تأثير الجينات البشرية في الصراعات الأيديولوجية
بقلم: علي مقدم

المجتمعات الطبقية و الإستغلال

لم تكن المجتمعات البشرية في مراحلها الأولى تعرف ما يُسمى بالملكية الفردية، و كان يسود الحياة نوع من التضامن و المساواة و ذلك نتيجة ضعف الإنتاج و بساطته و ضرورة الإتحاد من أجل مواجهة الطبيعة.
عند تطور القوى الإنتاجية، ظهرت الطبقات بعدما أن أصبح الإنتاج يفوق الإحتياجات الأساسية و ما يلزم للإستخدام المباشر في المعيشة اليومية ، فظهرت نتيجة ذلك الفروقات و بداية إستغلال الإنسان للإنسان من خلال إستعانة الغني بالفقير لمضاعفة ثروته.
و تتالت بعد ذلك الأنظمة التي تحكم المجتمعات البشرية و القائمة على الإستغلال و إن بنسب متفاوتة ، إلا أن المبدأ نفسه و ما زال مستمراً حتى يومنا هذا. فتركيبة المجتمعات الطبقية تُحَتِم وجود مُستَغَل و مُستَغِل و بالتالي لا يمكن لأي فرد من أفراد هذا المجتمع أن يكون محايداً حتى لو إدعى ذلك ، لأن في حياده هذا، يدعم المسيطر و المُستَغِل و يُشكل له أداة نشطة لصيرورة نظامه و تأبيد سيطرته.


دراسة توماس سوويل حول جذور الصراعات الأيديولوجية

السؤال يبقى دائماً، لماذا هناك أفراد لديها نزعات ثورية رافضة لواقعها الغير عادل و مجموعة أخرى تنخرط في سياسة المسيطر عن سابق إصرار و تصميم ؟

توماس سوويل (Thomas Sowell) في كتابه "تناقض الرؤى" تناول أسباب أو جذور الصراعات السياسية و الإيديولوجية لدى البشر و فسرها من خلال إرتباط كل فرد بإحدى التصورين: المقيد أو الحر.
فأصحاب التصور المقيد لا يحاولون إيجاد سبب لظلم الإنسان للإنسان مثلاً، حيث يعتبرون بأن لا جدوى من معرفة الأسباب لأنها متأصلة في النفس البشرية ولا يمكن التخلص منها لكن ما يمكننا فعله هو لجمها و إحتوائها من خلال القوانين التي يجب أن تُسَن على هذا الأساس.
أما أصحاب التصور الحر يرون بأن من الضروري معرفة و فهم سبب إستغلال الإنسان للإنسان الأخر لمعالجة هذه الظواهر من جذورها و إستئصالها.

دراسة سوويل بالرغم من محاولتها إعطاء نظرة شاملة للصراعات الإيديولوجية إلا أنها لم تفسر أسباب إعتماد طرف تصور معين دون الأخر.
مثلاً: ما هي العوامل المسؤولة التي تُحَفذ خيار على أخر في مسألة رفض الواقع ؟

طبعاً غير الظروف الموضوعية المحيطة ، ظروف التنشئة و البيئة ، حيث نعرف تماماً أهمية هذه العوامل في تكوين شخصية الفرد و سلوكه ، لكننا مع تطور العلوم (علم النفس ، الطبيعيات …) أصبحنا نعرف أيضاً أن للجينات البشرية دور لا يمكن تجاهله في عملية تحفيز سلوك معيّن لدى الفرد ، و نظراً إلى أن التمرد و الثورية هي صفات سلوكية ، فمن المنطقي أن يكون للجينات البشرية دوراً في تحفيز السلوك الثوري من عدمه.


