التمفصل العمودي للبيضان :

لقد كان لفظ البيضان يحمل في البداية معنى سلاليا يشير إلى ذوي البشرة الفاتحة و الملامح السامية ، في مقابل لفظ السودان الذي يشير إلى البشرة السوداء و الملامح الزنجية ، و لكن مع الزمن أصبح من يدخل في الإسلام و يتكلم اللهجة الحسانية حتى لو كان زنجيا وله بشرة داكنة ، يطلق عليه اسم بيضاني ، أي أن اللفظ قد تحول تدريجيا من محتواه السلالي إلى محتوى ثقافي لغوي و ديني (إبراهيم و آخرون 1988،162) كانت المنطقة المسماة بموريتانيا منذ قرن مسكونة بشكل أو بآخر ، من قبل أقوام معينين عرفت منهم جماعة البافور في أقصى الجنوب الغربي ، إلا أن الجزء الأكبر من هذا الشعب ترك بلاده أمام زحف الصنهاجيين ، و ما تبقى منهم انصهر في القبائل المسيطرة و ما تبقى منفصلا انزاح إلى مناطق الشمال (ابن محمد الهادي ، (ت.م) 105) أو مجموعات بشرية
(زنجية) أخذت بدورها تتراجع إلى الجنوب أمام الزحف الصنهاجي خلال القرون الميلادية الأولى . (النحوي ،1999،6 ). و ما إن دخل الصنهاجيون إلى المنطقة حتى أخذوا يتغلغلون في الصحراء ، و ذلك لوجود عوامل موضوعية . (( إن عملية التعريب و الأسلمة ما كان لهما أن يمضيا بالسرعة التي وقعتا بها ، ما لم تكن هناك عوامل موضوعية سابقة و مصاحبة ولاحقة لظهور الإسلام ، من العوامل السابقة : تقارب اللغات و اللهجات السائدة في العراق و الشام و مصر و شمال إفريقيا مع اللغة العربية ، فمعظمها كانت تنتمي إلى نفس الأسرة اللغوية الكبيرة و هي اللغات (السامية – الحامية ) و من ثم لم يكن اللسان العربي شديد الغرابة لسكان تلك البلاد)) . (إبراهيم ، 1992، 69).
كما أن عرب شبه الجزيرة العربية ، لم يكونوا غرباء على تلك البلاد بحكم المتاجرة معها ، كما أن الطبيعة الصحراوية بمواردها المحدودة كانت عاجزة عن إشباع حاجات سكانها فكان العامل السكاني عامل طرد من الجزيرة العربية باتجاه العراق و الشام و شرق الدلتا المصرية و عبر البحر الأحمر إلى السودان و عبر باب المندب إلى شرق إفريقيا ، فضلا عن التقارب الديني بحكم اعتناق سكان هذه المناطق المسيحية تحت الحكم الروماني و رغبتهم في التخلص من اضطهادهم ، هذه العوامل المساعدة قبل الإسلام . أما العوامل المصاحبة للفتوحات الإسلامية ، فهي الترحيب بالعرب من (البيزنطية الرومانية) ، وساعد على ذلك النماذج البشرية الإسلامية الإيجابية التي تجسم سماحة الإسلام و عدالته من ناحية و بساطة و شهامة العرب من ناحية أخرى .
أما العوامل اللاحقة على الفتوحات ففي مقدمتها التزاوج و الهجرة ، حيث شجع خلفاء بني أمية هجرة قبائل بكاملها إلى المناطق المفتوحة ،إضافة إلى مرونة اللغة العربية في استيعاب مفهومات الثقافات الأخرى و تمثلها ، بل و تطويرها حيث أصبحت اللغة العربية في غضون قرنين من الفتح الإسلامي هي لغة الحضارة العالمية الرائدة ، فهي لغة الدين و الحكم و الفكر و الثقافة و التبادل التجاري ، منذ القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي (( ولذلك استمرت عملية التحول التاريخي الهائلة حتى بعد أن فقد العرب مقاليد السلطة الحقيقة لغيرهم من المسلمين في الإمبراطورية )) (نفسه، 70) .
