الرسول الأعظم. وتمَّ ذلك كلّه طبعًا بفعل النصوص القرآنية الثابتة، التي لا يطرأ عليها أي تغيير، أو تبديل، وعلى النحو الذي يكفل للبشرية وجود رسالة إنسانية عالمية خالدة، تمتد مع حركة التاريخ إلى النهاية التي يقدّرها الله سبحانه.
    من هنا يمكن القول إن تاريخ الإسلام مرَّ بعصور مختلفة، تبدأ ببناء الجماعة الإسلامية التي بناها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم طوال ثلاثة وعشرين عامًا في مكة والمدينة. ثم توسع الإسلام عن طريق الفتوحات التي أدت إلى انتشاره في بقاع كثيرة من الأرض، ولدى أقوام وشعوب متنوعة.
    صلاح الدين ومحمد الفاتح:
    كان ذلك بفضل قادةٍ مخلصين، ورجالٍ عظام، عرفهم التاريخ الإسلامي، وكانوا على بيِّنة من حركة التاريخ وعلى وعيٍ للإفادة من سننها في تحقيق التوسع ونشر الدين الحنيف. فإذا طوينا بضعة قرون من بداية العهد الإسلامي، أمكننا الوقوف على مثالين من حياة أولئك القادة المسلمين الذين أثَّروا في حركة التاريخ، لصالح الإسلام وأهله، وهما: صلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح العثماني.
    صلاح الدين الأيوبي: (536 ـــــــ 589هـــــــ/1138 ـــــــ 1191م):
    هو صلاح الدين يوسف الأول، ابن الأمير نجم الدين أيوب من مواليد تكريت.
    نشأ في بعلبك حيث كان أبوه واليًا عليها حتى السابعة عشرة من عمره، انتقل بعدها إلى دمشق ليعيش مع أبيه في بلاط نور الدين.
    صحب وزيرَ الخليفةِ العاضد (الفاطميّ) المدعو شيركوه في حملتين على مصر.
    وقد تمكن صلاح الدين من تولّي زمام الحكم في مصر، بعد أن عيَّنه الخليفة وزيرًا ولقبه «الملك الناصر».
    كان صلاح الدين أقرب إلى السياسيّ منه إلى القائد العسكريّ. وكان بارعًا في اختيار معاونيه، إذ اختار لديوانه اثنين من رجال العلم كان يطلق على كل منهما لقب الوزير وهما: القاضي الفاضل، وعماد الدين الكاتب الأصفهاني، الذي ألحق به سنة 584هـــــــ القاضي ابن شداد. وكان الفرنجة يُعدّون حكم صلاح الدين في مصر مصدرَ خطرٍ على بيت المقدس، فسعوا لإبعاده والتخلص منه فبعثوا إلى البابا وملوك أوروبا يطلبون النجدة لغزو مصر.
    وكانت خطةُ الفرنجة تقضي بالاستيلاء على دمياط ثم السير إلى القاهرة. وقد حققوا في غزوهم بعض الانتصارات على جيش صلاح الدين. إلَّا إن اعتباراتٍ عدةً، منها طول مدة الغزو ونقصانُ المؤن لديهم، حالت دون تحقيق انتصارهم النهائي. كما أن حدوث زلزال هائل عام 565هـــــــ (1170م) ضرب المدن الشامية، اضطر المسلمين والفرنجة إلى إلقاء السلاح جانبًا والانصرافِ لإعادة بناء ما تهدم من المدن.
    وبعد ذلك قام صلاح الدين بعدة غزوات على بلاد فلسطين، مما جعل المعاركَ دائمةً بين جيش صلاح الدين وجيوش أمراء الإفرنج الحاكمين في بلاد المسلمين. وكانت الانتصارات مداولةً تارة لصلاح الدين، وتارة لأمراء الإفرنج. لكن المعركة التي كان لها تأثيرها في التاريخ الإسلامي كانت معركة حِطِّين التي أعقبها استعادة صلاح الدين لبيت المقدس من أيدي الصليبيين وأعوانهم (583هـــــــ ـــــــ 1187م) فدمر الآثار الصليبية، ورمّم قبة بيت المقدس والمسجد الأقصى، وشيد المستشفيات والمدارس إثـْــــرَ تلك المناسبة العظيمة التي أقام لها المسلمون في العالم الإسلاميّ احتفالاتٍ باهرةً تمجيدًا لها.
    وعقد صلاح الدين مفاوضات مُضنيةٍ مع الصليبيين كان محورَها أخوه الملك العادل وريتشارد الأول ملك إنكلترا. وكان أهمَّ ما اتُّفِقَ عليه بنتيجة هذه المفاوضات هو تخلي المسيحيين عن بيت المقدس. والسماح لهم بالحج إلى بيت المقدس من دون حمل سلاح.
    وبعد أن صارت بلاد فلسطين، باستثناء المنطقة الساحلية، خاضعة لسلطة المسلمين، قام صلاح الدين بتحصين مدينة بيت المقدس لئلا تسقط بسهولة أمام الغزاة الطامعين. وعاد بعدها إلى دمشق ليتخذها قاعدة لحكمه. إلَّا إنه توفي بسبب المرض وكان ذلك في صفر من عام 589 هجرية 1191م.
    محمد الثاني:
    حكمَ السلطانُ محمد الثاني الذي كان سابعَ سلاطين بني عثمان من عام (855 ـــــــ 886هـــــــ) الموافق (1451 ـــــــ 1481م). تميَّز هذا الملك العثمانيّ بشدة الذكاء، والقدرة على التحمل، والكفاءة في إدارة شؤون الخلافة. وكان شاعرًا مجيدًا وعلى درجةٍ عالية من الثقافة. يتقن عدة لغات إلى جانب لغته الأم. وكان كريم النفس، شجاعًا، جسورًا، مقدامًا حتى إنه بزَّ والده السلطان مراد الثاني بمقدرته العسكرية.
    فتح القسطنطينية:
    خاض محمد الثاني معارك كثيرة وأجرى عدة فتوحات وبسط سلطة الإسلام على مناطق شاسعة، إلَّا إنَّ تأثيره الكبيرَ في التاريخ الإسلاميّ تجلَّى بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية.
    كانت مدينةُ القسطنطينية بأسوارها وحصونها المنيعة حجرَ عثرةٍ أمام تقدم المسلمين، وبابًا مغلقًا في وجوههم، وسدًّا مانعًا أمام الإسلام وانتشاره في أوروبا الشرقية والوسطى. وقد حاول كثيرٌ من قادة المسلمين فتحَ القسطنطينية إلَّا إنَّ الحظَّ لم يكن يحالفهم. وكادت تقع في يد السلطان العثماني بايزيد الأول، لولا إغارةُ المغول على بلاد المسلمين في آسيا الصغرى، فاضطر بايزيد للاكتفاء بعقد صلح مع ملكها على أن يدفع هذا الأخير جزيةً ماليةً سنويةً، ويسمح للمسلمين بإقامة مسجدٍ في المدينة لأداء الصلاة، وفتح محكمةٍ شرعيةٍ للنظر في قضاياهم وأحوالهم الشخصية.
    رأى محمد الثاني أنَّ القسطنطينية لا تشكل حجر عثرة أمام المسلمين فحسب، بل هي البؤرة الرئيسية لمؤامراتٍ تُحاك ضدّ الإسلام وأهله. ويجهد ملوكها في إحداث الفتن وتذكية روح الثورة ضدّ بلاد المسلمين، فصمم على فتح المدينة وإزالة البؤر منها. وقد بعث بعدة رسائل إلى امبراطورها قسطنطين يطلب إليه أن يسلمه المدينة سِلمًا حقنًا للدماء، وحفاظًا على الأرواح والممتلكات. وتعهد له بصون المقدسات النصرانية وحقوق أهاليها. إلَّا إنَّ الامبراطور قسطنطين رفض تلك العروض رفضًا تامًّا. عندها صمم محمد الثاني على فتح القسطنطينية فقام بالاستعدادات الكافية، وجهز الجيوش تجهيزًا تامًّا. ثم بدأ الزحف على المدينة، وضرب عليها الحصارَ في أوائل شهر إبريل (نيسان من عام 1453م). وقد دارت عدة معاركُ بريةٌ وبحريةٌ بين جيوش المسلمين وحاميتها. واستمات قسطنطين بمعاونة مقاتلين من جنوده قدموا لنجدة المدينة في الدفاع عنها. وتكبَّد المسلمون خسائرَ بشريةً وماديةً كبيرةً خلال الحصار، وعلى الرغم من ذلك فإن السلطان محمد الثاني لم ييأس. وكان يشجعه على الاستمرار في حصاره معاونوه المخلصون من القادة العسكريين وعلى رأسهم وزيره زعيوس باشا، ومن علماء الدين وخصوصًا الشيخ آق شمس الدين، والمولى أحمد الكوراني. وكانت له ثقة كبيرة بهذين العالِمين اللذين أدّيا دورًا مهمًّا في حث الجنود على الصمود والصبر والجهاد في سبيل الإسلام حتى يحقق الله تعالى لهم النصر. ومما يذكر عن الشيخ شمس الدين أنه كلما خطب في الجند كان يُردِّدُ على مسامعهم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
    هذان الوزيران الصّالحان الصادقان هيّأهما اللهُ تعالى لمحمد الفاتح، كما هيّأ سبحانه من قبلُ، وقد ذكرنا ذلك، لصلاح الدين وزيرين صادقين لمعونته وإسداء المشورة له. وكان كلٌّ من صلاح الدين أو محمد الثاني يأخذُ بما يشير به وزيراه ويعمل برأيهما... مما كان له الأثرُ الفاعلُ في التاريخ وفيما حقَّق الله تعالى على يديه من النصر. وفي ذلك تجسيدٌ لمعاني حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزيرَ صدقٍ: إنْ نسيَ ذكَّره، وإنْ ذكرَ أعانه».
    وبعد حصار دام ثلاثة وخمسين يومًا صابر المسلمون خلالها وصبروا، وفي شهر جمادى الأولى عام 857 الموافق لشهر مايو (أيار) عام 1453م أنعم الله تعالى عليهم بالنصر، حيث سقطت القسطنطينية في أيدي الجيش الإسلامي، فدخل السلطان محمد الثاني المدينة ظهرًا وسجد في وسطها، وراح يحثو التراب على رأسه، شكرًا لربه على ما أيده به من نصر مؤزر. وكان قسطنطين قد قُتِلَ في أثناء معركة الهجوم الأخير. وبخلاف ما ذهبت إليه مؤلفاتُ المؤرخين النصارى فإن محمدًا الثاني الذي لُقِّب بالسلطان الفاتح قد أعلن في جنده، بعد فتح القسطنطينية وبأوامرَ مشدّدة، وجوبَ معاملة أهلِ المدينة بالحسنى، وعدم الانتقام من أحدٍ منهم، وأبدى التسامح والعفوَ بما يرضي الله ورسوله. وقد ضمن للنصارى ممتلكاتهم وإقامة شعائرهم الدينية. وطلب من رجال الدين انتخاب بطريرك لهم، فاختاروا جورج سكولاريوس. وقد حضر السلطانُ الفاتحُ بنفسه الاحتفال الذي أقيم له بالمراسم نفسها والأبهة التي كانت تتم عند تتويج الملوك.
    وقد حوّل محمد الفاتح كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد للمسلمين. وظل هذا المسجد قائمًا لعبادة الله تعالى حتى جاء حكم أتاتورك فحوّله إلى متحفٍ، ولا يزال كذلك حتى اليوم. أطلق محمد الفاتح على المدينة بعد فتحها اسم اسلامبول، أي مدينة الإسلام، إلَّا إن هذا الاسم حُرِّف فصار اسطنبول. وكان لسقوط القسطنطينية أهميةٌ تاريخيةٌ كبرى في الغرب والشرق. فقد عَدَّ المؤرخون الأوروبيون ذلك الحدث فاصلًا بين تاريخ القرون الوسطى وعصر النهضة. أما المسلمون فقد تابعوا مسيرتهم بقيادة السلطان محمد الثاني وافتتحوا كامل بلاد اليونان، والمجر، وبلغاريا، والبوسنة، وألبانيا. ووصلت جيوشهم إلى إيطاليا في جنوبي أوروبا، وإلى أسوار مدينة فيينا في وسطها.
    لقد وعى كلٌّ من صلاح الدين ومحمد الفاتح حركة التاريخ بصفتها جندًا من جنود الله تعالى، وأنها تسير وفق أوامره سبحانه بما أودع فيها من سنن. ولو لم يسبق أن أعدَّ كلٌّ منهما نفسه وجيوشه إعدادًا كافيًا، وتوكّل على ربّه حق التوكل، لما تجاوبت معه حركة التاريخ.
    إن فهم كلٍّ من هذين القائدين الكبيرين لسنن حركة التاريخ، ومباشرته الأعمال بنفسه وبما يتوافق مع تلك السنن، هو الذي أدى بالنتيجة إلى أن تستجيب له حركة التاريخ ويتحقق له النصر بحول الله وقوته.
    وبذلك كله برز الدورُ المؤثّرُ الذي يقوم به الإنسان على الساحة التاريخية.
    ولكنْ على الرغم من ذلك التوسّع والتنوّع، فإن الفكر الإسلاميُّ واجه محاولاتٍ عاتيةً من أجل تحريفه، وإلصاق ما ليس منه فيه، كي يمكن القضاءُ عليه... وقد أفضت تلك المحاولات إلى ما أفضت إليه من إيقاع العالم الإسلامي في براثن الغزو الخارجي، ولا سيما الغزو الصليبي، وغزوات التتار، حتى ظهرت في العالم الإسلامي ثلاث دولٍ: الدولة العثمانية في آسيا الصغرى والبلاد العربية، والدولة الصفوية في فارس، ودولة المغول في الهند...
    تراجع المسلمين وتقدم الفكر الإسلامي:
    وتتالت حِقَبُ التراجع في تاريخ المسلمين. ثم جاء الاحتلال الغربي بصورة الاستعمار السافر عن طريق الغزو: البريطاني ـــــــ الفرنسي ـــــــ الإسباني ـــــــ الإيطالي ـــــــ الهولندي، لبلاد المسلمين، لينزل بهم أشد الويلات في الأعماق والأرزاق، وليتحكّم بها تحكُّمًا حاقدًا غاشمًا... وكانت أكبر الرزايا والمصائب التي ألحقها بهم الاستعمار إقامته لدولة اليهود في فلسطين، كظاهرة قمع للفكر الإسلامي، وعامل محوٍ للحضارة الإسلامية برمَّتها... ولكن، يبدو أنه لم يطل الزمان كثيرًا ـــــــ وفقًا لحساب حركة التاريخ ـــــــ إذ ها هي مرحلة يقظةٍ إسلامية تلوح في الأفق، بعد بضع عشرات من السنين، تحاول أن تستعيد نفسها، لتعيد بناء الفكر الإسلامي من جديد، على أساس القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة... إذن فالشيء المهمّ في تاريخ المسلمين هو أن الإسلام لم يتوقف كعقيدة، بل ظل يتوسع بالكلمة. ففي حين تسقط الخلافة في بغداد، ويتقلص النفوذ الإسلامي في الأندلس، يقتحم الإسلام آفاقًا جديدة في جنوب شرق آسيا، وفي قلب أفريقيا، على الرغم من سيطرة الهيئات التبشيرية المختلفة، التي تسندها الحكومات والاحتلالات، ويحقق عن طريق التوسع الذاتي انتصارًا ساحقًا فيجذب إلى صفوفه الملايين من المؤمنين به دينًا حقًّا، وشريعة كاملة، وحقائق مطلقة... كل ذلك تشهد عليه حركة التاريخ وهي تثبت أن الفكر الإسلامي لم ولن يتوقف أبدًا، بل ظل وسيظل فكرًا حيًّا، متحركًا، قويًّا، تبرز معالمه في كل زمان ومكان أشدَّ وضوحًا وأكثرَ إشراقًا كلما تجددت الحياة بفكرها وأساليبها ووسائلها...
    وهكذا يتبين أن التاريخ الإسلامي تاريخ عاديٌّ في ظاهره: عرف دولة الإسلام الصحيحة، ثم عرف دولًا قوية، ودولًا ضعيفة... لكنَّه في جوهره كان مختلفًا عن غيره، لأنه احتوى حركة التاريخ كفكرة يحتضنها ولا يتخلَّى عنها، لا لشيء إلَّا لأنه يرى فيها جندًا من جنود الله، تسير وفق مشيئته ـــــــ تعالى ـــــــ المطلقة لتسجل في كل دورة من دوراتها كلَّ ما قام به الناس، أفرادًا وجماعات، من أعمال إيجابية وأعمال سلبية...
    لذلك فإنَّ المسلمين يُعدّون أنهم وعَوْا مفهوم حركة التاريخ، فانتظموا في منهجية الإيمان يردون نتائج الأمور كلها إلى الله ـــــــ سبحانه ـــــــ، إلّا إنهم قصَّروا أحيانًا في تقدير ما لها من تأثير في حياتهم عندما تخاذلوا عن فهم سنن الكون وعن العمل بما يُرضي الله العظيم ورسوله الكريم...
    وأما غيرهم، ممَّن لم يدركوا مفهوم تلك الحركة، ولم يقدِّروا ما لها من تأثير في البشر، فقد انبروا يستكبرون ويتعالون، وفي ظنِّهم أنهم يفعلون ما يشاؤون، ويحرِّكون التاريخ كما يريدون، وينشئون الأحداث وفق رغباتهم وأهوائهم... لكنهم في الحقيقة، لم يكونوا إلّا أدواتٍ لحركة التاريخ. إنهم وإن قاموا بأدوار متنوعة إلّا إنها لم تكن لتصبَّ في النهاية لصالحهم، أو لصالح الأفكار التي اعتمدوها، لأنهم لم ينتظموا أصلًا في المنهجية التي تردّ الأمر إلى الله العلي القدير، والتي تُرجع كل شيء في النهاية إليه وحده جلّ وعلا.
    الأمر كله منوطٌ بإرادة الله سبحانه:
    من هنا كان تأكيدنا على أن الأمر كله منوطٌ في نهاية المطاف بإرادة الله سبحانه وتعالى. فما الكون بأسره، وما خلق السماوات والأرض، وما اختلاف الليل والنهار، وما الشمس والقمر وهما يسبحان في الفضاء، وما إنزال الماء من السماء، وما تصريف الرياح والسحاب، وما إنبات الحبَّةِ، أو خلق البعوضة... إلخ... إلَّا آيات بيِّنات، ودلائل ثابتة قاطعة، على أن ذلك كله من خلق الله تعالى، ويسير وفق ما قدَّر له خالقه وما شاء. بدليل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة البقرة: الآية 164). وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة يونس: الآية 5). وقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (سورة يس: الآيات 38 ـــــــ 40).
    وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سورة لقمان: الآيتان 29 ـــــــ 30).
    هذه بعضٌ من دلالات القرآن الساطعة على حركة التاريخ، بحيث لو أخذنا كل أمرٍ منها، مهما كان كبيرًا مثل حركة الشمس والقمر، أو صغيرًا مثل إنبات الحبةِ في الأرض، لَوجدنا أن هذا الأمرَ الذي هو من صنع الله تعالى يمثل ناحية من نواحي حركة التاريخ التي تخضع لمشيئة الله... فإنبات الحبة الواحدة، مثلًا، يحتاج إلى قدرة الله تعالى المهيمنة على الكون كله تسخِّر أجرامه وظواهره في سبيل إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربةٍ وماءٍ وأشعة وهواء... ويقتصر دور الإنسان فيها على الحرث والبذر فقط. أما إنبات الزرع والنموّ فهما بيد الله تعالى، لقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (سورة الواقعة: الآيات 63 ـــــــ 65).
    هذه الآية الكريمة تلخص أمورًا ثلاثة: المباشرة والخلق والنتائج. أما المباشرة فكانت من الإنسان بالحرث {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ}. وأما الخلق فهو من الله سبحانه وكان بإنبات الحبة ونموّها {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}. وتبقى النتائج، والله سبحانه يجزم بأنها من صنعه وأن أمرها لا يعود إلَّا إليه تعالى: {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}.
    نعم إن الله تعالى هو الذي يتولى الحبة أو البذرة بالعناية، فيُمِدُّ كلًّا منهما بإمكانية التفاعل مع الماء مطرًا أو رطوبةً، ومع الهواء نسيمًا أو رياحًا، ومع حرارة الشمس لطيفةً أو لافحةً، حتى تستويَ نباتًا يُعجب الزُّرّاع أو شجرًا يانعًا ثمرهُ، فيرها الإنسان في هذه الصورة، أو في غيرها، مما أرادَها الله تعالى عليه.
    وهنا تبرز مشيئة الله تعالى في تسخيره لحركة التاريخ من خلال الدورة الزمنية التي تمرُّ على الحبَّة أو البذرة، بحيث إن جاءت عوامل الحياة متوافقة آتت تلك الحبة أو البذرة أُكُلَها، وإن جاءت عوامل الحياة غير مؤاتية لها، فسوف تتلف الحبَّة في باطن الأرض فيأخذها السيل الجارف، أو تأكلها الحشرة الدابّة... وحتى بعد ظهورها فوق سطح الأرض، فقد يأتي عليها ريحٌ صرصر، أو حرٌّ شديد، فيتوقف النماء وتيبس الأوراق والأغصان والجذوع، ويصبح كل شيء حطامًا، ويذهب هباءً منثورًا...
    ثم أليست دورة المياه من تبخيرٍ، وتجمع سحاب، وبرودة جوٍّ، وهطول مطر، وجريان ماءٍ في السواقي والأنهار لترجع إلى البرك والبحيرات والبحار، كما كانت من قبل، هي من أروع الأمثلة على حركة التاريخ؟ وقس على ذلك سائر الأمور الأخرى في تعاقب دورة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، لتمدَّ الزمان بدوراته، ولتتعاقب الأحداث خلال هذه الدورات!...
    ويحصل ذلك كله في الكون: في السماء والأرض، والله ــــــ سبحانه ـــــــ كل يوم هو في شأن، لقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (سورة الرحمن: الآية 29). أجل، يسأله كلُّ مَنْ في السماوات والأرض من خلائق وكائنات، لأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ المسؤول وحده وإليه الأمر. إنه الإلهُ المتعالي، الحي القيوم، الذي يديرُ كلَّ شيء، ويدبّر كلَّ شيء. فكان مردُّ السؤال والأمر إليه أمرًا حتميًّا، باعتبار أن في السؤال توجُّهًا من العبد للخالق، وهذا العبدُ محتاج دائمًا إلى خالقه.
    واللهُ سبحانه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هي أيضًا حقيقة مطلقة تبين أن المشيئة الإلهية تتعلق بشؤون الخلائق وتقدير أمورها وتدبيرها. بحيث يتناول هذا التدبير الوجودَ كله جملةً، كما يتناولُ كل فردٍ في هذا الوجود على حدة. فهو يتناول كل خلية، وكل ذرة، وكل عضو في جسمٍ أو في مادة، ويعطي كل شيء خلقه كما يعطيه وظيفته، ثم يراقبه وهو يؤدي هذه الوظيفة. ومع ذلك فإن صاحب التدبير، العلي العظيم، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يندُّ عن علمه ظاهر ولا خافٍ... ومن هذا الشأن شأنُ العباد في الأرض من إنس وجنّ... وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة «إن شأن الله هو إحياء قوم وإماتة آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين. وغير ذلك من الإهلاك والإنجاء، والحرمان والإعطاء، ومختلف الأمور الأخرى التي لا تحصى»...
    وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: «من شأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ أن يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين»...
    فالصحة والشفاء، والموت والحياة، والغنى والذل، وغفران الذنب، وتفريج الكرب، وإعلاء الناس وإعزازهم، وحطُّهم وإذلالهم... كلها من شأن الله تعالى، لأن هذا الشأن هو تعبير عن ميشئته المطلقة... فالناس، وهم عباد الله يسيحون في الأرض: يغرسون، ويصنعون، ويحكمون ويُحكَمون، يقاتلون فَيَقتُلون ويُقتلون، يتقدمون ويتأخرون... حياتهم كلها حركة... لكن النتائج في كل أمرٍ، وفي كل شأن من ذلك، مردُّها إلى الله تعالى. فلا عجب إذن إن رأينا التنوع والاختلاف في حياة الناس، من أفراد وجماعات، أو دول وأمم، وعدم اتِّساقهم جميعًا في وحدة حياتية...
    مداولة الأيام بين الناس:
    وليس أدلُّ على هذه الحقيقة المطلقة التي تجعل الوجود كله منوطًا بأمر الله تعالى (ومن هذا الوجود حياة الناس على هذه الأرض) من قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} (سورة آل عمران: الآية 140).
    هنا الدلالة البالغة على حركة التاريخ...
    وقد ذهب بعضهم، إلى أن هذه الآية الكريمة تحمل في مدلولها يوم نزولها، إشارة إلى غزوة بدر، وغزوة أحد، حيث انتصر المسلمون في الأولى وهُزم المشركون، ثم كانت الدّولة للمشركين في الثانية وهُزم المسلمون قتاليًّا نتيجةً لمخالفة الرُّماة أوامرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طمعًا في الغنيمة، في حين أن الله تعالى، قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله، ولا ينظرون إلى أي شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد، مهما كان فيه من الغنيمة...
    وقد ذهبوا أن فيها أيضًا تحقيقًا لسنَّة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس ـــــــ وفقًا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم ـــــــ فتكون لهؤلاء يومًا ولأولئك يومًا، ثم يُمحَّص المؤمنون ويظهر المنافقون على حقيقتهم، كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش...
    وبما أنَّ التمييز في العباد يكون دائمًا بين المؤمنين والكافرين، وبما أن المداولة ـــــــ لغةً ـــــــ تعني نقل الشيء من واحد إلى آخر، فيقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته. كما يقال: الدنيا دُول أي تنتقل من قوم إلى غيرهم... فإنَّ المعنى المقصود من: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} هو أننا نُعطيها مرةً لأناس فتكون لهم، ونصرفها مرة أخرى عنهم فتكون عليهم... فالله تعالى يصرِّف الأيام بين المسلمين والكافرين، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحيانًا، وبتشديدها عليهم أحيانًا... لا بنصرة الكفار عليهم، لأن الله لا ينصر الكفار على المؤمنين، إذ إن النصرة تدل على المحبة، والله تعالى لا يحب الكافرين ولا الظالمين ولا المعتدين... كذلك فإن النصر من عند الله، فهو وحده يملك الغلبة، والقوة والسلطان... وقد جعلَ النصر لمن يجاهد في سبيله، وفي سبيل إعلاء كلمته وإحقاق الحقّ. كما جعل سبحانه أيام الدنيا متقلبة، كي لا يطمئن المؤمن إليها دائمًا، وتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، فإذا ترك عرض الدنيا وسعى لمرضاة الله، فإنه يسعى للنصر الحقيقي الذي يقوده للآخرة ونعيمها الدائم.
    لكنَّ مدلول الآية لا يتوقف عند هذا المفهوم عن مداولة الأيام، وتغيُّر الأحوال والأوضاع، بل يأتي السياق القرآني ليكشف للمؤمنين، وللأمة المسلمة، عن جوانب من حكمة الله تعالى، والغاية المثلى من مداولة الأيام بين الناس وما فيها من عبرٍ وعظاتٍ، وفي طليعتها تمييز المؤمنين من غيرهم، وعِلْم الله ـــــــ سبحانه ــــــــ بهم، بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، أي يعلمهم بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم لأنَّ من شيمة المؤمنين الصبر على الشدة والبلاء، والتضحية والتفاني إبّان الجهاد في سبيل الله، والإيمان بأن ما يصيبهم من خير فبإذن الله، وما يصيبهم من كرب فمن أيديهم وبإذن من الله...
    وعلمُ الله تعالى بهؤلاء المؤمنين، لا يعني أنه سبحانه لم يكن عالمـــًا بهم من قبل. فهو يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان، كما يعلمهم بعده. إنما يعلم قبل إظهارهم الإيمان أنهم يتميزون به، فإذا أظهروه عَلِمَهم متميزين، وعلموا هم أنفسهم بهذه الصفة وعلمهم المؤمنون. فيكون التغيُّر حاصلًا في المعلوم لا في العالِم... ومن قبيل ذلك أن أحدنا يعلم بإتيان الغد قبل مجيئه، فإذا جاء علم به حاضرًا، وإذا انقضى علم به ماضيًا، فالتغيُّر والحدوث يحصل في المعلوم، وهو الغد، لا في أحدنا وهو العالم للغد... إنَّ الله تعالى يعلم المؤمن والكافر قبل أن يظهرا للناس على حقيقتهما، فإذا ظهرا وتميَّزا علم بهما متميزَين معروفين للناس. وإذا لم يُذكر الكافر في النص فلأنه استُغني بذكر أحدهما (المؤمن) عن الآخر (الكافر)...
    وفي أي حال فإن الله ـــــــ سبحانه ـــــــ يعلم المؤمنين والمنافقين أو الكافرين والظالمين، لأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ يعلم ما تنطوي عليه الصدور. لكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعًا في حياة الناس، وتحوِّل الإيمان إلى عمل ظاهر، كما تحول النفاق أو الكفر أو الظلم إلى تصرُّف المؤمنين، كما يحكمون على تصرُّف الكافرين.... وقد يكون في هذا الحكم صلاح للأمور، إذ تستقيم من جرائه الأحوال بالإبقاء على الصالح وترك الطالح، وقد لا يكون هنالك حكم صائب من الناس، فتبقى الأمور مغمورة، والحقائق مخبوءة، وقد يترتب على ذلك فساد الأمور وسوء الأحوال...
    فالحكمة الإلهية إذًا هي: في مداولة الأيام بين الناس ما يكشف عن الحقّ والباطل، وعن الإيمان والضلال، وما يبين الصلاح من الفساد، إنْ على صعيد الأفراد، أو على مستوى الدول والجماعات...
    وإذا كان الله تعالى يعلم عباده، ويعلم مَن منهم المؤمنون، ومَن هم المنافقون، فإنَّ في مداولة الأيام أيضًا حكمة بالغة وهي اتخاذ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ من المؤمنين شُهداء: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}.
    والشهداء يكونون: إما لمشاهدتهم الأعمال التي رأوها وتحقَّقوها، فيشهدون بها أمام الله تعالى...
    وإما لبَذْلهم النفس في معارك الجهاد ذودًا عن دين الله فيكونون مستشهدين في سبيله...
    ولذا كانت لفظة «الشهداء» هي جمع شاهد، أو جمع شهيد...
    ففي الجمع الأول، هم الشهداء الذين يستشهدهُمُ الله تعالى على الدِّين الحقّ الذي أنزله للناس، فيؤدون الأمانة (الشهادة) بلا شبهة ولا جدال. يؤدونها في سبيل إحقاق هذا الحقّ، وتقريره في دنيا الناس. فهم قد آمنوا بهذا الحقّ وتجرَّدوا له حتى أرخصوا كل شيء دونه. وشهادتهم تكون على أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحقّ، وأنها كانت من أجل مكافحة الباطل وطرده من حياة الناس حتى يتحقق منهج الله في حكم الناس... واللهُ سبحانه وتعالى، يستشهدهم على ذلك كله، فيشهدون...
    وأما في الجمع الثاني، فهم الشهداء المختارون، الذين يختارهم الله ـــــــ سبحانه ـــــــ من بين المجاهدين، ويتخذهم عبادًا له ـــــــ سبحانه ـــــــ... فهل بعد هذا الاختيار الإلهي يمكن احتساب الموتِ الذي هو شهادةٌ في سبيل الله مصيبةً أو خسارةً، أم أنه بالعكس هو انتقاءُ واختيارٌ وتكريمٌ من الخالق للمخلوق؟ إنه بالطبع أسمى انتقاء، وأرفع مقام يتكرَّم به الخالق على عبادٍ له صالحين، منحهم عزة الشهادة عن طريق التضحية بالنفس... حتى تأتي هذه الشهادة غير مختلفة في معناها عن أداء الشهادة بأنَّ دين الله هو الحقّ... فتلتقي الشهادتان على هذا المعنى خدمةً للحقّ، ويبقى الحقّ واحدًا لا يتجزأ وإن اختلفت مظاهره...
    وإذا كان الله تعالى يثبت في قوله المبين هذا الحكم العام، فذلك من أجل أن يتميَّز المؤمنون من الكافرين في كل زمان ومكان، وحتى تتبين لجميع الناس حقيقة المؤمن من زيف الكافر. وعند الله تعالى، في علمه وعدله، سوف يكون جزاءٌ لكلٍّ من المؤمنين أو الكافرين في الآخرة على ما فعلوا في العاجلة.
    [/align]