نبذة سريعة عن علم الوراثة السلوكية

بدأ التكلم عن الجينات السلوكية في أواخر القرن التاسع عشر، و نُشرت أول مقالة علمية بعنوان العبقرية الموروثة (Hereditary Genuis) من قِبَل فرانسيس غالتون (Francis Galton) سنة ١٨٦٩.
و تتالت الأبحاث في هذا المجال، و أصبح من المتعارف عليه بأن الوراثة و البيئة كلاهما يتفاعل لمنح الصفات السلوكية.
تعتمد الأبحاث في علم الوراثة السلوكية بشكل كبير على دراسة التوائم المتماثلة عندما يربى كل منهم في ظروف بيئية مختلفة، و من خلال دراسة التشابه بين الابناء بالتبنى مع آبائهم، الحقيقيين والغير حقيقيين.untitled

في دراسة لMatt McGue و رفاقه [1,2] من جامعة مينوسوتا (Minnesota) تحت عنوان التأثير الوراثي و البيئي على الإختلافات السلوكية عند الإنسان (Genetic and environmental influences on human behavioral differences) تم وجود روابط قوية بين الوراثة و سمات و إضطرابات سلوكية كالإدمان على الكحول ، الشره المرضي (Bulimia) ، إضطراب الهلع (Panic Disorder) ، إضطراب القراءة (Reading Disorder) ، إضطراب نقص الإنتباه/فرط النشاط (ADHD) و مرض الشيزوفرينيا (Schizophrenia).

في دراسة حديثة لDouglas R. Oxley و فريقه [3] من جامعة Nebraska-Lincoln تحت عنوان إختلاف المواقف السياسية مع إختلاف الصفات الفيسيولوجية (Political Attitudes Vary with Physiological Traits) ، تبين وجود رابط بين الصفات الفيسيولوجية للفرد و مواقفه السياسية.
مثلاً الأشخاص الذين يتأثرون جسدياً بشكل أقل (حركة العيون و نبضات القلب …) نتيجة الأصوات المفاجئة ، لديهم ميل لأخذ قرارات سياسية أقل تعصباً تجاه الأجانب ، و لديهم نزعات مسالمة ، بعكس الأشخاص الذين يتأثرون بدرجة أكبر نتيجة الأصوات المفاجئة الذين يميلون إلى التعصب و يؤيدون شن الحروب …

طبعاً لن يتسنى لنا أن نذكر جميع الدراسات في هذا المجال ، لكن الهدف كان إعطاء صورة عامة عن علم الوراثة السلوكية.


خلاصة

عندما نتكلم عن دور للجينات البشرية في الصراعات الأيديولوجية ، هذا لا يعني أن تحديد شخصية الفرد إن كانت ثورية أم لا ، يعتمد حصراً على وجود بعض الجينات الموروثة ، لكننا في صدد تسليط الضوء على إمكانية أن تلعب الجينات دوراً في تحفيز السلوك الثوري من عدمه.
طبعاً موضوع بهذا التعقيد يلزمه إختصاصيين لإعطائنا المزيد من التفاصيل ، فجدلية الجينات و البيئة ، هي جدلية بالغة التعقيد و أي محاولة للفصل بينهما هو أمر مرفوض على المستوى العلمي.

فشخص لديه الجين المسؤول عن التحفيز على الإدمان على الكحول ، و إذا كان هذا الشخص يعيش في مجتمع محافظ كالسعودية مثلاً ، فإحتمال أن يصبح مدمناً أو متعلقاً بالكحول هو إحتمال ضئيل جداً، بعكس شخص أخر لديه نفس الجين لكنه يعيش في مجتمع يُعتبر الكحول جزءاً من ثقافته.


بالنسبة للسلوك الثوري، فإذا كانت هناك جينات تلعب دوراً مباشراً أو غير مباشراً في تحديد الهوية الفكرية أم لا، يبقى العامل الأساسي و الأهم هو الوعي البشري ، و دوره في عملية النقد الذاتي ، سلاح أي فرد ، يريد أن يفهم الواقع و حركته ، لكي يتخذ موقفاً واضحاً من الإستغلال و العدل، الظلامية و العلم، السلبية و الثورية.



References

[1] McGue M (2010) The End of Behavioral Genetics? Behav Genet 40:284–296.

[2] McGue M, Bouchard TJ (1997) Genetic and environmental influences on human behavioral differences. Annu Rev Neurosci 21:1–24.

[3] Douglas R. Oxley (2008),Political Attitudes Vary ith Physiological Traits 10.1126/science.1160995.[/RIGHT]


jHedv hg[dkhj hgfavdm td hgwvhuhj hgHd]d,g,[dm