و تمثل هذه النقطة مفارقة سوسيولوجية في التاريخ العربي ، فبعد أن اكتملت الشروط الموضوعية للأمة العربية ، مع أوائل القرن العاشر الميلادي أي : سيادة لسان واحد و ثقافة واحدة و دين واحد و تقاليد كبرى واحدة لمعظم سكان المنطقة من المحيط إلى الخليج داخل الإمبراطورية الإسلامية و خروج السلطة من يد العنصر العربي . (( استمرت عملية التحول الحضاري التي بدأت مع الفتح العربي الإسلامي حتى بعد أن فقد العرب مقاليد الحكم )) ، (نفسه 70) و قد قاومت بعض الجيوب البشرية عملية التحول هذه ، لأنها لم تتوصل بالإسلام أو قاومته أو لم تتعرض للتفاعل المستمر مع ثقافة العرب الوافدين ، وبالتالي احتفظت بلغتها أو دينها ، و ذلك بفعل عوامل التاريخ و الجغرافيا و الاجتماع ، حيث ساعدتها على تفادي التأثير المباشر للانطلاقة المزدوجة للإسلام و العروبة . ( نفسه ،68) .
و قد أرجع بعض العلماء الكثير من التكوينات الاجتماعية في المنطقة إلى ظروف البيئية و المناخية ، كإطار أيكولوجي و ربطوا بين الظاهرة المعشرية أو الرمزية ، ونمط الحياة البدوية الصحراوية ، حيث تبرز في إطارها البنى الانقسامية المكونة من مجموعة العشائر المتشابهة فيما بينها ، تتداخل أحداثها على شكل دوائر ، تنطلق من الفرد لتتوحد عند حدود الاتحاد القبلي ، مع الحفاظ على ميزات مشتركة ، بأن لكل منها أسسه و موارده الاقتصادية . ( الهراسي ، 1989، 268-269) .
لكن انتماء الأفراد في المجتمعات الانقسامية ليس ثابتا و غير مشروط ، فهم أعضاء قبيلتهم إذا كانت في مواجهة قبيلة أخرى ، لكنهم أعضاء فرقتهم إذا ما نشب نزاع داخل القبيلة ذاتها ، بمعنى أن الواحات القبلية المنتمية و الفاعلة لا تتحدد بذاتها بقدر ما تتحدد في إطار علاقتاه بالجماعات المقابلة ، فكيان القبيلة يبرز بشموليته فقط عندما تتواجه عدائيا مع قبيلة أخرى ، و الفرقة ليس لها مكان في سياق النسق الانقسامي بحكم أنها مدرجة أساسا ضمن بنية اجتماعية شاملة ، تحدد بالروابط القائمة فيما بين عناصرها أكثر من مما تتحد بكونها مجرد تجميع عناصر متفرقة .
و قدم (الانقساميون) تصورا عن الأسباب الكامنة وراء سيرورة التجزؤ و التوحد هذه ، فلاحظوا أن التجزؤ نتاج لما يوجد لدى هذه المجتمعات من نفور إزاء كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ظهور جهاز سلطوي مركزي ، ولذا فإن هذه القبائل تتجزأ حتى لا تحكم ، و إذا كان اندماج أقسامها يحصل فقط عندما تواجه خطرا خارجيا ، فلأن الروابط القرابية غير كافية وحدها لضمان تماسكها ، حيث أن وحدة الجماعة لا تنجم عما يوجد بين أعضائها من تجانس بقدر ما تنجم عن تضارب بين قسماتها على حد تعبير (جلز).(نفسه ، 271-272).
يؤكد الانقساميون أن (الجنيالوجيا) كرابطة قرابية بين أعضاء جماعة ما لا تتجاوز في الغالب خط النسب ، بمعنى أنه ابتداء من المشترك الترابي إلى الاتحاد القبلي ، لا توجد إلا روابط نسبية وهمية. (نفسه ، 273).
كما يرى علماء الأنساب أن ما يقال عن تأثير العين في العلاقات الاجتماعية و ما تعكسه من العلاقات بين الأفراد ، بحيث تزول الاتهامات بها إذا صلحت تلك العلاقات و تكثر إذا ساءت و أن السحر و ضروبه مبني على العلاقات القائمة بين أعضاء المجتمع لا على قدرة السحر ، يقال في وظائف الأنساب و الأقليات و الطوائف : ((فالأنساب و تسلسلها ، ليس ضربا من ضروب التاريخ و إنما تعبير عن الجاه في الزمن الحاضر ، فلكما ارتفعت منزلة الفرد اجتماعيا ، طالت سلالته وبعدت حتى تصل إلى قحطان وعدنان و إبراهيم وربيعة و تغلب ، كذلك الحال بالنسبة للطوائف و الأقليات ... ليس المهم نشأتها و تطورها مع الزمن بل طبيعة وظائفها ... و ارتباطها بالدولة والنظم التربوية والاقتصادية)). (الخوري ، 1985،س39،6).