  3. #3

    افتراضي

    [align=right]الفصْل الثَاني: حَركَة التَاريْخ وَالفِكر الإسْلَامي
    نعم لقد مرَّت على التاريخ البشري دورات تقلّبت فيها أحوال الناس وتبدلت كثيرًا، فكان من الطبيعي أن تطاول تاريخ المسلمين، الذي مرَّ ـــــــ جريًا على قاعدة الحياة ـــــــ بمراحل القوة، وبمراحل الضعف، بحيث ظهرت فيه دول كبيرة وقوية، كما ظهرت فيه دويلات هزيلة وضعيفة. لكنَّ ميزته الأساسية، أنه في جميع مراحله تلك، لم ينفك يمدُّ المجتمعات التي عرفته بـــــــ «الفكر الإسلامي» المتجدِّد الذي لم يتوقف يومًا عن إتاحة الفرصة للنموِّ الإنساني والحضاري، وإفساح المجال لالتقاء الإسلام بالحياة والحضارة، وجعل الحركة متصلةً في العلاقة بين مجتمعه ومختلف الحضارات والثقافات والمجتمعات الأخرى. وذلك كله مع القدرة على الأخذ والعطاء، ومع المحافظة الدائمة على مقوماته الأساسية التي لم تجرِ إضافةُ أيِّ شيء جديد إليها، بعد أن كانت مفاهيم الإسلام وعقيدته قد استُكملت تمامًا، وخطوطه العامة قد رسمت فعلًا، خلال حياة الرسول الأعظم. وتمَّ ذلك كلّه طبعًا بفعل النصوص القرآنية الثابتة، التي لا يطرأ عليها أي تغيير، أو تبديل، وعلى النحو الذي يكفل للبشرية وجود رسالة إنسانية عالمية خالدة، تمتد مع حركة التاريخ إلى النهاية التي يقدّرها الله سبحانه.
    من هنا يمكن القول إن تاريخ الإسلام مرَّ بعصور مختلفة، تبدأ ببناء الجماعة الإسلامية التي بناها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم طوال ثلاثة وعشرين عامًا في مكة والمدينة. ثم توسع الإسلام عن طريق الفتوحات التي أدت إلى انتشاره في بقاع كثيرة من الأرض، ولدى أقوام وشعوب متنوعة.
    صلاح الدين ومحمد الفاتح:
    كان ذلك بفضل قادةٍ مخلصين، ورجالٍ عظام، عرفهم التاريخ الإسلامي، وكانوا على بيِّنة من حركة التاريخ وعلى وعيٍ للإفادة من سننها في تحقيق التوسع ونشر الدين الحنيف. فإذا طوينا بضعة قرون من بداية العهد الإسلامي، أمكننا الوقوف على مثالين من حياة أولئك القادة المسلمين الذين أثَّروا في حركة التاريخ، لصالح الإسلام وأهله، وهما: صلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح العثماني.
    صلاح الدين الأيوبي: (536 ـــــــ 589هـــــــ/1138 ـــــــ 1191م):
    هو صلاح الدين يوسف الأول، ابن الأمير نجم الدين أيوب من مواليد تكريت.
    نشأ في بعلبك حيث كان أبوه واليًا عليها حتى السابعة عشرة من عمره، انتقل بعدها إلى دمشق ليعيش مع أبيه في بلاط نور الدين.
    صحب وزيرَ الخليفةِ العاضد (الفاطميّ) المدعو شيركوه في حملتين على مصر.
    وقد تمكن صلاح الدين من تولّي زمام الحكم في مصر، بعد أن عيَّنه الخليفة وزيرًا ولقبه «الملك الناصر».
    كان صلاح الدين أقرب إلى السياسيّ منه إلى القائد العسكريّ. وكان بارعًا في اختيار معاونيه، إذ اختار لديوانه اثنين من رجال العلم كان يطلق على كل منهما لقب الوزير وهما: القاضي الفاضل، وعماد الدين الكاتب الأصفهاني، الذي ألحق به سنة 584هـــــــ القاضي ابن شداد. وكان الفرنجة يُعدّون حكم صلاح الدين في مصر مصدرَ خطرٍ على بيت المقدس، فسعوا لإبعاده والتخلص منه فبعثوا إلى البابا وملوك أوروبا يطلبون النجدة لغزو مصر.
    وكانت خطةُ الفرنجة تقضي بالاستيلاء على دمياط ثم السير إلى القاهرة. وقد حققوا في غزوهم بعض الانتصارات على جيش صلاح الدين. إلَّا إن اعتباراتٍ عدةً، منها طول مدة الغزو ونقصانُ المؤن لديهم، حالت دون تحقيق انتصارهم النهائي. كما أن حدوث زلزال هائل عام 565هـــــــ (1170م) ضرب المدن الشامية، اضطر المسلمين والفرنجة إلى إلقاء السلاح جانبًا والانصرافِ لإعادة بناء ما تهدم من المدن.
    وبعد ذلك قام صلاح الدين بعدة غزوات على بلاد فلسطين، مما جعل المعاركَ دائمةً بين جيش صلاح الدين وجيوش أمراء الإفرنج الحاكمين في بلاد المسلمين. وكانت الانتصارات مداولةً تارة لصلاح الدين، وتارة لأمراء الإفرنج. لكن المعركة التي كان لها تأثيرها في التاريخ الإسلامي كانت معركة حِطِّين التي أعقبها استعادة صلاح الدين لبيت المقدس من أيدي الصليبيين وأعوانهم (583هـــــــ ـــــــ 1187م) فدمر الآثار الصليبية، ورمّم قبة بيت المقدس والمسجد الأقصى، وشيد المستشفيات والمدارس إثـْــــرَ تلك المناسبة العظيمة التي أقام لها المسلمون في العالم الإسلاميّ احتفالاتٍ باهرةً تمجيدًا لها.
    وعقد صلاح الدين مفاوضات مُضنيةٍ مع الصليبيين كان محورَها أخوه الملك العادل وريتشارد الأول ملك إنكلترا. وكان أهمَّ ما اتُّفِقَ عليه بنتيجة هذه المفاوضات هو تخلي المسيحيين عن بيت المقدس. والسماح لهم بالحج إلى بيت المقدس من دون حمل سلاح.
    وبعد أن صارت بلاد فلسطين، باستثناء المنطقة الساحلية، خاضعة لسلطة المسلمين، قام صلاح الدين بتحصين مدينة بيت المقدس لئلا تسقط بسهولة أمام الغزاة الطامعين. وعاد بعدها إلى دمشق ليتخذها قاعدة لحكمه. إلَّا إنه توفي بسبب المرض وكان ذلك في صفر من عام 589 هجرية 1191م.
    محمد الثاني:
    حكمَ السلطانُ محمد الثاني الذي كان سابعَ سلاطين بني عثمان من عام (855 ـــــــ 886هـــــــ) الموافق (1451 ـــــــ 1481م). تميَّز هذا الملك العثمانيّ بشدة الذكاء، والقدرة على التحمل، والكفاءة في إدارة شؤون الخلافة. وكان شاعرًا مجيدًا وعلى درجةٍ عالية من الثقافة. يتقن عدة لغات إلى جانب لغته الأم. وكان كريم النفس، شجاعًا، جسورًا، مقدامًا حتى إنه بزَّ والده السلطان مراد الثاني بمقدرته العسكرية.
    فتح القسطنطينية:
    خاض محمد الثاني معارك كثيرة وأجرى عدة فتوحات وبسط سلطة الإسلام على مناطق شاسعة، إلَّا إنَّ تأثيره الكبيرَ في التاريخ الإسلاميّ تجلَّى بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية.
    كانت مدينةُ القسطنطينية بأسوارها وحصونها المنيعة حجرَ عثرةٍ أمام تقدم المسلمين، وبابًا مغلقًا في وجوههم، وسدًّا مانعًا أمام الإسلام وانتشاره في أوروبا الشرقية والوسطى. وقد حاول كثيرٌ من قادة المسلمين فتحَ القسطنطينية إلَّا إنَّ الحظَّ لم يكن يحالفهم. وكادت تقع في يد السلطان العثماني بايزيد الأول، لولا إغارةُ المغول على بلاد المسلمين في آسيا الصغرى، فاضطر بايزيد للاكتفاء بعقد صلح مع ملكها على أن يدفع هذا الأخير جزيةً ماليةً سنويةً، ويسمح للمسلمين بإقامة مسجدٍ في المدينة لأداء الصلاة، وفتح محكمةٍ شرعيةٍ للنظر في قضاياهم وأحوالهم الشخصية.
    رأى محمد الثاني أنَّ القسطنطينية لا تشكل حجر عثرة أمام المسلمين فحسب، بل هي البؤرة الرئيسية لمؤامراتٍ تُحاك ضدّ الإسلام وأهله. ويجهد ملوكها في إحداث الفتن وتذكية روح الثورة ضدّ بلاد المسلمين، فصمم على فتح المدينة وإزالة البؤر منها. وقد بعث بعدة رسائل إلى امبراطورها قسطنطين يطلب إليه أن يسلمه المدينة سِلمًا حقنًا للدماء، وحفاظًا على الأرواح والممتلكات. وتعهد له بصون المقدسات النصرانية وحقوق أهاليها. إلَّا إنَّ الامبراطور قسطنطين رفض تلك العروض رفضًا تامًّا. عندها صمم محمد الثاني على فتح القسطنطينية فقام بالاستعدادات الكافية، وجهز الجيوش تجهيزًا تامًّا. ثم بدأ الزحف على المدينة، وضرب عليها الحصارَ في أوائل شهر إبريل (نيسان من عام 1453م). وقد دارت عدة معاركُ بريةٌ وبحريةٌ بين جيوش المسلمين وحاميتها. واستمات قسطنطين بمعاونة مقاتلين من جنوده قدموا لنجدة المدينة في الدفاع عنها. وتكبَّد المسلمون خسائرَ بشريةً وماديةً كبيرةً خلال الحصار، وعلى الرغم من ذلك فإن السلطان محمد الثاني لم ييأس. وكان يشجعه على الاستمرار في حصاره معاونوه المخلصون من القادة العسكريين وعلى رأسهم وزيره زعيوس باشا، ومن علماء الدين وخصوصًا الشيخ آق شمس الدين، والمولى أحمد الكوراني. وكانت له ثقة كبيرة بهذين العالِمين اللذين أدّيا دورًا مهمًّا في حث الجنود على الصمود والصبر والجهاد في سبيل الإسلام حتى يحقق الله تعالى لهم النصر. ومما يذكر عن الشيخ شمس الدين أنه كلما خطب في الجند كان يُردِّدُ على مسامعهم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
    هذان الوزيران الصّالحان الصادقان هيّأهما اللهُ تعالى لمحمد الفاتح، كما هيّأ سبحانه من قبلُ، وقد ذكرنا ذلك، لصلاح الدين وزيرين صادقين لمعونته وإسداء المشورة له. وكان كلٌّ من صلاح الدين أو محمد الثاني يأخذُ بما يشير به وزيراه ويعمل برأيهما... مما كان له الأثرُ الفاعلُ في التاريخ وفيما حقَّق الله تعالى على يديه من النصر. وفي ذلك تجسيدٌ لمعاني حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزيرَ صدقٍ: إنْ نسيَ ذكَّره، وإنْ ذكرَ أعانه».
    وبعد حصار دام ثلاثة وخمسين يومًا صابر المسلمون خلالها وصبروا، وفي شهر جمادى الأولى عام 857 الموافق لشهر مايو (أيار) عام 1453م أنعم الله تعالى عليهم بالنصر، حيث سقطت القسطنطينية في أيدي الجيش الإسلامي، فدخل السلطان محمد الثاني المدينة ظهرًا وسجد في وسطها، وراح يحثو التراب على رأسه، شكرًا لربه على ما أيده به من نصر مؤزر. وكان قسطنطين قد قُتِلَ في أثناء معركة الهجوم الأخير. وبخلاف ما ذهبت إليه مؤلفاتُ المؤرخين النصارى فإن محمدًا الثاني الذي لُقِّب بالسلطان الفاتح قد أعلن في جنده، بعد فتح القسطنطينية وبأوامرَ مشدّدة، وجوبَ معاملة أهلِ المدينة بالحسنى، وعدم الانتقام من أحدٍ منهم، وأبدى التسامح والعفوَ بما يرضي الله ورسوله. وقد ضمن للنصارى ممتلكاتهم وإقامة شعائرهم الدينية. وطلب من رجال الدين انتخاب بطريرك لهم، فاختاروا جورج سكولاريوس. وقد حضر السلطانُ الفاتحُ بنفسه الاحتفال الذي أقيم له بالمراسم نفسها والأبهة التي كانت تتم عند تتويج الملوك.
    وقد حوّل محمد الفاتح كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد للمسلمين. وظل هذا المسجد قائمًا لعبادة الله تعالى حتى جاء حكم أتاتورك فحوّله إلى متحفٍ، ولا يزال كذلك حتى اليوم. أطلق محمد الفاتح على المدينة بعد فتحها اسم اسلامبول، أي مدينة الإسلام، إلَّا إن هذا الاسم حُرِّف فصار اسطنبول. وكان لسقوط القسطنطينية أهميةٌ تاريخيةٌ كبرى في الغرب والشرق. فقد عَدَّ المؤرخون الأوروبيون ذلك الحدث فاصلًا بين تاريخ القرون الوسطى وعصر النهضة. أما المسلمون فقد تابعوا مسيرتهم بقيادة السلطان محمد الثاني وافتتحوا كامل بلاد اليونان، والمجر، وبلغاريا، والبوسنة، وألبانيا. ووصلت جيوشهم إلى إيطاليا في جنوبي أوروبا، وإلى أسوار مدينة فيينا في وسطها.
    لقد وعى كلٌّ من صلاح الدين ومحمد الفاتح حركة التاريخ بصفتها جندًا من جنود الله تعالى، وأنها تسير وفق أوامره سبحانه بما أودع فيها من سنن. ولو لم يسبق أن أعدَّ كلٌّ منهما نفسه وجيوشه إعدادًا كافيًا، وتوكّل على ربّه حق التوكل، لما تجاوبت معه حركة التاريخ.
    إن فهم كلٍّ من هذين القائدين الكبيرين لسنن حركة التاريخ، ومباشرته الأعمال بنفسه وبما يتوافق مع تلك السنن، هو الذي أدى بالنتيجة إلى أن تستجيب له حركة التاريخ ويتحقق له النصر بحول الله وقوته.
    وبذلك كله برز الدورُ المؤثّرُ الذي يقوم به الإنسان على الساحة التاريخية.
    ولكنْ على الرغم من ذلك التوسّع والتنوّع، فإن الفكر الإسلاميُّ واجه محاولاتٍ عاتيةً من أجل تحريفه، وإلصاق ما ليس منه فيه، كي يمكن القضاءُ عليه... وقد أفضت تلك المحاولات إلى ما أفضت إليه من إيقاع العالم الإسلامي في براثن الغزو الخارجي، ولا سيما الغزو الصليبي، وغزوات التتار، حتى ظهرت في العالم الإسلامي ثلاث دولٍ: الدولة العثمانية في آسيا الصغرى والبلاد العربية، والدولة الصفوية في فارس، ودولة المغول في الهند...
    تراجع المسلمين وتقدم الفكر الإسلامي:
    وتتالت حِقَبُ التراجع في تاريخ المسلمين. ثم جاء الاحتلال الغربي بصورة الاستعمار السافر عن طريق الغزو: البريطاني ـــــــ الفرنسي ـــــــ الإسباني ـــــــ الإيطالي ـــــــ الهولندي، لبلاد المسلمين، لينزل بهم أشد الويلات في الأعماق والأرزاق، وليتحكّم بها تحكُّمًا حاقدًا غاشمًا... وكانت أكبر الرزايا والمصائب التي ألحقها بهم الاستعمار إقامته لدولة اليهود في فلسطين، كظاهرة قمع للفكر الإسلامي، وعامل محوٍ للحضارة الإسلامية برمَّتها... ولكن، يبدو أنه لم يطل الزمان كثيرًا ـــــــ وفقًا لحساب حركة التاريخ ـــــــ إذ ها هي مرحلة يقظةٍ إسلامية تلوح في الأفق، بعد بضع عشرات من السنين، تحاول أن تستعيد نفسها، لتعيد بناء الفكر الإسلامي من جديد، على أساس القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة... إذن فالشيء المهمّ في تاريخ المسلمين هو أن الإسلام لم يتوقف كعقيدة، بل ظل يتوسع بالكلمة. ففي حين تسقط الخلافة في بغداد، ويتقلص النفوذ الإسلامي في الأندلس، يقتحم الإسلام آفاقًا جديدة في جنوب شرق آسيا، وفي قلب أفريقيا، على الرغم من سيطرة الهيئات التبشيرية المختلفة، التي تسندها الحكومات والاحتلالات، ويحقق عن طريق التوسع الذاتي انتصارًا ساحقًا فيجذب إلى صفوفه الملايين من المؤمنين به دينًا حقًّا، وشريعة كاملة، وحقائق مطلقة... كل ذلك تشهد عليه حركة التاريخ وهي تثبت أن الفكر الإسلامي لم ولن يتوقف أبدًا، بل ظل وسيظل فكرًا حيًّا، متحركًا، قويًّا، تبرز معالمه في كل زمان ومكان أشدَّ وضوحًا وأكثرَ إشراقًا كلما تجددت الحياة بفكرها وأساليبها ووسائلها...
    وهكذا يتبين أن التاريخ الإسلامي تاريخ عاديٌّ في ظاهره: عرف دولة الإسلام الصحيحة، ثم عرف دولًا قوية، ودولًا ضعيفة... لكنَّه في جوهره كان مختلفًا عن غيره، لأنه احتوى حركة التاريخ كفكرة يحتضنها ولا يتخلَّى عنها، لا لشيء إلَّا لأنه يرى فيها جندًا من جنود الله، تسير وفق مشيئته ـــــــ تعالى ـــــــ المطلقة لتسجل في كل دورة من دوراتها كلَّ ما قام به الناس، أفرادًا وجماعات، من أعمال إيجابية وأعمال سلبية...
    لذلك فإنَّ المسلمين يُعدّون أنهم وعَوْا مفهوم حركة التاريخ، فانتظموا في منهجية الإيمان يردون نتائج الأمور كلها إلى الله ـــــــ سبحانه ـــــــ، إلّا إنهم قصَّروا أحيانًا في تقدير ما لها من تأثير في حياتهم عندما تخاذلوا عن فهم سنن الكون وعن العمل بما يُرضي الله العظيم ورسوله الكريم...
    وأما غيرهم، ممَّن لم يدركوا مفهوم تلك الحركة، ولم يقدِّروا ما لها من تأثير في البشر، فقد انبروا يستكبرون ويتعالون، وفي ظنِّهم أنهم يفعلون ما يشاؤون، ويحرِّكون التاريخ كما يريدون، وينشئون الأحداث وفق رغباتهم وأهوائهم... لكنهم في الحقيقة، لم يكونوا إلّا أدواتٍ لحركة التاريخ. إنهم وإن قاموا بأدوار متنوعة إلّا إنها لم تكن لتصبَّ في النهاية لصالحهم، أو لصالح الأفكار التي اعتمدوها، لأنهم لم ينتظموا أصلًا في المنهجية التي تردّ الأمر إلى الله العلي القدير، والتي تُرجع كل شيء في النهاية إليه وحده جلّ وعلا.
    الأمر كله منوطٌ بإرادة الله سبحانه:
    من هنا كان تأكيدنا على أن الأمر كله منوطٌ في نهاية المطاف بإرادة الله سبحانه وتعالى. فما الكون بأسره، وما خلق السماوات والأرض، وما اختلاف الليل والنهار، وما الشمس والقمر وهما يسبحان في الفضاء، وما إنزال الماء من السماء، وما تصريف الرياح والسحاب، وما إنبات الحبَّةِ، أو خلق البعوضة... إلخ... إلَّا آيات بيِّنات، ودلائل ثابتة قاطعة، على أن ذلك كله من خلق الله تعالى، ويسير وفق ما قدَّر له خالقه وما شاء. بدليل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة البقرة: الآية 164). وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة يونس: الآية 5). وقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (سورة يس: الآيات 38 ـــــــ 40).
    وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سورة لقمان: الآيتان 29 ـــــــ 30).
    هذه بعضٌ من دلالات القرآن الساطعة على حركة التاريخ، بحيث لو أخذنا كل أمرٍ منها، مهما كان كبيرًا مثل حركة الشمس والقمر، أو صغيرًا مثل إنبات الحبةِ في الأرض، لَوجدنا أن هذا الأمرَ الذي هو من صنع الله تعالى يمثل ناحية من نواحي حركة التاريخ التي تخضع لمشيئة الله... فإنبات الحبة الواحدة، مثلًا، يحتاج إلى قدرة الله تعالى المهيمنة على الكون كله تسخِّر أجرامه وظواهره في سبيل إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربةٍ وماءٍ وأشعة وهواء... ويقتصر دور الإنسان فيها على الحرث والبذر فقط. أما إنبات الزرع والنموّ فهما بيد الله تعالى، لقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (سورة الواقعة: الآيات 63 ـــــــ 65).
    هذه الآية الكريمة تلخص أمورًا ثلاثة: المباشرة والخلق والنتائج. أما المباشرة فكانت من الإنسان بالحرث {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ}. وأما الخلق فهو من الله سبحانه وكان بإنبات الحبة ونموّها {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}. وتبقى النتائج، والله سبحانه يجزم بأنها من صنعه وأن أمرها لا يعود إلَّا إليه تعالى: {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}.
    نعم إن الله تعالى هو الذي يتولى الحبة أو البذرة بالعناية، فيُمِدُّ كلًّا منهما بإمكانية التفاعل مع الماء مطرًا أو رطوبةً، ومع الهواء نسيمًا أو رياحًا، ومع حرارة الشمس لطيفةً أو لافحةً، حتى تستويَ نباتًا يُعجب الزُّرّاع أو شجرًا يانعًا ثمرهُ، فيرها الإنسان في هذه الصورة، أو في غيرها، مما أرادَها الله تعالى عليه.
    وهنا تبرز مشيئة الله تعالى في تسخيره لحركة التاريخ من خلال الدورة الزمنية التي تمرُّ على الحبَّة أو البذرة، بحيث إن جاءت عوامل الحياة متوافقة آتت تلك الحبة أو البذرة أُكُلَها، وإن جاءت عوامل الحياة غير مؤاتية لها، فسوف تتلف الحبَّة في باطن الأرض فيأخذها السيل الجارف، أو تأكلها الحشرة الدابّة... وحتى بعد ظهورها فوق سطح الأرض، فقد يأتي عليها ريحٌ صرصر، أو حرٌّ شديد، فيتوقف النماء وتيبس الأوراق والأغصان والجذوع، ويصبح كل شيء حطامًا، ويذهب هباءً منثورًا...
    ثم أليست دورة المياه من تبخيرٍ، وتجمع سحاب، وبرودة جوٍّ، وهطول مطر، وجريان ماءٍ في السواقي والأنهار لترجع إلى البرك والبحيرات والبحار، كما كانت من قبل، هي من أروع الأمثلة على حركة التاريخ؟ وقس على ذلك سائر الأمور الأخرى في تعاقب دورة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، لتمدَّ الزمان بدوراته، ولتتعاقب الأحداث خلال هذه الدورات!...
    ويحصل ذلك كله في الكون: في السماء والأرض، والله ــــــ سبحانه ـــــــ كل يوم هو في شأن، لقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (سورة الرحمن: الآية 29). أجل، يسأله كلُّ مَنْ في السماوات والأرض من خلائق وكائنات، لأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ المسؤول وحده وإليه الأمر. إنه الإلهُ المتعالي، الحي القيوم، الذي يديرُ كلَّ شيء، ويدبّر كلَّ شيء. فكان مردُّ السؤال والأمر إليه أمرًا حتميًّا، باعتبار أن في السؤال توجُّهًا من العبد للخالق، وهذا العبدُ محتاج دائمًا إلى خالقه.
    واللهُ سبحانه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هي أيضًا حقيقة مطلقة تبين أن المشيئة الإلهية تتعلق بشؤون الخلائق وتقدير أمورها وتدبيرها. بحيث يتناول هذا التدبير الوجودَ كله جملةً، كما يتناولُ كل فردٍ في هذا الوجود على حدة. فهو يتناول كل خلية، وكل ذرة، وكل عضو في جسمٍ أو في مادة، ويعطي كل شيء خلقه كما يعطيه وظيفته، ثم يراقبه وهو يؤدي هذه الوظيفة. ومع ذلك فإن صاحب التدبير، العلي العظيم، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يندُّ عن علمه ظاهر ولا خافٍ... ومن هذا الشأن شأنُ العباد في الأرض من إنس وجنّ... وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة «إن شأن الله هو إحياء قوم وإماتة آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين. وغير ذلك من الإهلاك والإنجاء، والحرمان والإعطاء، ومختلف الأمور الأخرى التي لا تحصى»...
    وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: «من شأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ أن يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين»...
    فالصحة والشفاء، والموت والحياة، والغنى والذل، وغفران الذنب، وتفريج الكرب، وإعلاء الناس وإعزازهم، وحطُّهم وإذلالهم... كلها من شأن الله تعالى، لأن هذا الشأن هو تعبير عن ميشئته المطلقة... فالناس، وهم عباد الله يسيحون في الأرض: يغرسون، ويصنعون، ويحكمون ويُحكَمون، يقاتلون فَيَقتُلون ويُقتلون، يتقدمون ويتأخرون... حياتهم كلها حركة... لكن النتائج في كل أمرٍ، وفي كل شأن من ذلك، مردُّها إلى الله تعالى. فلا عجب إذن إن رأينا التنوع والاختلاف في حياة الناس، من أفراد وجماعات، أو دول وأمم، وعدم اتِّساقهم جميعًا في وحدة حياتية...
    مداولة الأيام بين الناس:
    وليس أدلُّ على هذه الحقيقة المطلقة التي تجعل الوجود كله منوطًا بأمر الله تعالى (ومن هذا الوجود حياة الناس على هذه الأرض) من قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} (سورة آل عمران: الآية 140).
    هنا الدلالة البالغة على حركة التاريخ...
    وقد ذهب بعضهم، إلى أن هذه الآية الكريمة تحمل في مدلولها يوم نزولها، إشارة إلى غزوة بدر، وغزوة أحد، حيث انتصر المسلمون في الأولى وهُزم المشركون، ثم كانت الدّولة للمشركين في الثانية وهُزم المسلمون قتاليًّا نتيجةً لمخالفة الرُّماة أوامرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طمعًا في الغنيمة، في حين أن الله تعالى، قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله، ولا ينظرون إلى أي شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد، مهما كان فيه من الغنيمة...
    وقد ذهبوا أن فيها أيضًا تحقيقًا لسنَّة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس ـــــــ وفقًا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم ـــــــ فتكون لهؤلاء يومًا ولأولئك يومًا، ثم يُمحَّص المؤمنون ويظهر المنافقون على حقيقتهم، كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش...
    وبما أنَّ التمييز في العباد يكون دائمًا بين المؤمنين والكافرين، وبما أن المداولة ـــــــ لغةً ـــــــ تعني نقل الشيء من واحد إلى آخر، فيقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته. كما يقال: الدنيا دُول أي تنتقل من قوم إلى غيرهم... فإنَّ المعنى المقصود من: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} هو أننا نُعطيها مرةً لأناس فتكون لهم، ونصرفها مرة أخرى عنهم فتكون عليهم... فالله تعالى يصرِّف الأيام بين المسلمين والكافرين، بتخفيف المحنة عن المسلمين أحيانًا، وبتشديدها عليهم أحيانًا... لا بنصرة الكفار عليهم، لأن الله لا ينصر الكفار على المؤمنين، إذ إن النصرة تدل على المحبة، والله تعالى لا يحب الكافرين ولا الظالمين ولا المعتدين... كذلك فإن النصر من عند الله، فهو وحده يملك الغلبة، والقوة والسلطان... وقد جعلَ النصر لمن يجاهد في سبيله، وفي سبيل إعلاء كلمته وإحقاق الحقّ. كما جعل سبحانه أيام الدنيا متقلبة، كي لا يطمئن المؤمن إليها دائمًا، وتقل رغبته فيها، أو حرصه عليها، فإذا ترك عرض الدنيا وسعى لمرضاة الله، فإنه يسعى للنصر الحقيقي الذي يقوده للآخرة ونعيمها الدائم.
    لكنَّ مدلول الآية لا يتوقف عند هذا المفهوم عن مداولة الأيام، وتغيُّر الأحوال والأوضاع، بل يأتي السياق القرآني ليكشف للمؤمنين، وللأمة المسلمة، عن جوانب من حكمة الله تعالى، والغاية المثلى من مداولة الأيام بين الناس وما فيها من عبرٍ وعظاتٍ، وفي طليعتها تمييز المؤمنين من غيرهم، وعِلْم الله ـــــــ سبحانه ــــــــ بهم، بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، أي يعلمهم بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم لأنَّ من شيمة المؤمنين الصبر على الشدة والبلاء، والتضحية والتفاني إبّان الجهاد في سبيل الله، والإيمان بأن ما يصيبهم من خير فبإذن الله، وما يصيبهم من كرب فمن أيديهم وبإذن من الله...
    وعلمُ الله تعالى بهؤلاء المؤمنين، لا يعني أنه سبحانه لم يكن عالمـــًا بهم من قبل. فهو يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان، كما يعلمهم بعده. إنما يعلم قبل إظهارهم الإيمان أنهم يتميزون به، فإذا أظهروه عَلِمَهم متميزين، وعلموا هم أنفسهم بهذه الصفة وعلمهم المؤمنون. فيكون التغيُّر حاصلًا في المعلوم لا في العالِم... ومن قبيل ذلك أن أحدنا يعلم بإتيان الغد قبل مجيئه، فإذا جاء علم به حاضرًا، وإذا انقضى علم به ماضيًا، فالتغيُّر والحدوث يحصل في المعلوم، وهو الغد، لا في أحدنا وهو العالم للغد... إنَّ الله تعالى يعلم المؤمن والكافر قبل أن يظهرا للناس على حقيقتهما، فإذا ظهرا وتميَّزا علم بهما متميزَين معروفين للناس. وإذا لم يُذكر الكافر في النص فلأنه استُغني بذكر أحدهما (المؤمن) عن الآخر (الكافر)...
    وفي أي حال فإن الله ـــــــ سبحانه ـــــــ يعلم المؤمنين والمنافقين أو الكافرين والظالمين، لأنه ـــــــ سبحانه ـــــــ يعلم ما تنطوي عليه الصدور. لكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعًا في حياة الناس، وتحوِّل الإيمان إلى عمل ظاهر، كما تحول النفاق أو الكفر أو الظلم إلى تصرُّف المؤمنين، كما يحكمون على تصرُّف الكافرين.... وقد يكون في هذا الحكم صلاح للأمور، إذ تستقيم من جرائه الأحوال بالإبقاء على الصالح وترك الطالح، وقد لا يكون هنالك حكم صائب من الناس، فتبقى الأمور مغمورة، والحقائق مخبوءة، وقد يترتب على ذلك فساد الأمور وسوء الأحوال...
    فالحكمة الإلهية إذًا هي: في مداولة الأيام بين الناس ما يكشف عن الحقّ والباطل، وعن الإيمان والضلال، وما يبين الصلاح من الفساد، إنْ على صعيد الأفراد، أو على مستوى الدول والجماعات...
    وإذا كان الله تعالى يعلم عباده، ويعلم مَن منهم المؤمنون، ومَن هم المنافقون، فإنَّ في مداولة الأيام أيضًا حكمة بالغة وهي اتخاذ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ من المؤمنين شُهداء: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}.
    والشهداء يكونون: إما لمشاهدتهم الأعمال التي رأوها وتحقَّقوها، فيشهدون بها أمام الله تعالى...
    وإما لبَذْلهم النفس في معارك الجهاد ذودًا عن دين الله فيكونون مستشهدين في سبيله...
    ولذا كانت لفظة «الشهداء» هي جمع شاهد، أو جمع شهيد...
    ففي الجمع الأول، هم الشهداء الذين يستشهدهُمُ الله تعالى على الدِّين الحقّ الذي أنزله للناس، فيؤدون الأمانة (الشهادة) بلا شبهة ولا جدال. يؤدونها في سبيل إحقاق هذا الحقّ، وتقريره في دنيا الناس. فهم قد آمنوا بهذا الحقّ وتجرَّدوا له حتى أرخصوا كل شيء دونه. وشهادتهم تكون على أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحقّ، وأنها كانت من أجل مكافحة الباطل وطرده من حياة الناس حتى يتحقق منهج الله في حكم الناس... واللهُ سبحانه وتعالى، يستشهدهم على ذلك كله، فيشهدون...
    وأما في الجمع الثاني، فهم الشهداء المختارون، الذين يختارهم الله ـــــــ سبحانه ـــــــ من بين المجاهدين، ويتخذهم عبادًا له ـــــــ سبحانه ـــــــ... فهل بعد هذا الاختيار الإلهي يمكن احتساب الموتِ الذي هو شهادةٌ في سبيل الله مصيبةً أو خسارةً، أم أنه بالعكس هو انتقاءُ واختيارٌ وتكريمٌ من الخالق للمخلوق؟ إنه بالطبع أسمى انتقاء، وأرفع مقام يتكرَّم به الخالق على عبادٍ له صالحين، منحهم عزة الشهادة عن طريق التضحية بالنفس... حتى تأتي هذه الشهادة غير مختلفة في معناها عن أداء الشهادة بأنَّ دين الله هو الحقّ... فتلتقي الشهادتان على هذا المعنى خدمةً للحقّ، ويبقى الحقّ واحدًا لا يتجزأ وإن اختلفت مظاهره...
    وإذا كان الله تعالى يثبت في قوله المبين هذا الحكم العام، فذلك من أجل أن يتميَّز المؤمنون من الكافرين في كل زمان ومكان، وحتى تتبين لجميع الناس حقيقة المؤمن من زيف الكافر. وعند الله تعالى، في علمه وعدله، سوف يكون جزاءٌ لكلٍّ من المؤمنين أو الكافرين في الآخرة على ما فعلوا في العاجلة.
    [/align]

