دار جدل حول مولد المهدي محمد بن الحسن العسكري ، وكنت أتمنى على الخائضين في هذا الأمر ؛ القدامى منهم والمحدثين لو تجردوا من الأحكام السابقة، وتأنوا في إصدار أحكامهم ، وبحثوا ودققوا وأعملوا عقولهم ، وحاكموا النصوص ، وامتحنوا الأخبار ، ولم يتعجلوا ، إذ كان الأجدر بهم إن لم يتأكدوا ، ولم يتمكنوا من التوصل إلى حكم في هذه القضية ، أو في غيرها من الروايات التاريخية، أن يتوقفوا عن إلقاء الأحكام جزافًا ، ووضعها في إطار الأخبار الموثقة ، فيسيئون لأصحاب العلاقة ، ويشوهون التاريخ . لذا ، فعلى المؤرخ الثقة، أو الباحث الأمين ، إن عجز عن التثبت من خبر ، ولم تتوفر لديه القرائن والأدلة ، ألا يتعجل ويجزم بحكم؛ لأنه إذا تساوت الروايات وتعددت ، وجبت الموازنة والمحاكمة للترجيح واستخلاص الحقيقة بعيدًا عن الهوى ، إذ لا يجوز لمؤرخ أو نسابة أن يرتب حكمًا قاطعًا على سماع غير مؤكد ، أو روايات متضاربة ، أو أخبار غير جديرة باتخاذها دليلاً على حكم يترتب عليه أمر جلل ، يمتد أثره مئات السنين ، ومن ذلك ما عرض لمولد محمد المهدي ، فقد أصدر عدد قليل من القدامى وعلى رأسهم ابن حزم -محكومًا بهواه الأموي - حكمًا قطعيًا بعقم الحسن العسكري ، فاتكأ على قوله وحكمه هذا - دون بحث أو تمحيص - عدد من المؤرخين والباحثين القدامى منهم والمحدثين ، المنكرين لمولد محمد بن الحسن العسكري ، وأراحوا أنفسهم من عناء البحث وتكاليف التنقيب ، وتناسوا أن ابن حزم كان بعيدًا مكانيًا وزمانيًا عن مكان الحدث ، فقد ولد ونشأ ومات في بلاد الأندلس ، على بعد آلاف الكيلومترات من سامراء في القرن الخامس الهجري .
وبعيدًا عن أن نتجرأ على ابن حزم ، أو ننقص من علمه ، يقول ابن سعيد المغربي عنه:" له في بعض تلك الفنون كتب كثيرة ، غير أنه لم يخلُ فيها من غلط وسقط ؛ لجراءته في التسور على الفنون..فاستُهدف لكثير من الفقهاء ، وعِيْبَ بالشذوذ ،فطفق الملوك يُقْصُونَهُ عن قربهم ، ويسيّرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به منقطع أثره بقرية بَلَدَه من بادية لبلة ، وبها توفي - رحمه الله - سنة ست وخمسين وأربعمئة "( )ويضيف قائلاً: " وكان متشيعًا في بني أمية ، منحرفًا عمن سواهم من قريش"( ). وعن ابن حزم يقول صاحب نفح الطيب: " شنّع عليه الفقهاء ، وطعنوا فيه ، وأقصاه الملوك ، وأبعدوه عن وطنه ، وتوفي في البادية"( ). ولا يعني ما سقناه أننا نحط من قدر الرجل ،فهذا الإمام الذهبي يقول فيه:" الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم ... رجل من العلماء الكبار.. تقع له المسائل المحررة ، والمسائل الواهية ، كما يقع لغيره ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد امتُحن هذا الرجل وشدد عليه ، وشرد عن وطنه وجرت له أمور ، وقام عليه الفقهاء لطول لسانه ، واستخفافه بالكبار ، ووقوعه في أئمة الاجتهاد بأفج عبارة ، وأفظ محاورة ، وأبشع رد .. قال أبو العباس ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين"( ).ويقترب صاحب العبقريات الأستاذ عباس محمود العقاد مما نريد عندما يقول:" فعِلمُ ابن حزم بالأسانيد والأنساب معروف ، ولكنه...عرضة للهوى كأشد ما يكون الهوى ، حتى ليكون تكذيبه لرواية داعية من دواعي احتمالها وقبولها ، كان ابن حزم أمويًا غاليًا في التشيع للأموية ... ولعله لم يضع كتابه في جمهرة أنساب العرب ،إلا ليثبت حق بني أمية في الخلافة ؛ لأنهم من قريش ، فصعد بحق الخلافة إلى جد الأمويين والهاشميين"( ).ويمضي العقاد ليقول:" إن هواه (ابن حزم) قد جنح به إلى قبول ما ليس بحجة في إثبات نسب أو دفع نسب"( ). ومن هنا فإن ما ذهب إليه ابن حزم ليس بحجة ، ولا ينبغي لباحث أو عالم أن يتذرع بها ، أويتعلق برقابها.
