أرنولد توينبي


إعداد: عثمان حسن
«الحضارة تموت بالانتحار، لا بالقتل».. لا شك أن هذه الخلاصة استغرقت قائلها تاريخاً من البحث والاستقراء في حركة البشرية، ولا غرابة، فهو صاحب «دراسة في التاريخ»، و«تاريخ البشرية».


c2a6c9aa-919c-41ed-9









لقد كان أرنولد توينبي أكثر من مؤرخ بلا شك، إنه الفيلسوف المفكر، صاحب الرأي والرؤية. درس الحضارات وحركة المجتمعات، منحازاً إلى الإنسان، وإبداع الفرد، والفئة الخلاقة، ومقرراً أن مواجهة «التحدي» هي الطريق إلى القمة، قمة الحضارة والتاريخ، القمة الخالدة.

حياته

ولد توينبي لعائلة إنجليزية ذات منزلة ثقافية عالية، كانت تضم عدداً من قامات الفكر والأدب والثقافة، وكذلك في ميدان التاريخ وعلم الاجتماع.








درس توينبي اللغتين اليونانية واللاتينية في كلية باليول بجامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وقد بلغ درجة الزمالة في هذه الكلية، وعمل في الوسط الأكاديمي أيضاً بوظيفة أستاذ للدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن.









زوجة توينبي الأولى «روزلند» هي كذلك من عائلة أكاديمية، فهي ابنة العالم الانجليزي المعروف في الدراسات الكلاسيكية، جلبرت ميدي.
دخل توينبي الوسط السياسي من خلال عمله في وزارة الخارجية البريطانية مديراً لدائرة الدراسات، وقد تزامنت فترة عمله في وزارة الخارجية مع الحرب العالمية الأولى.
زار توينبي عدداً من البلدان خلال حياته الأكاديمية والمهنية، فاطلع على معالم حضارة اليونان حين حصل على فرصة لدراسة الآثار اليونانية في المدرسة البريطانية بأثينا، كما زار القاهرة عام 1964 وألقى عدداً من المحاضرات فيها.

دراسة في التاريخ
كتاب «A Study of History» هو موسوعة تاريخية وضع فيها توينبي عصارة فكره وخلاصة فلسفته في التاريخ وعلم الاجتماع، ويقع هذا المؤلَف الموسوعي في اثني عشر مجلداً، قضى توينبي في كتابتها واحداً وأربعين عاماً.
ناقش توينبي فكرة الحضارة فلسفياً، لا من خلال السرد التاريخي فحسب، فقدم أفكاراً جدلية وجريئة في سؤال الحضارة وحركة المجتمعات، ازدهاراً وأفولاً.
لم يؤمن توينبي أن دراسة التاريخ تتم من خلال الأمم أو الدول القومية، بل رأى أن المجالات المعقولة للدراسة التاريخية هي المجتمعات أو الحضارات الأكثر اتساعاً، سواء في الزمان والمكان.