  4. #4

    افتراضي

    الفصْل الثَالث: الموقِف الدَّوليْ وَحَركة التَاريْخ
    تشكِّل العلاقات القائمة بين الدول الفاعلة في المسرح الدولي، ميزانًا للموقف الدولي، ذلك الموقف الذي لا يتأثّر بكثرة الدول العاملة على ساحته بل بفاعليّةِ القويّةِ منها، مع العلم أنَّ الدول الفاعلة فيه قليلة. ولما كان واقع كل دولة قابلًا للتغير والتبدل، قوةً وضعفًا، فإن العلاقات بين هذه الدول يعتريها التغيّر والتبدل تبعًا لذلك. والعوامل المؤثرة في هذين التغيّر والتبدل كثيرة: منها ما يعود إلى حرب تطيح بدولة، أو بتعديل نظام حكم أو انقلاب على حكم، ومنها ما يعود إلى ضعف الدولة في التأثير في المسرح الدولي، فيندفع غيرها ليحل محلها. وقد يحدث التغيّر والتبدل وقت السلم من خلال عملية التطور التدريجي للقوى، فتضعف دولة، وتقوى أخرى، إلا إن الحروب أفعل في التغيير.
    وعلى هذين التغير والتبدل في أحوال الدولة تتبلور صورة الموقف الدولي، إما في تغيّر هيكلية العلاقات، وإما في تبدل أطرافها. ونظرًا إلى أنَّ التغيّر في الأحوال والقوى للدول الفاعلة على المسرح الدولي ليس سريعًا، فإن التغير في الموقف الدولي يحتاج إلى فترات طويلة.
    وقوة الدولة لا تنحصر في قوتها العسكرية فحسب، بل تشمل جميع الطاقات والقدرات المادية والفكرية والمعنوية التي تستطيع الدولة تعبئتها وحشدها داخل حدودها وخارجها. فهي تشمل المبادئ، أو الدور الذي تقوم به بحملها رسالة للعالم، كما تشمل القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والمهارة في الأعمال السياسية، والحنكة في الدبلوماسية.
    وتستعمل الدولة في صراعها مع غيرها على المسرح الدولي وسائلَ وأساليبَ متعددةً ومتنوعةً من عناصر قوتها الفاعلة، أو ما تظنه كذلك، أو ما تسمح الأوضاع الدولية باستعماله. فقوة المبدأ، والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، في كلٍّ منها القدرة على تغليب المصالح، والحفاظ على تلك المصالح، وإيجاد الهيبة والمكانة النافذة للدولة على المسرح الدولي، إذ يمكن ترجمة أي منها إلى نفوذ سياسي قوي. لكن القوة العسكرية تبقى أبرز العناصر وأفعلها، لأنها حصن الدولة، ورأس منعتها، فهي دائمًا تكمن خلف العمل الدبلوماسي لإمكانية اللجوء إليها إذا فشلت الوسائل الأخرى.
    والقوة العسكرية لا تنفصل عن إرادة استعمالها، فقوة الإرادة زخم لها، وضعف الإرادة وهن لها. وتضعف إرادة دولةٍ ما في استعمال قوتها العسكرية ضد دولة أخرى عندما يكون الفارق كبيرًا بين قوتيهما العسكريتين، أو عندما يؤدي سباقُ التسلح بينهما إلى نوعٍ من توازن القوتين، فلا يعود في مستطاع واحدةٍ منهما أن تدمّر الأخرى تدميرًا أكيدًا، خوفًا من الردِّ المماثل. وهنا تبرز أهمية العناصر الأخرى في قوة الدولة، مثل قوة المبدأ، والقوة الاقتصادية، والدبلوماسية، والأعمال السياسية.
    وعمل الدولة على المسرح الدولي إنما هو لإيجاد مصالح للدولة، وحماية تلك المصالح. ومصالح الدولة خارج حدوها كثيرة ومتنوعة، منها المبدئي، مثل إيجاد الظروف الملائمة لنشر المبدأ، ومنها المعنوي مثل الحفاظ على هيبة الدولة وكرامتها ومركزها الدولي، ومنها المادي كتلك المتعلقة بالأمن مثل المواقع الاستراتيجية، أو تلك المتعلقة بالمنافع مثل المواد الخام والأسواق التجارية لتصريف الفائض من المنتوجات الصناعية والزراعية.
    أما المصالح في حقيقتها فمنها ما هو حيوي، ومنها ما هو ثانوي. فالحيوية هي التي تتجلّى عندما تكون الدولة مستعدة لدخول حرب فورية من أجلها. وتطول قائمة المصالح الحيوية وتقصر بحسب قوة الدولة وضعفها. فالدولة القوية هي التي تطول قائمة مصالحها الحيوية، وتطول بالتالي قائمة ارتباطاتها الدولية، وتدخلاتها على المسرح الدولي. فالمصالح هي التي تملي على الدولة ارتباطاتها، وليس ارتباطات الدولة هي التي تفرض على الدولة مصالحها. وفي ضوء اتساع مصالح الدولة يتحدّد نوع هذه الدولة وحجمها. فالدولة الإقليمية هي التي تنحصر مصالحها واهتماماتها وارتباطاتها بمنطقتها، فتجعل من تلك المصالح الإقليمية مجالًا لنشاطاتها السياسية. والدولة العظمى هي تلك التي لا حدود لمصالحها، وبالتالي لا تنحصر اهتماماتها وارتباطاتها ضمن حدودٍ معينة.
    النظامان: الرأسمالي والاشتراكي:
    لقد تقلبت على العالم عهود طويلة من الظلم والاستبداد، برزت في الكفر عقيدة، وفي الإقطاع والملكية المطلقة نظامًا. وظلت تلك العهود تسيطر على معظم شعوب الكرة الأرضية، حتى جاءت الأفكار الفلسفية وأطاحت بالأنظمة السياسية التي كانت سائدة، لترسي مكانها أنظمة جديدة تنزع إلى تأمين مصالح الفرد وتأمين حرياته، فكان من جرائها نظام الرأسمالية التي تؤمن إيمانًا مطلقًا بكفالة الفرد في ممارسة حقوقه المدنية والسياسية، وفي حماية حرياته الأساسية.
    وقامت فكرة الدولة في الغرب على هذا الأساس. ونشأت الملكية الدستورية، والديمقراطية البرلمانية أو الرئاسية وكلّها تجعل من الشعب مصدرًا للسلطة في كل شيء.
    ولم تكن فكرة الاشتراكية بعيدة من عقول المفكرين. فقد راودت تلك الفكرة مخيلات كثيرين منهم، ووضعوا حولها المؤلفات التي احتوت نظريات متعددة. إلَّا إنها لم تبصر التطبيق الفعلي كنظام ومنهج، وبصورة كاملة، إلَّا بعد الثورة التي قامت في روسيا على القيصرية في أكتوبر (تشرين الأول) 1917م، وما أدت إليه تلك الثورة من قيام الاتحاد السوفياتي الذي هو عبارة عن «دولة اتحادية» مؤلفة من عدد من القوميات والجنسيات المختلفة اللغات والأديان والعادات والتقاليد والمشاعر... وبذلك ظهر نظام الحزب الواحد (الحزب الشيوعي) الذي يعتمد الاشتراكية نظامًا بدلًا من الرأسمالية.
    ولم تلبث الاشتراكية أن سيطرت على أوروبا الشرقية كلها طبقًا لأفكار لينين وماركس، بحيث تقوم الدولة هناك على فكرة الملكية الجماعية، وحكم البروليتاريا (الطبقة العاملة)، وذلك بمواجهة الرأسمالية التي تؤمن بالفرد وحريته وتقريره هو لمصالحه.
    وهكذا استقر في العالم، ولا سيما بعد الحربين العالميتين، نظامان متصادمان في المبادئ والأسس والأهداف والمصالح: النظام الأول الذي يدين بالرأسمالية، وقد تزعمته الولايات المتحدة الأميركية، والنظام الثاني الذي يدين بالاشتراكية وقد تزعمه الاتحاد السوفياتي... أما باقي دول العالم الثالث فقد توزعت أنظمتها بين الرأسمالية والاشتراكية، وذلك بعد أن قامت منظمة الأمم المتحدة بحملة مناهضة للاستعمار، وعملت على إعطاء الشعوب حق تقرير مصيرها، فحصلت غالبية البلدان التي كانت مستعمرة على استقلالها السياسي، ولكن ظلَّ معظمها مرتبطًا بالدول المتقدمة، بحيث أصبحت تدور هذه الدول الجديدة إما في فلك السياسة الغربية أو في فلك السياسة السوفياتية.
    وكان من جراء ذلك أن برز الجباران: أميركا والاتحاد السوفياتي، وصارا القوتين العظميين في العالم. كما قامت في كل منهما فكرة سباق التسلح، التي أنتجت من الأسلحة التقليدية المتطورة، ومن الأسلحة الاستراتيجية، ولا سيما الأسلحة النووية والهيدروجينية والكيمياوية ما يمكن من خلاله زعزعةُ أركان الكرة الأرضية والقضاء على ما أنشأ الإنسان فوق سطحها. وقد عبَّر عن ذلك وزير الدفاع الأميركي في منتصف عام 1985 أمام نادي الصحافة الوطني في واشنطن عندما قال: بأن القوة التدميرية الإجمالية للقوة النووية ـــــــ وحدها ـــــــ في العالم هي أكبر بمليون مرة من القنبلة التي ألقيت على هيروشيما.
    هذه النظرة الإجمالية للوضع الدولي تثبت بوضوح أن السيطرة كانت للدول العظمى، التي حصلت على مصادر قواها في الغالب من ثروات العالم الثالث. ولم يبرز في هذا العالم المذكور صاحب دور مهم في مجريات الأحداث الدولية، لانهماكه بالمشاكل التي يتخبط فيها ولا سيما المشاكل السياسية والاقتصادية، مما جعل الوضع الدولي يستمر على تلك الحال. حتى كانت بداية التسعينيات في هذا القرن، فبدأنا نشهد ظهور حركة جديدة تتجلّى في الانقلاب الجذري على الاشتراكية، ومن قلب أوروبا الشرقية بالذات، ونزوع دولها جميعًا نحو ديمقراطية رأسمالية، قد تكون بعيدة كل البعد من الاشتراكية. وقد كان البادئ بهذا التحول الاتحاد السوفياتي نفسه، صاحب الزعامة في الكتلة الشرقية، وذلك بفعل سياسة «البريسترويكا» التي ينادي بها الزعيم السوفياتي «غورباتشوف»، والتي غايتها تطوير النظام عبر إصلاحات جذرية للأوضاع الحالية، بحيث يصبح هذا النظام أكثر قدرة على تلبية تطلعات الشعب. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن حركة التاريخ تأتي دائمًا بالجديد وتحقّق ما ينتظره الإنسان، لأن بداياته تكون قد ظهرت له في أعقاب سعيه لتحقيقه، لكنها أحيانًا قد تفاجئ المنتظرين وتخالف آراء المتوقعين، فتأتي بما لم يكن في الحسبان، وبما لم يخطر على بال...
    ونظرة سريعة على الوضع الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، تبين لنا ما أنتجته حركة التاريخ على صعيد ما كان منتظرًا، أو ما هو مفاجئ وغير متوقع.
    فمن الأمور التي كان ينتظرها المفكرون، والسياسيون بصورة خاصة، أن يأتي اليوم الذي تتفرَّد فيه الولايات المتحدة الأميركية بزعامة العالم، وتتسلَّم زمام قيادته من خلال نظام دولي تعمل وحدها على إيجاده. وقوام معطيات هذا التفرُّد يرتكز على أمرين: قوة الولايات المتحدة وغناها، وتداعي الأفكار الاشتراكية، نتيجة فشلها الذريع في التطبيق، مما يَؤُول حتمًا إلى تخلّي الاتحاد السوفياتي عن دوره التنافسي للولايات المتحدة والتصدي لها أو الوقوف بوجهها في الهيمنة على الشؤون الدولية.
    وبالفعل فقد حصل ما كان متوقعًا، وبعد مرور أقل من نصف قرن على تفكير روزفلت، الذي سيطرة عليه ـــــــ وهو يراقب مجريات الحرب العالمية الثانية ـــــــ فكرة إحلال عالم جديد محل عالم توازن القوى القائم على تكتلات متناحرة، بحيث يتمثل هذا العالم الجديد بعالم واحد في نطاق هيئة دولية واحدة مهما تعددت أجهزتها وتنوعت مؤسساتها، على أن تكون السيطرة الفعلية على قرارات تلك الهيئة الدولية للولايات المتحدة، ويُصبح للاتحاد السوفياتي الدور الثاني في تقرير السياسة الدولية. أما بريطانيا وفرنسا فلا يعدو دورهما النواحي الاستشارية في الشؤون الدولية...
    والهدف الأميركي من ذلك كله أن يجسِّد العالم الواحد تفوُّق الولايات المتحدة العسكري والسياسي والاقتصادي، ويحقق هيمنتها الكاملة على كل ناحية من نواحي الشؤون الدولية.
    وفكرة العالم الواحد هذه جعلت روزفلت يتقرب من ستالين، ويُظهر تودده له، ولو كان ذلك على حساب حلفائه الآخرين، وعلى تشرشل حليفه الأول بصورة خاصة. فأُنشِئت منظمة الأمم المتحدة عام 1945م، وتحقق حلم روزفلت... ومع أن ستالين وقَّع على ميثاق الأمم المتحدة، إلَّا إنه ـــــــ ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية ـــــــ حتى أدار ظهره للمنظمة الدولية، ولدورها في المجتمع الدولي، مفضلًا أن يركِّز اهتمامه على بناء المعسكر الاشتراكي، بعيدًا من تدخلات الآخرين، مما أدّى إلى تجميد فكرة العالم الواحد، ليحل محله عالمان متصادمان: العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي. وبذلك استقر الموقف الدولي، في سنوات ما بعد الحرب الثانية، في أيدي الدول الأربع المنتصرة في الحرب: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا... فكان رؤساء هذه الدول أو من ينوب عنهم يجتمعون في مؤتمرات رباعية للنظر في القضايا الدولية وإيجاد الحلول لها. لكن الموقف الدولي هذا كان قلقًا بسبب التناقض الكبير بين مصالح تلك الدول، وتنافسها الحادّ على النفوذ، حتى غدت لا تتفق في مؤتمراتها على شيء يُذكر...
    وبعد موت ستالين راح زعماء الكرملين يشاكسون أميركا حينًا، ويتوددون إليها حينًا آخر، من أجل عقد الصفقات التجارية. وبعد أن اشتدت الحرب الباردة بينهما، ونجح الاتحاد السوفياتي في بناء قوته العسكرية الهائلة، قامت اتصالات سرية وشاقة بين الجبارين استجابت بنتيجتها الولايات المتحدة، فكان لقاء خروتشوف وكنيدي في مؤتمر فيينا عام 1961م تتويجًا لتلك الاتصالات. وقد تم الاتفاق في ذلك اللقاء على وضع الأساس لسياسة الوفاق الدولي بين الدولتين، وإبعاد كل من بريطانيا وفرنسا من المشاركة في حل القضايا الدولية، وحصر ذلك بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكانت تتمّ لقاءات ثنائية، من حينٍ إلى آخر، بين رئيسيهما أو من ينوب عنهما.
    وقد ردت بريطانيا، في محاولةٍ منها للنفاذ إلى السياسة الدولية، بالتقرب من الولايات المتحدة، وإقامة علاقات مميّزة معها عن طريق الاعتراف لها بزعامة العالم الغربي، إلَّا إنها ضمنًا ظلت تشاكسها حول القضايا المتعلقة بمصالحها الخاصة. أما فرنسا، فقد توجهت إلى أوروبا لتقوى بها وتجِد نفسها فيها، كما عمدت إلى إيجاد رادع نووي فرنسي مستقل. ولكن مع ذلك لم تتوقف عن مناكفة الولايات المتحدة علَّها تفرض عليها إعادتها إلى حلبة السياسة الدولية. إلَّا إن محاولاتها لم تثمر واستمرّ الموقف الدوليّ محصورًا في قبضتي عملاقين اثنين هما: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي...
    ومن المتغيرات التي طرأت على المسرح الدولي في فترة الوفاق، اعتراف الولايات المتحدة عام 1972م بالصين الشعبية التي أخذت مقعدها في مجلس الأمن الدولي بدلًا من الصين الوطنية، وأصبحت الدولة الخامسة ذات العضوية الدائمة في هذا المجلس. ثم جرى تطبيع العلاقات بين الدولتين عام 1978م، مما جعل الصين الشعبية دولة عظمى إن لم يكن على المستوى العالمي، فعلى الأقل كدولة إقليمية كبرى تطمح إلى تأدية دورٍ كبيرٍ في السياسة الدولية.
    وكانت السوق الأوروبية المشتركة قد أنشئت في أواخر الخمسينيات للوقوف في وجه الولايات المتحدة اقتصاديًّا. وقد حاولت فرنسا أن تجعل من هذه السوق الاقتصادية قوة سياسية فاعلة. ثم كان انضمام بريطانيا وشريكاتها في منطقة أوروبا الحرة عام 1972م إلى هذه السوق، فأدى هذا الانضمام إلى تدعيم مركز بريطانيا الدولي، ولم تكن تُعدّ من قبل إلا دولة أوروبية فحسب.
    وإذا كانت السوق الأوروبية قد نجحت في المجال الاقتصادي فإن ذلك لم يعط أوروبا، ولا دولها، الفاعلية الدولية التي تريدها، لأن هذه السوق بقيت عبارة عن «تجمع لدولٍ» لا توحدها المواقف السياسية. لكن ذلك لم يمنع من إعطاء بعض دول هذا التجمع مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعض القوة السياسية من خلال تنسيق المواقف بين دول السوق.
    وبقي الوضع الدولي على هذه الحال حتى بداية الثمانينيات حيث بدأت تظهر على الاتحاد السوفياتي أمارات الوهن الاقتصادي والاجتماعي من جراء فساد المبدأ، وفشل النظام، وسباق التسلح، وتكاليف الدور العالمي الذي ألزم الاتحاد السوفياتي نفسه به. وهذا ما دفع غورباتشوف في أواخر الثمانينيات إلى الاعتراف بهذا الوهن، وإلى تبنّي خطة واسعة لإصلاحات أيديولوجية واقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية... وهذه الإصلاحات أصبحت الشغل الشاغل لقادة الكرملين، فصرفت اهتماماتهم الكاملة إلى معالجة المشاكل الداخلية، التي باتت تهدد بتفجر الاتحاد السوفياتي من داخله. وبذلك انحسرت اهتمامات الاتحاد السوفياتي الدولية وضعفت أدواته المبدئية والاقتصادية... وتسارعت الأحداث من انقلاب الأوضاع في الاتحاد السوفياتي، إلى زلزال التغيير الكبير في أوروبا الشرقية، وانتهاء الحرب الباردة بعد مؤتمر يالطا بين ريغان وغورباتشوف... كل ذلك أدى إلى خروج الاتحاد السوفياتي من الموقف الدولي، وإلى تفرُّد أميركا في الهيمنة عليه، وبالتالي رسم السياسة الدولية...
    وحدث ما كان منتظرًا، وتحقق ما توقعه المفكرون السياسيون. وها هو الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في أزمة الخليج يبرز في حقيقته من أصدق الشواهد على ذلك. لقد برز التفرد الأميركي في الموقف الدولي، كما أبرزت هذه الأزمة تخلي الاتحاد السوفياتي عن مشاركة الولايات المتحدة في صنع القرار الدولي، أي إن الاتحاد السوفياتي تحوّل إلى دولةٍ تساير الولايات المتحدة، بل تسير في ركبها، بدليل أن بوش لما وصل إلى نقطة الحرج في أزمة الخليج ـــــــ بعد استكمال حشد القوات الأميركية وتمركزها هناك، مع أن هذه القوات تحركت لإرغام العراق على الانسحاب من الكويت ـــــــ لجأ إلى دعوة غورباتشوف إلى قمة هلسنكي الطارئة، ليتخذا معًا قرارًا للسير في الحلول السلمية، وذلك تلافيًا للحرج الذي وصل إليه في دعوته إلى استعمال الخيار العسكري. وما كان من غورباتشوف إلّا أن سارع في تلبية الدعوة، وبذلك حقق لبوش ما يريده، فيخرج هذا من المؤتمر مناديًا بنظام دولي جديد، يتوحد فيه العالم على أساس «نظام سلمي ومستقر آمن» (طبعًا بقيادة الولايات المتحدة).
    وكان بوش يفكر في هذا النظام الدولي الجديد منذ قمة واشنطن التي عقدت بينه وبين غورباتشوف في 31/5/1990م. فقد صرّح على أثرها قائلًا: «إن اجتماع القمة بين القوتين العظميين أفرز علاقة صداقة جديدة قد تعيد تشكيل التاريخ»... وأضاف: «أشعر بالعرفان لغورباتشوف لروح الصراحة التي تعامل بها مع كل مسألة مطروحة على مائدة المفاوضات، وأعدّ هذا برهانًا على دخولنا بالفعل مرحلةً جديدةً في علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي».
    وهكذا وفي عام 1990م تكون الولايات المتحدة قد حققت حلمها، ووصلت إلى ما بدأ روزفلت العملَ من أجله، إبان الحرب العالمية الثانية، أي إلى تفرُّدها بزعامة العالم...
    ولكن هل يدوم هذا مع ضعف الفارق بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى عسكريًّا، ومع هذا التقدم الاقتصادي الهائل الذي توصلت إليه كل من اليابان والسوق الأوروبية المشتركة؟... هذا من دون أن ننسى وحدة ألمانيا وقوتها الاقتصادية؟. ربما أدى هذا الأمر بتلك الدول إلى أن تزاحم الولايات المتحدة لتصبح دولًا عظمى، وتفرض نفسها عليها من أجل مشاركتها في المواقف الدولية، وفي صنع القرار الدولي. إن الولايات المتحدة تعمل الآن على منع وصول تلك الدول إلى هذا الوضع، لتبقى هي وحدها متفردة بالسيطرة على العالم وتقرير مصيره.
    وفي تقديرنا أن هذا الوضع المرحلي لن يدوم طويلًا، فانصراف الاتحاد السوفياتي لمعالجة مشاكله الداخلية لا يسقط الاعتبار بأنه دولة عظمى، بل إن تخليه عن اهتماماته الدولية سوف يكون مرحليًّا من أجل أن يعيد بناء ذاته من جديد، ليعود بعد ذلك إلى الساحة الدولية أقوى مما كان عليه من قبل. وعندئذٍ سوف يفرض على الولايات المتحدة مشاركته الحتمية في القرار الدولي. لكن هذا الأمر قد لا يكون تحقيقه سهلًا على الاتحاد السوفياتي، لأن المجابهة العسكرية دوليًّا قد انتهت، وأصبح التنافس قائمًا في حقول الاقتصاد والتكنولوجيا، وهو متأخر فيها عن الولايات المتحدة، بل وعن بعض الدول الغربية الأخرى... غير أن غورباتشوف، وقادة الكرملين قد أدركوا أن غياب الاتحاد السوفياتي عن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية كان أحد أهم الأسباب التي أدت به إلى هذه الدرجة من الضعف. لذلك سوف يكون هذا الأمر في حسبان القادة السوفيات، كما سوف يعملون على العودة إلى المنظمات الدولية، على أساس اعتراف الجميع بالمصالح الحيوية والقومية للجميع... يضاف إلى ذلك قيام أوروبا موحدة، وإقامة البيت الأوروبي المشترك الذي سيشكل الاتحاد السوفياتي جزءًا منه، وفق النظام الدولي الجديد...
    تلك هي معظم الأوضاع التي طفت على الساحة الدولية منذ الحرب الثانية، وما كان متوقعًا من وصول الولايات المتحدة إلى زعامة العالم قد تحقق...
    ولكن ما الشيء المفاجئ أو الذي لم يكن حصوله منتظرًا بهذه السرعة؟
    إنها أزمة الخليج وما قد ينشأ عنها من تفاعلات... فقد صرح زعماء العراق، وعلى فترات متباعدة من هذا القرن أن الكويت جزء من العراق، ولوَّح بعضهم بالإقدام على احتلال الكويت لإعادتها إلى الأراضي العراقية. إلَّا إن تلك التصريحات والتلميحات كانت تمرّ، عابرة بحيث يتناساها العالم سريعًا، مما لم يهيئ الأجواء الفكرية لاحتلال العراق للكويت... حتى كانت المفاجأة في 3/8/1990م ودخلت القوات العسكرية العراقية أراضي الكويت. هذا الحدث العظيم جعل الخليج العربي محطَّ أنظار العالم كله، بل أصبح الموقع الجغرافي والاقتصادي الذي يتوقف مصير العالم كله على الأحداث الجارية فيه...
    فما كان من الشرق والغرب إلَّا أن اجتمعا، واتفقا على العمل المشترك لاسترداد الكويت. وحُشدت قوى ثمانٍ وعشرين دولة ـــــــ حملت اسم القوات الحليفة ـــــــ يربو عدد جنودها على نصف مليون جندي في شبه الجزيرة العربية، مجهزة بأحدث ما توصلت إليه مصانع الأسلحة من المعدّات المتطوّرة. وتسلَّمت أميركا زمام القيادة، وأعلنتها حربًا مدمِّرة على الجيش العراقي، فشلّت حركته بحيث لم يعد قادرًا على المقاومة والصمود، بعد أن استسلم الآلاف من جنوده.
    وانتهى فصل من الحرب بدخول القوات الحليفة الكويت، وبعض أجزاء العراق من جهتي الشمال والجنوب. ودخل العالم في مأزق جديد نتيجة تشريد ما يقرب من ثلاثة ملايين لاجئ في العراق. وأصبح العراق، وهو إحدى كبريات الدول العربية قوّة واقتصادًا، مهدّدًا بأن يفقدَ سيادته على أرضه ومرافقه، وبات العرب جميعًا يخشون على وحدة الأراضي العراقية.
    مآزق حرجة تواجه النظام الدولي الجديد، فهل ينجح هذا النظام في تلافي النتائج الخطيرة لتلك المآزق وتظلّ الولايات المتحدة زعيمة العالم إلى مدة من الزمان؟ أم أنّ هذا النظام الجديد سيفشل، وتذهب كل التوقعات بشأنه أدراج الرياح؟!...
    والمثال الآخر الذي فاجأت به حركة التاريخ العالم، هو هذا التحول الحاصل الآن في أوروبا الشرقية والذي لم يكن متوقعًا حدوثه بهذه السرعة التي ظهر فيها، ولمـــّا يمضِ بعد أكثر من سبعين عامًا على التطبيق الفعلي للأنظمة الاشتراكية. فعلى الرغم من كل المظاهر التي كانت تنبئ بعدم نجاح هذه الأنظمة، فإن انهيارها لم يكن مرتقبًا بهذه السرعة الكبيرة، وعلى هذه الصورة التي جرى عليها. إذ ما إن لاحت بوادر الانعتاق من جور تلك الأنظمة حتى هبت شعوب المنظومة الاشتراكية، تطالب بالحرية والانعتاق من نير التحكُّم وتأمين العيش الكريم.
    على أنه ومهما كان من شأن الأحداث المرتقبة أو غير المتوقعة، فقد أثبت الواقع فشل النظامَين الرأسمالي والاشتراكي على السواء، في تحقيق المبادئ التي قام عليها كل نظام منهما، كما تثبته الدراسات والتحليلات الموضوعية حولهما. ذلك أن سلطات المنظومة الاشتراكية لم تعد قادرة على إقناع شعوبها بالبقاء على ما هي عليه من التقشف، وشظف العيش، والحرمان والقهر... أي خلافًا لما كان يمنّيها به النظام الاشتراكي من بحبوحةٍ ورفاهيةٍ ومساواةٍ وحريةٍ، لم تنل منها تلك الشعوب إلَّا الشعارات والوعود!...
    ومن ناحية أخرى فإن الرأسمالية لم تكن نظامًا أفضل للناس، لقد وعدت بالحريات الفردية والسياسية ومنح الفرص للجميع، وتكريس الديمقراطية... وها هي تحكم بالفشل على نفسها بنفسها. يكفي أن نعطي مثالًا على ذلك ما وصلت إليه الحال في الولايات المتحدة الأميركية بالذات، زعيمة المنظومة الرأسمالية، حيث يلهث معظم الشعب الأميركي وراء عيش آمن ومستقر... هذا الشعب المتعب الذي يبلغ عدده اثنين في المئة (2%) من سكان العالم كله، يستهلك نحو ستين في المئة (60%) من مخدرات العالم. وقد اعترف الرئيس ريغان بأن في الولايات المتحدة 13 مليونًا من المدمنين على المخدرات... والسبب في ذلك كله طغيان رأسمالية احتكارية في هذه الدولة العظمى، تسلب الفقير لتعطي الغني، وتنشئ ناطحات السحاب ليعيش آلاف المشردين في الشوارع، وتنادي باحترام الحقوق والحريات في حين أنها تبني الأمجاد على المؤامرات التي تحيكها لبلدان وشعوب العالم الثالث، من أجل استغلال ثرواته وخيراته لتأمين المصالح الحيوية لكبار الرأسماليين، من الأميركيين أنفسهم، أو من بعض حلفائهم في أوروبا أو في غيرها من القارات الأخرى...
    نعم لقد فشل النظامان اللذان يسودان العالم اليوم: النظام الرأسمالي في تحقيق سلام نفسي، وتوازن مجتمعي لشعوبه، كما فشل النظام الاشتراكي الذي كان يعارض النظام الرأسمالي في طريقة عيشه، هو أيضًا، في تأمين وفرة السلع الغذائية، والحاجات الكمالية، وإشاعة أجواء الحرية للشعوب التي اعتنقته أو خضعت له.
    الإسلام هو الحلّ:
    أما الآن، وقد تخلى الاتحاد السوفياتي عن دوره بالمعارضة للرأسمالية، فإنه لم يبق إلَّا النظام الإسلامي مؤهلًا ليتصدر المعارضة للدول المستعمرة التي تعيش على خيرات بلادها وخيرات البلدان المستضعفة. وسوف يكون الصراع مريرًا من الآن فصاعدًا بين الإسلاميين والطغاة المستكبرين، فإن استجاب الإسلاميون لداعي الله تعالى، وتفاعلوا مع حركة التاريخ، كان لهم النصر بإذن الله تعالى. وإلَّا فسوف يفشلون، وتذهب ريحهم.وويل للعالم يومئذٍ من جراء هذا الفشل الذي قد يبعد الإسلام من القيام بدوره على ساحة الحياة الأرضية ولو إلى حين...
    لكنَّ ثقتنا بالله تعالى كبيرة جدًّا، لأن الإنسان بات في أمسِّ الحاجة إلى نظام متكامل، يعيش في ظله آمنًا مطمئنًّا، وترعاه دولة كريمة عادلة، تعرف قدر الإنسان، وتُحلّه في المرتبة اللائقة به. ولن يكون هذا النظام إلا الإسلام الذي وحده فيه الخلاص.
    وعلى الناس أن يختاروا بين أن يعيشوا بمنهج الله سبحانه وتعالى فيكونوا في توافق مع سنن الكون وفطرتهم هم أنفسهم، وبين أن يعيشوا بمنهجٍ من صنع البشر فيحيَوْا في تصادمٍ مع سنن الكون، وخصامٍ مع فطرتهم التي فطرهم خالقهم عليها. ومتى انعدم التناسق بين الفطرة ومنهج الله تعالى فلا مفرَّ من تعاسة الناس وشقوتهم، على الرغم من التسهيلات المادية والإنتاجية التي توفرها لهم نظمهُم الوضعية... تلك النظم التي سوف تتحطّم لا محالة لتعارضها مع سنن الكون، وفطرة الإنسان...
    لماذا؟
    لأنه مهما ذهب العقل البشري بعيدًا في البحث والتنقيب، وإعمال الفكر... فلن يجد أفضل من نظامٍ هو من عند الله تعالى، ولن يكون في غير النظام الإسلامي حلٌّ لمشكلات البشر... فالنظام الذي يقوم على الإسلام وحده، هو الذي يعيد لهذا الإنسان اعتباره، ويبدِّله من بعد خوفه وقلقه أمنًا وطمأنينة، ومن بعد فقره المدقع غنى في النفس والمال، ومن بعد ظلمه وقهره عدلًا ومساواة... لقد غُيّب الإسلام فترة من الزمن عن مسرح الحياة الراهنة، وعن تسلُّم الزمام في مقاليد الحكم. وربما أراد الله ـــــــ سبحانه ـــــــ تلك الفترة امتحانًا للمؤمنين، وصهرًا لنفوسهم كي يغيروا ما فيها ليغير الله ـــــــ سبحانه ـــــــ ما بهم.
    وما إن لاحت بوادر الصحوة الإسلامية، حتى راحت النظم الدنيوية من رأسمالية واشتراكية، تتهاوى بأصحابها والقيّمين عليها، كما تتهاوى مفاهيمها كذلك في عقول الناس وقلوبهم... ولن يجد الناس إلَّا في الإسلام ـــــــ الدين الحقّ والنظام الحقّ ـــــــ الملاذ للشعوب المنهكة كي يأخذ بيدها إلى ما فيه الخير والطمأنينة والسعادة الحقيقية.
    أجل! ما من نظام يصلح لبني الإنسان إلا نظام قائم على الإسلام، لأنه النور الرباني الهادي، الذي يضيء لهم شعاب هذه الحياة، ويملأ قلوبهم بالإيمان، والراحة، ويسهّل أمامهم سبل العيش الكريم... إنه الدين القيّم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده في الأرض، وبه بعث نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا... وهو سبحانه تكفَّل بإتمام نشره وبغلبته على كل ما عداه من الأديان والأنظمة. والله تعالى بالغ أمره. لقد قضى بنصر الإسلام وظهوره على غيره، فلا رادَّ إذن لقضائه، ولن تطفئ نوره الإلهي الغامر نفخةٌ من أفواه الكفار المشركين...
    إنه عهد من الله ـــــــ سبحانه ــــــــ على نفسه... ومن أوفى بعهده من رب العالمين؟ قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (سورة التوبة: الآية 32 ـــــــ 33). قال المقداد بن الأسود، حول ظهور الإسلام وانتشاره: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله كلمةَ الإسلام، إما بعزّ عزيز، وإما بذلّ ذليل، فهو إما يُعزّهم فيجعلهم من أهله فيعتزُّوا به، وإما يذلهم فيدينون له».
    نعم إن الله تعالى سوف يُظهر (ينصر) دينَه رغمًا عن الكفار والمشركين جميعًا. لقد حسب الذين حكموا بالظلم، وتحكّموا في الناس بالجور أنهم قد استولوا على العقول فأقنعوها بعدالة أنظمتهم، وأنهم قد سيطروا على المصائر فلا خلاص للبشر من حكمهم... أجل! لقد اعتقدوا بأبدية أنظمتهم... لكن الله ـــــــ سبحانه ــــــ رؤوف بعباده، حافظ لدينه الذي ينظم حياتهم ومعادهم، فيبعث الفرج من قلب الضيق، وينشر نوره الربّاني فيعمّ الكون، فيغدو دينه الحقّ هو الخلاص لبني البشر في دنياهم وآخرتهم...
    وتثبيتًا لقضاء الله تعالى بغلبة هذا الدين الحنيف على كل ما يريده الكفار والمشركون من إطفاء نوره، وطمس هداه... وتوكيدًا لعظمة آيات قرآنه المجيد، بيانًا وبلاغة ومدلولًا، تكررت النصوص والألفاظ ذاتها في سورة أخرى، وبما يتناسب مع أجواء السورة وغاياتها، وذلك بقول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (سورة الصف: الآيتان 8 ـــــــ 9).
    إنه تكرار لمعظم الألفاظ في السورتين، مع تنويع في استعمال الفعل أو المصدر، واختلاف في التوكيد وأدواته... وذلك لكي تبعث النصوص الثقة في نفوس المؤمنين، وتقوِّي من عقيدتهم، وتشدَّ من عزائمهم، وتؤكد مرة جديدة أنَّ العزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين... والله سبحانه موفٍ بعهده، منجزٌ وعده، والعاقبة للمتقين...
    النظرة الجزئية السطحية
    والنظرة الشاملة المستنيرة للحياة
    وعد الله نافذ لا محالة: يقول الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (سورة الروم: الآيتان 6 ـــــــ 7). عندما هزم الفرسُ الروم سُرَّ المشركون بذلك الانتصار لِمَنْ كانوا مجوسًا مشركين أمثالهم. وحزن المسلمون حزنًا شديدًا لهزيمة الروم الذين كانوا أهل كتاب. فكان وعدُ الله سبحانه بنصر المسلمين على مشركي مكة، والروم على الفرس المشركين في بضع سنوات، بقوله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} (سورة الروم: الآيات 2 ـــــــ 5). ولقد صدق الله تعالى وعده ونصر المؤمنين في معركة بدر، وفي ذلك الحين غلبت الرومُ الفرس قبل انقضاء سنوات تسع على وعد الله (فالبضع يدل على مقدار من الثلاثة إلى التسعة).
    وذلك النصر لا بد من تحققه في واقع الحياة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده. فوعده صادر عن إرادته المطلقة، وحكمته البالغة وهو قادر على تحقيقه، ولا رادّ لمشيئته، ولا معقّب لحكمه، ولا يكون في الوجود ألا ما يشاء، ووفق ما يريد، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولو بدا في الظاهر أنهم يعلمون، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أنَّ علمهم سطحي يتعلق بظواهر الحياة الدنيا ولا يتعمق في فهم سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة، ولا يدرك ارتباطاتها المتينة بخالقها. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}... {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} (سورة النجم: الآية 30) لأنهم يركزون علمهم في الأمور المتعلقة بوسائل معاشهم من طعام وشراب، وبوسائل زينتهم ولهوهم ولعبهم لإشباع شهواتهم وتحقيق رغباتهم... ذلك مبلغهم من العلم الذي لا يتجاوز الظاهر، ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه. مع العلم أن ظاهر الحياة الدنيا محدود صغير مهما بدا للناس واسعًا شاملًا، يستغرق جهدهم جزءًا منه، ولا يستقصونه بكامله في حياتهم المحدودة. والحياة الدنيا كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه. والذي لا يتصل عقله بالوجود، ولا تشعر أحاسيسه بالنواميس والسنن التي تصرِّفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، لكنه لا يدرك ما وراءهما من الحكمة الإلهية في دِقّة الصنعة والإحكام، ولا يتعايش مع حقيقتها السامية.
    الغفلة:
    {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}... فالآخرة هي حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكبيرة. والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختلُّ، وموازين القيم لديهم تهتز، فلا يتمكنون من تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورًا صحيحًا. ويظل علمهم بها ظاهرًا سطحيًّا ناقصًا، لأن حساب الآخرة إذا عاش في تفكير الإنسان وضميره يغيِّر نظرته لكل ما يقع على هذه الأرض.
    ومن ثَمَّ لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويعمل لها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الدنيا، ولا يتفقان في حكم واحد على حادثة أو واقعة، أو حالة أو شأن من شؤونها. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوءٌ يرى عليه الأحداث والوقائع، والأحوال والشؤون... هذا يرى ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذلك يدرك ما وراء الظواهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس، والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء...
    هذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان.
    الموقف الدولي والصهيونية:
    لماذا يحصلُ ما يحصلُ في أوروبا الشرقية؟ وهل يحدث ذلك بصورة عفوية أم أن هناك من يعمل على هدم تلك الأنظمة خدمةً لمصالحه؟
    وهل صحيح ما يُتداول من أن أصابع الصهيونية العالمية هي التي تحرك هذه الأحداث لأهداف وأغراض تخدم مصالحها؟ وأن «إسرائيل الكبرى» حقًا باتت على الأبواب؟
    إن السنوات القادمة قد تشهد تطورات مهمة جدًّا... لذلك، ولكي يعيَ العالم بأسره ما يجري، في العالم الإسلامي بصورة خاصة، لا بد من معرفة حقيقة الصهيونية، والأهداف التي تسعى إليها.
    ولإظهار حقيقة الصهيونية وفضح ما تخطط له فإننا نستعين بالمعلومات التي تضمنتها عدة مؤلفات ظهرت لكتَّاب وصحفيين أميركيين، ومنها كِتَاب (النبوءة والسياسة ـــــــ الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية). هذا الكتاب هو جملة تحقيقات ومشاهدات وحوادث وأفكار نقلتها الصحفية الأميركية «غريس هالسل»، وقام بترجمته إلى العربية الأستاذ محمد السماك. وقد أخذته على عاتقها «جمعية الدعوة الإسلامية العالمية»، وقررت وضعه بين أيدي المسلمين للاطلاع عليه، ورؤية الخطر الذي يتهددهم، بل يتهدد كل الناس من النصارى واليهود والمسلمين...
    إن المسلمين هم الجماعة المعنية في الأصل، والتخطيط الصهيوني يستهدفهم، وفيه أخطار كثيرة على وجودهم وتراثهم وثرواتهم. وهذا ما يستدعي حثهم على التفكير بجدية لمواجهة تلك الأخطار، وإعداد العدة لما يفرضه عليهم دينهم ودنياهم، وذلك لأجل اتقاء الشر قبل استفحاله، علَّ في صحوتهم، وتغيير نمط تفكيرهم، وتحوّلهم إلى دعاة ومجاهدين، ما يحول دون حصول الكارثة المرتقبة في إفناء البشرية... ولا سيما أن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ قد وضع على عاتق الجماعة الإسلامية هداية الناس، ومحاربة الفساد، وخدمة الإنسان في كل مجالات الحياة... وهذا من شأنه أن يُفْشِلَ ـــــــ بحول الله ـــــــ كل المخططات الهدامة، والمكائد المتربصة، والأهداف الملتوية، سواء تلك التي تعمل لها الصهيونية أو غيرها.

  5. #5

    افتراضي

    الفصْل الرابع: الصّهيونية وَحَركة التَّاريخ
    الصهيونية
    عندما يُسأل الكاتب «مارك رو نرونسكي» ـــــــ من مدينة واشنطن ـــــــ عن تعريفه للصهيونية، فإنه يقول: «بعضهم يعرّف الصهيونية بأنها نهاية المنفى وتجمّع كل اليهود». لكنها برأيه: «حركة سياسية توسعية استعمارية أدت إلى خلق دولة إسرائيل». ويبرهن عن رأيه بالقول: «أنا أعدّ الصهيوني كل من يوافق على أعمال دولة إسرائيل بغضّ النظر عن مدى خطورة أو خطأ هذه الأعمال».
    أما الحاخام «موشيه لفينغر»، وهو قائد إرهابي أدين بتهمة التخطيط لاغتيال رؤساء البلديات العرب في إسرائيل وتدمير قبة الصخرة، فإنه يعرّف الصهيونية بقوله: «الصهيونية هي حركة لا تفكر على أساس عقلاني، بل على أساس الأوامر الإلهية، إن ما يهمّ فقط هو وعد الله لإبراهيم كما هو مدون في كتاب سفر التكوين».
    والصهيونية في حقيقتها هي حركة مسيحيين قبل أن تكون حركة سياسية لليهود. وقد اتسمت دائمًا بالعنصرية. والغاية الرئيسية التي تهدف إليها هي تجميع اليهود من مختلف أنحاء العالم، في فلسطين، لتحقق ما تعدّه نبوءات التوراة والإنجيل ـــــــ كما يدّعي أنصارها ومحازبوها ـــــــ. والجدير بالذكر أنّ «منظمة الأمم المتحدة» ـــــــ ONU ـــــــ أقرَّت بأن الصهيونية نوع من أنواع العنصرية. أما المؤرخ البريطاني «توينبي» فيصف الصهيونية بأنها «عبارة عن إله مزيف» أو «أنها ديانة وثنية».
    ونحن نكتفي بتلك الآراء حول معنى الصهيونية، لأنها كفيلة بإعطاء فكرة واضحة عن حقيقة هذه الحركة الدولية والمآرب التي تسعى إليها.
    جذور الصهيونية:
    ولدت فكرة الصهيونية في الأصل بين أحضان المسيحية البروتستانتية، أي قبل قرون من دعوة «هرتزل» مؤسس الصهيونية السياسية. وكانت أنشودة مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية، كما يقول «كينين» أحد أبرز القادة الصهاينة اليهود الأميركيين في كتابه (خط الدفاع الإسرائيلي).
    لذلك فإن الأصوليين المسيحيين كانوا أول من نادى بعودة اليهود إلى فلسطين تحت شعار «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»...
    أما موقف الكنيسة الكاثوليكية فقد كان إلى عهد قريب مغايرًا لذلك الاعتقاد، إذ كانت ترفض التصالح مع اليهود إلا إذا اعترفوا بالسيد المسيح عليه السلام واعتنقوا النصرانية. وقد رفضت فكرة الكيان الصهيوني في فلسطين من منطق لاهوتي صرف. وهذا ما عبَّر عنه بوضوح البابا «بيوس العاشر» عندما ذهب إليه «هرتزل» عام 1903م في محاولة منه لإقناعه بالموافقة على مشروع استيطان اليهود في فلسطين، فأجابه البابا بصراحة: «لقد أصبحت القدس مقدسة لعلاقتها بحياة السيد المسيح. ونحن لا نطيق ولا نسمح باستقرار اليهود هناك. اليهود لا يعترفون بمخلّصنا ونحن لا نعترف باليهودية. ولماذا الإصرار على القدس يا سيد هرتزل؟ لقد دمر هيكلكم إلى الأبد. فلعلكم تريدون إعادة بنائه وتقومون بالمذابح وتقديم الضحايا كما اعتدتم أن تفعلوا في الماضي؟».
    ذلك كان موقف الكنيسة الكاثوليكية. أما اليوم فيمكن القول بأن الفاتيكان معترف ضمنيًّا بالوجود الصهيوني، ولم يعد يطالب بتدويل القدس كما كان يلح على ذلك في السابق. وقد تأكد الموقف الكاثوليكي الجديد في البيان الذي صدر عام 1973م عن اللجنة الأسقفية الفرنسية الكاثوليكية الخاصة بالعلاقات مع اليهودية. كما تأكد في تراجع الفاتيكان عن التصديق على البندين 20 و21 من توصيات ندوة الحوار الإسلامي المسيحي التي عقدت في طرابلس في ليبيا بعد أن كان الوفد المسيحي قد وقعهما، وقد جاء فيهما: «البند 20: إن الجانبين ينظران إلى الأديان السماوية نظرة احترام. وعلى هذا فإنهما يفرقان بين اليهودية والصهيونية كون الصهيونية حركة عنصرية عدوانية أجنبية عن فلسطين وعن كل منطقة الشرق». «البند 21: إن التزام الحقّ والعدل، والحرص على السلام والإيمان بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، يحمل كلا الجانبين على تأكيد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وحقه في العودة إلى دياره، وعلى تأكيد عروبة مدينة القدس ورفض مشروعات التهويد والتقسيم والتدويل، واستنكار كل مساس بحرمة الأماكن المقدسة»...
    وفي الأساس، فإن التغيير في الفكر المسيحي تجاه اليهود، قد بدأ منذ القرن السادس عشر عندما راحت الحركة الإصلاحية البروتستانتية تعمل على إحياء نصوص التوراة، وتقوم بتفسير النصوص المتعلقة باليهود تفسيرًا حرفيًّا لا يتطابق مع المعاني الحقيقية للتوراة، وذلك في محاولة لتهويد تلك النصوص وجعلها في متناول الشعوب المسيحية. ومنذ أوائل القرن السابع عشر راح البروتستانت الغربيون ينظرون إلى اليهود على أنهم شعب مميّز. وسيطر عليهم الاعتقاد بأن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لتحقيق المجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام. كما كانوا يعتقدون بأنّ هذا ما يريده الله ـــــــ تعالى ـــــــ لأن المسيح عليه السلام يحمل معه الخلاص والسلام، وأنّ النصارى المخلصين سوف يعيشون مع السيد المسيح في فلسطين ألف سنة في سعادة وسلام قبل يوم القيامة طبقًا لبعض التفسيرات الحرفية لسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي. ولقد أدى تيار الصهيونية المسيحية هذا إلى قيام الحركة الصهيونية ـــــــ السياسية ـــــــ وتشجيع اليهود على الالتفاف حولها.
    وهنالك مراجع كثيرة تؤكد أن «هرتزل» لم يكن متشدّدًا في إيجاد كيان صهيوني في فلسطين، بل كان يريد تجميع اليهود في بقعة معينة من الأرض ـــــــ أيّ بقعة ـــــــ. غير أن الصهاينة المسيحيين هم الذين أقنعوه بأرض فلسطين، وراحوا يشدون أزره، ويقدمون لليهود مختلف أنواع المساعدات من أجل ذلك... فالمبشر «وليم بلاكستون» أهدى إلى «هرتزل» نسخة عن الكتاب المقدس بعد أن وضع عليها علامات تشير إلى عودة اليهود إلى الأراضي المقدسة. وهذه النسخة لا تزال معروضة إلى جانب ضريح «هرتزل» في القدس.
    وفي المؤتمر الأول للحركة الصهيونية الذي عقد في مدينة بازل في سويسرا عام 1897، دخل «هرتزل» قاعة المؤتمر بصحبة القس البروتستانتي «وليام هشلر» فصاح هذا قائلًا: يحيا الملك. وخطب في الصهاينة المجتمعين بقوله: «استفيقوا يا أبناء إسرائيل فالرب يدعوكم للعودة إلى وطنكم القديم فلسطين»...
    ومن الثابت تاريخيًّا أيضًا أن الكنيسة البروتستانتية لم تتوقف، منذ القرن السادس عشر الميلادي، عن العمل من أجل دعم تلك الفكرة بمختلف الوسائل ولا سيما تقديم الدعم المالي وتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين. يقول حاييم وايزمن في مذكراته: «وللقارئ أن يسأل: ما أسباب حماسة الإنكليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟ والجواب عن ذلك أنّ الإنكليز ـــــــ ولا سيما من كان منهم من المدرسة القديمة ـــــــ هم أشد الناس تأثرًا بالتوراة. وتديّن الإنكليز هو الذي ساعدنا في تحقيق آمالنا لأن الإنكليزي المتدّين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين. وقد قدمت الكنيسة الإنكليزية في هذه الناحية أكبر المساعدات».
    وهذا ما يؤكد من جديد أن الكنيسة البروتستانتية تنطلق من فكرة دينية بحتة تقوم على أنّ المجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام، لا يتحقق إلا بعودة جميع اليهود إلى فلسطين. لذلك لم تكن لديها منذ البداية مشكلة بالاعتراف بدولة إسرائيل أو بالكيان الصهيوني بعد إنشائه. بل على العكس كانت هي التي تعمل على إقامة هذا الكيان وإضفاء الشرعية اللاهوتية المسيحية عليه من خلال تفسيرات لاهوتية كاذبة تدّعي أن الكيان الصهيوني هو استمرار لدولة إسرائيل القديمة... بل إن هناك تيارًا قويًّا داخل الكنيسة البروتستانتية يدعو إلى عدم تبشير اليهود بالنصرانية لأنهم ما زالوا شعبًا مختارًا. وبالفعل فنحن اليوم لا نسمع عن أي تبشير مسيحي بين اليهود، بينما على العكس نحن نسمع عن تبشير يهودي بين النصارى... بل إن هناك من يقول بأن الحركة البروتستانتية التي ادعت أنها حركة إصلاحية لم تقم إلّا بفعل اليهود ولصالحهم؟ وقد ساعدها على النجاح أنها وجدت في الكثير من المسيحيين مؤيدين فاستخدمتهم لمصلحتها، ولكن تحت ستار الأفكار الدينية التي توائم ما بين العهد القديم والعهد الجديد، وذلك عن طريق إدخال نصوص، وحذف أخرى، وتعديل غيرها، بحيث تطمس النصوص التوراتية الحقيقية ولا يعود لها من وجود أو أثر في العالم.
    وهذا ما أثبتته الدراسات والوقائع... لقد عُقدت مناظرة في لوس أنجلس في الولايات المتحدة بين أخينا في الإسلام السيد «أحمد ديدات» والقس الأميركي «جيمس سواغارت»، وهو من المبشرين بالمجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام، وكان عنوانها: «الإنجيل... كلمة الله». فأثبت السيد «ديدات» بالأدلة الحسيّة، وبالبراهين الواقعية أن في نسخ الأناجيل المتداولة بين أيدي الناس اختلافات كثيرة، وأنه ليست هنالك نسخة واحدة مثل الأخرى. بل إن النسخة الوحيدة التي قامت بتمحيصها مجموعة من الباحثين والمفكرين المسيحيين، وتعاون معهم في ذلك نحو خمسين شخصًا من مختلف المذاهب المسيحية، والتي عُدَّت أفضل نسخ الإنجيل وأدقها وأصدقها، قد دخل عليها بعد ذلك كثير من الحذف والإضافة... مما يؤكد أن الإنجيل أو الأناجيل المتداولة ليست هي الكتب المنزلة من الله عز وجل...
    وقد حاول السيد «سواغارت» أن يدّعي بأن في القرآن اختلافًا وذلك عندما قال بأنَّ القرآن يذكر في سورةٍ من سوره أن يومًا عند الله ـــــــ تعالى ـــــــ مقداره خمسون ألف سنة، وفي سورة أخرى يذكر أن مقداره ألف سنة... ولو عرف السيد «سواغارت» الحقيقة، وكلف نفسه عناء البحث، أو القراءة على الأقل، لوجد أن ليس هنالك فيما ادّعاه أي اختلاف. ونوضح ذلك بما يلي:
    يقول الله تعالى في الآيتين 4 و5 من سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}.
    إن سياق هاتين الآيتين الكريمتين، والأجواء التي تحيط بهما، تدل بوضوح على الخلق ثم على تدبير شؤون هذا الخلق. فالخالق العظيم هو الذي يرعى شؤون خلائقه، وقد أحاط علمه بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات. وفي تدبيره ـــــــ سبحانه ـــــــ لشؤون تلك الخلائق ـــــــ التي لا تحصى ولا تعدّ ـــــــ ما يجعل تصرّف أي منها في نية أو قول أو فعل خاضعًا لمشيئة المدبّر وحكمته. ومن فضل الله تعالى على عباده أن يعلمهم في القرآن الكريم بأمر هذا التدبير السنيّ الجليل، حتى يوقن كل مخلوق أنه أمام سمع خالقه وبصره، وأنه محوط برعايته ـــــــ جل جلاله ـــــــ وبواسع رحمته. ولكي يدرك المخلوق مقدار أهمية تدبير خالقه، يوضح له النص القرآني أن هذا التدبير يكون بحفظ الإنسان ورزقه. والأمر بذلك ينزل من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه ـــــــ سبحانه ـــــــ في يومٍ من الزمان، هو في حسبان بني البشر يوازي ألف سنة من أيامهم الأرضية... وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنه بقوله: «ينزل الأمر والتدبير في دار الدنيا من لدنه ـــــــ سبحانه ـــــــ ثم يعرج إليه في يومٍ {كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في الدنيا».
    أما في سورة المعارج فيقول الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} (سورة المعارج: الآيات 1 ـــــــ 14).
    واضح من هذه الآيات الكريمة، بل ومن أجواء سورة المعارج كلها، أن اليوم المقصود هو يوم القيامة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر... هذه الأهوال التي يلاقي فيها الإنسان الكافر مختلف المصاعب وأشدّ أنواع العذاب في مدة مقدارها خمسون ألف سنة من أيام هذه الدنيا. وهذا بيان للكافرين لو يعون حقيقته لأقلعوا عن كفرهم، ولقضوا ما بقي لكل منهم من عمر في طلب العفو والغفران... أما المؤمن فيكون ذلك اليومُ «أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» كما جاء في الحديث الشريف. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «قيل يا رسول الله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة... ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفَّف على المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة يصلِّيها في الدنيا».
    تلك هي المقاصد من النصوص القرآنية في سورتي «السجدة» و«المعارج». فأي اختلاف بين النصين؟ لا، ليس في القرآن أي اختلاف على الإطلاق لأنه من عند الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (سورة النساء: الآية 82). وللعاقل أن ينظر ويعي ويحكم...
    بعد هذا التوضيح نعود إلى البحث في الحركة الصهيونية التي طبعت من الأناجيل ما يخدم مطامعها القريبة والبعيدة وذلك بعد طمس «العهد القديم» وإخفائه، لتُحلَّ محلَّه تأليفاتٍ تتوافق وأغراضها الدنيوية بعيدةً كل البعد من تعاليم السماء التي وردت في التوراة والإنجيل والقرآن...
    هدف الصهيونية العالمية:
    لم يعد خافيًا على أحد أن ما تسعى إليه الصهيونية العالمية هو تحقيق «الوعد اليهودي». يستوي في العمل لأجل هذا الهدف الصهيونية ذات المفهوم السياسي التي يحمل لواءها البروتستانت الأصوليون، والصهيونية ذات المفهوم الديني التي تعني اليهود في العالم بأسره قبل غيرهم... وهذا الوعد هو عادة تجميع اليهود على أرض فلسطين، كونها لدى اليهود «أرض الميعاد»... وها هو العالم الغربي نفسه يشهد على ما تقوم به الحركة الصهيونية بفرعها المسيحي التي كانت متمركزة في البدء بإنكلترا، ثم راحت تتمركز ومنذ السبعينيات في الولايات المتحدة الأميركية، وبعض دول أوروبا. هذه الحركة تدعو إلى دعم «دولة إسرائيل» من أجل تحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل، وذلك بعد تمكين اليهود من السيطرة على القدس، وإعادة بناء الهيكل محل المسجد الأقصى، لأن ذلك في زعم الصهيونية ومناصريها هو الشرط اللازم للمجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام. لهذا السبب حصل هذا التزاوج بين فكرة الصهيونية اللاهوتية (المسيحية) التي تقول بعودة المسيح عليه السلام ثانية من أجل تخليص العالم من الآثام التي يغرق فيها، وفكرة الصهيونية السياسية (اليهودية) التي تطمع في تحقيق الحلم التاريخي لليهود بإقامة دولة يهودية على «أرض الميعاد»، أي الأرض التي وعدهم الله تعالى بها كما يدَّعون. ولأجل ذلك هم يزوّرون الكتب السماوية والحقائق التاريخية...
    وتتلاقى هاتان الفكرتان عند خط التقاطع الذي يجمع نحو تسعة ملايين يهودي ـــــــ من أصل 14 مليونًا في العالم كله ـــــــ على أرض إسرائيل الكبرى. أو ليس في هجرة اليهود اليوم بعد انتفاضة أوروبا الشرقية ما يشير إلى هذا التجميع الذي راحت بوادره تظهر في الهجرة المنظمة لليهود إلى أرض فلسطين؟
    ولكن ما وسيلة ذلك وفقًا للفكر الصهيوني؟
    الحرب النووية هي الوسيلة لتحقيق هدف الصهيونية
    يجيب عن هذا السؤال المطروح المسيحي الصهيوني «هول لندسي» في كتابه «آخر أعظم كرة أرضية» فيقول «هول لندسي»: «إن الله قضى علينا أن نخوض غمار حرب نووية هرمجدون». وهذا يعني بحسب آراء «لندسي» أن هذه الكرة الأرضية، بكل ما تحفل به اليوم من عمرانٍ ومدنية وحضارة سوف يقضى عليها في القريب العاجل. وقد كان هذا في علم الله تعالى منذ البداية، كما يدّعي لندسي قائلًا: «إن الله ـــــــ تعالى ـــــــ يعرف أن ذلك سيحدث. إنه يعرف ذلك منذ البداية الأولى. لكن الله ـــــــ تعالى ـــــــ اخفى مخططه عن بلايين البشر الذين عاشوا قبلنا». أما الآن (وكما تقول هالسل في «النبوءة والسياسة») واستنادًا إلى لندسي نفسه: «فإن الله ـــــــ تعالى ـــــــ يكشف عن مخططه إلى لندسي، وإلى الآخرين أمثال جيري فالويل، وجيمس سواغارت، وبات روبرتسون الذين يبشرون بنظرية هرمجدون».
    ولكن ماذا تعني هرمجدون لغويًّا؟ إن كلمة «هار» في اللغة العبرية معناها الجبل، و«مجيدو» هو اسم مكان في أرض فلسطين. ويزعم المبشرون الإنجيليون خصوصًا، ورجال الفكر الصهيوني عمومًا، أن الحرب النووية القادمة سوف يكون ميدانها «مجيدو» في فلسطين. وهو المكان نفسه الذي حصلت فيه معارك كثيرة سابقة من قبل جيوش غازية... ومن تلك التبشيرات «أننا نتحرك بسرعة نحو مأساة نووية». يقول أحدهم ويدعى «كلايد»: لقد كُتبَ السيناريو. فالله يأخذ زمام التاريخ البشري. أما «بيلي غراهام» فقد قال عام 1970: «إن العالم يتحرك الآن بسرعة كبيرة نحو هرمجدون. وإن الجيل الحالي من الشباب قد يكون آخر جيل في التاريخ». وفي مناسبة أخرى يقول «غراهام»: «إن أناسًا كثيرين يتساءلون أين تقع هرمجدون؟ إنها تقع إلى الغرب من الأردن بين الجليل والسامرة في سهل جزريل. وعندما شاهد نابليون هذا المكان العظيم مرة قال: إن هذا المكان سيكون مسرحًا لأعظم معركة في التاريخ. ذلك أن الكتاب المقدس يعلمنا أن آخر الحروب وأكبرها في التاريخ سوف تخاض في هذا المكان من العالم: الشرق الأوسط».
    إنها نبوءة نابليون!... بل إنها نبوءة الإنجيليين العسكريين، التي ينسبونها إلى نابليون حتى يكون لها وقعها المؤثر في النفوس. أليس في ذلك تحريف واضح للكتاب المقدس إذ لمجرد أن رأى نابليون ذلك المكان خطرت بباله تلك النبوءة؟!...
    ونعود إلى «هول لندسي» حيث يربط في كتابه (آخر أعظم كرة أرضية) نشوب الحرب النووية «هرمجدون» بقيام دولة إسرائيل فيقول: «إن دولة إسرائيل هي الخط التاريخي لمعظم أحداث الحاضر والمستقبل. وقبل أن يصبح اليهود أمة لم يكشف عن شيء، أما الآن وقد حدث ذلك فقد بدأ العد العكسي لحدوث المؤشرات التي تتعلق بجميع أنواع النبوءات... ولأنه يجب أن تظهر هنالك دوائر لقوى سياسية معينة، واستنادًا إلى النبوءات، فإن العالم كله سوف يركِّز اهتمامه على الشرق الأوسط، وخصوصًا على إسرائيل في الأيام الأخيرة».
    فهل إن هذه الحشود من أساطيل الدولة، وآلاف الطائرات ومئات الآلاف من الجنود التي تحتشد اليوم في مياه الخليج وعلى أرضه، بعدما أقدم العراق على احتلال الكويت في آب 1990م، هي ما يدل على نبوءات لندسي؟! أم أنها في الحقيقة مخططات توضع في الخفاء، ويصار إلى إعلانها تحت ستار «نبوءات» الدينية، حتى يقتنع الناس بها لأنّ مصدرها إلهي؟!...
    وتروي الكاتبة هالسل أن (لندسي) قال لها عام 1985م: «إن الجيل الذي ولد منذ عام 1948م سوف يشهد العودة الثانية للسيد المسيح. ولكن قبل هذا الحدث علينا أن نخوض حربين: الأولى ضد يأجوج ومأجوج، والثانية في هرمجدّون. والمأساة سوف تبدأ هكذا: كل العرب بالتحالف مع السوفيات سوف يهاجمون إسرائيل». وفي كتاب آخر (للندسي) اسمه (العالم الجديد القادم) يقول: «فكروا في ما لا يقل عن 200 مليون جندي من الشرق، مع ملايين أخرى من قوات الغرب، يقودها أتباع المسيح من الامبراطورية الرومانية المستحدثة (أوروبا الغربية)... إن عيسى المسيح سوف يضرب أولًا أولئك الذين دنسوا مدينته القدس. ثم يضرب الجيوش المحتشدة في مجيدو أو هرمجدون. فلا غرابة أن يرتفع الدم إلى مستوى ألجمة الخيل مسافة 200 ميل من القدس. وهذا الوادي سوف يملأ بالأدوات الحربية والحيوانات وجثث الرجال والدماء». ويقول (لندسي) أيضًا: «إن الأمر يبدو وكأنه لا يصدق! إن العقل البشري لا يستطيع أن يستوعب مثل هذه اللاإنسانية من الإنسان للإنسان، ومع ذلك فإن الله ـــــــ تعالى ـــــــ يمكّن طبيعة الإنسان من تحقيق ذاتها في ذلك اليوم... وعندما تصل الحرب الكبرى إلى هذا المستوى، بحيث يكون كل شخص تقريبًا قد قتل، تحين ساعة اللحظة العظيمة، فينقذ السيد المسيح الإنسانية من الاندثار الكامل. وفي هذه الساعة سيتحول اليهود الذين ينجون من الذبح إلى المسيحية. وسيبقى فقط 144 ألف يهودي على قيد الحياة بعد معركة هرمجدون»...
    هذه بعض معتقدات (لندسي) عن هرمجدّون... فما هي آراء غيره من المبشّرين الصهاينة بهذه الحرب؟
    يقول (جيري فالويل) في قداسٍ له عام 1984م: «إن كلمة هرمجدون تثير الهلع في نفوس الناس. سيكون هناك احتكاك أخير، وبعد ذلك فإن الله ـــــــ تعالى ـــــــ سوف يزيل الكوكب (أي الكرة الأرضية)... ويقول بطرس في كتاباته: «إن التدمير سيترافق مع حرارة عالية وانفجار ضخم... خلال مأساة هرمجدون سيتحرك عدو المسيح نحو الشرق الأوسط ويضع تمثالًا لنفسه في المعبد اليهودي، قدس الأقداس، ويطلب من العالم كله أن يعبدوه كإله... وسيذبح الملايين من اليهود المخلصين في هذا الوقت». (نلاحظ كيف أن المبشرين المسيحيين الصهاينة يركزون في ذبح اليهود من دون غيرهم من الشعوب الأخرى». مما يشي بالدس على الإنجيل وتحريفه حتى تتحقق الغايات المشبوهة من هذا التحريف وأقلها استدرار العطف على اليهود، وتقديم المساعدات لهم، والانصياع لأهوائهم...) ثم يتابع فالويل قائلًا: «لكن فئة قليلة منهم سوف تنجو، وسيتولى الرب بطريقة خارقة إخفاءهم من أجل نفسه طوال ثلاث سنوات ونصف من المحنة، بعضهم سيكون في مدينة البتراء ــــــــ الحمراء ـــــــ الوردية (في الأردن). أنا لا أعرف كيف، لكن الله سيحفظهم، لأن اليهود هم شعب الله المختار».
    وينقل (فالويل) عن إصحاح زكريا وإصحاح إسحاق: «إن ساحة معركة هرمجدون سوف تمتد من مجيدو في الشمال إلى أيدوم في الجنوب مسافة نحو 200 ميل. وتصل إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب، وإلى تلال موهاب في الشرق مسافة 100 ميل تقريبًا. وستكون مدينة القدس هي النقطة المركزية للمنطقة كلها. وستتجمع في هذه المنطقة الملايين الكثيرة من الرجال (بحيث يصل عددهم إلى 400 مليون من دون شك) من أجل وقوع المأساة النهائية للإنسانية. ويتابع فالويل: «وجاء في الإصحاح 14/3 أن الملوك في جيوشهم سيأتون من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب. وبشكل درامي مثير سيكون هذا الوادي واديَ القرار حول مصير الإنسانية.
    لماذا ستدور المعارك هنا؟ ولماذا يقود أعداء المسيح جيوشهم في العالم ضد المسيح الإله؟
    أولًا: لأنهم يكرهون سيادة الله، فالمعركة دائمًا كانت من الشيطان ضد المسيح. تلك هي المسألة.
    ثانيًا: لأن هذه الأمم سوف تأتي بسبب تضليل الشيطان.
    ثالثًا: بسبب كراهية الأمم للمسيح شيء ما سيحدث خلال هذه المعركة: سيجف نهر الفرات (إصحاح 12/16) وسيتم تدمير القدس».
    ويقول (فالويل) في تلك الخطبة من قدّاسه: «إن جون ـــــــ حنا ـــــــ رأى وحشًا في منامه، ورأى ملوك العالم بجيوشهم مجتمعين لشن حرب ضد الإله المسيح الذي يبدو في رؤيا جون رجلًا يمتطي حصانًا أبيض. وبنيما تقترب هرمجدّون من نهايتها، وملايين الأموات على الأرض، فإن الإله المسيح سيضرب الوحش والنبيَّ الكذاب (المعادي للمسيح) ويلقي بهما في بحيرة من نار تغلي فيها الحجارة. وسيذبح المسيح كل أعدائه الآخرين الذين ينجون من هرمجدُّون».
    ثم إن (جيري فالويل) وهو يدرّس النبوءات التوراتية ـــــــ الإنجيلية يؤكد: «أن هرمجدّون هي حقيقة. إنها حقيقة مركبة. لكننا نشكر الله أنها ستكون نهاية أيام العامة (جنتيل) لأنها بعد ذلك سوف تعدُّ المسرح لتقديم الملك الرب المسيح بقوة وعظمة».
    ويعتقد (فالويل) أن الوقت لم يعد طويلًا لحدوث هرمجدون. إذ إنه في المقابلة الصحفية التي أجرتها معه صحيفة «لوس أنجلس تايمز» في آذار 1981م قال: «أعتقد أننا واصلون إلى المأزق. إن كل التاريخ يصل إلى الذورة، وأنا لا أعتقد أنه بقي أمامنا 50 سنة أخرى، إنني لا أعتقد أن أطفالي سيعيشون حياتهم الكاملة».
    ولنا أن نتساءل عن مدى صحة نظرية الحرب المدمّرة أو هرمجدون؟
    إن هذه النظرية ـــــــ وكما رأينا ـــــــ يبشر بها المسيحيون الأصوليون. وهم يعتنقون فكرة «التدبيرية» ومآلها كما يخبر بذلك الدكتور (وال فورد) «أن الله ـــــــ عز وجل ـــــــ لا ينظر إلى جميع أبنائه بنظرة واحدة. بل ينظر إليهم على أنهم ينقسمون فئتين: اليهود والعامة (جنتيل). إن لله خطة أولى هي خطة أرضية من أجل اليهود، وإن لله خطة ثانية هي خطة سماوية للمسيحيين المخلصين... أما بقية شعوب الأرض من مسلمين وبوذيين وغيرهم من أصحاب الاعتقادات، والمسيحيين غير المخلصين، فالتدبيرية لا تشملهم»!!!...
    إن هذه «التدبيرية» التي يؤمن بها الغني والفقير، والشهير والصعلوك، من المسيحيين واليهود الأصوليين (الصهاينة) تؤكد أن الناس الذين يعيشون اليوم على الكرة الأرضية هم الذين سوف يشهدون نهاية العالم، وقيام الحرب النووية المدمرة... وكثير من التدبيريين يحدّدون تواريخ معيّنة لقيام هذه الحرب. فالتلفزيوني الإنجيلي (بات روبرتسون) أعلن وأكد في التاسع من حزيران 1981م، أي بعد ثلاثة أيام من الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أنه «مع نهاية عام 1982م ستكون هناك قيامة على الأرض. إن هذه القيامة ستكون في الاتحاد السوفياتي أساسًا. إنهم أولئك الذين سيخوضون المغامرات العسكرية وسوف يضربون... في الأيام الأخيرة عندما تتجمع إسرائيل من الأمم سوف تتسبب في قيام أمرٍ ما. هذا ما سوف يحدث. إني سوف أضع صنارة هنا في أفواه القوى المؤتلفة التي سيقودها شخص يدعى (هاجوج) في أرض (مأجوج) (بلاد الاتحاد السوفياتي)... إن هذا الأمر كله يأخذ الآن مكانه... إنه يمكن أن يحدث في أي وقت. ولكن مع نهاية عام 1982م لا شك في أن أمرًا كهذا سوف يحدث مما يحقق نبوءة حزقيال»...
    ولنا أن نلاحظ هنا كيف أن هذا المبشر قد حدَّد نهاية عام 1982م لتدمر الحرب النووية العالم. وها نحن في عام 1991م فهل قامت القيامة؟ وهل حصلت معركة هرمجدُّون؟ لكنّ الشيء الخطير الذي يجب التنبُّه إليه، هو دعوة هذا المبشر، وجميع التدبيريين أمثاله، إلى تجميع اليهود من العالم كلِّه في فلسطين... إنَّ هذا هو ما تعمل عليه الصهيونية، ليلَ نهار، وهي تؤاخي بذلك بين النزعة اليهودية في تجميع اليهود من جميع أمم الأرض لهدف سياسيّ وهو إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، والنزعة المسيحية البروتستانتية في تحقيق هذا التجميع لهدف دينيّ إذ إنه يؤدي إلى المجيء الثاني للسيد المسيح عليه السلام. تلك هي الغاية السياسية التي يعملون عليها في جميع الأقطار. وهم يتخذون من المعتقدات الدينية سبلًا لتضليل الناس وجعلهم يصدقون بما يحيكون لهم من المكائد والأضاليل...
    نحن المسلمين نؤمن إيمانًا مطلقًا بأن الفساد ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وأن هذا الفسادَ سوف يُقضى عليه من قبل أولياء لله تعالى مخلصين، يضع ـــــــ سبحانه ـــــــ على عاتقهم تخليص الناس من الشرور، وتطهير الأرض من الفساد... وكما يعتقد المسيحيون بظهور «مسيح مخلِّص» كذلك نحن نعتقد بأن الله تعالى سوف يظهر أو يخرج أحد أحفاد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسوف يكون إلى جانبه أخوه عيسى ابن مريم عليه السلام، ليظهر الله تعالى دينه الحقّ على جميع الأديان الأخرى، فيعم بذلك السلام في العالم ويتحقق العدل. أما متى؟ وأين؟ فلا أحد من البشر يعلم ذلك، لأنه في علم الغيب، الذي اختص به الله تعالى نفسه وحجبه عن عباده جميعًا... لذلك فإن أي تدليل على حدوث هذا التحوّل في العالم بأمور مادية، أو بأحداث تحصل، إنما هو نوع من الدجل أو الخرافة التي يجب أن يبتعد عنها العاقل المدرك، والمفكر الرصين...
    قد تبيّن الرشد من الغيّ:
    وعلى المسلم ألَّا يأخذ إلا بما ورد في كتاب الله المبين، وفي الأحاديث الصحيحة عن رسوله الكريم. وها نحن نقدّم مثالًا يوضّح كيفية التأويل للمعتقدات المسيحية واليهودية، وما يقابلها في المعتقد الإسلامي، حتى يتبيّن الرشد من الغي... هذا المثال هو «الوحش» الذي يستدل به التدبيريون على حدوث «هرمجدون». ويقابله في العقيدة الإسلامية «دابَّةُ الأرض»... تروي الكاتبة (غريس هالسل) كيف أن مرافقها السيد «كلايد» قد وقف معها على أرض المدينة التي كانت تسمى «مجيدو» (على بعد 20 ميلًا من حيفا و15 ميلًا من شاطئ البحر المتوسط) وراح يشرح لها كيف أن تلك الأرض سوف تكون ساحة المعركة الأخيرة الكبرى. ومن الأدلة، التي يسوقها على ذلك، «الوحشُ» الذي ورد ذكره في «سفر الرؤية» للقديس يوحنا. قال لها: «إن الوحش يعني أنه سيكون هناك اتحاد قويّ من عشر دول أوروبية او مجموعات من الأمم سوف تظهر في الأيام الأخيرة. الآن نحن نعرف أننا نعيش في الأيام الأخيرة لأننا رأينا قيام هذا الاتحاد من دول أوروبية قوية ـــــــ وهو ما ندعوه السوق الأوروبية المشتركة أو المجموعة الأوروبية الاقتصادية ـــــــ ومن خلال دراسة النبوءات يستطيع الواحد منا أن يرى كيف أن الله ـــــــ تعالى ـــــــ أخبرنا مسبقًا عن جميع هذه التطورات. إن كل ما نقرأه عما يحدث في العالم اليوم يشير بوضوح إلى أن هذه المعركة سوف تحدث قريبًا جدًا»... هكذا يفسّر (كلايد) تعبير «الوحش» الذي ورد في سفر الرؤيا على أنه المجموعة الاقتصادية الأوروبية أو السوق الأوروبية المشتركة، وقيامها دليل على نهاية العالم!!...
    تلك هي «نبوءات» «أسفارهم» ورؤى حكامهم ورجالاتهم... أما الدابّة التي تقابل «الوحش» عند المسلمين فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في الآية 82 من سورة النمل. قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}.
    إذن نحن نتفق مع التفكير القائل بأن خروج الدابة هو من علامات الساعة. ولكن ماذا يعني خروجها؟ إن هذا الإنسان ليقتل، ويسرق، ويظلم، ويكذب... إنه يأتي بالمعاصي، ويفعل المنكرات... ومع ذلك فإن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ لم يؤاخذ الناس على أفعالهم تلك، ولم ينزل عليهم العذاب الماحق في دار الدنيا. لقد جعل لهم موعدًا لن يُخلفوه هو يوم الحساب الذي لا مفرَّ منه... وعلى الرغم من كل ما يفعله الإنسان، فإن الله تعالى غفور رحيم، تواب على عباده، يترك لهم الفرصة في الحياة الدنيا للعودة إليه، والإيمان بما أنزله، والعمل بما يرضيه تعالى... وفي ذلك التوبةُ النصوحُ لمن يغلب فيه استعدادُ الخير على استعداد الشر، فيعود عن غيّه ويحسب حساب لقاء ربه في الآخرة.
    وعندما تقترب الساعة، فإن من علاماتها الحقة خروج الدابة من الأرض. وخروجها يكون لحكمة بالغة، هي أنه لن تقبل بعد اليوم توبةُ مشرك أو كافر. فقد انتهت الفرص التي منحها الله تعالى للناس، وحقّ القول على الآخرين، الذين لم يتوبوا من قبل، أن لا تقبلَ منهم توبة بعد ذلك، وإنما يقضى عليهم بما هم فيه. عند هذا الوقت، وعندما يقفل باب التوبة بمشيئة الله تعالى ــــــ لاقتراب الساعة ـــــــ يُخرج الله تعالى للناس الدابة تكلمهم... ولا يخفى أن الدواب لا تتكلم أو لا يفهم منها شيء. لكنهم يومئذٍ يسمعون كلام تلك الدابة، ويفهمون عنها، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة. وقد كانوا من قبل لا يؤمنون بآيات الله تعالى، ولا يصدقون باليوم الموعود... هذا هو تفسيرنا الإسلامي لظهور الدابة... أي إنها أمارة من أمارات الساعة، التي يخرجها الله تعالى من الأرض كخارقة حيّة تُنبئ بصدق آيات ربنا العظيم، وتدلنا على أن يوم القيامة آتٍ لا ريب فيه، وأن كل نفس بما كسبت رهينة.
    ونستخلص مما تقدم أن الصهيونية تعمل اليوم على نشوب حرب نووية مدمرة، تتذرع بأنها حرب قدسية، وردت في التوراة والإنجيل. وتلك هي معركة «هرمجدون»... والغريب في الأمر أن التدبيريين يعتقدون بأن السيد المسيح عليه السلام هو الذي سيكون بطل هذه الحرب، وسوف يقضي على معظم الناس!. وهذا ما يؤكده السيد (كلايد) في حواره مع مؤلفة كتاب (النبوءة والسياسة) ـــــــ الذي نستقي منه معظم معلوماتنا عن التدبيريين وعن الصهيونية ـــــــ إذ تسأله السيدة هالسل: «هل يفسر النصوص التوراتية على أن المسيح كقائد أعلى سوف يدمر القوى المتحالفة ضده باستعماله الأسلحة النووية؟» فيجيب كلايد: «نعم... وفي الواقع يمكن لنا أن نتوقع أن يوجه المسيح الضربة الأولى. سوف يكشف عن سلاح جديد. وهذا السلاح سيكون له الآثار نفسها التي تسببها القنبلة النيوترونية»... وعندما تسأله ثانية: «هل المسيح نفسه سيوجه الضربة الأولى؟» يجيب كلايد: «نعم إن المسيح سيعود إلى الأرض لإعادة إقامة حكم الله ولتحقيق السلام العالمي. وسوف يتولى زمام قيادة العالم. وسوف يقوم بذلك كله من مركز قيادته في القدس». وعندما تسأله: «وماذا عن الشعب اليهودي الذي يعيش في إسرائيل؟» يجيب كلايد: «إنَّ ثلثي اليهود الذين يعيشون هنا سوف يقتلون. وقد ورد ذلك في زكريا 89/13. هنالك نحو 13 مليون ونصف المليون يهودي في العالم اليوم، وإن الله يخبرنا أن 9 ملايين يهودي سوف يقتلون في هذه المعركة ـــــــ أي أكثر من كل اليهود الذين قتلوا على أيدي النازية ـــــــ. سوف يسيل الدم بحيث إن الله يشبهه بالخمر المعصور. وعلى مدى 200 ميل فإن الدم سوف يصل إلى ألجمة الخيل». ويضيف كلايد: «إن الله يفعل ذلك بصورة أساسية من أجل شعبه القديم اليهود... لقد حدّد فترة السنواتِ السبعِ هذه ليطهِّر اليهود وليحملهم على رؤية النور والاعتراف بالمسيح كمخلّصهم».
    وتعلق الكاتبة قائلة: «إنني أعترف أن تفسيره هذا يربكني. هل اختار الله اليهود من بين كل شعوب العالم ليكونوا أصفياءه، فقط من أجل أن يبيد معظمهم؟».
    أهداف الصهيونية:
    وهكذا يمكن لنا أن نتبيّن أن كل الطاقات والقوى التي تحشدها الصهيونية العالمية إنما ترمي إلى تحقيق هدفين استراتيجيين: الأول: جمع اليهود في فلسطين لإقامة إسرائيل الكبرى. والثاني: إعادة بناء هيكل سليمان.
    الهدف الأول: جمع اليهود في فلسطين.
    تقول «هالسل» في كتابها «السياسة والنبوءة»: «إن أكثر من 40 مليون أصولي إنجيلي يؤمنون بأن الله ـــــــ تعالى ـــــــ يفضل اليهود على الغرب، وبأن اليهود هم شعب الله المختار». وتنقل عن أحدهم قوله: «عندما خلق الله ـــــــ تعالى ـــــــ الكون أعطى بركته لليهود... من أجل ذلك فإن اليهود هم أفضل من جميع الناس، وقد أراد منذ أول الأمر أن يحصلوا على ملكية الأرض المقدسة. ولقد حسم الله ـــــــ تعالى ـــــــ هذا الأمر ومنح تلك الأرض لليهود».
    ونحن المسلمين لا يمكننا تقبُّل تلك المعتقدات لأن قرآننا يبطل ادعاء اليهود بأنهم «شعب الله المختار» وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (سورة المائدة: الآية 18).
    القرآن الكريم يدحض هذه الادعاءات الباطلة. وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والإنجيليون الأصوليون ماضون في معتقدهم بأن الله تعالى منح اليهود وذرياتهم الأرض من النيل إلى الفرات... ومن هذا المنطلق فلا فرق بنظر الصهاينة جميعًا ـــــــ مسيحيين ويهودًا ـــــــ بين يهودي وآخر. فهم جميعًا من ذرية واحدة، ويجب أن يعودوا إلى فلسطين. يستوي في ذلك مثلًا مناحيم بيغن، ذو الأصل البولندي، الذي وصَلَ إلى منصب رئيس الوزراء في دولة إسرائيل، مع أي يهودي من الفلاشا في الحبشة، او مع أي يهودي كان يعيش على أرض فلسطين... من هنا ندرك أهمية قانون الهجرة الذي سنته دولة إسرائيل، والذي يمنح جنسيتها لأي يهودي (من أم يهودية) أو لمن تحوّل إلى اليهودية، ويفتح أمامه الباب على مصراعيه لكي يأتي ويستوطن في إسرائيل.