ومن الذين يستند إلى قولهم المنكرون ، ويتعلل بقولهم المتواكلون من الباحثين كل من ابن جرير الطبري ، وابن صاعد ،وقد بحثت عن قول الطبري وقول ابن صاعد في هذا الأمر فلم اعثر عليه ربما لقصور في أدواتي ،إلا أن الإمام الذهبي أشار في سير أعلام النبلاء إلى ذلك ، ثم تداوله آخرون. قال الذهبي: "وممن قال إن الحسن العسكري لم يعقب: محمد بن جرير الطبري، ويحيى بن صاعد، وناهيك بهما معرفة وثقة"( ). ونحن لا ننكر عليهما هذه المعرفة ، ولا تلك الثقة ، ولكن إذا وقفنا أمام الطبري الفقيه المحدث المؤرخ وجدناه يعتذر مسبقًا عن القصور أو الخطأ في تاريخه ونقوله وكتاباته ، إذ يقول في مقدمة كتابه (تاريخ الرسل والملوك): " وليعلم الناظر في كتابنا هذا ، أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه ، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه ، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه ، دون ما أدرك بحجج العقول ، وأستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه ، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين ، وما هو كائن من أنباء الحادثين ، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ، ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ، ونقل الناقلين .. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ، أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ، ولا معنى من الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا ، وإنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدّي إلينا"( ). ويؤكد ابن كثير ما ذكره الطبري من نقله الأخبار محيلاً المسؤولية على الآخرين فيقول: وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين ، والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه( ). ويقول مصطفى السباعي في هذا الخصوص:" يعد الطبري حجة ثقة فيما يروي، ولكنه كثيرًا ما يذكر روايات ضعيفة ، أو باطلة، مكتفيا بإسنادها إلى رواتها الذين كان أمرهم معروفًا في عصره، كما في رواياته عن أبي مخنف، فقد كان شيعيًا متعصبًا، ومع ذلك فقد أورد له الطبري كثيرًا من أخباره بإسنادها إليه، كأنه يتبرأ من عهدتها، ويلقي العبء على أبي مخنف"( ). إذًا فكتَّاب التاريخ ما هم إلا حاطبو ليل ، إذ ليس أمامهم إلا أن يأخذوا ما يصل إليهم من الرواة من عامة الناس وخاصتهم ؛ ما صدق من أخبار ، وما لم يصدق ، وما صدر منها عن واقع وما صدر منها عن أهواء ، وتلونت بمعتقدات ومذاهب ، هذا من جانب ، أما الجانب الآخر ، فإن المؤرخ يسطر في تاريخه ما ورد إليه من تلك الأخبار ، أما ما لم يصله وهو كثير ، فإن تاريخه سيكون خلوًا منه ، وخلو الكتاب من بعض الأخبار والوقائع لا يعني عدم حدوثها وبالتالي إلغاءها من التاريخ ، وإنما يعني قصور أدوات المؤرخين ، واستحالة إحاطتهم بكل ما دار ويدور على مساحات شاسعة مترامية الأطراف في عصر خلا من التقنيات الحديثة ، فإذا تصفحنا تاريخ الطبري ، لم نجده يذكر وفاة الحسن العسكري في أحداث سنة 260هـ فهل يعني هذا أن الحسن العسكري غير موجود ، أو أنه لم يمت؟؟ ، وإن لم يذكر وفاة الحسن ، فمن باب أولى ألا يذكر نسله وولده. .
أما يحيى بن محمد بن صاعد فنحن لا نشك في علمه ، وما قيل في الطبري ينسحب عليه ، فهو محدث وفقيه ، لكنه ليس بمؤرخ ولا نسابة ، كما أن حياته كانت بمرو وهراة منقطعًا للعلم ، حيث ولد ومات ودفن في هراة ، فأين هو من بغداد وسامراء ، وقد قضى عمره في الحديث والفقه ما بين مرو بتركمنستان ، وهراة في أفغانستان؟!.
إذًا فهؤلاء الثلاثة (ابن حزم والطبري وابن صاعد) هم الذين اعتمد عليهم المنكرون لمولد محمد بن الحسن ، فابن حزم لم يعتمد على مراسلين له ومندوبين في بغداد وسامراء ، ولا دخل في ذلك العصر الشبكة العالمية للمعلومات ، واخترق سجلات مستشفى الولادة العام في سامراء ، واطلع على سجلات المواليد فيه ، ليحكم بعدها بأن الحسن لا عقب له . وما كان الطبري ، ولا ابن صاعد ليختلفا عن ابن حزم في افتقارهما لأدوات امتلاك المعلومة ، فما شهدا مراسم دفن الحسن العسكري ، وما تواصلا في ذلك العصر بإدارة مستشفى سامراء للولادة ، ولا بأطبائه ولا ممرضيه ، لا هاتفيًا ولا إلكترونيًا، ولا بغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي ليخرجا علينا بهذا الحكم.
( ) المغرب في حلي المغرب ، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد المغربي الأندلسي (ت685هـ) تحقيق د.شوقي ضيف ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف ، القاهرة 1955م.1/354-355. وينظر: تذكرة الحفاظ ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار المعارف العثمانية 1374هـ ، دار الكتب العلمية ، بيروت، 3/1151.
( ) المغرب في حلي المغرب 1/355 ، تذكرة الحفاظ 3/1152
( ) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق د. إحسان عباس ، 2/78 دار صادر، بيروت1968م.
( ) تذكرة الحفاظ 3/1154
( ) فاطمة الزهراء والفاطميون ، عباس محمود العقاد، الطبعة الثانية ، ص54 ، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1998م.
( ) المرجع السابق ص54.
( ) سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط ، الطبعة الثالثة ، مؤسسة الرسالة، 1985م .
( ) تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ) 1/7-8 ت محمد أبو الفضل إبراهيم ط2 دار المعارف بمصر.
( ) السيرة النبوية ، ابن كثير القرشي عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر (774) 4/414.
( )السيرة النبوية دروس وعبر/ مصطفى السباعي ، ط3 المكتب الإسلامي 1985.
مواقع النشر (المفضلة)