التحدي والاستجابة
وضع توينبي نظريته الخاصة لقراءة التاريخ، وهي نظرية «التحدي والاستجابة»، وجعلها أساساً لتفسير نشوء الحضارات الأولى، التي أسماها «الحضارات المنقطعة».
وقد أقر توينبي بأنه أخذ هذه النظرية بشكل أساسي، أو استلهمها، عن العالم السويسري «كارل جوستاف يونج»، مؤسس علم النفس التحليلي.
تضع هذه النظرية النفسية تفسيرين لسلوك الفرد عند تعرضه لصدمة ما، من خلال استجابتين إيجابية وسلبية لهذه الصدمة، فإن لجأ الفرد إلى ماضيه هروباً من واقعه وتمسكاً بالماضي لتعويض صدمته بالحاضر، فهذه استجابة سلبية لا شك، تورث الانطوائية، أما إذا ما تمكن الفرد من مواجهة صدمته بدءاً بتقبلها والاعتراف بها ثم الاجتهاد من أجل التغلب عليها، فإن هذه استجابة إيجابية، ويوصف الفرد هنا بأنه «انبساطي».
لقد أسقط توينبي هذا المبدأ الفلسفي على حركة المجتمعات، واستقرأ سلوك الحضارات لدى مواجهتها التحديات التاريخية، وتباين ردود أفعالها إيجاباً وسلباً، فقال في تفسير نشأة الحضارات الأصلية الأولى في كل من وادي الرافدين ووادي النيل: «إن السهل الأفروآسيوي (جنوب شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا) كان غنياً بالمراعي والمياه خلال نهاية الفترة الجليدية الأخيرة، وكانت التجمعات البشرية القليلة المنتشرة فيه تعيش هانئة معتمدة على الصيد والقنص وجمع الثمار».
وأضاف: عندما وقعت «الصدمة» التاريخية بحدوث تغير مناخي تدريجي في الفترة المعتدلة أو الدفيئة الأخيرة، وما تسبب به ذلك من انحباس الأمطار وانتشار التصحر، واجهت المجتمعات هذا التحدي بأنماط سلوكية متباينة، فاختارت بعضها البقاء في أرضها وتحولت إلى قبائل بدوية، وهذه استجابة سلبية، فيما قررت مجتمعات أخرى الرحيل إلى مناطق جديدة مختلفة قريبة من الأنهار، حيث أسست تلك الحضارات الأولى، فكانت استجابتها هنا ديناميكية إبداعية «إيجابية».
ويؤكد توينبي في فلسفته على الدافع الحيوي الذاتي في نمو الحضارات، لافتاً إلى الدور المهم للأفراد المبدعين أو القادة الملهمين لقيادة التحرك الإيجابي للمجتمع.
ومن خلال رؤيته لهذه الفئة المبدعة يبني توينبي تفسيره لسقوط الحضارات، فيقرر أن من أسباب هذا السقوط ضعف القوة الخلاقة في هذه الفئة القائدة أو تحولها إلى سلطة تعسفية، أما السبب الثاني فهو ألا توالي الأكثرية تلك الأقلية الخلاقة ولا تحاكي إبداعها.
ويترك توينبي السبب الثالث والأخير في سقوط الحضارات إلى الخلل في الوحدة والانشقاق في الكيان المجتمعي.
ومن الجدير بالذكر هنا ما أشار إليه بعض الدارسين بأن فلسفة توينبي في قراءة التاريخ وما تضمنته من تطبيق نظرية التحدي والاستجابة على حركة المجتمعات ونشوء الحضارات أو أفولها، هي في جوهرها منبثقة مما قاله المفكر والمؤرخ ابن خلدون، رائد علم الاجتماع الذي عاش قبل توينبي بستة قرون.
وكان ابن خلدون قد سبق إلى تأكيد استخدام العصبية استخداماً مبدعاً، مفسراً كيفية فقدان الدول لقدرتها على المنافسة عندما تتوقف عن الاستجابة للتحديات.

موقفه من القضية الفلسطينية
«نقطة سوداء في تاريخ الغرب».. هكذا قرأ توينبي القضية الفلسطينية والمسؤولية التاريخية للغرب في مظلومية الفلسطينيين، دون أن يتردد في وصف وعد بلفور ب «الشرير»، ولا في الإشارة إلى «الجريمة المنظمة» التي ارتكبتها بلاده - بحسب وصفه أيضاً - حين أقدمت على إحلال اليهود في فلسطين على حساب أهلها.
وقد انطلق توينبي في موقفه من القضية الفلسطينية من أساس إنساني، منحازاً إلى الإنسان العربي الفلسطيني، صاحب الحق، ومؤكداً في حوار صحفي موثق عام 1973 أن الحل المثالي هو في الاستعادة الكاملة لفلسطين واسترجاع أهلها لها.