أما عن الاختلاف في طرح العلاقة بين التراب و الجنيالوجيا فيرجع إلى الطبيعة المتباينة بين القبائل ، من حيث الاستقرار و التنقل ، حيث أن القبائل الريفية بحكم ما ترتكز عليه من روابط جغرافية متينة و مستمرة عبر الزمن ليست في حاجة ملحة إلى البحث عن جد وهمي ، أما القبائل البدوية الصحراوية و التي يرتكز نمط عيشها على التنقل و الترحال ، فتتشبث بالجنيالوجيا القبلية باعتبارها الرابطة الوحيدة المتبقية أمامها ، في ظل تشتت أعضائها وعدم انصهارهم ضمن إطار جغرافي قار و محدد . (الهراس ،174،1989).
كما يهتم البنيويون بزعامة (رادكليف براون) بالعلاقة بين الوضع البنيوي و التنظيم النسبي ، و التنظيم النسبي بالتنظيم السياسي ، والتنظيم السياسي ، والتنظيم السياسي بالدين و المعتقدات ، و من أمثلة ذلك الترابط ، المجتمع العربي حيث ينتشر التنظيم القبلي – العشائري في المجتمع العربي في البيئات شبه الجافة التي تعتمد على رعي الإبل و الماشية ، و ينتشر التنظيم المدني في البيئات التي تبرز فيها الدول (السلطة و القوة) ، و يعتبر التنظيم القبلي أداة تكيف مع البيئة الصحراوية ، و يجمع بين نقيضين : التجزؤ حتى في العائلة الواحدة و التحالف على مستوى الأحماس . (الخوري ، 40،1985).
وفي هذا الإطار تتميز المجموعة (البيضانية) بتجانس كبير بين عناصرها الثقافية (الدينية و اللهجية و نمط الحياة و النظرة إليها) في مقابل التمايز أو عدم التجانس الواضح بين المجموعات الزنجية ، اللهم إلا في لون البشرة (الداكنة) و الدين الإسلامي.
ورغم ذلك ، فقد أوجد التقابل و التنظير الأيديولوجيين عناصر مشتركة تسمح بالحديث عن مجموعة زنجية ، تقابل المجموعة العربية (البيضانية) ، تبلورت عبر مراحل تاريخية ، و على عدة أصعدة اجتماعية واقتصادية .(أحمد فال ، 99،1999).
و على مستوى الوعي بالهوية و إدراك الجماعة (الآخر) إذ يندر أن يتحدث (البيضان) عن (الكور) أو الزنوج كمجموعة متمايزة ، الكل يضع المقابل في سلة واحدة على مستوى الوعي التصنيفي به ، وبحكم عدة معطيات المظهر الخارجي و المشهد السياسي و الثقافي و العلاقات الاجتماعية ، مع محاولة استقطاب (فئة الحراطين).
و الواقع أن هناك صعوبة في تصنيف المجتمع الموريتاني (البيضاني أو الكوري) على أساس التمايز الطبقي لأن الحديث عن المجتمعات الطبقية، هو تعبير عن مرحلة معينة من التمايز بين الأصناف الاجتماعية و الاقتصادية ، فإقحام المجتمعات ما قبل الرأسمالية في مفهوم التنضيد Startification ، هو محل نقاش في حقل التحليل السوسيولوجي.
وعلى هذا الأساس تخرج تلك المجتمعات عن الحقل السوسيولوجي باعتبارها مجتمعات (بدائية) ، لأن أنماط الإنتاج الفكري لم تصل فيها إلى درجة كافية من التمايز ، وهذا ما يفسر الصعوبة الخاصة التي تبدو في القسم الخاص عند (جيرفتش) باعتبارها أطر اجتماعية للمعرفية فقط ، و أنها ليست على درجة كافية من التمايز . (لبيب ، 38،1978).
ولكن (ألتوسير) في تحليله البنيوي يرى أن الطبقات الاجتماعية لا تتحدد فقط بالبنية الاقتصادية ، بل بالبنية السياسية و الأيديولوجية كذلك ، (( فإمكانية تعايش أكثر من نمط في المجتمع الواحد طبقات اجتماعية مختلفة ، تنتمي إلى أنماط إنتاجية متباينة)) ، (إيان ، 247،1999) فلكل نمط إنتاجي بناؤه الطبقي ، حتى لو كان ما زال في طور التشكل .
وهكذا يرجع البعض التقسيم التراتبي الفئوي (عرب-زوايا-لحمة) إلى إجراء تنظمي اتخذه (أبو بكر بن عمر اللمتوني) بتسريحه لطائفة من جيش الفاتحين ليتفقهوا في الدين ، و طائفة لتحصيل المعاش للجميع ، و طائفة للقتال ، تبقى في حالة تأهب دائم ، و هذا يفضي إلى أهمية الحركة (المرابطية) في تقنين حالات التمايز و مستويات التراتب الاجتماعي و السياسي (ابن أحمد ،49،1995).
تنقسم معظم القبائل الموريتانية (البيضانية) التي تزيد على (90قبيلة) (Mohamedou،1995،111-112) إلى ثلاث فئات :

