الحركة التكاملية للتاريخ والقيم الانسانية

تفسير الحركة التكاملية للتاريخ ناتج عن نظريتين مختلفتين لتفسير الانسان وهويته الواقعية وملكاته الكامنة.
احدى النظريتين ترى الانسان موجودا مغلولا بمصالحه المادية ومصالحه الاقتصادية ومسيرا في اتجاه جبري يفرضه عليه تطور وسائل الانتاج. وكل ما ينطوي عليه الانسان من مشاعر ورغبات واحكام وافكار وقدره على الانتخاب انما هو انعكاس لظروف بيئته الطبيعية والاجتماعية. الانسان بموجب هذه النظرية مرآة لا تستطيع ان تعكس سوى ما يحيطها، وليس بمقدوره ان يقوم بادنی حركة خلافا لما تسمح به ظروف البيئة الطبيعية الاجتماعية.

والنظرة الاخرى ترى الانسان موجودا متمتعا بخصال الهية ومزودا بفطرة تدفعه لان يطلب الحق وينشده، وقادرا على التحكم بنفسه وعلى التحرر من جبر الطبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم. والقيم الانسانية بموجب هذه النظرة لها اصالتها في الانسان، اي ان ثمة نزعات قد اودعت في طبيعة الانسان، والموجود البشري بموجب طبيعته الانسانية ينشد القيم الانسانية السامية، وبعبارة اخرى ينشد الحق والحقيقة والعدالة ومكارم الاخلاق، ويستطيع بموجب قواه العقلية ان يخطط لبناء مجتمعه وان لا يستسلم استسلاما اعمى لظروف البيئة، وان ينفذ مشاريعه الفكرية انطلاقا من ارادته وقدرته على الانتخاب.

دور الوحي هو الموجه والمساعد للانسان، وباعتبار ان الوحي هادي البشرية وحامي القيم الانسانية. الانسان يتاثر دون شك بظروف بيئته، لكن هذا التفاعل لا يسير باتجاه واحد بل ان الانسان يؤثر أيضا على بيئته. والمسألة الاساسية في هذا التفاعل هي ان تأثير الانسان على البيئة لا يظهر على شكل ردود فعل جبرية قهرية. فالانسان، باعتباره موجودا واعيا حرا مريدا قادرا على الانتخاب ومجهزا بخصائص فطرية سامية، يبدي احيانا ردود فعل تختلف عما يبديه حيوان مسير فاقد للوعي من ردود فعل. الخصلة الرئيسية التي تميز الانسان عن سائر الموجودات هي قوة سيطرة الانسان على نفسه والثورة على انحرافاته. وكل النقاط المضيئة في تاريخ البشرية نابعة من هذه الخصلة. وهذا الجانب المتسامي من الانسان منسي تماما في الاتجاه الالي لتفسير التاريخ.

التفسير القرآني

التفسير القرآني للتاريخ ينطلق دون شك من النظرة الثانية. القرآن يسرد وقائع التاريخ البشري منذ بداية الخليقة على انها صراع مستمر بين قوى الحق وقوى الباطل، بين مجموعة من أمثال ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - واتباعهم المؤمنين، ومجموعة اخرى من أمثال نمرود وفرعون وجبابرة اليهود وابي سفيان وامثالهم.

لكل فرعون موسى…

وفي خضم هذا الصراع المستمر ينتصر الحق حينا والباطل حينا آخر.

وانتصار احد الفريقين وفشله يرتبط طبعا بمجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية.

تأكيد القرآن على تاثير العوامل الاخلاقية في مسيرة التاريخ صير من التاريخ مصدر تعليم مثمر معطاء، ولو نظرنا الى التاريخ على انه مجموعة صدف واتفاقات ليس لها علة ولا موازين وضوابط، لتبدلت احداث التاريخ الی اساطير لا تصلح الا للتسلية والسمر وتربية الخيال، دون ان يكون فيها اي عطاء تعليمي. وآمنا بوجود قواعد وموازين للتاريخ دون ان يكون للانسان دور فيه، لاضحى العطاء التعليمي للتاريخ نظريا فقط لا عمليا.