    المسيحيون الصهاينة في خدمة الوطن القومي اليهودي
    وإذا كانت لليهود مطامع نابعة من حلمهم التاريخي، فما بال هؤلاء المسيحيين الإنجيليين الذين يبذلون كل جهد لأجل تجميع اليهود في فلسطين على الرغم من العداوة والبغضاء التي تنطوي عليها نفوس النصارى واليهود تجاه بعضهم بعضًا... بل ومن الغريب حقًّا أن يكون البروتستانت الإنجيليون هم الذين ابتدعوا حركة تشجيع اليهود للانتقال إلى فلسطين وذلك قبل ثلاثة قرون من المؤتمر اليهودي الصهيوني الأول. وتعطي السيدة «هالسل» الأدلة على ذلك بالقول: «إنه في منتصف عام 1600م بدأ البروتستانت كتابة معاهدات تعلن بأن على جميع اليهود مغادرة أوروبا إلى فلسطين. فقد أعلن (أوليفر كرمويل) بصفته راعيًا للكومنولث البريطاني: أنَّ الوجود اليهودي في فلسطين هو الذي يمهّد للمجيء الثاني للمسيح. وفي عام 1655م أعلن البروتستانتي الألماني (بول فلجن هوفر): أن اليهود سوف يعترفون بالمسيح على أنه مسيحهم بمناسبة مجيئه الثاني. وفي عام 1839م حثَّ (اللورد أنطوني أشلي كوبر) جميع اليهود على الهجرة إلى فلسطين لأنهم يؤدون دورًا رئيسيًّا في الخطة الإلهية حول المجيء الثاني للسيد المسيح. وقد قال ببساطة ـــــــ تضيف الكاتبة ـــــــ: إن أرض فلسطين هي في متناول اليد، مستعملًا هذا النص: إنَّ أرض فلسطين بلاد من دون أُمَّةٍ لأمة من دون بلاد. وهو النص الذي رفعه اليهود الصهاينة شعارًا لهم وهم يرددون: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»... من أجل ذلك راح اللورد الإنكليزي يمارس تأثيره على عمه اللورد بالمرستون، وزير الخارجية آنذاك، لفتح قنصلية بريطانية في القدس. وبالفعل فقد أعلن وزير الخارجية البريطاني عام 1839م أن عليه، بصورة خاصة، أن يحمي اليهود الذين يعيشون في فلسطين، وقد كانت في ذلك الوقت جزءًا من الامبراطورية العثمانية... وفي عام 1841م كتب هنري تشرشل ـــــــ ضابط الأركان البريطانية في الشرق الأوسط ـــــــ إلى «موسى مونتغيور»، وكان رئيس مجلس الممثلين اليهود في لندن، قائلًا: لا أستطيع أن أخفي عليك رغبتي الجامحة في أن أرى شعبك يحقق مرة أخرى وجوده كشعب... وفي عام 1845م اقترح «إدوارد بتفورد»، من مكتب المستعمرات في لندن، إقامة دولة يهودية في فلسطين تكون بحماية بريطانيا العظمة على أن ترفع عنها الوصاية لمجرد أن يصبح اليهود قادرين على الاعتناء بأنفسهم...
    وهكذا تستنتج السيدة «هالسل» أنه لمدة مئة وخمسين سنة كان المسيحيون ـــــــ في بريطانيا بالدرجة الأولى، وفي مناطق أخرى من أوروبا، ثم بعد ذلك وبدرجة كبيرة في أميركا ـــــــ المدافعين الوحيدين عن الصهيونية. وقد عمل البروتستانتيون بكل قواهم على حث اليهود على التوجه إلى فلسطين والعيش منفصلين عن العامة (جنتيل)... إن عبارة المسيحيين الصهاينة أو الجنتيل الصهاينة قد تعني صهيونية ذات دوافع توراتية أو لاهوتية. لكن الكاتبة «رجينا شريف» ترى غير ذلك في كتابها «الصهيونية غير اليهودية» عندما تقول: بالإضافة إلى عامل النفوس فإن للمسيحيين الصهاينة أسبابًا سياسية... وإن هذه الأسباب كانت منذ البداية أكثر أهمية من الاعتقادات الدينية»...
    وتؤكد السيدة «هالسل» على أنَّ اليهود الصهاينة اليوم ينسبون الفضل إلى المسيحية الصهيونية في مساعدتهم على تحقيق هدفهم في إيجاد دولة يهودية. وهي تستشهد على ذلك بخطاب السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة «بنجامين ناتنممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.php» الذي ألقاه في 6 شباط 1985م، أمام المسيحيين الصهاينة، وقد قال فيه: «لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل. وهذا الحلم الذي كان يراودنا منذ ألفي سنة تفجَّر من خلال المسيحيين الصهيونيين... إن كتابات هؤلاء من الإنكليز والأميركان أثَّرت بصورة مباشرة في تفكير قادةٍ تاريخيين أمثال لويد جورج، وأرثر بلفور، وودر ويلسون في مطلع هذا القرن. إنَّ الكتاب المقدس ذكر هؤلاء الرجال. إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال الذين أدوا دورًا رئيسيًّا في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية». وتعلق الكاتبة على ذلك قائلةً: «وهكذا فإن تأثير المسيحيين الصهاينة في الساسة الغربيين هو الذي ساعد اليهودية الصهيونية الحديثة على تحقيق هدفها في إعادة ولادة إسرائيل»...
    وكما حث المسيحيون الصهاينة الأوائل اليهود على التوجه إلى فلسطين فإن المسيحيين الصهاينة اليوم أمثال «جيري فالويل» يحثون اليهود على الذهاب إلى ما يتعدى فلسطين، وأن يطالبوا بكل الأراضي العربية التي تمتد من نهر الفرات في الشرق حتى النيل في الغرب. فقد صرَّح «فالويل» في 6 شباط 1973م إلى صحيفة «كوريو تايمز ـــــــ تلغرام» في تكساس: «أنه يفضل أن يصادر الإسرائيليون أجزاء من العراق، وسوريا، وتركيا، والعربية السعودية، ومصر، والسودان، وكل لبنان والأردن والكويت... ثم أضاف: لقد بارك الله أميركا لأننا تعاونّا مع الله في حماية إسرائيل التي هي عزيزة عليه».
    وترى الكاتبة أن كل المسيحيين الذين يؤمنون بحق اليهود في فلسطين يعتقدون بأن على اليهود «امتلاك كل الأرض التي وعدهم الله بها قبل أن يتمكن المسيح من العودة». وهم يروِّجون لأجل ذلك بعبارة «الفداء» التي تعني (كما هي مستعملة اليوم في إسرائيل) امتلاك أراضي العامة ـــــــ جنتيل ـــــــ في إسرائيل الكبرى سواء من خلال الشراء الشرعي، أو الشراء القسري، أو المصادرة. كما يعتقد كثير منهم بأن هنالك نصوصًا توراتية تنقل عن الله ـــــــ عزّ وجلّ ـــــــ «اختياره أقصى العنف كسياسة إلهية»... ومن قبيل تلك النصوص المقطع (110) الذي يتحدث عن «يهوه وهو يسحق الرؤوس ويملأ الأرض بجثث غير المؤمنين». والمقطع (137) الذي «يعرب عن الرغبة في الانتقام بالقبض على الأطفال البابليين وإلقائهم فوق الصخور»... «هكذا ـــــــ يقول أحدهم ـــــــ يجب على الإسرائيليين أن يعاملوا العرب»... فهل نستغرب بَعْدُ قيامَ اليهود بالمذابح، مثل مذبحة دير ياسين عام 1948م، أو قصف مدرسة للأطفال في الإسماعيلية، أو الإشراف على مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م، أو مذبحة المسجد الأقصى في القدس في شهر تشرين الأول 1990م؟!.
    تلك هي بعض النماذج عن تفكير الصهيونية المسيحية واليهودية في كيفية تعامل اليهود مع العرب، وضرورة احتلال أراضيهم بالقوة والعنف لتحقيق إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.
    الهدف الثاني: إعادة بناء هيكل سليمان.
    لم يعد خافيًا، ووسائل الإعلام تردد بين الحين والآخر، أن هنالك إرهابيين في دولة إسرائيل يقومون بمحاولات حثيثة لتقويض المسجد الأقصى وهدمه، وذلك ضمن سياسة يهودية مدروسة غايتها هدم الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس لإعادة بناء الهيكل اليهودي، أو هيكل سليمان عليه السلام كما يزعمون.
    واليهود ينظرون إلى هذا الأمر من زاوية تحقيق حلمهم التاريخي في إعادة بناء مسجد سليمان عليه السلام، في حين أن الصهيونية المسيحية تنظر إلى هذا الأمر من زاوية دينيّة. ففي اعتقادها أن هدم المسجد الأقصى سوف يثير حفيظة الأمة الإسلامية، ويدفعها لشن حرب مقدسة ضد إسرائيل، فتثور ثائرة العالم بأجمعه، ويحدث الزلزال النووي المدمِّر، مما يؤدي إلى تدخل المسيح عليه السلام!...
    هذا ما يتوهمه المسيحيون المتطرفون من الإنجيليين، وهم يدفعون اليهود للقيام به، وذلك بتقديمهم للإرهابيين في إسرائيل كل دعم مادي ومعنوي... وهذا ما يدعو إليه «هول لندسي» في كتابه «آخر أعظم كرة أرضية» إذ يقول: «لم يبق سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تمامًا أمام دور إسرائيل في المشهد العظيم من مأساتها التاريخية، وهو إعادة بناء الهيكل القديم في موقعه القديم. ولا يوجد سوى مكان واحد يمكن بناء الهيكل عليه استنادًا إلى قانون موسى في جبل موريا حيث شيد الهيكلان القديمان»...
    يقال إن أحد الهيكلين اللذين يتحدث عنهما «لندسي» قد تم بناؤه في القدس عام 950ق.م. وقد دمر هذا الهيكل على أيدي البابليين عام 587ق.م. والآخر شيد عام 515ق.م. ودمّر على أيدي الرومان في عام 70ب.م. ولكن من الثابت أن جميع الدراسات التي أجريت لتحديد مكان هذين الهيكلين، والتي قام بها علماء الآثار في أثناء التنقيب عنهما، لم تتوصل إلى تعيين هذا المكان. وعلى الرغم من ذلك فإن النظرية اليهودية، ومن يساندها، ترى أنهما كانا مشيدين في المكان الذي يوجد فيه الآن المسجد الأقصى في القدس. فالغاية إذن هي هدم هذا التراث الديني الإسلامي الذي يمثل ما يمثل من القدسية بالنسبة إلى المسلمين. فهو ثاني الحرمين الشريفين بعد مكة المكرمة، وهو المكان الذي يربط بين الإسراء والمعراج: المعجزة التي يؤكدها القرآن الكريم والتي لها دلالاتها العظيمة في حياة الناس...
    وفي اعتقادنا أن عملية إعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى ليست في حقيقتها إلّا هدم ما يمثله هذا المسجد من معتقدات سماوية جاء بها خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فهل يستفيق المسلمون من غفلتهم ويدركون ما تخطط له الصهيونية لهدم المسجد الأقصى؟ ولم لا يكون ذلك حافزًا لهم على تدارك الأمر قبل وقوعه حتى لا يكون كل واحد منهم مسؤولًا عند ربه؟!. إنه نداء تحذيري نوجهه إلى المسلمين كافة، وفي كل أقطار الأرض: هلموا أيها المسلمون، إن دياركم المقدسة في فلسطين باتت على وشك الزوال، فأعدوا العدة للدفاع عن فلسطين ومقدّساتها... أعدّوا ما استطعتم من قوةٍ لصون هذه الديار، وإلّا فإن ذهابها إلى عدوِّكم واقع لا محالة... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!!


    لا حقَّ لليهود في فلسطين:
    ونحن، عندما نوجه هذا النداء، إنما نعتمد على قرآننا المجيد الذي تدحض آياته الكريمة كل ادعاءات اليهود والمتطرفين الإنجيليين. إذ لا حقَّ لليهود في أرض فلسطين من دون شعبها الإسلامي، لأن معتقدهم في الإرث التاريخي معتقد باطل، وهو مجرَّدُ وَهْمٍ اختلقوه لأغراضٍ دنيوية. وقد ظهرت أغراضهم في احتلال أراضٍ عربية، بعد أن هيأوا لذلك منذ القرن السادس عشر الميلادي حتى أمكنهم إقامة وطنهم القومي اليهودي في فلسطين عام 1948م. ثم قاموا بعد سنوات، أي عام 1967م باحتلال أجزاء من أراضي مصر وسوريا والأردن. وفي عام 1982م قام اليهود وأمام سمع العالم وبصره بغزو لبنان واحتلال أول عاصمة عربية ـــــــ بيروت ـــــــ ثم انكفأوا بعد بضع سنوات إلى الجنوب حيث أقاموا ما يسمى «بالشريط الحدودي»، وهو في الحقيقة احتلال إسرائيلي لأجزاء من أرض لبنان، وبمعاونة عملاء لليهود يقدمون لهم الطاعة والولاء على حساب مصلحتهم الوطنية، وكرامتهم الشخصية...
    وقد قام اليهود بذلك كله، وهم يرددون على مسامع العالم بأنهم قوم ضعاف، وبأن العرب يريدون القضاء عليهم ورميهم في البحر!... حتى إذا افتضحت حقيقة هذه الأكذوبة التي استفادوا منها ردحًا من الزمن، كشَّر اليهود عن أنيابهم وأعلنوا رفضهم للمؤتمر الدولي الذي يمكن، بنظرهم، أن ينهي مشكلة الشرق الأوسط، ويضع حدًّا للصراع العربي ـــــــ الإسرائيلي، الذي تريد «إسرائيل» استمراره حتى تحقق مطامعها جميعها...
    وإلى الذين ما زالوا يشككون في نوايا اليهود، ويؤمنون بالحلول السلميّة معهم، نقول: ليعتبروا من أفعالهم، أو لِيفكروا في أقوالهم فيرَوا الحقيقة كما هي. وآخر هذه الأقوال ما ورد على لسان رئيس حكومتهم إسحق شامير بتاريخ 20/11/1990م. لقد قال بالحرف الواحد: إن على إسرائيل الاحتفاظ بالضفّة الغربية وقطاع غزة للمهاجرين اليهود الذين يحقّ لهم الإقامةُ في بلاد إسرائيل من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، ولو أدّى ذلك إلى إثارة استياء المجتمع الدولي برمّته.
    وقد استعمل اليهود، عبر تاريخهم الطويل، أساليب متنوعة من الخداع، والدهاء، والخبث. كما برز ذكاؤهم باستخدامهم لمعظم العالم المسيحي، وذلك بما أدخلوا على التوراة وعلى الأناجيل من نبوءات كانت من صنع أيديهم، افتروها افتراءً ليؤثروا في العقل المسيحي ويغلّفوه بالضلال والبهتان، فيسير وراءهم العالم المسيحي مقدمًا لهم كل ما يرغبون فيه من دعم مادي ومعنوي... لذلك نجد اليهود اعتمدوا منذ البداية على الإنكليز، ثم بعد أن ظهرت أميركا كقوة عظمى، ولا سيما بعد الحربين العالميتين في هذا القرن، ارتموا في أحضانها، لكي يستمدوا منها العون والمدد... لكن الكثيرين من ساستهم ما زالوا يأتمرون بأوامر الإنكليز. وهذا ما يبرزه «إسرائيل شاهاك»، وهو أستاذ في الجامعة العبرية في فلسطين، ويُعدّ نفسه ناقدًا لسياسة «إسرائيل» التوسعية، عندما يقول: «إن طبيعة الصهيونية هي البحث الدائم عن حام ومعيل. في البداية توجه الصهيونيون السياسيون (اليهود) إلى إنكلترا التي قدمت لهم ذلك. الآن يتوجه الصهيونيون إلى الولايات المتحدة الأميركية، ويعتمدون كليًّا عليها، ماديًّا ومعنويًّا. ولقد أقاموا هذا الحلف مع اليمين المسيحي الجديد الذي يبرر أي عمل عسكري أو إجرامي تقوم به إسرائيل.
    وأدرك قليل من الإسرائيليين والأميركيين أن التدفُّق غير المحدود لبلايين الدولارات الأميركية سوف يؤذي إسرائيل بحيث يعطِّل قدراتها ويُخَفِّفُ من طموحاتها. في حين يرى تحالف اليمين اليهودي مع اليمين المسيحي أن على الأميركيين أن يواصلوا إرسال المزيد من المساعدات إلى دولة إسرائيل».