أ‌-فئة العرب ( بني حسان ) :

و هم فئة تحمل السلاح و تحتكر أو تكاد تحتكر كلمة أو صفة ( عربي) لأنفسهم و لا يسمحون باستخدامها لوصف الفئات الأخرى ، و ليس ذلك بسبب انتسابهم إلى أصل أعجمي ، بل لأن ذلك الاسم لا يستحقه من لا يحمل السلاح و يحترف القتال كوظيفة خاصة به و يعيش على المغارم و الأتاوات التي تدفعا الفئات التابعة أو القبائل التي تنشب بينها الحروب ، ( ابن صدفن ، (ب.ت) ،20) حيث لعبت السيطرة و الرقابة على التبادلات التجارية ، دورا مهما في تصفية أو توسع الجماعات و ( إثنيتها) أو طبقتها الحاكمة ، قبل تصفية التبادل التجاري عن الصحراء ، مرورا بالمنطقة الموريتانية بين المغرب و أفريقيا السوداء .
مما يعني – حسب تصور(ديشاسي) أن الطبقة الأفقية في موريتانيا هي نتيجة أساسية لصراع طويل من أجل ضمان هذه الرقابة ، نظرا لاختلاف عوامل الإنتاج بطابع مختلف عن ذلك السائد في أفريقيا ، من حيث ( أماكن الإقامة ، نقاط المياه في الصحراء والأرض الرعوية) و الفيضية في حوض النهر ، فكلها أمور تعتبر نادرة بالتناسب مع عدد السكان ، و من يسيطر عليها يضمن إنتاجا فائضا من الحيوانات و الحبوب ، بالمقارنة مع المناطق المجاورة ، رغم سيادة التقنيات البدائية (dechassey 1993،287) .
و يعني هذا أن كلمة العرب ليست حكرا على ( السلالة العربية) في المنطقة ، وإنما معها معنى وظيفيا أو مهنيا ، أو بالأصح حملته معها عبر تفاعل نشيط عرقياً و ثقافياً و بيئياً ... بحيث يشمل الاسم كل القبائل المحاربة و حملة السلاح ، حتى لو كانت من أصل (صنهاجي) مثل (إمارة إدوعيش) ، (النحوي 6،1999) ، وبعض القبائل العربية (البيضانية) الأخرى التي لم تؤسس إمارة لها، التي توصف بأنها (عربية) لأنها تحمل السلاح دفعا عن نفسها .

ب- فئة الزوايا :

