صدمات ألمانيا الخمس


في غضون العقد الماضي كانت ألمانيا هي الدولة صاحبة النمو الاقتصادي الأقل سرعة بين دول الاتحاد الأوروبي، وكانت أوروبا هي القارة الأقل سرعة من حيث النمو الاقتصادي بين قارات العالم. فمنذ عام 1955 وحتى عام 2005 شهد اقتصاد ألمانيا نمواً لا يتعدى 14.6% بينما بلغ متوسط نمو الدول الأعضاء القديمة بالاتحاد الأوروبي في نفس الفترة 24%، وبلغ النمو الذي شهدته الولايات المتحدة عن نفس الفترة أيضاً 39.9%، وتجاوز نمو الاقتصاد العالمي 45.6%. تُرى ما السبب وراء هذا الأداء المتواضع لألمانيا؟

8f573d58-8dd6-4224-9

تقول إحدى النظريات، والتي يقر بصحتها رئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا فرانتز مونتفيرنج، إن ألمانيا قد بلغت بالفعل المكانة التي ما زال الآخرون يتمنون بلوغها. أما النمو الاقتصادي البطيء في ألمانيا فهو كما يؤكد علامة على التقارب الأوروبي الطبيعي.


لكن هذه النظرية ليست مقنعة. فقد تخلفت ألمانيا مؤخراً فيما يتصل بنصيب الفرد من الدخل الوطني عن العديد من دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها ايرلندا، والمملكة المتحدة، وهولندا، وفرنسا، وما زال نمو الاقتصاد الألماني يتزايد بطئاً عن كل تلك الدول.


هناك نظرية أخرى أكثر قبولاً تقول إن ألمانيا قد تعرضت طيلة الخمسة عشر عاماً الماضية إلى العديد من التحديات الخارجية أو الصدمات التي ضربت البلاد في وقت واحد. ونظراً للجمود الذي كانت عليه ألمانيا، فقد تسبب نظام الضمان الاجتماعي الشامل وسوق العمالة التي تعاني من المبالغة في التنظيم والمراقبة، في عجز ألمانيا عن التفاعل مع هذه الصدمات مما أدى إلى انزلاقها إلى المتاعب. وهذه النظرية تذكرني بنظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي والتي طبقاً لها تنهار الإمبراطوريات بسبب عجزها عن التفاعل مع التحديات الخارجية.


كانت الصدمة الأولى تتمثل في العولمة التي بدأت تزداد حدة، والتي أدت إلى جلب العديد من العمالة المنافسة الزهيدة الأجر. وعلى الرغم من أن العولمة عملية تدريجية إلا أنها اكتسبت قوة دفع شديدة حين قررت الصين أن تنزل إلى الملعب وتمارس اللعبة. يبلغ حجم الصين عشرة أضعاف حجم اليابان، ولم يكن التعامل مع اليابان أيضاً بالأمر اليسير. فقد خسرت ألمانيا على سبيل المثال مركزها المتفوق في مجال تصنيع الآلات الدقيقة والمعدات الخاصة بالبصريات حين نزلت اليابان إلى الساحة.


أما الصدمة الثانية فقد صاحبت تكامل الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك التوسعات إلى الشمال وإلى الجنوب.


فلقد أدت إزالة الحدود داخل الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز وضع وحجم السوق في كل دولة، وجذب المؤسسات الاقتصادية ذات الحجم الكبير كـما كـان متوقعاً. لكن الفوائد التي جنتها الدول الصغيرة من هذه التطورات كانت أكثر مما جنته الدول الكبيرة، كمـا أنها كانت تعني المزيد مـن المنافسة بالنسبة لألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأكثر ضخامة في أوروبا.

ولنتأمل شركة نوكيا صانعة الهاتف الجوال. فبفضل المؤسسات الاقتصادية الضخمة التي أصبح وجودها ممكناً بعد إنشاء السوق المشتركة، تمكنت نوكيا من استغلال استثماراتها على النحو الأكمل، بينما قررت شركة سيمنز الألمانية مؤخراً أن تتخلى عن سوق الهواتف الجوالة.