    الدعم الأميركي لدولة الصهاينة:
    لقد وضعت الدولة العبرية نُصبَ عينيها ثلاثة أهداف تريد تحقيقها من الولايات المتحدة الأميركية وهي: الدعم المالي، جعل الكونغرس الأميركي مجرد «خاتم ـــــــ مطاطي» للموافقة على أهدافها السياسية، الدعم العسكري.
    وفي الحقيقة: إن الصهيونية بجناحيها اليهودي والمسيحي تعمل للحصول على مختلف أنواع الدعم لدولة «إسرائيل» ومن مختلف دول العالم، لكنها تجعل من الولايات المتحدة الأميركية ركيزتها الأساسية لهذا الغرض. ونأخذ عيّنات من كتاب «النبوءة والسياسة» للتدليل على الدعم الأميركي للدولة العبرية. فمن الناحية المالية تقدم الولايات المتحدة نحو ثمانية آلاف دولار لكل عائلة من خمسة أشخاص. بحيث تقدر المساعدات المالية بنحو أربعة عشر مليون دولار يوميًّا وعلى مدى 365 يومًا في السنة.
    أما من حيث دعم الكونغرس الأميركي لسياسة الدولة العبرية فيعبّر عنه عضو جمهوري سابق في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس وهو السيد «بول فندلي» إذ يقول: «لا توجد فرصة أمام الشعب الأميركي ليصوت على موضوع إرسال ملايين الدولارات كمساعدات خارجية. وفيما يتعلق بصفقات المساعدة «لإسرائيل» فإن الكونغرس يصوت من دون استثناء وبأكثرية ساحقة على إرسال الكميات من الأموال التي تحتاجها إسرائيل... إن اللوبي اليهودي هو الذي يُعِدُّ بطاقته، وهو يحصل على كل الطلبات المالية التي يتقدم بها، فهو يطلب ما يريد والكونغرس يصوت على إعطائه»...
    وأما الدعم العسكري فإن التحالف اليهودي المسيحي يعمل على بناء قوة غير محدودة قوامها الأسلحة النووية وغيرها من الأسلحة الاستراتيجية، وتتركّز في كل من دولتي أميركا وإسرائيل... تقول مجلة «المجلس العالمي الكنائسي» الذي يمثل نحو عشرة ملايين مسيحي في الشرق الأوسط، في عددها الصادر في نيسان ـــــــ أيار 1984: «إن خمسين في المئة من كل الأسلحة المنتجة في العالم تذهب إلى الشرق الأوسطـ، وقد أُغرقت إسرائيل بالمال والأسلحة حتى صارت دولةُ الثلاثة ملايين يهودي ماردًا عسكريًّا تضاهي كلًّا من ألمانيا، أو إنكلترا، أو فرنسا منفردة، وتتحدى إحدى وعشرين دولة عربية مجتمعة بسكانها البالغ عددهم مئة وخمسين مليونًا».
    ويقول مؤلف كتاب «الانحياز» السيد «ستيفن غرين»: «في عام 1956م حصل موالون لدولة إسرائيل على 752 باوندًا من الأورانيوم. وهي كمية كافية لصنع 38 قنبلة ذرية من حجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما». وفي تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية كشف عنه في عام 1986م: «أن تل أبيب قادرة على إنتاج أسلحة نووية من دون دعاية... وهي تملك ما بين 12 إلى 20 قنبلة نووية»...
    أما الدعم المعنوي فحدّث عنه ولا حرج إذ يكفي القول بأنه أنشئ في الولايات المتحدة نحو مئتين وخمسين منظمة إنجيلية موالية للدولة اليهودية في فلسطين... ويملك أعضاء من هذه المنظمات أكبر محطات تلفزيونية تبشيرية في أميركا، وجميعها توجّه العقول للاقتناع بنبوءات لاهوتية تصبّ في مصلحة اليهود ودعم كيانهم. وهكذا يتبين لنا كيف أن العالم المسيحي ـــــــ وخصوصًا المسيحيين المتطرفين فيه ـــــــ يقدم للدولة العبرية في فلسطين كل أشكال الدعم، الذي لولاه لما كان لليهود هذه القدرة على احتلال الأراضي العربية، والعبث بالأراضي المقدسة الإسلامية على هواهم. وهو الدعم الذي لا يهدّدون به العرب والمسلمين فحسب، بل النصارى أنفسهم، ولا سيما الأميركيين منهم. ففي كتاب (المثلث القدري: الولايات المتحدة، إسرائيل والفلسطينيون) يقول الأستاذ في معهد ماساتشوتستس للتكنولوجيا «نعوم كومسكي»: «إنَّ سلاح إسرائيل السرّي ضد الولايات المتحدة بصورة خاصة، وضد الغرب بصورة عامة، هو أنها يمكن أن تتصرف (كدولة متوحشة) خطيرة على جيرانها، غير طبيعية، قادرة على إحراق النفط، بل قادرة على البدء بحرب نووية».
    إسرائيل وحركة التاريخ:
    وبعد هذا كله هل يمكن القول: إن ما وصلت إليه الدولة اليهودية في فلسطين هو تعبير عن إحدى سنن الله تعالى التي تعتمد عليها حركة التاريخ بإذن ربها، كي يتحقق حلم اليهود باستيلائهم على أراضٍ عربية، ومن ثمَّ هل يتّبعون السّبلَ القويمة التي تجعلهم يستأهلون أن يورثهم بها الله تعالى هذه الأراضي؟.
    لا بد، قبل الإجابة عن هذا التساؤل، من إبراز بعض جوانب حياة اليهود وما حفلت به من تصرفات معادية للأنبياء والرسل، وما تضمره نفوسهم من الشر حتى باؤوا بغضب من الله تعالى، وضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم الدين.
    يورد القرآن الكريم، وفي كثير من سورة المباركة النصوص التي تحفل بما أنعم الله تعالى على «بني إسرائيل» وبما أمدَّهم به من عون.كما تتضمن تلك النصوص التوجيهات الربانية لهم، ودعوتهم للوفاء بعهودهم لربهم، وخشيته، وحمده على نعمه التي لا تحصى. يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (سورة البقرة: الآية 40).
    ومن تلك النعم التي أفاضها تعالى على بني إسرائيل، وعلى مدار عهود من الزمان: تخليصهم من طغيان فرعون وظلمه، وتظليل الغمام فوقهم، وإنزال المن والسلوى عليهم من السماء، وتفجير الماء من الصخر حتى يشربوا... إلى كثيرٍ من فضائل الله تعالى ونعمه، التي تستدعي الامتنان والشكر والحمد بصورة دائمة...
    ولكن كيف قابل اليهود نعمَ ربِّهم هذه؟ إنهم لم يراعوا عهدًا لله تعالى، ولم يلامس قلوبهم الإيمان الصادق، فكلما كان الله تعالى يردهم عن الانحرافات المتوالية التي يقعون فيها كانوا يعودون إليها. وكلما كان يعفو ـــــــ جل جلاله ـــــــ عن معصيةٍ ارتكبوها كانوا يقعون في خطيئة جديدة، وكلما كان ينجيهم ـــــــ سبحانه ـــــــ من عثرة كانوا يقعون في حفرة... ونفوسهم تظلّ هي هي في التوائها وعنادها، بل في إصرارها على الالتواء والعناد... وفي نأيها عن حمل التكاليف، ونكولها عن الأمانة، ونكثها للعهود، ونقضها للمواثيق مع ربها ومع أنبيائها، حتى لتبلغ الحال باليهود أن يقتلوا أنبياءهم بغير الحقّ، ويكفروا بآيات خالقهم، ويعبدوا العجل، ويجدِّفوا في حقِّ الله تعالى، ويرفضوا الانقياد لنبيهم موسى عليه السلام إذ يطلبون منه أن يروا الله ـــــــ تعالى ـــــــ جهرةً... ثم يخالفون ما أوصاهم به ربهم وهم يدخلون القرية، فيقولون غير ما أُمروا به، ويعتدون في السبت، وينسَوْن ميثاق الطور، ويجادلون في ذبح البقرة الذي أمر الله تعالى به لكشف القاتل وإظهار قدرة الله تعالى على الإحياء والبعث... وبعد أجيال طويلة يبعث الله تعالى لهم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ليبعدهم عن الضلال والفساد. ويأتي الله تعالى على يديه بالمعجزات والخوارق الحسيّة، فيحيي الموتى، ويشفي الأبرص والأكمه (من الأمراض المستعصية) بإذن الله... ومع ذلك لم يؤمنوا به، بل سعوا إلى قتله لولا أن عصمه ربُّه تعالى منهم، ورفعه إلى السماء من دون أن يمسُّوه بأذى... من أجل ذلك بيّن الله تعالى في القرآن الكريم أوصافهم حيث ينعتهم بالمفسدين، المحرِّفين لكلام الله تعالى، والناقضين لعهودهم، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (سورة البقرة: الآية 87).
    أما استكبارهم على الأنبياء والرسل، فدعواهم أن قلوبهم مغطاة بأغشية، وعقولهم مطموس عليها فهم لا يفقهون ما يقولون لهم أو ما يدعونهم إليه. لكن عاقبة ذلك كانت لعنة من الله تعالى عليهم، لأنهم بكفرهم يعمهون، وقليل منهم هم المؤمنون، كما يقول الباري عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (سورة البقرة: الآية 88).
    اليهود والرسالة الإسلامية:
    وها هي الأزمان تتطاول، ويبعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتمًا للنبيين، فلا يتّبعه اليهود، بل على العكس يشنون عليه حربًا شعواء في الدسّ والمكيدة والنفاق، ويحاولون قتلَهُ... ثم يتمادون في الكيد له فيهزأون بما أنزله ربُّه عليه. إذ لما نزلت الآية الكريمة: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (سورة البقرة: الآية 245). قال اليهود ساخرين: إن الله فقير يستقرض منا، ونحن أغنياء. فنزل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ} (سورة آل عمران: الآية 181)، أي إنه ذو حاجة يريد أن يستقرض منا... إنه عنت اليهود، فللّه ملك السماوات والأرض، وهو الغني العزيز. وهل كانت آياته الكريمة إلّا تلطفًا منه ـــــــ سبحانه ـــــــ في الدعوة إلى الإنفاق، حتى ينفق الناس مما رزقهم ربهم الغني الحميد، بوجوه البر والتقوى، وبما ينفع الناس، فلا يبقى بينهم فقراء، يعيشون عالة على الغير... وبالإضافة إلى ما في ذلك من منفعة للعباد، فإن أي إنفاق من هذا القبيل هو عند الله تعالى بمنزلة قرض له. وللمقرض الأجر والثواب على عمله. فحمدًا للخالق العظيم، والمدبّر الحكيم، ذي الرحمة الواسعة، والعطاء الجزيل!...
    إلَّا إن ذلك التعنّت اليهودي لم ينفع أصحابه بشيء، فقد أتاهم الوعيد الحقّ بقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (سورة آل عمران: الآيتان 181 ـــــــ 182). هذا هو الجزاء الذي يستحقونه على كفرهم. إنه تعالى سوف يكتب كلَّ تلك السيئات والذنوب التي يرتكبونها في صحائف أعمالهم وأقوالهم، وسوف تكون عاقبتهم عذابًا محرقًا في النار الملتهبة (لأن ما لم يلتهب لا يسمى حريقًا). وهم قد استحقوا هذا العقاب نتيجة أفعالهم، لأنه لو وقع عليهم من غير جرم سابق لكان ظلمًا، والله تعالى يتنزّه عن الظلم، {وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (سورة آل عمران: الآية 182)...
    إن هذا التعبير القرآني: «للعبيد» إنما هو إبراز لحقيقة وضع اليهود، فهم عبيد الله تعالى، وهذا ما يزيد في شناعة جرمهم عندما يجدّفون على ربهم جلَّ وعلا. وفي تجديفهم هذا سوء أدبٍ تجاه سيدهم وخالقهم ورازقهم. فكيف تجيز نفوس مخلوقة مرزوقة من خالق رازق أن تقول: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} (سورة آل عمران: الآية 181).
    ومن المساوئ التي ارتكبوها أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ادّعوه بقولهم: {إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} (سورة آل عمران: الآية 183)... هذا ما ادَّعوه وطالبوا به الرسول الكريم. لكن الردّ جاءهم من العزيز الجبار: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (سورة آل عمران: الآيتان 183 ـــــــ 184)...
    نعم لقد حملت لهم التوراة، دعوة الهداية وحملها لهم الإنجيل، كما حملها لهم القرآن الكريم... لكنهم كانوا يكذبون الرسل ولا يصدقون الآيات والبراهين التي يأتون بها. لذلك فإن القرآن المبين عندما يطلق على «الكتاب» «صفة المنير» فلكي يؤكد أن ما ورد في التوراة أو في الإنجيل كان حقًّا منيرًا ساطعًا، وهو ينير طريق الحقّ لمن يشتبه عليه، مثلما أنه يهدي إلى الحقّ... ومع ذلك فقد كذَّب اليهود تلك البيّنات ولم يؤمنوا بها...
    إنَّ نفوس اليهود لم تتغير على مرّ الأزمان، وظلوا على استكبارهم وكفرهم وضلالهم. إنهم يدّعون أنهم وحدهم أحباء الله تعالى، وأنهم ضامنون على الله تعالى الجنَة، فلا يعذبهم في النار إلَّا أيامًا قليلة. ويدحض القرآن الكريم ذلك الوهم بقوله عزّ وجلّ: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 80). وبقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (سورة البقرة: الآية 94 ـــــــ 95).
    بمثل هذا الوضوح يأمر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أن يفنّد لليهود ادعاءاتهم... تقولون أيها اليهود بأن النار لن تمسَّكم إلَّا أيامًا معدودة، فكيف ذلك؟ هل اتخذتم بذلك عهدًا عند الله حتى لا يخلف الله تعالى عهده؟! إنه محض افتراء. أنتم تقولون ذلك زورًا وبهتانًا ولا تعلمون الآثار التي تترتب على هذا القول... ثم إن كنتم حقًّا أحباء الله وحدكم من دون سائر الناس، وأن الجنة خالصة لكم، فَلِمَ لا تتمنون الموت حتى تذهبوا إلى الجنة... إن من يعتقد أن شيئًا مهمًّا ينتظره مثل الجنة، فإنه يسعى إليه. ودار الحياة الدنيا مهما طالت ليست بدار بقاء، والسبيل الموصل إلى الجنة هو الموت، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في ادعائكم... لكن الحكمة الإلهية تبرهن لنا أنهم لا يتمنون الموت أبدًا لأنهم أعلم بما يرتكبون من المفاسد والآثام، التي مصير أصحابها إلى النار لا إلى الجنة.
    وفي أي حال فإن الله تعالى عليم بالظالمين. واليهود هم أشد الناس ظلمًا لأنفسهم بما كسبت أيديهم وفقًا للعدل الإلهي حيث إن كل نفس بما كسبت رهينة: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره...
    بعد أن كشفنا ما كان عليه اليهود في ماضيهم وما هم عليه في حاضرهم من مساوئ، وبيّنا ما تنطوي عليه نفوسهم من غلٍّ وحقد وأوهام، لا بد من العودة إلى طرح القضية الكبرى التي تواجهنا نحن المسلمين اليوم. وهي هذه الدولة اليهودية التي أقيمت على أجزاء من أراضينا، وتهديدها الدائم لنا بوجودنا أو بالعيش الآمن في حياتنا. هنا قد يطالعنا هذا السؤال: هل تخلّى اليهود عن الفساد والظلم حتى يورثهم الله تعالى أرضنا، وهو سبحانه المالك الحقيقي المطلق، يورث الأرض من يشاء من عباده المتقين؟

  6. #6

    افتراضي

    الفصْل الخَامِسْ: الوِرَاثَة وَحَركة التَاريْخ
    الوراثة والإرث:
    الوراثة أو الإرث في اللغة هو انتقال قُنْيَةٍ من شخص إلى آخر من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث. وهذا ما تنطبق عليه أيضًا مضامين القوانين الوضعية حول الإرث والمواريث، بحيث ينتقل الميراث إلى الورثة الشرعيين أو المستحقين له وفقًا لكل نظام قانوني، تطبِّقه هذه الدولة أو تلك.
    أما المسلمون فإنهم يطبقون أحكام القرآن الكريم في الإرث، مع بعض الاختلافات في تفسير المجتهدين حول كيفية توزيع الأنصبة على الورثة الشرعيين.
    وعملًا بالنصوص القرآنية فإن الله تعالى هو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممَّن يشاء. وبذلك فإن ما في الكون كله، والوجود كله، هو ملك لله تعالى. لقد فطر سبحانه السماوات والأرض، وأوجد خلائق فيها، وكلها تتصرف وتنشئ، وتحيا وتزول، وفقًا لمشيئة الله تعالى المطلقة.
    والناس على هذه الأرض هم بعض خلائق ربهم، يسرحون ويعملون في ملك الله الواسع بما يخدم وجودهم الأرضي، وبما يُعينهم على وجودهم الأُخروي. لذلك يجب ألَّا يستقرّ في أذهان الناس أنهم هم المالكون الحقيقيون لأي متاع أو مال أو حقّ، أو أن لهم حقوقَ ملكيةٍ دائمة هنا أو هناك. إن هي إلّا ملكية آنية، مؤقتة، ولكن بوكالة من المالك الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى...
    الإنسان وكيل على ما يحوزه، والملك لله وحده
    صحيح أن الناس يعملون، ويشْقون في سعيهم، لكي يمتلكوا الدور والمباني والمنشآت والأراضي، ومن ثمَّ يورثونها لمن يأتي بعدهم، من جيل إلى جيل، وفقًا لمقاييسهم الأرضية. إلَّا إن ذلك كله يبقى سببًا لاستمرار الحياة البشرية وفقًا لسنن الله تعالى، وسعي هذه البشرية لملاءمة أوضاعها وتحسين طرائق عيشها وحياتها... فالأرض إذن، بمن عليها، هي ملك لله تعالى، وهو ـــــــ سبحانه ـــــــ يورثها من يشاء من عباده، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الأعراف: الآية 128).
    ما من إنسان، بعد هذا النص القرآني، يستطيع أن يدّعي ملكيته لأرضٍ أو بناءٍ أو أي شيء آخر على هذه الكرة الأرضية لأنها كلّها لله تعالى. والإنسان هو وكيل، أي مستخلف، على ما يعتقد أنه ملك له، والمالك المتصرّف هو الله تعالى. والمالك هو الذي يورث ملكيته لمن يشاء، لذلك فإن الله تعالى يورث الأرض من يشاء من عباده وفق حكمته السَّنية، وسننه في خلائقه... وإذا ما وُجد في الأرض طغاة، جبارون، يتوهمون أن لهم المكنة في الأرض، وأنهم غير مزحزحين عنها، فصاحب الأرض ومالكها ـــــــ جلّ وعلا ـــــــ هو الذي يقرر متى يطردهم منها ويستخلف فيها قومًا آخرين!...
    وراثة الأرض تجري وفقًا لسنّة الله تعالى:
    وتبقى «العاقبة للمتقين»... مهما طال الزمن أم قصر، فلا يخالجنّ قلوبَ هؤلاء المتقين قلقٌ على المصير، ولا يخدعهم تقلّبُ الذين كفروا في البلاد فيحسبونهم باقين خالدين. إن عاقبة هؤلاء وخيمة لا محالة. والعاقبة الحسنى هي للمتقين، الذين يخافون الله تعالى، ويعملون بطاعته، فينشرون الحقّ والعدل والخير على الربوع التي يحلّون بها، وسوف تكون لهم الوراثةُ في النهاية، حتى ولو كانوا من المستضعفين. يقول تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (سورة القصص: الآية 5).
    إنها سنّة الله تعالى التي تجري حاكميتها على أيّ فئة مستضعفة في الأرض ويريد الله تعالى أن يمنَّ عليها بالقوة والوراثة والرحمة. فهؤلاء الذين يبدو للأقوياء أنهم ضعفاء، لا بد من أن تتغير أحوالهم عندما يمنّ الله تعالى عليهم فيجعلهم أئمة وقادة بعد أن كانوا عبيدًا وتابعين، ويورثهم الأرض عندما يستحقونها بفعل إيمانهم وصلاحهم... حتى إذا غيروا ما في أنفسهم، وبطروا واستكبروا، فإن الله تعالى يعود ويورثها لغيرهم وفقًا لسننه الثابتة التي لا تبديل فيها ولا تحوُّل...
    يقول الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (سورة الدخان: الآية 28). ويقول عزّ وجلّ: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (سورة الشعراء: الآية 59).
    إن هاتين الآيتين الكريمتين تدلَّان على ما أورثه الله تعالى لبني إسرائيل بعد زوال فرعون وملئه وجنده... فقد كان فرعون ومَلَؤُهُ يعيشون في رغد من العيش والنعيم، إلَّا إن طغيانهم وجبروتهم قد أدى بهم إلى الاندثار النهائي... لقد أفسدوا في الأرض، وعصوا ربهم، وأشركوا به، فكان أن حلَّ عليهم قضاء الله تعالى، فنزع عنهم الملك، وأورثه قومًا آخرين، من دون أن يعبأ بهم، ومن دون أن يحزن عليهم أهل السماوات والأرض، لقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (سورة الدخان: الآيات 25 ـــــــ 29)... لقد ذهب أولئك الطغاة وتركوا ما كانوا فيه من نعيم... ذهبوا إلى غير رجعة، ولم يأسَ على ذهابهم أحد. ولو أدرك هؤلاء الجبارون ما في هذه الآيات المباركة من إيحاء، لأَحسّوا هوانهم على الله تعالى، وعلى هذا الوجود كله. ولعلموا أنهم يعيشون في الكون منفصلين عن حقائقه ونواميسه وسننه، من دون أن تربطهم بذلك كله الرابطة الحقّ، رابطة الإيمان الصادق!..
    وأورثها قومًا آخرين: أورث النعيم، والمقام الكريم، ورغد العيش، لقومٍ كان فرعون وَمَلَؤُهُ يستضعفونهم، ويسومونهم سوء العذاب والمهانة... أورث ذلك كلَّه «بني إسرائيل».
    والثابت في التاريخ أن فرعون عاش في مصر، كما من الثابت أيضًا أن «بني إسرائيل» قد خرجوا من مصر، فلم يرثوا ملك فرعون وكنوزه في تلك البلاد. لكن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ أورثهم ملكًا مثل ملك فرعون، فيكون المقصود نوعَ الملك والنعمة، وليس المكانَ أو الأرضَ التي عاشوا عليها ردحًا من الزمن أيام حكم فرعون الطاغية. وهذا ما يوضّح لنا أن الله تعالى قد أورثهم ذلك، ربما بسبب ضعفهم وليس بقدرتهم ولا بعملهم أو إيمانهم. فقد شاء سبحانه أن يعوّضهم عن عذاب القهر والاستعباد والظلم، فأزال الطغاة، وأنعم على المستضعفين...
    إن الله تعالى، وفقًا لسننه في خلقه، يورث الأرض من يشاء من عباده. فإن صَلُحَ أمر هؤلاء العباد، وساروا على الإيمان والتقوى، فإنه تعالى يُمدُّهم بأكثر، ويفيض عليهم بأحسن، أيًّا كان هؤلاء العباد، وحيثما عاشوا... أما إذا فسد أمرهم، وعصوا ربهم، وأنكروا نعمته وفضله، فلا شك في أنه سينزع عنهم الملك، ويورثه لقوم آخرين...
    وبعد ذلك بِحِقَبٍ طويلة من الزمان بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا للناس كافة في قلب الجزيرة العربية حيث كان اليهود يحيَوْنَ في رغد من العيش، والأمان، والسيطرة الاقتصادية في كل الربوع التي وجدوا فيها. ولما أحسّوا أن مصالحهم المادية لا تتماشى مع الدعوة الإسلامية تألبوا عليها وأدخلوا المشركين في صراع مع حَمَلَتِها. لقد أرادَ اليهود الوقوف في وجه الإسلام، لكن أتباعه صبروا وصابروا، وسلاحهم الإيمان والتقوى، فكان لا بد من أن تتأكذ سنّة الله تعالى في خلقه، وهي السنّة التي لا تتبدل ولا تتحول لقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (سورة فاطر: الآية 43). وكان لا بد من زوال النعمة عن اليهود، وتوريث ديارهم وأرضهم للمسلمين المستضعفين، المتقين. يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (سورة الحشر: الآيات 2 ـــــــ 4). نعم إن وراثة الأرض هي لعباد الله، المستضعفين المؤمنين، أو لعباده الصالحين. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (سورة الأنبياء: الآية 105).
    أما الزبور فهو إما الكتاب الذي أوتيه داود عليه السلام، فيكون الذكر إذًا هو التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام والتي سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفًا لكل كتاب أنزله الله تعالى وفيه أحكام من الذكر الذي هو اللوح المحفوظ، والذي يحتوي على المنهج الكلي لكل سنن الله تعالى في الوجود.
    وفي أيّ حال فالمقصود هو أن الله تعالى قد أودعَ في الأرض سنّةً لوراثتها، وأن هذه الوراثة تكون لعباده الصالحين {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
    ولقد اتفق معظم المفسرين أن عباد الله الصالحين هم أصحاب النفوس الصالحة، التي يقوم منهجها على الإيمان والعمل الصالح. وقد ذهب آخرون إلى أنَّ مفهوم النص لا يقتصر على صلاح النفوس فحسب، بل يتعداه إلى إصلاح الأرض من حيث العمارة والزراعة والصناعة والتجارة وجميع السبل التي تعين على التقدم والازدهار.
    وفي تقصّي المدلول القرآني لمعرفة ما حقيقة الوراثة، ومَن عباد الله الصالحون، لا بد من الرجوع إلى الاستخلاف وما المقصود منه. وذلك يظهر لنا أن الله تعالى استخلف آدم عليه السلام وذريته في الأرض من أجل عمارتها وإصلاحها، وغرسها وتنميتها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال، علمًا وعملًا، وفق ما قدَّر لها الله تعالى في علمه...
    المنهج الإلهيّ لبني البشر:
    ولقد وضع الله تعالى للبشر منهجًا كاملًا متكاملًا للعمل بموجبه في هذه الأرض، وهذا المنهج يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي القرآن الكريم، الرسالة الأخيرة لبني البشر، فصَّل الله تعالى هذا المنهج، وشرّع له الأحكام التي تقيمه، وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته... في هذا المنهج ليس المقصود عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها فحسب، بل لا بد، مع ذلك كله، من العناية بنفس الإنسان، ليبلغ هذا الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة، فلا يتصرف بدافع هواه في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته، في الوقت الذي يرتفع فيه إلى أعلى الذرى في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
    لا بد إذًا من التوازن بين صلاح النفس وقدرتها على العمل المبدع. وفي الطريق إلى هذا التناسق وبلوغ هذا التوازن، قد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج وبرابرة ومتخلّفون. وقد يغلب عليها كفار فجّار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها ويقيمون العمران والتمدن والحضارة، لكن ذلك يبقى استغلالًا ماديًّا ناقصًا، ما دام غير مرتبط برضى الله تعالى في خلائقه، لأن المطلوب في الإنشاء والبناء والتنمية والازدهار، والاستخدام والاستغلال، التركيز في خير الإنسان ونفعه. فما تجدي كل المدنيات والحضارات إن كان الناس يظلمون بعضهم بعضًا، ويعتدون على حقوق بعضهم بعضًا، ويخالفون أوامر الله تعالى في التعامل؟!. لذلك، ومهما بلغ تقدمهم المدني أو الحضاري، فإنه لا يرضي الله تعالى إن لم يكن فيه صلاح للعباد.
    شرط الوراثة: الإيمان بسنن الكون والعمل بموجبها عن فهم:
    لقد جاءت سنّة الله تعالى مؤكدة أن الوراثة الحقة إنما تكون للعباد الصالحين الذين يجمعون بين الإيمان بالسنن الكونية والعمل الصالح بموجبها عن فهم ودراية. فلا يفترق هذان العنصران في كيانهم ولا في حياتهم.
    وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة، ليتحقق وعد الله تعالى وتجري سنّته: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون...
    وفي القرآن الكريم خير الأدلة على ما أورث الله تعالى: «بني إسرائيل» من قبل، وما أورث «المسلمين» من بعد وفقًا لسنّته تعالى في خلقه...
    {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الحشر: 4).
    والمقصود هنا في هذا النص القرآني هم بنو النضير من اليهود. فهم أهل الكتاب الذين كفروا، وأُخرجوا من ديارهم في المدينة، لأنهم شاقوا الله تعالى ورسوله، مخالفين ما هو مكتوب في التوراة والإنجيل، من التصديق ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في الدين الذي يدعو إليه...
    وكذلك الأمر فيما حلَّ ببني قريظة من اليهود، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (سورة الأحزاب: الآيتان 26 ـــــــ 27).
    فالأمر في تلك الحالات كلِّها كان لله تعالى. فهو ــــــ سبحانه ـــــــ الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وهو ــــــ سبحانه ـــــــ الذي أنزل الذين ظاهروا المشركين من أهل الكتاب من حصونهم...
    لقد عاهد الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم بني قريظة وكتب عليهم المواثيق، حتى إذا جاءت الأحزاب وحاصرت المدينة تريد غزوها، نكث بنو قريظة تلك العهود وناصروا الأحزاب مما شكل أشد الأخطار على المسلمين. حتى إذا قيّض الله تعالى لهم النصر على أعدائهم، كان لا بد من محاكمة بني قريظة على خيانتهم، وكان الحكم فيهم من سعد بن معاذ، سيد الأوس والضامن لبني قريظة أنفسهم. وبعد أن نفذ فيهم الحكم قال له الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى: «لقد حكمت بما حكم الله تعالى من فوق سبع سماوات»...
    وهكذا أورث الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم للمسلمين، بعد أن كذبوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وشاقّوه، ونكثوا عهده، وحاربوا الإسلام حربًا شعواء لا هوادة فيها...
    إنها سنّة الله تعالى التي لا تتخلّف، ومشيئته المطلقة التي لا تتوقف... لقد كان أجدر باليهود أن يتفكروا في مصارع الخالين من قبلهم، ووراثتهم لهم. وكان حريًّا بهم أن يدفعهم ذلك إلى الاهتداء، وإلى وعي سنن الله تعالى في خلقه، حتى لا يقعوا في الغفلة والضياع، فيأتيهم العثار، والهلاك والتشتت... وهذا ما هو مطلوب من المسلمين اليوم: أن يعودوا إلى ربهم، وأن يتبعوا قرآنه، ليستعيدوا ما ضاع منهم وما فاتهم بعدما تخلّفوا على مدار عصور عديدةٍ: فكرًا، وسياسة، وعملًا...


    والعاقبة للمتقين:
    إذًا فالقرآن الكريم يدلّنا، بما لا ريب فيه، على أن الله تعالى يورث الأرض لمن يشاء من عباده. لكن هؤلاء الذين يرثون ليسوا بمنأى عن العذاب، إن هم عصوا، واعتدوا، وأعرضوا عن الإيمان والصلاح، وعن طاعة الله تعالى والعمل بما يرضيه. وحتى لو كان ظاهرهم يوحي بأنهم من المسلمين، فالله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ ينقل منهم قُنْيَةَ هذه الأرض عند ارتكاب الذنوب، وإصرار أصحابها عليها، إلى قوم آخرين...
    وقد يقف المسلمون أمام هذه الحقيقة متسائلين: هل إن الله تعالى قد أورث أراضيهم المقدسة في فلسطين لليهود؟ إنَّ في رجوعهم إلى قرآنهم ما ينبئهم ويعطيهم البيان الشافي لهذا التساؤل، والتفسير الكافي لهذا الوضع... فالله ــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ يَعِدُ الناسَ جميعًا الأمان، والطمأنينة، والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة إذا هم أخلصوا العبودية لله ـــــــ جلَّ جلاله ـــــــ وابتعدوا عن كل ما يلوّث الحياة ويهدر كرامة الإنسان. لذلك يقول موسى عليه السلام لقومه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الأعراف: الآية 128)...
    {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}... هنا مدار البحث. إنَّ عاقبة الاستخلاف، وعاقبة السيادة على الأرض، وعاقبة الوراثة، لا تكون دائمًا وأبدًا إلَّا للمتقين، أي الذين يحفظون أنفسهم من المعاصي والآثام. فهذه سنّة إلهية في بني البشر، وقد ثبتت حقيقتها وصدقها في مختلف الأمكنة وعلى مدار الزمان كله... فكم أهلك الله تعالى من أمم غابرة، بعد أن فجرت وفسقت وأفسدت في الأرض، كما حصل لقوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط وغيرهم... وغيرهم. وهذه السنّة التي لا تبديل لها تبقى منطبقة على واقع المسلمين الراهن، وعلى احتلال اليهود لأراضيهم وإقامة دولة فيها. لذلك فإن الجواب عن طرح هذه القضية، ومن منطلق قرآني بحت، هو أنه لن تكون لليهود وراثة في الأراضي الإسلامية المقدسة، ما دامت الوراثة للمتقين، واليهود كما أثبتوا عبر التاريخ البشري وحتى اليوم هم أبعد الناس من هذه التقوى...

  7. #7

    افتراضي

    [align=right]الفصْل السَادِس: المسْلِمون وَبَنو إسرَائِيل وَحَركة التَاريْخ
    المسلمون وبنو إسرائيل:
    لقد خصَّ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ الجماعة المسلمة بأحكام تبرز في صلب حركة التاريخ وهي تتحرك بنتيجة تعاقب الأزمان، وتداول الأيام... وتظهر هذه الأحكام في سورة الإسراء بقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (سورة الإسراء: الآيات 4 ــــــ 8).
    هذه الآيات القرآنية تبين إخبار الله تعالى لبني إسرائيل، وإعلامهم في الكتاب، أنهم وذرِّيتهم سوف يفسدون في البلاد التي يسكنون، مرتين...
    فإذا حَصَلَ هذا الفساد في المرة الأولى، بعثَ اللهُ تعالى عليهم عبادًا له يتمتعون بالبأس الشديد على الأعداء، والقوة الكافية لمحاربتهم، لكي يجاهدوهم على كفرهم، ويقاتلوهم على عتوّهم وجبروتهم، فيجوسون خلال ديارهم، ويقتلون منهم ويشرِّدون كل من يستحق القتل والتشريد... هذا وعْدٌ من الله ـــــــ سبحانه ــــــ مفعول، مؤكد وكائن، لأن الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لا يخلف الميعاد... ويتحقق الوعد، ويخسر اليهود كلَّ شيء... لكنهم بعد أن يحلَّ بهم ذلك الويل العظيم، يصبرون على أذاه، ثم يتهيَّأون من جديد، ويوطدِّون العزم ويشحذون الهمم، ويسلكون سبيل العمل متكاتفين، وهدفهم بناء أنفسهم من جديد مهما امتدّ الزمن، ومهما بلغت التضحيات في سبيل الوصول إلى هذا الهدف.
    ولكن!... هل ينفع ذلك كله اليهود، وقد شرط القرآن عليهم الإحسان؟ الإحسان لأنفسهم بما ينفعهم ولا يضر الآخرين، وبما يؤمن العدالة لهم ولغيرهم... ويقترن شرط الإحسان إن لم يتحقق، بشرط آخر لا بد من أن يتحقق، وهو الإساءة لأنفسهم... فإن قاموا بهذه الإساءة التي تقع آثارها عليهم وتمتدُّ إلى غيرهم، بما تحمل من القسوة والظلم، ومن الاستكبار والاستعلاء، فلسوف يحل بهم السوء لا محالة... ذلك قضاء الله سبحانه ولا رادَّ لقضائه.
    نحن مع هذه الحقيقة القرآنية التي تقول بأن «الإحسان» شرط بقاء اليهود أصحاب كيان قوي، وذوي سلطان في الأرض، لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (سورة الإسراء: الآية 7) وليس ما ينبئ حتى الآن بأن اليهود يعملون بهذا الإحسان... فها هم يسيطرون على أكبر شركات الاحتكار في العالم، ويتعاملون بمختلف أنواع الربا والاستغلال، ويتعاونون مع منتجي الأسلحة الفتاكة التي من شأنها تدمير العالم... وهم في منطق الاعتداء أكثر الناس اعتداءً على حقوق المسلمين في فلسطين وفي غيرها من الأراضي العربية، ويعملون على هدم المسجد الأقصى في القدس بعد اتّخاذها عاصمة لدولتهم. أضف إلى ذلك كلّه مناهضتهم بالقوة وبمختلف أساليب العنف والظلم لانتفاضة الشعب الفلسطيني في أرضه، وذلك بغية القضاء على أيّ محاولة لاستعادة الفلسطينيين حقوقهم السليبة... فهل هذه الأعمال المشينة هي من «الإحسان» أم أنها إساءات فوق إساءات؟ لقد أصبحت حياة اليهود سلسلة مترابطة من الإساءات، ونشر الفساد في الأرض، فهل هذا ما يريده الله تعالى من مفهوم دلالة الإحسان؟!. حاشَ لله أن يريد ذلك!.
    ولكن، هل يقتنع اليهود بالحقيقة القرآنية التي لا لَبْسَ فيها؟ وهل يمكن لهم أن يستقيموا على الحقّ والعدل، وأن يبتعدوا عن السوء والفحشاء وعن نشر الفساد في الأرض؟
    إن الإسلام يؤكد أن عباد الله الذين سوف يدخلون المسجد الأقصى في القدس، قبل يوم القيامة، هم من المسلمين الذين سوف يأتي يومٌ يعون فيه حقيقة قضيتهم، وحقيقة ما انتدبهم الله تعالى إليه. فكما أفلحوا في نشر الإسلام دينًا لله تعالى على الأرض حين كانت نفوسهم مفعمة بالتقوى، فسوف ترجع إلى نفوس كثير منهم هذه التقوى التي يريدها الله تعالى ويجعلها الشرط الأساسي للعاقبة الأخيرة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
    يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة الأعراف: الآية 167). وقد جاء في معظم التفاسير أن هذه الآية إخبار وإعلام من الله تعالى بأحداثٍ سوف تقع في المستقبل، وهي من المغيَّبات التي لا يعلمها أحدٌ من الناس. وفي هذه الآية أيضًا معنى القسم منه تعالى بأن اليهود مهما تكتلوا، ومهما بلغوا من القوة، ومهما علوا، فإنَّ عاقبتهم إلى ذلٍّ وتشتت، وأنه لا استعلاء لهم، ولا دولة تبقى جامعة شتاتهم. ومهما رأت العين من حالهم اليوم، إن هي إلَّا فترة عارضة من فترات التاريخ، ثم يعود الحقّ إلى نصابه. فليس أصدق من الله تعالى حديثًا؟ ولا أصدق من الله تعالى قيلًا؟
    وفي بيان أوضح يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} (سورة المائدة: الآيتان 12 ـــــــ 13)..
    لقد نقض «بنو إسرائيل» الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم وتخلوا عن كل ما يجعله ـــــــ سبحانه ـــــــ معهم. فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم الله تعالى. واللعنة تعني الطرد والإبعاد من الخير نتيجة للسخط، وهي في الآخرة عقاب شديد. أما في الدنيا فاللعنة من الله تعالى على قوم هي انقطاع رحمته وتوفيقه عنهم... وهي من الإنسان للإنسان دعاء بالشر... فهل يعقل أن يسود اليهود الأرض واللعنة الإلهية تلاحقهم؟!.
    إنَّ تاريخ اليهود البعيد والقريب، بل حاضرهم، أصدق الأنباء على ما في طبعهم وقوام حياتهم من الفساد والإفساد في الأرض...
    فمن آثار ضلالات اليهود وفسادهم أنهم يخدعون حتى تكون لهم الغلبة، ويتوحشون ليأمنوا في بيوتهم، ويتعصَّبون ليدافعوا عن وجودهم، إلى أن صار أمرهم، نتيجة تصرفاتهم تلك، أمرًا غير طبيعي، يدفع الناس إلى النفور من معايشتهم، ويجهدون في قطع علاقات التواصل معهم، حتى لكأنهم خلق آخر، لا يألفون أحدًا ولا أحد يألفهم... وها هي مظاهر حياتهم تثبت ذلك في كل عصر ومصر عاشوا فيه، حيث كانت مفاسدهم تنعكس دائمًا على علاقاتهم بغيرهم. فما إن يستظهرون حتى يسارعوا إلى العتوِّ والظلم، وإلى زرع الفتن والمؤامرات، ومحاولة الغلبة والسيطرة على بقية الشعوب، وعلى مقدراتهم وخيراتهم... لذلك كانوا دائمًا معتدين ظالمين، أو متآمرين مخادعين. وكان في علم الله ـــــــ سبحانه ـــــــ ما يتأصَّل في نفوسهم من شرور، فكان إعلامه ـــــــ سبحانه ــــــ لهم في الكتاب، أنهم ليُفْسِدُنَّ في الأرض مرَّتَين... وعادَ الإعلامُ نفسُهُ في القرآن الكريم يؤكّد للناس جميعًا بما وُعد به بنو إسرائيل في الكتاب.
    لكنَّ هذا الإعلام القرآني مرتبط بوعيد، وهو أنَّ عودتهم إلى الفساد تتلازمُ مع سوء المنقلب عليهم، إذ سوف تعود الجماعة نفسها من عباد الله المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، لكي تجوس خلال ديارهم وتنزل بهم سوء العذاب. ويؤكد النص القرآني على «ذات الجماعة» التي تسوم اليهود العذاب في المرة الأخرى، لأنَّ هذه الجماعة اختارها ربُّها لأداء هذه المهمة، وأوكل إليها أن تقتصَّ من المفسدين، وتجتثَّ الفسادَ الذي نشروه في الأماكن التي عمروها. ثم تعود هذه الجماعة وتدخل المسجد كما دخلته أوَّل مرَّة، بعد أن تدمِّر كل ما أقاموا تدميرًا...
    سبحان الله العزيز الذي وسعت رحمته كل شيء، إذ على الرغم من الهلاك الذي يحلُّ ببني إسرائيل، فإن العليَّ القديرَ ينبِّههم بأن يعتبروا، ويوقنوا بوعد الله، ويؤمنوا به ربًّا عزيزًا حكيمًا، ويلتزموا بكتابه وسنَّة رسوله، فيرحمهم...ولكن إلى جانب هذا التنبيه اللطيف الرحيم، يأتي الوعيد والتهديد بأنهم إن لم يعتبروا، ولم يرعووا، فهم في النهاية كافرون، ومصير الكافرين معروف: إنه جهنم وبئس المصير...
    ولقد جَهِدَ الباحثون في تقصِّيهم عن «الجماعة» التي تجتثُّ فسادَ بني إسرائيل مرَّتين، والتي عبَّر عنها القرآن الكريم بلفظ (عبادًا لنا). هذا التعبير الذي ينسجم مع الدور الذي يوكل إليهم من الله تعالى... فقالوا إن ذلك حدث في التاريخ عندما أفسدوا في الأرض أول مرة بقتل زكريا عليه السلام فبعث عليهم «جالوت» وجنوده فقتلوهم وسبوا نساءهم وأولادهم، وخرَّبوا بيت المقدس... وقالوا أيضًا إن ذلك حصل على يد أحد ملوك الفرس، أو على يد ملك بابل نبوخذ نصَّر، أو على يد أحد ملوك الرومان واسمه أنطياخوس... بحيث غزا ملوك من تلك الشعوب بيت المقدس، وقاموا بقتل اليهود وسبي أعداد كبيرة منهم، وأخذهم عبيدًا إلى بلادهم. وكان ذلك يتم كل مرة بعد هدم الهيكل، وما حوله من عمران!...
    أما نحن فنرى أن عباد الله المقصودين في النص القرآني الكريم (في الآية 4 من سورة الإسراء) هم غير أولئك الذين ذُكروا... وندلل على ذلك بأربعة أمور:
    الأمر الأول: يقول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}. فقد ورد عن المفسرين أنَّ الكتاب المقصود هو التوراة... ونحن نرى أن كتاب التوراة المقصود هو ما جاء ذكره في الآية (2) من سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً}...
    أما الكتاب المقصود في الآية (4) من سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} فهو القرآن. ولفظة «الكتاب» هنا ـــــــ في هذه الآية ـــــــ تدل على العموم، فمن الممكن أن يكون الكتاب هو التوراة أو أن يكون هو القرآن الكريم. والذي يحدّد ذلك هو القرينة. ونستدل على هذه القرينة من الآيات الواردة في أواخر سورة الإسراء حيث يقول الله تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)‏ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}. فالقرينة هنا تدل على أن «الكتاب» هو القرآن بدليل ذكر «وعد الآخرة» التي وردت في مطلع السورة، وبدليل أنه يذكر القرآن صراحة {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}، وبدليل {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} وهؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين يقولون إن القرآن هو من عندالله تعالى وأنما يَعِدُ به محقق لا مناص منه، لأن وعد الله تعالى واقع حتمًا ولا يحول شيء في الدنيا، مهما عظم، دون وقوعه ونفاذه.
    واستنادًا إلى ذلك كله نرى أن لفظة «الكتاب» الواردة في الآية الرابعة من سورة الإسراء إنما تختص بالقرآن الكريم لوجود القرينة عليها في أواخر السورة.
    وبعد هذا كلّه، إذا أصرَّ بعضهم على أن «التوراة» هي المعنية في الآية الرابعة المذكورة، بغضّ النظر عن القرائن التي سردناها، فإن القرآن المجيد قد وصفه الله تعالى بأنه «الكتاب» في قوله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (سورة فصلت: الآية 3).
    وسواء كان المقصود بالكتاب التوراة أو «القرآن» فالمهم أن القرآن قد تضمن الحكم الذي قضى به الله تعالى إلى بني إسرائيل. وهذا الحكم، الذي ورد في التوراة وأُخفي عن الناس، يجب ألّا يخفى بعدُ والقرآن بين ظهرانينا لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (سورة النمل: الآية 76).
    إن ما سوف يحلّ باليهود، تحقيقًا لقضاء الله تعالى فيهم، سيقع لا محالة ما دام أن القرآن الكريم يؤكد وقوعه. وهذا ما يثبته قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (سورة المائدة: الآية 15). وواضح أن «الكتاب» هنا، الوارد ذكره في آخر الآية الكريمة، هو القرآن الكريم. وفي هذه الآية يذكر الله تعالى أنه قد بعث رسولَهُ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ليبيّن لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) كثيرًا مما كانوا يخفونه مما جاء في التوراة والإنجيل. ومن ذلك الذي أُخفي وجوبُ اتِّباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدخولُ في الدين الذي يدعو إليه. ومنه أيضًا ما سيؤول إليه أمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدنيا والآخرة إن هم لم يؤمنوا ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصدقوا القرآن الكريم ويعملوا به...
    ومن البراهين التي تدل على «وعد الآخرة» التي أتى على ذكرها القرآن الكريم في أواخر سورة الإسراء أن يجيء الله تعالى باليهود لفيفًا. واللفيف من الناس يعني المجتمعين من أماكن شتى، أو من جماعات مختلفة، لذلك يقال: جاؤوا ومن لفَّ لفَّهم، أي جاؤوا مع من انضمَّ إليهم... ويتأكد هذا المعنى لغويًّا أيضًا بقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (سورة النبأ: الآية 16)، أي بساتين التفّت أشجارها وتكاثفت أغصانها بعضها على بعض لكثرتها... وبذلك يصبح معنى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}: جئنا بكم جماعات جماعات حتى تكثروا بعد أن ينضمَّ بعضكم إلى بعض... وهذا ما نراه اليوم بالعين المجردة حيث يتوافد اليهود إلى «دولة إسرائيل» بالمئات والألوف، من كل بلدان العالم وخصوصًا من الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية كلها... وهذا ما تعمل له منذ مدة طويلة الصهيونية المسيحية السياسية، والصهيونية اليهودية اللاهوتية، وقد رأينا أنهم يتخذون من نبوءات التوراة والإنجيل سبيلًا لتجميع اليهود في أرض «الميعاد»، لكي يصبح عددهم نحو تسعة ملايين شخص. وبعد ذلك، وبحسب نظرية الإنجيليين الأصوليين، تحصل حرب «هرمجدون» حيث يقضى فيها على اليهود، فلا يبقى منهم سوى مئة وأربعة عشر ألف شخص فقط هم الذين يتولون دفن موتاهم على مدى أسبوع من الزمان... ثم يظهر السيد المسيح في مجيئه الثاني، فيؤمن به اليهود، ويتحولون إلى نصارى، بحيث ينتهي المعتقد اليهودي في العالم. وهذا ما يورده كتاب «النبوءة والسياسة» كما تحدثنا عنه سابقًا...
    ويبدو أن هذا الاعتقاد بات راسخًا في أذهان الملايين من المسيحيين واليهود.وبسببه نجد هذا الدعم الدولي في تهجير اليهود إلى فلسطين. وهي هجرة منظمة منذ سنوات طويلة، تقوم على إجراءات مدروسة. منها:
    1 ـــــــ جواز السفر الذي تمنحه السلطات في الاتحاد السوفياتي للمهاجر اليهودي. وهو جواز خاص لا يصلح إلا لسفرةٍ واحدة. ويمكن استعماله من دون أن يكون صاحبه قد حصل على تأشيرة دخول إلى دولة أخرى، مما يجعل هذا المهاجر مدفوعًا للتوجه إلى «دولة إسرائيل» التي تستقبله فور نزوله من الطائرة، وتؤمن له المأكل.
    2 ـــــــ تبرع خطوط الطيران في بعض دول أوروبا الشرقية مثل هنغاريا، ورومانيا وبولندة لنقل المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ويتم نقلهم عبر عملية مدروسةٍ بدقة وسرّيةٍ تامتين، وذلك تحقيقًا لمآرب كثيرة تتوخى الدول التي تشارك فيها تأمين مصالحها الذاتية من خلالها.
    3 ـــــــ اتخاذ الإدارة الأميركية قرارًا بتقييد انتقال اليهود المهاجرين إليها بقيود كثيرة وصعبة، فُرِضت بعد إطلاق حرية الهجرة لليهود من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وذلك يهدف إلى جعل المهاجرين يتوجهون إلى «دولة إسرائيل» وليس إلى الولايات المتحدة الأميركية.
    وإذا كان وهم المخططين لتلك الأمور يجعلهم يعتقدون بأن خططهم قد تحقق نتائجها فتقوم دولة إسرائيل الكبرى في حلم اليهود التاريخي، ويعود السيد المسيح ثانية في نبوءات الإنجيليين الأصوليين، فإننا نقول لهم أن ذلك قد يتحقق من حيث زيادة قوة اليهود واحتلالهم أراضي عربية جديدة، وإقامة الكيان اليهودي الذي يجمع معظم يهود العالم... لكن النتائج التي يتوخونها غير مضمونة، إذ سيحل الفناء بأكثرية سكان الأرض، وذلك نتيجة حرب نووية لا بد من أن تقع بسبب انتشار الفساد والظلم، وخصوصًا أن هنالك امتلاكًا لمخزون كبير من الأسلحة النووية. وقد ثبت أنه ما من سلاح اخترعه الإنسان، منذ بدء التاريخ وحتى يومنا هذا، إلَّا استعمل استعمالًا كاملًا. وعندئذٍ سوف تقع الكارثة على البشرية جمعاء، وليس على اليهود وحدهم... ولكن ما نستغربه حقًّا، هو كيف يرضى اليهود أن يجتمعوا من كل أقطار الأرض في فلسطين، في حين أن «النبوءات» التي تروّج لها الصهيونية تقول بأن اجتماعهم هو الشرط اللازم للقضاء عليهم؟.
    خلاصة القول إنّ في القرآن الكريم إخبارًا عما قضى الله تعالى إلى بني إسرائيل من حكم عندما يرتكبون الفساد في الأرض مرتين. وفي علمه وحده ـــــــ سبحانه ـــــــ ما سيكون عليه مآلهم أو مصيرهم في مقبل الزمان من عمر الكرة الأرضية. ولعله هو الزمان الذي نشهده اليوم...
    الأمر الثاني: إن الذين يقاتلون «بني إسرائيل» هم عباد لله تعالى. وحتى تنطبق عليهم لفظة «عباد لله» يجب أن يكونوا من المؤمنين بالله الواحد الأحد، غير مشركين به. فهم إذًا من أهل عقيدة التوحيد، وعليهم أن يقاتلوا من أجل إعلاءِ كلمة الله حتى الشهادة. ولولا هاتان الصفتان لما اصطفاهم ربُّهم ـــــــ سبحانه ـــــــ واختارهم لقتال قومٍ ما عُرفوا على مدار التاريخ إلَّا أعداءً لأنبياء الله، وللعباد جميعًا، لأنهم يتوهمون بأنهم شعب الله المختار، ولهم السيادة على سائر الشعوب، ولهم الحقّ في استعبادها، وإخضاعها لإرادتهم ومطامعهم...
    والأمر الثالث: هو أن الجماعة المؤمنة التي بعثَها الله تعالى لتهزم بني إسرائيل وتجوس خلال ديارهم، يجب أن تكون هي الجماعة نفسها التي سوف يردُّ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لبني إسرائيل الكرَّة عليها... ولم نعلم في التاريخ أن اليهود حاربوا أهل فارس، أو أهل بابل، أو الرومان، واحتلوا بلادهم، وانتصروا عليهم... فاليهود ومنذ خروجهم من مصر أيام النبي موسى عليه السلام لم يؤسسوا لهم دولة يُعتدُّ بها إلَّا عندما امتثلوا لأوامر الله تعالى في ظل الأنبياء وبقيادتهم. ومنذ ذلك الوقت، لم يُعرف أنه قامت لبني إسرائيل دولة، بل لم يكن عندهم مجتمع معين خاص بهم، إلَّا ما أنشأوا من وحداتٍ آهلة في شبه جزيرة العرب كما في المدينة وخيبر، أو في اليمن على عهود بعض ملوك حمير... غير أنهم، بعد ظهور الإسلام، ونظرًا إلى عدم استجابتهم لهذا الدين وعدم قدرتهم على العيش في ظل دولة الإسلام التي كانت أول دولة عادلة أقامت شرع الله على الأرض بقيادة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم... لهذه الأسباب جميعها خرجوا من الجزيرة العربية، فارتحلت جماعة منهم إلى أذرعات في سوريا، وذهبت أخرى إلى بيت المقدس في فلسطين... كذلك كانت تعيش جماعات منهم في بلدان شتى من أنحاء العالم...
    إذًا فالتركيز هو على معاودة اليهود لبناء أنفسهم، وقيامهم بالكرَّة على الجماعة نفسها التي بعثّها الله عليهم أول مرة... فإن لم تكن لهم دولة، وقوة، وجيش، فكيف يمكن أن يعاودوا تلك الكرَّة؟
    ثم إن الجماعة نفسها يجب أن يكون لها استمرارية، وطبعًا لا تكون هذه الاستمرارية بالأشخاص، ولا بالقيادات، بل يجب أن تكون بالعقيدة والرسالة. ثم يجب أن تكون عقيدتها الحقّ، كي يتوافق إعدادها وتربيتها مع وعد الله ـــــــ سبحانه ـــــــ الموعود... كذلك فإن استمرارية العقيدة للجماعة المؤمنة بها، ووحدة هذه العقيدة، تؤكدان استمرارية بني إسرائيل بسبب وحدة العقيدة التي يدينون بها: ألا وهي اليهودية... هذه اليهودية التي تطبعهم بطابعها الخاص كجماعة معيَّنة، بغضّ النظر عن الأفراد، والقادة والحكَّام... وهكذا يجب أن يكون عبادُ الله الذين يقاتلونهم في المرَّتَين، الجماعة نفسها من خلال وحدة العقيدة التي هي عليها، واستمرارية هذه الجماعة عبر هذه العقيدة...
    والأمر الرابع: هو أن الدِّيار التي تحصل فيها الأحداثُ، يجب أن تكون مهمةً في نظر اليهود إذ هي الديار التي ينشئون فيها العمران، ويقيمون عليها ملكًا أو حُكمًا خاصًّا بهم... ولم يكن في الأرض كلِّها غير «فلسطين» أرض مهمّة لبني إسرائيل، إذ هم يعدّون أنها الأرض التي وعدوا بها في التوراة. وسواء أصحَّ اعتبارهم أم لم يصح، فقد أثبت التاريخ أنَّ تطلُّعهم هم وأنصارهم المحرضين لهم كان دومًا لأرض فلسطين. وقد عُرض عليهم إقامة دولةٍ لهم في إفريقيا أو في غيرها، فلم يرضوا بذلك، وأصرُّوا على الرجوع إلى فلسطين من أجل إعادة بناء هيكل سليمان، في بيت المقدس، زاعمين أنه كان قائمًا حيث المسجد الأقصى. لكون بيت المقدس، أو ما جاوره من الديار، كان مقرًّا أو ممرًّا لغالبية أنبياء الله تعالى: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وشعيب، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى ـــــــ عليهم السلام ـــــــ ولذا فهو يمثل في نظر اليهود الركيزة لبناء دولة يجتمعون فيها، بدل أن يظلوا مشردين في مختلف أنحاء الأرض...
    والتركيز في الديار شيء مهم، لأنها المسرح الذي سوف تؤدي عليه حركة التاريخ ـــــــ بإذن ربها ـــــــ دورًا مهمًا في بقعة الشرق الأوسط من العالم، وتحديدًا في فلسطين وفي جوار بيت المقدس. وهو المكان نفسه الذي يعيّنه القرآن الكريم كما يدلُّ النص القرآني في قول الله تعالى: {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (سورة الإسراء: الآية 7). والمسجد في هذا النص هو المسجد نفسه الذي جرى الإخبار عنه في الآيات السابقة التي وردت في مطلع سورة الإسراء وفيها إخبار بالحدث العظيم، بل بالمعجزة الخارقة التي حصلت للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما أسرى به ربه سبحانه من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. ويثبت السياق القرآني هذه الحقيقة في تلازم الآيات وتتابعها، إذ يقول الله تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (سورة الإسراء: الآية 1).
    فالمسجد الأقصى قد بارك اللهُ حولَهُ، لكي يكون المكان الدائم والثابت الذي يراه الإنسانُ بأم العين، فيتخذه دليلًا على عظيم آياتِ الله، وقدرته سبحانه، وجميل بركاته. ومن دلالات بركات هذا المكان حصول معجزة المعراج فيه وهي معجزةٌ كبيرةٌ في معانيها البعيدة، وفي مراميها الخيِّرة. وقد شاء الله سبحانه أن يُريَ نبيَّهُ المصطفى من آياتِهِ البيِّنات مما لم يره أحَدٌ من العالمين، فيستدلُّ الناسُ بذلك على وجود اللهِ سبحانه وتعالى، وعلى حكمته في خلقه، وإخضاعِهِ هؤلاء الخلق جميعًا للقوانين التي يرسمها لهم، وللنُّظم التي يُنزلها عليهم...
    وأما الحكمة من الإسراء والمعراج، فتتجلَّى، وفق مفهومنا البشري، بأن ذلك كان حدثًا استثنائيًّا، لا يدخُلُ في حسابات دورة الزمان، ولا ترصدُهُ حركة التاريخ. لكنَّ ارتباطه ببيت المقدس، وبالمسجد الأقصى بالذات، يعطي لهذا المسجد أهمية خاصةً في سير حياة البشرية، إذ يجعلُهُ الله تعالى شاهدًا على الأحداث التي تجري بين بني إسرائيل والمؤمنين، والتي تعبِّر عن تقلّب حركة التاريخ ومداولة الأيام بين الناس... كما جعله شاهدًا على «الإسراء والمعراج» بانفلاتهما من حركة التاريخ، ومن دورة الزمان...
    وهنا تتجلى عظمة القرآن وهي تُثبتُ حكمة الله تعالى في خلقه، وفي مشيئته سبحانه كيف يبين الآيات لقوم يعقلون، ليدركوا أنَّ كلَّ أمرٍ مردُّه إلى الله، وكل شيء مصيره لمشيئة الله. ولا مجال إذًا لإنكار الناس هذه الحقيقة، ولا مجال لاتخاذهم من دونه ربًّا، ووكيلًا... ذلك ما يوصي به عباده في جميع الرسالات السماوية، كما فعل مع بني إسرائيل عندما أوحى إلى النبيِّ موسى عليه السلام ألَّا يتخذَ بنو إسرائيل من دون الله وكيلًا!...
    وإذا أردنا أن نطبق ذلك كله على الواقع الذي حصل، والذي تثبته أحداث التاريخ، لتبيّن لنا بوضوح أن الإسراء حصل من مكة المكرمة نحو السنة الحادية عشرة لمبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي قبل هجرته إلى المدينة المنورة بسنتين، وفي وقت لم يكن قد نشب فيه أي قتالٍ بين المسلمين واليهود بعد...
    ... وكان في المدينة من أمر اليهود ما كان، عندما لم يراعوا العهود ونكثوا بالمواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم راحوا يتآمرون، ويُؤَلِّبُون الناسَ عليه، حتى قاتلهم، وغزا ديارهم في خيبر وحولها، وفرَّق جموعهم، بحيث لم يبقَ في تلك الديار منهم إلَّا نفرٌ قليل، أقرَّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على البقاء، شرط عدم التآمر على الإسلام وأهله...
    وانتقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، واستمرت بعده فتوحات الإسلام، ودخل المسلمون المسجد الأقصى أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه...
    ومن يتقصَّ أخبار اليهود في بلاد العرب والمسلمين، يتبيَّنْ له فسادُهُم في الأرض، بما حاكوا من دسائس على أهل نجران حتى قتلوهم تلك المقتلة العظيمة وأحرقوهم بالأخدود، ثم تتبيَّن له فتنتهم بين الأوس والخزرج في يثرب، وما أوقعت دسائسهم من قتلى بين الفريقين ـــــــ وكل ذلك كان قبل الإسلام ـــــــ ثم يظهر له إصرارهم الشديد على محاربة الإسلام والكيد لرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
    وكان اليهود قد نشروا الفساد من حولهم حتى استشرى في بلاد العرب حيث كانوا يعيشون في رغدٍ من العيش... ثم جاءَ الإسلام فأرادَ الله سبحانه اجتثاثَ ذلك الفساد فإذِن لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقاتلهم ليسوءَ وجوههم، ثم تعقَّبهم المسلمون إلى بيت المقدس حيث تمَّ الفتح، ونشر الإسلام رايته في تلك الديار...
    وتتعاقب الأيام، ويطبَّق حكم الإسلام في فلسطين حيث المسجدُ الأقصى، ويستمر الحكم الإسلامي حتى نهاية الخلافة العثمانية... وفي تلك الحقبة الطويلة كان اليهود، في كل أنحاء الأرض، يعدُّون العدَّة سرًّا، ويتهيَّأون للعودة إلى فلسطين، أي لإعادة الكرَّة على المسلمين... ويحين الوقت، وتأتي نكبة الحربِ العالمية الأولى على الخلافة العثمانية التي كانت آخر دولة إسلامية. ويكون وعد بلفور البريطاني عام 1917م بإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين. وتفعل السياسة البريطانية فعلها، وتُنتدب بريطانيا على فلسطين لتحقيق الحلم اليهودي...
    وسخَّر اليهود الانتدابَ البريطاني لخدمتهم فتمّ اغتصاب فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية، على أشلاء العرب المسلمين وفوق أرضهم وديارهم. وتحقق الحلم اليهودي وقامت الدولة العبرية عام 1948م بتواطؤ فاضح بين الحركة الصهيونية والدولة البريطانية...
    وها هُمُ اليهود اليوم ما زالوا يستقوون ويستعلون، وما زالوا يتكبرون ويظلمون المسلمين من حولهم باحتلال أراضيهم، وتدمير منشآتهم، وتهديم عمرانهم، وغزو بلادهم، وما زالوا يذيقون المسلمين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أمرَّ العذاب، ويمارسون عليهم أقسى الإجراءات التعسفية الظالمة وأشدّها. وقد وصلت بهم الحال إلى اقتحام المسجد الأقصى عليهم وهم يصلّون، فارتكبوا مجزرة راح ضحيتها في الأمس القريب مجموعة من المسلمين. وكان ذلك في شهر ربيع الأول 1411هـــــــ (تشرين الأول 1990م).
    وهكذا يمكن أن نخلص إلى قناعةٍ راسخةٍ وهي أنه مهما تألبت قوى الشر على المسلمين، ومهما قدّمت هذه القوى من دعمٍ لليهود بالرجال والأموال والسلاح، فإنَّ {وَعْدُ الآخِرَةِ} الذي قضاه الله تعالى إليهم في الكتاب سوف يتحقق لا محالة وسوف يجوس {عِبَادُ اللَّهِ} ـــــــ تعالى ـــــــ مخلصون له الدين، خلال ديارهم ويدمّرون ترسانتهم الحربية، ويهدمون ما عمرته أيديهم.
    إنَّ الله تعالى لا يخلف وعده، فهو سبحانه عندما أتى على ذكر الوعد الأول في الآية رقم 5 من سورة الإسراء، فقال: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً}. وعندما أتى على ذكر وعد الآخرة في أواخر هذه السورة المباركة في الآية رقم 108، قال سبحانه على لسان أهل العلم من أهل الكتاب {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}.
    فلا خوفَ إذن على الأمة الإسلامية مما يتوعدها به العالم كلّه، سواء باستعمال الأسلحة النووية أو بما هو أشدّ فتكًا منها...
    إن الخوف على المسلمين إنما يكون من أنفسهم لا من غيرهم، لأنهم يملكون ما هو أشد قوة، يملكون العقيدة الصحيحة المبنيَّة على العقل والمتفقة مع الفطرة. وهذه العقيدة هي الرابطة الوحيدة التي تصل الإنسان بربّه حق الاتصال. كيف لا، والقرآن الكريم جزءٌ منها، وهو حبل الله الممدود: من تمسك به نجا ومن ابتعد عنه سقط وهوى...
    والعقيدة هي ما عقد عليه القلب. والعقيدة الإسلامية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيرهما وشرهما. فيكون القرآن من العقيدة، وهو الكتاب الذي لم تستطع أن تحرِّفه أيدي البشر، لأنّ الله سبحانه قد أحاطه بعنايته.
    والعقيدة التي يؤمن بها المسلمون، عليهم أن يعرضوها على الناس عرضًا حسنًا، لا أن يفرضوها فرضًا سيئًا، بذلك أمرهم ربّهم بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (سورة البقرة: الآية 256).
    فإذا آمن بها الناس ملكتهم وما يملكون. إذًا فبين أيدي المسلمين منهج واضح لعقيدة متكاملة، إذا أحسنوا تطبيقه على أنفسهم كانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (سورة آل عمران: الآية 110)، وإذا أحسنوا عَرْضَهُ على الآخرين ازدادوا بمن اهتدى منهم قوّة وعددًا.
    وبناءً عليه لا يكون الخوف على المسلمين إلا بابتعادهم عن دينهم، لأن هذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله تعالى لهم هو سرّ قوتهم وعماد نصرتهم. وقد أثبت المسلمون الأوائل ذلك، حيث إن الامبراطوريات التي دمروها، بقوة إيمانهم وصدق عزيمتهم، كانت أكثر منهم قوة وأشد منهم بأسًا.
    إذًا فلا خوف على المسلمين إن هم آمنوا بهذه الحقيقة وعملوا لها، لأن الله تعالى هو معهم. وقد أنزل قرآنه المجيد بالحقّ، فلا مناص من أن يتحقق ما فيه. قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران: الآية 139).[/align]