حدث مهم للغاية
تم استعراض كتاب «دراسة في التاريخ» لأرنولد توينبي في ذات السنة التي صدر فيها الكتاب في عام 1934، في مقال طريف للغاية، نقتطف منه الآتي:
يمكن لمعظم الناس الذين بلغوا منتصف العمر أن يتذكروا كتابين أو ثلاثة، قادت، أو أضاءت دراساتهم وملاحظاتهم عن الحياة والتاريخ. إن مثل هذه الكتب لا يتم إنتاجها في هذه الأيام، ذلك لأن «السيد أرنولد توينبي» قدم مقارنة بارعة في كيفية دراسة المجتمعات وتطورها التاريخي والصناعي.
هؤلاء الناس بالنسبة لتوينبي فاقدو الثقة بالدور الذي لعبته كتب التاريخ.
تشير «الجارديان» إلى إعجاب توينبي بالمؤرخ وعالم الآثار الألماني «ثيودور مومسين» (1817-1903) الذي كرس حياته لكتابة التاريخ الروماني، وقد نشر كتابين حول هذا الموضوع، كما تنقل بين الأكاديميات الأوروبية أستاذاً في هذا التخصص، وقضى بقية حياته في نشر الكثير من النقوش اللاتينية التي انتهت بمقدمة موسوعية عن القانون الدستوري الروماني.
من الأسلم أن نقول، والكلام ل «الجارديان»: إن هناك فئة قليلة من الناس، لم يشكل لها عمل توينبي حدثاً مهماً للغاية، فيما الحقيقة أن توينبي قد أصاب المخيلة في كل العصور، وذلك من خلال أصالة ما قدم من عمل واسع النطاق فيه الكثير من متانة القوة والعلم، ويصلح لزماننا هذا، الذي يشعر فيه معظم الناس بعدم الراحة، في عالم يقودهم رأساً على عقب إلى منزلق سطحي وخطير.
وتوينبي، لا يعرض على القارئ خلطة من حداثة علم النفس أو علم الأحياء مع السياسة، بقدر ما يقدم امتحانا كبيرا وواسعا وهادئا، بل فهما فلسفيا للتاريخ، يضيف ما يمكن اعتباره رصيدا في المادة الفكرية الرصينة التي تحتاج إلى مهمة خارقة تستفيد من تجربة الحياة العامة لأولئك النفر من العلماء والمفكرين والسياسيين.
في دراسته للتاريخ، قدم توينبي ثلاثة مجلدات أراد استكمالها في 13 مجلدا ضخما، تطلع القارئ على هبوط وصعود المجتمعات في سلم الحضارة، بطبيعة الحال كانت بريطانيا، عضواً في مجتمع أوروبي، مر بمراحل مختلفة غادرت خلالها نظام الإقطاع مروراً بالإصلاح والصناعة والنهضة.

موقفه من الإسلام
قدم توينبي رؤيته في الحضارة الإسلامية من خلال مؤلَفه الأخير، «تاريخ البشرية»، الذي تضمن ما يفوق السرد التاريخي من خلال التحليل العميق والواعي للتاريخ في أقسام ثلاثة درست الحضارات الأولى (القديمة)، ثم الحضارات الحديثة، وأخيراً عرض الفلسفة التاريخية الخاصة بتوينبي.
يصف توينبي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه عبقري، وذو أثر كبير في التاريخ، كما أنه ذو رؤية نيرة، متطرقاً أيضاً إلى براعة الرسول الكريم وحكمته في إدارة الدولة بعد الهجرة إلى المدينة.
ويلتفت توينبي بكثير من الإعجاب إلى نظرة الإسلام إلى المسيحيين واليهود على أنهم أهل كتاب، كما يدافع عن الفتوحات الإسلامية ويؤكد أن الحاميات العربية الإسلامية في البلاد المفتوحة لم تكن تبشيرية النزعة.

بطاقة شخصية
- الاسم: أرنولد جوزف توينبي
- تاريخ الميلاد: 14 أبريل 1889م
- مكان الميلاد: لندن
- الجنسية: بريطاني
- تاريخ الوفاة: 22 أكتوبر 1975م
- مكان الوفاة: مدينة يورك في الشمال الغربي من إنجلترا

من أقواله

- الحضارة تموت بالانتحار، لا بالقتل.
- أفضل الإنجازات التي يمكن تحقيقها أن نضفي عنصر المتعة والتشويق على العمل.
- ليست العبرة في كثرة القراءة، بل في القراءة المجدية.
- ظاهرة التدين هي أعظم ظاهرة بشرية في الوجود، وأعمقها تأملاً في الكيان الإنساني.
- إن ولائي الأسمى هو للبشر، وليس لدولتي المحلية، وليس للمؤسسة التي تسيطر على هذه الدولة.
- لقد سطت الكائنات البشرية بعضها على البعض الآخر، فأكل لحوم البشر والاسترقاق عرفتهما مجتمعات متطورة.
- إن معرفتنا وتجربتنا الحاليتين تشيران إلى القول الفصل بأن موطن سكان المحيط الحيوي على سطح الأرض سيظل مقصوراً على هذه الكبسولة التي ظهرت فيها الحياة.



Hvk,g] j,dkfd