وتضم مجموعة القبائل أو العشائر التي تفرغت للمعارف الدينية و اللغوية ، و هم في الغالب من صنهاجة ، (نفسه ،6) ، و تتسم في الغالب بأنها مسالمة ، و تعتزل الأنشطة السياسية ، رغم مشاركتها في حل النزاعات بين الأمراء (العرب).
و تهيمن هذه الفئة على تنظيم أعمال الإنتاج الرعوي والزراعي و التجاري ، و هي أكثر غنى من (بني حسان) التي تأنف الأنشطة الرعوية و الزراعية ، ويستفيد (الزوايا) من نشاطهم الروحي ماليا ، من خلال إتاوات تتمثل في الهدايا التي يدفعها أتباعهم (ابن صدفن ، ( ب.ت.م) ،21).
و لا يوجد تعرفي علمي متفق عليه ، حول أصول صنهاجة ، ففي حديثهما عن الطوارق و انتسابهم إلى صنهاجة ، ذكر ذلك ابن خلدون في كتابه (العبر) و ابن بطوطة في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ، أن الموطن الأصلي لصنهاجة يعود إلى جنوب شبه الجزيرة العربية ، ومنها نزحوا إلى شمال إفريقيا . (غانم و آخرون ،143،1989).
كما روى ابن عذراي ، أن (المنصور) ثاني أمراء (بني زيري) ، قال لأعيان القيروان الذين وفدوا عليه لتهنئته بالإمارة في إفريقيا التي انفصلت عن الدولة الفاطمية في الأربعينات من القرن الخامس الهجري ، قبل إعلان (المعز بن باديس) لها ، قال المنصور : (( و ما أنا في هذا الملك ممن يولي بكتاب و يعزل بكتاب لأني ورثته عن آبائي و أجدادي ورثوه عن آبائهم و أجدادهم حمير ))
و تأكيدا على أن صنهاجة التي ينتمي إليها أمراء بني (زيري) عربية نسبها الحميري العربي ، كان بنو (زيري) يفاخرون بهذا النسب عن من سواهم من البربر ، وقد مدحهم الشعراء بذلك ، فهذا (ابن رشيق) قد مدح (المعز بن باديس) يقول :
يا ابن الأعزة من أكابر حمير و سلالة الأملاك من قحطان
(حسين ،133،1998).
و لم يقتصر الانتساب الصنهاجي العربي على التفاخر و الاعتزاز الشخصي و الإدراك الذاتي ، - و هو أحد أركان الهوية الأساسي- و إنما تأكد ذلك من خلال العديد من المؤرخين و النسابة ، مثل ما ورد عن (العماد الأصفهاني في الخريدة) وعنه نقل ابن خلكان (وفيات الأعيان،ج1 ، ص 271-273) ، و عن ابن خلكان نقل (الوزير السراج) وذكره أبو المحاسن (نفسه ، 113).
و إذا ما تم الفصل بين (صنهاجة و البربر) ، أي سكان إفريقيا الأصلين الذين شمل الاختلاف حولهم ، ليس فقط الأصول العرقية لهم ، و إنما أيضا اشتقاق اسمهم ، فالبعض اعتبره إشارة يونانية و رومانية إلى توحشهم و تخلفهم ، بحيث يكون لاسمهم هذا محتوى جغرافيا ، يطلق على سكان شمال إفريقيا المتميزون في مسلكياتهم عن شمال البحر المتوسط ، كما كان يطلق لفظ (الأقباط) على ساكني مصر ، ثم اختصر استعماله فيما بعد الإسلام على المسحيين المصريين ، فإن ذلك يرجح حجج عروبة صنهاجة أكثر من سائر البربر الآخرين .
ويمكن الاستدلال على صدقية ذلك الطرح ، من خلال اعتبار لفظ (بربر) قدحيا ، حتى عند من يطلق عليهم لما يوحي به من معان مقيتة ، ويستعملون بدله من تسميتهم لأنفسهم (الأمازيغ) التي تعني (النبلاء الأحرار) ، وسواء أرجع اشتقاق ذلك الاسم إلى اللاتينية أو العربية ، فإن هناك اختلافا بين المؤرخين حول أصول أصحابه (مسعد 161،1987) ، كما أن هذا الاسم يبدو أقرب إلى اللقب منه إلى اسم أصيل . (السماك ،51،1990).
تقول دائرة المعارف البريطانية ، أن اليونان هم أول من أطلق ذلك الاسم على سكان شمال إفريقيا ، ثم تبعهم في ذلك الرومان ، إلا أن هناك من يعزو اشتقاقه إلى العرب ، حيث شبهوا اللهجات البربرية بالهذيان ، أو كأنهم (يبربرون)، و مازال هذا الوصف أو النعت لغة غير مفهوم ، مستعملا في المغرب. (نفسه ،51).
و تختلف الاجتهادات حول أصول اللهجة (البربرية) ، فالبعض يشبهها بلغة (الباسك) Basquse في إسبانيا ، كتأصيل لاتني لها ، اعتمادا على بعض المفردات الرومانية المستخدمة فيها.
إلا أن (محمد الفاسي) ممثل المغرب السابق في اليونسكو ، يؤكد في دراسة له أن اللغة البربرية في نحوها و صرفها أقرب إلى اللغة العربية في خطوطها الرئيسية و أصولها الثابتة و لهجتها الرئيسية (تاشلحيت_ تامزيغت_ الزناتة_ تاريفت). (نفسه ،52).
أما من حيث الأصول ، فإن بعض النظريات ترجع أصل (الأمازيغ) إلى عرب (بني حمير) أو (قيس عيلان) ، الذين نزحوا إلى المنطقة من فلسطين (نفسه ،51) منذ عصور بالغة القدم ، (نفسه ،51) كما يرى البعض أنهم العرب البائدة ، ويستدلون على ذلك بتشابه جذور اللهجات (الأمازيغية) مع العربية القدمية و بالاعتناق السريع للإسلام الذي جاء به عدد لا يتجاوز الآلاف ، تمكنوا من تعريب الملايين و الذوبان فيهم (عميمور ، 9،1999).
أما المحاولات النظرية الغربية ، كما عرض لها (ت.نوريس)، فقد حاولت إدخال البربر ضمن الشعوب التي كانت تقع خارج نطاق الرومان ، أو أرجعتهم تحديدا إلى أصل سامي نسبة إلى جدهم (بر) أو (عافر)، كما عرض لبعض الدراسات العربية التي نسبتهم إلى أصل سامي (كنعاني_حميري)، وعبر (نوريس) عن قناعته بأنهم من أصل سامي – حامي (بحر متوسطي) متفقا مع الذين اعتبروا لغتهم إحدى اللغات (الفاطمية – المرابطية – الموحدية- الحفصية) ، و أن هذه الدويلات كانت بمثابة تعبير أو سبب في الحديث عن شعور قومي بربري مبكر ، و إن كان في ذلك (( بعض الإسقاطات المعاصرة على مراحل تاريخية مبكرة ، خاصة و أن مفهوم الارتباط بالأرض ، كان غالبا عن البربر الذين كانوا يتنقلون بحثا عن الماء و الكلأ ، إضافة إلى بعض مؤسسي هذه الدويلات كانوا عربا ، مثل (الأغالبة- و الأدارسة) ،(مسعد161،1987) ، ومن ثم فما هي إلا بعض المحاولات السياسية ، التآمرية لضرب وحدة الهوية القومية في منطقة شمال إفريقيا ، من خلال تحديد أصول (البربر) بأنها أوربية بحر متوسطية .
و بناءا على ما كتبه (غوستاف لوبون) عن مصدر تلك الهجرات ، فإن (أولئك المهاجرين لم يأتوا من الجنوب الذي لا يرى فيه غير الزنوج ، ولا من الشمال الذي لم يكن إلا بحرا خضما، لم يفكر الأقدمون في عبوره ، و إنما جاء أولئك المهاجرون من الشرق ، أي : من آسيا ، مارين من الأرض الضيقة التي تفصلها بإفريقيا أو جاؤوا من الغرب ، أي : من مضيق جبل طارق ، و تفوق سود الشعور على شقر الشعور ))، حيث يولي بعض الأوروبيين أهمية لمنطلقات تلك الهجرات .(غوستاف ،350،1956) .
و قد أكد (العروي ) ما ذهب إليه (لوبون) من أن البربر جاؤوا عن طريقين إلى شمال إفريقيا ، عبر إفريقيا الشمالية الشرقية ، و عبر أوروبا ، ولكن أصل الكل من غرب آسيا ، ولذلك فهم أقرب إلى العرب من الأوروبيين . (العروي 5،1975).

ج- الفئات الغارمة (الدنيا) :

يمكن تصنيف هذه الفئات إلى خمس مجموعات متمايزة إن لم يكن على المستوى الاجتماعي ، فعلى مستوى الحظوة المادية و التأثرية ، و على مستوى الإقصاء الرمزي ، ثم على مستوى الإقصاء البشري المدعوم بتميز أصحابه بسحنتهم السوداء.

1-اللحمة (أزناقة) :

أو دافعي (الأتاوات) كما أطلق عليهم المستعمر الفرنسي ، و هم من السكان الأصليين البيض ، يعملون في تربية المواشي لدى العرب و الزوايا ، أو ممارسة أنشطة غير محددة ، تدور في فلك الفئتين المسيطرتين . (ابن صدفن ،(ب.ت)22).

2-((إيجاون)) أو الفانون :

أو (كناوة) فئة من العرب تحترف الموسيقى و المدح و حفظ الأمجاد و إثارة الحماس ، و ممارسة الهجاء ، و الرقص و الطرب ، و كانوا مرتبطين أساسا بأمراء بني حسان ، للتسلية عنهم و حفظ أمجادهم و بطولاتهم الشخصية أو القبلية ، في مقابل ما يحظون به من العطايا و الحماية ، (نفسه ، 22) .. وكانت هذه الفئة و مازالت أكثر الفئات الدنيا حظوة بالعطايا و الاستهلاك المظهري ، و إن حوسبت على خطأ ، لا بد من استرضائها بالمال ، فهي محك أساسي لتحديد المستوى الاجتماعي للأفراد و الزمر العشائرية ، و موضع رهان بينها لاكتساب شهادتها في تاريخ المجموعات ، المحفوظ بالروايات المنظومة من طرف أجداد هؤلاء الفنانين .
ولكنها من زاوية أخرى ، قد تنزل إلى أدنى المستويات الاجتماعية ، فهي لا تدخل في العصبيات القبلية ، ولا تساهم في تكاليف الفدية عادة ، كما أنها مرتبطة بالجوانب الأخلاقية الدنيا (العابثة) لذا ارتبطت بالمظهرية الزائفة .
ورجح الباحث أن يكون اسم (إكاون) مشتق من (إكناوة) الذين يشكلون فئة من المغنين الفولكلوريين الذين قدم أجدادهم من إفريقيا ، لتقديم المديح للسعديين ، كما اشتقت كلمة (أوزان) ، أي علم الموسيقى ، من (إندوزن) باللهجة المغربية.

3-المعلمين (الصناع التقليديون) :

حرفيون و حدادون ( صناع الحلي ، الجلود ، أدوات الحرب ، والمنزل ، و الفلاحة ، و الزينة ... وهم مجموعة تعاني من الإقصاء الشديد و النبذ المبالغ فيه أحيانا ، فهم بمثابة (سلة مهملات المجتمع) فيهم يفرغ الجميع غله ، عليهم النادرة تحاك ، و ينعتون بالجبن و بالكذب ، و الشراهة ، و كل ما يخطر على البال من نعوت سيئة ، كالقول بأنهم : (خرجوا من تحت روثة حمار ، أو أنهم من أصل يهودي) . مع أنهم العمود الفقري أو بمثابة ذلك في المجتمع الرعوي ، فكل عشيرة تشبع احتاجاتها من خلال (استضافة أسر من هذه المجموعة لديها ، مقابل حمايتهم ، و مقايضة أعمالهم بما يسد احتياجاتهم). (انظر محمد الأمين ،354،19997).

4-الحراطين :

و هم أحفاد لأجداد كانوا أرقاء و هم في الغالب يعملون في مجال الرعي و تربية الماشية ، أو ممارسة الزراعة في القرى. (أحمد فال ،101،1999).
و يرجع البعض اشتقاق اسمهم هذا إما من (الحراثة أي : الحراثين) فاستبدلت الثاء بالطاء أو من (درجة الحرية أو رتبتها) أي : (الحر الثاني) بمعنى الحر من الدرجة من الثانية.

5-العبيد (الأرقاء) :

وهم الذين لا يزالون عند أسادهم في رعي الماشية أو الزراعة أو الخدمات المنزلية . إلا أنهم كفئة تكاد تختفي إلا من اسمها أو صورتها الراسخة في الأذهان (نفسه ،101) وككل العبيد في أنحاء العالم و عبر التاريخ ، تعرضت هذه الفئة للاضطهاد المادي و المعنوي ، فالعبد جزء من أملاك سيده ، يباع و يشترى و يتصرف فيه كشيء بين الإنسان و الحيوان ، فما له ليس ملكا له تماما ، و زواجه كذلك ، حتى أداء فرائضه الدينية ، حسب مشيئة سيده ، و إن كان العبيد – هذا من باب المفارقات السوسيولوجية- يحظون بالعصبية القبلية ، و يشاركون في الحروب و الوصاية على أسيادهم غير الراشدين ، و الأهم من هذا أن النظرة إليهم غير ملوثة ، فالعبد عندما يحصل على حريته من أسياده ، يستطيع أن يتفقه في الدين ، و ينال مكانة اجتماعية تليق به ، في الشهادة أمام القاضي أو إقامة الصلاة ، و الدخول إلى المقابر ، بمعنى أنه غير مدنس بطبعه ، على عكس (الصانع التقليدي ، و الفنان).
إن الحديث عن (الاسترقاق الآدمي) كظاهرة تاريخية ، مورست من قبل السود ضد بعضهم بعضا ، و من قبل البيض ضد بعضهم بعضا ، و من قبل المجموعتين ضد بعضهم بعضا ، سواء في إفريقيا أو الكاريب أو جنوب شرق آسيا ، كما مورست في أوروبا و أمريكا بأبشع صورها ، و كذلك في كل المنطقة العربية ، وخاصة الأجزاء الصحراوية منها ، و في المنطقة الموريتانية ، التي يثار فيها الجدل بحدة ، كما في السودان العربي ، مورس الرق من قبل كل المجموعات ، بما في ذلك بعض المحررين أنفسهم الذين أتاحت لهم إمكانيتهم المادية استجلاب عبيد من سوق النخاسة ، بمعنى أنه مهما ارتبطت هذه الظاهرة بممارستها على أصحاب البشرة السوداء ، فإن وصف هذا الارتباط ليس عضويا ، فكل الموريتانيين يعرفون أو يسمعون عن (عبيد قبيلة بارك الله) أصحاب البشرة البيضاء ، مع أن أسيادهم يميلون إلى السمرة .
يرجع البعض أصول الرقيق في منطقة (موريتانيا) إلى التجارة الصحراوية التي مكنت الكثير من الفئات إلى اقتناء العبيد تحت الحاجة الماسة إلى اليد العاملة في الرعي و الأعمال الشاقة الأخرى ، وقد سعت فئات الزوايا إلى وضع مسوغات شرعية للعبودية ، ومورست من كل فئات المجتمع (الفنانين الصناع ، حتى الحراطين المحررين، كما مورست من قبل الفئات العرقية الزنجية ، كما سنرى). (ابن صدفن ،(ب.ت)،23).
(( إن وضع العبد في المجتمعات المجزأة ، محدد بعبارات إقصائية ( عدم الانتماء إلى نسب) مثلا يكشف بوضوح دور و شكل التحدر هذا )). (جورج،50،1986).
و يشبه وضع العبيد الحاليين أو (الحراطين) أحفاد العبيد السابقين ، في منطقة موريتانيا إلى حد كبير ، وضع (دولة موريتانيا) ، فهم أكثر الفئات تجسيدا للهوية في المنطقة ، فهم من ناحية الملامح الخارجية (لون البشرة الأسود ، و الأنف الأفطس ، و الشعر المفلفل ، و الشفاه الغليظة .....)، إضافة إلى أكثر الروايات التاريخية و المشاهدات الحية ، أفارقة زنوج ، و لكنهم من ناحية الثقافة بشتى أنواعها ، اللغوية و أساليب الحياة و التطلع إليها و التذوق لها... عرب (بيضان) ينتمون إلى قبائل و عشائر مفيأة بطبيعتها التمفصلية ، وهذا ما جعلهم كفئة فريسة للتمزق بين مكونات أو عناصر هويتهم ، فوصمة العبودية تطاردهم ، سواء أبقوا على حالتهم (كبيضان) (حراطين) أو التحقوا بالأفارقة ، كطبقة عبيد (ماتينبي Matynbe) بما يشبه مآزق التجمد.
وهذا المأزق يتصل بموضوعات الكوارث الطبيعية أو الثقافية ، لما يترتب عليه من آثار نفسيه للأفراد و الجماعات ،بصدد صدمة الفقدان الثقافي ، و يقصد به تلك الحالة التي يتشبث فيها الأفراد بنسق اجتماعي و ثقافي مضطرب و غير منظم ، كبديل لديهم عما افتقدوه ، حيث يتجمد وضعهم على ذلك الحال ، كما تظهر هذه الحالة أيضا في الامتزاجات الثقافية ، وسيطرة الجماعة القوية على الضعيفة ، و دفعها للتخلي عن نسقها الثقافي ، مما يدفع الأخيرة إلى مزيد من التجمد و التمسك بنسقها رغم معرفتها بعدم صلاحيته. مما يضاعف من تردي وضعها ، و إصابة أفرادها بحالات من القلق و ممارسة دفاعات مرضية و الشعور بالخجل من النسق الثقافي غير المنظم وعدم الثقة فيه ، إضافة إلى الشعور بالخوف من عدم إمكانية وجود بديل مناسب في حالة تخليهم عن نسقهم .
و يترتب على تكرر تلك الحالات النفسية ، تدمير شخصيات الأفراد الذين يمرون تلك التجارب ، حسب ما أكدت عليه دراسة العلامة (هالويل) بعد أن استخدم اختبار (رورشاخ) (لقياس الشخصية لجماعة) (أوجيبوا) ، حيث توصلت إلى أن التعرض للامتزاج الثقافي ، يسبب صراعات نفسية ، و ينتج شخصيات مرضية .
كما تعاني الشخصيات المعرضة للامتزاج الثقافي من ((مشاعر المركز الاجتماعي المنخفض (شعور مركب النقص) ومشاعر مآزق التجمد و القلق لعدم وجود بديل مقبول ، و القلق لوجود ثقافة غير صالحة )).(وصفي ، 60،1981).
و توصل العالمان (كاردينر و أوفيس) لنتائج مشابهة عند دراستهما للزنوج في أمريكا ، حيث تبين أن الانتماء السلالي و الثقافي كموضوعات ، تتمتع باهتمام كبير لدى الزنوج .
كما بينت الدراسات الخاصة بالثقافة الهامشية ، أن الرجل الهامشي ، يعد نموذجا للشخصيات التي تعاني من حالة الفقدان الثقافي ، نظرا لأنه يقع في مآزق التجمد ، فهو لا يستطيع التضحية بثقافته القديمة ، ولكنه أيضا لا يستطيع الانتماء الكامل للثقافة الجديدة . (نفسه ، 60). و في مجتمع الدراسة هنا يجد الباحث نفسه أحيانا أمام مفارقة كبرى بين ضرورة وصف واقع الفئات كما يراه ، و بين انقسام هذه الفئات على نفسها حول ذلك ، حتى تسميتها بالاسم الاجتماعي السائد لها ، فالبعض يرفض ، و يعتبر ذكر هذا الاسم أمامه ، و هو المنتمي إلى فئته إهانة له وتقليل من شأنه ، و البعض يعتبر أن ما ذكر في حق تلك الفئة لا يرقى إلى مستوى وصف حالتها ، و تواطؤ بالتالي مع الأغلبية المسيطرة .


hgjltwg hgul,]d ggfdqhk