  8. #8

    افتراضي

    [align=right]الفصْل السَادِس: المسْلِمون وَبَنو إسرَائِيل وَحَركة التَاريْخ
    المسلمون وبنو إسرائيل:
    لقد خصَّ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ الجماعة المسلمة بأحكام تبرز في صلب حركة التاريخ وهي تتحرك بنتيجة تعاقب الأزمان، وتداول الأيام... وتظهر هذه الأحكام في سورة الإسراء بقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (سورة الإسراء: الآيات 4 ــــــ 8).
    هذه الآيات القرآنية تبين إخبار الله تعالى لبني إسرائيل، وإعلامهم في الكتاب، أنهم وذرِّيتهم سوف يفسدون في البلاد التي يسكنون، مرتين...
    فإذا حَصَلَ هذا الفساد في المرة الأولى، بعثَ اللهُ تعالى عليهم عبادًا له يتمتعون بالبأس الشديد على الأعداء، والقوة الكافية لمحاربتهم، لكي يجاهدوهم على كفرهم، ويقاتلوهم على عتوّهم وجبروتهم، فيجوسون خلال ديارهم، ويقتلون منهم ويشرِّدون كل من يستحق القتل والتشريد... هذا وعْدٌ من الله ـــــــ سبحانه ــــــ مفعول، مؤكد وكائن، لأن الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لا يخلف الميعاد... ويتحقق الوعد، ويخسر اليهود كلَّ شيء... لكنهم بعد أن يحلَّ بهم ذلك الويل العظيم، يصبرون على أذاه، ثم يتهيَّأون من جديد، ويوطدِّون العزم ويشحذون الهمم، ويسلكون سبيل العمل متكاتفين، وهدفهم بناء أنفسهم من جديد مهما امتدّ الزمن، ومهما بلغت التضحيات في سبيل الوصول إلى هذا الهدف.
    ولكن!... هل ينفع ذلك كله اليهود، وقد شرط القرآن عليهم الإحسان؟ الإحسان لأنفسهم بما ينفعهم ولا يضر الآخرين، وبما يؤمن العدالة لهم ولغيرهم... ويقترن شرط الإحسان إن لم يتحقق، بشرط آخر لا بد من أن يتحقق، وهو الإساءة لأنفسهم... فإن قاموا بهذه الإساءة التي تقع آثارها عليهم وتمتدُّ إلى غيرهم، بما تحمل من القسوة والظلم، ومن الاستكبار والاستعلاء، فلسوف يحل بهم السوء لا محالة... ذلك قضاء الله سبحانه ولا رادَّ لقضائه.
    نحن مع هذه الحقيقة القرآنية التي تقول بأن «الإحسان» شرط بقاء اليهود أصحاب كيان قوي، وذوي سلطان في الأرض، لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (سورة الإسراء: الآية 7) وليس ما ينبئ حتى الآن بأن اليهود يعملون بهذا الإحسان... فها هم يسيطرون على أكبر شركات الاحتكار في العالم، ويتعاملون بمختلف أنواع الربا والاستغلال، ويتعاونون مع منتجي الأسلحة الفتاكة التي من شأنها تدمير العالم... وهم في منطق الاعتداء أكثر الناس اعتداءً على حقوق المسلمين في فلسطين وفي غيرها من الأراضي العربية، ويعملون على هدم المسجد الأقصى في القدس بعد اتّخاذها عاصمة لدولتهم. أضف إلى ذلك كلّه مناهضتهم بالقوة وبمختلف أساليب العنف والظلم لانتفاضة الشعب الفلسطيني في أرضه، وذلك بغية القضاء على أيّ محاولة لاستعادة الفلسطينيين حقوقهم السليبة... فهل هذه الأعمال المشينة هي من «الإحسان» أم أنها إساءات فوق إساءات؟ لقد أصبحت حياة اليهود سلسلة مترابطة من الإساءات، ونشر الفساد في الأرض، فهل هذا ما يريده الله تعالى من مفهوم دلالة الإحسان؟!. حاشَ لله أن يريد ذلك!.
    ولكن، هل يقتنع اليهود بالحقيقة القرآنية التي لا لَبْسَ فيها؟ وهل يمكن لهم أن يستقيموا على الحقّ والعدل، وأن يبتعدوا عن السوء والفحشاء وعن نشر الفساد في الأرض؟
    إن الإسلام يؤكد أن عباد الله الذين سوف يدخلون المسجد الأقصى في القدس، قبل يوم القيامة، هم من المسلمين الذين سوف يأتي يومٌ يعون فيه حقيقة قضيتهم، وحقيقة ما انتدبهم الله تعالى إليه. فكما أفلحوا في نشر الإسلام دينًا لله تعالى على الأرض حين كانت نفوسهم مفعمة بالتقوى، فسوف ترجع إلى نفوس كثير منهم هذه التقوى التي يريدها الله تعالى ويجعلها الشرط الأساسي للعاقبة الأخيرة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
    يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة الأعراف: الآية 167). وقد جاء في معظم التفاسير أن هذه الآية إخبار وإعلام من الله تعالى بأحداثٍ سوف تقع في المستقبل، وهي من المغيَّبات التي لا يعلمها أحدٌ من الناس. وفي هذه الآية أيضًا معنى القسم منه تعالى بأن اليهود مهما تكتلوا، ومهما بلغوا من القوة، ومهما علوا، فإنَّ عاقبتهم إلى ذلٍّ وتشتت، وأنه لا استعلاء لهم، ولا دولة تبقى جامعة شتاتهم. ومهما رأت العين من حالهم اليوم، إن هي إلَّا فترة عارضة من فترات التاريخ، ثم يعود الحقّ إلى نصابه. فليس أصدق من الله تعالى حديثًا؟ ولا أصدق من الله تعالى قيلًا؟
    وفي بيان أوضح يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} (سورة المائدة: الآيتان 12 ـــــــ 13)..
    لقد نقض «بنو إسرائيل» الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم وتخلوا عن كل ما يجعله ـــــــ سبحانه ـــــــ معهم. فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم الله تعالى. واللعنة تعني الطرد والإبعاد من الخير نتيجة للسخط، وهي في الآخرة عقاب شديد. أما في الدنيا فاللعنة من الله تعالى على قوم هي انقطاع رحمته وتوفيقه عنهم... وهي من الإنسان للإنسان دعاء بالشر... فهل يعقل أن يسود اليهود الأرض واللعنة الإلهية تلاحقهم؟!.
    إنَّ تاريخ اليهود البعيد والقريب، بل حاضرهم، أصدق الأنباء على ما في طبعهم وقوام حياتهم من الفساد والإفساد في الأرض...
    فمن آثار ضلالات اليهود وفسادهم أنهم يخدعون حتى تكون لهم الغلبة، ويتوحشون ليأمنوا في بيوتهم، ويتعصَّبون ليدافعوا عن وجودهم، إلى أن صار أمرهم، نتيجة تصرفاتهم تلك، أمرًا غير طبيعي، يدفع الناس إلى النفور من معايشتهم، ويجهدون في قطع علاقات التواصل معهم، حتى لكأنهم خلق آخر، لا يألفون أحدًا ولا أحد يألفهم... وها هي مظاهر حياتهم تثبت ذلك في كل عصر ومصر عاشوا فيه، حيث كانت مفاسدهم تنعكس دائمًا على علاقاتهم بغيرهم. فما إن يستظهرون حتى يسارعوا إلى العتوِّ والظلم، وإلى زرع الفتن والمؤامرات، ومحاولة الغلبة والسيطرة على بقية الشعوب، وعلى مقدراتهم وخيراتهم... لذلك كانوا دائمًا معتدين ظالمين، أو متآمرين مخادعين. وكان في علم الله ـــــــ سبحانه ـــــــ ما يتأصَّل في نفوسهم من شرور، فكان إعلامه ـــــــ سبحانه ــــــ لهم في الكتاب، أنهم ليُفْسِدُنَّ في الأرض مرَّتَين... وعادَ الإعلامُ نفسُهُ في القرآن الكريم يؤكّد للناس جميعًا بما وُعد به بنو إسرائيل في الكتاب.
    لكنَّ هذا الإعلام القرآني مرتبط بوعيد، وهو أنَّ عودتهم إلى الفساد تتلازمُ مع سوء المنقلب عليهم، إذ سوف تعود الجماعة نفسها من عباد الله المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، لكي تجوس خلال ديارهم وتنزل بهم سوء العذاب. ويؤكد النص القرآني على «ذات الجماعة» التي تسوم اليهود العذاب في المرة الأخرى، لأنَّ هذه الجماعة اختارها ربُّها لأداء هذه المهمة، وأوكل إليها أن تقتصَّ من المفسدين، وتجتثَّ الفسادَ الذي نشروه في الأماكن التي عمروها. ثم تعود هذه الجماعة وتدخل المسجد كما دخلته أوَّل مرَّة، بعد أن تدمِّر كل ما أقاموا تدميرًا...
    سبحان الله العزيز الذي وسعت رحمته كل شيء، إذ على الرغم من الهلاك الذي يحلُّ ببني إسرائيل، فإن العليَّ القديرَ ينبِّههم بأن يعتبروا، ويوقنوا بوعد الله، ويؤمنوا به ربًّا عزيزًا حكيمًا، ويلتزموا بكتابه وسنَّة رسوله، فيرحمهم...ولكن إلى جانب هذا التنبيه اللطيف الرحيم، يأتي الوعيد والتهديد بأنهم إن لم يعتبروا، ولم يرعووا، فهم في النهاية كافرون، ومصير الكافرين معروف: إنه جهنم وبئس المصير...
    ولقد جَهِدَ الباحثون في تقصِّيهم عن «الجماعة» التي تجتثُّ فسادَ بني إسرائيل مرَّتين، والتي عبَّر عنها القرآن الكريم بلفظ (عبادًا لنا). هذا التعبير الذي ينسجم مع الدور الذي يوكل إليهم من الله تعالى... فقالوا إن ذلك حدث في التاريخ عندما أفسدوا في الأرض أول مرة بقتل زكريا عليه السلام فبعث عليهم «جالوت» وجنوده فقتلوهم وسبوا نساءهم وأولادهم، وخرَّبوا بيت المقدس... وقالوا أيضًا إن ذلك حصل على يد أحد ملوك الفرس، أو على يد ملك بابل نبوخذ نصَّر، أو على يد أحد ملوك الرومان واسمه أنطياخوس... بحيث غزا ملوك من تلك الشعوب بيت المقدس، وقاموا بقتل اليهود وسبي أعداد كبيرة منهم، وأخذهم عبيدًا إلى بلادهم. وكان ذلك يتم كل مرة بعد هدم الهيكل، وما حوله من عمران!...
    أما نحن فنرى أن عباد الله المقصودين في النص القرآني الكريم (في الآية 4 من سورة الإسراء) هم غير أولئك الذين ذُكروا... وندلل على ذلك بأربعة أمور:
    الأمر الأول: يقول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}. فقد ورد عن المفسرين أنَّ الكتاب المقصود هو التوراة... ونحن نرى أن كتاب التوراة المقصود هو ما جاء ذكره في الآية (2) من سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً}...
    أما الكتاب المقصود في الآية (4) من سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} فهو القرآن. ولفظة «الكتاب» هنا ـــــــ في هذه الآية ـــــــ تدل على العموم، فمن الممكن أن يكون الكتاب هو التوراة أو أن يكون هو القرآن الكريم. والذي يحدّد ذلك هو القرينة. ونستدل على هذه القرينة من الآيات الواردة في أواخر سورة الإسراء حيث يقول الله تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)‏ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}. فالقرينة هنا تدل على أن «الكتاب» هو القرآن بدليل ذكر «وعد الآخرة» التي وردت في مطلع السورة، وبدليل أنه يذكر القرآن صراحة {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}، وبدليل {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} وهؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين يقولون إن القرآن هو من عندالله تعالى وأنما يَعِدُ به محقق لا مناص منه، لأن وعد الله تعالى واقع حتمًا ولا يحول شيء في الدنيا، مهما عظم، دون وقوعه ونفاذه.
    واستنادًا إلى ذلك كله نرى أن لفظة «الكتاب» الواردة في الآية الرابعة من سورة الإسراء إنما تختص بالقرآن الكريم لوجود القرينة عليها في أواخر السورة.
    وبعد هذا كلّه، إذا أصرَّ بعضهم على أن «التوراة» هي المعنية في الآية الرابعة المذكورة، بغضّ النظر عن القرائن التي سردناها، فإن القرآن المجيد قد وصفه الله تعالى بأنه «الكتاب» في قوله عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (سورة فصلت: الآية 3).
    وسواء كان المقصود بالكتاب التوراة أو «القرآن» فالمهم أن القرآن قد تضمن الحكم الذي قضى به الله تعالى إلى بني إسرائيل. وهذا الحكم، الذي ورد في التوراة وأُخفي عن الناس، يجب ألّا يخفى بعدُ والقرآن بين ظهرانينا لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (سورة النمل: الآية 76).
    إن ما سوف يحلّ باليهود، تحقيقًا لقضاء الله تعالى فيهم، سيقع لا محالة ما دام أن القرآن الكريم يؤكد وقوعه. وهذا ما يثبته قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (سورة المائدة: الآية 15). وواضح أن «الكتاب» هنا، الوارد ذكره في آخر الآية الكريمة، هو القرآن الكريم. وفي هذه الآية يذكر الله تعالى أنه قد بعث رسولَهُ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ليبيّن لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) كثيرًا مما كانوا يخفونه مما جاء في التوراة والإنجيل. ومن ذلك الذي أُخفي وجوبُ اتِّباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدخولُ في الدين الذي يدعو إليه. ومنه أيضًا ما سيؤول إليه أمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدنيا والآخرة إن هم لم يؤمنوا ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصدقوا القرآن الكريم ويعملوا به...
    ومن البراهين التي تدل على «وعد الآخرة» التي أتى على ذكرها القرآن الكريم في أواخر سورة الإسراء أن يجيء الله تعالى باليهود لفيفًا. واللفيف من الناس يعني المجتمعين من أماكن شتى، أو من جماعات مختلفة، لذلك يقال: جاؤوا ومن لفَّ لفَّهم، أي جاؤوا مع من انضمَّ إليهم... ويتأكد هذا المعنى لغويًّا أيضًا بقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (سورة النبأ: الآية 16)، أي بساتين التفّت أشجارها وتكاثفت أغصانها بعضها على بعض لكثرتها... وبذلك يصبح معنى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}: جئنا بكم جماعات جماعات حتى تكثروا بعد أن ينضمَّ بعضكم إلى بعض... وهذا ما نراه اليوم بالعين المجردة حيث يتوافد اليهود إلى «دولة إسرائيل» بالمئات والألوف، من كل بلدان العالم وخصوصًا من الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية كلها... وهذا ما تعمل له منذ مدة طويلة الصهيونية المسيحية السياسية، والصهيونية اليهودية اللاهوتية، وقد رأينا أنهم يتخذون من نبوءات التوراة والإنجيل سبيلًا لتجميع اليهود في أرض «الميعاد»، لكي يصبح عددهم نحو تسعة ملايين شخص. وبعد ذلك، وبحسب نظرية الإنجيليين الأصوليين، تحصل حرب «هرمجدون» حيث يقضى فيها على اليهود، فلا يبقى منهم سوى مئة وأربعة عشر ألف شخص فقط هم الذين يتولون دفن موتاهم على مدى أسبوع من الزمان... ثم يظهر السيد المسيح في مجيئه الثاني، فيؤمن به اليهود، ويتحولون إلى نصارى، بحيث ينتهي المعتقد اليهودي في العالم. وهذا ما يورده كتاب «النبوءة والسياسة» كما تحدثنا عنه سابقًا...
    ويبدو أن هذا الاعتقاد بات راسخًا في أذهان الملايين من المسيحيين واليهود.وبسببه نجد هذا الدعم الدولي في تهجير اليهود إلى فلسطين. وهي هجرة منظمة منذ سنوات طويلة، تقوم على إجراءات مدروسة. منها:
    1 ـــــــ جواز السفر الذي تمنحه السلطات في الاتحاد السوفياتي للمهاجر اليهودي. وهو جواز خاص لا يصلح إلا لسفرةٍ واحدة. ويمكن استعماله من دون أن يكون صاحبه قد حصل على تأشيرة دخول إلى دولة أخرى، مما يجعل هذا المهاجر مدفوعًا للتوجه إلى «دولة إسرائيل» التي تستقبله فور نزوله من الطائرة، وتؤمن له المأكل.
    2 ـــــــ تبرع خطوط الطيران في بعض دول أوروبا الشرقية مثل هنغاريا، ورومانيا وبولندة لنقل المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ويتم نقلهم عبر عملية مدروسةٍ بدقة وسرّيةٍ تامتين، وذلك تحقيقًا لمآرب كثيرة تتوخى الدول التي تشارك فيها تأمين مصالحها الذاتية من خلالها.
    3 ـــــــ اتخاذ الإدارة الأميركية قرارًا بتقييد انتقال اليهود المهاجرين إليها بقيود كثيرة وصعبة، فُرِضت بعد إطلاق حرية الهجرة لليهود من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وذلك يهدف إلى جعل المهاجرين يتوجهون إلى «دولة إسرائيل» وليس إلى الولايات المتحدة الأميركية.
    وإذا كان وهم المخططين لتلك الأمور يجعلهم يعتقدون بأن خططهم قد تحقق نتائجها فتقوم دولة إسرائيل الكبرى في حلم اليهود التاريخي، ويعود السيد المسيح ثانية في نبوءات الإنجيليين الأصوليين، فإننا نقول لهم أن ذلك قد يتحقق من حيث زيادة قوة اليهود واحتلالهم أراضي عربية جديدة، وإقامة الكيان اليهودي الذي يجمع معظم يهود العالم... لكن النتائج التي يتوخونها غير مضمونة، إذ سيحل الفناء بأكثرية سكان الأرض، وذلك نتيجة حرب نووية لا بد من أن تقع بسبب انتشار الفساد والظلم، وخصوصًا أن هنالك امتلاكًا لمخزون كبير من الأسلحة النووية. وقد ثبت أنه ما من سلاح اخترعه الإنسان، منذ بدء التاريخ وحتى يومنا هذا، إلَّا استعمل استعمالًا كاملًا. وعندئذٍ سوف تقع الكارثة على البشرية جمعاء، وليس على اليهود وحدهم... ولكن ما نستغربه حقًّا، هو كيف يرضى اليهود أن يجتمعوا من كل أقطار الأرض في فلسطين، في حين أن «النبوءات» التي تروّج لها الصهيونية تقول بأن اجتماعهم هو الشرط اللازم للقضاء عليهم؟.
    خلاصة القول إنّ في القرآن الكريم إخبارًا عما قضى الله تعالى إلى بني إسرائيل من حكم عندما يرتكبون الفساد في الأرض مرتين. وفي علمه وحده ـــــــ سبحانه ـــــــ ما سيكون عليه مآلهم أو مصيرهم في مقبل الزمان من عمر الكرة الأرضية. ولعله هو الزمان الذي نشهده اليوم...
    الأمر الثاني: إن الذين يقاتلون «بني إسرائيل» هم عباد لله تعالى. وحتى تنطبق عليهم لفظة «عباد لله» يجب أن يكونوا من المؤمنين بالله الواحد الأحد، غير مشركين به. فهم إذًا من أهل عقيدة التوحيد، وعليهم أن يقاتلوا من أجل إعلاءِ كلمة الله حتى الشهادة. ولولا هاتان الصفتان لما اصطفاهم ربُّهم ـــــــ سبحانه ـــــــ واختارهم لقتال قومٍ ما عُرفوا على مدار التاريخ إلَّا أعداءً لأنبياء الله، وللعباد جميعًا، لأنهم يتوهمون بأنهم شعب الله المختار، ولهم السيادة على سائر الشعوب، ولهم الحقّ في استعبادها، وإخضاعها لإرادتهم ومطامعهم...
    والأمر الثالث: هو أن الجماعة المؤمنة التي بعثَها الله تعالى لتهزم بني إسرائيل وتجوس خلال ديارهم، يجب أن تكون هي الجماعة نفسها التي سوف يردُّ الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لبني إسرائيل الكرَّة عليها... ولم نعلم في التاريخ أن اليهود حاربوا أهل فارس، أو أهل بابل، أو الرومان، واحتلوا بلادهم، وانتصروا عليهم... فاليهود ومنذ خروجهم من مصر أيام النبي موسى عليه السلام لم يؤسسوا لهم دولة يُعتدُّ بها إلَّا عندما امتثلوا لأوامر الله تعالى في ظل الأنبياء وبقيادتهم. ومنذ ذلك الوقت، لم يُعرف أنه قامت لبني إسرائيل دولة، بل لم يكن عندهم مجتمع معين خاص بهم، إلَّا ما أنشأوا من وحداتٍ آهلة في شبه جزيرة العرب كما في المدينة وخيبر، أو في اليمن على عهود بعض ملوك حمير... غير أنهم، بعد ظهور الإسلام، ونظرًا إلى عدم استجابتهم لهذا الدين وعدم قدرتهم على العيش في ظل دولة الإسلام التي كانت أول دولة عادلة أقامت شرع الله على الأرض بقيادة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم... لهذه الأسباب جميعها خرجوا من الجزيرة العربية، فارتحلت جماعة منهم إلى أذرعات في سوريا، وذهبت أخرى إلى بيت المقدس في فلسطين... كذلك كانت تعيش جماعات منهم في بلدان شتى من أنحاء العالم...
    إذًا فالتركيز هو على معاودة اليهود لبناء أنفسهم، وقيامهم بالكرَّة على الجماعة نفسها التي بعثّها الله عليهم أول مرة... فإن لم تكن لهم دولة، وقوة، وجيش، فكيف يمكن أن يعاودوا تلك الكرَّة؟
    ثم إن الجماعة نفسها يجب أن يكون لها استمرارية، وطبعًا لا تكون هذه الاستمرارية بالأشخاص، ولا بالقيادات، بل يجب أن تكون بالعقيدة والرسالة. ثم يجب أن تكون عقيدتها الحقّ، كي يتوافق إعدادها وتربيتها مع وعد الله ـــــــ سبحانه ـــــــ الموعود... كذلك فإن استمرارية العقيدة للجماعة المؤمنة بها، ووحدة هذه العقيدة، تؤكدان استمرارية بني إسرائيل بسبب وحدة العقيدة التي يدينون بها: ألا وهي اليهودية... هذه اليهودية التي تطبعهم بطابعها الخاص كجماعة معيَّنة، بغضّ النظر عن الأفراد، والقادة والحكَّام... وهكذا يجب أن يكون عبادُ الله الذين يقاتلونهم في المرَّتَين، الجماعة نفسها من خلال وحدة العقيدة التي هي عليها، واستمرارية هذه الجماعة عبر هذه العقيدة...
    والأمر الرابع: هو أن الدِّيار التي تحصل فيها الأحداثُ، يجب أن تكون مهمةً في نظر اليهود إذ هي الديار التي ينشئون فيها العمران، ويقيمون عليها ملكًا أو حُكمًا خاصًّا بهم... ولم يكن في الأرض كلِّها غير «فلسطين» أرض مهمّة لبني إسرائيل، إذ هم يعدّون أنها الأرض التي وعدوا بها في التوراة. وسواء أصحَّ اعتبارهم أم لم يصح، فقد أثبت التاريخ أنَّ تطلُّعهم هم وأنصارهم المحرضين لهم كان دومًا لأرض فلسطين. وقد عُرض عليهم إقامة دولةٍ لهم في إفريقيا أو في غيرها، فلم يرضوا بذلك، وأصرُّوا على الرجوع إلى فلسطين من أجل إعادة بناء هيكل سليمان، في بيت المقدس، زاعمين أنه كان قائمًا حيث المسجد الأقصى. لكون بيت المقدس، أو ما جاوره من الديار، كان مقرًّا أو ممرًّا لغالبية أنبياء الله تعالى: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وشعيب، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى ـــــــ عليهم السلام ـــــــ ولذا فهو يمثل في نظر اليهود الركيزة لبناء دولة يجتمعون فيها، بدل أن يظلوا مشردين في مختلف أنحاء الأرض...
    والتركيز في الديار شيء مهم، لأنها المسرح الذي سوف تؤدي عليه حركة التاريخ ـــــــ بإذن ربها ـــــــ دورًا مهمًا في بقعة الشرق الأوسط من العالم، وتحديدًا في فلسطين وفي جوار بيت المقدس. وهو المكان نفسه الذي يعيّنه القرآن الكريم كما يدلُّ النص القرآني في قول الله تعالى: {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (سورة الإسراء: الآية 7). والمسجد في هذا النص هو المسجد نفسه الذي جرى الإخبار عنه في الآيات السابقة التي وردت في مطلع سورة الإسراء وفيها إخبار بالحدث العظيم، بل بالمعجزة الخارقة التي حصلت للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما أسرى به ربه سبحانه من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. ويثبت السياق القرآني هذه الحقيقة في تلازم الآيات وتتابعها، إذ يقول الله تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (سورة الإسراء: الآية 1).
    فالمسجد الأقصى قد بارك اللهُ حولَهُ، لكي يكون المكان الدائم والثابت الذي يراه الإنسانُ بأم العين، فيتخذه دليلًا على عظيم آياتِ الله، وقدرته سبحانه، وجميل بركاته. ومن دلالات بركات هذا المكان حصول معجزة المعراج فيه وهي معجزةٌ كبيرةٌ في معانيها البعيدة، وفي مراميها الخيِّرة. وقد شاء الله سبحانه أن يُريَ نبيَّهُ المصطفى من آياتِهِ البيِّنات مما لم يره أحَدٌ من العالمين، فيستدلُّ الناسُ بذلك على وجود اللهِ سبحانه وتعالى، وعلى حكمته في خلقه، وإخضاعِهِ هؤلاء الخلق جميعًا للقوانين التي يرسمها لهم، وللنُّظم التي يُنزلها عليهم...
    وأما الحكمة من الإسراء والمعراج، فتتجلَّى، وفق مفهومنا البشري، بأن ذلك كان حدثًا استثنائيًّا، لا يدخُلُ في حسابات دورة الزمان، ولا ترصدُهُ حركة التاريخ. لكنَّ ارتباطه ببيت المقدس، وبالمسجد الأقصى بالذات، يعطي لهذا المسجد أهمية خاصةً في سير حياة البشرية، إذ يجعلُهُ الله تعالى شاهدًا على الأحداث التي تجري بين بني إسرائيل والمؤمنين، والتي تعبِّر عن تقلّب حركة التاريخ ومداولة الأيام بين الناس... كما جعله شاهدًا على «الإسراء والمعراج» بانفلاتهما من حركة التاريخ، ومن دورة الزمان...
    وهنا تتجلى عظمة القرآن وهي تُثبتُ حكمة الله تعالى في خلقه، وفي مشيئته سبحانه كيف يبين الآيات لقوم يعقلون، ليدركوا أنَّ كلَّ أمرٍ مردُّه إلى الله، وكل شيء مصيره لمشيئة الله. ولا مجال إذًا لإنكار الناس هذه الحقيقة، ولا مجال لاتخاذهم من دونه ربًّا، ووكيلًا... ذلك ما يوصي به عباده في جميع الرسالات السماوية، كما فعل مع بني إسرائيل عندما أوحى إلى النبيِّ موسى عليه السلام ألَّا يتخذَ بنو إسرائيل من دون الله وكيلًا!...
    وإذا أردنا أن نطبق ذلك كله على الواقع الذي حصل، والذي تثبته أحداث التاريخ، لتبيّن لنا بوضوح أن الإسراء حصل من مكة المكرمة نحو السنة الحادية عشرة لمبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي قبل هجرته إلى المدينة المنورة بسنتين، وفي وقت لم يكن قد نشب فيه أي قتالٍ بين المسلمين واليهود بعد...
    ... وكان في المدينة من أمر اليهود ما كان، عندما لم يراعوا العهود ونكثوا بالمواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم راحوا يتآمرون، ويُؤَلِّبُون الناسَ عليه، حتى قاتلهم، وغزا ديارهم في خيبر وحولها، وفرَّق جموعهم، بحيث لم يبقَ في تلك الديار منهم إلَّا نفرٌ قليل، أقرَّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على البقاء، شرط عدم التآمر على الإسلام وأهله...
    وانتقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، واستمرت بعده فتوحات الإسلام، ودخل المسلمون المسجد الأقصى أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه...
    ومن يتقصَّ أخبار اليهود في بلاد العرب والمسلمين، يتبيَّنْ له فسادُهُم في الأرض، بما حاكوا من دسائس على أهل نجران حتى قتلوهم تلك المقتلة العظيمة وأحرقوهم بالأخدود، ثم تتبيَّن له فتنتهم بين الأوس والخزرج في يثرب، وما أوقعت دسائسهم من قتلى بين الفريقين ـــــــ وكل ذلك كان قبل الإسلام ـــــــ ثم يظهر له إصرارهم الشديد على محاربة الإسلام والكيد لرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
    وكان اليهود قد نشروا الفساد من حولهم حتى استشرى في بلاد العرب حيث كانوا يعيشون في رغدٍ من العيش... ثم جاءَ الإسلام فأرادَ الله سبحانه اجتثاثَ ذلك الفساد فإذِن لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقاتلهم ليسوءَ وجوههم، ثم تعقَّبهم المسلمون إلى بيت المقدس حيث تمَّ الفتح، ونشر الإسلام رايته في تلك الديار...
    وتتعاقب الأيام، ويطبَّق حكم الإسلام في فلسطين حيث المسجدُ الأقصى، ويستمر الحكم الإسلامي حتى نهاية الخلافة العثمانية... وفي تلك الحقبة الطويلة كان اليهود، في كل أنحاء الأرض، يعدُّون العدَّة سرًّا، ويتهيَّأون للعودة إلى فلسطين، أي لإعادة الكرَّة على المسلمين... ويحين الوقت، وتأتي نكبة الحربِ العالمية الأولى على الخلافة العثمانية التي كانت آخر دولة إسلامية. ويكون وعد بلفور البريطاني عام 1917م بإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين. وتفعل السياسة البريطانية فعلها، وتُنتدب بريطانيا على فلسطين لتحقيق الحلم اليهودي...
    وسخَّر اليهود الانتدابَ البريطاني لخدمتهم فتمّ اغتصاب فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية، على أشلاء العرب المسلمين وفوق أرضهم وديارهم. وتحقق الحلم اليهودي وقامت الدولة العبرية عام 1948م بتواطؤ فاضح بين الحركة الصهيونية والدولة البريطانية...
    وها هُمُ اليهود اليوم ما زالوا يستقوون ويستعلون، وما زالوا يتكبرون ويظلمون المسلمين من حولهم باحتلال أراضيهم، وتدمير منشآتهم، وتهديم عمرانهم، وغزو بلادهم، وما زالوا يذيقون المسلمين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أمرَّ العذاب، ويمارسون عليهم أقسى الإجراءات التعسفية الظالمة وأشدّها. وقد وصلت بهم الحال إلى اقتحام المسجد الأقصى عليهم وهم يصلّون، فارتكبوا مجزرة راح ضحيتها في الأمس القريب مجموعة من المسلمين. وكان ذلك في شهر ربيع الأول 1411هـــــــ (تشرين الأول 1990م).
    وهكذا يمكن أن نخلص إلى قناعةٍ راسخةٍ وهي أنه مهما تألبت قوى الشر على المسلمين، ومهما قدّمت هذه القوى من دعمٍ لليهود بالرجال والأموال والسلاح، فإنَّ {وَعْدُ الآخِرَةِ} الذي قضاه الله تعالى إليهم في الكتاب سوف يتحقق لا محالة وسوف يجوس {عِبَادُ اللَّهِ} ـــــــ تعالى ـــــــ مخلصون له الدين، خلال ديارهم ويدمّرون ترسانتهم الحربية، ويهدمون ما عمرته أيديهم.
    إنَّ الله تعالى لا يخلف وعده، فهو سبحانه عندما أتى على ذكر الوعد الأول في الآية رقم 5 من سورة الإسراء، فقال: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً}. وعندما أتى على ذكر وعد الآخرة في أواخر هذه السورة المباركة في الآية رقم 108، قال سبحانه على لسان أهل العلم من أهل الكتاب {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}.
    فلا خوفَ إذن على الأمة الإسلامية مما يتوعدها به العالم كلّه، سواء باستعمال الأسلحة النووية أو بما هو أشدّ فتكًا منها...
    إن الخوف على المسلمين إنما يكون من أنفسهم لا من غيرهم، لأنهم يملكون ما هو أشد قوة، يملكون العقيدة الصحيحة المبنيَّة على العقل والمتفقة مع الفطرة. وهذه العقيدة هي الرابطة الوحيدة التي تصل الإنسان بربّه حق الاتصال. كيف لا، والقرآن الكريم جزءٌ منها، وهو حبل الله الممدود: من تمسك به نجا ومن ابتعد عنه سقط وهوى...
    والعقيدة هي ما عقد عليه القلب. والعقيدة الإسلامية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيرهما وشرهما. فيكون القرآن من العقيدة، وهو الكتاب الذي لم تستطع أن تحرِّفه أيدي البشر، لأنّ الله سبحانه قد أحاطه بعنايته.
    والعقيدة التي يؤمن بها المسلمون، عليهم أن يعرضوها على الناس عرضًا حسنًا، لا أن يفرضوها فرضًا سيئًا، بذلك أمرهم ربّهم بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (سورة البقرة: الآية 256).
    فإذا آمن بها الناس ملكتهم وما يملكون. إذًا فبين أيدي المسلمين منهج واضح لعقيدة متكاملة، إذا أحسنوا تطبيقه على أنفسهم كانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (سورة آل عمران: الآية 110)، وإذا أحسنوا عَرْضَهُ على الآخرين ازدادوا بمن اهتدى منهم قوّة وعددًا.
    وبناءً عليه لا يكون الخوف على المسلمين إلا بابتعادهم عن دينهم، لأن هذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله تعالى لهم هو سرّ قوتهم وعماد نصرتهم. وقد أثبت المسلمون الأوائل ذلك، حيث إن الامبراطوريات التي دمروها، بقوة إيمانهم وصدق عزيمتهم، كانت أكثر منهم قوة وأشد منهم بأسًا.
    إذًا فلا خوف على المسلمين إن هم آمنوا بهذه الحقيقة وعملوا لها، لأن الله تعالى هو معهم. وقد أنزل قرآنه المجيد بالحقّ، فلا مناص من أن يتحقق ما فيه. قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران: الآية 139).[/align]