أتت الصدمة الثالثة بصحبة اليورو، الذي استحث تقارباً سريعاً لأسعار القائدة على القروض طويلة الأجل، والتي كانت في بعض الدول أعلى بمقدار خمس أو سبع نقاط نسبية عن المستوى الألماني. وبعد أن تحرر المستثمرون الدوليون من المجازفات المرتبطة بسعر الصرف كفوا عن مطالبة تلك الدول بعلاوات المجازفة وأصبحوا على استعداد لتقديم الاعتمادات المالية لكل تلك الدول تحت نفس الشروط الودية التي كانت قبل ذلك مُدَّخَرة لألمانيا.


هذا أمر طيب بالنسبة لأوروبا لأنه يساعد على تحسين عملية تخصيص رؤوس الأموال ويحفز النمو من خلال نقل المدخرات الألمانية إلى مناطق نائية كانت محرومة فيما سبق داخل منطقة اليورو. لكن فائدة هذا الأمر بالنسبة للعمال الألمانيين مشكوك في صحتها، حيث أن أولئك العمال أيضاً كانوا قد يرغبون في التعاون مع رأس المال ذلك.


تتلخص الصدمة الرابعة في توسعة الاتحاد الأوروبي نحو الشرق، وهو الأمر الذي جلب العديد من الفرص الاستثنائية للتجارة والاستثمار في الشرق، لكنه تسبب أيضاً في ظهور المنافسة من قِـبَل عمالة زهيدة الأجر.


ففي المتوسط لا تتجاوز تكاليف الأجور في الدول العشر التي انضمت في عام 2004 إلى الاتحاد الأوروبي 14% من المتوسط في ألمانيا الغربية. كما أدت المنافسة من قِـبَل العمالة زهيدة الأجر إلى انتقال التصنيع إلى الخارج على نحو ملحوظ، وإلى إيجاد أنشطة غير رسمية حافظت للشركات الألمانية على قدرتها على المنافسة مـن خلال تخفيض طلبها على العمـالة المحلية. وحيث أن لا الاتحادات العمالية الألمانية ولا مؤسسة الضمان الاجتماعي في ألمانيا قد تقبل بتخفيض الأجور، فقد كانت النتيجة الطبيعية ارتفاعاً في معدلات البطالة وتباطؤاً في النمو.


أما الصدمة الخامسة فقد كانت نتيجة لتوحيد شطري ألمانيا، وهي العملية التي سجلت إخفاقاً على المستوى الاقتصادي. ذلك أن نسبة الناتج المحلي الإجمالي مقسماً على ذلك القطاع من السكان ممن هم في سن العمل في ألمانيا الشرقية، كانت 61% من نظيرتها في ألمانيا الغربية في عام 1996، لكن النسبة الآن تدنت إلى 59%. ولقد تسبب النمو البطيء في القسم الشرقي من الدولة إلى انخفاض المتوسط الألماني ككل، بينما تسبب الطلب الهائل على صناديق التمويل العامة في الشرق إلى زيادة الدين العام. فضلاً عن ذلك فقد أدى الموقف المالي الضعيف بدوره إلى تقويض ثقة المستثمرين، وهو الأمر الذي يحمل العديد من المعاني الضمنية بالنسبة للنمو الاقتصادي.


تشكل هذه الصدمات الخمس مجتمعة تطورات تاريخية تحمل الكثير من الخير للعالم ككل، لكنها قادت ألمانيا إلى عدد من المشاكل. ولكي يتسنى للدولة أن تتصدى للتحديات وتستمر في النمو، فيتعين عليها أن تزيد من مرونة أسواق العمالة لديها. وإذا ما اتجهت الأجور نحو الانخفاض حتى تتمكن من التكيف مع البيئة الدولية الجديدة، ففي هذه الحالة فقط تستطيع العمالة الألمانية أن تستعيد القدرة على المنافسة من جديد، وهو الأمر الذي سيساعد الدولة بدورها على تحقيق معدلات توظيف أعلى، واستغلال رأسمالها البشري علـى أفضل نحو ممكن.


إن الحكومة الجديدة التي سيختارها الناخبون في شهر سبتمبر سوف تجد نفسها على الأرجح أمام مهمة عصيبة تتلخص في مواجهة الشعب الألماني بالحقائق والمسارعة إلى تنفيذ الإصلاحات الضرورية. وإذا ما تحقق ذلك فآنذاك فقط نستطيع أن نعرف ما إذا كانت ألمانيا قادرة على التصدي للتحدي الذي عبر عنه أرنولد توينبي في نظريته.

هانز-فيرنر سِن مدير معهد (Ifo) للبحوث الاقتصادية في ميونيخ.

منقول للفائدة



w]lhj Hglhkdh hgols