وسوف نتعلم - في هذه الحالة - من التاريخ نظير ما نتعلمه من حركات الكواكب والمجرات.

وكما ان معلوماتنا عن الكواكب والنجوم لاتساعدنا في تغيير مسيرها، كذلك معلوماتنا عن التاريخ لا تمنحنا اي دور في تعيين مسير حركة التاريخ.

اما حينما نؤمن بضوابط التاريخ وموازينه وقواعده، وبدور ارادة الانسان في تعيين مسير حركة التاريخ وبالدور الاصيل والحاسم للقيم الاخلاقية والانسانية، يصبح التاريخ حينئذ ذا عطاء تعليمي مفيد، والقرآن ينظر الى التاريخ من هذه النافذة. القرآن الكريم يتحدث مرارا عن الدور الرجعي الذي يلعبه «الملأ» و«المترفون» و«المستكبرون» على مسرح التاريخ، كما يتحدث عن دور «المستضعفين»…

ويؤكد القرآن في الوقت ذاته على أن الصراع المستمر بين الفريقين منذ فجر التاريخ ذو هوية معنوية انسانية لامادية طبقية.

المجتمع المثالي

مسألة نهضة «المهدي» - عليه السلام - قضية اجتماعية فلسفية كبرى. هذه المسألة لها اركانها وعناصرها المختلفة، بعض هذه الاركان والعناصر فلسفي عالمي يشكل جزءا من التصور الاسلامي، وبعضها ثقافي تربوي، وبعضها سياسي وبعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي وبعضها انساني وانساني - طبيعي. لا يسعنا هنا أن ندرس هذه المسألة على ضوء القرآن والسنة، كذلك نكتفي بذكر خلاصة لخصائص هذه البشرى الكبرى للكشف عن ماهية «الانتظار الكبير».

أ - التفاؤل بمستقبل البشريه: فحول مستقبل المسيرة البشرية اختلفت الآراء والنظرات. اعتقد بعض المفكرين ان الشر والفساد والتعاسة صفات لا تفارق الحياة البشرية، وذهبوا الى ان الحياة لا قيمة لها على الاطلاق، وافضل ما يستطيع ان يقوم به الانسان هو ان يضع نهاية لهذه الحياة. وبعض اخر ذهب الی ان الحياة البشرية بتراء، وقال: ان البشرية تحفر قبرها بيدها بفعل تطورها التكنولوجي وتقدمها في صنع وسائل التخريب والدمار، وهي على شفا السقوط والانهيار.

ب - انتصار الحق والتقوى والسلام والعدل والحرية على الظلم والدجل والاستكبار والاستعباد.

ج - قيام حكومة عالمية واحدة.

د - عمران الارض بحيث لاتبقى بقعة خربة غير عامرة.

هـ - بلوغ البشرية حد النضج والتكامل يلتزم فيه الانسان طريق العقل والعقيدة، ويتحرر من اغلال الظروف الطبيعية والاجتماعية والغرائز الحيوانية.

و - استثمار ذخائر الارض الى أقصى حد ممكن.

ز - احلال المساواة التامة بين البشر في حقل الثروة.

ح - اقتلاع جذور الفساد كالزنا والربا والخيانة والسرقة والقتل وشرب الخمر، وخلو النفوس من العقد والاحقاد.

ط - زوال شبح الحروب وسيادة السلام والحب والتعاون والصفاء.

ي - المواءمة بين الانسان والطبيعة.

هذه الاهداف تلقي الضوء على ماهية مسألة المهدي، وكل واحدة منها تحتاج الی استدلال وتحليل ودراسة لا يسعها بحثنا هذا.[/RIGHT]


hgpv;m hgj;hlgdm ggjhvdo ,hgrdl hghkshkdm