  9. #9

    افتراضي

    الفصْل السَّابع: الوقائِعُ والأحدَاثُ تشهدُ للقرآن بأنَّه الحَقّ
    كلّ ما ورد في القرآن الكريم حقائق ثابتة، ومن هذه الحقائق حقيقة التوحيد ومدارها الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا... وما بعد ذلك فشرك بالله تعالى ـــــــ والعياذ بالله ـــــــ فلا يغالِ الناس في دينهم، ولا يصرفنَّهم عن هذا الحق صارف، لأن رجوعهم في النهاية إنما هو لله تعالى. وكل من في السماوات والأرض إلَّا آتي الرحمان عبدًا...
    والقرآن الكريم هو كتاب الله المبين. وإنه لَلْحق من ربكم مثلما أنكم تنطقون. يقول الله تعالى منزّله: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (سورة الإسراء: الآيتان 105 ـــــــ 106).
    القرآن الكريم نزل بالحق ليكون آية دائمة، ونزل مفرقًا ليقرأ على مهل في الزمن الطويل. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن».
    ولقد أنزل الله تعالى هذا القرآن قائمًا على الحقّ {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ}... وأنزله ـــــــ سبحانه ـــــــ ليقرّ الحقّ في الأرض ويثبته {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}. فالحقّ مادته والحقّ غايته، ومن الحقّ قوامه، وبالحقّ اهتمامه. إنه الحقّ الأصيل الثابت في ناموس الوجود كله، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه. فالحقّ سداه ولحمته، والحقّ مادته وغايته، والرسول مبشر ومنذر بهذا الحقّ الذي جاء به.
    والقرآن الكريم يتوجه إلى الجماعة المسلمة ليحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها. ويحدثها عن المصاعب والمتاعب والآلام التي تعترضها، والعقبات الكؤود التي يجب عليها اقتحامها، ويهيب بها أن تتحلَّى بالصبر والتقوى والعزم والاحتمال. ومن تلك التوجيهات القرآنية للأمة المسلمة قوله الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران: الآيتان 185 ـــــــ 186).
    من الحقائق التي يجب ألَّا تغيب عن البال، وأن تستقرَّ في النفس، أن الحياة على هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل مسمًى، ثم تأتي نهايتها حتمًا عن طريق الموت. ولا أحد يفرّ من هذا المصير، من هذا الموت الذي يطاول الصالحين والطالحين، المجاهدين والقاعدين، المستعلين بالعقيدة، والمستذلين كالعبيد... يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف السامية، كما يموت السخفاء التافهون الذين يعيشون من أجل المتاع القليل الرخيص. الكل يموتون... كل نفس تذوق الموت وتفارق هذه الحياة، ولا فرق بين نفس ونفس في تجرع هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما يكون الفارق في المصير الأخير، المصير الذي يفترق فيه كل إنسان عن الآخر، والمصير المخيف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب. {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}. ولفظ «زحزح» بذاته يصور معناه بجرسه، وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ويدخل في مجالها، فهو في حاجة إلى من يزحزحه، أي يبعده قليلًا، ليخلصه من جاذبيتها الشديدة! فمن أمكنه أن يُزحزح عن مجال النار، ويُستنقَذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة فقد فاز...
    إنها الصورة ذات الحركة شدًّا وجذبًا، وهي صورة الجاذبية للنار! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها عن جاذبية المعصية؟ بلى. وهذه هي زحزحتها عن النار. أليس الإنسان ـــــــ حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة ـــــــ يظل أبدًا مقصرًا... إلا أن تدركه رحمة الله تعالى؟ بلى.
    {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}... إنها متاع، لكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة. إنها متاع الغرور، متاع الخداع، متاع الغفلة والنسيان. وعندما تستيقن النفس البشرية هذه الحقيقة تُخرج من حسابها حكاية الحرص على الحياة التي لا يوجد فيها إلا القليل، الزهيد الزائل، وتستعد عندئذٍ لِتَقَبُّلِ كل ما يعترضها من مكاره... وعندئذٍ يحدّث الله تعالى المؤمنين عما ينظرهم بقوله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران: الآية 186).
    إنها سنّة العقيدة والدعوة، التي أرادها الله العلي العظيم، لتكون إحدى السنن التي ترتكز عليها حركة التاريخ: لا بد من البلاء، وهذا البلاء يطاول الأموال والأنفس... ولا بد من الأذى، وهذا الأذى يجب أن يقابله صبر ومقاومة واعتزام، وخصوصًا من الأنبياء والأولياء والصالحين. يخبر بذلك رسولُ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل: من أشد الناس بلاءً يا رسول الله؟ فقال: النبيون ثم الأماثل فالأماثل.ويُبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن عمله: فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن ضعف إيمانه وسخف عمله قلّ بلاؤه... هذا هو الطريق إلى الجنة، وقد حُفَّت بالمكاره بينما حفت النار بالشهوات... إنه هو الطريق لإنشاء الجماعة وتربيتها كي تنهض بتكاليف الدعوة، وليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، ولكي تعزَّ عليهم هذه الدعوة وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنتٍ وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرِّطون فيها بعد ذلك، مهما قويت الشدائد.
    ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدًا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بالدعوة إلى هذه العقيدة، أو حاولت تطبيق منهج الله الحكيم في الأرض، أو كلما اجتمع عليها أصحاب الكيد والفتنة لتشويه أهدافها وصدّها عن سواء السبيل.
    ويمضي السياق القرآني ليكشف عن مواقف أهل الكتاب في مخالفتهم عهد الله تعالى يوم آتاهم الكتاب، ونَبْذِهِمْ له، وكِتْمَانِهِمْ لما ائتمنهم عليه حين يُسألون عنه: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (سورة آل عمران: الآية 187).
    وفي سورة آل عمران تبيان لكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم، وبخاصة اليهود. وأبرز تلك الأفاعيل والأقاويل: كتمانهم للحقّ الذي يعلمونه، وتلبيسه بالباطل لإحداث البلبلة والتشكيك في صحة الإسلام، وفي وحدة الأسس بينه وبين الأديان قبله، وفي تصديقه لها، وتصديقها له... وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقّ، وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوراة.
    والآن يبدو هذا الموقف منهم بشعًا غاية البشاعة، حين يبيّن الله سبحانه أنه أخذ عليهم العهود وهو يعطيهم الكتاب أن يبينوه للناس، ويبلغوه، ولا يكتمونه أو يخفونه... وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله تعالى، حيث يتمثَّل إخلافهم للعهد بحركة حسية يقوم بها الإنسان {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} ولا يكتفون بذلك {وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} هو عَرَضٌ من أعراض هذه الدنيا، ومصلحة شخصية مادية للأحبار والكهنة. وكله ثمنٌ قليلٌ حتى ولو كان ملك الأرض وعلى مر الدهور! فما أقل هذا ثمنًا لعهد الله! وما أقل هذا المتاع حين يقاس بما عند الله تعالى! فبئس ما يشترون.
    ومن التوجيهات الربانية للأمة الإسلامية قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} (سورة آل عمران: الآيتان 110 ـــــــ 111).
    وفي هذا ما يدل على أن أولئك الناس الذين اعتنقوا الإسلام وعملوا بالقرآن صاروا أمة لها كيانها بين الأمم، وهي الأمة الإسلامية. ومن خصال هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله العلي العظيم... وهذه الخصال هي الشرط والجوهر في كون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس. وهذا التعبير بكلمة «أخرجت» ـــــــ المبني لغير الفاعل ـــــــ يكاد يدل على اليد المدبّرة اللطيفة، التي أخرجت هذه الأمة إخراجًا، ودفعت بها دفعًا إلى الظهور من غياهب الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله علَّام الغيوب... إنها «كلمة» لكنها في الحقيقة تعبّر عن حركة تُخرج على مسرح الحياة أمة لها صفات خاصة، ودور خاص، كما أنَّ لها مقامًا خاصًّا، وحسابًا على أعمالها خاصًّا. وهذا ما يجب أن تدركه الأمة الإسلامية.
    أما غير الأمة الإسلامية من الناس، ولا سيما أهل الكتاب منهم، فلو آمنوا، لكان ذلك الإيمان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة. ولقد آمن بعضهم بحقّ، واعترفوا بما دلّت عليه كتبهم من بعث خاتم النبيين، والدعوة إلى الإسلام دينًا وحيدًا منذ آدم عليه السلام وحتى نهاية البشرية. ومن أولئك الذين آمنوا بذلك عبد الله بن سلام وأصحابه من أهل التوراة، والنجاشي وأصحابه من أهل الإنجيل. وتطالعنا الأخبار، قديمًا وحديثًا، عن إيمان أفراد من النصارى، ومع ذلك فإنهم يظلّون فئةً قليلة العدد، ويظلُّ أكثرهم من الضالين الخارجين على طاعة الله تعالى.
    وقد عمد اليهود، عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب ـــــــ المدينة المنورة ـــــــ إلى الإضرار به وبأتباعه، وتعاونوا مع المشركين على ذلك. ويؤكد القرآن الكريم أن ذلك الضرر لن يكون ضررًا عميقًا، ولا يستطيع أن يتناول أصل الدعوة، ولن يؤثر في كينونة الأمة الإسلامية. إنما هو أذًى عارضٌ في الصدام، وألمٌ ذاهبٌ مع الأيام.
    لكن التعقيب القرآني على ذلك يرسم النتيجة الحاسمة:
    {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (سورة آل عمران: الآية 112).
    والحبل من الله سبحانه هو عهده وميثاقه بإجماع المفسّرين. كما أن الحبل من الناس يكون بالعهد منهم على وجه الذمة أو غيرها من وجوه الأمان.
    وقد بيّنا تلك المعاصي التي كان يرتكبها اليهود بصورة خاصة من أهل الكتاب، حتى قضى حكم الله تعالى عليهم بأن يكونوا أذلاء أينما وجدوا، وألّا يجدوا نصيرًا يدفع عنهم الذل، إلا أن يشاء الله ذلك فيرفع عنهم هذا الذل، أو يرفعه بعض الناس عنهم، ولكن لفترات معينة، لأنَّ غضب الله تعالى حالّ عليهم والمسكنة تعيش في ضمائرهم، وتكمن في مشاعرهم. ومنذ أن ضرب الله تعالى عليهم هذا العقاب الدنيوي عاشوا في الحياة أذلاء، مساكين يستجدون عطف الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها، حتى إذا غدا استدرار العطف ديدنهم، ونجحوا فيه، اتخذوا الذلَّة والمسكنة سبيلًا في تنفيذ مآربهم... ومن كانت هذه خصالهم، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، والفساد بين الناس فعالهم، فلا يمكن أن تكون لهم الغلبة في النهاية!... حاش لله أن يكتب لهم ذلك!.
    ونحن عندما نتلمس تلك الحقائق القرآنية، بما هدانا إليه ربنا تعالى، فلكي نزيل الغشاوة عن قلوب الناس، فيعوا تلك الحقائق، ولكي ندل المسلمين على الطريق فيعرفوا موقعهم بين الأمم. ونحن في ذلك كله لا ننكر أن معظم دول العالم تقف حتى اليوم إلى جانب اليهود، تؤازرهم وتناصرهم وتمدُّهم بكل أسباب القوة من الأسلحة الحديثة، وبكل أنواع المساعدات من الأموال وغيرها حتى صار لهم ذلك النفوذ القوي. ويكفي للتدليل على نفوذهم أنهم لا يأبهون لقرارات «هيئة الأمم»، وهي تمثل دول العالم في القرن العشرين. تلك القرارات التي تصدر عن مختلف أجهزتها، وهي تدعوهم للاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني من مسلمين ومسيحيين، وإلى إعادة الأرض التي احتلوها بالقوة لأهلها العرب المشردين، أو للانسحاب من الأراضي التي يمارسون فيها أبشع مظاهر الاحتلال الظالم الفاسد الغاشم... فهل يمكن بعد كل هذا الدعم، وبعد كل هذا التغاضي عن أفعال اليهود الإجرامية من قبل الدول الكبرى، أن يكونوا أكثر نفيرًا ممَّا هم عليه الآن؟!.
    إن تلك الأحداث المتعاقبة عبر حِقَبٍ من الزمان، تثبت في رأينا، أن المسلمين كأمَّةٍ، هم الذين اختارهم الله تعالى لقتال اليهود من أجل اجتثاث فسادهم في الأرض. لذا فقد وجب ألَّا يظنَنَّ أحدٌ من المسلمين أن اليهود يقاتلون الفلسطينيين فقط، وأنهم أعداءٌ للعرب فحسب... لا، إن اليهود هم أعداء المسلمين جميعًا أينما وجدوا. ولم يُخفِ بعض زعمائهم هذه الحقيقة عندما قالوا: «إنَّ أمْنَ إسرائيل يصل إلى باكستان»... وإذا رضيت إسرائيل أن تنسحب من سيناء مقابل سلام تزعمه، أو أنها تقبل بالانسحاب من أي أرض لبنانية أو عربية احتلتها فإن ذلك لن يحصل إلَّا بفعل عوامل مهمّة وأخصها ضغط المقاومة الإسلامية عليها، وتدهورها الاقتصادي، وعدم ملاءمة الظروف الدولية لصالحها. وسوف يكون ذلك مرحليًّا، ثم تعود بعده للتوسع واحتلال أيّ أرض عربية أو إسلامية ضمن مشروع «إسرائيل الكبرى».
    فهلَّا نظر المسلمون إلى مستقبلهم فأعدوا العدَّة لمواجهة المطامع اليهودية، وخطّطوا لمستقبلهم مستجيبين لنداء الله ورسوله؟ ولا سيما أن عند أعدائهم الاستعداد الدائم، والنظرة الواعية لما ستكون عليه حالهم في المستقبل القريب والبعيد!
    واليهود ليسوا، كما يتوهم بعضهم، قومًا لا يغلبون، بل هم قوم جبناء وليسوا بأهل حرب، والقضاء عليهم ليس صعبًا ولو كانوا أكثر نفيرًا من المسلمين. لأن الله سبحانه قد تأذَّن أن يُسَلِّطَ عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة لكفرهم وإفسادهم في الأرض حيث قال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (سورة الأعراف: الآية 167).
    وما يشاهد اليوم من قيام دولة لهم، ومن علوهم وصلفهم، وشدة تكبُّرهم وإفسادهم، ومن مظاهر القوة التي تبدو منهم إنّما كان بالدعم المالي والعسكري والسياسي من أميركا والدول الغربية المستعمرة. وكذلك بالاعتراف من قبل روسيا ومَن يدور في فلكها عند قيام دولتهم. لكن هذا الدعم سينقطع بإذن الله. وسيكون قطعه وتدميرُ دولة اليهود على يد الأمة الإسلامية إن شاء الله تعالى في نهاية المطاف، كما تدلنا على ذلك الآيات البينات في سورة الإسراء من القرآن الكريم. وكما يدلنا على ذلك أيضًا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في صحيح مسلم، إذ يروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يُقَاتِلَ المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتلْهُ».
    يجب الإفادة من حركة التاريخ بالرجوع إلى الإسلام:
    من هنا تبرز حركة التاريخ ـــــــ بإذن ربها ـــــــ ذات أهمية خاصة في حياة المسلمين، بحيث يجب أن يعرفوها حق المعرفة حتى يمكنهم الإفادة من مسارها...
    لقد قلنا: إن حركة التاريخ، في المفهوم الإسلامي، هي جند من جنود الله أو هي كلمة من كلمات الله. وهي حتمًا من صنع الله، وقد سخَّرها سبحانه لتداول الأيام بين الناس، وتداول الأزمان بين الدول والجماعات... فكان حريًّا بالمسلمين أن يَعوا حركة التاريخ هذه حتى تعود الدولة لهم، لا أن تظل الدولة عليهم. وهذا من شأنهم، لأنهم، هُمْ، من دون غيرهم، الموعودون به... إلَّا إنَّ الدولة لن تكون لهم إلَّا بالعودة إلى إسلامهم الصحيح، والسير وفق تعاليمه الحقة، والعمل بأوامر الله ونواهيه، والسير على خطى رسولهم الكريم... من هنا كان الوعي الإسلامي، والفكر الإسلامي، والالتزام الإسلامي، ضرورات ملحَّة للمسلمين حتى يمدَّهم إسلامهم بأسباب المنعة والقوة، ويزودهم بالمعاني والصفات التي فقدوها من جراء تهاونهم في تطبيقه، وأخيرًا في تركهم له...
    وإذا كنا قد أكدنا أن حركة التاريخ ليست من صنع البشر بل هي من صنع الله تعالى فإننا نؤكد أيضًا أن هذه الحركة قد يجعلها الله ـــــــ عز وجل ـــــــ تتأثر أحيانًا بفعل الشخص الواحد، وأحيانًا بفعل الجماعة. وقد لا يكون منها، في كثير من الأحيان، أي تأثر لا بفعل الأشخاص ولا بفعل الجماعات... ولكن إذا كان الشخص، أو الجماعة، على حقٍّ، ولم يهملوا أمرًا من أمورِ التحرك، فإنَّ حركة التاريخ، وإن لم تستجب لتحركهم آنيًّا، وفي الحين نفسه، إلّا إنها سوف تتأثر بفعل هذا التحرك، وسوف ينمو هذا التأثر ويتفاعل حتى يُؤتي أُكلَهُ، وتجني قطافَهُ عندئذٍ الجماعةُ التي وعَتْ قيمة الأثر الذي خلَّفَهُ ذلك الشخص، أو تركته تلك الجماعة إذا شاء الله تعالى ذلك. ولا أهمية لعامل الزمن، إن طال أو قصر، فسوف يأتي ذلك الوعي بفضل الذين أثَّر تحركهم في حركة التاريخ...
    الدور الكبير لبعض العظماء في حياة الناس:
    ولنأخذ شواهِدَ، على مدى الأثر الذي يخلِّفه عملُ أو تحرك أولئك العظام الذين اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالاته ونشرها، أو الذين اختارهم سبحانه، من بعد المرسَلين، لنصرة هذه الرسالات، حتى نتبين كم كان كبيرًا دور أولئك العظماء، وكم كان أثرهم أكبر، في حياة الناس كما ثبت في التاريخ البشري.
    صحيح أن الأنبياء الميامين، وعبادَ الله الصالحين هم نفرٌ فريدٌ في النوع البشري. وقد ملأ اللهُ تعالى عقولهم حكمةً وبصائرهم نورًا، كي يقدروا على إيصال رسالات ربِّهم إلى عباده. إلَّا إنهم كانوا أيضًا أصحابَ كفاءة في تسيير الأحداث كما شهد لهم بها العالَـــمُ بأسره...
    ويبرز السيد المسيح، عيسى بن مريم عليه السلام أحد أولئك القادة العظام. وقد كان دوره ـــــــ وهو من أعظم مفاخره ـــــــ أنَه أمدَّ حركة التاريخ بقبس نورانيٍّ، وإشعاع فكري يعجز عنه الوصف... فالسنون التي عاشها نبيًّا، ومعلمًا، ومرشدًا، وإن لم تأتِ بأي تغيير على صعيد المجتمع في وقته، إلَّا إنَّها غيَّرت عقيدة كثيرين من الناس بأن جذبتهم إلى الدِّين الذي بُعث به فاعتنقوه... لكنَّ ميزة السيد المسيح عليه السلام الأساسية تكمن في ذلك التأثير الروحي العظيم الذي خلَّفه في تلامذته وحوارييه... وفيما عدا ذلك، أي على صعيد المجتمع الذي عاش فيه نَبيُّ الله عيسى عليه السلام، فقد تركه كما كان يوم أن جاء ليعلّمه ويرشده... أي إنه تركه «خرافًا ضالَّة» على حد تعبيره عليه السلام. والخرافُ هذه هي كناية عن اليهود الذين لم تنفع معهم دعوتُهُ، مثلما لم تنفع معهم من قبله دعوة أيِّ نبيٍّ أو رسول. لأنهم كانوا دائمًا يكذِّبون أنبياءهم، أو يقتلونهم من أجل أهوائهم ومطامعهم التي كانت تتنازع نفوسهم، وتأبى عليهم الإيمان بحقيقة ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسله، بل إنها كانت تشدهم إلى الضلال بعيدًا من «الحق» ومن كُلِّ هدايةٍ وخير.
    وإذا كانت تعاليم السيد المسيح لم تُحدث على عهده ذلك التغيير الجذري في مجتمعه، والذي أحدثته في ما بعد في العالم كله، فليس ذلك لأنَّ تلك التعاليم تنقصها الحقائق المطلقة، بل لأنَّ اليهود الذين توجّه إليهم بتعاليمه كانوا لا يريدون حقائق، ولا يريدون هداية، إذ لا يشدُّهم شيءٌ إلَّا هذه الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها!... ولذا فإن عدم تغيير المجتمع اليهودي، يومئذٍ، لا ينتقص من مقام السيد المسيح عليه السلام أبدًا، ولا من دوره العظيم، بل النقص كان كامنًا في نفوس أولئك الجماعة، والخلل في نظام حياتهم. أما هو عليه السلام فيعدُّ رائدًا كبيرًا في مجالات البشرية الرحبة، وموجهًا عظيمًا نحو الخير والمحبة والسلام.
    ويكفي الرائدَ أحيانًا أن يقولَ كلمات أو أن يضيء شمعات لكي يمهد الطريق للتغيير الذي سيحصل في ميقات يومٍ معلوم... فالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام منح الدنيا تعاليمه، واستودعَها وصاياه ومواعظه، بكلماتٍ أُوحيت إليه فقالها، وبشمعات أضاءها من قبس نور الله تعالى. وقد اختزنت حركة التاريخ ذلك كلّه ليوم التغيير الشامل الذي راحت تهيّئ فرصته، وتجمع أسبابَهُ ومبرِّراته على أساس البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أعلنها السيد المسيح عليه السلام ولم يَدَعْها طيَّ الكتمان... أعلنها بملء فيه بشارةً للخلاص التامِّ الناجز الذي ينبغي أن يَطْلَعَ على العالم بنظامٍ تامٍّ ناجزٍ أيضًا يَصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ويُصلح الفرد والجماعة، ويكون أمانًا للإنسانية في معاشها ومعَادِها، ما دام للإنسانية أثر على وجه هذه الأرض...
    بشارة السيد المسيح تتحقق:
    لعلَّ أعظم أثرٍ خلَّفه السيدُ المسيحُ عليه السلام، ومن خلال الرسالة السماوية التي حَمَلَ بالذات، كانت بشارته بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (سورة الصف: الآية 6).
    وقد تحققت البشارة وأتى الميقات الموعود فعلًا وكأنه كان على موعد مع دورة التاريخ. وبُعث الرَّسولُ صلى الله عليه وآله وسلم فحمل رسالة الإسلام التي قدَّم فيها لحركة التاريخ كتاب الله، وقرآن السماء وفرقانها، الذي وضع حدود الفصل بين الحقّ والباطل...
    وانطلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صحيح مبدئه وسلامة نهجه، يهوي بمعاول إصلاحه على رموز الكفر والشِّرك ليجتثها في كل مكان وصَلَ إليه، ويقضي عليها إلى الأبد، وليُقيم على أنقاضها بناء الحقّ والعدل. بيْدَ أن عمله ذلك مع جليل قدره، وعمل المسلمين من بعده الذي اقتصر على أماكن معينة من الكرة الأرضية، لم يتوسع إلى سائر بقاعها وأطرافها، لأنه كان عملًا محدودًا في هدم صروح الوثنية واجتثاثها بصورة كاملة، ولكن يمكن اعتباره أنه افتتح عمليَّة التقويض والهدم الشامل إلَّا إنه لم يبلغ مداها... إذ إنَّ الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم بما فعله بأمر ربه، وبما صدر عنه توافقًا مع الأمر السنِّي، وعلى الرغم من قِصَرِ المدة التي عمل فيها بالنسبة إلى عمر الزمان، يُعدّ بحقٍّ أنه كان أكثر الناس وعيًا وعلمًا بحركة التاريخ، وأكثر الناس إدراكًا لأهميتها في مسار الركب البشري... وإن لم تكن تسمّى حركة التاريخ يومذاك بهذا الاسم الحديث...
    وليست هذه الكلمة كافيةً وافيةً بحقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقدرُه الرفيع العالي، فوق كل مقال، لأن دورة حياته احتوت على دورةٍ للتاريخ بكاملها. فسيرته الشريفة في جميع مراحل الدعوة: في مرحلة ابتدائها ومرحلة انطلاقها، ومرحلة تركيزها في المدينة... ودوره العظيم في المعارك: من معركة بدر إلى معركة أحد، ومن معركة الأحزاب إلى معركة حنين... وكيفية إقامته للنظام، وتثبيت دعام الحكم... وصلاته بالناس، وما شهده الناس منه وسمعوه، قولًا وفعلًا وإقرارًا... كلها تشكل مواقف متكاملة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث كان لكل موقف مدلولاته وآثاره، التي تأتي جميعها مترابطة وتؤلف دورة تامة للتاريخ كما شاءها الله تعالى... ثم لتكون حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القدوة الحسنة لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة. ولذا نسمع قولَهُ تعالى يدوّي دائمًا في أسماعنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب: الآية 21).
    ولنأخذ مثالًا على تلك القدوة بما يبرز عند الرسول العظيم من فهم سياسي وعسكري واقتصادي في أثناء إقامته في مكة المكرمة، وبعد مبعثه وهجرته، وفي أثناء ممارسته للحكم في المدينة المنوَّرة...
    لقد قضى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة ثلاثَ عشْرةَ سنة يقابل الحرب بالسلام، ويواجه الأعاصير بالسكينة، والانتقام بالصفح، والطغيان بالدعوة إلى العدل... ولا يمكن أن تُعدّ مواقفه تلك تهرُّبًا من مواجهة أعدائه المشركين، ولا استسلامًا لطغيان قريش واعترافًا بسلطانها الجائر، لأنه يعرف صلى الله عليه وآله وسلم أن الاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله أعلى المراتب التي ينالها المؤمن. لذلك لم يفكر يومًا في التخلِّي عن أداء واجبه، ولم يَدُرْ أبدًا في خلده الهروبُ من المواجهة... بل إنه على العكس، كان قائدًا حكيمًا يجيد فنَّ التوقيت، كما يجيد فنَّ الصبر، والاحتمال، وسياسة النَّفَسِ الطويل...
    وبعد بيعة العقبة الثانية من قبل قادة أهل المدينة بدأ الرسول الحكيم يفكر في الهجرة إلى المدينة، ويعدُّ العدَّة لذلك. وكان من الطبيعي بعد اكتمال عناصر الإعداد أن تستجيب حركة التاريخ لتطلّعِه، وهذا ما حصل بالفعل...


    امتثال حركة التاريخ لهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
    الإسلام كدين هو عقيدة التوحيد، إلا إنه في الوقت نفسه منهاج قويم للسلوك البشري في مختلف جوانب الحياة الإنسانية. لذلك نجده يتناول دوائر ثلاثًا يتداخل بعضها ببعض، وهي: دائرة الإنسان، والدولة، والحضارة .
    أما دائرة الإنسان، فقد أمكن للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يجتازها هو وأتباعُهُ وهم بعد في مكة المكرمة. وذلك بما أُشربت به نفوس أولئك الأتباع من المسلمين الأوائل من القيم والمثل العليا، وبما وَعَتْهُ عقولُهم من مدركات وأبعاد لمختلف جوانب الوجود. وقد كانت الآيات البيّنات تتنزَّل بها جميعًا، فينقلها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين، لتنطبع في عقولهم، وتأخذ بمجامع قلوبهم حتى لتصبح الكيان الذي يعيش فيه كل واحد منهم.
    وعلى الرغم من ذلك النجاح العظيم الذي حقّقه المسلمون باجتيازهم دائرة الإنسان، فإنهم لم يستطيعوا الولوجَ إلى الدائرة الثانية وإقامة دولة إسلامية لهم في مكة... وقد كانت الأسباب والعوامل التي تعيق ذلك كثيرة جدًّا من النواحي السياسية والعسكرية والمجتمعية والاقتصادية والدينية... وهذا ما كان يجعل دائرة الإنسان، لو ظلت الدعوة محصورة في مكة، متروكة أو معرضة لمختلف احتمالات الفشل أو الضياع، بسبب إمكانيات الأعداء المادية والمعنوية التي كانت كثيرة جدًّا، وكبيرةً جدًّا، وكانت قادرة على سحق الأفراد المسلمين إن هم ظلوا بلا دولة تحمي وجودهم وكيانهم. لأن الفرد، كما الجماعة، من دون دولة قادرة، لا يمكنهما ممارسة المهمات، والقيام حتى النهاية بالأعباء التي يفرضها كيان الدولة لمصلحة الإنسان، وخصوصًا إذا كانت القيم والأخلاق التي تؤمن بها الجماعة ـــــــ أو الأفراد ـــــــ تمثل رفضًا قاطعًا للقيم السائدة.
    لذلك كان من الضروري إيجاد أرضية جديدة صالحة لتحرك المسلمين عليها، لكي يمكنهم الانتقال إلى الدائرة الثانية قبل أن تسحقهم الأوضاع الخارجية...
    هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم محطة كبرى في مسار حركة التاريخ
    واتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تلقى الأمر من ربه، قراره التاريخي بالهجرة من مكة إلى يثرب... وانقضى بذلك عهد، وبدأ عهد... وكان بدء هذا العهد التاريخي يوم الثاني عشر من ربيع الأول 13 قبل الهجرة (الموافق 24 أيلول 622م). في ذلك اليوم المبارك حطَّ رسول الإسلام رحاله في أرض يثرب. وكان قد هاجر إليها المسلمون، أفرادًا وجماعات. وبدأ ذلك العهد الجديد في حياة المسلمين، الذي لم يشهد إنشاء دولة الإسلام فحسب، ولا حماية المسلمين ـــــــ في دائرة الإنسان ـــــــ فقط، بل شهد كذلك قدرة تلك الدولة على صنع حضارة جديدة هي من دواعي الشرف للإنسان في كل الأزمان. ويكفي تلك الحضارة فخرًا أنها قامت نتيجة مباشرة لتطبيق شريعة الله تعالى على الأرض، في بناءٍ تامٍ، وهيكلية متكاملة... في وقتٍ كان فيه معظم الناس في العالم يغرقون في بحور من الظلام والجهل، ويعيشون مختلف أنواع الصراعات السياسية والعسكرية، وينتحلون لأنفسهم مختلف المذاهب والأفكار المتضاربة حول عقائدٍ دينيةٍ متخلّفة ومناهج في الحكم والعمل فاسدة...
    هنا تظهر حركة التاريخ وتقوم بدور مميز... لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرك تمام الإدراك أن حركة الإنسان في التاريخ لا يمكن أن تستقيم، وتصل إلى أهدافها، إلا إذا كان الإنسان متوجهًا كليًّا، وبجميع جوارحه، إلى ربه تعالى، بحيث يتلقّى سمعُه، وبصرُه وفؤادُه، وعقلُه وحسُّه، من الله العلي القدير صدق التفكير والشعور، وحقيقة التوجه والتوكل. وذلك وحده يجعل الإنسان قادرًا على القيام بحركته، ويجعل هذه الحركة تتحقق وتنتصر...
    وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش هذا التوجّه، إلا إنه كان على إدراك تام بأن هذا التوجه وحده لا يكفي، بل لا بد من أن يقترن بالعمل الإنساني، أي بأن يتحمل الإنسان المسؤولية كاملة، ويرسم الخطط السديدة لتوجهه. أي أن يتولى الإنسان صياغة حرية اختياره بما يتوافق مع قدر الله تعالى وسننه، لأنه من دون هذا التوافق ـــــــ بين مشيئة الرب العلي واختيار الإنسان المدرك العامل ـــــــ لن تحدث أي حركة جادة، ولن يتحقق أي هدفٍ عظيم... لذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن عزم على الهجرة، وقام برسم الخطة، وهيأ الإمكانيات التي توصله إلى هدفه... نجده يتوجَّه إلى ربه تعالى بدعاء جميل، يحكي صدق العزم والنية، وصدق الإخلاص والتوجه، قائلًا: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (سورة الإسراء: الآية 80).
    تلك هي التفاعلات التي عاشها نبيُّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلال فترة وجيزة من حياته، كانت كافية لكي تحرك التاريخ البشري برّمته، فتظهر حركة جديدة للتاريخ، هي تعبير عن كلمة الله تعالى في عليائه، ومنهج جديد للناس سوف يبقى على الزمان منارة هداية للحقّ والعدل والخير في دنيا البشر...
    عناصر حركة التاريخ:
    إن أي هدف عظيم يسعى الإنسان لتحقيقه يجب أن يكون متوافقًا مع حركة التاريخ بعناصرها الثلاثة:
    العنصر الأول: هو الإيمان المسبق بأن النتائج مهما كانت إنما هي من صنع الله تعالى. فهو سبحانه فاعل لما يريد: إن شاء أعطى ووفَّق، وإن شاء نزع ومنع...
    العنصر الثاني: هو السببية التاريخية، وتكون بتهيئة الأسباب التي توجه الأحداث في هذه الوجهة أو تلك... وقد تكون أسبابًا مادية طبيعية، أو أسبابًا حيوية إنسانية. وقد تكون مجموعة من السنن التي تنتظم فيها حركة الكون والحياة والإنسان، بحيث تفرض حتمية قانونية معينة على بعض الأحداث أو حتميات أخرى على أحداث غيرها. وفي التطبيق العملي نجد في الهجرة النبويّة أن الأسباب المادية قد توافرت لتكون يثرب هي الأرضية الصالحة التي تنشأ عليها الدولة الإسلامية، وأن يكون أبناؤها الأنصار مع إخوانهم المهاجرين من مكة هم الطاقات البشرية أو العوامل الإنسانية التي تبذل أقصى الجهود لتحقيق الهدف المنشود، وأن تأتي سنّة الله تعالى لتوفق ما بين الأسباب المادية والعوامل الإنسانية فيتحقق بناء الدولة المرجوة من المؤمنين بها والعاملين على بنائها.
    العنصر الثالث: مباشرة الأفعال من الإنسان، لأن الخالق ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ قد مَنَحَ، منذ البدء، الكائن البشري حرية الاختيار لكي يصنع تاريخه الفردي والجماعي، اعتمادًا على ما في خلقه من قوى العقل، والإرادة والانفعال، والحس، والحركة. وعندما نأتي على ذكر مباشرة الإنسان للعمل، فإنما نقصد المباشرة الجدِّية المصحوبة بالإرادة. إذ إن كلَّ عملٍ لا تتوافر فيه الإرادة عند المباشرة الجدية يكون عملًا غير هادف، وبالتالي فهو خارجَ حركة التاريخ، لا يؤثّر ولا يغيّر، سواءٌ نحو الأحسن أو نحو الأسوأ. وكل عمل تنتفي منه الإرادة يغيب عنه الهدف ويكون عملًا لا جدوى منه، ولا قيمة له، ولا تأثيرَ من جرائه على الساحة التاريخية.
    يجب على الإنسان إذن أن يؤمن بأن مباشرته للأفعال تبقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ودائمًا بما يشاء الله تعالى في خلق الأحداث والأفعال وتصريفها. وفي الهجرة النبويّة يبرز الاختيار الإنساني بالتصورات الصحيحة، والإعداد الكامل من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما قدّم لحركته في الهجرة ضمانات نجاحها.
    وهكذا يبدو جليًّا أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ بتلك العناصر جميعها في صياغة حركة هجرته، لضمان الأهداف التي عمل لأجلها، فهو يُعدّ بحقّ من أكثر القادة فهمًا لحركة التاريخ. لقد وضع للبشرية بأمر ربّه نهجًا جديدًا تَمثَّلَ في رسالة الإسلام، وإقامة حضارة إسلامية متميزة من سائر حضارات العالم التي سبقت... وقد يكون هذا هو السبب في مغالاة بعض المؤرخين المسلمين، وهم يعزون الإنجازات العظيمة التي حققها محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أمدَّه به ربّه من المعجزات والخوارق، التي أظهرت شخصيته المميزة، وساعدته في حمل الدعوة، وتحقيق أهدافها...
    وقد اتخذ الباحثون الغربيون، وخصوصًا المستشرقين منهم، ما ذهب إليه أولئك المؤلفون من المسلمين، سبيلًا لهم كي يقوموا بأبشع حملة على الإسلام ورسوله، وابتداع الأقاويل والتفسيرات الضالة المضللة التي تنال من شخصية هذا الرسول العظيم، وتُبعد منه أهم خصاله في الصدق والأمانة وهو يتلقى وحيّ ربه، ويبلّغه إلى الناس بشيرًا ونذيرًا.
    ولو أنصف الباحثون، مسلمين وغير مسلمين، لوجدوا أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في أداء رسالته يحدِّث بالخوارق ويدعو بالمعجزات، بل كان يحدث الناس بكل صدق ووضوح بأنه بشر مثلهم، وبأنه مكلف بدعوة الإسلام حتى تستقيم الحياة على سيرها القويم، وأنه مرسل من الله تعالى للناس كافة بالحقّ والعدل والخير، وأنه يعمل بمقتضى الوحي الإلهي بعيدًا من كل خيال أو خارقة. بل لقد اتسمت أعماله بالواقعية مع استنارة وهدي، فكان إذا أراد القيام بأي أمر من الأمور يتوكل أولًا على الله تعالى، ثم يباشر بإعداد الأسباب والسبل التي تحقق له ما يعمل لأجله... كل ذلك من غير أن يتوانى عن التفكير بهدي ربه في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (سورة الكهف: الآيتان 23 ـــــــ 24).
    ومن أجل إثبات صوابية التفكير عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحسن الاستعداد والتهيؤ، وصدق المباشرة والإقدام، نأخذ مثالًا أحداث القتال التي جرت بينه وبين أعدائه. فهو أولًا لم يبدأ بأي قتال حتى ينزل الإذن له بذلك من الله تعالى. وبعد أن يدرك أن لا مناص من مواجهة العدو، كان يعد للحرب كل ما تحتاجه من عتادٍ، ويستخدم كل ما تفرضه من خطط ـــــــ وفقًا لمقتضيات عصره ـــــــ. وبعد ذلك الاستعداد، ينظم جيشه أدقّ تنظيم، ويصدر إليه الأوامر وفق ما رسم له وخطط، ثم يباشر القتال...
    وهو في ذلك كله كان يجمع بين أمرين مهمين: صحة التوجه إلى ربه العلي القدير، واستخدام مزاياه الشخصية الفذّة في القيادة وفي فهم الأحداث وتسييرها... لذلك استطاع محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينتصر على أعدائه في كل الغزوات التي قادها، باستثناء غزوة واحدة فقط، هي غزوة أحد. لقد عصى الرماة في هذه الغزوة أوامر نبيهم وقائدهم فحولوا انتصار المسلمين إلى هزيمة، ولو أنهم تقيدوا بالأوامر التي أعطيت لهم لما فشلت تلك الغزوة. وذلك إن دلَّ على شيء، فإنه يدلّ على أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لو أغفل قواعد الحرب، أو أهمل فنون القتال التي كانت معروفة في وقته ـــــــ على الأقل ـــــــ، أو أنه لم يتخذ، هو ومعاونوه، وجوه الحيطة والاستعداد كافة، لما أمكنه تحقيق انتصاراته. ولكانت الحال تبدلت بغير الحال: فما انتصر الإسلام، ولا انتشرت رسالته، ولا ارتفعت رايته خفاقة على وجه الأرض...
    وانطلاقًا من ذلك كله يمكن القول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع لنا منهجية واضحة في دراسة حركة التاريخ، بحيث لا تأتي هذه الدراسة جديةً، ولا تلامس حقيقة الصلة ما بين الإنسان وربه، وما بين الإنسان والطبيعة، إلَّا إذا أخذت في الاعتبار العناصر الثلاثة التي عمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجتمعة، من دون إغفال واحد منها على الإطلاق...
    وهذا يبدو مغايرًا لما قامت عليه المذاهب التفسيرية للتاريخ حيث كان يأخذ بعضها بعامل أو أكثر ويهمل العوامل الأخرى. ومن قبيل ذلك مثلًا التفسير الميتافيزيقي للتاريخ الذي تطور إلى تفسير لاهوتي والذي ساد التفكير الأوروبي خلال القرون الوسطى، أو التفسير الفردي (البطولي)، أو التفسير الطبيعي للتاريخ وقد بلغ ذروته بالمادية التاريخية...
    ويبدو أن بعض فلاسفة التاريخ المعاصر (أمثال استبنجلر، وتوينبي، وكيسرلنج، والناقد كولن ولسون) قد أدركوا عدم صوابية المناهج التفسيرية للتاريخ، لعدم اعتمادها على العوامل الثلاثة المكوِّنة للحركات التاريخية ، فجاء، من جراء نقدهم، التفسيرُ الحضاري الذي يتسم إلى حد بعيد بالاتزان والموضوعية والشمولية، وذلك لاستناده إلى نظرة كلية وإدراك عميق لمقومات الحدث التاريخي...وقد أعلن هؤلاء الفلاسفة أن الحدث التاريخي لا يمكن أن تصنعه قوة واحدة، لأنَّ أيّ حركة تاريخية لا بد من أن تكون نتيجة للتلاقي والانسجام بين: مشيئة الله تعالى، واختيار الإنسان، وعمل الطبيعة بما فيها الزمن، وإن إغفال أي عنصر منها إنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركة التاريخ... إلَّا إنه، وعلى الرغم من النجاح الذي أصابه هؤلاء الفلاسفة، فإن بحوثهم ظلّت تكتنفها النظرة الذاتية، واضطراب التجربة النفسية التي لامسوا بها أحداث التاريخ، فضلًا عن التأثيرات العلمية في مناهجهم.
    فإذا أخذنا مثلًا مذهب هيغل وماركس نجده يقول بأن الحركة إنما تصدر عن صراع النقيضين، في حين أن الصراع لا يكون بين نقيضين فحسب، بل يتخذ أشكالًا كثيرة. فهو قد يبدو إرادة ذاتية تسعى للتآلف ما بين أعماق نفس الإنسان والمحيط الخارجي من قوله، أو بين أعماق نفس الإنسان والوجود كله. أو قد يكون الصراع حشدًا للطاقات والقوة، وتنظيمها حتى تستجيب للدعوات الكبرى. أو قد يكون الصراع هو البحث الجاد الذي يحرك الأفراد والجماعات لتحقيق مصائرهم وصنع تاريخهم.
    وإذا عدنا إلى حركة الهجرة الرسولية نجد أنها ليست نتاجًا لصراع بين نقيضين بقدر ما هي استجابة داخلية، مقرونة بعمل خارجي لنداء علوي. وقد كان من أهدافها تحقيق التآلف بين الفرد ومحيطه الإسلامي، وبين الإنسان المسلم والوجود كله كونه صادرًا عن خالقه الذي يعبده، وهو الله تعالى صانع هذا الوجود، ومدبّر كل شيء فيه. ثم إنها حشدت طاقات المسلمين للاستجابة إلى نداء عقيدة التوحيد، وجعلت الجماعة الإسلامية تسعى لتحقيق مصير جديد، وصنع تاريخ جديد، لها وللبشرية جمعاء. لذلك لم تعش الجماعة الإسلامية صراعًا بين نقيضين بقدر ما عاشت صراعات شتى: دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية، معتمدة عملية التوحيد والتجميع بدلًا من عملية التجاذب والتصارع.
    لذلك فإن الهجرة تُعدّ حدثًا تاريخيًّا مهمًّا حققت الفصل بين الذل والمهانة، بين العزة والكرامة، بين التفسّخ والتجمع، بين الإسلام التصوري النظري والإسلام التطبيقي العملي.
    وإذا كان من شأن حركة التاريخ أن تقوم دائمًا بعملية التواصل والاستمرار، فإن الهجرة التي قام بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكبر مثال على حركة التاريخ في ذلك التواصل الذي تلاقى فيه الناسُ إخوةً في الإسلام، سواء أكانوا أخوة الأنصار والمهاجرين، أم أخوة الوافدين من أقطار الجزيرة كلها وانضووا إلى لواء الإسلام. ومن ذلك المنطلق كان الإسلام ولا يزال عنصر التواصل الدائم ما بين السماء والأرض، وما بين المؤمنين أجمعين.
    وهذا ما أدركه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما وعى حركة التاريخ، واستطاع أن يفيد من تأثيرها وتفاعلها في مسار الدعوة. وهذا ما هو مطلوب أن يَعِيَهُ اليوم المسلمون ويعملوا به. إذ عليهم أن يدركوا بأنَّ الإسلام متقدم في جميع الميادين الفكرية، وعلى مختلف الأفكار والنظريات والمناهج التي انبثقت عن الإنسان في عالم الحضارة.
    ولكن إذا كان الإسلام متقدمًا، فإن المسلمين متأخرون عنه، لذلك وجب عليهم شدُّ العزائم، وتقوية الإرادات، وتسريع الخطى حتى يلحقوا بإسلامهم، ويخرجوا به الناس من ظلمات الجهل إلى نور الحقّ، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، وبذلك فإنهم لا يبقون عبئًا على الإسلام، الذي يحملهم بدل أن يحملوه، ويتقدم بهم بدلَ أنْ يتقدموا به. شرط أن يكونوا برسالته مقتنعين، ولأوامره منصاعين، وبالدعوة إليه عاملين، وفي سبيل ترسيخه بالمال والأنفس باذلين ومضحِّين.
    نعم إننا نجد الإسلام اليوم، هو الذي يحمل المسلمين ويتقدم بهم في مجالات الحياة، مخترقًا كل المواجهات التي تعترضه، والدسائس التي تحاك ضده، منتصرًا على الأضاليل والأباطيل التي حيكت حوله والشراك التي تنصب له، داعيًا إليه النفوس الخيرة الطيبة التي لا تتوانى عن تلبية هذا النداء بفضل هدي ربها ورحمته... نعم إن على المسلمين وعيَ هذه الحقيقة، وحملَ الإسلام دعوةً ورسالةً إلى الناس كافة، كما حمله السادة الأوائل الذين كانوا صورة صادقة عن الإسلام، فحقّ للمسلمين وللناس جميعًا أن يقولوا:
    إن المسلمين الأوائل كانوا فعلًا حاملين لواء الإسلام. أما اليوم فيرى المسلمون أنفُسُهم، والناسُ جميعًا يرون، أنَّ الصورة مهتزّة، والفرق واضح والاختلاف ظاهر بين الإسلام والمسلمين، لذا نقول: إنَّ الإسلام في عصرنا هذا، هو الذي يحملُ المسلمين، وهم عبءٌ عليه، بدل أن يحملوه هم إيمانًا راسخًا في الجنان ودعوةً هاديةً لبني البشر على مرّ العصور والأزمان. والله سبحانه أراد أن يكون هذا الدين رحمةً للعالمين وأن يكون دينَ الدنيا والآخرة معًا.
    لقد أدرك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الإسلام يتجاوب مع الفكر الإنساني ويلبي طموحاته الخيرة، لكي يصنع الأفذاذُ من بني الإنسان تاريخًا جديدًا ومشرِّفًا. وبذلك وعى حركة التاريخ على حقيقتها وقدَّرها حق قدرها... ومن هنا يمكن فهم موقفه بعدم إعلان الحرب على قريش في مكة، واحتماله العذاب والأذى مع المسلمين، بصبر جميل، موقنين أنه سوف يحين الوقت الذي يمتلكون فيه أسباب القوة. ولو أنه أقدم على مواجهة المشركين ضعيفًا أعزلَ لَكان قضي عليه وعلى أتباعه المستضعفين، ولَكان الإسلام خُنِقَ في مهده. ذلك أن قريشًا قامت بمحاولات جادة وكثيرة لتفجير هذه الدعوة الفكرية من أجل القضاء عليها، لكنها فشلت لأن الرسول العظيم كان واعيًا لغايات قريش ومدركًا أبعاد ما ترمي إليه...
    ذلك بخلاف نهج الحركات الإسلامية اليوم. فهذه الحركات جادّة مخلصة في دعوتها، لكنها لا تعي واقعها وظروفها بصورة كافية، ولا تخطّط لعملها تخطيطًا يضمن له أسباب النجاح.كأنها لا تعلم أنَّ الاستعمار الغربيّ يرصد تحرّكها. وهو جاهز، في كل وقت، للانقضاض عليها وإجهاضها قبل أن تستكمل عدّتها، وقبل أن تصل إلى أهدافها. وعندما يبدأها بالصدام تأتي ردّات فعلها ارتجاليّة ضعيفة لأنها لم تكن قد نضجت بعدُ فكريًّا، ولم تعِ حركة التاريخ وملاءمتها للظروف المحيطة بها. ويكون إخفاقها هو النتيجةَ الحتميةَ لهذا الصدام.وحينئذٍ يأتي الاستعمار، ويقدّم ردّاتِ فعلها للعالم على أنها هي تعاليمُ الإسلام، ويقول بوساطة وسائله الإعلامية السمعية منها والبصرية: هذه هي فِعال المسلمين...
    وقد تقوم جماعة مؤمنة تريد إزالة المنكر باليد، ولا تفرّق بين ذلك وبين العمل بالنهي عن المنكر. فإزالة المنكر باليد يُشترط فيها الاستطاعة وألّا تكون فتنة. والفتنة أكبر وأشد من أمور تتعلق بجور الحاكم أو فساد بعض الرعية لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «الأمير الجائر خيرٌ من الفتنة. وكلٌّ لا خيرَ فيه. وفي بعضِ الشرِّ خيار». يضاف إلى ذلك أن التدبير الإلهيَّ قضى بعدم المواجهة في مكة ما بين المسلمين والمشركين، وكان حريًّا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفذ أمر ربه ويعمل وفق مشيئته السنيَّة... وهذا أيضًا يدخل في وعيه لمفهوم حركة التاريخ التي يسيِّرها الله تعالى كيفما يشاء.
    وإذا كان مكثُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصيرًا في لقائه أو في استقباله لحركة التاريخ، التي تزوَّدت من النور الذي بعثه الله تعالى به، كما تزوَّدت من عزيمته وثباته ـــــــ فإنها سوف تصطحب معها، من بعده، زحف الإسلام: دينًا وحضارةً وثقافة، حتى تضع في رحابه نحو مليارٍ من البشر، وحتى تنقل حضارته إلى أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات الجهل والتخلف والاستبداد... ثم لكي تستأنف في ما بعد، ومن خلال أفكار الإسلام ونور كتابه ـــــــ سواء اعترف العالم بذلك أم لم يعترف ـــــــ مسيرتَها ومسعاها نحو تخليص البشرية جمعاء من أدرانها، والاندفاع بها نحو التقدم.
    لقد كان دور الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خلال حركة التاريخ دورًا مهمًّا وعظيمًا... ولعلَّ أهم خصائص هذا الدور تتبيَّن في تربيته للجماعة الإسلامية الأولى... تلك التربية الإيمانية الرائعة التي مكَّنتها من أن تحمل الإسلام، وتنطلق من قلب جزيرة العرب حتى تبلغ به أطرافًا بعيدة من الأرض شارفت حدود فرنسا في أوروبا وحدود الصين في آسيا...
    وقد يعجب الناس من قدرة المسلمين على هذا التوسع في خلال تلك الفترة القصيرة، ووصولهم إلى ذلك المدى الواسع في الانتشار... لكنَّ هذا العجب يزول إذا ما تذكَّروا عملية البناء التي أجراها محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خلال تعاليم القرآن، ومن خلال إعطائه للحياة مفهومًا جديدًا يقوم على فكرة التوحيد، والإيمان بالإسلام دينًا حقًّا... ومن ثم من خلال الإخلاص لله في النية والعمل على حدٍّ سواء، حتى لَيُقدم المسلم على التضحية، وبذل النفس عن قناعة ورضًى... فكان من الطبيعي أن يكون ذلك التحوُّل النفسي في جماعة المسلمين الأولى أهمَّ مصدر، وأكبرَ عامل، على توسع الإسلام وانتشاره السريع.
    لكنَّ عظمة الإسلام الحقة لا تبرز في قدرته على التوسع الذاتي، بقدر ما تتبيَّن في قدرته على تحقيق ذلك الانصهار النفسيِّ والفكريِّ بين مختلف القبائل والأمم والشعوب والأجناس التي دانت بالإسلام عقيدةً ومنهجًا. فهي، ومنذ دخولها الإسلام، كوَّنت أمةً واحدةً تهتدي بكتابٍ واحدٍ يجمعها على أحكامه، مهما تفرقت بها السُّبل أو اختلفت الأمصار... وتأتمر بأوامر إلهٍ واحدٍ أحدٍ لا تشرك به، ولا تضل سبيل الهداية الذي قادها إليه رسولها الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم... وهذا ما لا نجده عند أمة أخرى من أمم الأرض.
    ذلك كان دور الإسلام بفضل الله تعالى، وبفضل رسوله الحكيم صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه ـــــــ سبحانه ـــــــ هدًى ورحمة للعالمين... وهو الرسول الذي راعى حركة التاريخ في حياته، وترك لأجيال أمته أن تقتدي به، بحيث تراعي هذه الحركة من خلال آيات الله تعالى، التي تهدي للتي هي أقوم، والتي من جملة أحكام هدايتها أنَّ الله تعالى يمسك بزمام حركة التاريخ وهو يداول الأيام بين الناس، فتكون الدولة يومًا لهذه الجماعة من الناس، ويومًا لجماعة أخرى... وتتعاقب الأزمان، وتظل المداولة قائمة، بأمر الله تعالى وبمقتضى مشيئته المطلقة...
    دور الإنسان وحركة التاريخ:
    ولكن إذا كان كل شيء منوطًا بمشيئة الله تعالى، فما دور الإنسان في وجوده؟
    إنه لَسؤالٌ مهمّ يترتب عليه فهمُ الإنسان لحركة التاريخ، ودورُه الكامل في نطاق هذه الحركة.
    وهنا نتوقف قليلًا لنرى ما عند الإنسان من خصائص مميِّزة، ونتساءل هل يمكنه من خلال هذه الخصائص، ومهما كان عظيمًا، أن يحقق جميع تطلعاته، أو رغباته في هذه الحياة؟
    نحن نقول: لا... لأن الله بالغُ أمره، وإنما جعل لكلِّ شيء قدرًا...
    وربما يسأل سائل: أما كان الله تعالى قادرًا على أن يَنْصُرَ موسى عليه السلام على فرعون في مصر من دون أن يهاجرَ إلى مَدْيَنَ ويقضيَ فيها عشر سنوات في رعي الغنم، بعيدًا من جماعته من بني إسرائيل؟
    ونجيب: نعم إن الله ـــــــ سبحانه ـــــــ قادر على كلِّ شيء. وقد كان فرعون عدوًّا لموسى عليه السلام، وكان على موسى عليه السلام أن يجاهد هذا العدو وينتصر عليه امتثالًا لأمر الله تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (سورة محمد: الآية 4).
    وهكذا لم يشأ الله تعالى أن يجاهد نبيُّه عدوًّا مستكبرًا عاتيًا في حينه، لأن أوانَ قتاله لم يكن قد حانَ بعد، فهاجر إلى مَدْيَنَ، حتى إذا عادَ منها إلى مصر قال له ربُّه: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (سورة طه: الآية 40)...
    والقدر الذي جاء بحسبه موسى عليه السلام هو الوقت المقدَّر له، أي عندما نضج واستعدَّ، وابتلي فثبت وصبر. وعندما تهيأت الظروف والأحوال في مصر، بعد أن بلغ العذاب ببني إسرائيل مداه، على يد الطاغية فرعون... ففي الوقت الذي قدَّره الله تعالى لمجيء نبيِّه موسى عليه السلام جيء به من أرض مَدْيَنَ من غير أن يكون له هو أيُّ إرادة في تقدير ميقات هذا المجيء، ولا في احتساب المهمة التي سيُنتدب إليها... لكنّ مشيئة الله تعالى جاءت به... إنها مشيئة ربّه الذي كان قد اصطفاه لنفسه خالصًا مستخلصًا، معدًّا للرسالة والدعوة، بحيث لا يكون له في نفسه، أو لأيٍّ من أهله، أو لأحدٍ آخر فيه شيء... بل هو بكلِّيته لله تعالى، صنعه سبحانه على عينه، وأرسله كي يؤديَ المهمة الجسيمة التي توازن بين الكفر والاستعباد والظلم، وبين الإيمان والتحرر والعدل، ثم تدلُّ الإنسان أيها يختار، وأيها أنفع له، وأيها أبقى وأصلح... وهذا القدر المقدور من الله تعالى لا بد من أن يغير الأحوال، فيُهزم فرعون وبطانته وجيشه، ويغرقهم الله سبحانه في نهاية المطاف، في حين أن النصر الكامل لبني إسرائيل يكون بأن أنجاهم ربُّهم من كل ما كانوا فيه يتخبطون، ويهين كرامتهم، ويحطم كيانهم...
    نعم إن الله ـــــــ سبحانه وتعالى ـــــــ هو الذي بدَّل الأحوال وجعلَ الظروف كلَّها تتغيَّر. ذلك أنه لم تكن القوتان متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع. في هذا الطرف كان موسى عليه السلام وقومه ضعافًا مجرّدين من كل أسباب القوة المادية، وفي الطرف الآخر كان فرعون وجنده أقوياء مالكين لكل أسباب القتال والحرب. ولم يكن من سبيل إلى خوض معركة مادية. من هنا كان تدخل العناية الإلهية لكي ينتصرَ الإيمانُ ويُهزمَ الكفر، ولكي تُنَكَّسَ راية الباطل وترتفعَ راية الحقّ، بأمر الله القدير، وبلا جهد بذله بنو إسرائيل...
    وإذا كان هذا قد حصل مع النبي موسى عليه السلام، فإنه في الحقيقة لم يحصل مع كل نبيٍّ أو رسول. وذلك من أجل ألَّا يترك الإنسانُ الأمور تسير على عواهنها ويتسلَّح فقط بمشاعر الإيمان، ثم يَكِل إلى الله تعالى أن يقوم عنه بكل شيء، حتى ولو كان هذا الشيءُ متعلقًا بأموره الخاصة، وشؤونه الذاتية... فهذا التوكل أبعَدُ ما يكون عمَّا أرادَهُ الله تعالى لعباده. لقد طالبهم أولًا بالعمل المخلص الجادِّ، ومن ثَمَّ أمرهم بأن يتوكلوا على الله ويتركوا النتائج إليه تعالى... إذ مما لا شك فيه أنَّ كلَّ أمرٍ يعود إلى القدرة الإلهية... إلَّا إن عمل الإنسان يجب أن يتوافق مع مشيئة الله، ومع دوره في وجوده الإنساني، حتى يرجوَ بعد ذلك التوفيق من الله، وتحقيق ما يسعى إليه...
    ومن خلال تحرُّك الإنسان، وما يقوم به، تقف حركة التاريخ ـــــــ بأمر الله ـــــــ لتبدّل الأوضاع، وتغيِّر الأحوال، في سعيها نحو مداولة الأيام بين الناس. وهذا التحرّك إما أن يكون على أساس اتّباع منهج الإيمان، أو اتِّباع خط الكفر، مهما كانت أشكال هذا الكفر، سواء ظهر بمظاهر عبادة الأوثان، أو بطغيان المادة على الروحانية، أو بانتصار البطل على الحقّ... وما إلى ذلك من المظاهر المادية التي تسودها الضلالات على الهداية، ويعم فيها الفساد في دنيا الأرض وينتشر...
    ولعل أهمَّ الخصائص التي وضعها الله في حركة التاريخ أنه أمرها أن ترقب ظهور عبادٍ مخلصين لله، قد عاهدوا ربَّهم على أن يشهدوا بوحدانيته، ويعظِّموا شعائره، وينصروا كلمته... وأن تُمِدَّهم عندئذٍ بكل عون، وترفدَهم بكل مساعدة حتى يتمكنوا من تحقيق الغاية التي يسعون إليها... فإن لم يستطيعوا ذلك في حياتهم فإن على حركة التاريخ ـــــــ بتوجيه من ربّها سبحانه ـــــــ أن تحفظ الأثر الذي تركوه من بعدهم، وأن تعمل على نشره حين يأتي اليوم الذي يظهر فيه تأثيره في الناس ولو بعد زمن طويل...
    إذن فحركة التاريخ لا يمكن أن تعمل إلَّا بأمر الله سبحانه وبتقديره. ثم يأتي دور الإنسان في مسار وجوده بما يحقِّق مشيئة العناية الإلهية...
    ولكن إذا كان كل شيء منوطًا بمشيئة الله تعالى، حتى إن الإنسان لا يملك أن يفعل شيئًا في غده إلَّا أن يشاء الله، لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (سورة الكهف: الآية 23 ـــــــ 24) فهل ينتفي دور الإنسان؟ وأي شيء، إذًا، يثاب الإنسان عليه أو يعاقب؟
    الحقيقة أنَّ للإنسان دورًا مهمًّا ومؤثرًا من خلال مباشرته للأفعال. فإنْ هو أحسن فلنفسه، وإن هو أساء فعليها، و{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (سورة الشمس: الآيتان 9 ـــــــ 10). لكن عمل الإنسان لا يكون لنفسه فحسب، بل ينعكس على جماعته، وعلى مجتمعه، وقد تمتد آثاره لتطاول البشرية بأسرها... فالذي اخترع الذرة مثلًا قدَّر في الأصل استعمالها لصالح البشرية وخيرها. لكن غيره أخذ يستعملها سلاحًا فتاكًا رهيبًا، قد يكون من أهمِّ الأسلحة التي تهدد مصير البشرية بالتدمير والفناء...
    من هنا وجب على الإنسان فاعلًا كان أو متأثرًا بالفعل، أن يتخذ الحقّ والسعي للخير هدفًا له ثم يترك النتائج لله تعالى. ولا فرق بعد ذلك، إن وصل أم لم يصل إلى هذا الهدف، لأنه يُعَدُّ من أهل الحقّ والخير... وهذا ما تدلنا عليه حركة التاريخ التي تقدِّم لنا شواهد كثيرة على أنَّ حركاتٍ إصلاحيةً، وأفكارًا سامية قامت في أحيان كثيرة، وكان أبطالها روادًا حقيقيين في مضامير الحقّ، والعمل لصالح البشرية، ومع ذلك فهم لم يبلغوا أهدافهم، لكنهم وفقوا لما قاموا من أجله، وهو مرضاة الله سبحانه وتعالى... كما تبين لنا حركة التاريخ أن أشخاصًا كثيرين سجلوا انتصارات بحسب عُرفهم، وعُرفِ المضلَّلين في مفهوم الحقائق، في حين أن انتصاراتهم لم تكن إلَّا أصداء جوفاء سرعان ما ظهر باطلها، وانعكست آثارها المحتومة على من اتبعهم وسار وراء ضلالهم. والسبب في ذلك، هو أنَّ حركة التاريخ ترقب الناس في تصرفاتهم وتتَّخذ منهم أدواتٍ لتسجيل وقائعها، كي تُبرز نزعة الشرّ عند أهل الشرّ منهم، وتبرز نزعة الخير عند الأبرار الصالحين...
    شهادة الحسين عليه السلام وحركة التاريخ:
    وتبرز حركة الحسين بن علي عليه السلام من أروع الشواهد في تاريخ المسلمين على عدم الاستجابة، بما آلت إليه من نتائج آنية وظرفية، للهدف الذي سعى إليه الحسين عليه السلام، بحيث تبدو حركة التاريخ وكأنها أخسرته المعركة، في حين أنها كانت في الحقيقة أكبر عونٍ له على إظهار الحقّ في جانب، والباطل في جانب آخر. وهذا يعبِّر عن مضمون الحقيقة المطلقة التي يؤدي فيها الإنسان دوره في وجوده: أَلَا وهو الارتقاء إلى أقصى درجات السموِّ حتى يبلغ الشهادة في سبيل الله، أو الهبوط في أدنى درجات الانحطاط حتى ولو بلغ مُلْكًا زائفًا، أو اعتلى عرشًا فانيًا...
    لقد كان مقصد الحسين عليه السلام واضحًا عندما كتب وصيته قبل خروجه من المدينة المنورة إلى أخيه محمد بن الحنفية وقال فيها:
    «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنفية. إن الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه جاء بالحقِّ من عنده، وأن الجنة حقٌّ، والنارَ حقٌّ، والساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
    وإني لم أخرج أَشِرًا ولا بَطِرًا، ولا مُفْسِدًا ولا ظالمــًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جدِّي صلى الله عليه وآله وسلم. أريد أن آمُرَ بالمعروف وأَنَهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جدِّي وأبي علي بن أبي طالب. فمن قبلني بقبول الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبرُ، حتى يقضيَ الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين. وهذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلَّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».
    وخرج الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبُه من مكة المكرمة حتى نزل كربلاء من أرض العراق في الثاني من المحرم عام ستين للهجرة. وهنالك قُتل أهلُ بيته وأصحابه واحدًا تلوَ الآخر. ثم كان مصرعه عليه السلام بعدهم، في وقعة بقيت نصف بياض النهار، في العاشر من محرم من تلك السنة.
    نعم ما خرج الحسين بن علي عليه السلام إلا لإحياءِ الحقّ، ونُصرة دين الله، فسقط هو وأهله وأصحابه في معركةِ الحقّ بوجه الباطل، شهداءَ في سبيل الله. في حين أن يزيد وأعوانُهُ انتصروا، فاعتلى يزيد عرشَ ملكٍ زائل، من دون أن يتولَّى أمرَ الخلافةِ كما ظنَّ أو توهَّم... وكان لحركة التاريخ موقفها من هذا المنتصر، ومن ذاك الشهيد!...
    فأما المنتصر في القتال، يزيد بن معاوية، فقد كان أداة لحركة التاريخ بحيث أفرزته مثالًا لرجال هم، في كل عصر، أهلُ الظلم والفساد، وأعوانُ الباطل والضلال، يستعملون القوة المادية سلاحًا، ويتَّخذون من السلطان مطيَّة... ولكن إلى حين... ثم يذهبون بعده من هذه الدنيا بلا أثرَ لهم، اللَّهم إلَّا ما يدلّ على سوادِ هويتهم، وسوء فعالهم...
    أما سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام، والشهداءُ الأخيار من آله وصحبه، فقد أودعت فيهم حركة التاريخ، وعلى مدار الزمان، بذورًا طيِّبة لا بد من أن تُنبتَ ثوراتٍ بوجه الظالمين المفسدين تكون عاقبة النصر فيها دائمًا للحقّ على الباطل، وللعدل على الظلم، وللحرية والصلاح على القهر والفساد...
    المقاومة الإسلامية وحركة التاريخ:
    وها هو العالم يشهد اليوم آثار الحركات الإسلامية المخلصة وعلى رأسها حركة الحسين عليه السلام في صحوةٍ إسلامية بدأت بشائرها تطلُّ، وعلائمها تلوحُ، ونورها يتوهَّج في العقول والأفئدة... كذلك يشهد العالم آثار هذه الحركة في الوقفة البطولية الجريئة التي تقفها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وعاصمته صيدا، وفي البقاع الغربي، بوجه الصهيونية الشرسة، حيث تنتصر حركة التاريخ ـــــــ بإذن الله ـــــــ للمقاومة الباسلة التي استفادت من طبيعة الساحة اللبنانية المتحركة، ومن الأوضاع الإقليمية والدولية التي تمنحها بشكل غير مباشر حرية الحركة، فانبرت تقاوم الدولة اليهودية المتغطرسة التي ما انفكَّت منذ قيامها تتباهى بجيشها زاعمة أنه لا يقهر... مما يجعل حركة المقاومة حركة مباركة تلقّن اليهود كلّ يوم دروسًا لا تُنسى في البطولات والتضحيات...
    ولنا أن نتساءل: هل كان في استطاعة المقاومة بعد اجتياح لبنان عام 1982م أن يصبر أفرادها ويصابروا ويقاوموا طائفة باغية حاقدة مثل اليهود، لو لم يتخذوا من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأبرار وأصحابه الأخيار قدوة لهم فيما أصابهم في سبيل الله؟ لقد تلقَّى المسلمون من اليهود في ذلك الاجتياح المخزي ضرباتٍ موجعة قاتلة، تدل على الحقد الدفين في نفوسهم ضد المسلمين، وتظهر صلافتهم وتكبرهم وإجرامهم التي اعتادوا عليها طوال تاريخهم. وقد جاؤوا الآن يتوجون هذا التاريخ المليء بالمخازي بمزيد من القتلى المظلومين، أو ملء المعتقلات بالأسرى المكلومين، عدا ترويع الأطفال والشيوخ والنساء، بل وقتلهم في أكثر الأحيان عمدًا، وسرقة المنازل وتدميرها، وقطع أشجار البساتين وحرقها، وانتهاب المواشي والممتلكات... ناهيك عن انتهاك حرمات بيوت العبادة وتدنيسها...
    هذه الأعمال العدوانية والإرهابية رفضها المسلمون غاضبين، فراحت مقاومتهم الإسلامية تتصدَّى للجيش الصهيوني الغاصب وتردُّ إليه ضرباته، بنداء الملهوف، وصرخة المظلوم حتى جعلت أيامه على أرضها الطاهرة جحيمًا لا يطاق.
    وفقد زعماء الدولة الصهيونية صوابهم، وأعلنوا عن تنفيذ ما زعموه «سياسة القبضة الحديدية» التي تعني زيادةً في التقتيل والتعذيب والأسر والتهديم، واعتمادَ سياسة الأرض المحروقة، بل وصل الأمر باليهود إلى تلويث مياه الشفة بالمواد الكيماوية، ومنع وصول المواد الغذائية إلى الجائعين، أو المساعدة إلى الجرحى من أي مصدرٍ أتت، حتى ولو جاء بها الصليب الأحمر... إلى جانب منعهم مراسلي الصحف ووسائل الإعلام العربية والأجنبية من الدخول إلى المنطقة المحتلة، كيلا يصوِّروا تصرفاتهم الشاذة، وينقلوا صور مخازيهم البشعة إلى العالم. بل لقد لجأوا أخيرًا إلى سَجْنِ وقتل بعض أولئك الصحفيين والمراسلين الذين كانوا خارج المنطقة التي يتواجد جيشهم الغاشم فيها ليطمسوا معالم إجرامهم ويحولوا بين العالم وبين رؤية عملهم البربريِّ الوحشي... وعلى هذا النهج من سياسة العدوان راح اليهود وعملاؤهم يرسلون السيارات المفخخة بأشد أنواع المتفجرات إلى الأماكن المكتظة بالسكان المسلمين، كما فعلوا في بلدة «معركة» في جنوب لبنان وفي محلة «بئر العبد» في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. بل بلغت بهم الكراهية حدًّا جعلتهم يوجهون أرتالًا من دباباتهم وآلياتهم المدعومة بحرًا وجوًّا، وآلافًا من جنودهم كي ينفِّذوا في بلدة «الزرارية» في جنوب لبنان أبشع مجزرة بربرية فاقت بفظاعتها مجازر البرابرة والنازية والفاشستية... بحيث لم يتورعوا في تلك المجزرة عن هدم البيوت على رؤوس أصحابها، والسير بالدبابات فوق السيارات التي كانت تقل الناس الهاربين من وحشيتهم وطغيانهم.
    لكنَّ الردَّ على هذه الأعمال المجرمة جاء عنيفًا من المقاومة الإسلامية، وهي تستجيب لنداء الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (سورة آل عمران: الآية 102). فشرع أفراد المقاومة يقدمون على الموت مسلمين، مستجيبين لأوامر الله تعالى، حتى أذهلوا العالم بإيمانهم وشجاعتهم، مجابهين «القبضة الحديدية» لعدوّهم بـــــــ «القبضة الحسينية»، التي ترمز إلى مقاومة أهل الباطل مهما علا شأنهم وعظمت قوتهم... والتي أرادوها بمشيئة الله العلي القدير، وببركة رسوله العظيم، وبمنهجية جميع الشهداء الأبرار الميامين من المسلمين، أن تسحق الباطل وتجتث مفاسد أهله من بني يهود.
    لقد استجابت المقاومة الإسلامية في لبنان لنداء الله تعالى. وقد حصل ذلك منذ غزو اليهود عام 1982م لهذا البلد العربي واحتلال أجزاء واسعة منه وصولًا حتى عاصمته بيروت. وكان في اعتقاد اليهود أن ذلك الغزو هو أسهل عملياتهم الحربية التي قاموا بها... ولكن غاب عنهم أن بين اللبنانيين نفوسًا إسلامية، صدقت الله تعالى ما عاهدت عليه، فقامت، وبعد مدة وجيزة من الغزو، تكيل لعدوها الضربات القاتلة، حتى أمكن لها أن تطهر معظم الأرض التي احتلتها إسرائيل. وذلك بفعل استجابة المقاوم اللبناني المسلم لنداء ربه... وهذه سنَّة إلهية ثابتة، فعندما يستجيب الإنسان لنداء الحقّ، ويمتثل لأوامر ربه ونواهيه، فإنه بذلك يتجاوب مع حركة التاريخ التي لا بد من أن تتجاوب بدورها معه بأمر ربها، إن عاجلًا أم آجلًا، سواء بالتأثير أو بالتغيير. فإن جاء التجاوب مقتصرًا على الأفراد فقط فسيكون من جرائه التأثير... ولكن إن كانت الاستجابة من الجماعة ـــــــ والمقصود بالجماعة هنا الأمة الإسلامية ـــــــ فسيكون من جرائها التغيير بحول الله تعالى وقوته. وهذا ما حصل تمامًا مع المقاومة الإسلامية في لبنان، إذ اقتصر العمل على جهود الأفراد، فأمكنهم أن يؤثروا في الغزاة، وأن يدفعوهم للانسحاب من معظم الأرض التي كانوا يحتلونها. لكن هذا التأثير فقد زخمه في النهاية، ولم يتحقق التغيير، أي الانسحاب الإسرائيلي الكامل من أرض لبنان، لأن الأمة الإسلامية لم تتجاوب عمليًّا مع نداء الحقّ، فلم تتجاوب معها حركة التاريخ بصورة كليّة، وظلت إسرائيل تمارس احتلالها فيما يسمى بالشريط الحدودي...
    وهذا أيضًا ما نشهده الآن في فلسطين حيث أفراد الانتفاضة يقومون بدور تأثيري على الكيان الصهيوني، فإن استمر هذا التأثير وكانت هنالك استجابة من الجماعة (الأمة الإسلامية) لمساعدة الانتفاضة ودعمها، فسوف يكون هناك بحول الله ـــــــ تعالى ـــــــ تغيير في الواقع الراهن الذي فرضه اليهود على الشعب الفلسطيني خلال نصف قرن من الزمن.
    على أنَّ مثل تلك الوقفة الشريفة التي وقفتها المقاومة الإسلامية في لبنان، والمطلوب أن تقفها من جديد سواء في لبنان، أو في فلسطين من خلال الانتفاضة، حريٌّ بها أن تكون نواةً لمقاومة شاملة تتوقد نارًا تحرق كل جور وباطل، لتنشئ نهضة إسلامية جديدة تنشر راية الإسلام خفاقة عالية، كما نشرها المسلمون الأوائل، تلامذةُ رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وكما يرتجى أن ينشرها جميعُ الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. هؤلاء هم وحدهم الذين يعرفون حقيقةَ القضية التي نهض من أجلها عظماء المسلمين، وسموّ الروح العالية التي اندفعوا بها، والتراثَ المجيد الذي خلَّفوه على ساحة التاريخ...


    صرخة موجهة إلى قادة المسلمين:
    وأخيرًا نطلقها صرخةً مدوّيةً علّها تصلُ إلى أسماع جميع القيادات الإسلامية فتحرّكَ فيهم أخوّة الإسلام، وتحملَهم على مواجهة هذا الواقع المزري الذي يعيشه المسلمون اليوم بحالة من تفكك العُرى، واستلاب الإرادة: من ضعفهم كانت قوّةُ أعدائهم، ومن فقرهم كان غنى مستغلّيهم...
    فَلْتَنْهَض هذه القياداتُ بما حمّلها الله تعالى من مسؤولية الرعايةِ لهذه الأمة، وَلْتأخُذْ بيدها لما فيه عزّتُها وخيرُها، مستنيرةً بهدى كتاب الله المجيد، وسنّةِ رسوله الكريم، ومستفيدةً من كلّ ما توفّره لها حركةُ التاريخ من متغيّراتٍ: محليّةٍ وإقليميّةٍ ودوليّةٍ، واضعةً نُصبَ أعينها وحدةَ الأمة الإسلامية التي هي المقدّس الثاني بعد عقيدةِ التوحيد التي هي المقدّسُ الأول...
    إنّ وحدةَ الأمةِ الإسلاميةِ هي الجامعُ الوحيد الذي وصل ما بين المسلمين عبر العصور، وهي الهدف المشترك الذي التقى حوله المسلمون، من سنّةٍ وشيعة، على الرغم من خلافاتهم ونزاعاتهم حول أمورٍ أخرى... وهو ما قصده الإمام عليّ عليه السلام حين كانت تشتد الأمور على المسلمين ويكون بعضها متعلقًا به: «لأسلِّمنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين».
    وعندما يستجيب القادةُ ويعملون على وحدةِ الأمّة يكونون قد استجابوا لأوامر الله تعالى. عندئذٍ تعمل حركةُ التاريخ لمصلحتهم لأنهم قد تجاوبوا معها، وتكون العزّةُ لهم في الدنيا والآخرة.
    أخذ الله بيدهم لما فيه عزةُ الإسلام وخيرُ المسلمين.
    تلك هي حركة التاريخ، بمفهومنا الإسلامي... حركةٌ تتفاعل مع الأزمان، وبها يُداول الله تعالى الأيام بين الناس، فترتقي أمم وتهبط أخرى، وتنشأ دول وتزول أخرى، وتفنى جماعات وتولد أخرى... ثم يكون الفناء في النهاية للجميع، ولا يبقى إلَّا وجه ربك، ذي الجلال والإكرام.

    المصادر
    4 الحضارة هي مجموعة مفاهيم عن الكون والحياة والإنسان. وتكون إما من عند الله تعالى، أو ناجمة عن عبقرية الإنسان. ولا بد من أن تنتج كلُّ حضارةٍ محدَّدةٍ، مدنيةً معينةً بوسائلها المحدثة، أو مظاهر كثيرة للتمدن يوجدها الإنسان بما ينشئ ويكتشف من وسائل مادية.\

    5 ـــ فهم السنن الكونية، والحياتية، والنفس الإنسانية.
    ـــ مباشرة الإنسان بالعمل بناءً على الفهم المستنير لهذه السنن.
    ـــ ترك النتائج لله تعالى بعد التوكل عليه.

    6 المقدس الثاني: هو وحدة الكلمة. ووحدة الكلمة تصون المقدس الأول الذي هو العقيدة. ولماذا هو مقدس؟
    ـــ لأنه أمرٌ من الله تعالى. وكل أمرٍ من الله سبحانه وتعالى ورد في القرآن المجيد أو على لسان رسوله الكريم هو مقدس.
    قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: الآية 103).
    وقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (سورة الأنفال: الآية 46).
    وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (سورة الأنعام: الآية 159) فالرسول الكريم يتبرأ منهم.
    وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء: الآية 92). فتكون وحدة الأمة مقدسة لأن كلام الله سبحانه وتعالى هو قدسي.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. دور الفرد في حركة التاريخ أ.د. راغب السرجاني
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس فلسفة التاريخ و حركة التاريخ و تأريخ التاريخ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-02-2020, 04:09 PM
  2. حركة التاريخ والعلم
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس فلسفة التاريخ و حركة التاريخ و تأريخ التاريخ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-02-2020, 04:01 PM
  3. حركة التاريخ بين قدر الاستبداد وحرية الاختيار
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس فلسفة التاريخ و حركة التاريخ و تأريخ التاريخ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-02-2020, 03:57 PM
  4. حركة التاريخ والآن
    بواسطة الارشيف في المنتدى مجلس فلسفة التاريخ و حركة التاريخ و تأريخ التاريخ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-02-2020, 03:37 PM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-01-2013, 11:24 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum