النتائج 1 إلى 37 من 37

الموضوع: كتاب النوازل الكبري في التاريخ الإسلامي للدكتور فتحي زغروت - عهد الخلفاء الراشدين

من ذخائر التراث الإسلامي كتاب النوازل الكبري في التاريخ الإسلامي عصر الخلفاء الراشدين (11- 40 هـ) دكتور/ فتحي زغروت المقـدمـة (1) تمر

  1. #1
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي كتاب النوازل الكبري في التاريخ الإسلامي للدكتور فتحي زغروت - عهد الخلفاء الراشدين

    من ذخائر التراث الإسلامي

    كتاب النوازل الكبري في التاريخ الإسلامي

    عصر الخلفاء الراشدين
    (11- 40 هـ)

    التاريخ الإسلامي الخلفاء الراشدين 161886308921241.jpg

    دكتور/ فتحي زغروت

    التاريخ الإسلامي الخلفاء الراشدين 1618763300261.jpg

    المقـدمـة
    (1)
    تمر الأمم في حياتها الطويلة بأمجاد شامخة حينا يتبعها الزهو والفخر والعجب ، وقد تمر ببعض من المحن والنوازل يتبعها الإحباط والحزن والألم . وهكذا الحياة تجمع بين المتناقضات التي لا مفر منها . ولابد للأمم الصالح أبناؤها من أن تقف علي الأسباب التي أدت إلي بناء المجد وتحقيقه وتمضي به وأن تنظر أيضا إلي الأسباب والهنات التي أدت إلي النوازل والأزمات فتتجنبها وتتحاشاها ؛ وتعرف كيف تدير تلك الأزمة وتصحح مسارها إلي نجاحات وإبداعات غير متوقعة .
    وإنه لمن دواعي الأسى والحزن أن نري أمتنا الإسلامية تمر في هذه الأيام بنوازل شديدة قد تكون من صنع الأفراد أنفسهم ، أو من صنع المعادين الحانقين ، أو قد تكون من السنن الكونية التي أرادها الله لأختبار عباده إلي غير ذلك من نوازل مرت بأمتنا العربية المسلمة وقد انبطحت الأمة أمامها ولم يرتفع لها رأس أو يسمع لها صوت بل نراها أسلمت أمرها لغيرها ورضيت بالخنوع والذل واكتفت بعبارات الشجب وعدم الرضا ، وشيوع الفوضى المصطنعة في كافة الإتجاهات او في النهاية نرى التذلل للقوى الكبرى للتدخل ودفع البلاء وإزالته عن كواهلنا ، وقد فقدنا الثقة بأنفسنا تماما وبقوتنا وبوحدتنا كأمة أسلامية كانت مرهوبة الجانب فيما مضي .
    إن أمتنا المسلمة المفتري عليها اليوم كانت في عصورها المبكرة ومنذ قيام دولة الإسلام الأولي وخاصة فترة الخلافة الراشدة قد مرت بنوازل شديدة وعنيفة ولكن الصحابة رضوان الله عليهم قد وقفوا لها صادين مجابهين واستطاعوا أن يديروا أزماتهم تلك حتى انفرجت وانكشفت دون أن تنكسر لهم نفس أو تلين لهم قناة أو تضعف لهم عزيمة . فكم من هزائم ونكبات تحولت إلي انتصارات وأمجاد وجعلوا من تلك الهزائم والنوازل كتبا تتلي وصحفا تقرأ ساعدت علي خصوبة التجربة التاريخية لتلك الفترة التي تقدر بثلاثين عاما , إنها حقا فترة ثرية ومثالية في حياة المسلمين عرفوها بحلوها ومرها وخيرها وشرها . ولعل دراستنا تلك الحقبة اليوم دراسة متأنية قد تفضي بنا إلي العديد من الإيجابيات والأخلاقيات والسلوكيات إلي المزيد من العظات والعبر ونحن في أمس الحاجة إليها الآن لنزيل ماران علي قلوبنا وما تراكم علي عقولنا من سطوات الجهل والتخلف والتردي بين الأمم يقول تعالي: (لقد كان في قصصهم عبره لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة بقوم يؤمنون) {يوسف الآية :111}

    (2)
    إن دراسة أحداث الفتنة الكبرى من خلال تلك الحقبة الراشدة علي سبيل المثال والتي قتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك فتنة مقتل علي بن أبي طالب وصراعه مع معاوية رضي الله عنهما، وفتنة استشهاد مجموعة كبيرة من الصحابة في الحرب والصراعات أقول أن كل ذلك أحداث كان لها الأثر الشديد في تحويل مسار الدعوة الإسلامية في هذه الفترة وانحرافها عن سابق عهدها مما حدا ببعض المؤرخين أن يسقطوها من تاريخ الدولة الإسلامية باعتبارهم لها أنها فترة شاذة في التاريخ الإسلامي .
    حقا إن البحث في هذه الحقبة وفي تلك القضية علي وجه الخصوص من أصعب ما يكون، وذلك لأن الخوض فيه شائك وخطير، والخطأ فيه يأتي على حساب رجل من أهل الجنة، والصحابة جميعًا نحسبهم من أهل الجنة، وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ونزلت في فضلهم الآيات الكثيرة، والخطأ فى حق أحدهم إنما هو خطأ عظيم وجسيم ولكن مع هذا كله لا يحق لنا أن نسقط تلك الفترة أو نتغافل عنها .
    وقد تناول تلك الحقبة (الفتنة الكبرى) كثير من المؤرخين ولاسيما المستشرقين الذين يضمرون الحقد للإسلام والمسلمين إذ تناولوها بصورة مشوهه وخطيرة بهدف الانتقاص من قدر الصحابة رضوان الله عليهم لأنهم هم الذين تواترت بهم آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة تواترا سليما خاليا من كل تشويه وتحريف ، فإذا تم لهم الطعن في الصحابة وتشويه صورتهم سهل عليهم الطعن بعد ذلك في القرآن والحديث النبوي الشريف ولا غرو في ذلك فإن مجموعة الصحابة هم الذين حملوا القرآن والسنة في عقولهم وصدورهم حتى وصلت إلينا بكمالها وتمامها علي نحو ما هى عليه اليوم . وهذا بلا شك مدخل خبيث لجأ إليه هؤلاء النفر ليفسدوا علينا ديننا الإسلامي الحنيف .
    ومن هنا سوف نضع بعض الأهداف القوية التي نهدف من خلالها دراسة حقبة الخلفاء الراشدين وعلي وجه الخصوص حقبة عثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا .
    • فمن الأهداف المرجوة من الدراسة هو أن يقتدي شبابنا الناشئ بسيرة الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر فهما خير ما يقتدي به ؛ فأبو بكر رحمه الله علمنا الثبات أمام الشدائد مهما كان وزنها وعلمنا أيضا كيف نقارعها وننازلها وكيف يكون اليقين التام بالله في وقت قد أنصرف الجميع عنك فنراه يتصدي لمحنة المرتدين ويصمم علي حربهم وإعادتهم إلي الإسلام رغم مراجعة الصحابة لهم فيقف في وجههم وحيدا ويقول: (والله لو منعوني عقال بعير كان يؤدونه لرسول الله  لحاربتهم عليه ) فهم يفرقون بين الصلاة والزكاة ، والزكاة ركن من أركان الدين . ولم يستطع الصحابة بما فيهم عمر أن يثنوه عن عزمه ؛ إذ طلبوا منه أن يؤجل الحرب لحين استقرار البلاد . أو يتغاضي عن الزكاة مؤقتا ، ولكنه يرفض في صلابة وشدة ثم يأمر بتجريد الجيوش لمحاربة القبائل المرتدة جميعها في وقت واحد . فكم كان هذا شاقا عليه حيث كان رحمه الله يحارب في أحدي عشرة جبهة . وكتب الله النصر لأبي بكر وعاد المرتدون وثبت الإسلام في جزيرة العرب . ثم جاء عمر بعد ذلك ليكمل ما بدأه الصديق فيثبت العقيدة في قلوب من ارتدوا ثم عادوا إلي الإسلام ، ويظهر الحق علي الباطل ويقيم العدل الاجتماعي في ربوع البلاد وعلي يديه استكملت حركة الفتوحات التي بدأها أبو بكر وانتشرت الدعوة خارج الجزيرة العربية ومكن الله المسلمين في الأرض وعظمت دولة الإسلام في أعين العالمين آنذاك وذلك بفضل من الله وبجهد لا يستقل من أبي بكر وعمر رحمهما الله .
    • ومن أهداف الدراسة والتي ينبغي أن نركز عليه هو أن يلم شبابنا بطرف من إدارة الأزمات ، فإدارة الأزمات تعد من أهم واخطر الإشكاليات التي واجهت ومازالت تواجه الحركة الإسلامية علي وجه العموم ، فإن ما ظهر حديثا في ( فقه إدارة الأزمات ) يعد من أهم فروع العلم والمعرفة ، فإدارة الأزمة ليست سهلة ميسورة فهي تحتاج إلي قرار حاسم صلب ، وقد يكون مرنا لينا ، وتتطلب الأزمة طريقة فنية للإدارة حتي نخرج منها بأقل الخسائر دون تأثير جوهري علي العمل الدعوى الإسلامي أو شيء أخر يمس كيان الأمة أو الأفراد . ونحن اليوم للأسف الشديد نفتقر إلي هذه الثقافة ولم نعرف الكثير عن فقه إدارة الأزمات وهذا هو حال أمتنا اليوم الذي وصل إلي حالة غير مرضية من الضعف والانتكاسة وعدم القدرة علي الصد أو الرد أو إدارة الأزمات .
    وإذا نظرنا إلي الظروف التاريخية وخاصة حقبة الدراسة التي نحن بصددها ( عصر الخلفاء الراشدين ) لوجدنا هناك من الرجال والقواد والحكام من تمتع بخاصية إدارة الأزمات فقد تعرض المجتمع الإسلامي آنذاك إلي العديد من الأزمات أظهر فيها أبو بكر وعمر وخالد بن الوليد وغيرهم من القواد قدرة فائقة في إدارة الأزمة والخروج منها ظافرا منتصرا علي الرغم من أن هؤلاء الصحابة لم يتخرجوا من معاهد أو أكاديميات علمية ولكن بالفطرة السليمة والعقل الذكي والشجاعة والصبر والمثابرة والاعتماد علي الله والثقة التامة في نصره كل هذا أدي إلي نجاح عظيم في مواجهة الأزمات ولنضرب لذلك مثالا فأبو بكر في المحنة السابقة التي تحدثنا عنها يواجه أزمة حادة ذات ثلاث شعب عرفت بأزمة المرتدين عن الإسلام فكان عليه :
    1- أن يواجه القبائل المرتدة ويعيدها إلي الإسلام مرة أخرى .
    2- كان عليه إنفاذ جيش أسامة كما أوصاه الرسول  إبان مرضه .
    3- كان عليه أيضا أن يؤمن حدود المدينة خشية إغارة الأعراب عليها .
    وكان علي الصديق أن يختار المشكلة التي تتطلب حلا سريعا ثم يبدأ بها فنراه يتخذ القرار الحاسم السريع فيقرر علي النحو التالي :
    القرار الأول: أن ينفذ جيش أسامة أولا وقبل كل شيء إلي مقصده كما أوصي الرسول حتي يرهب الروم المرتدين والطامعين في الدولة ويثبت أنها مازالت مهابة الجانب حتي بعد رحيل النبي  ، ومن هنا صمم علي إنفاذ هذا الجيش ولانه كان بوصية من رسول الله  أيضا .
    القرار الثانى: نراه يتخذ قرارا سريعا وحاسما بان يستعد الصحابة جميعا بأسلحتهم ودروعهم في المسجد مستعدين للفزع ورد إغارة الأعراب عند أول نداء كما أرسل علي ومجموع اخرى علي أطراف المدينة كعيون يخبرونهم بغارات الأعداء إذا قدمت . ولا شك أنه كان مصيبا في ذلك لأن بعض القبائل استغلت فرصة إنفاذ جيش أسامة وبه كبار الصحابة فغاروا علي المدينة.
    القرار الثالث: وبعد مجيء جيش أسامة ظافرا محقق هدفه ضم رجاله إلي بقية الجنود التي سوف يتم منها تشكيل أحد عشر جيشا لقتال المرتدين مرة واحدة .
    والحقيقة التي ينبغي إدراكها أن الخلفاء والقادة إبان تلك الفترة لم يكونوا وحدهم هم المتميزون بالقدرة علي مواجهة الأزمات فقط بل كان الصحابة أغلبهم رجالا قد تربوا علي كيفية مواجهة الأزمات وإدارتها والنفاذ منها إذ علمهم الرسول المعلم الأول أسس مواجهة الأزمات والتي كانت علي النحو التالي : الاعتماد علي الله لان الدعوة دعوة الله والإسلام دين الله : ( ومن يتوكل علي الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ) الطلاق آية : 3 . – التركيز علي الثوابت التربوية لنصرة الحق والفضيلة والعزة وينبغي عليهم مواجهة الأزمة وقد طهروا قلوبهم وحاربوا أهوائهم وشهواتهم وهذا مجال إصلاح النفس فإذا عجزوا في ذلك فقد عجزوا عن مقاومة الأزمة برمتها – الثقة في نصر الله فعليهم أن يأخذوا بالأسباب أولا ثم يترك الأمر بعد ذلك لله وأن نثق تمام الثقة لما عند الله وأن النصر قادم لا محالة يقول تعالي : ( ولينصرن الله من ينصره ) (الحج الآية : 40 ) . – وضوح الهدف وهذا أمرا مطلوب فإذا عرف الإنسان هدفه فسوف يثبت من أجل المقاومة والمجاهدة وبقدر وضوح الهدف في أذهان من يدير الأزمات يكون الظفر والنفاذ من الأزمة ، ومن الأسس المطلوبة أيضا الشجاعة والحزم والحسم ، والثبات علي الابتلاء ، ومراعاة الضوابط الشرعية ، وبهذه الأسس أستطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يتغلبوا علي الكثير من الأزمات فقد كانوا رحمهم الله من أعظم قادة العمل الإسلامي في إدارة الأزمات والتاريخ ملئ بالشواهد علي ذلك إلا انهم قد تميزوا بالسمات التي ينبغي أن يتميز بها مديروا الأزمات فقد كانوا حازمين وقت الحزم ولينين الجانب وقت اللين ، وحاسمين وقت الحسم ، ورحيمين وقت الرحمة ، وقضاة وقت العدل ، وفقهاء وقت الفتوة . هكذا كانوا جميعا وينبغي علي القارئ المسلم ألا يعير أهتماما لما يتردد علي ألسنة الجهلاء من بعض الساسة والكتاب حينما يتندرون بولاية الفقيه .
    وهكذا شعر الصحابة متطلبات الأزمات التي كانوا يواجهونها ، إذ أدركوا أنها : نقطة تحول وقد تتطلب قرارات سريعة وتهدد أهداف وقيم الجماعة المسلمة . ولا غرو أن يفهموا تلك الأزمات علي هذا النحو فقد كان لديهم سجلا للأزمات لا يجف معينه كان بمثابة ذاكرة الأمة وهو القرآن الكريم الذي أحتوي خلاصة تجارب الأمم القديمة وعنادها مع أنبيائها وكيف حلت عليهم النوازل والكوارث فهذا خير سجل تاريخي يأخذ منه العظة والعبرة لكل عصر ولكل حين إلي أن تقوم الساعة .
    ولا غرو أيضا إذا قلنا أن الأزمات التي واجهها الصحابة فقد اتخذوا لها من الطرق والأساليب ما يدفعنا اليوم إلي دراستها والوقوف عندها فقد واجهوا الأزمات واحتووها وعملوا علي تفريغها وإيجاد مسارات بديلة ومتعددة إما بالمواجهة والصدام ، وإما بوضع البدائل أو بالتفاوض مع أصحاب كل فرع أو بديل لاستقطاب أطراف الأزمة ، وهذا كله واضح في معالجة عثمان للثوار الذين جاءوا من الأمصار لمحاسبته وعزله عن الحكم كما سنعرف بعد .
    وقد كان عصر ابي بكر وعمر قد تميز بالمواجهات السريعة للأزمات والعمل علي احتواءها والنفاذ منها تماما مثل أزمة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة ثم موقف عمر وأبي بكر من تلك القضية ، وموقف المسلمين من مسيلمة الكذاب الذي اشتد عوده في اليمامة ، وموقف انتقاض الفرس والقبائل العربية خارج الجزيرة علي الدولة وكذلك أزمة الفتوحات في الفرس والروم ، وأزمة طاعون عمواس وعام الرمادة وغير ذلك من أزمات وفق الخليفتان أبي بكر وعمر في مواجهتها وإدارتها خير إدارة .
    (3)
    إن عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما عصر كثر فيه الأزمات الحادة كمقتل عثمان وانتشار الثوار وسيطرتهم علي أمور الدولة ، وأزمة بيعة علي بن أبي طالب ، وأزمة الأخذ بثأر عثمان ، وأزمة الصراع بين علي ومعاوية وكلها أزمات عنيفة ربما لم يوفق الخليفتان عثمان وعلي في إدارة تلك الأزمات التوفيق التام وذلك بسبب :
    • ضعف الكفاءة القيادية . فالقيادة هي الإخلاص في إدارة الدولة وهي التجربة واسعة الأفق وهي الاستشارة والتفاؤل والعمل بروح الفريق وفي اعتقادي أن أغلب هذه الصفات لم تكن متوفرة في القيادة آنذاك لكثرة الثوار والمتمردين علي الخليفتين وما حاكوه من مؤامرات أثقلت كاهليهما وكذلك انقسام الصحابة حولهما بين مؤيد ، ومعارض ، وعلي الحياد ؛ لا مع هذا ولا ذاك .
    • الفردية وعدم الاستشارة وقد كانت أغلب القيادة في تلك الفترة تميل إلي القرارات المستعجلة التي تتسم بتأزمها فكل قرار يتخذ كان بعد أزمة ، وكانت قرارات يغلب عليه الارتجالية ، هذا ما نلاحظه في قرارات عثمان رحمه الله ، فقد كان يستشير أحيانا ، ولكن لا ينفذ شيئا مما تعهد به بعد الاستشارة ، وأحيانا ينفذ قرارات متضاربة يمجها أغلب المسلمين لأنها قرارات جاءت من سطوة فئة مكروهه للناس كالأمويين الذين استبدوا بصنع القرار في خلافة عثمان رحمه الله آنذاك .
    • عدم إيجاد البديل المناسب . وكان غالبا ما تواجه الأزمات من طرفي عثمان وعلي رحمهم الله بقرارات قد تكون قاسية أو صعبة أو غير ملائمة أو يروا في الأزمة بعض الحلول فلو وجد البديل المناسب لانتفت الأزمة مثل رفض عثمان الصحابة أن يدافعوا عنه أو أن يقبل جيشا من معاوية لرد هؤلاء الثوار إلي أمصارهم . فقد رفض تماما هذا وذاك ، ولم يكن لديه بديل قويا إلا أن يصبر لقضاء الله . وكذلك نري هذه السمة في مواقف كثيرة من الإمام علي في صراعه مع معاوية ، وفي موقفه من عمال عثمان ، الذين عزلهم منذ بداية توليته وعين بعضا من أقاربه . ولم يكن لديه بديل مناسب رغم تحذير بعض الصحابة له ، فثارت عليه أغلب الولايات وتمردت عليه بعض الجماعات . والحقيقة أن الإمام علي كان يمتلك من القدرات ما يمكنه من إصدار القرارات لحل الأزمات ، فقد كان شجعا صبورا مؤمنا بنصر الله ، ولكن أتباعه كانوا من الخوارج والمغالين أكثر سطوة عليه ، فكانوا يستبدون بأنفسهم في تعطيل القرار أو يثنون الإمام علي عن مواجهة الأزمة بإلحاح شديد وتحت تهديد له. فكان غالبا ما يستسلم لهم فتتفاقم الأزمة .
    (4)
    ومن أهداف الدراسة أيضا هو الدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم فلابد أن يعرف المسلم أنهم بشر وليسوا منزهين عن الخطأ ، وهم مثابون في الأمرين لأنهم مجتهدون في كل الحالات : إما بأجر واحد أو بأجران . والإنسان قد يصيب وقد يخطأ والصحابة رضوان الله عليهم هم خير الناس بعد الأنبياء فهم حواري رسول الله  وصفوته وأحبائه ، وحبنا إليهم نابع من حبنا لرسول الله  الذي أوصانا بذلك ، والصحابة أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا ، أختارهم الله لصحبة نبيه  وإقامة دينه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، فحبهم سنة ، والدعاة لهم قربة ، والإقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآثارهم فضيلة . رواه أحمد في مسنده في باب فضائل الصحابة .
    قال رسول الله  ( الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن أزاني فقد آذي الله تبارك وتعالي ، ومن آذي الله فيوشك أن يأخذه . رواه أحمد 5/45 ، والترمذي (3862) .
    والمراد (بالله الله في حق أصحابي) أي اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم ، وكرره إيذانا بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص (لا تتخذوهم غرضا) أي هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهام هو تشبيه بليغ (بعدي) أي بعد وفاتي".
    وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ( رواه الطبراني في الكبير 12/142 ) .
    كما يهدف البحث من خلال الدراسة تصحيح العقائد المنحرفة التي أحدثتها فرق الشيعة ولاسيما المغالية منها ، وكذلك ما أحدثه فكر الخوارج والسبأية والصائبة من انحرافات مشوهة حول الصحابة رضوان الله عليهم وعن القرآن الكريم وعن كثير من أحاديث النبي  التي حرفوا الكثير منها ، إن المعلومات التي يعرفها الكثير من الناس عن أحداث الفتنة الكبرى فيها الكثير من التشويه والتضليل المقصودين ، وهما من صنع المستشرقين ومن ردد أفكارهم من أبناء امتنا العربية الذين انفردوا بتاريخنا في فترة مبكرة ، فإن نظرة متأملة للتاريخ الإسلامي المقرر في المعاهد والمدارس وبعض الجامعات قد يثبت ذلك فإن أكثر من 75 ٪ من أحاديث الفتنة ورواياتها جاءت من طرق ضعيفة وأغلبها موضوع عن الرسول  وعن الصحابة رضوان الله عليهم ومن ثم أصبح علم الجرح والتعديل وهو ما يسمي (بعلم الرجال) أهم العلوم التي ينبغي أن يرجع إليها لتنقية الروايات التي رويت عن تلك الفتنة فهناك روايات وأحاديث وضعت كذبا عن النبي  وصحابته الأشراف ، فإذا كان هناك من علماء الأحاديث الأمناء الذين تحروا الدقة والأمانة وهم كثر ، والحمد لله إلا أن الوضاعين للأحاديث ينبغي الإلمام بهم فمنهم زنادقة خارجين عن الدين مطعونين في علمهم فقد كذبوا علي النبي  وروا عنه أحاديث لم يقلها . ومنهم المتزلفون إلي الأمراء بهدف التقرب إليهم ، ومن هنا نري الطعن فيمن يخالف ميولهم السياسية واتجاهاتهم الفكرية ، ولما كان التأريخ للأمويين في عصر العباسيين وكان أغلب المؤرخين ميولهم عباسية كثرت الروايات التي تطعن في الأمويين وبخاصة في معاوية رضي الله عنه وأبنه يزيد ووصفوهما بصفات لا تليق بالصحابة رضي الله عنهم .
    كما كان من المؤرخين من أراد التقرب إلي العامة وهم القصاصون فكانوا يحكون قصصا علي لسان الرسول  وعلي لسان الصحابة ، وكانت قصصهم دائما غريبة وعجيبة لشد العامة من الناس وفيها بعض الكذب والتدليس .
    (5)
    ومن الأهداف المهمة والملحة لهذه الدراسة هو إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة إلي محيط ثقافتنا وفكرنا الإسلامي المعاصر ، فقد تمثل المسلمون الأوائل تلك المفاهيم تمثلا كاملا ، وطبقوها في حياتهم ، وكان سلوكهم صورة واضحة عنها ، واستمر هذا منذ عصر النبوة علي صاحبها اشرف الصلاة والسلام ، ثم العهد الراشدي ، ثم بدأت تنحسر تلك المفاهيم عن السلوك تدريجيا حتي ضعف المسلمون وزال سلطانهم نهائيا . وبزوال سلطان المسلمين انزوت تلك المفاهيم وبقيت في إطارها النظري تتلهف القلوب اليوم إلي عودتها بعدما حل محلها مفاهيم جديدة مستوردة تخالف الإسلام وتجافي سماحته لا أصالة لنا فيها ولا عهد .
    وإن كنا اليوم نتطلع إلي عودة تلك المفاهيم التي عرفها الأوائل ، وأعزهم الله بها ، فقد كانت واضحة جدا بمفاهيمها الصحيحة في أذهان المسلمين خلال تلك الفترة الراشدة ، والتي ساهمت بقدر كبير في حفظ كيان الأمة ورفعة شأنها ، كما أنها أدت إلي التضامن والتماسك بين أفراد مجتمعاتها ، وجعلت امتنا خير أمة أخرجت إلي الناس ، ومن هذه المفاهيم الإسلامية التي ينبغي علينا أن نتمثلها ونعمل علي إعادتها لفكرنا وثقافتنا المعاصرة :
    • مفهوم الأمة: وقد تبلور ذلك المفهوم حيث ذكره القرآن الكريم بقوله تعالي: (كنتم خير أمة أخرجت للناس .........) وقد عاش المسلمون في فترة الخلافة الراشدة متمثلين لهذا المفهوم حيث ارتبطت شعوب المسلمين جميعهم برباط العقيدة الواحدة الذي جمع الأجناس المختلفة من العرب وغير العرب ، من الفرس والروم ، وجمع أصحاب اللغات والألسن المختلفة ، والمشاركين في الجوار والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك ؛ وربطهم جميعا برباط العقيدة الواحدة ، وطالما العقيدة موجودة ومستقرة فالأمة قائمة ، فخير الروابط هو رباط العقيدة الذي يفوق رباط اللغة والجوار والتاريخ المشترك .
    وكان الفاروق عمر رحمه الله يذكي هذا المفهوم في أنفس المسلمين متخذا من نفسه مثلا يعبر عن اتساع حجم مسئوليته أمام الله فكان يقول: لو تعثرت ناقة في أرض العراق لخفت أن يسأل عنها عمر يوم القيامة لماذا لم يسو لها عمر الطريق ، وما كانت وصاياه ومحاسبته للولاة إلا تحقيقا لذلك الهدف حتى يطمئن إلي عدالة الحكم الذي يعم الأمة كلها ، بعيدها وقريبها . وواجب الأمة هو تطبيق منهج الله في الأرض كلها فلا ترتبط الأمة الإسلامية ببقعة من الأرض معينة وإنما ساحة عملها الأرض كلها ، فحيثما تمكنت من إقامة حكم الله فذلك مقرها الأول ونقطة انبعاثها ، وبعد ذلك تتوسع دائرتها لنشر الدعوة والجهاد .
    • مفهوم الخلافة: إن الرؤية الواضحة من دراسة الخلافة الراشدة توضح بجلاء ضرورة إخضاع الأقاليم والمناطق التي غمرها نور الإسلام إلي ما يسمي بالخلافة الإسلامية ؛ فليس هناك إلا خليفة واحد يكون بيده الحكم وبجانبه حكام الأقاليم المختلفة الذين أعطوا صلاحيات التصرف واتخاذ القرار في ولاياتهم علي أساس أنهم يمثلون الخليفة في تلك الولايات ، وقد ارتبط الخليفة مع رعاياه علي الحكم بكتاب الله وسنة رسوله وعلي الأمة السمع والطاعة ، وتقديم النصيحة والشورى الحكيمة ، وبهذه الأسس الرشيدة جعلت من الخلافة الراشدة خلافة قوية استطاعت أن تؤمن حدود الجزيرة العربية ، ثم تخضع ممالك الفرس والروم العدوين المناوئين ، وأن تنشر في تلك البلاد الدعوة الإسلامية إذ دخلت شعوبها في دين الله أفواجا وانتظموا جميعا تحت راية الخلافة الإسلامية يتمتعون بالأمن والطمأنينة فعزت وقويت . فما أحوجنا اليوم نحن المسلمين إلي مثل تلك الخلافة لتعيد للمسلمين توازنهم وتحقق لهم وجودهم .
    • مفهوم المجتمع المسلم: تحقق المجتمع المسلم بكل صفاته في عهد الخلافة الراشدة حيث أهتم ببناء الفرد المسلم الذي هو اللبنة الأولي لبناء المجتمع الصالح . ثم دعاه الإسلام إلي العمل ومد يد العون مع الآخرين ، وقد شاهدنا كم كان هناك توازن بين الفرد والمجتمع فلا يطغي الفرد بسلطانه علي المجتمع كما هو في الرأسمالية ، ولا يطغي المجتمع علي الفرد كما تفعل الاشتراكية . وإنما الإسلام يقيم توازنا بين الفرد والجماعة ، ويمنح الفرد في المجتمع المسلم الحرية الكاملة سواء أن كانت حرية العقيدة أو حرية الفكر أو الحرية العامة ، باعتبار الحرية منحه من الخالق للمخلوق وهي منح قد أجازها الإسلام طالما لا تتعدي علي سلطان الجماعة ولا تضر بالآخرين .
    • مفهوم الإخوة: حقق مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم الأخوة بمعناها الصحيح أخوة العقيدة في الله ، وقد طبقوها فعاشوا حياة سعيدة يملؤها الإيثار والحب والطمأنينة . وقد عرفت في بداية تكوين الدولة علي أيدي الرسول  بعد هجرته إلي المدينة أنه آخى بين المسلمين جميعا ليكونوا كتلة واحدة ، ولم تكن تلك المآخاه بين المهاجرين والأنصار من أجل المساعدة المادية كما يتصورها البعض ، وإنما ليكونوا أخوة متحابين في نصرة الإسلام لا فرق بين غني وفقير ، فقد آخى النبي  بين عمه الحمزة بن عبد المطلب وبين مولاه زيد بن حارثه علي سبيل المثال . فكان الأنصاري يقسم ماله بينه وبين أخيه المهاجر بل كان يتنازل له عن إحدي نسائه التي يختارها ليبني بها بعد أن يطلقها ، وقد طبقت تلك الأخوة تطبيقا عمليا فقد كان يجود المسلم بنفسه لينقذ آخاه في العقيدة ، وكان يعرض علي أحدهم الخلافة فيرفضها ويتنازل بها لغيره من أخوانه وأحبائه حتى أصبح رباط العقيدة أقوي عنده من رباط النسب والدم . وهناك مفاهيم أخرى ينبغي إظاهرها وإبرازها لتستقر في العقلية المسلمة اليوم ، وتصحح من مسار سلوكيات أصحابها . مثل مفهوم الأرض ، والدعوة ، والشورى ، والحكم ، والترف ، والحضارة ، والجهاد ، والقيادة ، والإدارة ، والتدقيق ، إلي غير ذلك من مفاهيم إسلامية ينبغي إحياؤها والعمل بها ففيها أصالتنا وهويتنا بدلا من أن نتسول علي مفاهيم غربية لا أصالة لنا فيها ولا قربي .
    * * * *
    - أما عن المصادر والمراجع التي اعتمد عليها البحث فقد كانت كثيرة ومسيرة ، فيها مصادر أصلية موثوق بأصحابها ، ومنها مصادر أخرى غير ثقة ، ومن ثَمّ فعلينا عند دراستنا لفترة الخلافة الراشدة وعلي الأخص الموضوعات التي كثرت فيها الوضع والخلط مثل موقف عمر وخالد بن الوليد من مالك بن نويرة ، وفتنة عثمان بن عفان ، وصفة قتله وموقف الصحابة من الدفاع عنه ، وموقف علي وبيعة المسلمين له وموقفه من القصاص من قتلة عثمان ثم النزاع الذي دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما مثل هذه القضايا تحتاج إلي أن تستخرج من كتب التاريخ الدقيقة التي تميز أصحابها بالثقة وكذلك كتب الاحاديث ولاسيما الصحاح منها وقد اعتمدنا علي بعض تلك الكتب مثل :
    - البخاري - صحيح مسلم – النسائي - سنن أبي داود - سنن ابن ماجه - ابن حجر - مسند الإمام أحمد .
    وهناك مجموعة من المصادر والمراجع الموثوق فيها التي تحدثت عن أحداث الفتنة، بطريقة صحيحة ورأي صائب مفيد منها:
    - العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، وهو من أفضل الكتب على الإطلاق التي كُتبت للرد على من طعن في الصحابة رضي الله عنهم، وهو غير كتاب العواصم والقواصم.
    - كتاب (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وحق له أن يُلقّب بشيخ الإسلام، وسيف السنة المسلول على المبتدعين، وهذا الكتاب لا غنى عنه لمن يبحث في عقائد الشيعة، والقدرية، ومن يبحث في أحداث الفتنة، ويقع في أربعة أجزاء، ويستخدم المنطق، والعقل في الرد، والدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم.
    - كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير، وهو من أوثق الكتب، وأفضلها وينبغي لكل مسلم أن يجعله عنده، ولا بدّ من الأخذ في الاعتبار أن ابن كثير في بعض الأحيان كان ينقل عن الواقدي، فهذه الروايات تسقط، ولكن ابن كثير كان يذكر الروايات الأخرى الموثوقه، وقد نقل ابن كثير عن شيخه الطبري الكثير .
    - كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، يذكر قصة كل خليفة، وإن كان لم يتورع بشدة في رواية أحداث الفتنة . وقد توفي السيوطي سنة 911 هـ .
    - وفيما يتعلق بمالك بن نويرة وخالد بن الوليد وموقف عمر بن الخطاب منهما فقد اعتمدنا في تلك القضية علي المراجع الآتية :
    - تاريخ اليعقوبي – تاريخ الأمم والملوك للطبري – والكامل لابن الأثير وهذا من كتب الحوليات ومتأثر بتاريخ الطبري . وكذلك كتاب الاكتفاء في مغازي المصطفي والثلاثة الخلفا للقلاعي الأندلسي (565- 634 هـ) وقد حققه أحمد غنيم بعنوان ( الخلافة الراشدة والبطولة الخالد في حروب الردة ) . وكذلك كتاب مروج الذهب للمسعودي .
    - ومن كتب التراجم للصحابة (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر . ومن كتب الطبقات كتاب الطبقات لابن سعد المتوفى عام 230 هـ - 445 هـ . وهو أحد المتأثرين بتاريخ الواقدي - وسير أعلام النبلاء للإمام شمس الدين الذهبي – وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر. إلي غير ذلك من مراجع ومصادر منبثه في أنحاء البحث يقصر المقام عن ذكرها .
    * * * *
    - أما عن منهج الكتاب فقد اختلفنا فيه اختلافا واضحا عما ألفه المؤرخون فإنهم دأبوا علي ان يؤرخوا لفترة الخلفاء الراشدين بأكملها أو يؤرخوا لكل خليفة علي حدة . أما منهجنا والذي اقتضته طبيعة الدراسة التي نتعرض لها ؛ أن نقسم فترة الخلافة الراشدة إلي فترتين متميزتين متماثلتين تتميز كلا منهما بسمات تميزه عن الآخر ، وتضم كل فترة خليفتين في جزء مستقل ، وقد جاء تنظيم المادة العلمية علي النحو التالي :
    الفترة الأولي وتضم ( الخليفة أبي بكر وعمر من 11 – 23 هـ ) وقد تميزت تلك الفترة بتثبيت دعوة الإسلام وعودة المرتدين من الاعراب إلي حظيرة الإسلام . ثم جاء الفاروق عمر فثبت العقيدة في قلوب المسلمين تثبيتا قويا مكن من إقامة دولة الإسلام العظمي ومن ثم عرفت تلك الفترة بالأستقرار والتمكين .
    الفترة الثانية وتضم الخليفتين (عثمان وعلي والتي امتدت من 23 – 40 هجريا) وهي فترة تميزت بتمرد أهل الأمصار والثورة التي أسلمت إلي الفتنة الكبرى والتي امتدت من مقتل عثمان حتى مقتل علي بن أبي طالب . وتلك الفترة مليئة بالصراعات وبخاصة تلك الصراعات التي دارت بين المطالبين بدم عثمان ومعهم معاوية وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة من ناحية وعلي بن أبي طالب من ناحية أخرى والتي زاد من قسوة تلك الفترة وضراوتها خوض معركتين شديدتين هما معركة الجمل ومعركة صفين . ومن هنا أطلقت علي ذلك العصر عصر الفتنة والتمرد .
    وقد أوضحنا في الدراسة التمهيدية لكل فترة والتي تلي هذه المقدمة الأسباب والمبررات التي دعتنا إلي ذلك وجعلتنا أن نقسم تلك الفترة الممتدة والتي تجاوزت الثلاثين عاما إلي الفترتين المقترحتين كل فترة في جزء مستقل والتي تكلمت عنهما آنفا .
    وقد تناولت الفترة الأولي (تثبيت العقيدة وانتشار الدعوة الإسلامية) التي واجه فيها أبو بكر وعمر رحمهما الله النوازل الكبرى ومنها :
    النازلة الأولي: موت النبي واستخلاف أبي بكر - النازلة الثانية: إنفاذ جيش أسامة بن زيد - النازلة الثالثة : تحرير العرب خارج الجزيرة من سلطان الفرس والروم - النازلة الرابعة: عمـر ومشكلـة الفتـوحـات - النازلة الخامسة: عزل عمر خالد بن الوليد - النازلة السادسة: عمر في مواجهة الصعوبات الإدارية والمالية - النازلة السابعة: أمثلة لإدارة عمر لبعض الأزمات - النازلة الثامنة: اهتمام عمر بأمور الدين - النازلة التاسعة: استعانة عمر بالقضاء والشورى في إدارة الأزمات - النازلة العاشرة : وفاة عمر .
    - أما الفترة الثانية (الفتنة والتمرد) التي واجه فيها عثمان وعلي رحمهما الله النوازل الكبرى ومنها :
    النازلة الأولي: مخاطر تزعزع أركان الحكم - النازلة الثانية: تمرد أهل الأمصار علي عثمان وولاته - النازلة الثالثة: ابن سبأ يسعر الفتنة وينقلها إلي الأمصار - النازلة الرابعة: المآخذ التي أخذت علي عثمان . النازلة الخامسة: مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه - النازلة السادسة: طبيعة عصر الإمام (عصر الثنائية والاختلاف) - النازلة السابعة: الظروف الصعبة التي أحاطت ببيعة الإمام علي . النازلة الثامنة: الحيرة بين البيعة والمطالبة بقميص عثمان - النازلة التاسعة: اختلاف وجهات نظر الصحابة حول الأخذ بالقصاص - النازلة العاشرة: عزل ولاة عثمان وتعيين آخرين - النازلة الحادية عشر: الاتجاه إلي البصرة وإطفاء الفتنة - النازلة الثانية عشر: قتلة عثمان وتدبير معركة الجمل - النازلة الثالثة عشر: الإمام علي ومعركة صفين - النازلة الرابعة عشر: استشهاد الإمام علي بن أبي طالب .
    هذا هو جهدي المتواضع والمقل قد بزلته ابتغاء وجه الله راجيا ان ينفع الله به الإسلام والمسلمين وأن يكون في ميزاني يوم العرض والحساب والله علي كل شيء قدير وهو نعم المولي ونعم النصير .





    ;jhf hgk,h.g hg;fvd td hgjhvdo hgYsghld gg];j,v tjpd .yv,j - ui] hgogthx hgvha]dk

    التعديل الأخير تم بواسطة د ايمن زغروت ; 19-04-2021 الساعة 11:12 PM

  2. #2
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    النوازل الكبري
    فـي عهـدي
    أبـي بكـر وعمـر
    ­­
    عصر الإستقرار والتمكين


    الجزء الأول


    دراسة تمهيدية
    أولا نبذة عن الشيخين
    1- أبو بكر الصديق :
    1- أبو بكرالصديق رضي الله عنه : خليفة رسول الله e ، اسمه : عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بنسعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، القرشي ، التميمي ، يلتقي مع رسول اللهe في مرة .
    قال النووي في(( تهذيبه )) : وما ذكرناه من أن اسم أبي بكر الصديق عبد الله هو الصحيح المشهور ،وقيل : اسمه عتيق ، والصواب الذي عليه كافة العلماء أن عتيقا لقب له لا اسم ، ولقبعتيقا لعتقه من النار ، كما ورد في حديث رواه الترمذي ، وقيل : لعتاقة وجهه – أيحسنة وجماله - ، قاله الليث بن سعد ، وجماعة . وقيل لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاببه .
    - قال ابن كثير : اتفقوا علي ان اسمه عبد الله بن عثمان ،إلا ما روي ابن سعد عن ابن سرين أن اسمه عتيق ، والصحيح انه لقبه . ثم اختلف في وقتتلقيبه به وفي سببه ، فقيل : لعتاقة وجهة – أي لجماله – قال الليث بن سعد ، وأحمدبن حنبل ، وابن معين ، وغيرهم . وقال أبو نعيم الفضل بن دكين : لقدمه في الخير ،وقيل : لعتاقة نسبه – أي : طهارته ؛ إذ لم يكن في نسبه شيء يعاب به – وقيل : سميبه أولا ، ثم سمي بعبد الله .
    عن عائشة رضيالله عنها قالت : والله إني لفي بيتي ذات يوم ورسول الله e وأصحابه في الفناء ، والستر بيني وبينهم إذ أقبل أبو بكر ، فقالالنبي e : (( من سره أن ينظر إلي عتيقمن النار فلينظر إلي أبي بكر )) ، فغلب عليه اسم عتيق .
    وأخرج الحاكمفي (( المستدرك )) عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : جاء المشركون إلي أبي بكر ،فقالوا : هل لك إلي صاحبك ، يزعم أنه أسري به الليلة إلي بيت المقدس ؟ قال : أوقال ذلك ؟ قالوا : نعم ، فقال : لقد صدق ، إني لأصدقه بأبعد من ذلك ، بخبر السماءغدوة وروحة ؛ فلذلك سمي أبو بكر الصديق .
    2- ولد بعدمولد النبي e بسنتين واشهر ؛ فإنه مات ولهثلاث وستون سنة .
    قال ابن كثير :وأما ما أخرجه خليفة بن خياط ، عن يزيد بن الأصم ، ان النبي e قال لأبي بكر : أنا أكبر أو أنت ؟ قال " أنت أكبر وأنا أسنمنك ؛ فهو مرسل غريب جدا ؛ والمشهور خلافه ، وإنما صح ذلك عن العباس .
    - قال النووي :وكان من رؤساء قريش في الجاهلية ، وأهل مشاورتهم ، ومحبا فيهم ، ومألفا لهم ، فلماجاء الإسلام آثره علي ما سواه ، ودخل فيه أكمل دخول .
    وأخرج الزبيربن بكار وابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، أحدعشرة نفرا من قريش اتصل لهم شرف الجاهلية بشرف الإسلام ، فكان إليه أمر الدياتوالغرم .
    3- كان أبو بكررضي الله عنه أعف الناس في الجاهلية ، أخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما قال أبو بكر شعرا قط في جاهلية ولا إسلام ، ولقد ترك هو وعثمان شربالخمر في الجاهلية .
    - و أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لها :صفي لنا أبا بكر فقالت : رجل أبيض ، نحيف ، خفيف العرضين ، أجنا ( في ظهره إنحناءيسير ) ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه (الكشح ) معروف الوجه (لحم وجهه قليل) ،غائر العينين ، ناتي الجبهة ، عاري الأشاجع (أصول الأصابع ) .
    4- أما عنإسلامه ، قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن الرحمن بن عبد الله بن الحصين التيمي ، أنرسول الله e قال : قال : ( ما دعوت أحداإلي الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر ، إلا أبا بكر ، ما عتم عنه حينذكرته ، وما تردد فيه ) .
    قال البيهقي :وهذا لانه كان يري دلائل نبوة رسول الله e ، ويسمع آثاره قبل دعوته ، فحين دعاه كان قد سبق له فيه تفكر ونظر، فأسلم في الحال .

    في صحبتهومشاهده :
    - قال العلماء: صحب أبو بكر النبي e من حين أسلم إلي حين توفى ، لميفارقه سفرا ولا حضرا ، إلا فيما أذن له e في الخروج فيه من حج أو غزو ، وشهد معه المشاهد كلها ، وهاجر معه، وترك عياله وأولاده رغبة في الله ورسوله e ، وهو رفيقه في الغار ، قال الله تعالي : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبهلا تحزن إن الله معنا ) ، وقام بنصر رسول الله e في غير موضع ، وله الآثار الجميلة في المشاهد ، وثبت يوم أحد ويومحنين ، وقد فر الناس .
    في شجاعته :
    - أخرج البزارفي ( مسنده ) عن علي أنه قال : أخبروني من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت ، قال : أماإني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ، ولكن أخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا : لا نعلم ،فمن ؟ قال : أبو بكر ، إنه لما كان يوم بدر ، فجعلنا لرسول الله e عريشا ، فقلنا : من يكون مع رسول الله e لئلا يهوي إليه أحد من المشركين ؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبوبكر شاهرا بالسيف علي رأس رسول الله e ، لا يهوي إليه أحد إلا أهويإليه ، فهو أشجع الناس .
    - قال ابن الجوزي : أجمعوا علي أنها نزلت في حق أبي بكرالصديق رضي الله عنه وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله e : ( ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ) فبكي أبو بكر ، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله .
    وأخرج أبو سعيدابن الأعرابي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : أسلم أبو بكر رضي الله عنه يومأسلم وفي منزله أربعون ألف درهم ، فخرج إلي المدينة في الهجرة وماله غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفقه في الرقاب والعون علي الإسلام .
    وأخرج ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر أعتقسبعة كلهم يعذب في الله .
    - قال النووي في( تهذيبه ) ومن خطه نقلت : استدل أصحابنا علي عظم علمه بقوله – رضي الله عنه – فيالحديث الثابت في الصحيحين : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لومنعوني عقالا كانوا يؤدونه إلي رسوله الله e لقاتلتهم علي منعه . واستدل الشيخ أبو إسحاق بهذا وغيره في (طبقاته ) علي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة ؛ لأنهم كلهم وفقوا عنفهم الحكم في المسألة إلا هو ، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم ، أن قوله هو الصوابفرجعوا إليه .
    وقال ابن كثير : كان الصديق رضي الله عنه أقرأ الصحابة –أي أعلمهم بالقرآن – لأنه e قدمه إماما للصلاة بالصحابة رضي الله عنهم مع قوله e : ( يؤمالقوم أقرؤهم لكتاب الله ) .
    وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسولالله e : ( لاينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ) .
    أخرج ابن إسحاق عن يعقوب عن عتبة عن شيخ من الأنصار قال: كان جبير بن مطعم من أنسب قريش والعرب قاطبة ، وكان يقول : إنما أخذت النسب منأبي بكر الصديق ، وكان أبو بكر الصديق من أنسب العرب .
    - أجمع أهل السنةأن أفضل الناس بعد رسول الله e أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عي ، ثم سائر العشرة ، ثم باقيأهل بدر ، ثم باقي أهل أحد ، ثم باقي أهل البيعة ، ثم باقي الصحابة ؛ هكذا حكيالإجماع عليه أبو منصور البغدادي .
    وأخرج الترمذي وغيره عن أنس قال : قال رسول الله e لأبي بكروعمر : (هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، إلا النبيين والمرسلين ).
    - روي أحمدوالترمذي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله e : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهمحياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ،وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح )* .
    ________________________
    * أعتمدنا في هذه النسخة علي : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص43وما بعدها .
    - حلية الأولياء ، مروج الذهب ج3 ،تاريخ الطبري ج3 .
    - مختصر تاريخ دمشق ج13 ، الكامللابن الأثير ج2 .


    2- عمر بن الخطاب
    هو عمر بنالخطاب بن عبد العزي من بني كعب بن لؤي فهو عدوي قرشي ، ولد بعد عام الفيل بثلاثةعشر عاما ، وكان من أشراف قريش وسادتها ، وإليه كانت سفارة قريش فهو سفيرهم إذانشبت الحرب بينهم أو بينهم وبين غيرهم ، وهو المفاخر والمنافر عنهم إذا فاخرهم أحدأو نافرهم .
    يجتمع نسبه معالرسول في الجد السابع ( وهو كعب بن لؤي ) ، ومن جهة أمة يجتمع معه e في الجد السادس وهو ( مرة بن كعب ) .
    كان في صغرهيرعي الغنم لأبيه ، ثم عمل بالتجارة يذهب بها إلي الشام ، كما كان عزيز الجانب فيأهله محترما بين قومه ، وكان قوى الشكيمة شديد الباس . وكان قبل إسلامه شديدا عليالمسلمين ، قاسيا في معاملته لهم .
    وكان الرسول e يتمني أن يعز الله دينه بأحد العمرين : إما ابن الخطاب وإما ابنهشام ( أبو جهل ) لهذا دعا – عليه الصلاة والسلام – قائلا : اللهم أعز الإسلامبأحب الرجلين إليك : بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل ابن هشام ، وقد استجاب الله لنبيه، وكان أحب الرجلين إليه – سبحانه – هو عمر بن الخطاب ، فأصابته دعوة الرسول فأسلم.
    ويذكر لناالمؤرخون مبررات كثيرة يسندون إسلام عمر إليها وما دامت قد صحت كلها فالأوليالتوفيق بينها بان يجعل بعضها مقدمات لقصة الإسلام التي هي أثبت القصص بالنسبةلعمر وأرجح القصص وأقربها إلي الواقع وهي ما رواه بن هشام من أنه خرج يريد قتلالرسول e فقابله رجل في الطريق ، فأخبرهبإسلام أخته فاطمة وختنه ( زوج أخته ) وهو سعيد بن زيد ، فانصرف عمر عن رأيه ،وقصد بيت أخته ، فدخل عليهما وبعد نقاش وجدال بين زوج أخته وبين أخته التي لطمهاعلي وجهها أخذ عمر الصحيفة التي كانت بين أيديهم فقرأها فإذا فيها آيات من القرآنالكريم من سورة طه ، فانشرح صدره وقال : دلوني علي محمد ، فذكروا له مكانه فذهبفأسلم .
    ولما أسلم سماهالرسول e الفاروق ، وقد سئل عن سبب ذلكفقال لما أسلمت قلت لرسول الله : ألسنا علي الحق ؟ قال : بلي ، قلت : ففيمالاختفاء ؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما وحمزة علي الأخر وقد رآنا الكفار ، فأصابتهمكآبة شديدة ، فسماني رسول الله e الفاروق يومئذ ، لأنه أظهرالإسلام وفرق بين الحق والباطل وكان إسلامه فارقا بين عهدين في الدعوة عهد السروعهد الجهر .
    وكان إسلامه –رضي الله عنه – في السنة السادسة من البعثة بعد الهجرة إلي الحبشة يقول السيوطي :أسلم سنة ست من النبوة ، وله سبع وعشرون سنة ، ويقول ابن سعد : أسلم عمر في ذيالحجة من السنة السادسة من النبوة ، وهو ابن ست وعشرين سنة .
    وكان رضي اللهعنه – رجلا طوالا أصلع ، أعسر أيسر ، احور العينين ، آدم اللون وقيل : كان أبيضشديد البياض تعلوه حمرة أشنب الأسنان ( أبيض الأسنان حسنها )، وكان يصفر لحيته ،ويرجل رأسه بالحناء، ويري البعض أنه كان آدم شديد الآدمة – يعني أسمر شديد السمرة.
    وكان – رضيالله عنه – يقول : الحق لا يخشي في الله لومة لائم حتى قال فيه الرسول : ( إن الله وضع الحق علي لسان عمر يقولبه ) . وكان يتميز برجاحة العقل وبالحكمة البالغة ، واستخلاص العبرة ، وحسن الرآي لاينبغي به إلا وجه الله تعالي ، وقد وافق القرآن في أربعة مواضع :
    1- في الحجاب ،وذلك حين أشار علي النبي بأن يأمر نساءه بأن يحتجبن لأنه يدخل عليهن البار والفاجر، فنزل القرآن موافقا لرأي عمر ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أنيؤذن لكم إلي طعام غير ناظرين إناه .... وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراءحجاب ) .
    2- وفي تحريمالخمر ، وذلك حين دعا ؛ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل قوله – تعالي : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطانفاجتنبوه ) .
    3- في أسري بدرلما أشار علي الرسول بالقتل ، وأخذ الرسول برأي أبي بكر بالفداء فنزل القرآنالكريم يؤيد رأي عمر ( ما كان لنبي أن يكون له أسري حتى يثخن في الأرض ) .
    5- وفي مقامإبراهيم حين قال للرسول e : يا رسول الله ، لو اتخذت منمقام إبراهيم مصلي ، فنزل قوله تعالي : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي ) .
    - تولي عمرالخلافة بعد أن رشحه أبو بكر ثم بايعه المسلمون ووافقوا علي خلافته بعد وفاةالصديق ثم جاء وقت صلاة الظهر وقد امتلأ المسجد بالمسلمين ، عندئذ صعد عمر المنبروخطب الناس بعد أن حمد الله تعالي ، وصلي علي رسوله وسلم ، وأثني علي أبي بكر بماهو أهله ثم قال : ( أيها الناس ، ما أنا إلا رجل منكم ، ولولا أني كرهت أن أرد أمرالخليفة ما تقلدت أمركم ) ورد المجتمعون عليه ، بالثناء والحمد ذاكرين له فضلهوسبقه .
    ونظر عمر إلي السماء في إشفاق وقلق وقال : إني قائلكلمات فأمنوا عليهن : ( اللهم إني غليظ فليني ، اللهم إني ضعيف فقوني ، اللهم إنيبخيل فسخني ) .
    ثم قال : ( يا أيها الناس إن الله ابتلاني بكم ،وابتلاكم بي ، وأبقاني فيكم بعد صاحبي ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحددوني ، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة ، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم ،ولئن أساءوا لأنكل بهم ) .
    ونزل عمر فصلي بالناس صلاة الظهر ، وكان ذلك يومالثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جمادي الآخر للسنة الثالثة عشرة من سني الهجرةالنبوية ، وهو أول يوم من خلافة عمر – رضي الله عنه .
    وقد عاش عمر عشرة أعوام هي مدة خلافته وكانت أعوام خيروبركة علي المسلمين حيث اتسعت علي يديه الفتوحات ، فاسقط مملكة الفرس وضمها إليالدولة الإسلامية ، ثم واجهت جيوشه المسلمة جيوش الروم في ميدان الشام بأكمله وتمله النصر ، وضم الشام العربي إلي دولة الإسلام التي ازدهرت علي يديه ومكن اللهللإسلام في الأرض وعاشت الخلافة الإسلامية علي يديه عزيزة أبية مرهوبة الجانب ، وقد واجه عمر العديد منالنوازل والصعاب فقارعها وأدار أزماتها بكل شجاعة وتدبير جيد كما سنعرف بعد * .
    _________________________
    * أعتمدنا في هذه النسخة علي : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133 ،وما بعدها .
    - حلية الأولياء، مروج الذهب ج3 ، تاريخ الطبري ج3 .
    - مختصر تاريخدمشق جزء عمر ، الكامل لابن الأثير ج2 .


    ثانيا : طبيعة ذلك العصر (عصر الاستقرار والتمكين )
    (1)
    الخلافة الراشدة فترة مثالية
    إن دراسة تاريخ الخلافة الراشدة لأمر جدير بالاهتمام فهيفترة لا تزيد علي الثلاثين عاما بعد رسول الله e والتي تعاقب عليها أربعة خلفاء فقط أطلق عليهم الخلفاء الراشدونأو الخلافة الراشدة ، وذلك لأنهم ساروا علي نهج رسول الله e ووفق شريعته التي ارتضاها لعباده فكانت تلك الحقبة مثالية وهي فيحد ذاتها تعد تتمة لحكم رسول الله e فلا غرو إذن أن تكون الدولة الإسلامية التي قامت في المدينةالمنورة منذ أن هاجر إليها رسولنا الكريم e وإلي مقتل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 40 من الهجرة .هذه الفترة هي الفترة الصحيحة للحكم الإسلامي كمدة متصلة ملتحمة ومتعاقبة ولم يعدبعدها في التاريخ الإسلامي فترة تماثلها وإن كانت ظهرت أحيانا في بعض البقاء لمدةقصيرة كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أو كما تحدث أحيانا في صورمتقطعة لبعض المصلحين من الحكام .
    وقد كانت فترة الخلافة الراشدة هي القدوة لكل حاكم يريدالسعادة لنفسه ولشعبه في الدنيا والآخرة وهي بلا شك الشكل من الحكم المثالي الذييحلم به المسلمون ويطالبون به حكامهم . ولم لا وهي الفترة التي تحققت فيها سعادةالإنسان وظهرت فيها حضارته المعنوية وليست المادية التي تستعبد الإنسان وتذلهويطلق فيها عنان الشهوات فينشأ الصراع وتكثر المفاسد وتعم الجرائم ويستبد القوىويطغي الغني وتتحكم مجموعة من الأثرياء واللصوص ورجال القوى لتحقيق رغباتها وتأمينمصالحها كل هذا غير موجود في حضارة الإسلام الأولي فهي الحضارة المعنوية التي حررتعقل الإنسان من الخرافات والأساطير ودعته إلي التفكير في آلاء الله وقدراته كماحررت وجدانه من عبادة الأوثان ومن طغيان الإنسان تحت أخيه الإنسان فأصبح الكل سواءفي نظر الإسلام وهذا هو قمة الحضارة التي تغافل عنها الكثيرون .
    ومن منطلق استخلاف الله الإنسان في الأرض عرف كل فردمسلم دوره في المجتمع الذي ينتسب إليه وكما أوصي به دينه الحنيف وأصبح عضوا صالحافي المجتمع ولبنة من لبنات البناء المتماسك الذي يشد بعضه بعضا . ومن هنا تكونالمجتمع الصالح بحكامه ومحكوميه وهذا ما يفرق ويميز بين مجتمع الخلافة الراشدةوبين مجتمعات اليوم وما يميز أيضا بين الخلفاء الراشدين وبين حكام هذا العصرفالفرق هائل بين صبغة الإسلام وبين من طغت عليه المادة والمصالح الدنيوية .
    لقد كان الخلفاء الراشدون علي أعلي مثال من التواضع ، فكانأبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب أغنام الحي الذي يقيم فيه وهو السنح ، فلما بويعبالخلافة قالت جارية من الحي : الآن لا يحلب لنا منايح ( أغنام ) دارنا ، فسمعهاأبو بكر رضي الله عنه ، فقال : بلي ، لعمري لأحلبنها لكم ، وإني لأرجو ألا يغيرنيما دخلت فيه عن خلق كنت عليه ، فكان يحلب لهن . وبقي علي ذلك ما أقام في السنح ،فلما انتقل إلي المدينة بعد سنة من توليه الخلافة ترك ذلك بالضرورة ليتفرغ لأعمالالخلافة .
    وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا سقط خطام ناقتهينزل ليأخذه فيقال له : لو أمرتنا ان نناولكه ، فيقول : أمرنا رسول الله e ألا نسألالناس شيئاً .
    هذا التواضع قد فقد بعد تلك الصفوة إلا من رحم ربك ، وغداالرجل إذا تسلم المسؤولية ترفع عن الناس ، وأصبح لا يكلمهم إلا من وراء حجاب ،وبأنف شامخ ، وبعد اجتياز عدد من السدود والأسوار من الجند والمخابرات العامة منهاوالسرية .
    ثم أنظر إلي مدى تحمل المسؤولية لهؤلاء الخلفاء فكانوايسهرون علي حياة رعيتهم وهناك من تاريخيهمما يؤيد ذلك أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وأيننحن اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا ينفقون كل الأموال ولا يبقونشيء في خزائنهم علي المسلمين أما اليوم فأنفرد الحكام بخزائن المال ينفقونها كيفماشاءوا وقد تكدست أموالهم الخاصة في المصارف الأجنبية ظننا أنها ستنفعهم ولكن اللهيغير حالا بحال وقد يخيب ظنهم فكم من ملوك خرجوا من الدنيا يجرون أذيال الخيبةوالعار حتى أنهم فقدوا أرضا تأويهم رغم كثرة أموالهم وليكن مثالنا في ذلك شاهإيران الذي قوضت حكمه الثورة الإسلامية .
    ولا أود أن أسترسل في ذكر أمثلة فالتاريخ الإسلامي حافلبها ولكني أود أن أقول أن حكاما هذا عملهم وهذا دأبهم علي المساواة والرفق بالرعيةوالحرص علي المال العام وإيتاء كل ذي حق حقه أقول ان حكاما هذه أعمالهم ستستقيمرعيتهم وسينظرون إليهم بعين التقدير والإكبار وسيشعرون أنهم في طمأنينة وسيعيشونفي أمن وسلام كل مسلم أمن علي نفسه وماله وعرضه وهذا هو قمة السعادة بلا شك .
    إن هؤلاء الخلفاء قد تربوا في مدرسة النبوة علي صاحبهاالصلاة والسلام فكانوا أئمة ومصابيح الهدي فخافت الله عن الرعية واتقوا الله في كلأمر من أمورها وكذلك الأمة فقد نصحت لأئمتها وشعر الجميع برباط الأخوة الصادق الذييربطه بالعقيدة الإسلامية الغراء وتوثقت العلاقات بين الحاكم والمحكوم ولعل أفضلمثال يعبر عن ذلك فقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة علي المنبر وقال : يامعشر المسلمين ، ماذا تقولون لو ملت برأسي إلي الدنيا كذا ( وميل رأسه ) . فقام إليه رجل فقال : أجل كمانقول بالسيف كذا ( وأشار إلي القطع ) . فقال عمر : إياي تعني بقولك ؟ قال نعم إياكاعني بقولي . فقال عمر : رحمك الله ، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججتقومني .
    إذن فترةالخلافة الراشدة والتي تمثلت في ثلاثين عاما تقريبا هي فترة خاضها المسلمون معحكامهم ينعمون فيها جميعا بالعدل والمساواة والأخوة الصادقة وإن كان حدث اختلالواضطراب في الحقبتين الأخيرتين التي عاشها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي بنأبي طالب رضي الله عنهما فإنها في سياق التجربة وتصويب الأخطاء وإثبات الأمةلذاتها فقد جدت من الأمور كما سنوضح بعد مشاكل وصعاب اقتضت تغير في بعض أنظمةالحكم مما دفع إلي تصادم شديد بين الحكام والمحكومين ولكنه لم يأخذ مسارا منافياللإسلام فكان لكلا وجهة نظر وفق اجتهاده الخاص وهذا ما سنوضحه فيما بعد .
    إن طبيعة المنهج التاريخي تقتضي أن نقسم فترة الخلافةالراشدة إلي فترتين متماثلتين تقريبا لكل فترة سماتها وخصائصها المميزة فقد كانتالنوازل التي تحل للمسلمين إبان فترة الخلافة فلم يواجهها خليفة واحدا إنما كانيواجهها خليفتان أو أكثر فوجدت أن تلك النوازل يمكن تقسيمها إلي قسمين نوازلواجهها أبو بكر وعمر ، ونوازل أخرى وجهها عثمان وعلي بن أبي طالب .

    خلافة أبي بكر وعمر عصر واحد متميز
    ووفقا لطبيعة التخصص والمنهجية السليمة أن نجعل من عهديأبي بكر وعمر رحمهما الله عصرا واحدا متميزا بسمات محددة تميزه عن طبيعة العصورالتي سبقته أو التي أتت بعده . ومما يقوي افتراضنا هذا وجعل من عصري الخليفتينالأوليين عصرا واحدا :

    (1)
    أن المدة التي قضاها عهد الخليفتان قدتناهز الاثنتي عشرة سنة قد تزيد قليلا أو تنقص قليلا وهي فترة في حساب العصور تعدمن الفترات القصيرة .
    - قضي الصديق في خلافته ما يقرب منالسنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام وهي فترة قصيرة جدا في حساب الزمن ولكنها مليئةبالنفع والخير وتفيض عظمة وإكبارا للإسلام وأهله حيث تم فيها ترسيخ معاني الإسلامفي قلوب أبنائه إذ تمكن ذلك الرجل في تلك الحقيقة القليلة أن يعيد المرتدين عن الإسلام إلي حظيرة الإسلاممرة أخرى وأن يحافظ علي حدود الجزيرة العربية من أن تنتقص أو من أي عدوان قد يعصفبها ومن هنا وفق ذلك الرجل في أن يرسي الدعائم وأن يثبت المفاهيم ويعرف الناس انالإسلام كل متكامل لا يمكن ان يحذف منه ركن أو تدخل عليه بدعة .
    - كما تميز المجتمع الذي عاشه أو بكر وعمر بأنه مجتمع إسلامي عديم الطبقاتالمخالفة لروح الإسلام فالناس كلهم متساوون لا فرق بين الأجناس ولا بين العقائدالسماوية من حيث الحقوق والواجبات وهذه مساواة أعتنقها الجميع لأنها تبع منالعقيدة التي تركزت في قلوبهم وليست مساواة تنطلق من نظريات فلسفية وضعية كالتينسمعها اليوم التي يحرص عليها أصحاب المزاودة والمتاجرة لتأمين مصالحهم فنري حكامالمسلمين يعيشون بين أفراد مجتمعهم ويذهبون معهم إلي الأسواق ويطوفون في الشوارعللتوجيه والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم نر تعاليا من حاكما أوابتعاد عن رعاياه فقد كان عمر يأمر ولاته ألا يتخذوا لبيوتهم أبوابا حتى يصل إليهبسهولة المظلوم والملهوف وأصحاب الحاجات ، فقد سمع أن سعد بن أبي وقاص قد أتخذلداره بابا فأرسل إليه محمد بن مسلمة فقال له حين وصولك اتجه إلي الباب فورا وأحرقهوهذا ما فعله فعلا فقد قام بإحراق الباب . فالمساواة التامة بين المسلمين من جهةوبينهم وبين الحكام من جهة أخرى كانت خاصية تميز ذلك العصر .
    - أما الفاروق عمر فقد أفسح الله له في عمره عشرة سنين متولي خليفةللمسلمين فأستكمل الفتوحات التي بدأها أبو بكر في ميداني الفرس والروم وأنتشرالدعاة يدعون الناس للإسلام دين السماحة والعدل فدخلوا في دين الله أفواجا .
    ثم أخذ يتفرغ لتكوين الدولة تكويناشرعيا وقانونيا فأنشأ الجهاز الإداري وما به من دواوين مختلفة لتنظيم أمور الدولةإداريا ثم أنشأ الجهاز المالي ونظم بيوت المال رتب لها مصادرها ومخارجها ومن ثمضمن معاشا ثابتا يوزع علي جميع المسلمين من عطاء بيت المال.
    - كما أقام الجهاز القضائي فعينالقضاة ورتب لهم خططهم ونشر المعلمين ليعلموا الناس القرآن والسنة المحمدية عليصاحبها أشرف الصلاة والسلام فهذا تأسيس وتمكين قام به عمر . وبذلك مكن عمر لدولةالخلافة الإسلامية في الأرض دينيا وعقائديا وسياسيا واقتصاديا بما جعلها دولة كبريمهابة الجانب

    (2)
    - إن المدة التي قضاها كل من الشيخينفي خلافته الإقتداء بسيرة النبي e والسير علي نهجه إذ عز عليهم فراقه e فكان من الوفاء والولاء له أن يسيروا علي نهجه وأن يقتدوا بهديةحتى لا يشعر الناس بثمة تغير قد حدث .
    - إن الحقبتين اللتين قضاهما الشيخانكل في خلافته لتعد عصرا تاريخيا واحدا أهم ما يميزه الأقتداء بالنبي e فأبو بكر رضي الله عنه يتحرج من فعل شيء لميوص به النبي e فهو لا يحبأن يبتدع شيئا لم يفعله الرسول e كما كان موقفه من جمع القرآن الكريم وكتابته في مصحف واحد . فقدكان مترددا في هذا الأمر حتى أقنعه عمر وشرح الله صدره .
    -كما كان أبو بكر وعمر رحمهما الله حريصين كل الحرص علي تثبيت الدين وعقائد الإسلامأولا في قلوب الناس ، فأنظر إلي أبي بكر وهو يتحد علي الصحابة حينما طالبوه بعدمقتال المرتدين إلي حين أن تستقر الأمور ويقبل منهم الصلاة دون الزكاة مؤقتا فرفضووقف وحيدا يجادل الصحابة في هذا الأمر فالزكاة ركن من أركان الدين ولابد أن تقامأركان الدين كاملة دون أن ينتقص منها ركن قائلا والله لو منعوني عقال بعير كانوايعطونه رسول الله لقاتلتهم عليه . فهم يفرقون بين الصلاة والزكاة .
    -ومن دلائل اقتداءه بالنبي e إنفاذ جيش أسامة قد عرض عليه الصحابة أن يؤجل إنفاذ الجيش إلي مابعد محاربة القبائل المرتدة واستقرار الأمور فرفض وقال قولته المشهورة : (لو جرتالكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيش وَجّهه رسول الله،ولا حللت لواءًا عقده رسول الله ) . كما قال لعمر عندما طالب بعزل إسامة وتولية منهو أكبر منه سنا : ( ثكلتك أمك يا ابن الخطاب يوليه رسول الله وأنا أعزله ) ! .ولم يكن عمر في خلافته بأقل اقتداء بالنبي e فقد كان يحاذي حذو النبي e بكل شدة ويعاقب كل من يتقول علي النبي e قولا لم يقله بل كان إذا سمع قولا من صحابي فلا يأخذ به إلا إذاوافقه علي ذلك صحابي آخر او اثنان أو ثلاثة ، فقد عرف عنه أنه مقل في الحديث عنالنبي e .
    -وإتماما لهذه الفائدة وهي فائدة الإقتداء بالنبي e حبس عمر كبار الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة ولم يسمح لهمبالهجرة إلي الأمصار أو الجهاد في سبيل الله وذلك ليكونوا بجانبه يستشيرهم ويفزعإليهم عند الأمور الحاذبة .
    وإذاكان عمر مقتديا بنبيه عاملا بالكتاب والسنة فإن ذلك لم يمنعه من الاجتهاد في الدينومن أن يبتكر للناس أمورا تتناسب وعصرهم الذي يعيشون فيه وهذا أمر لم يألفه الصديقإلا قليلا فقد كانت خلافة الصديق عقب وفاة النبي e مباشرة بينما امتدت خلافة عمر إلي ما يقارب العشر سنوات وقد دخلفي الإسلام أهالي الأمصار من كل صوب وناحية وهم أصحاب لغة تختلف عن لغة المسلمينوأصحاب عادات وتقاليد تختلف عن عادات وتقاليد المسلمين وجدت من المشكلات والصعابأمورا لم يألفها المسلمون من قبل فكان علي عمر ان يجتهد ليوائم بين معيشة المسلمينالحياتية وبين روح الإسلام الحنيف ذي الشريعة السمحاء ، ولا نريد ان نستقصي فياجتهادات عمر فهي معروفة ولكنني أود أن أركز علي أنه كان حريصا كل الحرص عليالتمسك والإقتداء بالنبي e . فكان اقتداؤه أكثر من اجتهاده .

    (3)
    - ومما يؤيددعوتنا في جعل عصري أبي بكر وعمر عصرا واحدا هي طبيعة الطريق والمرحلة التي كانتتمر بها الدعوة آنذاك ، فالطريق إلي الله مفتوحا والمرحلة التي يعيشها المسلمونآنذاك فيها من النقاء والود ما غمر المسلمين وجعلهم أخوة متحابين متساندين يؤثربعضهم بعضا فالمرحلة قد تميزت باستكمال أخلاق المؤمنين ونضج سلوكهم فالكل مؤمنونبالله ويؤدون الصلاة جماعة ويقيمون الليل فقد كانوا أنضاء عبادة وكان يتحرون سنةالنبي e قولا وعملاويسارعون إلي العبادات التطوعية التي تقربه إلي الله وتبعدهم عن الشبهات ، وقدعاشوا حياتهم وكأن الرسول e بين ظهرانيهم فما أعظمك يا رسول الله e في تربية أمتك تربية قائمة علي كل فضائل الخلق .

    (4)
    - ومما يبررتصرفنا في جعل العصرين عصرا واحدا هو أن الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد أمتدأعمار بعضهم أنه عاصر النبي ثم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وقد طال ببعضهمالأجل فعاصر معاوية في عام 41 هجريا وما بعده فهؤلاء الصحابة الذين أمتد بهم العمرإلي ما يجاور الثلاثين عاما في فترة الخلفاء الراشدين الأربعة . لم يصبهم تغيريذكر فيؤثر في سلوكياتهم واتجاهاتهم بل إن ما درجوا عليه إبان عصر النبي وأبي بكروعمر دفعهم إلي أن يتمسكوا بتلك القيم التي غرسة فيهم فلا عجب أن نراهم ينقسمونإبان خلافة علي بن أبي طالب إلي ما بين مؤيد له وما بين مؤيد لمعاوية ولكن عندتحليل سلوك هؤلاء الصحابة تحليلا متأنيا تجد أن دافعهم إلي ذلك هو ذلك الالتزامالذي عهدوه علي أنفسهم فأنظر إلي موقف طلحة والزبير رضوان الله عليهما من تلكالفتنة وكذلك عمار بن ياسر فمجرد أن ذكروا بقول النبي e وإذ بهم يتركون الحرب وينصرفون معبرين عن التزامهم بأمور الدينوعهدهم بنبيهم e اشد تعبير ،فالزبير رضي الله عنه في معركة الجمل ترك القتال حين ذكره علي بقول رسول الله e ( لتقاتلنه وأنت لهظالم ) ، يقصد طلحه لأمير المؤمنين علي وقد وقف الزبير بن العوام الذي كان من خصومأمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع عمار موقفا ، وقد بارز كلا منهما الآخر وأخذيتبارزان وجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظانفيقول له عمار لا يا أبا عبد الله وتركه الزبير وهو قادرا عليه لقول رسول الله r لعمار تقتلك الفئة الباغية ولهذا كف عن قتاله .



    (5)
    - وقد تميز كلا من الشيخين أبي بكر وعمر بالخوف الدائممن الله وتحمل المسؤولية التامة وقد ظهرت تلك المسئولية في اتخاذ كلا منهمالقراراته وقد يختلف الشيخان حول أمر من الأمور ولكن مبعث الخلاف هو تحمل المسؤوليةوالخوف من الله تعالي وخير مثال علي ذلك هو موقف الشيخين من خالد بن الوليد القائدالأعلى لقتال المرتدين والذي أقض مضجعهم وبدد شملهم ، فعندما تزوج خالد من زوجةمالك بن نويرة واختلفت الروايات في أمر رأي هذا الزواج وفي شأن مالك بن نويرة نفسههل قتل كافرا أم مسلما وأن أقوال كثيرة ومتضاربة ولكن يهمنا موقف الشيخين من خالدفعمر طالب بعزلة حينما وجد في سيفه رهقا وأنه تزوج امرأة رجل مسلم لأن البعض قدشهدوا بأن بني تميم قد أذنت . فمطلب عمر للعزل هنا مبعثه صالح الإسلام والمسلمينمنطلقا من تحمل المسؤولية إذ كان المستشار الأمين لأبي بكر . بينما أبو بكر فكانله موقف مخالف فهو يؤمن بمهارة خالد العسكرية وهو أسرع قواده في النيل من عدوه وأنالرسول e كان معجبا به وقد أبقاه ولميعزله عند فتح مكة إذ كان هو الوحيد المخطئ والبادئ بالقتال . ومن هنا فإن أبا بكرأقتدي بالنبي فلم يعزل خالد وكان يراقبه ويكفكف من سطوته ويؤنبه ويحاسبه إذا اخطأ. كما فعل عند زواجه من زوجة مالك بن نويرة ومن بنت مجاعة . وبذلك يتضح أن الشيخين أبا بكر وعمر يسيران علينهج واحد ولا خلاف بينهما يكاد يذكر .

    (6)
    – والمتأمل فيهاتين الأيتين : { قَالَتِظ±لأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـظ°كِن قُولُوغ¤اْ أَسْلَمْنَاوَلَمَّا يَدْخُلِ ظ±لإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ظ±للَّهَوَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ظ±للَّهَ غَفُورٌرَّحِيمٌ إِنَّمَاظ±لْمُؤْمِنُونَ ظ±لَّذِينَ آمَنُواْ بِظ±للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْوَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ظ±للَّهِ أُوْلَـظ°ئِكَهُمُ ظ±لصَّادِقُونَ } ( الحجرات الآية 14 ، 15 ) يجد في معانيهما دليلايدل علي وحدة الفترة التي عاشها أبو بكر وعمر فالأعراب آنذاك لم يكن قد ثبتالإيمان في قلوبهم هم مسلمون بالظاهر فقط لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعد لذانراهم عند مرض النبي e يمتنع بعضهم عن دفع الزكاةوترتد بعض القبائل عن الإسلام بل يدعي بعض الأعراب النبوة ونزول الوحي كالأسودالعنسي ومسيلمة في بني حنيفة ، لذا كانت مهمة الصديق وهدفه الأكبر هو ان يعيد هذهالقبائل إلي حظيرة الإسلام بكل وسيلة ممكنة وان يجرهم علي دفع الزكاة علي أنها ركنمن أركان الإسلام وليست مكوسا أو ضرائب وقد وفقه الله إلي ذلك في فترة وجيزة إذجرد لهم أحد عشر جيشا علي رأسهم خالد بن الوليد .
    وكان الصديقرحمه الله يمنع هؤلاء المرتدين وقد عادوا للإسلام من الاشتراك في الحروب خشيةالفرار أمام العدو لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم بعد . ثم جاء عمر ليكمل المهمةويتمم الدور فأرسل إلي هذه القبائل المعلمين ليعلموهم أمور دينهم ويحفظوهم القرآنويهدوهم بهدي نبيهم ، وبمرور الوقت ثبت الإيمان في قلوبهم وأطمأن إلي هذاالاستقرار عمر بن الخطاب فأخذ يجندهم في الجيوش ويسمح لهم بالجهاد في ميادين الفرسوالروم مخالفا ذلك أبا بكر رحمه الله وقد كان جيش عبيد الله الثقفي في معركة الجسرأغلبها من هؤلاء المرتدين الذين عادوا إلي الإسلام وقد سمح لهم بذلك فالمستنتج هناأن أبا بكر قد بدأ يهتم بحقيقة الدعوة ويعيد المرتدين إلي الإسلام وعمر يزيدهاتثبيتا وتمكينا في النفوس . وليس بينهما تباينا فالرأي
    - والحقيقةالتي ينبغي ان نلتفت إليها أن أبا بكر وعمر كانا مهمومين بأمر الدعوة مشغولين بهابفكرهما وقلبهما كل منهما يبذل ما في وسعه كي تسود في جزيرة العرب وفي خارجها فأبوبكر يرسل الجيوش لمتابعة المرتدين ، ويرسل البعثات لنشر الدعوة ، ولكنها تصطدمبرجال الكفر والطاغوت في فارس وتأخذهم العزة بالإثم فيرفضون الإسلام ، وينشغل أبوبكر بميدان الفرس أشد انشغال فينتصر حينا وينهزم حينا ثم تزداد عليه هموم دعوتهفيضطر إلي تجنيد الجنود وإرسالها لمحاربة الروم وأخذ يتابع الميدانين معا ميدانالفرس والروم وقلبه يعتصر من أجل الدعوة ونشرها .
    - ثم يأتي عمر فينمي ذلك الهم الذي أنشغل به أبو بكر منأجل الدعوة ويدلوا دلوه في هذا المضمار فيفتح الله عليه في ميدان الفرس وما كانتسياسة عمر الخارجية آنذاك إلا بسط الدعوة الإسلامية وانتشارها وتتوالي المعاركويتم انتصار المسلمين ويعلوا الحق الباطل وتنتشر الدعوة ولم تنتشر تلك الدعوة فيبلاد فارس من فراغ وإنما ببزل المهج والنفوس خالصة لله وأستمع إلي النعمان وهويؤكد ما قلناه فقد كان هو أيضا مهموما بدعوة الإسلام فحين اقتربت الشمس من الزوال، وحانت الساعة التي يترقبها النعمان فركب برذونا أحوى قريبا من الأرض ، وطاف عليالناس ، ووقف علي كل راية فحمد الله وأثني عليه ، وخطب خطبة ذكرهم فيها بما كانواعليه قبل الإسلام ، وما آل إليه أمرهم بعده ، وبين لهم أن عدوهم يخاطر بأرضه وبلدهوأنتم تخاطرون بدينكم وحريمكم ، وليس سواء ما خاطروا به وخاطرتم به وأعاد إليأذهان الناس أنهم إنما ينتظرون احدي الحسنيين الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة .ثم قال – رضي الله عنه – استعدوا فإني مكبر ثلاثا ، فإذا كبرت التكبيرة الأوليفليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ،فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معا .
    ورفع النعمانرأسه إلي السماء ، يبتهل إلي الله – عز وجل – أن يكتبه مع الشهداء فقال : اللهمأعز دينك،وانصر عبادك وأجعل النعمان أول شهيد اليوم علي إعزاز دينك ونصر عبادك ([1])

    (7)
    - وقد كان الشيخان رحمهم الله زاهدين في الدنيا ويؤثرانحياة الشرف علي لين الحياة وبهجتها فكان يحرمان أنفسهما وأولادهم ويضيقان عليهمتقربا إلي الله سبحانه وتعالي فقد كان كل منهما يأكل من عرق يده ولن تزيدهماالخلافة بطرا وترفا وإنما زادتهم زهدا وتقربا إلي الله فما عند الله هو أبقي ،ويروي أن أبا بكر في لحظاته الأخير طلب أن يرد إلي بيت المال ستة ألاف درهم وقطعةأرض عوضا عما أخذه من بيت المال مدة خلافته وعبدا حبشيا وبعيرا وقطعة قطيفة وقدأمر برد هذا إلي عمر فنظر إليها عمر وقال يرحم الله أبا بكر فقد أتعب من أتي بعدهوكذلك عمر بن الخطاب فقد رفض أن يقبل ما فرضوه له من بيت المال فقد أحصاه وجعلابنه عبد الله يضمنه في رده إلي بيت المال متضامنا مع أسرة الخطاب إذا عجز عنسداده وكانا يتحريان الحلال الطيب ويبعدانعن الحرام وما يغضب الله تعالي .
    وكان الصاحبان مقتصدين في المعيشة وقد عرف عنهما وخاصةعمر أنهما كانا خشنين في طعامهما وقد ورد عن عمر انه كان لا يأكل إلي ادما واحداويترك الطيبات والاستمتاع بها في الحياة الدنيا فكان يخاف من الآية الكريمة : (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) . وعن جابر بن عبد الله قال : رأي عمر بنالخطاب لحما معلقا في يدي فقال : ( ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحما فاشتريته .فقال عمر : أو كلما اشتهيت اشتريت يا جابر ؟ ما تخاف الآية : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) .وهكذا كان عصر الشيخين بعيدا عن الترف وزخرف الحياة الدنيا الذي يؤدي إلي إهلاكالأمم وموات الشعوب هذا بخلاف عهد إمام المسلمين عثمان بن عفان ذي النورين فقدكثرت الأموال وازدادت موارد الحياة وأقبل أغلب الناس علي لين الطعام ونعومته ومتعالحياة الدنيا طالما لم يحرمها الشارع وهذه احدي النوازل التي عصفت بعصر أميرالمؤمنين عثمان بن عفان علي نحو ما سنفصل بعد ، وهناك من الصفات المشتركة التيجمعت بين الشيخين أبي بكر وعمر ولم نجدها عند عثمان وعلي رضي الله عنهما وهي عزلالأهل والأقارب ان يتدخلوا في شئون الحكم وهذه احدي حسنات حكم هذين الشيخين وقدكان عمر مع أهله شديدا .
    وكان يعاتبالولاة إذا تساهلوا علي أهله ويوبخهم أشد التوبيخ ، ويقيم الحد علي من خالف من أهلهحتى ولده ، فقد روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال يوما – وقد ذكر عمرفترحم عليه - : ما رأيت أحدا بعد نبي الله e وأبي بكر رضي الله عنه أخوف لله من عمر ، لا يبالي علي من وقعالحق ، علي ولد أو والد . ثم نري عمر يعاتب عمرا بن العاص نفسه لانه تساهل فيإقامة الحد علي ابنه في مصر حيث أقام عليه الحد في عقر داره ولم يشهد الحد مجموعةطائفة من المسلمين ويروي أن عمر بن الخطاب قد أعاد الحد علي ابنه حتى مات .
    ولعلنا نتذكر تلك الرؤيا التي رآها النبي في منامهواستبشر منها الرسول والمسلمون فضل كلا من أبي بكر وعمر ولعل فيها إشارة قد يلمحهاالبعض بطول خلافة عمر عن أبي بكر قال رسول الله e : أريتني الليلة وأبا بكر علي قليب فنزعت منه ذنوبا او ذنوبين ثمجئت يا أبا بكر فنزعت ذنوبا أو ذنوبين ثم جاء عمر فنزع منها حتي استحالت غربا فضرببعطن فعبرها يا أبا بكر قال : إلي الأمر بعدك ثم يليه عمر ؟ قال بذلك عبرها الملك. ( متفق عليه راجع مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطابلابن الجوزي ) . والمتأملفي رؤيا النبي e فقد يلمح من خلاله : 1- طول مدة خلافة عمر عن خلافة أبي بكر وأنفي خلافة كلا منهما خيرا وبركة علي الإسلام والمسلمين فإن كان أبو بكر قد نزعذنوبا أو ذنوبين فقط إلا أن فيهما خيرا كثيرا سيقدره الله تعالي ، أما عمر بنالخطاب فإن تحول إلي غروب ممتلئة بالماء ثم اخضرار الأرض بأعشابها والرعي فيهابأغنام المسلمين لدلالة كبرى علي تأصيل الحكم الإسلامي وتثبيت دعائمه وسوف يكونذلك إن شاء الله في عهد عمر حيث بروز الدولة الإسلامية وإنتشارها في بقاع كثيرة منالأرض .
    - وقد خصالرسول e أبا بكروعمر علي وجه الخصوص فإن هذا شاهد علي ان عصر الشيخين عصرا واحدا ممتدا بصفائهونمائه وبأخوته الصادقة وبمساواته بين الناس وبنزعته الإنسانية التي لا تفرق بينقريب وبعيد او مسلم وغير مسلم .
    وهناك أحاديثتجمع بين فضلي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم تجمع تلك الأحاديث بينهما اعتباطياوإنما الجمع بينهما ربما يكون لعلة أرادها الله سبحانه وتعالي وأستشعرها نبيه e فأخذ يذكرهافي أكثر من موضع ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله e : اقتدوا بالذين من بعدي – يعني أبا بكر وعمر – اهتدوا بهدي عماروتمسكوا بعهد ابن أم (عبد) . ([2])وعن حذيفة أيضا قال : كنا جلوسا عند النبي e فقال : إني لست ادري ما بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي وأشارإلي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه .
    عن عبد خير قال : سمعت عليا رضوان الله عليه يقول : إنالله جعل أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما حجة علي من بعدهما من الولاة إلي يومالقيامة سبقا والله سبقا بعيدا واتعبا من بعدهما إتعابا شديدا .([3])
    عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليهم قال : من لايعرف فضل أبو بكر وعمر فقد جهل السنة . ([4])
    عن أبي جحيفة قال : سمعت عليا رضوان الله عليه يقول :أخبركم هذه الأمة بعد نبيها ؟ أبو بكر ثم قال ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبيبكر ؟ عمر . ([5])
    هذه عجالة تبين طبيعة عصري أبي بكر وعمر الذي يمكن أننطلق عليه عصر الأستقرار والتمكين وتوضح المبررات التي جعلت منهما عصرا واحدا أوحقبة واحدة متميزة بسماتها وخصائصها الفريدة كما أعتقد .

    1- الطبري ج4 ص131 – 132 .

    1- أخرجه احمد( 5/382 و 385 و 399 )والترمذي ( 3662 و 3663 ) وانظر مناقب أمير المؤمنين عمر بنالخطاب ص38 ) .

    2- رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد 2501 .

    3- المصدر السابق (2325 ) .

    4- انظر مناقب أمير المؤمنين عمر بنالخطاب ص42 .



  3. #3
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    ( النازلة الأولي )
    موت النبي واستخلاف أبي بكر
    وكان لموت النبي w دويا عنيفا أصاب الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم من اضطرب ومنهممن دهش فخولط ، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ومنهم من أعتقل لسانه فلم يطق الكلام ، ومنهم أنكر موته كلية . ولنستمع إليالقرطبي وهو يبين جلل هذه المصيبة ويقول : من أعظم المصائب في الدين ... قال رسولالله w : (( إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه فإنها أعظم المصائب )([1])، وصدق رسول الله w ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلي يومالقيامة ، انقطع الوحي ، وانتهت النبوة ، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغيرذلك ، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه ([2]).
    وقد روي عن بن إسحاق أنحينما توفي الرسول w عظمت به مصيبة المسلمين فكانت عائشة رحمها الله تقول لما توفيالنبي w ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصارالمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتيه بفقد نبيهم (3) .
    فهل بعد هذه النازلة نازلةأخرى تصنع في المسلمين هذا الصنيع ؟ لعله من المفيد أن نتتبع تلك المصيبة منمبدأها وهو مرض النبي e فلا شك أنه القدوة والمثل الأعلى وقد طاب رسولنا الكريم حيا وطابمريضا وطاب ميتا .


    (1)
    مرض النبي e .
    تذكر الرواية العربية في بدأ مرضالنبي e وتوجعه الذي قبض فيه أنه بعدماأمر بإرسال جيش أسامة إلي الشام سنة أحدي عشرة من الهجرة وبعدما تحرك ذلك الجيش وبلغتخوم البلقاء من أرض فلسطين بدأ النبي يشكو من مرضه وقد ذكر الواقدي أن بدأ المرضكان في لواخر شهر صفر تقريبا . وعندما سمع الناس بمرضه خرج الأعراب وكثير من القبائلعن الإسلام وادعى بعضهم النبوة كمسيلمة وطلحة وسجاح ولم يبق علي إسلامه سوي أهلمكة والمدينة وبعض بقاع في الجزيرة العربية.
    وقد شعر النبي e بوجعه وهو في بيت زينب بنت جحش ولم يطق المؤمنون رؤيته مريضا فقدبعث رسول الله رحمة للعالمين وهو هبة السماء لأهل الأرض ، ومن مظاهر رحمته إنهمافتئ طيلة حياته يستغفر للمسلمين الأحياء منهم أو الأموات حتى يتغمدهم اللهبرحمته وقد روي عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبه مولي رسول الله e أنه قال بعثني رسول الله من جوف الليل وقال لي أني قد أمرت أنأستغفر لأهل البقيع ؛ فإنطلق معي فإنطلق معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السلامعليكم أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطعالليل المظلم ليتبع أخرها أولها ، الآخرة شرا من الأولي ثم أقبل علي فقال يا أبامويهبة أني قد أتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم خيرت بين ذلك وبين لقاءربي والجنة فأخترت لقاء ربي والجنة قال : قلت بأبي أنت وأمي وخذ مفاتيح خزائنالدنيا والخلد فيها ثم الجنة وقال لا والله يا أبي مويهبة لقد أخترت لقاء ربيوالجنة ، ثم أستغفر لأهل البقيع ثم أنصرف إلي بيته فبدأ رسول الله e بوجعه الذي قبض فيه . ([3])
    ويروي عن عائشة زوج النبي e أنها قالت رجع رسول الله من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسيوأقول : ( وارأساه ) ! قال بل أنا والله يا عائشة وارأساه ثم أنظر e وهو يداعب زوجته عائشة ويسري عنها ويشاركها في البأساء ولم يكنزوجا مواسيا فقط بل كان زوجا عادلا يساوي بين زوجاته ويعدل بينهن حتى وهو في مرضهالأخير ثم قال لعائشة ما ضرك لو متىَّقبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك فقلت والله لكأنني بك لو فعلت ذلك رجعتإلي بيتي فأعرست لبعض نسائك قالت : فتبسم رسول الله e وتتامّ به وجعه وهو يدور علي نسائه حتى أشتد به وجعه وغلبه علينفسه وهو في بيت ميمونة كما تقول عائشة فدعي نسائه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأزنله فخرج رسول الله e بين رجلين من أهله : الفضل بنالعباس ورجل أخر تخط قدماه الأرض عاصبا رأسه حتي دخل بيتي ثم أشتد المرض علي رسولالله e فأصابته غمرة شديدة وأشتد بهالوجع فقال أهريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتي حتى أخرج إلي الناس فاعهدإليهم قالت فأقعدناه في إناء بحفصة بنتعمر ثم صببنا عليه الماء حتي طفق يقولحسبكم حسبكم . ([4])
    - ويروي عن عبد الله بن مسعودنعى إلينا نبينا وحبيبنا قبل موته بشهر فلما دني الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشةفنظر إلينا وشدد فدمعت عينه وقال مرحبا بكم رحمكم الله وآواكم الله حفظكم الله تأملمعي أخي المسلم وصايا الرسول في أيامه الأخيرة فقد طاب حيا وطاب ميتا فهو القدوةوالمثل الأعلي في حياته وعند مماته فهو عند موته يشرع لنا ويعلمنا كيف يكون غسلالميت وكيف نصلي عليه ومن أولي الناس بتغسيله واضطجاعه..... أوصيكم بتقوى اللهوأوصي الله بكم ...... فقلنا متي أجلك ؟ قال قد دنا الفراق والمنقلب إلي الله وإليسدرة المنتهي قلنا فمن يغسلك يا نبي الله قال أهلي الأدنى فالأدنى قلنا ففيم نكفنكيا نبي الله ؟ قال في ثيابي هذه أن شئتم ؛ أو في بياض مصر ، او حلة يمانية ، قلنا: فمن يصلي عليك يا نبي الله ؟ قال مهلا غفر الله لكم ، وجزاكم عن نبيكم خيرا !فبكينا وبكي النبي صلي الله عليه وسلم ، وقال : إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني عليسريري في بيتي هذا ، علي شفير قبري ، ثم أخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي عليّجليسي وخليلي جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنود كثيرة منالملائكة بأجمعها ، ثم ادخلوا علي فوجا فوجا ، فصلوا علي وسلموا تسليما ، ولاتؤذوني بتزكية ولا برنة ولا صيحة ، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ، ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد . أقرئوا أنفسكم مني السلام ؛ فإني أشهدكم أني قد سلمت علي منبايعني علي ديني من اليوم إلي يوم القيامة . قلنا : فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟ قال : أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم . (2)
    - والرسول دائما يستوصيبالأنصار خيرا حتى في وجعه الأخير وهو يعاني من سكرات الموت ويروي عن عروة عنعائشة ، قالت : فصببنا عليه من سبع قرب ، فوجد راحة ، فخرج فصلي بالناس ، وخطبهم ،واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ، ثم أوصي بالأنصار خيرا ، فقال : أما بعد يا معشرالمهاجرين ، إنكم قد أصبحتم تزيدون ، وأصبحت الأنصار لا تزيد علي هيئتها التي هيعليها اليوم ، والأنصار عيبتي التي أويت إليها ، فأكرموا كريمهم ، وتجاوزوا عنمسيئهم .
    وكان أبو بكر افهم الصحابة لرسول الله e فاستمع إليه وهو يرد علي الرسول حينما كان يلقي خطبة ويلمح فيهابقرب موته فقال الرسول : إن عبدا من عباد الله قد خير بين ما عند الله وبين الدنيافأختار ما عند الله ؛ فلم يفقهها إلا أبو بكر ؛ ظن أنه يريد نفسه ، فبكي فقال لهالنبي صلي الله عليه وسلم : علي رسلك يا أبا بكر ! سدوا هذه الأبواب الشوارع فيالمسجد إلا باب أبي بكر ؛ فإني لا أعلم أمرا أفضل يدا في الصحابة من أبي بكر . ([5])
    - إن للموت سكرات شديدة يعانيها الذي يحتضر وكانت سكرت الموت تلك أعنف ماتكون برسول الله e وكم عبر عن ذلك في أكثر من مرةومع ذلك فلن تنسيه أن يتقرب إلي ربه بعبادة يحبها مولاه فقد لمح في يد أسامة بنزيد الذي جاء يعوده سواكا فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريد السواك الذي بين يديأسامة فأخذته ولينته بأسنانها ثم أعطته للرسول e فستك به أعظم ما يكون لأنه يشعر أنها المرة الأخيرة التي يستاكفيها . (2)
    وقد روي عن عائشة ، قالت : رأيترسول الله صلي الله عليه وسلم يموت ، وعنده قدح فيه ماء يدخل يديه في القدح ، ثميمسح وجهه بالماء ثم يقول : اللهم أعني علي سكرة الموت ! كما روي عن عائشة رضيالله عنها عندما قالت رجع الرسول صلي الله عليه وسلم من المسجد بعدما أفاق من مرضه قالت : فنظر رسول الله صليالله عليه وسلم إلي أسامه بن زيد وفي يده سواك نظرا عرفت أنه يريده ، فأخذتهفمضغته حتي ألنته ، ثم أعطيته أياه ؛ قالت فاستن به كأشد ما رأيته يسن بسواك قبله، ثم وضعه .
    خيرت فاخترت عبارة قالتها السيدة عائشة عندماوجدت رسول الله يثقل في حجرها قالت : فذهبت أنظر في وجهه ، فإذا نظره قد شخص . وهويقول : بل الرفيق الأعلي من الجنة ! قالت : قلت : خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق !قالت وقبض رسول الله صلي الله عليه وسلم .
    وعن عائشة أيضا سمعت النبي w وأصغت إليه قبل أن يموت وهومسند الظهر يقول : اللهم أغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى . (3)
    لقد أختلف في تحديد اليوم الذي ماتفيه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد اتفقوا أغلبهم انه كان يوم الاثنين من شهرربيع الأول واختلفوا في الوقت الذي قبض فيه وقال الواقدي توفي يوم الاثنين ثنتيعشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أحد عشرة هجريا وكان عمره آنذاك ثلاث وستينسنة ، ودفن من الغد نصف النهار حين زاغت الشمس وذلك يوم الثلاثاء .([6])
    وقد توفي وأبو بكر في السنح وعندما علم بوفاة النبي e أقبل حتى نزل علي باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ؛فلم يلتفت إلي شيء حتى دخل علي رسول اللهصلي الله عليه وسلم في بيت عائشة ؛ ورسول الله مسجي في ناحية البيت ، عليه بردحبرة فأقبل حتي كشف عن وجهه ، ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ! أماالموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن يصيبك بعدها موته أبدا . ثم رد الثوبعلي وجهه .

    * * * *
    (2)
    جهاز رسول الله وإعداده للدفن
    أما عن جهاز رسول صلي الله عليه وسلم ودفنه فيروي الرواة انه بعد بيعة أبيبكر أقبل غسله الناس علي جهاز رسول الله e وإعداده للدفن ، أما عن تغسيله فقد قام علي بن أبي طالب والعباسبن عبد المطلب والفضل بن العباس وقثن بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولي رسولالله e هؤلاء هم الذين تولوا غسلالنبي e ويروي أن أوس بن خولي أحد بنيعوف ابن الخزرج ؛ قال لعلي بن أبي طالب : أنشدك الله يا علي ؛ وحظنا من رسول الله! وكان أوس من أصحاب بدر ؛ وقال : أدخل ؛ فدخل فحضر غسل رسول الله صلي الله عليهوسلم ؛ فأسنده علي بن أبي طالب إلي صدره وكأن العباس والفضل وقثم هم الذين يقلبونهمعه ؛ وكان أسامة بن زيد وشقران مولياه هما اللذان يصبان الماء وعلي يغسله قدأسنده إلي صدره وعلي يقول : بأبي أنت وأمي ! ما أطيبك حيا وميتا ! ولم ير من رسولالله شيء مما يري من الميت .
    حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيي ابن عباد ، عنأبيه عباد ، وعن عائشة ، قالت : لما أرادوا أن يغسلوا النبي صلي الله عليه وسلماختلفوا فيه فقالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا ،أو نغسله وعليه ثيابه ! فلما اختلفوا ألقي عليهم السنة حتي ما منهم رجل إلا وذقنهفي صدره ، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدري من هو : أن اغسلوا النبي وعليهثيابه ؛ قالت : فقاموا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبونعليه الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم .
    قالا : فكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلانساؤه .
    وأما عن لحد رسول الله e فيروي عن عبد الله بن عباس أنه قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله e– وكان أبو عبيدة بن الجراح يحفر الأضرحة كحفر أهل مكة ، وكان أبوطلحة زيد ابن سهيل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد – فدعا العباس رجلينفقال لأحدهما : أذهب إلي أبي عبيدة ، وللآخر : أذهب إلي أبي طلحة ؛ اللهم أخترلرسولك ؛ قال : فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله صلي اللهعليه وسلم فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع علي سريره في بيته .
    وقد أختلف الصحابة في مكان دفن النبي e فقال قائل : ندفنه في مسجده ، وقال قائل : يدفنمع أصحابه ؛ فقال أبو بكر : إني سمعت رسولالله صلي الله عليه وسلم يقول : (( ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض )) فرفع فراش رسولالله الذي توفي عليه فحفر له تحته .
    ودخل الناس علي رسول اللهيصلون عليه أرسالا ؛ حتي إذا فرغ الرجال أدخل النساء ، حتي إذا فرغ النساء أدخلالصبيان ؛ ثم أدخل العبيد ؛ ولم يؤم الناس علي رسول الله صلي الله عليه وسلم أحد ،ثم دفن رسول الله صلي الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء .
    - أما صاحب العواصم منالقواصم فقد وصف هول تلك الفجيعة التي حلت بالمسلمين بموت نبيهم وقال : واضطربتالحال ... فكان موت النبي w قاصمة الظهر ، ومصيبة العمر ، فأما علي فاستخفي في بيت فاطمة ،وأما عثمان فسكت ، وأما عمر فأهجر وقال : ما مات رسول الله وإنما واعده رب كما واعدموسي ، وليرجعن رسول الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم .([7]) وخرج أبو بكر وعمر يتكلمفقال : اجلس يا عمر ، وهو ماضي في كلامه ، وفي ثورة غضبه فقام أبو بكر في الناسخطيبا بعد أن حمد الله وأثني عليه :
    أما بعد : فإن من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنالله حي لا يموت ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنقَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰأَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاًوَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ } ([8]) .
    قال عمر فوالله ما إن سمعتأبا بكر تلاها فهويت إلي الأرض ما تحملني قدماي وكأنني لم أستمع إلي هذه الآية منقبل حينئذ علمت أن رسول الله قد مات .
    لقد كان الصديق جريئا حقاوشجاعا ثابت القلب والجنان حيث تحمل الصدمة وكان عليه أن يراجع هؤلاء الحيارى فعمروالناس يقولون ان الرسول لم يمت وسكت عثمان واستخفي علي ولكن الصديق في صفاءسريرته ووضوح بصيرته استطاع بهذه الكلمات القلائل أن يخرج الناس من ذهولهم وحيرتهمبان الإسلام باق بعد موت محمد w فالأشخاص راحلون والدعوة قائمة وباقية وهذه سنة الله في خلقه .
    ولا غرو أن يكون موتمحمد w نازلة النوازل وقاصمة القواصم ولكن من خلال تلك المحنة ظهرت شخصيةالصديق وكأن الأقدار تسوقه ليحل محل الرسول w في إرشاد الأمةوالإبقاء علي وحدتها وقد ظهرت حكمته رضي الله عنه إذا انحاز بالناس إلي عبادة اللهوتوحيده ( من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ) فأنساق الناس إليه وأطمئن أبوبكر إلي أن التوحيد مازال رطبا في قلوبهم لأنهم حينماسمعوا قولة سرعان ما رجعوا إلي الحق ورجعت إليهم أنفسهم .
    قال أنس ( لما كان اليومالذي قدم فيه رسول الله المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيهأظلم منها كل شيء ) . قال : وما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله w حتي أنكرنا قلوبنا (2). ثم تدارك الله الإسلام وأهله ببيعة أبي بكرالتي جاءت فلته حيث أنعقد الإجماع عليه دون اعتراض أو تردد يذكر .

    * * * *
    (3)
    كيف تمت بيعة الصديق ؟
    ومما لا شك فيه أن بيعة ابي بكر كانت أحدي المصاعب الكبرى التي واجهتالمسلمين آنذاك فلو لم ينعقد الإجماع عليه من الهاجرين والأنصار في سقيفة بنيساعده لتمزقت كلمة المسلمين وانهارت وحدتهم ووهنت قوتهم ولكن الله سلم وقد قيلت فيبيعة أبي بكر روايات كثيرة متباينة وخاصة في الحديث عن بيعة علي وفاطمة الزهراءابنة رسولنا الكريم w واستغل أعداء الإسلام منالمستشرقين وغيرهم تلك الروايات للطعن في خلافة أبي بكر . والموضوع أيسر من ذلكبكثير .
    عندما سمع الأنصار بموت النبي w اجتمعوا بسقيفة بني ساعدهليتناقشوا فيمن يخلف الرسول w فالرسول كان نبيا مرسلا وها هوأنتقل إلي جوار ربه فالصحابة جميعهم سواء في أن يتولي الأمر من بعده كما رأيالأنصار أنهم أهل الدار والمهاجرون طارئون عليهم فهم أولي بالإمارة في زعمهم من المهاجرين. وقد اختاروا فيما بينهم سعد بن عبادة ليكون أميرا لهم . وقد بلغ ذلك المهاجرينفقالوا نرسل إليهم يأتوننا فقال أبو بكر بل نمشي إليهم . فسار إليهم المهاجرونمنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وقد وجدوا الأنصار قد أوشكت كلمتهم علي اختيار سعدبن عبادة .فتراجعوا الكلام بعد مجيء المهاجرين وقال بعض الأنصار منا أمير ومنكمأمير قال ذلك الحباب بن المنذر أحد خطباء الأنصار وقال عمر لا يجتمع اثنان في قرنوأخذ ابو بكر يهون عليهم الكلام ويقول كلاما منطقيا مصيبا فقال لهم نحن الأمراءوأنتم الوزراء . إن رسول الله w قال الأئمة من قريش .([9]) عن معاوية أنه سمع رسول الله يقولإن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله علي وجهه ما أقاموا الدين ،وعن ابن عمر قال : قال رسول الله w لا يزال هذا الأمر في قريش مابقي منهم أثنان . (2)
    وروي الإمام أحمد في مسنده ج3 ص183الطبعة الأولي عن أنس قال , كنا في بيترجل من الأنصار فجاء النبي w حتي وقف فأخذ بعضاضة البابفقال الأئمة من قريش ولهم عليكم حق ولكممثل ذلك أنظر العواصم من القواصم ص61 الهامش . إلي غير ذلك من أحاديث تدور في ذلك الفلك ومن وصايا الرسول w التي نطق بها أبو بكر في تلك الجلسة ( أوصيكم بالأنصار خيرا أنتقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم ) (3)
    ثم قال أبو بكر لقد أمرك الله أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال ( يا أيهاالذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ). ([10])
    وبعد حوار جاد تم فيه الإقناع والاقتناع من الطرفين أراد عمر أن يحسمالموقف فقال مد يدك أبا بكر كي نبايعك فبايعه ثم بايعه طلحة ثم بايعة بقيةالحاضرين وتمت البيعة في سلام في وقت قصير وهو وقت تغسيل النبي w وتكفينه إذ تركوا ذلك الأمر لعلي ولعباس ونفرا من العائلة يقومونبتلك المهمة .
    والحقيقة أن الأنصار لم يختلفوا قط وقد كان بشير بن سعد الخزرجى والدالنعمان بن بشير يسابق عمر لمبايعة أبي بكر . وقبيل ذلك كان في السقيفة الرجلانالصالحان عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ولم تعجبهما هذه النزعةمن الأنصار فخرجا وهما يريان أن يقضي المهاجرين أمرهم غير ملتفتين إلي أحد ، لكنحكمة أبي بكر ونور الإيمان الذي ملأ قلبه كانا أبعد مدي وأحكم تدبيرا لهذه الملةفي أعظم نوازلها .(2)
    - ولكن قد يتبادر إلي الذهن تساؤل في غاية الأهمية لابد أن نركز عليه ونفصلالإجابة فيه بعض الشيء . هل استخلف الرسول أحدا من بعده أو أوصي لأحد بالحكم منبعده . الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن فكر كل مسلم أن الرسول w توفي ولم يوص لأحد من بعده بالخلافة ، وسير الأحداث تؤكد ذلك ولمترد رواية تذكر أن الرسول أوصي لعلي أو أبي بكر أو أحدا غيرهما فما السبب في ذلك ؟إن الرسول w كان يدرك أن الإسلام سيعم الجزيرة العربية ثم سينتشر منها إليبقاع الأرض وأراد أن يجعل الأمر من بعده شورى للمسلمين يختارون الأنسب لهم والأصلحفي كل زمان ومكان فلم يوص لأحد من بعده وكان يدرك أن أرض الجزيرة العربية هي أرضالدولة الناشئة التي بدأت في تجربة الحكم منذ أن أسس الرسول w مسجده بالمدينة المنورة وكان يدرك أيضا w أن أرض الإسلام ستمتد وستتسع وسوف يجري دستور تلك الدولة متجددابتجارب عديدة واحدة وراء الأخرى متخذا أشكالا قد تختلف ولكن لب الحكم وجوهره هوالمرجعية الإسلامية التي نص عليها القرآن والسنة فكان الرسول w وهو ما ينطق عن الهوى والذي يوحي إليه من أرضه كان في مقدوره أنيوص وأن وصيته لا ترد ولا تهمل - بل يعتد بها ومع ذلك فهو لم يوص حتي يبقي الأمرشوري بين المسلمين فكيف يقول الله تعالي : ( وشاورهم في الأمر وهو يعطل تلك القاعدة؟ ! ) .
    إذن الثابت تاريخيا عدماستخلاف الرسول w لأنه لم يوص لأحد . وإن كان الأمر كذلك وقد تولي أبو بكر الصديقرحمه الله خلافة المسلمين بعد موته w بدون وصية أوصاها صريحة ولكن علي ما يبدوا فقد وردت روايات تدلعلي أن الرسول w كان يفضل أبا بكر في قيادة أمور الدين مثل إسناد إمارة الحج إليهوالإنابة عنه w في صلاة الجماعة عندما يكون غائبا لسبب من الأسباب ولعل الربط بينهذا الاختيار الذي أختاره الرسول لأبي بكر وبين بيعة المسلمين له بالخلافة يكوندليلا يسترشد به المسلمين أن خلافة أبي بكر خلافة مباركة قد باركها الرسول من قبلأن يتولها ذلك الرجل ، وقد عبر عن ذلك علي بن أبي طالب وقال في حديث له :( قدارتضاه الرسول لديننا فلماذا لا نرتضيه لدنيانا ) .
    - وفـيصـحيح البخاري عن عائشة قالت : لما ثقل رسول اللّه (ص ) جاء بلال يؤذنهبالصلاة فقال : مروا ابا بكران يصلي بالناس . فقلت : يا رسول اللّه ان ابا بكر رجلاسيف , وانه متى يقم مقامك لايسمع الناس , فلو امرت عمر . قال : انكن انتن صواحبيوسف مروا ابا بكر ان يصلي بالناس ([11]).
    وفـيصـحـيـح الـبـخاري أيضا عن عائشة قالت : لما اشتد برسول اللّه (ص ) وجعه , قيل لهفي الصلاة ,فقال : (مروا ابا بكر فليصل بالناس ). قالت عائشة : ان ابا بكر رجل رقيق اذا قرا غلبه البكاء. قال : (مروه فيصلي) . فعاودته قال : (مروه فيصلي انكن صواحب يوسف ) (2) . وقـالـت: لـقد راجعت رسول اللّه (ص ) في ذلك , وما حملني على كثرة مراجعته , الا انه لميقع في قـلـبي ان يحب الناس بعده رجلا قام مقامه ابدا, وكنت ارى انه لن يقوم احدمقامه الا تشاءم الناس به , فاردت ان يعدل ذلك رسول اللّه (ص ) عن ابي بكر (3) .
    وأصررسول الله w أن يصلي أبو بكر بالناس . ويروي ان عمر بنالخطاب قد صلي بالناس وكان أبا بكر غائبا فكبر عمر ودخل في الصلاة ، فلما سمع رسولالله w صوته, وكان عمر رجلا مجهرا, قال : فاين ابو بكر يابى اللّه ذلك والمسلمون , يابى اللّهذلك والمسلمون فبعث الى ابي بكر, فجاء بعد ان صلى عمر (رض ) تلك الصلاة , فصلىبالناس (4) .
    وفي مسند احمد عن عائشة قالت : قالرسول اللّه (ص ) في مرضه الذي مات فيه : مروا ابا بكر فليصل بالناس ... فصلى ابوبكر, وصلى النبي (ص ) خلفه قاعدا (5) .
    وقـالابـن كثير (6) بعدايراد قسم كبير من تلكم الاحاديث في تاريخه و محاولته الجمع بين متناقضاته : ( والـمقصودان رسول اللّه (ص ) قدم ابا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي اكبراركان الاسلام العملية . وقال الشيخ ابوالحسن الاشعري : و تقديمه له امر معلوم بالضرورة من دين الاسلام . قال : و تقديمهله دليل على انه اعلم الصحابة واقرؤهم مما ثبت في الخبر المتفق على صحته بينالعلماء ان رسول اللّه (ص )قال : يؤم القوم اقرؤهم لكتاب اللّه , فان كانوا فيالقراءة سواء,فاعلمهم بالسنة , فان كانوا بالسنة سواء, فاكبرهم سنا, فان كانوا فيالسن سواء, فاقدمهم مسلما. قـلـت وهـذا مـن كـلام الاشـعـري ، يـنـبـغـي ان يكتب بماء الذهب , فلا غرابة أن اجتمعتكلها في كلمة الصديق (رض )) .
    - قـالعـلـي : لـمـا قبض رسول اللّه (ص ) نظرنا في امرنا, فوجدنا النبي (ص ) قد قدم ابابكر في الصلاة , فرضينا لدنيانا من رضي به رسول اللّه (ص ) لديننا فقدمنا ابا بكر ([12]) . وعن انسقال : قال علي : مرض رسول اللّه (ص ) فامر ابا بكر بالصلاة وهو يرى مكاني , فلماقبض اخـتـار المسلمون لدنياهم من رضيه رسول اللّه (ص ) لدينهم فولوا ابا بكر .وكان واللّه له اهلا, وماذا كان يؤخره عن مقام اقامه رسول اللّه (ص ) فيه . وليسمن الغريب بعد هذا ان يرووا ما يلي : عن زر بن حبيش عن عبد اللّه قال : لما قبضرسول اللّه (ص ) قالت الانصار: منا امير ومنكم امير. قال : فاتاهم عمر فقال : يا معشر الانصار ألستمتعلمون ان رسول اللّه امر ابا بكر ان يصلي بالناس ؟ قالوا : بلى . قال : فايكم تطيب نفسه ان يتقدم ابا بكر ؟ قالوا: نعوذ باللّه ان نتقدم ابا بكر (2) .
    فهذا مقام الصديق عند نبي الإسلام محمدw ولا غرو أن يكون كذلك ، و قد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِيصُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَرَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِوَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ.وفي رواية أخري إلا خوخة أبي بكر (3). قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين .
    وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن المطعمرضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه،قالت: أرأيت إن جئت، ولم أجدك. كأنها تقول ( الموت ) ، قال صلى الله عليهوسلم: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ . قال الشافعي: في هذا الحديث الدليل على أنالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه.
    -وفي هذاالحديث ينتقل الكلام عن خلافة أبي بكر من التلميح الذي استنبطتاه عن أفعال النبي wنحو أبي بكر إلي الاقتراب من التصريح بأمرة المسلمين أو خلافتهم ومما يقوي هذاالزعم ما أخرجه الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسولالله صلى الله عليه سلم أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته، فسألته، فقال: إِلَىأَبِي بَكْرٍ. وهذا الحديث يكاد يكون صريحًا، فإن الذي يأخذ الصدقات هوالخليفة أومن يقوم بأمرة المسلمين .
    وفي حديثأخر أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنهاقالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍوَأَخَاكَ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ،وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّاأَبَا بَكْرٍ. وهذا تصريح أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول ابن تيميةرحمه الله في منهاج السنة: هذا نص جلي في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه. لكنه لم يكتب كتابًا، لماذا؟! يوضح ذلك ما جـاء في مسند الإمامأحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضهالذي فيه مات: ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَكْتُبُ لِأَبِيبَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدِي. ثم قال: مَعَاذَ اللَّهِأَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ.
    وهذاالحديث يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بوضوح فهو أيضًا من دلائل نبوةرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المسلمون فعلًا لم يختلفوا في خلافة أبي بكرالصديق رضي الله عنه عندما طرح اسمه للخلافة، بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانتبإجماع لم يحدث في مكان على الأرض لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، فلم تثبت حالات اعتراضعلى خلافة الصديق رضي الله عنه.
    وأخرجمسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت:من كان رسول الله صلى الله عليه وسلممستخلفًا لو استخلف؟. وفي هذا تصريح إنهلم يستخلف أحد صراحة لا أبا بكر ولا غيره، قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَنبعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. وأبو عبيدة بن الجراح مات سنة 18 هجرية فيولاية عمر بن الخطاب، ولذلك لم يكن مرشحًا للخلافة عند استشهاد الفاروق رضي اللهعنه سنة 23 هجرية.
    - وفي فضلأبي بكر وعمر علي الإسلام والمسلمين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللهعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌرَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَاللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قِحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ، ثُمَّ أَخَذَهَاابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرَبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَالنَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُبِعَطَنٍ. أي سقوا إبلهم، ثم آووها إلىعطنها، وهو الموقع التي تستريح فيه الإبل. فهذا مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمررضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما، وظهور أثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكلذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي صلىالله عليه وسلم هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره،وأوضح أصوله، وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأنزل الله تعالى: [اليَوْمَأَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُالإِسْلَامَ دِينًا] ([13]) . ثمتوفى صلى الله عليه وسلم، فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهرًا وهو المرادبقوله صلى الله عليه وسلم ذَنُوبًا أَوْذَنُوبَيْنِ.
    وحدث في خلافته قتال أهل الردة وقطعدابرهم واتساع الإسلام، ثم توفى، فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه،وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله.
    فعبر صلى الله عليه وسلم بالقليب عنأمر المسلمين، لما فيه من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقىلهم، وسقيه هم قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، وهذا فيه من دلائل نبوته صلى اللهعليه وسلم، إذ لم يمكث أبو بكر رضي الله عنه إلا سنتين، وأشهر قليلة، ومكث عمرفترة طويلة، ولذلك: نَزَعَ نَزْعًا لَمْ يَنْزِعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.
    وقد روي الترمذي وحسنه كذلك الإمامأحمد، وصححه الألباني ،عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى اللهعليه وسلم، فقال: إِنِّي لَا أَدْرِي مَاقَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي- وأشار إلى أبيبكر وعمر- وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍفَصَدِّقُوهُ . ولكن ماذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال فيما رواه الحاكموصححه: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عندالله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ، وقد رأى الصحابة جمعيًا أنيستخلفوا أبا بكر. أي أن استنباط ابنمسعود أن هذا ليس فقط حسن عند المسلمين، بل حسن كذلك عند الله عز وجل.
    وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه اللهأنه قال: أجمع الناس على خلافة أبي بكرالصديق رضي الله عنه، وذلك أنه اضطر الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-إلى أن يجعلوا عليهم قائدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلم يجدوا تحت أديمالسماء خيرًا من أبي بكر، فولوه رقابهم.
    ويقولمعاوية بن قرة رحمه الله- وهو من التابعين-: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسولالله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صلى الله عليهوسلم، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال.
    ويقول أبو بكر بن عياش رحمه الله في تفسيره الآيةالكريمة: [لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْوَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَوَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] ([14]) . قال أبو بكر بنعياش رحمه الله: من سماه الله صادقًا ليس يكذب، والمهاجرون قالوا: يا خليفة رسولالله صلى الله عليه وسلم، فهو خليفة حقًا لا يكذبوا.علق ابن كثير رحمه الله علىهذا الاستنباط فقال: استنباط حسن.
    وقال الإمام الرازي رحمه الله فيتفسيره للفاتحة أن قوله عز وجل: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَالَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَاالضَّالِّينَ] (2) . فيهإشارة إلى اتباع الصديق رضي الله عنه، ومن ثَم استخلافه، قال: إن الله يأمرنا أن نطلب الهداية إلى طريق الذينأنعم عليهم الله، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ فسرها ربنا في سورة النساء يقول: [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَمَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] .(3)
    هؤلاء همالذين أنعم الله عليهم ، والذين أمرنا الله بطلب الهداية إلى طريقهم ، ولم يعدهناك أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم أن نكون مع الصديقين. ويقولالرازي: إنه لا شك أن الصديق رضي الله عنه هو رأس الصديقين ورئيسهم، ومن ثَم فإنناأمرنا أن نتبعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4) .

    لماذا لم يوص الرسول لأحد بعينه؟ إن الحكمة من عدم تعيين خليفة بأسمه هيالشورى فكيف ذلك ؟ من الحكمة أن نتدبر لماذا لم يصرح بأسمالخليفة الذي يتولي الخلافة بعد موت النبي w.
    لا شك أنهناك حكمة إلهية من وراء كتمان أسم الخليفة لا يعلمه إلا الله عز وجل ولكن حينمانتأمل الروايات التي وردت عن النبي w في مرضه في هذا الصدد وبعض تفسيرات من آياتالقرآن الكريم قد تتضح بعض الأبعاد التي لا تخلو من حكمة نشير إليها علي النحوالتالي :
    1- أن يترك الأمر شوري للمسلمين يدبرونفيه أمرهم في غياب النبي w ، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيهارسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لايتلقون وحيًا، وليس لهم عصمة، ماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليهوسلم الخليفة آنذاك بوضوح؟ لكانت النتيجة إنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدثفي سقيفة بني ساعدة، وهو آيه من آيات الحوار الحر وما فائدة هذا الحوار وما أهدافهومبرراته بعد ذلك ؟ لقد تعلم المسلمون فيهذا الوقت وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟ وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه القضايا؟ وكيفيمكن قبول وجهات النظر المختلفة ؟ وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟ وما هي حدود الشرع التي ينبغي أن تراعي ؟ ماالذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟ وما هي صفاتالخليفة المنتخب؟وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره ؟
    2- وعلي سبيل الفرض أن رسول الله wفرض أبا بكر علي المسلمين فرضا بالتصريح، لكان لزامًا عليهم أن يقبلوا به حتى وإنلم ترضى نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟ في زمان الرسول صلى الله عليه وسلمكان القوم يخضعون عند الاختلاف إليه، وذلك لمكانته صلى الله عليه وسلم العظيمة فيقلب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم أنه معصوم صلىالله عليه وسلم، أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جدًاأن يحدث اختلاف في الرأي لا يَرُد بوحي لا عصمة، وهنا سيقول الناس هو رجل- أيالخليفة- ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل على المسلمين دون اختيارهم سيسببضعفًا في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخابًا حقيقيًا من شعبهوأتباعه فإنه يعطي قوة لا مثيل لها، فالجميع يرضى له والجميع يستمع لرأيه، بلالجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراءوالتباس الأمور، بل قد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أوتوا به حقيقةإلى هذا المكان .
    إذن فالانتخاب الحقيقي الذي قام بهالمسلمون لأبي بكر أعطى له قوة حقيقية، وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطىله شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ، أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث، ومهما تغيرتالظرف، وقد شاهدنا هذا بأعيننا بعد ذلك في حياة الصديق رضي الله عنه كخليفة، فكممن الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كانت من الممكن أن لا تلقي هوى في قلوبالناس، أو اقتناعًا في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم، وعلى بصيرة، وثقة فيإمكانياته، وإيمانًا بقدراته، فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة، أو ضجر،أوتقصير في الاتباع بعد حوار غير طويل .
    3- الرسول wأراد بعدم فرض اسم معين للخلافة أن يرسيقاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحًا من ورائه، لكانت سنة قدتطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفةمهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خيرالقرون وإنه سيأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فإن جعل الأمر في يدرجل واحد يستخلف رجلًا آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل عدم الدراية في الاختيار،ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم يريد بعدم استخلافه على العكسمن ذلك ، قد أرسى سنة أن يجتمع المسلمون ويختارون من بينهم من يصلح لهذا الأمر .
    وقد يقولقائل إن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف عمر بن الخطاب دون انتخاب، فالرد على ذلكأنه لن يوجد في أجيال المسلمين من هو في قدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن أبابكر الصديق رضي الله عنه قد استشار كبار الصحابة في هذا الأمر، ولم يكن هناك منبعد أبي بكر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنه كانت رغبة واضحة من رسولالله صلى الله عليه وسلم في أن يكون عمر بعد أبي بكر في الخلافة فما أكثر الأحاديثالتي رتبت الخليفتين العظمين بهذا الترتيب، وليس المجال هنا لذكرها، ثم- وهذا هوالأهم- لم تصح خلافة عمر، إلا بعد أن بايعه الناس بعد وفاة الصديق رضي الله عنهما،ولو لم يبايعه الناس لوجب اختيار خليفة آخـر يرضى عنه الناس.ثم مرت الأيام، وقربتمنية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرر أن يجعل الأمر بالانتخاب بين المسلمين، وماأراد أن يستخلف مع علم الجميع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضل الصحابة، بعدالعملاقين الكبيرين أبي بكر وعمر، ومع ورود أحاديث كثيرة ترتب عثمان بعد أبي بكروعمر مباشرة، ومع كون عثمان يزن أمة المسلمين إذا خلا منها رسول الله صلى اللهعليه وسلم وأبو بكر وعمر، مع كل هذا إلا إن عمر بن الخطاب أراد أن يرسي قاعدةالانتخاب، وكان يعلم أن الأمر سيئول إلى عثمان بن عفان لعظم قدره بين الصحابة . وبالفعلهذا ما حدث ، كما سنوضح بعد .
    إذن هذهأمور ثلاثة ذكرناها لعلها تشير إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدمالتصريح بخلافة أبي بكر الصديق، وترك ذلك للمسلمين والاكتفاء بالإشارة، هذه الأموربإيجاز هي:
    * إعطاء الفرصة للمسلمين؛ كي يديرواحياتهم بمفردهم دون وحي، واستغلال وجود أفضل جيل على الأرض؛ ليقوم بهذه المهمةلإعطاء القدوة لمن بعدهم.
    * إعطاء القوة والشرعية للخليفةالمنتخب من قبل شعب المسلمين، بدلًا من فرضه على الناس دون انتخاب حقيقي.
    * إرساء قاعدة الانتخاب، وتجنب قاعدةالاستخلاف قدر المستطاع، حيث إن الهوى قد يتحكم بها، وبالذات عند اختفاء الأفذاذمن الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان.
    - وربمايتساءل القارئ الكريم في هذا الموضع طالما أن الرسول wقد جعل الأمر شورى ولم يستخلف أحدا من بعده فلماذا حصر الأئمة في قريش كما أخبربذلك الصديق عندما قال عن الرسول e ( الأئمة في قريش ) ؟ أليس هذا ضد الشورى .
    أعتقد أنقول النبي w هذا لا يتعارض مع قاعدة الشورى فحينما يقول wالأئمة في قريش فإنه يقصد بذلك أن يضيق إلي حدا كبير قاعدة الانتخاب وقد علم wانه لو كان الأمر في قريش فهو لابد أن سيئول إلي أبي بكر الصديق رضي الله عنهبمكانته كما أراد التأكيد علي استثناء الأنصار لأنه قد يخطر ببالهم ، وقد ظهر فيجدالهم كما ذكرنا من قبل أنهم أصحاب البلد والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة،فيجب أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم، ولكن بأسلوب حكيم لايجرح شعورهم، ولا يقلل قيمتهم، فقام بحكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كانواخلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على وليالأمر أن يستوصي بالأنصار خيرًا، وأكثر من مثل هذه الأحاديث وخاصة عندما قربتمنيته صلى الله عليه وسلم، وكان في مرض الموت حتى يؤكد على هذه الحقيقة.
    ومثالذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس رضيالله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار رضي الله عنهم وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا. وكان هذا في مرض الرسول صلى الله عليه وسلمالأخير، فهم يبكون لإحساسهم أنهم سيفارقون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخل على رضي الله عنه علي النبي صلى الله عليهوسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلىالله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلكاليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْكَرِشِي وَعَيْبَتِي. يقصد أن الأنصاربطانتي وموضع سري. وَقَدْ قَضَوُا الَّذِيعَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْوَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ.
    والأنصارقضوا ما عليهم: وهو ما كان في بيعة العقبة الثانية، كما يقول ابن حجر العسقلاني فيفتح الباري، وهو إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصرته. وبقي الذي لهم: وهو الجنة، فما هي إلا أيامقليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعلى من يتولىأمور المسلمين أن يقبل محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
    أيضًا فينفس هذا المعنى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذيمات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء ([15]) ، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنىعليه، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَاالنَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُواكَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ. وانظر إلىروعة التشبيه، فهم سيقلون جدًا ليصبحوا كنسبة الملح في الطعام ومع ذلك، فإن الملحشيء لا غنى عنه في الطعام. ثم يكمل صلى الله عليه وسلم فيقول: فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِقَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ،وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وهذهإشارة واضحة بأن الذي سيلي أمور المسلمين ليس من الأنصار. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد أشار في أحاديث عديدة، كما ذكرنا لرغبته فياستخلاف الصديق رضي الله عنه، وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريقالانتخاب أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
    - قديتبادر إلي الذهن أيضا سؤال آخر ملح لابد من الإجابة عنه : هل كانت كل هذهالإشارات، والمواقف، والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حقالصديق رضي الله عنه في الخلافة؟ أم إن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقامالأول أن يكون الصديق هو الخليفة ؟
    الحقيقةأن الرسول w قصد الأمرين معًا : أمر أستخلاف الصديق أبوبكر علي وجه الخصوص ، وأمر أستخلاف أي مسلم من بعده بصفة خليفة لعموم المسلمين منبعده ويتضح الأمر علي النحو التالي : الأمرالأول: هذا حق الصديق رضي الله عنه لفضله، ومكانته، وقدراته، وكفاءاته، ولا يجب أنيولي غيره في وجوده. والأمر الثاني الهامجدًا: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه دون غيره.
    وهكذا تمالأمر لاستخلاف المسلمين لأبي بكر استجابة لتلميح الرسول wإلي ذلك أو بالتصريح كما ورد في بعض الأحاديث فهل كان في خلافة أبي بكر نفع ورحمةللأمة و مصلحة كبرى لها ولمن أتي بعدها ؟ نعم كان في اختياره رضي الله عنه رحمهوفائدة كبرى يمكن توضيحها علي النحو التالي :
    1- كان اختيار الصديق رضي الله عنه خليفة للأمة فيهمصلحة كبيرة ، وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة، وكارثة مروعة، وهي مصيبة وفاةالرسول صلى الله عليه وسلم، وكارثة انقطاع الوحي، وتحتاج في هذه المصيبة إلىالرحمة، لا الشدة، وإلى الرفق، لا العنف، ومَن أرحم بالأمة بعد رسول الله صلى اللهعليه وسلم مِن الصديق رضي الله عنه؟ لانقول نحن ذلك، بل قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمدوالترمذي، وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ. فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولىأمورها أرحمها، وهو الصديق رضي الله عنه .
    2- تحتاج الأمة آنذاك أن تسير في نظامهو أشبه ما يكون بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتغيير في نسق الحياة،والإدارة، والمعاملة، قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمحبآراء متعددة في قضية معينة، فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسببالاضطراب عند الناس، والتخبط، وعدم توقع خطوات المستقبل.
    والصديق رضي الله عنه لطول صحبته لرسولاله صلى الله عليه وسلم، ولقدم العشرة حتى قبل نزول الرسالة على الرسول صلى اللهعليه وسلم، ومرورًا بفترة مكة، والهجرة، وكل المشاهد، والغزوات في المدينة، كانيعرف كل دقائق حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته،وخاصة وأن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في كثرة اللقاءات بينهما، حتىأنه كثيرًا ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العِشاء يتبادلان الرأيوالمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلعالصديق رضي الله عنه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره، ولذلك فقد كان يعلم ما لايعلمه كثير من الصحابة الأجلاء.فوق هذا الاطلاع على حياة الرسول صلى الله عليهوسلم، فإن الصديق تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم،واقتفاء آثاره قدر الوسع، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل قبل ذلك. إذن هو امتلك الرغبة، والعلم الذي يؤيد هذهالرغبة، ومن ثَم كانت حياته رضي الله عنه امتدادًا طبيعيًا جدًا لحياة الرسول صلىالله عليه وسلم، وما شعر المسلمون بتغير ملموس في أساليب الإدارة، والمعاملة،والاختيار بين الآراء، وما أحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حيًا لفعل أوما رأى غير ما فعل أو رأى الصديق رضي الله عنه، كيف لا وهو الذي قال صلى الله عليهسلم: اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وقال: عَلَيْكُمْبِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي.
    فهو صلى الله عليهوسلم كما أطلعه الوحي يعلم أن الخلفاء الراشدين لن يغيروا بعده، وسيختارون منالرأي والفعل ما يرضي الله ورسوله.
    3- كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضًا أن يتولىأمورها أشد الناس ثباتًا، وأرسخهم قدمًا، فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالًاعظامًا، وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيرًا من التجمعات، والأفراد سيطمعون فيالأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن يقود السفينة في الأمواجالمتلاطمة؟ ومن أشد الصحابة ثباتًاوعزيمة؟ ومن أكثرهم يقينًا في وعد الله بالنصر؟ ومن أعظم الصحابة غيرةً على الدين؟ إنه بلا شك الصديق ولا شك في ذلك، ظهر ثباته منأول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتًا في كل المواقف،والمشاهد، والأهوال، ظل ثابتًا في الردة، ظل ثابتًا أمام فارس، وظل ثابتًا أمامالروم، ما لانت له قناة وما اهتز له جفن.
    يروي لنا البيهقي بسند صحيح كما ذكرابن كثير رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلفما عُبِد الله. ثم قال ثانية، ثم قال ثالثة، أي كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيلله: مه يا أبا هريرة- أي كفاك ما قلت- إنه لقول عجيب.
    فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثًايبرهن بها على صدق مقولته، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجّه أسامة بنزيد رضي الله عنهما في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب ([16]) قُبضرسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسولالله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء- يقصدون جيش أسامة- تُوَجههؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال الصديق رضي الله عنه:والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواجرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيش وَجّهه رسول الله، ولا حللت لواءًاعقده رسول الله. فوجه أسامة فجعل لا يمربقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج هؤلاء من عندهم، ولكنندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين فثبتوا علىالإسلام.
    إذن ثبات الصديق رضي الله عنهكان رحمة من الله بالأمة، فاستمرت دعوة الإسلام وتوطدت أركان الدولة، واحتفظتالأمة الإسلامية بمكانتها وهيبتها.
    لكل ما سبق نستطيع أن القول بأناختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة للمسلمين كان اختيارًا عادلا موفقًاصحيحًا، بل رحيمًا بالأمة وحدوبا علي أفرادها .
    ومع تلك السهولة التي تمت بها بيعة أبي بكر وأنقذ الله بها الإسلاموالمسلمين نجد كثيرا من الروايات المتضاربة في أمر تلك البيعة ومما يستوجب عليناان نطرح بعضها كيما يدركها القارئ الكريم حتي يقف علي ما يكنه الأعداء للإسلاموالمسلمين ولصحابة رسول الله علي وجه الخصوص .

    * 002A * *
    (4)
    محاولة تشويه قدر الصحابة (رضوانالله عليهم ) .
    تزعم كثير من الروايات التيوصفت يوم السقيفة أنه كان يوما غير طبيعي إذ ارتفعت الأصوات في النقاش ثم ظهرتالحدة في الجدل والغضب من بعض الصحابة بل لدعي بعضهم أن هناك من حقد والتجأ إليالسيف والقوة كل هذه الإشارات غير صحيحةكما وضحنا سابقا فالأمر لم يكن يستلزم تلك الحدة فالمهاجرون والأنصار هم أخوة آخىبينهم الرسول w وامتدحهم في تضامنهم وتكافلهم في نصرة الدعوة ويقول تعالي (والذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهمسيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من الله والله عنده حسنالثواب ) ويقول تعالي : (.{وَالَّذِينَآمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْوَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌكَرِيمٌ}([17]) . ويقول في موضع آخر ({ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّوَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِمِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْإِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(2) .
    وهكذا يحاول الأعداء إظهار صحابة رسولالله w في صورة مزرية إذ يصورهممتكالبين علي الدنيا وعلي حطامها وعلي الحكم والمنصب غلي غير ذلك من متاع الدنياوإذا ما سهل علي هؤلاء الحاقدين الطعن والتجريح لأصحابة الأبرار فإنهم ينقلونالصورة إلي الأبناء والأحفاد من بعد هكذا كان أجدادكم وبناة أمجادكم حارصين طامعينفي الحياة الدنيا فاستمع ذلك الحوار الذي يرويه لنا ابن الأثير :
    1- قيل : لما اجتمع الناس علي بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : إنيلأري عجاجة لا يطفئها إلا دم ، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ؟ أينالمستضعفان ؟ أين الأذلان علي والعباس ؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ثمقال لعلي : ابسط يدك أبايعك ، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا . فأبي عليعليه السلام ،عليه فتمثل بشعر المتلمس :
    ولن يقيم علي خسف يراد به إلاالأذلان عير الحي والوتد
    هذا علي الخسف معكوس برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد ([18])
    2- كما ان بعض الحانقين عليالإسلام صوروا الأنصار في مظهر الحريصين علي الأمر والطامعين في الإمارة والحكموقد سقنا من الأحاديث التي تثبت أن ذلك الأمر إنما هو في قريش فقط وأن الأنصاربمثابة الوزراء وقد رضوا بذلك وتصافوا وسمت أرواحهم وقد قال أبو بكر في خطبته التيألقاها يوم سقيفة (( لقد علمت أن رسول الله w قال : لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار واديا ، سلكت وادي الأنصار. ولقد علمت يا سعد أن رسول الله w قال وأنت قاعد : (( قريش ولاةهذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ... فقال سعد : صدقت ،فنحن الوزراء وأنتم الأمراء ))( 2) .
    ولم يتصور أحد من الصحابة أنيكون أبو بكر حريصا علي الأمارة ويحكي السيوطي أن أبو بكر خطب الناس فقال ( واللهما كنت حريصا علي الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها اللهفي سر ولا علانية ولكني أشفقت من الفتنة ) (3) .
    وهكذا كانت تلك الروح هيالروح السائدة في نفوس الصحابة وينظرون للإمارة نظرة خوف وحذر لأنها مسئولية كبرييعاقب عليها من يقصر في شأنها وما كان اجتماع المسلمين يوم السقيفة لا طمعا في حكممن قبل المهاجرين أو الأنصار وإنما اجتماع للبحث عن الصالح العام للمسلمين ولمنيصلح لهذا الأمر منهم ولم يتقدم أحد طامعا فيها ولا مشتهيا لها فالرسول يقول فيحديث لأحد أصحابه عن(عبد الرحمن بن سمرة) قال النبي e.(( يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلتإليها ، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ))(4) .
    ومن هنا فإن إجماع المسلمين علي شخص واحد كان أمرا سهلا طالما اتفقت الآراءوأخلصت النيات .
    3- يقول البعض أن علي بن أبي طالب استخفي في بيته معفاطمة الزهراء زوجته لأن فاطمة وجدت علي أبي بكر لما أصر علي أن يعمل بحديث النبي w ( نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فمنعها أبو بكرميراث أبيها في فدك وسهمها من خيبر وهل في ذلك غرابة أن يعمل الصديق بحديث النبي w وإذا كان قد منع فاطمة الزهراء ميراثها فيكون قد منع أيضا أبنتهعائشة من هذا الإرث فهل كان أبو بكر محقا في ذلك أم كان علي خطأ ، فعاشت فاطمة بعدموت النبي w ستة أشهر معتزلة في بيتها معهاعلي بن أبي طالب ، فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها وأخذ يترضاها فرضيت ([19]).
    وتروي بعض الكتب أن فاطمة عليها السلام وجدت علي أبي بكر حينما رفض أن يقسمما تركه رسول الله w وذكرت بعض الروايات أن فاطمة غضبتولم تزل مهاجرة له حتى توفيت بعد ستة شهور من موت النبي w .
    وهناك رأي آخر يري أن السيدةفاطمة ما وجدت علي أبي بكر ولكنها وجدت علي نفسها وحزنت لحالها وهذا الرأي يستندعلي التفسير اللغوي لكلمة وجد فمن معانيها الغضب والحزن والاستغناء كما يذكر صاحبتاج العروس فغضبت فاطمة علي نفسها حيث ذهبت إلي الخليفة تطلب منه شيء من متاعالدنيا الزائل وهي تدرك معني الحديث الذي أشار إليه الصديق إدراكا جيدا ولقد كانالصديق معها حليما صادقا لم يخدش شيء من حيائها ويقول الدكتور إبراهيم شعوط أن لفظالهجر الذي ورد مصاحبا للفظ الوجد أحدث لبسا في المعني فظن بعض المؤرخين انالهجران كان لشخص الصديق رضي الله عنه (2) .
    ومما لاشك فيه أن ذلك الهجر الذي ورد في رواية خطأ أو الوجد كما فسرناسابقا فإن سببه هو طلب الميراث ويكون المعني الصحيح أنها تركت أو هجرت مطالبتهاالميراث او الكلام فيه حتى لحقت بالرفيق الأعلى ويتمم المعني هنا الترمذي وقد نقلعن بعض مشايخه : أن معني قول فاطنة لأبي بكر وعمر ( لا أكلمكما) أي في هذا الميراث.
    فهل يعقل أن تقع الزهراء في هذه الأخطاء التي أذاعها المشككون من غضب عليأبي بكر أو هجر له أو طلب ميراث محرم شرعا ، الحقيقة أنها بنت رسول الله وقدالتزمت بشرع الإسلام الذي جاء به أبوها w ، وإذا كان هناك من أموار أو نواهي أقر بها الشرع فإن آل البيت همأولي بذلك في الإتباع والتنفيذ .
    وإذا كانت السيدة فاطمة قد وجدت لموت أبيها وحزنت حزنا لا يعادله حزن أتغضببعد ذلك الميراث الزائل . كما أود أنأقول أن السيدة فاطمة والخليفة أبي بكر لا يملكان من الوقت ما يضيعانه في مثل تلكالمهاترات التي لا تفيد فكيف تهجره وهل هو بزوج لها لكي تهجره ، إن أبو بكر مما لاشك فيه كان مهموما بشأن الأمة مهموما بأمر المرتدين ، مهموما بتثبيت الإسلام في قلوبالأعراب إنها رضي الله عنها لزمت بيتها وقد أعد بعض الرواة ذلك هجرا وهذا أقصي مايمكن أن يقال في غضب السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها .
    يقول البخاري كما نقله بن كثير : أما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها عليأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه . فإن كان لمنعه إياها ما سألته منالميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله وهو ما رواه عن أبيها رسول الله w أنه قال ( لا نورث ما تركنا صدقة ) وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذيخفي عليها قبل سؤالها الميراث كما خفي علي أزواج النبي w حتي أخبرتهن عائشة بذلك ، ووافقتها عليه ، وليس يظن بفاطمة رضيالله عنها أنها علمت انها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به ، حاشاها منذذلك ،كيف وقد وافقه علي رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعليبن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ،وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة . ([20])
    كما جاء في بن كثير عن البيهقي بإسناد جيد قوي عن الشعبي . قال : لما مرضتفاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها ، فقال علي يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذنعليك ؟ فقالت أتحب أن آذن له ؟ قال نعم ! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال :والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ، ومرضاة رسوله. ومرضاتكم أهل البيت ، ثم ترضاها حتى رضيت . وهذا إسناد جيد قوي . والظاهر أنعامر الشعبي سمعه من علي ، أو ممن سمعه من علي ، وقد اعترف علماء أهل البيت بصحةما حكم به أبو بكر في ذلك .(2)
    إن القارئ الكريم والمتأمل للحديث السابق يستشف خصال بنت النبي w التي ورثتها من بيت النبوة ويستشف أيضا حسن معاملة علي لأزواجهولضيوفه والسيد فاطمة حينما جاء علي يستأذنها أن يدخل أبو بكر فإنها لم تسمح إلابعد أن أخذت رأي زوجها علي بن أبي طالب كما ينبغي لها ألا تخرج إلا بأذنه فلاينبغي لامرأة أن تأذن لرجل أن يدخل بيتها إلا بأذن من زوجها .
    وقوله فترضاها حتى رضيت يدل علي سرعة المحاولة التي قام بها الصديق لإرضاءفاطمة فلم يمكث طويلا كما أن الهجران المراد منه هو انقباضها عن لقاء وليس منالهجران المحرم الذي يعرض فيه كلا المتخاصمين فيعرض هذا ويعرض ذاك وإن كنا نشك فيذلك لأن الترضي لا يشترط أن يسبقه غضب فقد يرضي الأب أبنه لأنه تفوق مثلا كما أنهذا الحديث يلغي تماما ما قيل عن الجفوة التي كانت بين علي والصديق فعلي يبش فيوجه الصديق ثم يسرع لإخبار السيدة فاطمة وكأنه يبشرها بمجيئه
    وقال البخاري من حديث عروة عن عائشة فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولمايأذن لها أبا بكر وصلي عليها وكان لعلي من الناس وجه في حياة فاطمة فلما توفيتأستنكر علي وجهوه الناس فألتمس مصالحي أبي بكر ومبايعته ([21])مع العلم أن بيعة علي هذه هي البيعة الثانية لأبي بكر بعد بيعته الأولي فيسقيفة بني ساعدة .
    ويهمنا هنا أن نبرأ ساحة السيدة فاطمة الزهراء من هذا الجدل السخيف ومن تلكالآراء الكاذبة فهل يعقل أن يكون فاطمة الزهراء بنت النبي محمد والتي تربت في أحضانالنبوة لا تعرف شيئا عن ميراث الأنبياء ؟ بالقطع أنها تعرف وتعرف أن الأنبياء لايورثوا ولكن أراد الغمازون إلا أن يشينوا إلي فاطمة الزهراء رمز آل البيت .
    أما علي بن أبي طالب وقد قلنا انه بايع مرتين وأنه لم ينقطع عن الصلواتمطلقا خلف الصديق بل خرج معه إلي ذي القصة لمقاتلة أهل الردة ، وعلي ما يبدوا فإنالمراد بالاستخفاء الذي ورد في الرواية هو انه كان هو والزبير والعباس مشغولونبتجهيز النبي ولم يحضروا مناقشة يوم السقيفة وإذا كانت الروايات قد تباينت واختلفتفي ذكر موقف علي بن أبي طالب من خلافة أبي بكر ولعبت الدسائس دورها ونسجتالافتراءات والأكاذيب حولها فما كان القصدمنها إلا زعزعة الثقة للصحابة وخاصة البيت النبوي أشرف خلق الله وإظهاره بمظهر جشعوبمظهر التهالك علي المناصب والأموال بل لا نكون مبالغين إذا قلنا أن عليا قد سارعفي البيعة إلي أبي بكر وقد كان في بيته فأتي إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعةفخرج مسرعا في قميص ما عليه إزار ولا رداء متعجلا كراهية أن يتواني عن مبايعتهللصديق فبايعه ثم جلس إليه وبعث فأحضر ثوبه يتجلله ولذم مجلسه .([22])
    وهل من المعقول أن يحمل علي بن أبي طالب السيدة فاطمة علي دابة ليلا ليطوفبها علي مجالس الأنصار تسألهم النصرة فيردون عليها : يا بنت رسول الله قد مضتبيعتنا لهذا الرجل ، ولأن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به .
    ثم يجيبهم علي بن أبي طالب وقد أشتد غضبا من كلامهم فيقول أفكنت أدع رسولالله w في بيته ولم أدفنه وأخرج أنازعالناس في سلطانه ؟. ثم تقول فاطمة ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له وقد صنعوا ما اللهحسيبهم عليه وطالبهم به (2)
    فهل يليق بعلي بن أبي طالب ابن عم الرسول وبابنته فاطمة بأن يفعلا ذلك؟ لا شك أن عليا كان يتمتع بصفات المؤمنالتقي الذي يمنعه حيائه أن يسعي وراء حطام الدنيا كما يمنعه حيائه أن يركن إليامرأة ويستعين بها في رد حق يراه حقا له ؟
    ويري الحسن البصري عن قيس بن عبادة قال ( قال لي علي بن أبي طالب ، أن رسولالله w ، مرض أياما وليالي ، ويناديللصلاة . فيقول الرسول : مروا أبا بكر فليصل بالناس . فلما قبض رسول الله w ، نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام وقوام الدين ، فرضينا لدنيانا منرضي رسول الله w لديننا . فبايعنا أبا بكر ). (3)
    وهكذا لو تصفحنا روايات التاريخ لوجدنا من الأدلة ما نثبت بها كذب تلكالروايات السالف ذكرها ويتبين هنا وجه الحق في قضية ترتبط بصحابيين جليلين هما أبوبكر وعلي بن أبي طالب وأستطيع أن أجزم بأن علي لم يتخلف عن بيعة أبي بكرمطلقا .



    * * * *

    1- السلسلة الصحيحة – للألباني رقم 1106.

    2- تفسيرالقرطبي ج2 صـ176 .
    3 - بن هشام ج4 ص323 .




    1 - الطبري – تاريخ الرسلوالملوك جـ 3 صـ 148 .

    1 - أنظر الطبري المصدر السابق189 وكذلك سيرة بن هشام جـ 2 صـ 368 .
    2- تاريخ الطبري ج3 صـ 192.

    1 - تاريخ الطبري ج3 صـ 194 .
    2- البخاري كتاب المغازيرقم 4437 .
    3- المصدر السابق .


    1 - تاريخ الطبري ج3 صـ 200 ، وأنظر البداية ولنهاية ج4صـ223 .


    1 - القواصم من العواصم ص38 .

    1 - سورة آل عمران ، آية 144 .
    2- أنظر البداية والنهاية ابن كثير ج5ص273 .


    1 - أنظر كتاب الأحكام من صحيح البخاريك93 ب2/ج8 صـ104 ،105 .
    2- أنظر العواصم من القواصمص61 الهامش .
    3- أنظر صحيح البخاري كتابمناقب الأنصار (ك63 ب11 ) .

    1 - سورة التوبة الآية 119 .
    2- العواصم من القواصم ص58 ، 59 .

    1 - صحيح البخاري كتاب الصلاة باب الرجل يأتمبالإمام ويأتم الناس بالمأموم 1/ 92 .
    2- لمصدر السابق1/88 .
    3- وردت هذه الزيادة في رواية ثانية عند البخاري 3/ 63 .
    4- سنن أبو داوود 2/215 كتاب السنة وأنظر أيضامسند أحمد ص8 في 322 ، 4 / 330 .
    5- مسند أحمد 6 / 159.
    6- البداية والنهاية ج5 ص236 .

    1 - أنساب الأشراف 1/560 .
    2- طبقات ابن سعد 2/224 , وط .اوربا 2/2/23 ،والبلازري في انساب الأشراف 1/ 560 .
    3-الطبري ج3 صـ191 .


    1 - {المائدة:3}.

    1 - {الحشر:8}.
    2- {الفاتحة:6،7} .
    3- {النساء:69}
    4- http://www.ممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.phpممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.php/article.php?id=368

    1- أي شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم أيالدهن .


    1- مكان قريب إلى المدينة .


    1- سورة الأنفال الآية 74 .
    2- سورة التوبة الآية 117

    1- ابن الأثير ج2 صـ325 .
    2- الطبري ج3 صـ203 وتاريخالخلفاء ص70 .
    3- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص69 .
    4- رواه البخاري .


    1-أنظر البداية والنهاية ج6ص333 .
    2- أنظر أباطيل يجب أن تمحيمن التاريخ ص126 .



    1 - البداية والنهاية ج5 ص250 .
    2- المرجع السابق ص252 ، 253 .



    1 - القواصم من العواصم لأبي بكرالعربي ص54 ، 55 .

    1- ( أنظر الطبري ج2 ص447 .
    2- أنظر هذا الحوار في كتاب أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ119 ، 120 .
    3- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ ص122 .





  4. #4
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    ( النازلة الثانية )
    إنفاذ جيش أسامة بن زيد .
    (1)
    مشاورة الصحابة حول إنفاذ الجيش

    لقد واجه الصديق إبان خلافتهالعديد من النوازل وكان عمر بجانبه يؤازره ويقف بجانبه ، وقد كان في وسع كلا منهما إصرارا وشجاعة للتصديلهذه النوازل ثم التغلب عليها . والعجيب ونحنفي هذا العهد المبكر أن كلا من أبي بكر وعمر كان له منهجه وطريقته الخاصة فيمواجهة الشدائد والتغلب عليها فقد كان منهج أبي بكر الاقتداء بالنبي محمد e فينظر كيف قابل الرسول الصعاب فيواجهها بنفس المنطق ولعل هذاالمنهج إذا دل علي شيء فإنما يدل علي حب أبي بكر الشديد للرسول e وعلي حصافته وذكائه من جهة ومن جهة أخرى فقد كان يعلم ان الناس حديثعهد للإسلام وأن سيرة النبي e ، لا زالت ماثلة أمام أعينهمناشبة في قلوبهم فكيف يغير ويبتدع ؟! فإنه رضي الله عنه قد وجد أنه ليألف الناسحوله ويزيد من حميتهم وحماستهم في مواجهة الشدائد أن يسير بهم علي نهج النبي e فلا يشعر الناس بأدنى تغير ، كان هذا هو منهجه والمتمثل في الأتباع والاقتداءوليس الابتداع والتجديد ومع ذلك كان دائم الاستشارة بأصحابه كما علمه النبي محمد e إذا جعل الشورى هي قوام حياة المسلمين .
    وكان الفاروق عمر بمثابة الوزيريقدم له المشورة تلو المشورة ويناقشه ويبدي رأيه فإذا صمم أبو بكر علي رأيه بعدمراجعته وجداله كتم عمر الأمر في نفسه وسكت وهذا خلاف لما عرف عن عمر في طاعته للنبيe فكان يطيعه وكان يناقشه فإذاذاد في جداله عن حده أوقفه النبي بقوله : أنا عبد الله ورسوله يا عمر فيكف عمر عنالجدال خوفا من غضب الله عليه ومع هذا فقد شبه عمر نفسه بسيف في يد الرسول e وفي يد أبي بكر استعملاه متى شاء وأغمده متى شاء .
    أما منهج الفاروق عمر في الحكم بعدما تولي الخلافة فقد كان مختلفا إذ كانمجتهدا مبدعا ومجددا في أغلب مشاكله وإن كان أيضا مقتديا بالرسول e ولم لا ! فقد أنقطع الوحي الذي كان ينزل علي النبي e وفيه علاج لأغلب المشكلات التي كان يواجهها النبي وأصحابه ، ثمأمتد به العمر وبعد به العهد عن فترة رسول الله e ، وضمت إلي دولة الإسلام أقاليم جديدة وبلدانا كثيره وظهر فيها منالمشاكل والصعاب ما لم تكن معهودة أيام النبي e ، وأحيانا لم نجد لها سندا لا في القرآن ولا في السنة من هنا كانأغلب أراء عمر يغلب عليها الاجتهاد ومع ذلك فإنه كان يقتدي بسنة محمد e ويعض عليها بالنواجذ ويتوعد كل من كذب علي النبي e أو أفتري عليه قولا أو فعلا .
    بهذين المنهجين لكل من أبي بكر وعمر أستطاع هذان الشيخان أن يواجها النوازلالصعاب والتي سوف نختار بعضا منها .
    وقع أبو بكر بين أمرين خطيرينأحلاهما مر ، وهما إنفاذ جيش أسامة إلي طخوم الروم كما أوصي النبي e في مرضه الأخير ، والأمر الأخر الوقوف في وجه المرتدين . فإذاأنفذ جيش أسامة لا يأمن غدر الأعراب والمرتدين من غارة علي المدينة إذا سمعوابنفاذ هذا الجيش . وإذا ما بدأ بحرب المرتدين فقد تطول تلك الحربولا يعرف منتهاها فيبطأ في تنفيذ وصية الرسول e ، فيكف تصرف الصديق في هاتين النازلتين.
    لا غرابة أن نجد الصديق يتبع منهجه الذي قطعه علي نفسه في إتباعه للنبي e فينفذ أولا وصية الرسول e ، فبادر بالنداء في المدينة بأن يتأهب جنود أسامه الذين خرجوا معهأثناء مرض النبي e ، وقد أثارالناس وحرك مشاعرهم بخطبته التي جاء فيها ( يأيها الناس أنما أنا مثلكم ...... وإنالله أصطفي محمدا علي العالمين وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع فإناستقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني .... ثم قال : ليتم بعث أسامة قد ارتدت العرب إماعامة وإما خاصة في كل قبيلة ونجم النفاق واشرأبت اليهود والنصارى وبعض المسلمونكالغنم في الليلة المطيرة الشاتيه لفقد نبيهم e .
    والواقع أن الرسول eكانت عنايته متجهه دائما إليجهة الشمال بعد عودته من حجة الوداع وظل يحسب من ناحية الروم حسابها منذ أن أنسحبخالد بن الوليد بالجيش في مهارة فائقة فكان يري الرسول e ضرورة توطيد سلطان المسلمين علي حدود الشام ، ولهذا أنفذ جيشأسامة وجعل فيه المهاجرين الأولين ومنهم أبي بكر وعمر وآخرين من كبار الصحابة ، وأمرعلي الجيش أسامة بن زيد بن حارثة وكان يومئذ حدثا صغير السن لا يبلغ العشرين منسنه وكان لأمارته علي هذا الجيش الذي جند فيه المهاجرون وكبار الصحابة ما آثارالدهشة في نفوس الصحابة ، وقد زادهم ذلك إيمانا بصدق رسوله ومصداقيته بعدما تكشفلهم الهدف من ذلك إذ أراد النبي بتعين أسامة بن زيد أن يقيمه مقام أبيه الذياستشهد في موقعة مؤتة ليثأر بقتله ، ويجعل له من فخار النصر ما يستحق به استشهادأبيه ، ولم تكن نظرة الرسول e قاصرة علي هذا الهدف فقط وإنما نظر إلي الشبابالذي يمثله أسامة بن زيد فأراد أن يثير فيهم الهمة والحمية ويعودهم تحمل التبعاتالجسام ، وخرج أسامة والجيش معه إلي الجرف علي مقربة من المدينة يتجهزون للغزو وهمعلي تلك الحال إذا حال مرض رسول الله الذي اشتد عليه دون مسيرهم كما عرفنا فلم يكنيسهل علي المسلمين الذين يقطعون الصحراء أيام طويلة أن يفارقوا النبي في مرضه الذياشتد عليه فقد كان صلوات الله عليه أحب إليهم من أنفسهم ، ومن هنا تأجل إنفاذالجيش إلي أن يبرأ النبي e ، وبعدموت الرسول e كان علي الصديق أن ينفذ وصيةرسول الله e .
    فقال أبو بكر لأسامة : أنفذ لأمررسول الله e ، فقال عمر : كيف ترسل هذاالجيش والعرب قد اضطربت عليك ! ؟ فقال : لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة ، مارددت جيشا أنفذه رسول الله e .
    ومن دلائل منهج الصديق في إتباع النبي e وهو يواجه تلك المشكلة أن عمر بن الخطاب وكان جندي تحت أمرة أسامةابن زيد قد كلمه المسلمين ان يرجع إلي أبي بكر الصديق ويطلب منه أن يولي قيادةالجيش رجلا أقدم سنا من أسامة ، وقد خرجعمر بأمر أسامة ليخبر أبا بكر بذلك وحينما استمع أبي بكر إليه إذ به يقول : ( لوخطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضي به رسول الله e ! قال عمر إن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وأنهم يطلبون إليك أنتولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة فوثب أبوبكر وكان جالسا واخذ بلحية عمر فقال له : ( ثكلتك أمك وعدمتك يا أبن الخطابأيستعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه ؟! وخرج عمر إلي الناس فقالوا له ما صنعت ؟فقال أمضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيته في سببكم من خليفة رسول الله e ! .
    ثم تأمل معي أيها القارئ الكريم كيفكان خلق هؤلاء الخلفاء أو الأمراء وهم في مكانتهم العالية وقد خرج أبو بكر يشيعجيش أسامة وهو ماش وأسامه راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال لهأسامة : يا خليفة رسول الله واللهلتركبنًّ أو لأنزلنًّ ، فقال والله لا تنزل والله لا أركب ، وما عليّ أن أغبر قدميفي سبيل الله ساعة فإن للغازي لكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنه تكتب له ، وسبعمائةدرجة ترتفع له وترفع عنه سبعمائة خطيئة . ثم أنظر إلي أدب أبي بكر الجم وإلي خلقهالفاضلة فهو يريد أبقاء عمر بجانبه بالمدينة ويستبقيه من الجيش فإذ به يقول لأسامةبن زيد ذلك الشاب القائد إن رأيت أن تعينني بعمر فأفعل فأزن له . ([1])
    ثم أخذ أبو بكريوصيهم بعشر وصايا في خطبة قصير بالغة منها ( يأيها الناس ، قفوا أوصيكم بعشرفاحفظوها عني : لاتخونوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقلتوا طفلاصغيرا ، ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرةمثمرة ، ولا تذبحوا شاه ولا بقرة ولا بعير إلا لمأكله ؛ وسوف تمرون بأقوام قدفرغوا أنفسهم في الصوامع ؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون علي قوميأتونكم بأنية فيها ألوان الطعام ؛ فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم اللهعليها . وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ؛ فاخفقوهمبالسيف خفقا . اندفعوا باسم الله ، أفناكم الله بالطعن والطاعون .([2])
    وقد نفذ أسامة ما أمر به نبي الله e فغزا ذي المروة والوادي وأنتهي به ما أمره النبي e من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة علي آبل فسلم وغنم وأنتهي منهذه الغزوة التي استمرت أربعين يوما سوى ذهابه وعودته .(2)
    عن أبي هريرة قال : (( والله الذي لا إله إلا هو ، لولا أبو بكر استخلف ماعبد الله )) ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة . فقيل له : مه يا أبا هريرة . فقال:أن رسول الله e وجه أسامةابن زيد في سبعمائة إلي الشام ، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله e ، وارتدت العرب حول المدينة . فاجتمع إليه أصحاب رسول الله e ، فقالوا : يا أبا بكر ،رد هؤلاء ، توجه هؤلاء إلي الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة !؟ فقال : (( والذيلا إله غيره ، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله e ما رددت جيشا وجهه رسول الله ، ولا حللت لواء عقده رسول الله )) ومنهذا المنطلق كان منهج أبو بكر وفلسفته في مواجهة الشدائد فقد أصر علي تنفيذ وصيةالرسول e بإنفاذ جيش أسامة فكيف يتأخر في أنفاذ تلكالوصية التي أوصي بها رسول الله ؟ لذا ثبت علي رأيه وخالف آراء الصحابة وصمم عليإنفاذ جيش أسامة علي الرغم من خروج القبائل عليه وارتدادها عن الإسلام !!
    - وعندما علمت القبائلالمرتدة بخروج هذا الجيش وفيه كبار الصحابة قامت بعضها بشن غارة علي المدينة المنورةللنيل منها ومن حكومة المسلمين الناشئة آنذاك ، فأقبل خارجه بن حصن بن حذيفه بنبدر وكان ممن أرتد (3)
    في خيلا ًمن قومه إلي القبيلة يريد أن يخدل عن الخروج أو يصيب غرة فيغير ،فأغار علي أبي بكر رضي الله عنه ومن معه وهم غافلون فاقتتلوا شيء من قتال وتحيز المسلمونأي تراجعوا ليتجمعوا ويستأنفوا القتال فنازل أبو بكر بشجرة وكره أن يعرف ، فأوفيطلحة بن عبيد الله علي شرف ([3])فصاح بأعلي صوته ( لا بأسهذه الخيل قد جاءتكم ) ، فتراجع الناس وجاءت الأمداد وتلاحق المسلمون فأنكشف خارجةبن حصن واصحابه وتبعه طلحة بن عبيد الله في من لحق معه فلحقوا فيه أسفل ثناياعوجسة وهو هارب لا يألوا فيدرك أخريات أصحابه فحمل طلحه علي رجل بالرمح فدق ظهرهفوقع ميتا وهرب من بقي ورجع طلحة إلي أبي بكر فأخبره أن قد ولوا منهزمينهاربين فوجه أسامه ، فجعل لا يمر بقبيليريدون الارتداد إلا قالوا لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ، ولكنندعهم حتي يلقوا الروم . فلقوا الروم ، فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين ، فثبتواعلي الإسلام .
    رفض أبو بكر منع الزكاة وأغلظ القول بوفود العشائر التي جاءت تفاوضه علي أنيبقوا مسلمين ويؤدون كل الفرائض إلا دفع الزكاة فرفض هذا القول وردهم بغيظهم وقدأدركوا قلة أهل المدينة إذ خرج أغلب المسلمين في جيش أسامة وأدرك أبو بكر طمعالقبائل في الغارة علي المدينة فأستعد لهجوم مفاجئ عليها فعين الصديق الحرس عليأنقاب المدينة وألزم المسلمين بالتواجد الدائم حاملين أسلحتهم بالمسجد استعداد لردالهجوم المباغت ، وما توقعه الصديق قد حدث فما لبثوا ثلاثة أيام حتي أغار المرتدونعلي المدينة وقد أنقسم المغيرون نصفين نصف بقي ردءا بذي حسي خارج المدينة والقسمالآخر هو الذي قام بالغارة وقد أخبر الحرس أبا بكر بالغارة وخرج أبو بكر ومن معهمن المسلمين في المسجد علي النواضح وتظاهر العدو بالهزيمة واتبعهم المسلمون عليأبلهم حتي بلغوا ذا حسي فأنقض عليهم الردأا وهزموا المسلمين .
    وفي جمادى الأخرة ركب الصديق مع أهل المدينة وأمراء الأنقاب ليؤدب الأعرابالذين أغاروا علي مدينة الرسول فلما تواجه هو وأعدائه من بني عبس وبني مرة وذيبانوبني كنانة فلما تواجه القوم فقد لجأ الأعراب إلي مكيدة وهي أنهم عملوا إلي أنحاءفنفخوها ثم أرسلوها من رؤوس الجبال فلما رأتها أبل المسلمين نفرت وذهبت كل مذهبولم يسيطروا عليها حتى رجعت إلي المدينة .
    وقد وقع في ظن هؤلاء الأعراب أن المسلمين يعانون الوهن والقلة فبعثوا إليعشائرهم لينضموا إليهم في الغارة علي المدينة ولكن أبا بكر كان حذرا قائما ليلهيعبأ الناس إلي ميمنة وميسرة وساقه ، وما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحدفما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتي وضعوا فيهم السيوف وما طلعت الشمس حتي ولواالأدبار منهزمين وتابعهم أبو بكر حتي نزل بذي القصة وكان هذا فتحا عظيما أزل اللهبه المرتدين وأعز به المسلمين ، وكان لهذاالنصر العظيم أثره علي أنفس القبائل المرتدة التي امتلأت قلوبهم حقدا علي المسلمينفوثب بني دبيان وعبس علي من فيهم من المسلمين فقتلوهم عن أرائهم فأقسم أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا منالمسلمين وزيادة . ([4])

    * * * *

    1- تاريخ الطبري ج 3 صـ 226 .


    1 - لقد وردت هذهالجملة بألفاظ مختلفة في بعض الطبعات فمنها أقناكم ولا معني لها والصحيح هو ما جاءفي الخطبة ليتفق مع الحديث القائم { فناء أمتي بالطعن والطاعون } أنظر الطبريالمصدر السابق .
    2- تاريخ الطبري ج3 صـ 227 .
    3- وهو خارجة بن حصن الفزاريمن بني فزارة وبهذا النسب شهرته ويذكر البلازري أن اشترك في الغارة هذه منصور بنزيلن بن سيار الفزاري فتوح البلدان جـ1 صـ 114 .

    1 - ما أرتفع من الأرض .


    1- أنظر غارات الأعراب عليالمدين في البداية والنهاية ج 6 صـ 317 – 318 .
    2- قال ابن كثير ج6 : 311 . 3- التوبة : 103 .
    4- وفي رواية : عقالا .
    5- وهذا الحديث في مسند أحمد 1 :11 و 19 و 35 – 36 الطبعة الأولي – ج 1 رقم 67 و 117 و 239 الطبعة الثانية .



  5. #5
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (2)


    محاربة أبي بكر القبائل المرتدة :-


    - حاول عمر بن الخطاب أن يقنع أبا بكر ويثنيه عن حرب المرتدين حينئذ فقال له: إذا منعك العرب الزكاة فأصبر عليهم . فقال : (( والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلي رسول الله e لقاتلتهم عليه . والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة )) . لما مضي جيش أسامة في طريقة إلي شرق الأردن جعلت وفود القبائل تقدمالمدينة ، يقرون بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة . (2) ومنهم من أحتج بقوله تعالي (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم )) (3). قالوا : فلسنا ندفع زكاتناإلا إلي من صلاته سكن لنا . وقد تكلم الصحابة مع الصديق ) في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتي يتمكن الإيمان فيقلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون ، فأمتنع الصديق من ذلك وأباه . وقد روي الجماعة فيكتبهم – سوي ابن ماجة – عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : علام تقاتلالناس وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ؟ )) فقال أبو بكر : (( والله لو منعوني عناقا (4) كانوا يؤدونه إلي رسول الله e لقاتلتهم علي منعها أن الزكاة حق المال . والله لأقاتلن من فرق بينالصلاة والزكاة )) قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنهالحق .(5) من حديث عبيد الله بن عبدالله بن محمد ( ابن أبي بكر الصديق ، وهوأحد الفقهاء السبعة ) : اجتمعت أسد وغطفان وطيء علي طليحة الأسدي ، وبعثوا وفودا إلي المدينةفنزلوا علي وجوه الناس ، فأنزلوهم إلا العباس ، فحملوهم إلي أبي بكر علي أن يقيمواالصلاة ولا يؤتوا الزكاة . فثبت الله أبي بكر علي الحق وقال (( واللهلو منعوني عقالا بعير لجاهدتهم عليه )).


    - فقد نظر العرب إلي أبي بكر علي انه رجلا ملكته قريش أمرها أنه شأنه كشأنهمفليس بنبي ولا يوحي إليه من السماء وقد عرفوه تاجرا كغيرة من قريش فكيف يفرض عليهمالضرائب ويفعل ما لم يجرئ ملوك غسان ولا ملوك المناذرة علي فرضها وقد أستخف العرببأبي بكر استخفافا شديدا وقد استهانوا بالعرب مما أخرج أبو بكر عن حلمه وأدبهولينه ورقته إلي العنف والشدة فقد كان يواجه من المرتدين أفعالا فيها استخفافاشديد به ومن أمثلة ذلك أن جاءه رجل من بني سليم يعرف بالفجاءة ويسمي إياس بن عبدياليل . فقال له : أني مسلم ، وأريد أن أقاتل المرتدين ؛ فاحملني ، وأعني بالسلاح. فأعطاه أبو بكر ما أحتاج إليه من الظهر والسلاح ، فلم يكد هذا الرجل يخرج منالمدينة حتى بين عما كان قد أضمر من الغش والخداع . فجمع إليه نفرا من أمثاله وجعليتعرض الناس : مسلمهم وكافرهم ، فيقتلهم ويأخذ أموالهم وينشر الفساد في الأرض .


    وعرف أبو بكر ذلك فأرسل إلي بعض عماله يأمره أن يجد في طلب الفجاءة حتييقتله أو يأتيه به أسيرا . وجد عامله في ذلك حتى جاءه بعد خطوب بالفجاءة ، فأمرأبو بكر أن توقد له نار عظيمة بمصلي المدينة ، وهو المكان الذي كان يخرج إليهالنبي e والمسلمون لصلاة العيدين ،وللصلاة علي الجنائز ، وأن يلقي فيها ، فحرق بالنار ولكن أبا بكر قد غلب عليه لينورفق فندم علي حرقه الفجاءه فلولا خداعه من جهه وأنتشار الردة من جهة أخرى لعاقبهبعقوبة أخرى وهي عقوبة الحرابة الذين يقطعون الطرق علي الآمنين وقد تحدث أبو بكرعن ندمه الشديد بحرق الفجاءه لأنه لا يعذب بالنار إلا الله ولعل هذا الحادث قد أثر في نفسه تأثيرا شديدافكان يعفو عن الأسرى الذين حرضوا علي الردة وقادوا قبائلهم لحرب المسلمين فكانيأتي بالزعيم المرتد إليه فكان يعنفه ثم يقبل منه توبته ويطلق سراحه .





    عقد الألوية الأحد عشر :


    عاد جيش أسامة بعد أربعين ليلة أو ستين من حملته علي الروم ظافرا منتصرا كماورد في البداية والنهاية ، فأمرهم الصديقأن يستريحوا قبل أن يجندهم لقتال المرتدين ، وبعدما جم جيش أسامة وأستراح الرجالركب الصديق في الجيوش شاهرا سيفه من المدينة إلي ذي القصة وهو المكان الذي تجمعفيه الجيوش لقتال المرتدين وطفق علي ابن ابي طالب يقود راحلة الصديق وفي هذاالمكان عقد الألوية لأحد عشر أميرا ويروا أن علي بن أبي طالب الذي كان يأخذ بزمامراحلة الصديق بعدما استوي الاخير علي ظهرها قال له إلي اين يا خليفة رسول الله ؟أقول لك ما قال رسول الله e يوم أحد : لمْ سيفك ولا تفجعنابنفسك وأرجع إلي المدينة فالله لإن فوجعنا بك لا يكون للإسلام نظاما أبدا .


    وقد عقد أبو بكر أحد عشر لواءا علي النحو التالي :-


    1) عقد لخالد بن الوليد وأمره بطلحة بن خويلد فإذا فرغ منه صار إلي مالك بننويرة بالبطاح وجعله قائدا عاما لكل الجيوش .


    2) عقد لعكرمة بن ابي جهل وأمره بمسيلمة .


    3) عقد لشرحبيل بن حسنه وبعثهإلي مسيلمة الكذاب متضامنا مع عكرمة ثم إلي بني قضاعة.


    4) عقد للمهاجر بن ابي أميه وأمره بالأسود العنسي .


    5) عقد لسعيد بن العاص إلي مشارف الشام .


    6) عقد لعمرو بن العاص إلي جماع طلاعه ووديعه والحارث .


    7) عقد لحزيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا.


    8) عقد لعرفجة بن هرثمة ووجه إلي مبرة .


    9) عقد لطرفة بن حاجز وأمره بني سليم ومن معهم من هوازن .


    10) عقد لسويد بن مقلم وأمره بتهامة اليمن.


    11) عقد للعلاء بن الحضرمي وأمرهبالبحرين ([1]).


    وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وينبغي الوقوف عندها لنبرز طبيعة هؤلاءالقواد الذين تجردوا لله ولدينة ولا هدف لهم إلا إعلاء كلمة الله فقد كانوا يرفضونالقيادة ويطمحون بالشهادة فقد دعي أبي بكر زيد بن خطاب ليقود جيشا يقاتل بهالمرتدين فأعتذر قائلا ( يا خليفة رسول الله e قد كنت أرجو ان أرزق الشهادة مع رسول الله e فلم أرزقها فأنا أرجوا ان أرزقها في هذا الوجه وإن أمير الجيش لاينبغي أن يباشر القتال بنفسه . (2)


    ثم دعي أبو بكر أبا حزيفة بن عتبه وبن ربيعه وعرض عليه ذلك فقال مثلما قالزيد . فدعي سالما مولي أبي حزيفة ليستعملهفأبى علي ! فدعا أبو بكر خالد بن الوليد وأمره علي الناس


    لقد كتب لكل أمير كتاب ويقال أنه كتب كتابا عاما ونسخ منه أحدي عشر نسخةحملها القواد إلي مشايخ القبائل يدعوهم إلي العودة للإسلام ودفع الزكاة ، وانطلقالأمراء كلا إلي وجهته وقد أستطاع البعض ان يقوم بمهمته وعجز الكثيرون عن آداءهانظرا لعناد القبائل المرتدة وتضامنها معا للوقف ضد الجيوش الإسلامية ولكن كانلخالد بن الوليد الدور الفز والعبقري وكان رأس الشجعان الصناديد وقد قال فيه أبوبكر سمعت رسول الله eيقول : نعم عبد الله وأخيالعشيرة خالد بن الوليد سيفا من سيوف الله سله الله علي الكفار المنافقين .


    ومن القواد الذين شاركوا فيحروب الردة : أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري ، وعمرو بن العاصالسهمي ، وخالد بن الوليد المخزومي ، وخالد ابن سعيد بن العاص الأموي ، ويزيد بنأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، والمهاجر بن أبي أمية شقيق أم المؤمنين أم سلمة ،وشرحبيل بن حسنة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وسهيل بن عمرو العامري خطيب قريش ،والقعقاع بن عمرو التميمي ، وعرفجة بن هرثمة البارقي ، والعلاء بن الحضرمي حليفبني أمية ، والمثني بن حارثة الشيباني ، وحذيفة بن محصن الغطفاني . وفي طليعةولاته : عتاب بن أسيد الأموي ، وعثمان بن العاص الثقفي ، وزياد أبن لبيد الأنصاري، وأبو موسي الأشعري ، معاذ بن جبل ، ويعلي بن منية ، وجرير بن عبد الله البجلي ،وعياض بن غنم ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وعبد الله بن تور أحد بني غوث ،وسويد بن مقرن المزني . وقد جهز أبو بكرالجيوش وأمر عليها الأمراء وكان عدد الجيوش أحد عشر جيشا وقد شارك القادة السالفذكرهم في تلك الجيوش وقد أمر عليهم الأمراء ووجه كل جيش إلي قبيلة وزودهم بتعليماتصارمة لا يتخطاها كل قائد وذلك بان كتب رسائل حملها القادة إلي شيوخ القبائلالمرتدة يدعوهم فيها إلي العودة للإسلام ودفع الزكاة وعلي القادة أن يتحروا الدقةوالاستبيان الجيد هل هم مسلمون يدفعون الزكاة أم مسلمون ولم يدفعوا الزكاة فكانقائد الجيش إذا دخلوا إلي قبيلة من القبائل أمر برفع الأذان ثم يستمع هو وجنوده هلأقامت تلك القبيلة الصلاة أم لا ثم يسألونهم عن حقيقة الإسلام الذي هم عليه وأنيناقشهم في موضوع الزكاة فإذا رفضوا دفع الزكاة قاتلهم عليها .


    - وهكذا خرج القادة مزودين بالتعليمات والوصايا التي حرص فيها الصديق أن تصلإلي أذان المرتدين وكانت وصايا أبي بكر إلي خالد بن الوليد أن يقاتل المرتدين عليخمس خصال ومن ترك واحدة من الخمس قاتله ؛(( شهادة أن لا إله إلا الله ،وأن محمد عبده ورسوله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام شهر رمضان )) . زاد زيد بن أسلم : (( وحج البيت )) . وعن نافع بن زبير أن أبا بكر حين بعث خالد بن الوليد عهد إليه وكتب إليهومما جاء في هذا الكتاب .


    بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله e إلي خالد بن الوليد حين بعثه لقتال من رجع عن الإسلام بعد رسولالله e .


    1) أمره أن يتقي الله ما أستطاع من أمره كله علانيته وسره .


    2) أمره ألا يقاتل قوماً حتييعزر إليهم ويدعوهم إلي الإسلام ويبين لهم الذي لهم في الإسلام والذي عليهم فيه منأجابه قبل منه ويعزر إلي من دعاه بالمعروف وبالسيف فإنما يقاتل من كفر بالله عليالإيمان بالله . ([2])


    كما يروي أن أبا بكر كتب مع هذا الكتاب الذي أرسله إلي خالد كتابا أخر إليعامة الناس وأمر خالد أن يقرأه عليهم في كل مجمع وقد جاء فيه .


    بسم الله الرحمن الرحيم : من أبي بكر خليفة رسول الله e إلي من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة تامَّا علي إسلامه أوراجعا عنه سلام الله علي من أتبع الهدي ولم يرجع بعد الهدي إلي الضلالة والعملوأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ... وإني قد بعثتخالد بن الوليد في جيش من المهاجرين الأولين من قريش والأنصار وغيرهم ، وأمرته أنلا يقاتل أحدا ولا يقتله حتي يدعوه إلي داعية الله ، فمن دخل في دين الله وتاب إليالله ورجع عن معصية الله إلي ما كان يقر به من دين الله وعمل صالحا قبل ذلك منهوأعانه عليه ، ومن أبي أن يرجع إلي الإسلام بعد أن يدعوه بداعية الله ويعذر إليهبعاذرة الله أن يقاتل من قاتله علي ذلك أشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دينالله وأعوانه ، ثم لا يبقي علي أحد بعد ان يعذر إليه وأن يقاتل من قاتله علي ذلكأشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دين الله وأعوانه ، ثم لا يبقي علي أحد بعد أنيعذر إليه . وأن يحرقهم بالنار ، ويسبي الذراري والنساء وأمرته أن لا يقبل من أحدشيئا إلا الرجوع إلي دين الله وشهادة أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وانمحمدا عبده ورسوله ، صلي الله عليه وسلم وقد أمرته أن يقرأ علي الناس كتابي إليهمفي كل مجمع وجماعه ، فمن اتبعه فهو خير له ، ومن تركه فهو شر له .


    ولن يكتفي الصديق بنصائحه التي سجلها في ذلك الكتاب المرسل إلي خالد بل شددفي الوصية إليه فعن عروة بن الزبير قال : (( جعل أبو بكر ( رضي الله عنه ) يوصي خالد بن الوليد ويقول : (( يا خالد ، عليك بتقوى الله ، والرفق بمن معك من رعيتك ، فإن معك أصحاب رسولالله ( صلي الله عليه وسلم ) أهل السابقة من المهاجرين والأنصار ، فشاورهم فيمانزل بك ، ثم لاتخالفهم وقدم أمامك الطلائع ترتاد لك المنازل وسر في أصحابك علي تبعيةجيدة ، فإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك وبعضهم لا عليك ولا لك ،متربص دائرة السوء ينظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة ، ولكن الخوفعندي من أهل اليمامة فاستعن بالله علي قتالهم فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم ، ولإنكفاك الله الضاحية فامض إلي أهل اليمامة ، فإنك تلقي عدوا كلهم عليك لهم بلادمنكرة ، فلا تؤتي إلا من مفازة فارفق بجيشك في تلك المفازة ، فأن في جيشك قوما أهلضعف أرجو أن تنصر بهم ! حتي تدخل بلادهم إن شاء الله تعالي .([3]) فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر ! إذا لقيت القومفقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به ، السهم للسهم ، والرمح للرمح ، والسيف للسيف .فإن أعطاك الله الظفر عليهم فأقلًّ البُقْيا عليهم إن شاء الله تعالي وإياك أنتلقاني غدا بما يضيق صدري به منك اسمع عهدي ووصيتي لا تغيرن علي دار سمعت فيهاأذانا حتي تعلم ما هم عليه واعلم يا خالد أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم منعلانيتك ، واعلم أن رعيتك إنما تعمل بما تراك تعمل ، كف عليك أطرافك ، وتعاهد جيشكوأنههم عما لا يصلح لهم ، فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم وبهذا نرجو لكم النصرعلي أعدائكم . سر علي بركة الله تعالي .(2)


    - ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه الصديق واعده أنه سيلقاه من ناحيةخيبر بمن معه من الأمراء وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب – وأمره أن يذهب أولا إليطليحة الأسدي ، ثم يذهب بعده إلي بني تميموكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد ، وفي غطفان ، وانضم إليهم بنو عبس وذبيان ،وبعث إلي بني جديلة والغوث وطيء يستدعيهم إليه ، فبعثوا أقواما منهم بين أيديهم ،ليلحقوهم علي أثرهم سريعا .


    - وقد ذكرنا من قبل قصة الفجاءة الذي استخف بأبي بكر وطلب منه سلاحا ليقاتلبه المرتدين ، والفجاءة أسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف منبني سليم ، قاله ابن اسحاق ، وقد كان الصديق حرق الفجاءة بالبقيع في المدينة ،وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم ، وسأل منه أن يجهز معه جيشا يقاتل به أهلالردة ، فجهز معه جيشا ، فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله ،وعرف أبو بكر ذلك فأرسل إلي بعض عماله يأمره أن يجد في طلب الفجاءة حتي يقتله أويأتيه به أسيرا . وجد عامله في ذلك حتى جاءه بعد خطوب بالفجاءة ، فأمر أبو بكر أنتوقد له نار عظيمة بمصلي المدينة ، وهو المكان الذي كان يخرج إليه النبي e والمسلمون لصلاة العيدين ، وللصلاة علي الجنائز ، وأن يلقي فيها ،فحرق بالنار ولكن أبا بكر قد غلب عليه لين ورفق فندم علي حرقه للفجاءه فلولا خداعهمن جهه وأنتشار الردة من جهة أخرى لعاقبه بعقوبة أخرى وهي عقوبة الحرابة الذينيقطعون الطرق علي الآمنين وقد تحدث أبو بكر عن ندمه الشديد بحرق الفجاءه لأنه لايعذب بالنار إلا الله ولعل هذا الحادث قدأثر في نفسه تأثيرا شديدا فكان يعفو عن الأسرى الذين حرضوا علي الردة وقادواقبائلهم لحرب المسلمين فكان يأتي بالزعيم المرتد إليه فكان يعنفه ثم يقبل منهتوبته ويطلق سراحه .(3)


  6. #6
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    (3)

    في خبر مالك بن نويرة وخالد بن الوليد .

    كان مالك بن نويرة قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة ، فلما اتصلت بمسيلمة لعنها الله ، ثم ترحلت إلي بلادها – فلما كان ذلك – ندم مالك بن نويرة علي ما كان من أمره ، وتلوم في شأنه ، وهو نازل بمكان يقال له : البطاح ، فقصدها خالد بجنوده ، وتأخرت عنه الانصار ، وقالوا : إنا قد قضينا ما أمرنا به الصديق ، فقال لهم خالد : إن هذا أمر لا بد من فعله ، وفرصة لا بد من انتهازها ، وإنه لم يأتني فيها كتاب ، وأنا الأمير إلي ترد الأخبار ولست بالذي أجبركم علي المسير ، وأنا قاصد البطاح . فسار يومين ثم لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار ، فلحقوا به ، وهنا تظهر عبقرية ذلك العلم العظيم من أعلام الصحابة وذلك القائد الفذ الذي سوف يقابل أغلب المكائد المتعلقة بالمرتدين . ولكن مما يؤسف له أن هؤلاء الأعلام أمثال خالد بن الوليد وغيره نجد بعض الأخبار التي تحط من قيمته وتهون من منزلته ، إن تلك الروايات التي ذكرها كبار المؤرخين المسلمين وهم الذين فتحوا أبوابا من الكذب والتدليس بآرائهم المتضاربة ، ومن هنا سارت تلك الروايات بمرور الزمن حجة علي المسلمين وأخذت تلوكها ألسن الأعداء .


    فلما وصل البطاح([4])وعليها مالك بن نويرة ، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس ، ثم أذن مؤذن خالد تنفيذا لأمر أبي بكر الذي أمر فيه المسلمين إذا نزلوا منزلا أن يؤذنوا ، فإن أذن القوم كف الجند عنهم وإن لم يؤذنوا قتلوا منهم فإن أجابوا بعد ذلك إلي داعية الإسلام سألوهم عن الزكاة ، فإن أقروا قبلوا منهم وإن أبو قاتلوهم (2) ، فاستقبله امراء بني تميم بالسمع والطاعة ، وبذلوا الزكوات ، إلا ما كان من مالك بن نويرة فانه متحير في أمره متنح عن الناس ، وقد أختلف في أمره فقال البعض – أنهم أقاموا الصلاة ، وقال آخرون : إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا ، ويروى ان الأساري باتوا في كبولهم في ليله شديدة البرد ، فنادي منادي خالد : أن ادفئوا أسراكم ، فظن القوم أنه أراد القتل ، فقتلوهم ، وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة ، فلما سمع الداعية نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال ، وكانت جميلة ، فلما حلت بني بها ، ويقال : بل استدعي خالد مالك بن نويرة فأنبه علي ما صدر منه من متابعة سجاح ، وعلي منعه الزكاة وقال : ألم تعلم انها قرينة الصلاة ؟ فقال مالك : إن صاحبكم كان يزعم ذلك ، فقال : أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟ يا ضرار اضرب عنقه ، فضربت عنقه ، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ علي الثلاثة قدرا ، فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب ، من المرتدة وغيرهم ، ويقال : إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلي أن نضج لحم القدر ولم تفرغ الشعر لكثرته ، وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ترك الجيش ذهب إلي الصديق في المدينة فشكا إليه خالد ، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد ، ثم قال للصديق : أعزله فان في سيفه رهقا ، فقال أبو بكر ما كنت لأشيم سيفا سله الله علي الكفار .


    وآخرون من الرواة يزعمون أن خالدا كان يفاوض مالكا ، فقال له مالك في بعض حديثة : إن صاحبكم كان يقول كذا وكذا ؛ يريد النبي e . قال خالد حين سمع من مالك هذه المقالة : أو ليس هو لك بصاحب ؟ ثم أمر بقتله .([5])


    والشيء الذي ليس فيه شك هو أن خالدا قتل مالكا ، وغضب لذلك رجل من خيرة أصحاب النبي كان في جيش خالد وشهد بأنه سمع القوم يؤذنون ، فلما رأي قتل مالك وأصحابه فارق الجيش وأقسم ألا يقاتل مع خالد أبدا ، ورجع إلي المدينة . وهذا الرجل هو أبو قتادة الأنصاري وقد كلم أبو قتادة كبار أصحاب النبي e وفيهم عمر ، واراد أن يدخل علي أبي بكر ليشكوا إليه خالدا ، فأبي أبو بكر لقاءه غضبا عليه لأنه ترك الجيش عن غير إذن من أميره . وقد دخل عمر علي أبي بكر فكلمه في قتل مالك ، وقال له : إن في سيف خالد رهقا فاعزله .


    فقال أبو بكر : تأول فأخطأ . ولما ألح عليه عمر في عزل خالد قال : إليك عني يا عمر ! ما كنت لأشم سيفا سله الله علي الكافرين .


    وهكذا تداخلت الروايات وأنفتح باب كبير من اللغط للحط من قدره فاليعقوبي يذكر في تاريخه عن خالد ، فيقول : (( فأتاه مالك بن نويرة ينظره ، واتبعته امرأته ، فلما رآها خالد ، أعجبته فقال : والله ، لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك . فنظر مالكا فضرب عنقه ، وتزوج امرأته )) .


    ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني ، أنه لما تنبأت (( سجاح )) اتبعها مالك ، ثم أظهر أنه مسلم ، فضرب خالد عنقه ، فطعن عليه جماعة من الصحابة ، لأنه تزوج امرأة مالك بعده ، وقد كان يقال إنه كان يهواها في الجاهلية واتهم لذلك بأنه قتل مسلما ليتزوج امرأته من بعده .(2)


    - ولم تتوقف الروايات التي تحدثت عن خالد ومالك بن نويرة إلي هذا الحد بل بعضهم أضاف إليها الكثير من خياله لتجذب القراء ولتضفي إلي كتابه قيمة ؛ وقد أدي ذلك إلي تباين الروايات وتهافتها . فها هو أبو الفرج الأصفهاني يقول : ( إن ليلي زوجة مالك كانت مع زوجها وهو يناظر خالدا . فلما سمعته يقول إني قاتلك ، ووالله لأقتلنك ، ألقت بنفسها علي قدمي الفاتح ، تلتمس منه العفو ، وقد انسدل شعرها علي كتفيها ، وبلل الدمع منها عينين زانهما الحور ، فزادهما سحرا ، ونظر خالد إلي وجهها البارع ، وهي ترنو إليه مستعطفه مسترحمة نظرة هوي وإعجاب ، فصاح مالك إني مقتول لا محالة ... أجاب خالد : ما لهذا والله ، وإنما قضي عليك كفرك . وأمر بضرب عنقه .


    وقد روي أبو الفرج رواية أخرى ، بالغ فيها في عرض خالد دون أن يشعر . فقال : قال محمد بن سلام (( وسمعني يوما يونس – وأنا أرد خالد في أمر التميمية وأعذره – فقال لي : يا أبا عبد الله ، أما سمعت بساقي أم تميم ؟ لقد كان يقال : إنه لم يُر أحسن من ساقيها )) ([6]).


    فهل هذه الروايات تليق بشخص خالد بن الوليد ذلك القائد الذي لم ينتصر إلا بعدما أنتصر علي نفسه وعلي نزواته وهكذا شيم القواد الأفذاذ دائما يروضون أنفسهم ويملكون زمام أمرها وهذا الذي قال فيه الرسول ورفع من شأنه حينما سماه سيفا من سيوف الله سله الله علي الكافرين .


    وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلي الصديق خالدا ، وعمر يساعده وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي ، ومما قال متمم في ذلك :


    وكنا كندماني جذيمة برهـة من الدهر حتي قيل لن يتصدعا


    وعشنا بخير ما حيينا وقبلنا أباد المنايا قـوم كسري وتبعـا


    فلما تفرقنـا كأنـي ومالكا لطول إجتمـاع لم نبت ليلة معا


    وقال أيضا :


    لقد لا مني عند العبور علي البكي رفيقي لتذارف الدموع السوافك


    وقـال أتبكـي كـل قبـر رأيته لقبر ثوي بيـن اللـوي فالكادك


    فقلت له إن الأسي يبعـث الأسي فدعني فهذا كلـه قبـر مـالك


    والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره علي عزل خالد عن الأمرة ويقول : إن في سيفه لرهقا ، حتى بعث الصديق إلي خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة ، وقد لبس درعه التي من حديد ، وقد صدئ من كثرة الدماء ، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء ، فلما دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الاسهم من عمامة خالد فحطمها ، وقال : أرأيت قتلت امرأ مسلما ثم نزوة علي امرأته ، والله لأرجمنك بالجنادل . وخالد لا يكلمه ، ولا يظن إلا أن رأي الصديق فيه كرأي عمر ، حتي دخل علي أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك وودي مالك بن نويرة ، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد ، فقال خالد : هلم إلي يا ابن أم شملة ، فلم اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله ، كما ان رسول الله e لما بعثه إلي أبي جذيمة فقتل أولئك الاساري الذين قالوا : صبأنا صبأنا ،ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ففداهم رسول الله e حتى رد إليهم ميلغة الكلب ، ورفع يديه وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، ومع هذا لم يعزل خالدا عن أمرة الجيش . ([7])


    أما قول عمر السابق قتلت مسلما ونزوة علي امرأته هذه رواية خاطئة وواضح السفه فيها كل الوضوح وأشك أن عمر بن الخطاب قد قالها أو إذا كان قد قالها فهو لم يقولها بالمعني الذي عشش في عقول هؤلاء الرواة ولنقف وقفة متروية حول ذلك الزواج الذي تم بين خالد بن الوليد وأم تميم زوج مالك بن نويرة وإذا كان هذا الزواج قد تسبب في المأخذة علي خالد فيبدوا أن المآخذ كانت مركزة علي أنه ( تزوج امرأة رجل مسلم بعد قتله مباشرة ولم يستبرئها – والمأخذ الآخر انه تزوج منها وهو في ميدان القتال وتقاليد العرب تقضي بألا يتزوج أو يقترب القادة من النساء ليتفرغوا للأعمال القتالية وينتبهوا إلي خطط ومفاجآت العدو .


    والحقيقة أن هذه القضية باطلة فإن خالدا لم يقتل مسلما إذ لم يكن مالكا حينئذ مسلما وإنما قتله لكفره وذلك حينما أمتنع وأمر قومه بعدم إجابة وترديد الآذان وعدم دفع الزكاة ومن هذا المنطلق تصبح أم تميم زوجة لخالد من سبي الإسلام ، تجري عليها أحكام الرقيق والجواري ، وأن عدة الجارية نصف عدة الحرة . وهناك روايات أخري ترجح ما قلناه في خالد فقد قيل :


    1- أن خالدا أشترى امرأة مالك من الفيء وتزوج بها .


    2- وقيل أنها أعتدة بثلاث حيضات وتزوج بها .


    3- وقيل في راوية أخرى أن خالدا – وقد قتل زوجها – أراد أن يخفف عنها مصيبتها فتزوجها جبرا لها مما أصابها وتطيبا لخاطرها .


    4- ويؤكد تمام التأكيد ذلك الشعر الذي رواه أخو مالك في رثاء أخيه تميم عندما أنشده لعمر بن الخطاب فهذه الأبيات تشهد بأن مالك بن نويرة قد مات علي الكفر وإنما مجيء أخوه إلي أبي بكر لطلب ديته .


    إن زواج خالد من زوجة مالك إنما هو زواج صحيح ولا يعيبه إنه تم في ميدان القتال كما قلنا سابقا وسبيلنا في ذلك الرسول w وهو قدوتنا وقد بنا من السيدة صفية بنت حيي بن أخطب فهل يعيب ذلك لرسول الله w ؟ !


    ومما يؤكد صحة هذا ؛ زواج خالد من امرأة مالك وأن زوجها قتل لأنه كان علي الكفر ذلك الأمر الذي أصدره الصديق رحمه الله لخالد بأن يطلق امرأة مالك حرصا علي سمعته وتخرصا للألسن فلو كان الأمر غير ذلك وكان زواجا غير صحيح ما طالبه الصديق بالطلاق وهذا دليلا علي صحة الزواج وشرعيته .


    وبعد هذا العرض الذي بينا فيه موقف عمر من خالد بن الوليد ثم موقف الخليفة منه وبينا بالأدلة الزعم الذي قيل حول زواج خالد لتشويه شخصيته . وطالما نحن باقون في هذا الموضوع فينبغي أن نقف علي جانب مهم أري عدم تركه وهو أن نعرف سبب الاضطراب في العلاقات بين عمر وخالد بن الوليد إذا كان هناك اضطراب .

    * * * *




    1- أنظر الطبري ج3 صـ 254 إلي 261 .
    2- أنظر الأكتفا في مغازي المصطفي والثلاثة الخلفا تحقيق الدكتور أحمد غنيم بعنوان الخلافة الراشدة والبطولة الخالدة في حروب الردة صـ 31 .

    1- أنظر بقية الكتاب في كتاب الأكتفاء في مغازي المصطفي والثلاثة الخلفا تحقيق أحمد غنيم وقد عنون الكتاب : الخلافة الراشدة والبطولة الخالدة في حروب الردة صـ 33 إلي 37 ) .

    1- الخلافة الراشدة والبطولة الخالدة في حروب الردة صـ 40 .
    2- المصدر السابق ص41-42 .
    3- البداية والنهاية ج 6 صـ324 .


    1- منازل بني يربوع قوم مالك بن نويرة .
    2- الكامل لابن الأثير ج2 ص343 .

    1- الشيخان صـ71 .
    2- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ139 .


    1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ140 .

    1 - البداية والنهاية ج6 صـ327 .

  7. #7
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    (4)
    مسيلمة الكذاب يدعي النبوة ويألف قرآنا
    أرسل الله الرسل لأقوامهم وأيدهم لمعجزات لتثير الناس وتحرك أفكارهمومشاعرهم وتوجههم نحو الإيمان بالله الواحد الأحد رب المعجزة وخالقها ، فكانتمعجزة موسي العصا ، ومعجزة عيسي عليه السلام إحياء الموتى وشفاء المرضي ، ومعجزةرسولنا الكريم صلوات الله عليه هي القرآن الكريم المعجزة الخالدة الباقية إلي أنتقوم الساعة لأنها كلام الله جل وعلي ، وقد تدبرها العاصون فذاقوا حلاوة كلماتهاوسمو فكرها وروحانية منزلها وكانت الحرب أمة تميزت بالفصاحة والبلاغة فأدركوا أنالقرآن ليس كلام محمد وإنما هو كلام الله .
    ومسيلمة الكذاب حينما أدعي النوبة أراد أن يشغل الناس بقرآن أدعي أنه يتنزلعليه من السماء فأثار ولكن شتان ما بين القرآنيين والقارئ لقرآن مسيلمة يدرك عليالفور أنه كذب وافتراء .
    فلما قدمت وفود بني حنيفة علي الصديق قال لهم : أسمعونا شيئا من قرآن مسيلمة، فقالوا : أو تعفينا يا خليفة رسول الله ؟ فقال : لا بد من ذلك ، فقالوا : كانيقول : يا ضفدع بنت الضفدعين نقي لكم نقين ، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين ،رأسك في الماء، وذنبك في الطين ، وكان يقول : والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصدا والذاريات قمحا ، والطاحناتطحنا ، والخابزات خبرا والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتمعلي أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، رفيقكم فامنعوه ، والمعتر فآووه والناعيفواسوه ، واذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون ، فيقال : إن الصديق قال لهم :ويحكم ، أين كان يذهب بقولكم ؟ إن هذا الكلام لا يخرج من أل ، وكان يقول : والفيلوما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل ، وكان يقول : والليل الدامس ، والذئب الهامس ،ما قطعت أسد من رطب ولا يابس ، وتقدم قوله : لقد أنعم الله علي الحبلي ، وأخرج منهانسمة تسعي ، من بين صفاق وحشي ، وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك البارد السميج.
    وقد أورد أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله في كتابة إعجاز القرآن أشياء منكلام هؤلاء الجهلة المتنبئين كمسيلمة وطليحة والأسود وسجاح وغيرهم ، مما يدل عليضعف عقولهم وعقول من اتبعهم علي ضلالهم ومحالهم .
    وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد إلي مسيلمة في أيام جاهليته ، فقال لهمسيلمة : ماذا أنزل علي صاحبكم في هذا الحين ؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورةوجيزة بليغة ، فقال : وما هي ؟ قال : أنزل عليه ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلاالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) قال : ففكر مسيلمةساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها ، فقال له عمرو : وما هي ؟ قالمسيلمة : يا وبر يا وبر ، إنما أنت إيراد وصدر ، وسائرك حفر نقر : ثم قال : كيفتري يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب .
    وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي e ، بلغه أن رسول الله e بصق في بئر فغزو ماؤه ، فبصقفي بئر فغاص ماؤه بالكلية : وفي أخري فصار ماؤه أجاجا ، وتوضأ وسقي بوضوئه نخلافيبست وهلكت ، وأتي بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه ، ومنهم من لثغ لسانه ، ويقال : إنه دعالرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي .
    وقال سيف بن عمر عن خليد بن زفرالنمري ، عن عمير بن طلحة عن أبيه أنه جاء إلي اليمامة فقال : أين مسيلمة ؟ فقال :مه رسول الله ، فقال : لا حتى أراه ، فلما جاء قال : أنت مسيلمة ؟ فقال : نعم .قال : من يأتيك ؟ قال : رجس ، قال : أفي نور أم في ظلمة ؟ فقال : في ظلمة ، فقالأشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق ، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ، واتبعههذا الأعرابي الجلف لعنه الله حتى قتل معه يوم عقربا لا رحمه الله .([1])
    عن رجال ، قالوا : كان عدد بنيحنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل ؛ في قراها وحجرها ، فسار خالد حتى إذا أظل عليهمأسند خيولا لعقة والهذيل وزياد ؛ وقد كانوا أقاموا علي خرج أخرجه لهم مسيلمةليلحقوا به سجاح وكتب إلي القبائل من تميم فيهم ؛ فنفروهم حتى أخرجوهم من جزيرةالعرب ، وعجل شرحبيل بن حسنة ، وفعل فعل عكرمة ، وبادر خالدا بقتال مسيلمة قبلقدوم خالد عليه ؛ فنكب فحاجز ؛ فلما قدم عليه خالد لامه ؛وإنما أسند خالد تلكالخيول مخالفة أن يأتوه من خلفه ؛ وكانوا بأفنية اليمامة .
    وأمد أبو بكر خالدا بسليط ؛ ليكون ردءا له من أن تأتيه أحد من خلفه ؛ فخرج؛ فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا ، فهربوا ،وكان منهم قريبا ردءاً لهم ؛ وكان أبو بكر يقول : لا أستعمل أهل بدر ؛ أدعهم حتىيلقوا الله بأحسن أعمالهم ؛ فإن الله يدفع بهم وبالصلحاء من الأمم أكثر وأفضل ماينتصر بهم ؛ وكان عمر بن الخطاب يقول والله لأشركنهم وليواسونني .
    وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه علي قبيح ؛وكان معه ( نهار الرجال بن عنفوة ) ، وكان قد هاجر إلي النبي صليالله عليه وسلم ؛ وقرأ القرآن ؛ وفقه في الدين ، فبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغبعلي مسيلمة وليشدد من أمر المسلمين ؛ فكان أعظم فتنه علي بني حنيفة من مسيلمة ؛شهد له أنه سمع محمدا صلي الله عليه وسلم يقول : إنه قد أشرك معه ؛ فصدقوهواستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبي صلي الله عليه وسلم ، ووعدوه إن هو مقبل أنيعينوه عليه ؛ فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئا إلا تابعه عليه ؛ وكانينتهي إلي أمره ، وكان يؤذن للنبي e ، ويشهد في الأذان أن محمدارسول الله ؛ وكان الذي يؤذن له عبد الله بن النواحة ، وكان الذي يقيم له حجير بنعمير ، ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة ، قال : صرح حجير ؛ فيزيدفي صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه ، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم ؛ فعظم وقارهفي أنفسهم . (2)
    قال : وضرب حرما باليمامة ، فنهي عنه ؛ وأخذ الناس به ، فكان محرما فوقع فيذلك الحرم قري الأحاليف ؛ أفخاذ من بني أسيد ، كانت دارهم باليمامة ؛ فصار مكاندارهم في الحرم – والأحاليف : سيحان ونمارة ونمر والحارث بنو جروة – فإن أخصبواأغاروا علي ثمار أهل اليمامة ، واتخذوا الحرم دغلا ، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجمواعنهم ؛ وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون . فيكم ذلك منهم حتى استعدوا عليهم ؛فقال : أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم . ثم قال لهم : (( والليل الأطحم والذئب الأدلم . والجذع الأزلم ، وما انتهكت أسيد من محرم )) ؛ فقالوا : أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ! ثم عادوا للغارة ،وعادوا للعدوي فقال : أنتظر الذي يأتيني ، فقال : (( والليل الدامس ، والذئب الهامس ماقطعت أسيد من رطب ولا يابس )) ؛ فقالوا : أما النخيل مرطبة فقد جدوها وأما الجدران يابسة فقد هدموها ؛فقال : اذهبوا وارجعوا فلا حقلكم .
    وكان فيما يقرأ لهم فيهم : (( إن بني تميم قوم طهر لقاح ، لا مكروه عليهم ولا إتاوة ، نجاورهم ما حيينابإحسان ، نمنعهم من كل إنسان ؛ فإذا متنا فأمرهم إلي الرحمن )) .
    وكان يقول : (( والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وأبانها . والشاه السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تمجعون !)) .
    وكان يقول : (( والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ،والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ؛ واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم عليأهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوئوه)) .
    * * * *

    1- البداية والنهاية ج6 صـ 331 .
    2- تاريخ الطبري ج3 صـ283 .



  8. #8
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (5)


    خالد بن الوليد يتصدي لنازلة مسيلمة الكذاب



    بعدما رضي الصديق عن خالد بنالوليد وعذره بما أعتذر به عن مقتل مالك بن النويرة والزواج من امرأته ؛ بعثه إليقتال بني حنيفة باليمامة ، وعبأ معه المسلمين ، وكان علي جماعة الأنصار ثابت بن قيس بن شماس ، فسار لا يمر بأحدمن المرتدين إلا نكل بهم ، وقد هجم علي خيول لأصحاب سجاح فشردهم وأمر باخراجهم منجزيرة العرب ، وأردف الصديق خالدا بسرية لتكون ردءا له من ورائه . وكان وقد كان بعث قبله إلي مسيلمة عكرمة بن أبيجهل ، وشرحبيل بن حسنة ، فلم يقاوما بني حنيفة ، لأنهم كانوا كثيري العدد والعدةوقد نجاوز أعدادهم الأربعين ألفا من المقاتلة ، وقد تسرع وناجزهم عكرمة قبل مجيءصاحبه شرحبيل فهزم وبقي في مكانه منتظرا خالدا، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له ( عقربا ) في طرف اليمامة والريفوراء ظهورهم ، وندب الناس وحثهم ، فحشد له أهل اليمامة ، وجعل علي مجنبتي جيشه ( المحكمبن الطفيل ) و ( الرجال بن عنفوة بن نهشل ) ، ( وكان الرجال ) هذا صديقه الذي شهدله أنه سمع رسول الله e يقول : إنه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في الأمر ، وكان هذاالملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة ، حتى اتبعوا مسيلمة ، لعنهما الله ، وقد كانالرجال هذا قد وفد إلي النبي e وقرأ البقرة ، وجاء زمن الردة إلي أبي بكر فبعثه إلي أهل اليمامةيدعوهم إلي الله ويثبتهم علي الإسلام ، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة


    قال سيف ابن عمر عن طلحة عنعكرمة عن أبي هريرة : كنت يوما عند النبي e في رهط معنا الرجال ابن عنفوة ، فقال : إن فيكم لرجلا ضرسه فيالنار أعظم من أحد ، فهلك القوم وبقيت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة .([1])


    وقرب خالد وقد جعل عليالمقدمة شرحبيل بن حسنة ، وعلي المجنبتين زيدا وأبا حذيفة ، وقد مرت المقدمة فيالليل بمجموعة من الفرسان تناهز الأربعين أو الستين فارسا ، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر . وبينما هو راجع إلي قومه فأخذوهم فلما جيء بهمإلي خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه ولما سألهم عن سبب مجيئهم قالوا لأخذ الثأر وكانينتظر خالد أن يكون مجيئهم لاستقباله والترحيب به فلم يصدقهم ، وأمر بضرب أعناقهمكلهم ، سوي مجاعة فأنه استبقاه مقيدا عنده – لعلمه بالحرب والمكيدة – وكان سيدا فيبني حنيفة ، شريفا مطاعا . ويقال : إن خالدا لما عرضوا عليه قال لهم : ماذا تقولونيا بني حنيفة ؟ قالوا : نقول منا بني ومنكم بني ، فقتلهم إلا واحدا اسمه سارية ،فقال له : أيها الرجل إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل –يعني مجاعة بن مرارة – فاستبقاه خالد مقيدا ، وجعله في الخيمة مع امرأته ليلي أمتميم ، وقال : استوصي به خيرا .


    ولما تواجه الجيشان قالمسيلمة لقومه يحثهم علي القتال بعبارات بعيدة كل البعد عن العقيدة والدين فكانيقول: ( اليوم يوم الغيرة ، اليوم ان هزمتم تستنكح النساء سيبات ، وينكحن غيرحظيات ، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم ) .


    وتقدم المسلمون حتي نزل بهم خالدعلي كثيب يشرف علي اليمامة ، فضرب به عسكره ([2]) . وراية المهاجرين مع سالممولي أبي حذيفة ، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس ، والعرب علي راياتها ،ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع ام تميم امرأة خالد .


    وجال المسلمون والكفار جولة أصطدم فيها الأعراب فانهزموا واختلت مراكزهم حتيدخل بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم ، حتى أجارها مجاعة وقال :نعمت بالحرية هذه ، وقد قتل الرجال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة ، قتله زيدبن الخطاب .


    ثم تذامر الصحابة بينهم واضطرمتفيهم روح الإسلام والرغبة في الجهاد والتضحية في سبيل الله وقال ثابت بن قيس بنشماس : بئس ما عودتم أقرانكم ، ونادوا من كل جانب أخلصنا يا خالد ، فخلصت ثلة منالمهاجرين والأنصار وحمي البراء بن معرور – وهاج كالأسد الثائر ، وقاتلت بنو حنيفةقتالا لم يعهد مثله ، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم يقولون : يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم ، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلي أنصاف ساقيه ، وهو حامللواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك .


    وقال المهاجرون لسالم موليأبي حذيفة : أتخشى أن نؤتي من قبلك ؟ فقال : بئس حامل القرآن انا إذن ! ، وقال بنالخطاب : أيها الناس عضوا علي أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدما ، وقال :والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقي الله فأكلمه بحجتي ، فقتل شهيدا رضي اللهعنه . وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال ، وحمل فيهم حتىأبعدهم وأصيب رضي الله عنه ، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم ، وسار لجبال مسيلمةوجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله ، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز ، وقال :


    أنا ابن الوليد العود أنا ابن عامر وزيد


    ثم نادي بشعار المسلمين –وكان شعارهم يومئذ يا محمداه – وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله ، ولا يدنو منه شيءإلا أكله .


    ثم دارت رحي المسلمين واقترب خالد من مسيلمة فعرض عليه النصف والرجوعإلي الحق ، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه ، لا يقبل منه شيئا ، وكلما أراد مسيلمةيقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه ، فانصرف عنه خالد .


    خالد وحديقة الموت


    وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب ، وكل قبيل علي رايتهم ،يقاتلون تحتها ، حتى يعرف الناس من أين يؤتون ويشتد التنافس بين قبائل العرب ،وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبرا لم يعهد مثله ، ولم يزالوا يتقدمون إلي نحورعدوهم حتي فتح الله عليهم ، وولي الكفار الأدبار ، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ،ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا ، حتي الجأوهم إلي حديقة لمسيلمة الكذاب سماهاخالد بن الوليد حديقة الموت لأنهم عزلوا أنفسهم في تلك الحديقة وكان هذا سببا منأسباب نصر المسلمين . ([3])


    وقد أشار عليهم محكم اليمامة – وهو محكم بن الطفيل لعنه الله – بدخولها ،فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة لعنه الله ، وأردي عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بنالطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله ، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم ،وأحاط بهم الصحابة ، وقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم فيالحديقة ، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها ، فلميزل يقاتلهم دون بابها حتي فتحه ، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابهايقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة ، حتى خلصوا إلي مسيلمة لعنه الله ،وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ، وهو يريد أن يتساند ، لا يعقل من الغيظ، وكان اذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه .


    فتقدم إليه وحشي بن حرب مولي جبيرابن مطعم – قاتل حمزة – فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر ، وسارع إليهأبو دجانة سماك بن خرشة ، فضربه بالسيف فسقط ، فنادت امرأته من القصر : وأميرالوضاءة ،( قتله العبد الأسود ) ، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركةتقريبا من عشرة آلاف مقاتل ، وقيل : أحد وعشرون ألفا ، وقتل من المسلمين ستمائة ،وقيل : خمسمائة ، وقيل ألف مائتين فالله أعلم ، وفيهم من سادات الصحابة ، وعيانالناس من يذكر بعد .


    ثم خرج خالد وتبعه مجاعة ابن مرارة يرسف في قيوده ، فجعل يريه القتليليعرفه بمسيلمة ، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد : أهذا هو ؟ قال لا ،والله هذا خير منه ، هذا صاحبكم ، فقال خالد : قبحكم الله علي اتباعكم هذا ، ثمبعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي ، ثم عزم علي غزوالحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار ، فخدعه مجاعة فقال :إنها ملأى رجالا ومقاتلة فهلم فصالحني عنها ، فصالحه خالد لما رأي بالمسلمين منالجهد وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال ، فقال : دعني حتى أذهب إليهم ليوافقونيعلي الصلح ، فقال : أذهب فسار إليهم مجاعة فأمر النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن عليرؤوس الحصون ، فنظر خالد فاذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعةفانتظر الصلح ، ودعاهم خالد إلي الإسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلي الحق وردعليهم خالد بعض ما كان اخذ من السبي ، وساق الباقين إلي الصديق ، وقد تسري علي ابنأبي طالب بجارية منهم ، وهي أم أبنه محمد الذي يقال له : محمد بن الحنفية رضي اللهعنه .([4]) (وكانت وقعة اليمامة في سنة إحديعشرة هجريه، أو ربما كانت في السنة الثانية عشرة هجرية).


    والحقيقة ان معركة اليمامة كانت من أشد المعارك هولا وأعنفها ، وقد أثبتفيها خالد بن الوليد قيادة محنكة وبصيرة واعية بالمسؤولية التامة والحب الشديدلدين الله ولنبيه الكريم كما أثبت المؤمنون من خلفه بطولات رائعة لابد أن ننوهعنها حتى يتكشف الموقف وتتضح الحقيقة الواضحة النيرة من الكذب والزور وإدعاءالنبوة التي لا سلطان لها من عقل أو روح أو حجة .


    فيروي أنه عندما اشتدت رحى المعركة وأنصرف الأتباع عن مسيلمة فأخذ يقولونله أين ما كنت تعدنا ؟ فقال : قاتلوا عن أحسابكم ، أما المسلمون فقد حميت نفوسهموقال زيد لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقي الله فأكلمه بحجي عضوا عليأضراسكم أيها الناس وأضربوا في عدوكم ومضوا قدما ، ومن أطرف المواقف أن عمر بنالخطاب قال لأبنه عبد الله حين رجع : ألا هلكت قبل زيد ! هلك زيد وأنت حي ! فقال :قد حرصت علي ذلك أن يكون ، ولكن نفسي تأخرت ، فأكرمه الله بالشهادة .


    ومن دلائل القيادة المحكمة لخالد بن الوليد أنه لما رأي المهاجرينوالأنصار قد عابوا أهل البوادي وعلي جبنهموتخاذلهم فأمر بالامتياز فلكل قبيلة ما يميزها كي تستحيي من الفرار ويعرف الناس منأين تأتي الهزائم .


    ومن مواقف البطولة والفداء التي لابد أن نشير إليها هو موفق البراء بن مالكالذي طلب من المسلمين أن يحملوه حتى يطرحوه في الحديقة ويقوم بفتح بابها أمامالمسلمين المهاجرين واستطاع أن يقتحم الحديقة وأن يقاتلهم علي الباب حتى فتحهامنفردا بنفسه .


    ومن امثلة الفداء أيضا عندما صاح ثابت بن قيس بأعلى صوته : ( هكذا عني حتىأريكم الجلاد ) . والبراء بن مالك يقول : أين يا معشر المسلمين أنا البراء بن مالكهلم إلي . ويصيح أبو حذيفة يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال . ويثبت سالم موليأبو حذيفة وهو يقول بأس حامل القرآن أنا إذا لم أثبت . وقال الواقدي بإسناده عنمحمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال لما انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم موليأبي حذيفة : ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله e فحفر لنفسه حفرة فقام فيها ومع راية المهاجرين يومئذ ثم قاتل حتىقتل شهيدا .([5])


    وقبل أن ننهي الحديث عن معركة اليمامة تستوجب أن نتطرق إلي تصرف من خالد بنالوليد قد غضب منه الصحابة غضبا شديدا وهو موضوع زواج خالد من بنت مجاعة إذ تقولبعض الروايات أن خالدا دعي مجاعة بن مرارة بعد أن أستقر به الأمر وبعدما أطمأن إليالنصر وطلب منه أن يزوجه أبنته ولكن مجاعة تردد خائفا مما يحدث من الخليفة وقد علمبانه لام خالدا وعنفه علي زواجه من ليلي أم تميم ولكن خالدا لم يعبأ بكلام مجاعةوأصر علي الزواج فزوجه مجاعة أبنته .


    وقد علم الخليفة بما صنع خالد فغضب وتألم كيف يصنع ذلك وبيوت المدينة ومكةلا يفارقها الحزن بعد ، ودماء الشهداء مازالت تبلل ثري اليمامة . فأرسل إلي خالدكتابا يعاتبه فيه عتابا شديدا ويعنفه علي ما فعل وكما يقول الطبري كتب إليه كتابايقطر بالدمع وكان صيغة الكتاب تقول :( لعمري يا بن أم خالد أنك لفارغ تنكح النساءوبفناء بيتك دم ألف ومأتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد . (2)


    ولعل هذا الخطاب الذي رواه الطبري يعطينا إحصاءا جديدا لعدد شهداء المسلمينالذي بلغ ألف ومأتي شهيد بخلاف ما ذكره بنكثير من أن عددهم يتراوح بين الخمسمائة والستمائة شهيد .


    وبهذه المعركة الفاصلة تخلص المسلمون من شر أعداء الإسلام ومن مدعي النبوةالكذاب ولم يعد هناك ما يثير قلق الخليفة أبي بكر أو يشغل بال المسلمين فقد كانتالمعارك مع المرتدين في الميادين الأخرى كاليمن وعمان والبحرين كلها معارك خفيفةوكانت تأتي بالنصر بارتداد هؤلاء القوم إلي الإسلام ولكننا قصرنا قولنا في هذهالعجالة علي أخطر حركتين من حركات الردة التي كانت بمثابة نازلتين كبريين الأوليكانت لبني تميم وفيهم مالك بن نويرة والتي أحدثت خلل في الرأي العام عند المسلمين .والثانية كانت مع مسيلمة الكذاب الذي أدعي النبوة ونزول الوحي . وقد استراح خالد بن الوليد القائد الأعلى الذيجاهد في أكثر من ميدان وجال أكثر من جولة مع هؤلاء المرتدين .


    ولعمري فإن المرتدين اليوم ومدعين النبوة ما أكثرهم يظهرون بين الحينوالحين ولا خالدا لهم فهل من مسلمي اليوم يظهر خالد آخر يطهر الأرض من رجس مدعيالنبوة أمثال البهائيين والقديانين الذين يرتعون في كل بلد ويزاولون شعائرهم بلااستحياء ويتلون قرآنهم معتصمين بنبيهم قاتله الله بل وصلت الحماقة أقصاها أن ينتشرفي الأماكن العامة ويبرزوا قضاياهم في أجهزة الإعلام المختلفة علي مسمع ومرئي منالمسئولين ألا وقفه أو غضبه لله تعالي ولنبيه الكريم أمام هذا الهراق الذي أزكمالألوف واصم الآذان .


    - شكل موت حفظة القرآن الكريم في موقعة اليمامة التي كانت بين المسلمينبقيادة خالد بن الوليد والمرتدين وعلي رأسهم مسيلمة الكذاب مدعي النبوة أقول : ( قدشكلت تلك المعركة خطورة فادحة للإسلام والمسلمين إذ أستحر القتل يوم اليمامةبالناس كما قال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق رحمه الله وهذه ألقوله الشهيرة التي قالها عمر: إني لأخشىأن يستحر القتل بالقراء في المواطن فينهب كثير من القرآن إلا أن يجمعوه ،وإني لأري أن يجمع القرآن ) . قال أبو بكر كيف أفعل شيئا لميفعله رسول الله e ؟ فقال عمر هو والله خير ؛ فلم يزل عمر يراجع أبا بكر في هذاالأمر حتي شرح الله صدر أبي بكر فوافق عليرأي عمر وقد كلف أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن وكتابته في مصحف واحد فخاطبه ابوبكر قائلا ( إنك شاب عاقل ، ولا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله e فتتبع القرآن فأجمعه ) ويعقب زيد علي الكلام الصديق قائلا : ( فواللهلو كلفت بنقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ثم يقولفتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال )([6]).


    ولا شك أن مواجهة الصديق لتكالنازلة كانت مواجهة سديدة حيث شعر وأحس بخطورة ذلك الأمر وأختار رجلا ثقة غيرمطعون في شرفه أو امانته وقد أدرك خطورة تلك المهمة فكان جبل أحد أخف علي نفسه منمسئولية جمع القرآن الكريم .


    كما نلاحظ حسن الإدارةبالخليفة أبي بكر ووزيرة عمر بن الخطاب ، فأبو بكر رجلا متبع لرسول الله ويخشي أنيجمع القرآن ولم يأمر بذلك النبي صلوات الله عليه ، وباجتهاد من عمر وباقتناع منأبي بكر تم الاتفاق علي كتاب القرآن الكريم في مصحف واحد لما فيه من صلاح أمةالمسلمين حتى تقوم الساعة لأن القرآن دستورها القويم ودستورها الأزلي وقد روي عنأبي يعلي عن علي قال : أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ؛ إن أبا بكر كان أولمن جمع القرآن وكتبه في مصحف واحد بين اللوحين وهو أول من سماه مصحفا . ([7])


    وقد روي أن عدد من استشهد من حفظة القرآن الكريم يقارب السبعين رجلا منمجموع شهداء تلك المعركة فقد استشهد فيها الكثير والكثير وممن استشهد في واقعةاليمامة أبو حذيفة بن عتبه وسالم مولي أبي حذيفة وشجاع ابن وهب وزيد بن الخطابوعبد الله بن سهيل ومالك بن عمرو والطفيل بن عمر الدوسي ويازيد بن رقيش وعامر بنالبكير وعبد الله بن مخربة والسائب بن عثمان بن مزعوم وعباد بشر ومعن بن علي وثابتبن قيس بن شماس وأبو جماعه سماك بن قرشه وجماعة آخرون وصلوا إلي ما يقرب منالسبعين رجلا كما قلنا سابقا . (2)

    * * * *




    1- البدايةوالنهاية ج6 صـ327 ، والطبري ج3 ص287.


    1- البداية والنهاية ج6 صـ328 ، الطبري ج3 ص289 .


    1- البداية والنهاية ج6 ص329 ،الطبري ج3 ص291 ،294 .


    1- البداية والنهاية ج6 صـ330 .


    1- سير أعلامالنبلاء ج2 ص389 ، الطبري ج3 ص291 .
    2- أنظر الطبري ج3 صـ300 .


    1- تاريخ الخلفاء للسيوطي تحقيقإبراهيم صالح ط بيروت سنة 1997 م صـ 97 .


    1- تاريخ الخلفاء للسيوطي تحقيقإبراهيم صالح ط بيروت سنة 1997 م صـ 97 .
    2- تاريخ الخلفاء صـ 96وأنظر أيضا سير أعلام النبلاء للإيمام شمس الدين الذهبي ط دار الحديث القاهرة جالثاني صـ 389 – 393 )




  9. #9
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي



    ( 6 )

    أراء نقدية حول خالد وموقف الشيخين منه


    ( أولا )


    تضارب الروايات فيما يتعلق بمالك بن نويرة وخالد بن الوليد .



    لقد كثرت الأراء وتعددت حول مالك بن نويرة وخالد بن الوليد من جهة وبينخالد وعمر بن الخطاب وأبي بكر من جهة أخري وعلي المؤرخ أن يدع ميوله وأهوائه جانباوأن يلتزم الحياد ويصبوا إلي الحقيقة دائما ما اتخذ إلي ذلك سبيلا . وقد أثرت ميول المؤرخين وأهوائهم في كتاب عنخالد بن الوليد وبخاصة افتتانهم بشجاعته مما حدا بهم أن يخترعوا بعض جوانب الدفاععن خالد بن الوليد ويتلمسوا له الأعذار إذا واجه نقدا هنا وهناك وليس ذلك القائدالباسل في حاجة إلي دفاع هؤلاء عنه فقد تربي في مدرسة النبوة وغرف من معين هدينبيها صلوات الله عليه فقد هذبه الرسول في أكثر من موقف وشجعه في كثير من المواقفبل جعل من بعض تصرفاته نجاحا وفتحا مخالفا رأي بعض الصحابة في خالد وذلك لهدفتربوي سليم . وخالد بن الوليد بشر غير مقدس أو يوحي إليه فلابد ان يصيب ويخطا فماذا يحدث لو رصدنانجاحاته ورصدنا أخطائه بصفته بشرا فلا يأخذنا انبهارنا الشديد بخالد بن الوليد فيأن نتغاضى عن أخطائه وزلاته وهذا هو النقد التاريخي الذي ينبغي أن نلتزم به واننعيده كتابة تلك الحكمة من تاريخ المرتدين عن الإسلام ونبرز تصرفات هؤلاء المرتدينوتعاملهم مع قادة الإسلام فإن في سوء تصرفاتهم ما نراه اليوم وما نعانيه من بعضقادتنا وولاة أمورنا فلابد أذا ربط الماضي بالحاضر حتى تنتظم حركة الحياة في عصرناوتضح العظة والعبرة .


    فبعدما انتهي خالد بن الوليد من معركة البزاخه توجه بجيشه إلي البطاح حيثيقيم مالك وأتباعه كما عرفنا سابقا ! وعندما أراد المسير أختلف معه الأنصار بحجةأن الخليفة أبا بكر لم يأمر بذلك ورفضوا الخروج إلي أن يأمرهم أبو بكر وحاول خالدبن الوليد إقناعهم بان الخليفة عهد إليه بالمضي إلي البطاح ولكنهم رفضوا ، فتركهمخالد واتجه ومن معه إلي البطاح وهذا أول خطأ يقع فيه الأنصار حيث بقوا ثلاثة أيام يتشاورونفيما بينهم ثم كتبوا إلي خالد لينتظرهم وليلحقوا به وهذا التصرف يعد انشقاق في جيشالمسلمين قد يؤدي إلي هزيمتهم ولكن الله سلم وهذا الخطأ يكمن في عدم الطاعةالموجبة لقائد الجيش .


    وقد نفذ خالد أمر أبي بكر فحينما وصل إلي البطاح لم يجد فيها أحدا وذلك لانمالك بن نويرة قد وزع قومه وأدرك أنه لا قبل لهم بمنازلة خالد حتى أن إبل الصدقةالتي كان يجب عليه أن يجديها ويرسلها إلي المدينة قد وزعها علي أصحابها ووقف موقفالمتربص وإذا ما هزم طليحة يكون مع المسلمين .


    بث خالد طلائعه وأمر أن يأذن وأن تقام للصلاة قبضت السرايا علي مالك ومعهمجموعة من الناس واختلفت السرايا في أمرهم حيث قال بعض الجند من هذه السرايا أنهملم يأذنوا ولم يصلوا وقال بعض أخر وفيهم أبو قتادة بل أقاموا الصلاة ووجد خالدنفسه أمام أمرين وكان لابد أن يتأكد بنفسه فأمر بحبسهم حتى ينظر في أمرهم فيالصباح .


    ثم يروي المؤرخون أن هؤلاء الأسري باتوا الليلة مكبلين وكانت الليلة شديدةالبرد فأمر خالد بإدفاء الأسري فناديمناديه ( دافئوا أسراكم فظن الحراس أن خالد يريد قتلهم فقتلوهم وسمع خالد صياحالقوم فخرج ليري ويعرف الخبر فوجدهم قد قتلوا فقال : إذا أراد الله أمرا كان .


    وظاهر في هذه الرواية محاولة الدفاع عن خالد ومحاولة تبرئته من قتل مالك بننويرة إذ ان القتل وقع خطأ غير مقصود لا من خالد ولا من الحراس .


    وبناء علي ذلك فيكون زواج خالد من امرأة مالك بن نويرة إنما أراد بهتعويضها عما فقدته ويكون هذا الزواج عزاء كما فعل سعد بن أبي وقاص مع زوجة المثنيبن حارثة الشيباني رضي الله عنه .


    وهناك رواية أخري حيث يذكر المؤرخون أن خالد استدعي مالك ولامه علي مناصرتهبسجاح ومنع ابل الصدقة فقال له خالد ألم تعرف أن الزكاة قرينة للصلاة فقال مالك إنصاحبكم كان يزعم هذا فقال خالد أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟ ثم أمر ضرار بن الأزوربقتله قائلا يا ضرار أضرب عنقه فضرب ضرار عنقه وقد وردت هذه الرواية بصيغة أخريفإن خالد سال مالك عن منع الزكاة فقال مالك أني آتي الصلاة دون الزكاة فقال خالدأما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون الأخرى ؟ فقال مالك قد كانصاحبكم يقول ذلك فقال خالد أو ما تراه لك صاحبا ؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقهوتجادل الرجلان بالكلام وأطال الجدال فقال خالد أني قاتلك فأجاب مالك أو بذلك أمركصاحبك فقال خالد والله لأقتلنك وأمر بقتله .


    يجمع كثير من المؤرخين علي هذه الرواية ولكنهم يرونها ناقصة فبعضهم يزعم أنخالد قتل مالك طمعا في امرأته كما قال اليعقوبي في تاريخه ويري بعضهم أنه كانيهواها في الجاهلية وأنه قتل مالك ليحصل علي زوجته كما يقول أبو الفرج الأصفهانيوأكدوا هذه الرواية بأن تصرف خالد مع مالك يناقض تصرفه مع بقية الزعماء الذينأثرهم وبعث بهم إلي المدينة ليري فيهم الخليفه رأيه فلهذا قتل مالك ولم يقتل غيرهإن هؤلاء المؤرخين لا يتصورن أن خالدا يقتل مالك لأنه يستحق القتل وإلا فلماذا إذنلم يقتل قرة بن هبيرة وعلقمة بن علافه وعليمه بن حصن وغيرهم من الزعماء المرتدينفهل لابد أن تكون ليلة ابنة تميم هي التي دفعت خالدا بجمالها لأن يقتل زوجها لينالما في مثابته .


    إن هؤلاء الرواه يعلنون أقوالهم بان خالدا تزوج ليلة فعلا رغم ما سببته لهمن المتاعب وهذا الأمر لم يختلف فيه المؤرخون وإن الدارس لهذا الأمر والمتأمل فيهسيجد فرقا بين موضوع مالك وموضوع غيره من الزعماء الذين ارتدوا وساندوا المرتدينبل ظاهروهم علي المسلمين ذلك أن هؤلاء جميعا قد ندموا علي ما كان منهم وعادوا إليالإسلام وكذلك فعل هذا زعماء بني تميم عطارد بن حاجب ووقيع بن مالك وغيرهم وقدندموا علي ما فعلوا ودفعوا الزكاة فلم يصيبهم أذي من المسلمين .


    أما مالك فقد ظل مضطربا في تفكيره حائرا في مصيره ماذا يفعل أيظل مرتداويصر علي منع الزكاة أم يعود لما كان عليه قبل تلك الفتنة أي كان يقف موقف المتربص.


    ولا نعجب إذا قلنا أن مالك ظل مضطربا وظل متربصا تائه الفكر حتى وهو بينيدي خالد حين كان يستجوبه فلم يقطع في الموضوع برأي وقد أدي هذا إلي إطالة النقاشوالجدال فهو واضح في أن يبقي علي صلاته ولكنه كان مترددا في موضوع الزكاة فهو بذلكمانع للزكاة مرتد بإنكار النبوة بعد أن آمن بها .


    فهل يعقل أن يسوي خالد بن الوليد بين مالك بن نويرة الناكر لنبوة محمد والمانعللزكاة وبين زعماء القوم الذين أظهروا التوبة والندم وعادوا إلي الإسلام طائعين ؟


    وربما يقول قائل إذا كان الأمر كذلك فلم ثار أبو قتادة الأنصاري وغضب غضباشديدا من أجل قتل مالك ؟ إن الأمر هذا هين وبسيط فإن مالك أقام الصلاة وأن خالد بنالوليد لم يقتل مالكا من أجل الصلاة وإنما قتله من أجل الزكاة التي امتنع عنهاوعلي إنكاره لنبوة محمد e فيعبر عنه بصاحبكم من هنايتبين أن تلك الثورة التي أحدثها أبو قتادة لم تكن في محلها فخالد بن الوليد ناظرمالك وقد هدده بالقتل لأنه أعترف بالصلاة وأنكر الزكاة وعلي ما يبدوا أن الخليفةأبو بكر لم يكن مقتنعا برأي أبو قتادة الذي جاء ليقابله ويشكوا إليه خالدا حيث رفضأن يقابله الصديق وأمر أن يعود إلي الجيش فيلتحق به وألا يخرج مرة أخري دون أذن منقائده .


    أما ثورة أبي قتادة التي أثارت حفيظة عمر علي خالد والذي أسرع إلي أبي بكريطالبه بمعاقبة خالد فقد هاله أن يتزوج ليلي زوجة مالك ويبني بها بعد مالك وليس فيذلك غرابة ولعل خالد تزوجها تعويضا لها عن زوجها المشكور في قبيلته ويخفف عنها وقعالحادث فيشغلها عن التفكير فيه بأعباء الزوج الجديد الذي هز كيان المرتدين وأرجعهمإلي حظيرة الإسلام فهل يمكننا ان نلوم سعد ابن أبي وقاص الذي تزوج من زوجة المثنيبن حارثه وهو في مجال المعركة فهذه إذا عادة عربية قديمة .


    إن مالكا مات مرتدا ويشهد بذلك أخوه متمم بم نويرة الذي ألتقي به عمر بنالخطاب وأنشد عمر بعض أبيات من الشعر رثي بها أخاه وقد سبق أن ذكرناها في محلهافليرجع إليها القارئ .


    فلما سمع عمر ذلك قال : هذا والله التأبين ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخيزيدا بمثل ما رثيت به أخاك .


    قال متمم : لو أن أخي مات علي ما مات عليه أخوك ما رثيته ،فسر عمر رضي اللهعنه لمقالة متمم وقال : ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني .


    فزيد بن الخطاب مات علي الإسلام شهيدا في غزوة اليمامة ومتمم يحزنه أن أخاهمات علي غير ذلك ولو كان متمم مات كما مات زيد ما رثاه أبدا فقول متمم هذا يدل عليأن مالك لم يمت علي الإسلام .


    فإذا تأكد لنا أن مالك قتل مرتدا ولم يمت علي الإسلام فإن زوجته لا تخلوامن أمرين : إما ان تكون متابعة له في ردته وحين إذ يحق لخالد أن يتخذها أمه لهيستحلها بأستبراء رحمها ثم يبني بها . وإما أن تظل علي إسلامها فتكون الردة قد فرقتبينهما فلا تحل ليلة آنذاك زوجة لمالك شرعا وحين إذن يحل لأي إنسان أن يتزوج بهابعد أن يستبرئ رحمها وعلي كل حال فإن زواج خالد بها لم يخالف بيه الشرع في كليالحالتين ويقول بن كثير : ( واصطفي خالد امرأة مالك بن نويرة فلما حلت بني بهاوالمعروف باللغة ان الصفية ما يختاره الرئيس أو القائد لنفسه من الغنائم . ([1])


    أما موقف عمر بن الخطاب فقد ظهر واضحا جليا بعد أن كلمه قتادة في أن خالدقتل مالك بعد أن اقام الصلاة فغضب عمر لذلك ودخل في روعه ان خالد أرتكب خطأ لابدأن يأخذ به وأخذ يلح علي الخليفة أبي بكر في أن يعزل خالدا وقال له ( أعزله فإن فيسيفيه رهقا ) ولكن الصديق المقتدي للنبي e والذي أعلي من قدر خالد نراه يرد علي عمر قائلا والله لا أشيمسيفا سله الله علي الكافرين .


    وعلي ما يبدوا أن عمر بن الخطاب كان يري ما يراه أبو قتادة في أن المرء إذاصلي يعد مسلما ولا يجوز قتله إلا إذا أرتكب خصلة من ثلاث التي ذكرها الرسول فيقوله ( لا يحل دم أمريء مسلم إلا بأحدي ثلاث :- الثيب الزاني – والنفس بالنفس –والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ومالك فيرأيه لم يفعل شيئا من ذلك وكما يبدوا مرةأخري لعمر وأبي قتادة أن مالك لم يفعل شيئا من ذلك ولكن ظل عمر يلح علي الخليفةويطالبه بعزل خالد ولكن الصديق رحمه الله كان مقتنعا بسلامة تصرف خالد وأنه لميرتكب خطأ يعاقب عليه لذا نراه يقول لعمر : يا عمر أمسك لسانك عن خالد وهبهُ تأولفأخطأ.


    وإنه لا يبدوا لنا أن الصديق لوثبت لديه خطأ خالد ما تركه مطلقا لحاسبه عليالفور وأقام عليه الحد فقد كان أبو بكر بمعاملته لخالد مقتديا بالرسول e الذي عفا عنه الرسول عندما قتل بعض أفراد من بني جزيمة بعد فتحمكة وكل ما قاله الرسول اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد قالها ثلاثا ولم يعزلهعن قيادة الجيش بل أرسله علي رأس سرية ليهدم العزى وهكذا فعل الصديق ولا غرابة فيذلك فقد كان رحمه الله مقتديا بالرسول ولهذا لم يعزل خالد بل أرسله علي رأس جيشليقاتل في اليمامة عدو الله مسيلمة وإتباعه .


    وإزاء إلحاح عمر في عزل خالد أضطر أبو بكر بأن يستدعي خالدا إلي المدينةليسمع منه ويحكم عليه وقد دخل المسجد في هيئة قائد له صولجان وأختياله إذ دخلعليهم وعليه درعه من حديد قد ظهر فيها الصدأ من كثرة الدماء والحرب غرس في عمامتهأسهم مضمخة بالدماء واخذ يمشي إلي مجلس الخليفة فلما رآه عمر نهض إليه وأنتزعالأسهم من عمامته وحطمها وقال له في غضب قتلت امرءا مسلما ونزوت علي امرأته ؟والله لأرجمنك بالحجارة ولم ينطق خالد بكلمة ولكنه توجه مباشرة للخليفة فسأله عليحقيقة الأمر فأبانه واعتذر له بما يوضح وجهة نظره فعذره الخليفة وقبل منه إلا أنهلامه وعنفه علي زواجه من امرأة مالك الذي لم يجف دمه بعد فكيف يتزوج وهو لا يزالمشتغلا بالحرب مخالفا بذلك عادة العرب الذين كانوا يجتنبون النساء في أوقات الحربويرون القرب منهن عارا لا يمحوه شيء بل نري الخليفة يتحمل دية مالك من ماله الخاصليسكت به متمم أخا مالك وخرج خالد وقد رضي عنه الخليفة متجها إلي مجلس عمر وقال لههلم إليا يا ابن أم شمله يقولها وكأنه في نشوة النصر وعرف عمر من حديث خالد أنالخليفة قد عذره ورضي عنه فسكت عمر وكتم أمر خالد في نفسه إلي حين .

    * * * *


    ( ثانيا )


    اختلاف نظرة أبي بكر وعمر نحو قيادة خالد



    والحقيقة أن كلا من الشيخين قد وقف من خالد موقفا مغايرا ولكن فيه شيء من الاجتهاد ابتغاء وجه الله وابتغاء مصلحةالمسلمين فكيف كان موقف كل منهما أو نظرة كلا منهما إلي خالد ؟ .


    - نظر أبو بكر إلي خالد علي أنه رجل حرب من الطراز الأول فهو أبرع القواد ويمتلكمهارة فنية في وضع خطط الحرب تكفل له النصر وتحقق العزة للإسلام والمسلمين فما منمعركة دخلها إلا وقد أنتصر فيها وقد سماه الرسول صلي e من فرط إعجابه(سيف الله المسلول ) كما كان أسرع القواد جميعا فيتلبية أوامر الخليفة كما أن أبا بكر رأي أن عزل القواد أثناء الحروب فيه خطورة عليالجيوش الإسلامية المحاربة من جهة كما أن فيها ضياع لمصلحة المسلمين من جهة أخري وأنتلك الحقبة التي عاشها أبو بكر بعد موت النبي e كانت في حاجة شديدة إلي قيادة عسكرية محكمة تواجه القبائل المرتدةالتي غصت بها شبه الجزيرة العربية وامتنعت عن دفع الزكاة .


    - بينما نظر عمر إلي خالد نظرة يتضح منها حرصه الشديد علي المثل العلياوالقيم العظيمة التي جاء بها الإسلام فهو يري أن تلك القيم ينبغي أن تكون خالصة منكل شائبة تشيبها فهو يأبي أن يتزوج خالد من امرأة مالك وهذا شيء مكروه عند العربأثناء الحروب حتى لا تلين قناتهم وتضيق بأسهم أثناء الحرب ويتفرغ القائد لمهامقيادته . كما انه لا يحب أن يري قوادهيعجبون بأنفسهم ويختالون بقوتهم فالخيلاء والكبر يؤدي إلي الهزائم لذا كان يري أنمن مصلحة الإسلام والمسلمين عزل خالد حتى لا يفتن به المسلمون به ، وأصبح في عرفهمما من جيش يقوده خالد إلا ولابد أن ينتصر لذا كان الجنود يسعون للانضمام إلي جيشه.


    - كما كان لمنهج كل من الشيخين في الحكم أثر كبير نحو اختلاف نظرة الشيخينإلي خالد فأبي بكر كان ينهج منهج الاقتداء بالنبي e ويلتزم بأقواله وأفعاله في كل ما يواجهه من أعباء الحكم والسياسةوالقيادة إلي غير ذلك . وكان أبو بكرمحقا في تلك النظرة فهو لا يريد ان يشعر المسلمين بثمة تغير حدث بعد موت النبي e علي يدي أبي بكر وقد كان أناس آنذاك مفطورين علي تلك السياسة التينهجها رسول الله e فهم لا يودون أن يحيدوا عنهاقيد أنملة لذا نري أن أبا بكر يقرر وجوب الاحتفاظ بقيادة خالد للانتفاع بقوته وانيبقي عليه لإعجاب الرسول e به فقد أخطأ في عهد الرسول عندفتح مكة حينما قتل بعض أفراد من جذيمة ومع ذلك فإن الرسول لم يعزله بل أستعملهوولاه قيادة أكثر من جيش . فأبو بكر ينتفع بقوة خالد علي أن يكفكفه إذا تجاوزالقصد في الحرب أو تجاوز الحد في أمر من أمور نفسه فعنفه حين تزوج امرأة مالكوعنفه حين تزوج بنت مجاعة بعد واقعة اليمامة وعنفه أيضا حينما ترك الجيش أثناء فتحالعراق وذهب للحج سرا ولم يعلم بذلك إلا خاصته ثم عاد إلي جيشه بالحيرة وعندما علمأبو بكر بذلك كتب إليه كتابا يعنفه ووعظه ونهاه أن يأخذه العجب والتيه بحسن بلائهوقتاله للعدو فإن ذلك العجب يفسد عليه عمله ونصحه أن يبغي بكل ما يفعل وجه الله عزوجل فهو وحده المجزي علي الأعمال .


    ويري الدكتور طه حسين أن بلاء خالد في العراق كان جديرا أن يدفعه إلي العجبوإلي التيه فقد تمكن من قهر عرب العراق في أكثر من موقع وأن يقهر جموع الفرس الذينجاءوا لإنجاد عرب العراق وأستطاع خالد أن يواجه تلك الجموع وأن يظفر بها فكانتالحرب شرسة وكان علي خالد أن يواجه الحرب في العراق من جهه وجموع الفرس الذينجاءوا للاحتفاظ به من جهة أخرى ولعل شدة المقاومة الفارسية أحفظت خالدا وأثارتغضبه فأقسم قسما عظيما لإن أظفره الله عليهم ليقتلنهم قتلا حتى يجري دماءهم فينهرهم وقد نصره الله عليهم نصرا عزيزا . ([2])


    وواضح في هذه الرواية الإسراف والمبالغة وهذه الرواية أعتقد أنها تشير إلي خالد وتهز صورته في إبراز قسوته وتشفيهمن العدو لأنه لو فعل ذلك لكان مخالفا لنصح الخليفة رضوان الله عليه ولتعاليم دينهالحنيف .


    ولكن بصفة عامة نستطيع ان نقول أن خالد بن الوليد رحمه الله قد استخلصالعراق العربي من أيدي الفرس وكان يتمني لو أذن له أبو بكر في أن يستكمل فتوحاتهلمهاجمة بلاد فارس ولكن علي ما يبدو أن أبا بكر الذي كان يفضل ألاناة والصبر عليالتقدم والإيغال في بلاد العدو وقد مر علي ذلك عاما كاملا دون أن يأذن لخالد بالقتال حتى مل خالد مقامهفي العراق بدون حرب فسمي تلك السنة سنة النساء . (2) وظل هكذا حتىاستدعاه أبو بكر الصديق إلي ميدان الشام ليساند المسلمين هناك حيث أجتمع عليهمالروم .


    أما عمر بن الخطاب فقد نهج منهجا فيه شيء من المغايرة عن منهج الصديق رحمهالله في الحكم فقد عاش معه كوزيره الخاص ومستشاره الذي لا يمل وعرف قيمة الاقتداءبنهج النبي e في الحكم ولكنه أضطر أن يجددبعض الشيء وأن يجتهد لمواجهة التحديات الطارئة والمشاكل المستحدثة والدارس لتاريخعمر يقف علي تلك الحقيقة ويدرك كيف كان الفاروق حاكما مجددا مع حرصه الشديد عليالاقتداء بسنة النبي e وعدم الخروج عنها إلا عند بعضالنواحي المستعصية التي لا سند لها في القرآن أو السنة كما أنه كان لا يجتهد إلابمشورة الصحابة فكان يستمع إليهم ويأخذ بأفضل الآراء .


    ولعل هذا المنهج جعله ينظر نظرة مخالفة لقيادة خالد بن الوليد فالقوادكثيرون وميادين الحرب منتشرة في كل مكان وهو في حاجة إلي قيادة ذات دماء جديدةتظهر بجانب خالد بن الوليد الذي كلف بهالجند أشد الكلف واعتبروه القائد الذي لا يهزم وارتفعوا به إلي مكانة كانت أقربإلي التقديس فكل هذه الأسباب مع أسباب أخري سترد فيما بعد كان يري عمر ضرورة عزلخالد .


    ومما يؤسف له أنه علي الرغممن أن عمر وخالدا شخصيتان يعتد بهما الإسلام ويعتز وتشرأب لهما أعماق المسلمينفخرا وعزا وقد عرف عن الرجلين الشجاعة وقوة البأس والعبقرية كلا في مجاله . مماحدا ببعض الرواة أن يشوه تاريخ هذين الصحابيين حسدا عليهما وبغضا لهما فراحوايألفون الروايات ويحيكون الأكاذيب حولهماولنأخذ بعض الأمثلة علي ذلك التشويه الخطير الذي يسيء إلي الصحابيين .

    * * * *


    ( ثالثا )


    مكانة خالد بن الوليد عند كلمن الشيخين






    كان أبو بكر معجبا بقوة خالدوبأسه وحسن بلائه وبراعته الرائعة في الحرب ، وكان خالد يصدق ظن أبي بكر به في كلموطن من مواطن الشدة والبأس . فهو قد فض جموع طليحة ورد من بقي من بني حنيفة إليالإسلام ، وأبلي في هذين الموطنين أعظم بلاء ما أبلاه أحد من قواد أبي بكر في حربالردة ، وهو قد أتي بالأعاجيب في فتح العراق كما سنري ، ولولا أن أبا بكر كانيكفكفه ويهدئ من روعه في القتال لتعجل بعض المواقع التي كانت أيام عمر بينالمسلمين والفرس . ومن يدري لعله كان يسبق سعد بن أبي وقاص إلي فتح المدائن عاصمةالأكاسرة .


    ولكن أبا بكر كان يعرف حدته ، وكان يؤثر الأناة؛ فكان يشدد علي خالد ،ويضطره إلي الوقوف ، حين كان المضي في الحرب أحب شيء إليه لو مالك أمره .([3])


    وقد حوله أبو بكر عن العراقوأرسله إلي الشام منجدا للمسلمين هناك ، وأميرا عليهم ، فكان بلاؤه في الشام أبعدأثرا وأعظم خطرا من بلائه في العراق ؛ فلا غرابة في ان يثق به أو بكر ويعرض عن عمرحين ألح عليه في عزله فهو يري أن خالدا بطلا عجزت النساء علي ان تلدن مثله وكيفيعزله وأبو بكر رحمه الله خير من يقتدي بالنبي w فمنهجه الذي سنه في الحكم وسار عليه مدة خلافته القصيرة هو أنهمتبع ومقتدي بالنبي w وليس بمبتدع فلا غرابة أن يرفض عزل خالد وأن يتمسك به وهو الذيسمي خالدا سيف الله المسلول .


    لكن عمر – رحمه الله – كانينظر إلي الأمور نظرة أخري ؛ كان يريد من القواد أن يسمعوا ويطيعوا ، وألا يجاوزواالقصد في أمر من الأمور ، وألا يعرضواأنفسهم للوم جنودهم لهم وإنكارهم عليهم ، فضلا عن لوم المسلمين وإنكارهم . وكانيريد أن يكون القواد حراصا أشد الحرص علي العدل والنصفة ، وأبعد عن السرف والجور .وكان أمر الدين ومثله العليا آثر عنده من أمر الحرب وما يكون فيها من انتصار أوهزيمة ، وما يكون فيها وفي أعقابها من إخافة الناس وترهيبهم .


    فلما رأي خالدا قتل رجلايشهد بعض المسلمين العدول من أصحاب النبي بأنه كان مسلما ، ولما رأي أن خالدا أسرعبعد قتل هذا الرجل إلي التزوج من امرأته ؛ ألقي في روعه أنه لم يقتله في ذات الله، وإنما قتله استجابه لما في طبعه من العنف أولا ، وابتغاء لمتعة من متع الحياةالدنيا ، وفي اتخاذ امرأة مالك لنفسه زوجا ثانيا ، فثار لذلك أشد ثورة وأعنفها ،وأشار علي أبي بكر بعزل خالد ؛ فلما امتنع عليه أبو بكر سمع وأطاع ، وكظم ما فينفسه ولم يغير رأيه في وجوب عزل خالد . ولما رأي أن جماعة من خيار أصحاب رسول اللهمن المهاجرين والأنصار قد قتلوا في حرب اليمامة ، وأن قتلي المسلمين في تلك الحربقد بلغوا إحدي عشرة أو اثنتي عشرة مائة ، ثم رأي أن هذا المصاب الفادح لم يمنعخالد من أن يتزوج بنت مجاعة مع أن العهد لم يبعد بتزوجه أم تميم بعد قتل زوجها مالك.


    لما رأي عمر هذا كله بلغ الغضب منه غايته ، وكأنه راجع أبا بكر في أمر خالد، فلم يزد أبو بكر علي تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه آنفا . ([4])

    * * * *
















    1- أنظر بن كثير ج6 صـ 322 .


    1- الشيخان ط دار المعارفالطبعة الثانية صـ 79 .
    2- المصدر السابق .


    1- الشيخان صـ75 .


    1- الشيخان صـ77 .



  10. #10
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثالثة )


    تحرير العرب خارج الجزيرة منسلطان الفرس والروم


    أطمئن أبو بكر ومن معه منأصحاب النبي e إلي أن العرب الذين ارتدوا قدعادوا إلي حظيرة الإسلام كما كانوا سواء طائعين أم مجبرين . ثم تطلع الصديق بعدذلك إلي تحرير العرب المتفرقين خارج الجزيرة والتابعين لملك الفرس والتابعين أيضالملك الروم وكان المسلمون يرون في ذلك تأمينا لحدود الجزيرة العربية من ناحيةوتحريرا للعرب الخاضعين للفرس والروم من حكم الأجنبي من جهة أخرى . ولم يكن الصديقوأصحابه بدعا في ذلك فقد سبقهم الرسول e في الاهتمام بحدود الجزيرة وقد ركز صلوات الله عليه علي ما يليالروم حين أرسل جيشا إلي مؤتة ، وحين أعد جيش أسامه وأمر بإنفاذه ولكنه أجل لمرضه e ولوفاته .


    كان أبو بكر والمسلمون معه يدركونأهمية تحرير العرب في الحيرة والغساسنة من ربقة الفرس والروم ولم لا يفعل ذلك وقدأسلم العرب جميعا داخل الجزيرة ولم يبق إلا هؤلاء العرب المتفرقون خارج الجزيرةالعربية . وقد يظهر أمامنا ونحن بعد دراسة تلك القضية تساؤل مهم وخطير لابد أننبرزه أمام القارئ المسلم الكريم فنقول إذا أراد الصديق أن يبدأ القتال ليرد العربمن حوزة الفرس والروم فبأي ميدان يبدأ ؟ أيبدأ بتحرير العرب في ميدان الفرس ؟ أميبدأ بتحرير العرب في ميدان الروم ؟ المتبادر إلي الذهن عند الإجابة عن هذاالتساؤل ؛ أن يبدأ الصديق بتحرير العرب في ميدان الروم وذلك لسببين : أ)ليتم ما بدأه الرسول في هذا المجال فالرسول بدأ بمحاربة الروم ولم يبدأ بمحاربةالفرس . ب) كما انه لابد أن يقتدي بالنبي e لانه متبع وليس بمبتدع .

    (1)


    لماذا الفرس قبل الروم



    ولكن الصديق رحمه الله قدبدأ بميدان الفرس قبل الروم ويبدو أنه قد أضطر لذلك أضطرارا . وترجع أسباب حروبالمسلمين في العراق قبل الشام إلي رجل من المسلمين يسمي المثني بن حارثة الشيبانيوهو من بني بكر بن وائل ومن بني شيبان حيث أمًّر نفسه علي جيش صغير من أتباعه وقامبمحاربة المرتدين من العرب علي ساحل الخليج العربي وقد نجح في ذلك نجاحات كثيرةحتى أشرف علي العراق وظن أنه من السهولة بمكان تحرير العرب في العراق من سلطانالفرس ! ولكنه قبل كل شيء يحتاج إلي أمر من الخليفة يباركه في تلك المحاولةويوافقه عليها فذهب إلي أبي بكر في المدينة وحدثه بهذا الأمر وزينه له وطلب منه أنيأذن له بدخول العراق ومحاربة الفرس لتحرير العرب سكان الحيرة من أيديهم وقد هًّونعليه ذلك الأمر حيث أخبره بان العرب من قومه بني بكر منتشرون في العراق وسوفيستجيبون له ويعينونه إذا أحتاج الأمر لمعونته .


    وقد أستشار أبو بكر أصحابهثم وافق للمثني علي مشروعه ذلك ، وأقبل المثني وأتباعه لاقتحام العراق ولكنه فجيءبالفرس يتمسكون بالعراق يدافعون عنها ولن يفرطوا فيها .


    وقد عرف الخليفة ما أصابالمثني والمسلمين معه وصمم علي أن ينصره ويمده بالقوة اللازمة فأختار خالد بنالوليد بعدما فرغ من أمر اليمامة وأمره بالتوجه إلي العراق وأن يكون هو الأميروالمثني تابعا له ولما كان خالد قد وزع جنوده للراحة بعد اليمامة ولم يبق معه إلاعدد يسير لم يتجاوز الألفين فأمده أبو بكر بالقعقاع بن عمرو وأشترط علي خالد ألايقبل في جيشه من سبق أن ارتد عن الإسلام أو منهزما من أهل الردة وألا يكره الناسعلي الانضمام إليه .


    كما أرسل أبو بكر في الوقتذاته جيشا كان مكتملا بقيادة عياض بن غنم ودفع به إلي دومة الجندل ليقضي علي منأرتد هناك وبعدما ينتهي يتقدم بجيشه إلي العراق ليقاتل بجانب خالد وجعل الصديقالقيادة العامة لمن يصل إلي الحيرة أولا ، فكان خالد هو السباق فأصبح القائد العاموكان عياض تابعا له وقائد من قواده ومع هذه السرعة التي تقدم بها خالد فقد وصل إليالحيرة وقاتل الفرس وقهرهم واستخلص العراق من أيديهم وكان عياض مازال مقيما عليدومة الجندل لم يكن قد فرغ من القضاء علي المرتدين حتي أعانه خالد وهكذا تم فتحالعراق العربي علي أيدي خالد بن الوليد القائد الملهم وقهر جموع الفرس المدافعينعنه .

    * * * *


    (2)


    لماذا رحل خالد إلي الشامقبل أن يتم افتتاح بلاد الفرس ؟



    وقد جاء في الأمر جديد إذأمر أبو بكر خالدا بأن يأخذ نصف جيشه وأن يرحل إلي الشام لمساندة المسلمين هناكحيث تجمعت عليهم الروم ، وبمجرد سماع أهل العراق والفرس برحيل خالد إذ بالعراقينتفض كله علي المثني بن حارثة ولم يستطع المثني أن يقاوم الفرس والعرب المرتدينالمتضامنين مع الفرس ، فعاد إلي المدينة يطلب المدد من الصديق فوجده مريضا وقدأشتد عليه المرض ومع ذلك استمع له أبو بكر وأوصي عمر أن يمده وألا يهمل أمر العراق.


    والمتتبع لأمر العراق آنذاكيجد انه أرتد إلي الفرس مرة أخرى وتورط المسلمون في هذا الأمر الذي كان سببهالمثني أبن حارثة الشيباني وكان من المفروض أن يبقي خالد ليكمل فتوحاته في ميدانفارس وألا يتركه حتى يقضي علي ملك الأكاسرة ولعل سياسة الصديق في هذا الأتجاه كانينقصها شيئا من التأني حيث تعجل في إرسال خالد إلي الشام قبل أن يفرغ من أمرالعراق هذا من جهة ؛ ولعله كان متلهفا أو متشوقا ليكمل ما بدأه النبي في هذا المجالهذا من جهة أخري ولكن من المحقق أنه يوجد سبب أخر هو السبب الأساسي لهذا التوجيهالمفاجئ لخالد بن الوليد .


    وقد توفي أبو بكر رحمه اللهقبل أن يبشر بفتح بلاد الشام وشاء الله أن يقوم أمير المؤمنين عمر بن الخطابباسترداد العراق مرة أخرى من أيدي الفرس والقضاءعلي حكم الأكاسرة وكذلك فتح بلاد الشام واقتناصها من أيدي الروم كما سنوضح بعد .


    ولن ينتهي الحديث عن كفاح أبي بكر وجهاده العظيم قبل أن نثير هذا التساؤلما الذي دفع أبا بكر إلي الحرب في الشام قبل الفراغ من فتح العراق ؟ لأنه من غيرالمعقول أن يفتح القائد علي نفسه جهتين في ميدانين متصارعين وأن يواجههما في وقتواحد يذكر الدكتور طه حسين أن سبب توريط أبي بكر في حرب الشام والذي دفعه إليالقتال في الشام قبل الانتهاء من حرب الفرس والعراق . أقول يرجع ذلك إلي خالد بن سعيد بن العاص الذيأمره أن يقيم بجيشه ردءاً عند مدينة تيماء ليحمي حدود المسلمين من غارات الرومويذكر لكاتب أن الصحابة قد اعترضوا علي تولية خالد بن سعيد أمر هذا الجيش حيث قالوا له إنه رجلمغرور فخور بنفسه سريع الإقدام سريع الإحجام ليس له قدرة علي الصبر أو الجلد أمامالعدو. ([1])


    ولكن الصديق علي ما يبدو قد أصر علي قيادته نظرا لأن المهمة المكلف بهامهمة يسيرة لا تعدو الحراسة فقط وأن يقف مساندا لمن يحتاج إليه من المسلمين ولايقاتل العدو إلا إذا تجمع عليه ولكنه حينما رأي جنود الروم هاجمهم وأراد ان يحققنصرا كخالد بن الوليد ولكن العدو قد صنع له مكيدة حيث ولي متقهقرا نحو بلاد الشاممما أطمع خالد بن سعيد أن يتبعه وأن يكر عليه حتى توغل في أرض الروم فأطبق عليهالعدو من الأمام والخلف وحاصره وهزموه هزيمة منكرة أضطر علي أثرها الفرار حتى دنامن المدينة المنورة ولما عرف أبو بكر بأمره كتب إليه يأمره أن يقيم في مكانه وألايدخل المدينة حتي لا يصيب المسلمين بالهلع ومن هنا فقد أضطر أبو بكر إلي ان يمحوأثر تلك الهزيمة وأن يبدأ بقتال الروم بداية قوية مرعبة فجند الجنود وأمر عليهاالأمراء وخصص لكل أمير بلدا يفتحها ثم يكون واليا عليها . (2)


    وكانت أمراء الجيوش وماوجهوا إليه علي النحو التالي :


    - عمرو بن العاص وكلف بفتحفلسطين وأن يكون واليا عليها بعد الفتح .


    - يزيد بن أبي سفيان كلفبفتح دمشق وأن يتولاها بعد الفتح .


    - وأبو عبيدة بن الجراح كلفبفتح حمص وأن يكون واليا عليها بعد الفتح .


    - وعكرمة بن أبي جهل قد أرسله الصديق مددا إلي خالد بن سعيد فلما أنهزمأتجه عكرمة بجيشه بعيدا عن جموع الروم وأقام علي الحدود بين الجزيرة والشام .


    وتحركت الجيوش الأربعةيخترقون أرض الشام ويصلون بجيوشهم إلي مراكز متقدمة في تلك البلاد الخاضعة للرومبعد أن عبروا الحدود في غفلة من حكام الروم الذين أطمئنوا إلي أنه لن تقم للعرب قائمةبعد هزيمة خالد بن سعيد فوصل أبو عبيدة بجيشه إلي الجابية وهي أحدي قرى دمشق،وأقام يزيد بن أبي سفيان بالبلقاء وهي بلدة من أعمال دمشق وأقام عمرو بن العاصبجيشه بالعربة ببلاد فلسطين بينما شرحبيل بن حسنة قد رابط بجيشه بالقرب من طبرية .


    وقد بهت الروم لتلك الجيوشالتي عبرت حدودها بسرعة فاستدركوا الأمر وأرسلوا بإيذاء كل جيش مسلم جيش من الرومأكثر عددا وأقوي سلاحا وقد ازداد عدد الجنود في جيوش الروم زيادة ملحوظة حتي شعرالمسلمون أن كل جيوش المسلمين متجمعة تعجز عن مواجهة جيشا واحدا للروم منفردافتشاور الأمراء وتكاتبوا ماذا يفعلون فأشار عليهم عمرو بن العاص ان تجتمع جيوشالمسلمين الأربعة في صعيد واحد فهم إذا اجتمعوا لم يغلبوا من قلة ؛ علي الرغم منأن عدد الجيوش الإسلامية كلها لا تتجاوز الثلاثين ألفا أما جيوش الروم فكانت كثيرةالعدد ربما تجاوزت الستين ألفا في تلك المرحلة شديدة التحصين كما أن وطرق الإمدادإليها سهلة وسريعة .


    ولما رأي الروم أن جيوشالمسلمين قد اجتمعت في صعيد واحد فإذ بها تجتمع هي الأخرى في صعيد واحد وأصبحالمعسكران المسلم والرومي متواجهين لا يفصل بينهما إلا شاطئ اليرموك ثم عبر المسلمونإلي الروم ووقفوا تجاههم ولم يقو أحد الجيشين علي أن ينشب المعركة أو يهجم عليالآخر فقد هاب بعضهم بعضا وظلوا هكذا اللهم إلا بعض التناوش الذي استمروا عليه مايقرب من ثلاثة أشهر ولم يستطع أحدهما إنشاب القتال كما قلنا . والحقيقة أن هذا الوقت الذي مر لم يكن في صالحالمسلمين إذا كان فرصة لإزدياد أعداد جيوش الروم وتجهيزها وإعدادها لأن الإمداداتالبشرية والمادية تأتي سهلة وهذا ما أزعج أبا بكر وضاق به زرعا وقال ( واللهلأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ومن ثم أرسل إلي خالد بأن يأتي بنصفجيشه من العراق ليساند المسلمين في ميدان الروم وكان الصديق رحمه الله مطمئنا منقدرة خالد بن الوليد وعبقريته العسكرية وأنه هو ومن معه لن يغلبوا من قلة فالنصرمن عند الله وليس بالكثرة والقلة وقد عرف أبو بكر والمسلمون معه هذا الأمر جيدا فيمعاركهم التي خاضوها مع الرسولe فعلي الرغم من قلتهم فكانوا ينتصرون دائماوالله تعالي يقول : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين). ([2])وهذه الآية ذكرت في القرآن بمناسبة الحرب التي دارت بين طالوت وجالوت وكانالنصر فيها من عند الله وليس بالقلة أو الكثرة .


    وقد وجد خالد أنه أمام أمرصعب لكي ينتقل من الحيرة في العراق إلي الشام في بلاد الروم فكان عليه أن يعبرالصحراء وعبورها مغامرة خطيرة قد تودي بالقائد وجيوشه فهي صحراء قاحلة لم يعرفالمسلمون دروبها ومسالكها بعد . كما أنهاقد تكون عديمة المياه وهذا أمر له خطورته فقد يؤثر علي الجيش فمن أين يأتون بالماءلري الخيول والجنود فلا غرو أن ظهر في عبور خالد لهذه المفازة الصعبة روايات كثيرةالهدف منها إبراز مهارة خالد وإظهار حسن قيادته علي حين أن خالد ليس في حاجة إليمثل ذلك المديح والثناء وإلي مثل تلك الروايات فيقول البعض انه استعان علي عبورالصحراء وعلي مشكلة العطش بتظمئ الإبل ثم سقيها مرة وراء مرة ثم شد أذانها وشدمشافرها وأندفع في الصحراء ومعهم تلك الإبل المظمئة فإذا ظمئت الخيل والمطايا نحرتهذه الإبل وأستخرج الماء من بطونها فسقاها منه وأطعم الناس من لحومها (2) ولعل هذا الرأي الذي ذكره طه حسين ينافيه العلموالأسلوب العلمي الحديث إذ كانت المياه ستختزن في بطون الإبل فإن الكثير منها قداستنفذته الإبل في العرق والبول وما يتبقي من مياه فسوف يتغير طعمه ولونه فتأبيالخيول أن تشربه وخالد بن الوليد ليس في حاجة إلي من يشير إلي ذكائه وعبقريته فيمثل هذه الروايات التي تشبه الأساطير .


    وعندما وصل خالد بن الوليد إلي جيوش المسلمين في الشام أرادأن يوحد القيادة بين هذه الجيوش الأربعة فأقترح علي القواد أن يوحدوا القيادة فيمابينهم وأن تتناوب هذه القيادة علي أن يتولاها كل قائد يوما فيكون قائدا عاماللجيوش وطلب منهم ان يولوه عليهم في اليوم الأول . علي حين هناك من الروايات التيتقول أن الصديق أرسل خالدا قائدا عاما للجيش . والحقيقة ان خالد بن الوليد حينماوصل إلي جيوش المسلمين لم يماكث العدو وإنما أعطي جيشه فترة راحة أستجم فيهاالمحاربون ثم نظر خالد ووجد مشكلة ربما تؤثر علي مسيرة الأحداث في المعركة وهيزيادة عدد جنود الروم زيادة فائقة وملحوظة ولسنا مبالغين في ذلك فالروم يحاربونعلي أرضهم ومن هنا يسهل عليهم تعبئة المزيد من الجنود إذا احتاجوا وهذا الأمر لميتهيأ لجيش المسلمين الذي كان معدوما من تلك الإمدادات . فماذا فعل خالد وكيف واجهتلك المشكلة إن ما صنعه خالد يعد عملا عسكريا عبقريا من الطراز الأول إذ عبأ جيوشالمسلمين تعبئة جديدة لم يعرفها العدو من قبل ، فالروم يعرفون القتال بتعبئةالصفوف بان تجتمع الجنود صفوفا متلاحمة وراء بعضها البعض وهذه التعبئة مفيدة لجيوش الروم إذ كان هناكزيادات في عدد الجنود . من هنا لجأخالدإلي تعبئة جديدة أطلق عليها نظام الكراديس ( مفرد كردوسة والكردوسة مجموعة منالجنود مترابطة فيما بينها يصل عددها من العشرة إلي العشرين جنديا ) فقسم جنوده إلي كراديس كراديس وأخذ يقذف بها العدو قذفا متتابعا في مجموعات ضخمةحتي زحزحت صفوف العدو وبعثرته هنا وهناكومن ثم أصبح سهلا وطعمه سائغة لسيوف المسلمين ورماحهم وانتهت تلك المعركة فيماتعرف في التاريخ بمعركة اليرموك ([3]).


    وقد توفي أبو بكر رحمه اللهقبل أن يفرح بهذا النصر العظيم وذلك الفتح المبين وقد استخلف عمر بن الخطاب والذي أكمل الفتوحات بعدالصديق وقد أرسل رسولا إلي جيوش المسلمين في الروم ينعيهم لوفاة أبي بكر ثم أمربعزل خالد عن القيادة العامة للجيوش وأن يتولاها عنه أبو عبيدة بن الجراح فأستكتمأبو عبيدة هذا الخبر حتى لا يوهن من عزم المسلمين لأن خالد كان يقود المسلمين فيمعركة اليرموك الرهيبة وكان موشكا علي النصر وبعدما أتم خالد هذا النصر أطلعه أبوعبيدة علي فحوى الرسالة فسلم القيادة إليه وأنتظم جنديا تحت أمرته وهذا العزل قدسبق الحديث عنه عند الحديث عن مالك بن نويرة يمكن الرجوع إليه .

    * * * *




    1- الشيخان صـ 91 .
    2- المصدر السابق صـ 92 .


    1- البقرة آيه 249 .
    2- .الشيخان طه حسين صـ95 .

    1- أنظر معركة اليرموك في كتاب عقيدة تغدق نصرا لكاتب هذه السطور د/فتحي زغروتصـ 179 – 198.



  11. #11
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي لماذا رحل خالد إلي الشام قبل أن يتم افتتاح بلاد الفرس ؟

    (2)


    لماذا رحل خالد إلي الشام قبل أن يتم افتتاح بلاد الفرس ؟



    وقد جاء في الأمر جديد إذ أمر أبو بكر خالدا بأن يأخذ نصف جيشه وأن يرحل إلي الشام لمساندة المسلمين هناك حيث تجمعت عليهم الروم ، وبمجرد سماع أهل العراق والفرس برحيل خالد إذ بالعراق ينتفض كله علي المثني بن حارثة ولم يستطع المثني أن يقاوم الفرس والعرب المرتدين المتضامنين مع الفرس ، فعاد إلي المدينة يطلب المدد من الصديق فوجده مريضا وقد أشتد عليه المرض ومع ذلك استمع له أبو بكر وأوصي عمر أن يمده وألا يهمل أمر العراق .


    والمتتبع لأمر العراق آنذاك يجد انه أرتد إلي الفرس مرة أخرى وتورط المسلمون في هذا الأمر الذي كان سببه المثني أبن حارثة الشيباني وكان من المفروض أن يبقي خالد ليكمل فتوحاته في ميدان فارس وألا يتركه حتى يقضي علي ملك الأكاسرة ولعل سياسة الصديق في هذا الأتجاه كان ينقصها شيئا من التأني حيث تعجل في إرسال خالد إلي الشام قبل أن يفرغ من أمر العراق هذا من جهة ؛ ولعله كان متلهفا أو متشوقا ليكمل ما بدأه النبي في هذا المجال هذا من جهة أخري ولكن من المحقق أنه يوجد سبب أخر هو السبب الأساسي لهذا التوجيه المفاجئ لخالد بن الوليد .


    وقد توفي أبو بكر رحمه الله قبل أن يبشر بفتح بلاد الشام وشاء الله أن يقوم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب باسترداد العراق مرة أخرى من أيدي الفرس والقضاء علي حكم الأكاسرة وكذلك فتح بلاد الشام واقتناصها من أيدي الروم كما سنوضح بعد .


    ولن ينتهي الحديث عن كفاح أبي بكر وجهاده العظيم قبل أن نثير هذا التساؤل ما الذي دفع أبا بكر إلي الحرب في الشام قبل الفراغ من فتح العراق ؟ لأنه من غير المعقول أن يفتح القائد علي نفسه جهتين في ميدانين متصارعين وأن يواجههما في وقت واحد يذكر الدكتور طه حسين أن سبب توريط أبي بكر في حرب الشام والذي دفعه إلي القتال في الشام قبل الانتهاء من حرب الفرس والعراق . أقول يرجع ذلك إلي خالد بن سعيد بن العاص الذي أمره أن يقيم بجيشه ردءاً عند مدينة تيماء ليحمي حدود المسلمين من غارات الروم ويذكر لكاتب أن الصحابة قد اعترضوا علي تولية خالد بن سعيد أمر هذا الجيش حيث قالوا له إنه رجل مغرور فخور بنفسه سريع الإقدام سريع الإحجام ليس له قدرة علي الصبر أو الجلد أمام العدو. ([1])


    ولكن الصديق علي ما يبدو قد أصر علي قيادته نظرا لأن المهمة المكلف بها مهمة يسيرة لا تعدو الحراسة فقط وأن يقف مساندا لمن يحتاج إليه من المسلمين ولا يقاتل العدو إلا إذا تجمع عليه ولكنه حينما رأي جنود الروم هاجمهم وأراد ان يحقق نصرا كخالد بن الوليد ولكن العدو قد صنع له مكيدة حيث ولي متقهقرا نحو بلاد الشام مما أطمع خالد بن سعيد أن يتبعه وأن يكر عليه حتى توغل في أرض الروم فأطبق عليه العدو من الأمام والخلف وحاصره وهزموه هزيمة منكرة أضطر علي أثرها الفرار حتى دنا من المدينة المنورة ولما عرف أبو بكر بأمره كتب إليه يأمره أن يقيم في مكانه وألا يدخل المدينة حتي لا يصيب المسلمين بالهلع ومن هنا فقد أضطر أبو بكر إلي ان يمحو أثر تلك الهزيمة وأن يبدأ بقتال الروم بداية قوية مرعبة فجند الجنود وأمر عليها الأمراء وخصص لكل أمير بلدا يفتحها ثم يكون واليا عليها . (2)


    وكانت أمراء الجيوش وما وجهوا إليه علي النحو التالي :


    - عمرو بن العاص وكلف بفتح فلسطين وأن يكون واليا عليها بعد الفتح .


    - يزيد بن أبي سفيان كلف بفتح دمشق وأن يتولاها بعد الفتح .


    - وأبو عبيدة بن الجراح كلف بفتح حمص وأن يكون واليا عليها بعد الفتح .


    - وعكرمة بن أبي جهل قد أرسله الصديق مددا إلي خالد بن سعيد فلما أنهزم أتجه عكرمة بجيشه بعيدا عن جموع الروم وأقام علي الحدود بين الجزيرة والشام .


    وتحركت الجيوش الأربعة يخترقون أرض الشام ويصلون بجيوشهم إلي مراكز متقدمة في تلك البلاد الخاضعة للروم بعد أن عبروا الحدود في غفلة من حكام الروم الذين أطمئنوا إلي أنه لن تقم للعرب قائمة بعد هزيمة خالد بن سعيد فوصل أبو عبيدة بجيشه إلي الجابية وهي أحدي قرى دمشق، وأقام يزيد بن أبي سفيان بالبلقاء وهي بلدة من أعمال دمشق وأقام عمرو بن العاص بجيشه بالعربة ببلاد فلسطين بينما شرحبيل بن حسنة قد رابط بجيشه بالقرب من طبرية .


    وقد بهت الروم لتلك الجيوش التي عبرت حدودها بسرعة فاستدركوا الأمر وأرسلوا بإيذاء كل جيش مسلم جيش من الروم أكثر عددا وأقوي سلاحا وقد ازداد عدد الجنود في جيوش الروم زيادة ملحوظة حتي شعر المسلمون أن كل جيوش المسلمين متجمعة تعجز عن مواجهة جيشا واحدا للروم منفردا فتشاور الأمراء وتكاتبوا ماذا يفعلون فأشار عليهم عمرو بن العاص ان تجتمع جيوش المسلمين الأربعة في صعيد واحد فهم إذا اجتمعوا لم يغلبوا من قلة ؛ علي الرغم من أن عدد الجيوش الإسلامية كلها لا تتجاوز الثلاثين ألفا أما جيوش الروم فكانت كثيرة العدد ربما تجاوزت الستين ألفا في تلك المرحلة شديدة التحصين كما أن وطرق الإمداد إليها سهلة وسريعة .


    ولما رأي الروم أن جيوش المسلمين قد اجتمعت في صعيد واحد فإذ بها تجتمع هي الأخرى في صعيد واحد وأصبح المعسكران المسلم والرومي متواجهين لا يفصل بينهما إلا شاطئ اليرموك ثم عبر المسلمون إلي الروم ووقفوا تجاههم ولم يقو أحد الجيشين علي أن ينشب المعركة أو يهجم علي الآخر فقد هاب بعضهم بعضا وظلوا هكذا اللهم إلا بعض التناوش الذي استمروا عليه ما يقرب من ثلاثة أشهر ولم يستطع أحدهما إنشاب القتال كما قلنا . والحقيقة أن هذا الوقت الذي مر لم يكن في صالح المسلمين إذا كان فرصة لإزدياد أعداد جيوش الروم وتجهيزها وإعدادها لأن الإمدادات البشرية والمادية تأتي سهلة وهذا ما أزعج أبا بكر وضاق به زرعا وقال ( والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ومن ثم أرسل إلي خالد بأن يأتي بنصف جيشه من العراق ليساند المسلمين في ميدان الروم وكان الصديق رحمه الله مطمئنا من قدرة خالد بن الوليد وعبقريته العسكرية وأنه هو ومن معه لن يغلبوا من قلة فالنصر من عند الله وليس بالكثرة والقلة وقد عرف أبو بكر والمسلمون معه هذا الأمر جيدا في معاركهم التي خاضوها مع الرسولe فعلي الرغم من قلتهم فكانوا ينتصرون دائما والله تعالي يقول : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ). ([2]) وهذه الآية ذكرت في القرآن بمناسبة الحرب التي دارت بين طالوت وجالوت وكان النصر فيها من عند الله وليس بالقلة أو الكثرة .


    وقد وجد خالد أنه أمام أمر صعب لكي ينتقل من الحيرة في العراق إلي الشام في بلاد الروم فكان عليه أن يعبر الصحراء وعبورها مغامرة خطيرة قد تودي بالقائد وجيوشه فهي صحراء قاحلة لم يعرف المسلمون دروبها ومسالكها بعد . كما أنها قد تكون عديمة المياه وهذا أمر له خطورته فقد يؤثر علي الجيش فمن أين يأتون بالماء لري الخيول والجنود فلا غرو أن ظهر في عبور خالد لهذه المفازة الصعبة روايات كثيرة الهدف منها إبراز مهارة خالد وإظهار حسن قيادته علي حين أن خالد ليس في حاجة إلي مثل ذلك المديح والثناء وإلي مثل تلك الروايات فيقول البعض انه استعان علي عبور الصحراء وعلي مشكلة العطش بتظمئ الإبل ثم سقيها مرة وراء مرة ثم شد أذانها وشد مشافرها وأندفع في الصحراء ومعهم تلك الإبل المظمئة فإذا ظمئت الخيل والمطايا نحرت هذه الإبل وأستخرج الماء من بطونها فسقاها منه وأطعم الناس من لحومها (2) ولعل هذا الرأي الذي ذكره طه حسين ينافيه العلم والأسلوب العلمي الحديث إذ كانت المياه ستختزن في بطون الإبل فإن الكثير منها قد استنفذته الإبل في العرق والبول وما يتبقي من مياه فسوف يتغير طعمه ولونه فتأبي الخيول أن تشربه وخالد بن الوليد ليس في حاجة إلي من يشير إلي ذكائه وعبقريته في مثل هذه الروايات التي تشبه الأساطير .


    وعندما وصل خالد بن الوليد إلي جيوش المسلمين في الشام أراد أن يوحد القيادة بين هذه الجيوش الأربعة فأقترح علي القواد أن يوحدوا القيادة فيما بينهم وأن تتناوب هذه القيادة علي أن يتولاها كل قائد يوما فيكون قائدا عاما للجيوش وطلب منهم ان يولوه عليهم في اليوم الأول . علي حين هناك من الروايات التي تقول أن الصديق أرسل خالدا قائدا عاما للجيش . والحقيقة ان خالد بن الوليد حينما وصل إلي جيوش المسلمين لم يماكث العدو وإنما أعطي جيشه فترة راحة أستجم فيها المحاربون ثم نظر خالد ووجد مشكلة ربما تؤثر علي مسيرة الأحداث في المعركة وهي زيادة عدد جنود الروم زيادة فائقة وملحوظة ولسنا مبالغين في ذلك فالروم يحاربون علي أرضهم ومن هنا يسهل عليهم تعبئة المزيد من الجنود إذا احتاجوا وهذا الأمر لم يتهيأ لجيش المسلمين الذي كان معدوما من تلك الإمدادات . فماذا فعل خالد وكيف واجه تلك المشكلة إن ما صنعه خالد يعد عملا عسكريا عبقريا من الطراز الأول إذ عبأ جيوش المسلمين تعبئة جديدة لم يعرفها العدو من قبل ، فالروم يعرفون القتال بتعبئة الصفوف بان تجتمع الجنود صفوفا متلاحمة وراء بعضها البعض وهذه التعبئة مفيدة لجيوش الروم إذ كان هناك زيادات في عدد الجنود . من هنا لجأخالد إلي تعبئة جديدة أطلق عليها نظام الكراديس ( مفرد كردوسة والكردوسة مجموعة من الجنود مترابطة فيما بينها يصل عددها من العشرة إلي العشرين جنديا ) فقسم جنوده إلي كراديس كراديس وأخذ يقذف بها العدو قذفا متتابعا في مجموعات ضخمة حتي زحزحت صفوف العدو وبعثرته هنا وهناك ومن ثم أصبح سهلا وطعمه سائغة لسيوف المسلمين ورماحهم وانتهت تلك المعركة فيما تعرف في التاريخ بمعركة اليرموك ([3]) .


    وقد توفي أبو بكر رحمه الله قبل أن يفرح بهذا النصر العظيم وذلك الفتح المبين وقد استخلف عمر بن الخطاب والذي أكمل الفتوحات بعد الصديق وقد أرسل رسولا إلي جيوش المسلمين في الروم ينعيهم لوفاة أبي بكر ثم أمر بعزل خالد عن القيادة العامة للجيوش وأن يتولاها عنه أبو عبيدة بن الجراح فأستكتم أبو عبيدة هذا الخبر حتى لا يوهن من عزم المسلمين لأن خالد كان يقود المسلمين في معركة اليرموك الرهيبة وكان موشكا علي النصر وبعدما أتم خالد هذا النصر أطلعه أبو عبيدة علي فحوى الرسالة فسلم القيادة إليه وأنتظم جنديا تحت أمرته وهذا العزل قد سبق الحديث عنه عند الحديث عن مالك بن نويرة يمكن الرجوع إليه .

    * * * *




    1- الشيخان صـ 91 .
    2- المصدر السابق صـ 92 .


    1- البقرة آيه 249 .
    2- .الشيخان طه حسين صـ95 .

    1- أنظر معركة اليرموك في كتاب عقيدة تغدق نصرا لكاتب هذه السطور د/فتحي زغروت صـ 179 – 198.

  12. #12
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    ( النازلة الرابعة )
    عمـــر ومشكلـة الفتـوحـات
    تمهيد
    لله في خلقه شئون منهاالابتلاء والفوز والفقر والغني والنصر والهزيمة ومصارعة الحق للباطل إنها سنةالعقائد والدعوات لابد من بلاء ولابد من أذي للأموات ولابد من قتل وجرح لمصارعةالباطل ولابد من صبر ومقاومة وعزيمة وانه الطريق إلي الجنة وقد حفت الجنة بالمكارمبينما حفت النار بالشهوات .
    ومعرفة تلك السنن ضرورة لابدمنها للإنسان المؤمن لأنها الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة التي تحملالدعوة وتنهض بتكاليفها ومن ثم إبراز مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال وهوطريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية في حقيقة الناس وحقيقة الحياة .
    كل ذلك مهم لكي يصلب عودالدعوة الإسلامية ويصلب معها أعواد الدعاة لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم وهميزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية ويعرفون حقيقة النفس البشرية وخباياهامن أجل ذلك فلا بد أن نبدأ هذه القضية بالحديث عن سنن الله التي لا بد أن نتبصرهافي فتوحات العراق وبلاد المشرق آنذاك ومن تلك السنن :
    - سنة الأخذ بالأسباب:
    قالتعالى:} وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْقُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْوَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَاتُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَتُظْلَمُونَ(60) {([1])
    وقد طبقالفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآيةوأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ ولم يتوان في ربط الأسباب بالمسبباتويعمل عي إبراز هيبة الخلافة في أعين أعدائها بالإعداد للقوة المادية والمعنوية.
    - سنة الابتلاء:
    قالتعالى: } أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَوَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَآمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) { ([2])
    وقد وقعالبلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف منالمسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قالتعالى: } لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْوَأَنْفُسِكُمْ...{ (2)
    ومنالملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء فيأقوى صورة من الجزم والتأكيد ، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد منبلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام ثم انظر إلي الطاعون .
    - سنة التدافع:
    قالتعالى:} وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَبَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىالْعَالَمِينَ(251) { (3)
    وقدتحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى فيكونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعبالمسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض بهوسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذهسنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية .
    - سنة الله في الظلم والظالمين:
    الظلم هو وضع الأمر في غير موضعه أما الكاذب ظالم ،والكافر ظالم ، وعاقبة الظلم وخيمة هي عاقبة للجميع الصالح والطالح قال تعالى: } ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُعَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُواأَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَتَتْبِيبٍ(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌإِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) {([3]).
    وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولةالفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط اللهعليها المسلمين فأزالوها من الوجود .
    - سنة التدرج:
    خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانتالمرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأماالمرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركةالبويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد فيالعراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأماالمرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.
    إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهميةمراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويلولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضعبإرادة الله لهذه السنة.
    - سنة الله في المترفين:
    قال تعالى: } وَإِذَاأَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَافَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) {(2)
    وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعةمترفيها أي متنعميها
    وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالىالمترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلالوما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد ، وقدمضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم وما كانوا يرفلون فيه من حرير وطرز وديباجوقصور شاهقة ، فقد قضي الله عليهم وأبدلهم الله بأمه أفضل منهم تمتعوا بأموالهموحولوا بعض قصورهم إلي مصلي يقام فيها اسم الله.

    - سنة الله في الطغيان والطغاة:
    قال تعالى: } إِنَّرَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14){([4]) . والآيةوعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم .
    وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به .
    وواضح من أقوالالمفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزالالعقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري علىالحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحدمنهم من عقاب الآخرة .
    وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب فيالدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة اللهقانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكرما حلّ بفرعون من سوء العقاب } فَأَخَذَهُاللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى(25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْيَخْشَى(26) {(2) ، فهؤلاء الطغاة منزعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.
    - سنة تغيير النفوس:
    قال تعالى:} إِنَّاللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...{ï€ممنوع وضع روابط لمواقع اخرى http://www.alnssabon.com/index.php (3)
    وقد قامالصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنةالربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله ـ فشرعوا في تربية الناسعلى كتاب الله وسنة رسوله r ـ فغرسوافي نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.
    - سنة الله في الذنوب والسيئات:
    قال تعالى: } أَلَمْيَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِمَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًاوَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْوَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6) {([5])
    وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التياقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنةمطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ،وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذتبأسبابه للاستزادة يرجع إلي كتاب فصل الخطاب في سيرة بن الخطاب للدكتور علي محمدالصلابي ( بتصرف ) .
    واجهت عمر العديد من المشكلات بسبب أتساع الفتوحات في ميداني الفرس والرومبعضها يخص البلاد المفتوحة ذاتها ، وبعضها يخص قيادة الجيوش ونظام عملها ، وبعضهايخص تنظيم النواحي المالية والبعض الآخر يخص توزيع العطاء علي المسلمين إلي غيرذلك من مسائل سوف نتناولها علي النحو التالي :

    * * * *
    (1)
    مشكلة تقاعس المسلمين للجهاد فيميدان الفرس .
    من المشاكل او النوازل التي واجهت عمر في مهد خلافته مشكلة الفتوح وتلكالجيوش التي أرسلها أبو بكر إلي العراق ثم الشام ومن المعروف أن أبا بكر قد بدأ إرسالجنودة إلي العراق بسبب المثني بن حارثة الشيباني الذي هون عليه فتح العراق وقد نجحأبو بكر في ذلك ففتح العراق العربي وخلصالعرب من سلطان الأكاسرة في العراق و الحيرة ولكنها ارتدت إلي سلطان الفرس مرةأخرى بمجرد رحيل خالد إلي ميدان الشام وقد أوصي الصديق عمر بأن ينجد المثني بنحارثة الشيباني وأن يعمل علي استعادة العراق العربي مرة أخري فأخذ عمر يندب الناسللمساهمة في حرب العراق ولكن أكثر الناس لم يستجيبوا لدعوة عمر لأن الحرب في ميدانالفرس كانت أشد ضراوة من حرب الروم وأغلب الجيوش كانت في راحة بعد العناء الطويلفي معارك المرتدين وفتح العراق من جهة كما أن أبا بكر كان لا يسمح بتجنيد المرتدينفي الجيوش خوفا من تذبذبهم أو فرارهم من الزحف .
    ولعل تراخي المسلمين آنذاك عن الإسراع إلي الجهاد في سبيل الله وإليالانتظام في الجيوش يكون مرده شيء من إهمال العقيدة حيث تناوبت الأحداث في ذلكالزمان وظهرت بدعة المرتدين والمتنبئين وكثرت الشائعات وظهر المنافقون في كل مكانمن هنا تراخي البعض عن المبادرة والإسراع للجهاد .
    وعلاج تلك القضية يتركز دائما في أنه ينبغي علي المسلم أن يؤمن تمامالإيمان بسنن الله التي يجريها الله دائما علي خلقه إما في الطبيعة والكون ، وإمافي النصر والهزيمة ، وإما في محاربة أهل الإيمان والعقيدة لأهل الكفر والضلال ،ويدرك أن القضاء والقدر حلوه ومره إنما هو من قضاء الله ولا معقب لحكمه ولا رادلقضائه .
    رأي عمر عدم استجابة الناس للجهاد في سبيل الله فأخذ يلح علي الناس ويثيرهمإلي الجهاد ولم يكتف بذلك بل سمح بتجنيد المرتدين مخالفا أبا بكر في هذا الأمرولعل لعمر بن الخطاب عذره في ذلك فقد مر علي المرتدين سنون طويلة أدت إليثباتهم علي إيمانهم كما أن ميادينالفتوحات اتسعت في عهد عمر وكانت في حاجة ماسة إلي الحشود الكثيرة .
    وكان من نتيجة إلحاح عمر انقام رجل غيور علي الإسلام وهو أبو عبيدة بن مسعود الثقفي الذي استطاع أن يجمع ألف رجل من المهاجرين والأنصار ومن ثم أمره عمرقائدا عليهم وقد أعترض بعض الصحابة علي تولية أبي عبيد بن مسعود قيادة هذا الجيشوقد طلبوا من عمر أن يولي عليها أميرا من كبار الصحابة ولكن عمر رفض لأنهم تقاعسواعن الجهاد وكرهوا لقاء العدو وقد تجمع مع جيش أبي عبيدة جموع من اليمن ومن العربالذين ارتدوا ثم عادوا إلي الإسلام وبدأ أبو عبيد يقود جيشه نحو العراق وقبل أنيخرج أوصاه عمر بالحزم والآناه والتروي وحسن التدبير وأنضم المثني بن حارثة بجيشهإلي جيوش أبو عبيد وكان تابعا له وصارت الجيوش حتى وصلت إلي نهر الفرات وكان العدوفي الضفة الأخرى منه وكان أبو عبيد شجاعا جريئا وقد يتهور أحيانا فتغلبه شجاعتهوجرأته وصبره وتريثه ففي معركة الجسر القادمون عليها قد أشار عليه أصحابه ألا يعبرالفرات للقاء الفرس وأظهروا له فائدة ذلك فإن أتيح له النصر فكان نعمة من الله وإنهزم وجد الأرض من ورائه يأوي إليها لينحاز إلي فئة أخرى حيث يأته المدد ولكنه رفضذلك وكره أن تكون الفرس أجرئ منه علي الموت فعبر بالناس النهر ولم يكتف بذلك بل أمربهدم الجسر الذي عبروا عليه حتى لا يفر أحد من المسلمين ولكنه قد أخطأ خطأاستراتيجيا خطيرا حيث حصر الجنود بين عدو قوي وبين نهر يغرق من يلجأ إليه ثم أتجهالمسلمون وراء قائدهم مدفوعين تضطرم في نفوسهم روح الجهاد في سبيل الله فإذ بهميرون مفاجئة عجيبة حيث كان أعداؤهم الفرس يقاتلون باستخدام الفيلة وهذه تعبئةجديدة لم يأنفها العرب ولا خيولهم فكانت الخيول تنفر من الفيلة وكان في مقدمة هذهالفيلة فيل كبير طعنه أبو عبيد بحربته فإذا بالفيل يثور ويهيج ويهجم علي المسلمينوقتل منهم أعدادا كبيرة في مقدمتهم أبو عبيد بن مسعود وبقي من المسلمين بقية قليلةبعدما قتل أغلبهم واضطرت هذه الفئة القلية إلي الفرار فكانوا يغرقون في النهر حتىجاء المثني بن حارثة وأقام الجسر هو ومن معه وعبروا النهر بعدما أثخنوا بالجراحاتورجع بعضهم إلي المدينة مهزوما جريحا منهك القوي وهم يبكون . ولما علم عمر بذلك أتي بهم وأخذ يطيب خاطرهمحيث كانوا يخافون الله ان يكونوا من الفارين كما جاء في سورة الأنفال:} يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبرة إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلي فئة فقد باء بغضب من اللهومأواه جنهم وبئس المصير{ وقال لهم عمر أنكم لم تفروا إنما انحزتم إليفسوف أكون فئتكم وبذلك لم يتعرضوا لعقابالله الذي توعد به الفارين وبكي عمر طويلا وقال رحم الله أبا عبيد لو أنحاز إليلكنت فئته .
    وقد أنشغل عمر بالجهاد فيميدان الفرس بعد واقعة الجسر التي سبق الحديث عنها وأراد ان يخرج بنفسه إلي حربالفرس وقد خرج بالفعل من المدينة علي رأس الجيش وقد استحسن ذلك بعض الصحابة ليكون في اشتراكه فيالحرب تحريض للمسلين وتشجيع لهم . بينما أشار عليه الكثير من أصحابالنبي أن يبقي في المدينة ليمد الجيوش بالأمداد اللازمة فوافق علي ذلك وعين سعد بن أبي وقاص قائدا علي ذلك الجيشوأوصاه ألا يغامر بالمسلمين وأن ينزلهم علي أدني حجر للمسلمين وذلك بين حضرالعراق ومدر العرب وأن ينتظر هناك إلي أن يوافيه بالمدد .
    والحقيقة أن عمر بن الخطابقد واجه جهد ومشقه في إمداد ميدان العراق بالجنود والإمدادات الأخرى ، وقد كانتالعرب تكره لقاء الفرس ويفضلون الجهاد في الشام ولكن عمر لسياسته الحكيمة كانيرغبهم في الجهاد في العراق .
    ولكي يتفادى الخطأ الذي وقعفيه أبو عبيد بن مسعود الثقفي فقد أمر سعدبن أبي وقاص أن يرابط بجيشه في المكان الذي حدده له وأن ينتظر أمر عمر وينتظر أيضاقدوم الفرس عليه وطلب منه الخليفة أن يكتب إليه بأحوال المسلمين يوما بيوم أولابأول وألا يغادر منزله وينزل منزلا أخر إلا وصفه لعمر حتى يكون عمر مع المسلمينهناك بما يصله من أخبار .
    وإذا كانت حرب الفرس تعدنازلة من النوازل الكبري بانها كانت سلسلة من المعارك طويلة وشاقة أجهدت المسلمينواتعبتهم فإن عمر بن الخطاب قد واجه تلك المشكلة بكل صلابة وقوة حتى وصل منها مايريد .
    فتح المدائن
    وقبل الحديث عن فتح المدائنأود أن أعرج علي قضية تعد من القضايا المهمة المتعلقة بالفاروق عمر وهي كرهه للحربفقد يظن البعض أن عمر بن الخطاب كان يحب الحرب ويحب استمرارها ولكن الحقيقة أنهيكره الحرب ويمقتها وإنما دفعه إليها هو حرصه علي أن يؤمن العرب في جزيرتهم فيالشام والعراق وان يحررهما من الحكم الأجنبي وتروي كتب التاريخ أن عمر بن الخطابكان يمنع المسلمين من أن يقتحموا علي الروم حدودهم ويتوغلوا في بلادهم ومن دلائلذاك أن عمرا بن العاص لم يستطع أن ينتزع الأذن بفتح مصر من عمر إلا بصعوبة ومشقةوعندما أراد معاوية أن ينتزع منه أذن بفتح قبرص فرفض وحذره أن خالف أمره وركبالبحر . أما عن جيش سعد بن أبي وقاص الذي حدد له عمر موقعه في مكان وسط من الباديةوحضر العراق فقد جاءته جموع الفرس وكان مضطرا إلي أن يشتبك معها فاشتبك معها وكانتالهجمات فيها سجالا بينهم وبين الفرس وطال أمد تلك المعركة حتى كتب الله النصرللمسلمين وكان هذا الفتح هو فتح القادسية .
    ولكن الفرس لم تسكت علي تلكالهزيمة واخذوا يهاجمون المسلمون هجوما متكررا ورأي سعد بن أبي وقاص والفاروق عمر أنشوكة الفرس لم تنكسر إلا إذا غذوهم في عقر دارهم وانتزعوا عاصمتهم ( المدائن ) وتملهم ما أرادوا وقد تمكنت الجيوش المسلمة من الهجوم علي الفرس ودخلوا المدائنواستولوا عليها وهرب منها كسري يزدجرد ملك الفرس وقد دخلها سعد بعدما هرب الملكإلي الترك وحول المسلمين إيوان كسري إلي مصلي .
    وكان هذا النصر العظيمللمسلمين في بلاد فارس محببا إلي نفوس المسلمين وذلك لنشر الدعوة الإسلامية في تلكالبلاد بعد أن وقف ملكها حائلا يمنع دخول الدعاة ومع ذلك فإن عمر كان لا يتمنيالمضي في تلك الحرب ليؤمن سلامة المسلمين وكان يقول : ( وددت لو أن بيننا وبينهمجبلا من نار ) ويقول مرة أخري ( وددت لو أن بيننا وبينهم بحر من نار لا يصلونإلينا ولا نصل إليه ) .

    * * * *
    (2)
    عمر يواجه جموع كسري يزدجرد

    وإذا كان ذلك النصر نصراعظيما للمسلمين وهو كذلك إلا أن الفرس قد صمم جموعها علي أن يستردوا ما فقدوه وأنيثأروا من المسلمين فكانت تلك الجموع تترى ووقف لها المسلمون بالمرصاد وكلما تجمعتفرقها المسلمون حتى تشكلت هذه الجموع خطرا علي المسلمين في العراق وإزاء هذاالإصرار من الجانبين : الجموع الإسلامية والجموع الفارسية كان لابد أن يلتقوا فيأكثر من معركة فقد التقوا في معركة جولولاء وأنتصر عليهم المسلمون كما ألتقوا فيمعركة أخرى وهي معركة نهاوند وانتصر أيضا المسلمون وأخيرا كان اللقاء في حلوانوانتصر المسلمون فيها أعظم انتصار وكان ملك الفرس كلما أنتصر المسلمون في موقعةيهرب لمكان أخر ولن تهدأ الأمور في الفرس إلا بقتل ذلك الملك الذي كان يستعينبالأتراك لاسترداد ملكه وقد ثبت المسلمون للترك كما ثبتوا من قبل للفرس حتىاضطروهم إلي الرجوع والتقهقر إلي بلادهم ومازال يزدجرد مشردا حتى قتل في أيامعثمان علي يد فارسي .
    وقد أقيمت في العراق بعضالمعسكرات ليقيم فيها الجيش ويتخذ منها حصنا لرد غارات الفرس وبمرور الأيام تزاحمالناس علي هذين المعسكرين وهما الكوفة والبصرة وصارا من أهم الأمصار في العراق حيثتولي هذان المصران الكوفة والبصرة الدفاع عن المسلمين من ناحية فقد كانت تخرج منهماالجموع غازية في سبيل الله فيتسع الأرض وتدر الغنائم عليهما أموالا كثيرة وكان حظالكوفة أعظم من حظ البصرة في الغنائم وهما اللذان قاوما جموع الفرس التي كانتتأتلف مع ملك الفرس الهارب وأخذوا يزعجون ذلك الملك عن مدن الفرس مدينة تلو الأخرىحتى أزعجوه عن خراسان كلها وقد فشلت تلك الجموع التي كان يؤازرها الترككما قلنا سابقا وهكذا تم لعمر أن يتغلب علي تلك النازلة وأن يبسط سلطان المسلمينعلي بلاد الفرس كاملة وأمن بذلك حدود الجزيرة العربية ونشر الإسلام في تلك الربوعوالأنحاء الجديدة
    علي أن هذه الأحداث الجسامالمتصلة التي كان بعضها يكفي لاستنفاذ وقت عمر وجهده كله ، لم تكن تمضي دون أنتثير مشكلات ليست أقل منها خطرا . ولا أذكر تدبير هذه الحروب التي اتصلت في الشرقوالغرب ، ورعاية الجيوش المحاربة في كثير من العناية بها ، والإشفاق عليها ،والحرص الدائم علي ألا يتعرض الجنود لما يشغلهم عن الحرب ، أو لما يجعل الحربعليهم ثقلا مضاعفا ، وإنما أذكر مشكلات أخرى كانت تنشأ عن الانتصار في الميادين.
    ومن تلك المشكلات التي كانتتعصف الجنود وهم في ميدان القتال هي مشكلةالقيادة وحجم الحرية التي كان يمنحها كلا من أبو بكر وعمر لقادتهما وقد كان الصديقرحمه الله يعين القادة ويعطيهم حرية عامة بكل تحركاتهم التي يتصف الأداء فيهابالسرعة والعجلة كالالتفاف وتطويق العدو والمباغتة والتعبئة إلي غير ذلك من أمورتكتيكية تخص القادة أنفسهم ولا يستحب لها التأني لعدم فوات الفرصة المناسبة التييحرص عليها القادة آنذاك إذن هناك حجم واسع للحرية التي كان يمنحها الصديق لقوادةعادة إلا عند الضرورة اللازمة والتي تخص الناحية السياسية الإستراتيجية فكان يتدخلالصديق .
    أما عمر بن الخطاب رحمه اللهفقد كان حريصا أن يتولي كل شيء بنفسه ويري أنه مسئول أمام الله عن كل شيء يحدثللمسلمين حتى تلك الأرض التي تعثرت فيها ناقة للمسلمين فلماذا لا يسوي لها الأرض !فحسبك من عمر هذا القول فقد اشتد علي قواده وكان يتدخل في كل شيء في تحركات الجيوشوفي مرابطها إلي غير ذلك .
    وهذه الحقيقة عبر عنها خالدبن الوليد أحد قادة أبو بكر وعمر في وقت واحد حينما طلب عمر بن الخطاب من أبي بكر الصديق أن يأمر خالدا ألا يفعل شيئاإلا بأمره فيروي بن حجر في الإصابة عن الإمام مالك بن أنس ( أن عمر قال لأبي بكرأكتب إلي خالد لا يعطي شيء إلا بأمرك فكتب إليه أبي بكر ذلك فأجاب خالد بقوله : (إما أن تدعني وعملي ، وإلا فشأنك بعملك ) ([6]).فهذا رد قائد مخضرم حازم لأنه يدرك أهمية القيادة الحرة الاستشارية وهيتختلف تماما عن القيادة الاستبدادية فهويري أن يترك القائد في معركته وبين جنوده مطلق اليدين يتنقل كيفما شاء ويأمر كيفماشاء حسب ما يقتضيه عليه طبيعة الموقف والحل المفتوح .

    * * * *
    (3)
    القيادة العسكرية ومشكلة التطبيق العملي فيالميدان
    والحقيقة أن مشكلة القيادة العسكرية آنذاك كانت تتمثل في التطبيق كيف يطبقالمبادئ العسكرية الكبرى التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفةكإجراءات عملية في الميدان وسوف نضرب لذلك مثالا يوضح جوانب تلك المشكلة وهي مساحةالحرية التي ينبغي أن تعطي للقائد في مجال العمليات التكتيكية وقد لاحظنا ذلك منخلال تصرفات القادة مع الخلفاء أو من خلال تصرفات القادة بعضهم مع بعض ومن خلالكتب الخلفاء إليهم وسوف نضرب مثالا يوضح جوانب تلك القضية من خلال موقف أبي عبيدةبن مسعود الثقفي في موقعة الجسر وخالد بن الوليد من خلال موقعة اليرموك :
    عقيدتنا العسكرية بينالثبات والتطور

    وإذا كانت العقيدة العسكرية تنبثق منالأهداف والغايات القومية العليا للدولة وعلى أساسها يتم تحديد الأسس العامةوالمبادئ الأساسية اللازمة للاستراتيجية العسكرية . فهل واءمت عقيدتنا العسكريةالمنبثقة من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بين الغايات القومية للدولةالإسلامية كمطلب أساسى ، وبين مبادئ الاستراتيجية العسكرية ، والتى تعد وسيلةلتحقيق تلك الغايات ؟
    وبمعنى آخر ....... هل سايرت عقيدتناالعسكرية بمصدريها ( الثابت والمتغير ) المفاهيم العسكرية الحديثة بأساليبهاالمتغيرة ونظرياتها العسكرية المتطورة ؟
    إن جوهر العقيدة العسكرية الإسلاميةالتى شرعها الله للمجاهدين من أمة محمد rإلهية المصدر ، حيث يعد القرآن الكريم مصدرها الأساسى ، وقد حرصالرسول صلوات الله عليه فى تربيته للمجاهدين الأوائل على ألا يختلط هذا المصدر بغيره من المصادر ، لأنه كان يريدصنع جيل من الرجال الأقوياء أصفياء القلوب والشعور من أى مؤثر آخر . [7]
    لذا فإن جوهر هذه العقيدة ثابت أصيل غيرمتطور فى ذاته مهما اختلف الزمان وتباينت الأماكن ، فهو منهج ثابت تتطور حركةالمسلم العسكرية فى إطاره حركة وأسلوباً ، وترتقى فى إدراكه وفى الاستجابة له ،وتظل تلك الحركة فى تطورها وارتقائها وتقدمها لأن فيه من المرونة ما يسعها دائماً. فهى حركة عسكرية نامية متطورة ولكنها مقوده منضبطة ، لأن المصدر الذى شرعها هونفسه المصدر الذى خلق الإنسان ويعلم طبيعته وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان.
    والعقيدة العسكرية الإسلامية بهذاالتطور الإسلامى تختلف عن جميع المذاهب والأنظمة العسكرية الوضعية التى تحتاجدائماً إلى التطوير والتغيير ، بل تحتاج إلى التبديل حين تضيق أنظمتها عن حاجاتالبشرية فى حجمها وأساليبها المتطورة آنذاك .
    إن هذا الشق الثابت يمثل الجانب النظرىفى الحرب ونجده موجوداً فى جميع العسكريات منذ أن ظهرت الحرب البدائية حتى اليومفى الحروب المتطورة ، وتشمل : أسباب الحروب – المعاهدات – مبادئ الحرب - نظرياتالردع الاستراتيجية ـ معاملة الأسرى – معاملة الأمم المغلوبة – استعمال السموم –النيران بأنواعها – الإجهاز على القتلى – موقف المحاربين من الأطفال والنساءوالمستشفيات ودور العبادة إلى غير ذلك من أمور وقضايا لا خلاف حولها فى الثوابت . [8]
    والمتأمل فى هذه القضية الثابتة فىالعقيدة العسكرية الإسلامية ، يجدها قد شرعها المولى سبحانه وتعالى وأوصى بهاالنبى r لصالح الإنسان مهما كانذلك الإنسان حتى ولو كان العدو ، فقد كان الرسول rيوصى القواد بعدم قتل الأطفال والشيوخ والنساء والمنقطعين للعبادة، وعدم إتلاف زرع أو حرق نخيل أو هدم بيوت ، فإن ذلك من قوانين الأمم المتحدةاليوم التى تتجاهلها الدول ولا يستجيب لها المقاتلون ولا أدل على ذلك من موقفإسرائيل مع الشعب الفلسطينى فلم تتورع من قتل الأطفال الأبرياء والشيوخ والنساء ،وكم من منازل هدمت على رؤوس أصحابها ، وكم من شباب نفوا عن وطنهم . وإذا كان لنامن تساؤل حول سبب هذا التناقض بين عقيدة عسكرية ترحم الإنسان حتى ولو كان خصماً ،فلا تبالغ فى القتل أو الضغط على الجيش المهزوم طالما وصل القائد إلى هدفه المشروع، وبين جيوش لا عهد لها ولا أمان وكيف تتفنن فى القتل والذبح على مسمع ومرأى منالناس أقول السبب فى ذلك يرجع إلى اختلاف مصدر كل من العسكريتين ، فإحداهما مصدرهربانى والآخر وضعى من صنع البشر . إذنً هذا هو الشق الأول من عقيدتنا العسكرية: وهو كما عرفنا شق ثابت خاص بالمبادىء ، وهو عبارة عن مجموعة الأصول العسكريةالتى جاءت بها نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة ليلتزم بها العسكريون المسلمونفى كل زمان ومكان بغض النظر عن درجة التطور العسكرى الذى وصلت إليه العسكريةالإسلامية وأساليبها المختلفة .
    أما الشق الثانى من عقيدتنا العسكرية :وهو شق متغير خاص بالتطبيق وهو عبارة عن الأساليب والخطط الحربية والحلول العسكريةالتى يكشف عنها قادة المسلمين وذلك بهدف إحالة أصول العقيدة ( الشق الأول ) إلىواقع عسكرى عملى وهو يختلف باختلاف العصور والبيئات ، وقد حدث تطور هائل فى هذاالشق ، كما أختلف نصيب الدول فى درجات التقدم أو التخلف فيه ، وأعنى به السلاحوالخطط العسكرية .
    وإذا كانت غاية كل تشريع تتجلى فىتطبيقاته ، فقد حث الإسلام على الاجتهاد وكافأ عليه أن أصاب المجتهد من القواد أوأخطأ . وقد أقر الرسول صلوات الله عليه والخلفاء الراشدون من بعده هذا المبدأوأعطوا قوادهم حق الاجتهاد لتطبيق مبادئ العقيدة العسكرية فى معاركهم حسب تقديرهمللموقف العسكرى وما يعترضهم من صعاب وعقبات ، وهم بذلك لا يشرعون حكماً من عندهم ،وإنما يكشفون عن حكم الله فيما يعترضونه حسب ظنهم واعتقادهم كما سنوضح فيمابعد .
    إن هذه الخاصية " الحركة العسكريةداخل إطار أو محور ثابت " هى قدرة الله العجيبة وآية عظمته وسر معجزة عقيدتناالعسكرية التى توائم بين الأصول الثابتة منذ أربعة عشر قرناً من الزمان وبينالفروع المتغيرة تبعاً لظروف الزمان المكان .[9]
    وفى اعتقادى . إن أبناء أمتنا العسكريينينقصهم الإلمام الكافى بشقى عقيدتنا العسكرية ، حتى نكون خير خلف لخير سلف ، فكيفنكون جنود الله ونجهل عقيدتنا ؟ وكيف نخوض معركة نبتغى فيها نصر الله ونحن غافلونعن عقيدتنا العسكرية ؟
    لقد انتصر المسلمون الأوائل بعقيدتهمالتى تضطرم بها نفوسهم فميزتهم بصفات افتقر إليها أعداؤهم ، وكانت تلك الصفاتأسلحة بتارة فى المعارك تثبت الأقدام وتربط الجأش وتزلزل كيان العدو . إنها صفاتالمجاهدين التى غرستها العقيدة فى قلوب الرجال وتعهدها رسولنا الكريم بحكمته فاستحقوا أن يكونوا جند اللهوحاملى رسالته .
    كيف تم التواؤم فى عقيدتنا العسكرية بينجانبى : النظرية والتطبيق ؟
    والمتتبع للنشاط العسكرى كنظام من أنظمةالدولة الإسلامية يجده نشاطاً حراً يتحرك فى كل المحاور وعلى جميع المستويات ،ولكنه نشاط ذو حركة منضبطة حول محور عقائدى ثابت لا يخرج منه ولا ينفلت عنه ،لتبقى حركة صائبة مستهدية . ولتوضيح تلك الخاصية الهامة سنتناولها من خلال شقىالعقيدة الثابت والمتطور سالفى الذكر بطرح عدة أسئلة توضيحية لنرى كيف اتزنتالحركة العسكرية الإسلامية بين تلك الأصول " النظرية " وبين الجديد منواقعنا العسكرى الذى نعيشه " التطبيق " .
    أولاً: الأصول الثابتة " النظريات "

    وهى الأصول والمبادئ التى جاء بهاالقرآن الكريم وأقرتها السنة النبوية ، وهى ربانية بحتة ، هبة الله لخلقه ، لايجوز الخلاف حولها كما قلنا .
    وسوف أتناول قضية واحدة تعد أصلاً منأصول عقيدتنا العسكرية الثابت والتى جاءت كل المبادئ والأصول من أجل تحقيق هذهالغاية وهى "خلافة الإنسان فى الأرض"
    لقد أعلت عقيدتنا العسكرية من شأنالإنسان فنظرت إليه على أنه مخلوق مكرم على سائر المخلوقات فى الأرض مستخلف منالله فيها ، وقد سخر له كل شىء فى تلك الأرض . ومن ثم فليست هناك قيمة مادية فيهاتعلو قيمة الإنسان وتهدر من أجلها كرامته، هذه حقيقة ثابتة وأصل من أصول عقيدتنا العسكرية ، فكيف تحرك الإنسان المسلمحركته العسكرية من خلاله ؟ [10]
    انطلق الإنسان ليحقق خلافته فى الأرضويؤدى رسالته التى كلف بها بصور شتى من النشاط الزراعى والصناعى والتجارى وغير ذلكمن أنشطة تفى باحتياجاته الضرورية التى تعينه فى أداء تلك الرسالة .
    فإذا ما ظهر ما يخالف هذه الحقيقة التى تعطلخلافة الإنسان فى الأرض أو يعوق حركته المؤدية إليها ويمتهن بها كرامته وإنسانيتهبأن يعتدى على أرضه التى بها مجال رزقه ومعاشه ، أو يروع أمنه وحماه أو تعاق حركةعقيدته من الانتشار ، كانت الحرب هى البلسم الذى يزيل عنه شقاءه ويرجع ثوب خلافتهليستعيد مكانته فى الأرض .
    إذن.... الغاية التى شرعت من أجلها الحرب فى الإسلام هى تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض. ولو نظرنا نظرة يسيرة إلى بواعث الحروب الإسلامية حتى يومنا هذا لوجدناها من أجلتحقيق هذه الغاية ، فيوم أن انطلقت جنود الله إلى ميدانى الفرس والروم لم يكنهدفها الغزو أو التوسع ولكنها حملت مشعل الهداية فى يد ، والسيف لمن يعوق هدايتهفى يد أخرى لنشر الإسلام وتحرير الإنسان من ربقة العبودية ونير التسلط التى أثقلتكاهله بها أكاسرة الفرس وقياصرة الروم . هذه الحركة العسكرية وذلك النشاط العسكرىلم يكن له سوى هدف واحد هو تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض .
    ومنخلال هذه الغاية الفريدة جاء النشاط العسكرى الإنسانى لجيوش الإسلام لتفصل بينالنور والظلمات وبين الحق والباطل لتمكن الإنسان من دوره الرئيسى لعمارة الأرضوعبادة الله وقد نتج عن تلك الحقيقة بعض الأصول فى عقيدتنا العسكرية التزم بهاالمحاربون المسلمون فى كل زمان ومكان ومنها :-
    • قصرأسباب القتال فى الإسلام على أمرين هما :-
      أ ـ ردالعدوان . ب ـ إفساح الطريق لنشر الدعوة وضمان وصولها إلىشعوب الأرض وإخراج الإنسان من عبادة الإنسان إلى عبادة الله الواحد الأحد وبذلكتتحقق للإنسان إنسانيته وخلافته له على هذه الأرض بصورتها الصحيحة وبناء على هذاجاءت استراتيجية الجهاد فى سبيل الله دفاعية هجومية تجمع بين الدفاع والهجوم حسبمقتضيات الموقف والحلول المفتوحة لدى القائد المسلم [11]
      1. ـ عدم إكراه أحد علىالدخول فى الإسلام ، وإنما السبيل إلى ذلك الإقناع عن طريق الموعظة الحسنة وإيقاظالمشاعر ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ، إنربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )([12])
      2. ـ عدم الفرار منالزحف أمام العدو إلا لأمرين : الانضمام إلى قوة أخرى ، أو لرسم كمين يخدع بهالعدو . يقول الله تعالى : ( يأيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلاتولوهم الأدبار فمن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باءبغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )([13]).
      3. ـ إعداد القوةالعسكرية اللازمة لإرهاب العدو وإخافته من أن تسول له نفسه الاعتداء على حمى الإسلاموهو ما يسمى بنظرية الردع فى العرف العسكرى الحديث وهى نظرية سامية تحمل فى طياتهاالدعوة السلمية لحقن الدماء . قال الله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومنرباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهموما تنفقوا من شئ فى سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون )(3)
      4. ـ الحرص على الدخولفى السلم حيث أنه هو الغاية المرجوة من إعداد القوة قبل خوض أية حرب ، وقد دعتإليه عقيدتنا الإسلامية ! يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلمكافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين )(4)
      5. ـ فض المنازعات التىتقع بين المسلمين بالصلح والطرق السلمية أولا ، فإن لم تفلح الطرق السلمية يكونبالأخذ على أيدى الفئة الباغية التى لم تستجب لنداء الصلح حتى تعود إلى صوابهاورشدها ، ثم يتم الصلح بين الفئتين . قال الله تعالى " وإن طائفتان منالمؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغىحتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحبالمقسطون "(1)
        هذهبعض الأصول الثابتة فى عقيدتنا العسكرية تدور جميعها فى فلك واحد لتحقيق غاية فضلىهى " خلافة الإنسان فى الأرض " بالصورة التى يجب أن يكون عليها الإنسان. [14]
        وربما يسأل سائل وما جدوى هذه الأصول الثابتة التى تعد محوراثابتاً تدور فى فلكه الحركة العسكرية ونشاط قوتنا المسلمة ؟
        إنقيمة وجود هذه الأصول الثابتة فى عقيدتنا أن تكون بمثابة ضابط للحركة : لحركتناالعسكرية حتى لا تمضى شاردة على غير هدى أو وعى فتجر على الإنسانية عواقب وخيمة ،فهى الميزان الثابت والحساس الذى يقربها من الحق والصواب ، ويبعدها عن الباطلوالعبث ، وبذلك تظل حركتنا العسكرية فى دائرة الأمان بعيدة عن التيه والضلال ولاتمضى مع الشهوات والمؤثرات . قال الله تعالى ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماواتوالأرض ومن فيهن )(2)

    ثانياً: الأساليب المتغيرة " التطبيق "

    أماالشق الثانى ، وهو المتغير والخاص بالتطبيق ، والذى يشمل الأساليب والخطط الحربيةوالحلول العسكرية التى يجتهد فيها قادة الحرب وفق ظروف المعركة وتقدير الموقف !وهذا ما يتعلق بإدارة العمليات الحربية وتوجيه القوات أثناء سير القتال وغير ذلكمن أمور تتعلق بالفن التكتيكى ، ففى هذا المجال متسع كبير أمام القادة حيث تبرزمهاراتهم الفنية ومقدرتهم العسكرية البارعة بما تتفتق عنه قريحتهم من أفكار وحيلفى طرق الحشد وادخار القوى والمباغتة والتعرض وخفة الحركة ، وسلامة قواتهم ،وتعاون مختلف القوات ، والمطاردة ، وغير ذلك من مبادئ الحرب والتى تعد المحكالأساسى للقائد الفذ حيث تظهر من خلالها مقدرته البارعة على الاستنباط والاجتهادلتطبيق مبادئ وأصول الحرب الأساسية . وسوف نتناول بعضاً من الأمثلة التطبيقية فىعقيدتنا العسكرية لنثبت من خلالها أنها وسائل مختلفة من عصر إلى عصر بقصد التطبيقوهى وسائل تتسع مساحاتها كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية وكلما اتسع مجال العلمالإنسانى فى المجال العسكرى .

    مثاليجمع بين النظرية والتطبيق :

    وممايجدر التنبيه إليه ، أن أساليب التطبيق هذه مهما اختلفت صورها وأشكالها باختلافوجهات النظر وآراء المجتهدين فإنها تدور فى فلك المبادئ والأصول العامة للعقيدةالعسكرية الإسلامية فى مجال إدارة الحرب فمثلا من الأصول النظرية الثابتة هو" الثبات أمام العدو " وعدم تولية الأدبار مهما كانت الظروف إلا فىحالتين تركهما الشارع جل وعلا لطبيعة الموقف ونوعية الظروف التى تواجهه المحاربين. يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذ لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهمالأدبار ، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضبمن الله ومأواه جهنم وبئس المصير )([15])
    فثباتالمسلمين أمام العدو أصل ثابت وغير قابل للتغيير أو التبديل ، لأنه السبيل إلىالنصر . ونظراً لاختلاف قوى الجيشين عدة وعديداً ، فقد أباح الله طرق حل مفتوحةأمام القائد بأن يفر أو ينسحب من مواجهة العدو ، إما لإعادة الحشد وانضمام جنودهإلى جنود أخرى ليستأنف القتال ، أو ينسحب لصنع كمين عسكرى وإحراز نصر سريع بمفاجأةتكتيكية يحسم بها أمر المعركة .
    وإزاءهذا الأصل الثابت أمام العدو سنطرح مثالين مختلفين لقائدين من قواد المسلمين اجتهدكل منهما فأخطأ الأول ، وأصاب الثانى :-
    المثالالأول : فى موقعة الجسر فى بلاد فارس

    كانتتلك المعركة فى عصر الخليفة عمر بن الخطاب ، والتى كان يقودها القائد أبو عبيدة بنمسعود الثقفى . الذى أمر بعبور جنوده الجسر المقام على النهر لملاقاة أعدائه ، فقدكان يرى أنه الأولى بالعبور لملاقاة العدو وكان موقفه معقدا حرجا بين عدو منالأمام فى تعبئة جديدة لم يألفها المسلمون ، حيث اعتمدوا على الفيلة التى تنفرمنها خيول المسلمين ، وبين نهر من الخلف لا سبيل لهم إلا الغرق فيه . فكيف تصرفذلك القائد ؟ أنه أمر بهدم الجسر وفرض واقعاً جديداً أمام جنده : إما الشهادة ، أوالظفر وبدافع من عقيدته وإيماناً بقضيته خاض معركة غير متكافأة راح ضحيتها العديدمن المسلمين وفر الباقى إلى المدينة تفيض أعينهم بالدمع وتجهش صدورهم بالبكاء ، لاخوفاً من معرة الهزيمة ، ولكن خوفاً من غضب الله ، حيث أنهم فروا من أمام العدودون مبرر . فهم حينئذ أمام أصل من أصول العقيدة " عدم الفرار " وبينواقع مرير قد يودى بهم جميعاً إذا ثبتوا فى مواجهة الفرس بجموعهم الغفيرة . فكيفقابل الخليفة عمر بن الخطاب هذه الفئة الفارة ؟ ([16])
    إنهوقف بجانبهم يخفف عنهم ويرق لحالهم وقال لهم إنكم لم تفروا ولكنكم انحزتم إلىّوسأكون فئتكم ثم بكى طويلاً وقال رحم الله أبا عبيدة لو كان انحاز إلى لكنت فئته .ثم أمر بتعبية الجيوش من جديد وولى عليها سعد بن أبى وقاص فانضمت تلك الفئة الفارةبعد الهزيمة إلى كتائبه وعاودوا حرب الفرس من جديد وسجلوا نصراً باهراً فى معركةالقادسية . أليس هذا اجتهاداً فى التطبيق من أبى عبيدة وعمر حول أصل من أصولعقيدتهم بما يتلاءم وطبيعة الموقف الجديد ؟
    المثالالثانى : فى موقعة اليرموك فى ممالك الروم

    وفىموقعة اليرموك : نرى مثالاً آخر للاجتهاد الصائب من القائد الفذ خالد بنالوليد ، حيث إنه وجد جيوش المسلمين قد تكالبت عليها قوى الروم وحشدوا لهم صفوفاًمتلاحقة كالموج الغاضب ، والمسلمون يقاتلون متفرقين متساندين كل أمير يحارب فى جهة، بينما جيوش الروم كلها تجتمع فى صعيد واحد . فجمع الأمراء وعرض رأيه فى توحيدالقيادة على أن تكون بالتناوب ، فوافق الأمراء على رأيه وأمروه عليهم .
    وكانأول ما فكر فيه خالد بن الوليد بعد أن تولى القيادة كيف يواجه تلك الأعداد الغفيرةمن جنود الروم وجيوش المسلمين لا تزيد على أربعة وعشرين ألف مقاتل وهو المسئول عنسلامة جنده ؟ أيثبت بهم إلى أن يفنوا عن أخرهم ، أم يفر من مواجهة العدو وكلاالأمرين مُر؟ هنا تفتقت قريحته عن تكتيك جديد لم تألفه الروم ، وتعبئة جديدة تصمدأمام كثرة جنود الروم فقد ترك نظام الصف الذى ألفه المقاتلون المسلمون وكذلك الروموعبأ جيوشه على نظام الكراديس ، فكانت مفاجأة عجيبة للروم وأحرز بها نصراً عظيماًقضى به على دابر الروم فى ميدان الشام ([17]).
    ومنيتتبع معارك الإسلام حتى تلك المعارك المعاصرة يجدها جميعاً على نفس النظام .مبادئ وأصول لا خلاف حولها تمثل "عقيدة الأمة الإسلامية عسكريا " وهى الأهداف والغايات العليا التى تضعهاالقيادة العليا على مستوى قومى ، ثم أساليب تطبيقية تختلف باختلاف الزمان والمكانحسب نوعية السلاح ومدى تطوره وتقدير موقف العدو ومدى استعداداته . وهذه الأساليبالتطبيقية ليس لها صورة معينة يلتزم بها القائد ، بل يجتهد وفق ظروف المعركةوتقديره للموقف العسكرى إن هذا النظام قائم فى جميع أنواع المعارك سواء البسيطةمنها أم المعقدة القائمة على مخترعات علمية حديثة .
    هذهعجالة عن خاصية من خواص عقيدتنا العسكرية ما أحرانا نحن العسكريين أن نتدبرهالنعرف وجه عقيدتنا المشرق الذى واكب أجدادنا بالأمس ، فكانوا رجال حرب ورحمة ودعاةحق ومروءة ، ويوم أن أغمضنا أعيننا عن إشراقتها ، وغاب عنا هديها ضللنا طريقالرشاد وذهبنا نتلمس البديل فى أنظمة الغرب واستراتيجياته محمومين ببريق حضارتهالزائفة ، نأخذها بحذافيرها وعلاتها ، ونحن لا أصالة لنا فيها ولا حكم لنا عليها ،إنما نحن – كما يقول العلامة أبو الحسن الندوى – متطفلون على مائدتها ، نغرف منبحرها وتغمرنا موجتها حتى نغرق إلى الأذان .
    ونحنالعسكريين مناط أمل أمتنا والذائدين عن حماها ، ما أحرانا اليوم أن نعود إلىعقيدتنا العسكرية نستجلى كوامن عظمتها وسر خلودها ، فهى درعنا الواقى وملاذناالوحيد عندما يشتد الخطب وتلم بنا الملمات . ورحم الله ( عبد الله بن رواحه )القائد المسلم وهو يغرس هذه المعانى فى قلوب رجاله قائلاً . " ما نقاتل الناسبعدد ولا قوة ولا كثرة ، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى كرمنا الله به ،فانطلقوا .. فإنما هى إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة .[18]

    * * * *

    1- الأنفال،آية :60 .

    1- البقرة آية:214 .
    2- آل عمران،آية:186 .
    3- البقرة،آية:251 .


    1- هود آية:100-102.
    2- الإسراء آية:16 .


    1- الفجر آية:14 .
    2- النازعات آية:25،26 .
    3- الرعد آية:11 .


    1- الأنعام،آية: 6 .


    1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ لإبراهيم شعوط 151.











    1ـ النحل الآية 125 2ـالأنفال الآية 15 ـ 16
    3ـ الأنفال الآية 60 4 ـالبقرة الآية 208



    1 ـ الحجرات الآية 9
    2 ـ المؤمنين الآية 71

    1ـ الأنفال 15 – 16


    1 ـ انظرموقعة الجسر فى البداية والنهاية المجلد 4 الجزء السابع ص 28 طبعة 1988م دارالريان للتراث .

    2 ـ انظر البدايةوالنهاية _ مرجع سابق ص 7 – 9





  13. #13
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (4)





    عمر ومشكلة تقسيم أقاليمالدولة:





    يعتبر تقسيم الولايات في عهدعمر امتداداً في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكر إقليمياً، مع وجودتغيرات في المناصب القيادية لهذه الولايات في كثير من الأحيان ، ولكن مهما حدث منتغير واتساع في الفتوحات فأنه ستبقي للجزيرة العربية أهميتها ومكانتها المقدسةلأنها هي المهد الأول لرسالة الإسلام دون غيرها من بقاع الأرض ولسنا مغالين إذاقلنا أن الله سبحانه وتعالي قد أختار جزيرة العرب لتكون أرض التجربة للدولةالإسلامية الناشئة وهي تجربة واعية شاملة للدستور الإسلامي بتطبيقه علي أرض الواقعآنذاك ولم يكن أختيار الجزيرة العربية دون غيرها إلا لتميزها بميزات فضلتها عنغيرها فهي واسعة المساحة مترامية الأطراف ، وفيها الجبال والكهوف والمفازات مايحمي كل جماعة ناشئة أو كل جماعة خارجة عن القانون كما أن تتوسطها الكرة الأرضيةقد ذاد من ثقلها المعنوي والأعتباري بوجود بيت الله الحرام في أرض الجزيرة إذ أرتبطالقريشيون اصحاب ملك الأرض برباطات متعددةمع غيرها من الشعوب في التجارة وفي الحج وفي التحدث باللغة العربية ثم أراد اللهلها الخير العميم وأن تكون مركزا لهداية البشرية كلها بالرسالة الخاتمة رسالةالإسلام علي نبيها أشرف الصلاة والسلام فلا غرو أن تكون الجزيرة العربية آنذاكمحور الأرض وهي الأرض التي لا يستغني عنها العالم في ماضيه وحاضرة .


    فلم يمض علي ظهور تلكالرسالة الخاتمة ( الإسلام ) زمن طويل حتي أنتشر في الأرض كلها ونشر الأمن فيربوعها وقضي علي الفوضى وحرر البشر من نير الخرافات والأساطير وطهر عقله ودفعه إليالتفقه والتدبر والتعلم بإجراء تجاربه في الكون وفي نفسه كما حرر الإنسان من ثقلعبودية الإنسان لأخيه الإنسان ودعاه إلي عبادة الإله الواحد الأحد وألا يخضع لضغوطالكهان والسحرة وعبادة الأوثان والنار والشمس والقمر وغيرها من عبادات ينوء ثقلهاكاهل الإنسان ، وقد أتاح الله علي يدي أبي بكر وعمر سلسلة كبيرة من الفتوحات فيميدان الفرس والروم ، وقد ضمت إلي الجزيرة العربية وصار يرفرف عليها لواء الإسلامبالأمن والطمأنينة . وقد قسمها المسلمونإلي أقاليم أو ولايات علي النحو التالي :








    أولا : المدينة النبوية:


    يعتبر الخليفة هو الواليالمباشر للمدينة، نظراً لأنه كان يقيم فيها وبالتالي كان يتولى شؤونها ويسوسأمورها، وخلال غياب الخليفة عمر عن المدينة كان يولي عليها من يقوم مقامه في إدارةشؤون المدينة المختلفة، فكان عمر أحيانا يولي على المدينة خلال بعض أسفاره أو حجه( زيد بن ثابت رضي الله عنه ) كما ولى عمر علي بن أبي طالب على المدينة عدة مرات أثناء غيابه وهكذافإن عمر رضي الله عنه سار على سياسة الرسول e وأبي بكر في الاستخلاف على المدينة في حال غيابه، وتكتسب ولايةالمدينة المنورة أهمية سياسية متميزة بين الولايات المختلفة في تلك الأيام لعدةأسباب على رأسها أنها مقر الخليفة عمر، ومصدر الأوامر إلى مختلف الأقاليمالإسلامية ومنها تنطلق الجيوش المجاهدة، يضاف لذلك أنها مقر إقامة الكثير منالصحابة رضوان الله عليهم، والذين كان عمر يمنعهم من الانتشار في الأمصار ، ولذلككان يفد إليها الكثير من طلاب العلم الذين يريدون أن يأخذوا القرآن وسنة الرسول e وفقههما من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم .


    ثانيا : مكة المكرمة:


    تولى ولاية مكة في عهد عمررضي الله عنه مُحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد شمس ثم ولي مكة لعمر فُنقُذ بن عميربن جدعان التميمي، وشأنه شأن من سبقه فلم تذكر أخبار عن مدة ولايته لمكة أوأحداثها وبعده تولى مكة لعمر (نافع بن الحارث الخزاعي) وقد توفي عمر رضي الله عنهوهو على مكة وذكرت المصادر بعض الأحداث عن ولايته مكة منها شراؤه داراً من صفوانبن أمية بغرض جعلها سجناً وذلك فيما رواه البخاري وقد ورد أيضاً أن نافعاً لقي عمربـ (عُسْفَان) أثناء قدومه للحج فقال له عمر من استعملت على الوادي يعني مكة؟ قالنافع: ابن (أبْزى) قال: ومن ابن أبْزى؟ قال: مولى من موالينا، فقال: استعملت عليهممولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قال عمر: أما إن نبيكم قال: اللهيرفع بهذا الكتاب قوماً ويضع به آخرين ، وفي عهد عمر كانت أبرز الأعمال لولاية مكةهي توسعة الحرم المكي حيث قام عمر بشراء بعض الدور المجاورة للحرم وأمر بهدمهاوإدخالها ضمن حرم المسجد وبنى حوله جدراناً قصيرة كانت مكة ملتقى الأمراء والولاةفي مختلف الأصقاع بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موسم الحج وبالتالي كانلمكة دور أساسي كبير كإحدى الولايات الرئيسية للدولة الإسلامية في عهد عمر رضيالله عنه.





    ثالثاً: الطائف:


    تعتبر الطائف إحدى أهم المدن الإسلامية في عهد عمر رضيالله عنه، وكانت تمد حركة الجهاد بالمقاتلين الأشداء، وكان واليها منذ عهد الرسول e عثمان بن أبي العاص وأقره أبو بكر على ماكان عليه، واستمرت ولايته على الطائف لمدة سنتين من خلافة عمر، وقد تاقت نفس عثمانبن أبي العاص إلى الجهاد، فكتب إلى عمر يستأذنه في الغزو فقال له عمر: أما أنا فلاأعزلك، ولكن استخلف من شئت فاستخلف رجلاً من أهل الطائف مكانه، وعين عمر عثمان علىعُمان والبحرين وقد ورد أن والي عمر على الطائف حين وفاته هو (سفيان بن عبد اللهالثقفي) ، وقد كان بينه وبين عمر بنالخطاب مكاتبات تتعلق بأخذ الزكاة من الخضار والفواكه أو من العسل ، وكلها تدل علىكثرة المزارع ووفرة الإنتاج الزراعي في الطائف أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه،وقد ظلت مدينة الطائف وما جاورها تنعم بالاستقرار في عهد عمر رضي الله عنه، وقدكانت لأهل مكة متنفساً يقدمون إليه في الصيف ، واعتبرت الطائف أحد الأمصارالرئيسية التابعة للدولة الإسلامية في عهد عمر .


    رابعا: البحرين:


    عندما تولى عمر أمر المسلمينكان العلاء بن الحضرمي والياً على البحرين، فأقره عمر في بداية خلافته والياًعليها واستمر عليها حتى سنة أربع عشرة على أرجح الأقوال ، وقد اشترك العلاء رضيالله عنه في الجهاد المبكر في نواحي بلاد الفرس، وكان له دور رئيس فيه، وفي أواخرفترة ولاية العلاء على البحرين أصدر عمر رضي الله عنه قراراً بعزله العلاء عنالولاية، ونقله إلى ولاية البصرة وقد كره العلاء ذلك فتوفي قبل أن يصل البصرة ودفنفي البحرين وقد قيل في سبب عزله إنه غزا فارس عن طريق البحرين دون إذن من عمر وكانعمر يكره أن يحمل المسلمين في البحر، وبعد وفاة العلاء تولى على البحرين عثمان بنأبي العاص، فأخذ يجاهد ما يليه من نواحي بلاد فارس، حتى وصل في بعض فتوحه إلىنواحي السند، وقد صدرت أوامر عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن أبي العاص تأمره بالتعاونفي فتوحه مع والي البصرة أبي موسى الأشعري فأصبحت جيوشهما تتعاون في غزو فارس عنطريق البصرة .


    وقد اشتهر عن عثمان بن أبيالعاص ورعه وبعده عن الوقوع في الحرام ، وقد تولى عثمان ولاية البحرين لعمر مرتينعلى الأقل إذ أنه ولاه للمرة الأولى في السنة الخامسة عشرة ثم احتاج إليه لقيادةبعض الجيوش في نواحي البصرة، ليشترك في فتوحاتها، وقد تولى (عيّاش بن أبي ثور) البحرينبعد عثمان بن أبي العاص، ويبدو أن فترته لم تطل، ثم ولى عمر على البحرين (قدامة بنمظعون) رضي الله عنه الذي صحبه أبو هريرة ووليَ له أمر القضاء في البحرين بالإضافةإلى بعض المهام الأخرى، وخلال فترة ولاية قدامة للبحرين امتدحه الناس، إلا أنه حدثفي آخر ولايته أن اتهم رضي الله عنه بشرب الخمر، وبعد التحقيق ثبتت التهمة، فأقامالفاروق عليه الحد وعثمان بن مظعون خال أولاد عمر بن الخطاب، عبد الله وأمالمؤمنين حفصة ، وقد غضب عثمان على عمر إلا أن عمر أصر علي إرضائه وكان يقول: إنيرأيت رؤيا أنه قد أتاني آت في منامي فقال لي: صالح قدامة فإنه أخوك وقيل إن عزلقدامة عن ولاية البحرين كان في سنة عشرين للهجرة، وقد تولى على البحرين بعد قدامةالصحابي المعروف (أبو هريرة) رضي الله عنه وقد كان أبو هريرة يتولى بعض المسؤولياتفي البحرين أثناء ولاية قدامة بن مظعون السابقة وكان ضمن الشهود الذين شهدوا علىقدامة في الخمر، وقد أصدر عمر رضي الله عنه أمراً بتولية أبي هريرة على البحرينبعد عزله لقدامة وقد ولى البحرين لعمر فيما بعد عثمان بن أبي العاص الثقفي مرةأخرى واستمر والياً عليها حتى توفي عمر ، وقد وردت في كثير من النصوص ولايةالبحرين مضافة إليها عمان، ووردت روايات عند تولية عثمان بن أبي العاص أنه وليالبحرين واليمامة وهذه الروايات تعطينا دلالة قوية على مدى ارتباط البحرين بكل منعمان واليمامة، وأن هذينالقسمين ربما اعتبرا جزءاً من ولاية البحرين خلال عصر عمر بن الخطاب رضيالله عنه، ولا يخفى مدى الارتباط الجغرافي والبشري بين هذين الإقليمين وبينالبحرين، وقد يفيد تعبير البحرين وما والاها الذي يردده المؤرخون ووجود توابعللبحرين ربما كان المقصود بها عمان واليمامة، وقد كانت البحرين مصدراً رئيسياًللخراج والجزية، وهذا يدل على ثراء هذه الولاية في تلك الأيام، وقد شاركت قبائلالبحرين المسلمة وأمراؤها في بلاد فارس والمشرق، وكان لهم دور مهم في تلك الفتوح .





    خامسا : اليمن:


    عندما تولى عمر رضي الله عنهالخلافة كانت اليمن تنعم بالاستقرار، وقد ضبطت أمورها عن طريق ولاة موزعين فيأنحاء اليمن، وقد أقر عمر عمال أبي بكر على اليمن، وكان يعلى بن أمية أحد ولاة أبيبكر على اليمن، وقد لمع اسمه في خلافة عمر بن الخطاب، وذكر المؤرخون بأنه والي بعدذلك على أنه والي عمر على اليمن واشتهر بذلك حتى وفاة عمر رضي الله عنه وقد أوردتالمصادر العديد من الحوادث التي وقعت لوالي اليمن (يعلى بن أمية) مع بعض الأهاليمن اليمن، إضافة إلى حديثها عن بعض القضايا التي قدم أصحابها شكاوى ضد يعلى أمامعمر بن الخطاب، مما استلزم استدعاء يعلى إلى المدينة المنورة عدة مرات حقق خلالهاعمر معه في هذه القضايا ،وفي أثناء غياب يعلى كان عمر أحياناً يعين مكانه من يقومبعمله، وقد كانت بين يعلى وعمر عدة مكاتبات تتعلق بقضايا الزكاة ، كما ذكر يعلىنفسه ضمن الولاة الذين قاسمهم عمر أموالهم في أواخر خلافته وقد ذكر من ولاة اليمنلعمر عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، ولعله كان على منطقة محددة من اليمن وهي(الجَنَد) كما صرح بذلك الطبري حيث ذكره ضمن ولاته حين وفاته إذ كان والياً لعمرعلى الجند بجانب ذكر ليعلى كوالٍ لليمن وقد لعب أهل اليمن دوراً رئيسياً في حركةالفتوح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاشتركوا في فتوح الشام وفي فتوح العراقومصر ، وعندما اختطت الأمصار الإسلامية الجديدة في العراق كالبصرة والكوفة نزلتهاالكثير من القبائل اليمنية وعلى رأسها كنده التي نزلت الكوفة ، كما استقرت أعدادأخرى من القبائل اليمنية بالشام، وكان لهم دور كبير في فتوحاتها، كما سكنت مجموعةمنهم في مصر بعد إنشاء الفسطاط ، ولا شك أن هذه الهجرات المنظمة من القبائلاليمنية في عهد عمر قد خطط لها، وقد يكون لأمراء البلدان على اليمن دور كبير فيهذا التخطيط وفي عملية توزيع القبائل على الأمصار، ومن هنا كانت اليمن من أهمالولايات الإسلامية على عهد عمر، وكان دورها وتأثيرها واضحاً بالنسبة لمختلف الولايات.





    سادساً: مصر:


    كان عمرو بن العاص رضي الله عنه هوالذي تولى فتح مصر وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الفتوحات وأقره عمروالياً عليها، واستمر في ولايته حتى توفي عمر بن الخطاب رغم اختلافه مع عمر في بعضالأحيان مما كان يدفع عمر إلى التهديد بتأديبه وكان عمرو هو والي مصر الرئيسي، مماكان يرد من وجود بعض الولاة الصغار الآخرين في مصر مثل ما ورد عن ولاية عبد اللهبن أبي السرح على الصعيد إبان وفاة الخليفة عمر ، ومن الملاحظ في فترة ولاية عمروبن العاص لمصر في عصر عمر كثرة تدخل الخليفة عمر في شؤون الولاية المختلفة ، وقداستفاد عمرو بن العاص من خبرة الأقباط في قضايا الخراج والجزية فاستخدمهم في هذاالعمل ، وقد اشتهر عن عمرو منعه لجنوده من الزراعة والاشتغال بها ومعاقبة من يخالفذلك بناءً على أوامر عمر بن الخطاب وكان هذا بالطبع لتفريغ الجنود لأمور الجهاد،وعدم الركون إلى الدعة، أو الارتباط بالأرض، وقد كان للجند من الأرزاق التي تصرفمن بيت المال ما يغنيهم عن ذلك، وقد استطاع عمرو بن العاص بمتابعة من الخليفة عمرتنظيم أمورها في سنوات قليلة حتى أخذت مكانتها كولاية كبرى من ولايات الدولة، وجرىفيها من الأحداث مما يدل على استقرار أوضاع الولاية، بالرغم من المخاطر التي كانتتحدق بها من جراء محاولة الروم المستمرة استعادتها عن طريق غزو الإسكندرية منناحية البحر، وقد كانت هذه الولاية أرضاً خصبة لانتشار الإسلام فيها في عهدالخليفة عمر نظراً لما ظهر فيها من عدل بين الناس ورحمة، لم يعهدهما أهلها من قبلبالإضافة إلى اقتناعهم بحقائق الإسلام وتعاليمه السمحة فأصبحوا جنداً من جنوده،وكانت الأمور الإدارية في مصر تمضي بطريقة بسيطة إذ كان عمرو وهو الوالي وهوالمسؤول عن الخراج، ولا يمنع هذا من استعانة عمرو ببعض الولاة على مناطق أخرىتابعة له كما مرّ، ولكن الوالي الرئيسي والمسؤول أمام الخليفة هو عمروبن العاص طوال فترة حكم عمر بن الخطاب، وقد استفاد عمرومن بعض أهل البلاد في ترتيب أمور الخراج وتنظيم شؤونها المالية .


    ولما تحصن المقوقس مع أكابر الرومحاربه المسلمون نحو شهر وقد خيرهم عمر بين ثلاث خصال إما الدخول في الإسلامويكونون إخوانا فإن أبو يدفعون الجزية فإن أبيتم لجزية ليس أمامنا سوى القتال حتييحكم الله بيننا وقد رجعت الرسل إلي المقوقس فقال لهم كيف رأيتموهم ؟ قالوا :رأينا قوما الموت إلي أحدهم أحب من الحياة ، والتواضع أحب إليهم من الرفعة ، ليسلأحدهم في الدنيا رغبة ، وإنما جلوسهم علي التراب ، وأكلهم علي الركب ، وأميرهمكواحد منهم ، يغسلون أطرافهم بالماء ، وإذا حضرت صلاتهم لم يتخلف أحد منهم ،ويخشعون في صلاتهم تخشعا كثيرا ، فقال المقوقس : والذي نحلف به لو ان هؤلاءاستقبلوا الجبال لزلزلوها ، وما يقوي علي قتال هؤلاء أحد ، وإن ( لم ) تغتنم صلحهؤلاء القوم وهم محضرون بهذا النيل ، لن يجيبوا إذا تمكنوا من الأرض ، وكان ذلكوقت خروج النيل وفيضه ، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب ، لا يقدرون عليالنفوذ إلي الصعيد ولا إلي غيره .


    ثم بعث إليهم عمرو بن العاص رضي اللهعنه عشرة رجال أحدهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وكان أسود اللون من العربوأمره أن يكون متكلم القوم فإنه كان فصيحا ، وأمره ألا يجيبهم إلا إلي أحدي ثلاثخصال ، وهي المذكورة قبل ، فركبوا السفن ودخلوا علي المقوقس ، فتقدم عبادة رضيالله عنه للكلام فهابه المقوقس لسواده وقال : نحوا عنى هذا الأسود وقدموا غيره ،فقالوا جميعا : هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وحكمة ، فكلمه عبادة رضي الله عنه ،وازداد المقوقس هيبة لسواده وقال : نحوا عنى هذا الأسود وقدموا غيره ، فقالواجميعا : هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وعلما ، فكلمه عبادة رضي الله عنه مرة أخرى، فقال المقوقس لأصحابه : لقد هبت منظره وأن قوله عندي لأهيب ، وإن هذا وأصحابهإنما خرجوا لاخراب الأرض ، وما أظن ملكهم إلا سيغلب علي الأرض كلها . ([1])


    سابعاً: ولايات الشام:


    حينماتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان المسؤول عن جيوش الشام وبلادها هو خالد بنالوليد رضي الله عنه، ولما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة أصدر أمراً بعزل خالد بنالوليد عن ولاية الشام وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه أميراً لأمراء الشام،ومسؤولاً مباشراً عنهم ووالياً على الجماعة فيها ، وحينما تولى أبو عبيدة علىالشام أخذ ينظم أمورها، ويعين الأمراء من قبله على المناطق المختلفة فيها، وأخذيعيد تنظيمها حيث كان على بعضها أمراء سابقون فمنهم من أقره أبو عبيدة ومنهم منعزله، يقول خليفة بن خياط: فولى أبو عبيدة حين فتح الشامات يزيد بن أبي سفيان علىفلسطين وناحيتها، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق وحبيب بنمسلمة على حمص ثم عزله، وولى عبد الله بن قرط الثمالي ، ثم عزله، وولى عبادة بنالصامت ثم عزله ورد عبد الله بن قرط ، وكان يبعث أحياناً بعض أصحابه لتولي مناطقمن الشام لفترة معينة، ذلك أن أبا عبيدة بعث معاذ بن جبل على الأردن ، ومن ذلكإنابته لبعض الناس مكانه حين كان يسافر للجهاد فقد أناب سعيد بن زيد بن عمر بننفيل ، على دمشق حين خروجه إلى بيت المقدس،وكان أبو عبيدة رحمه الله طوال فترةولايته على الشام مثالاً للرجل الصالح الورع الذي يقتدي به بقية أمرائه ويقتدي بهالعامة، وقد استشهد كما مرّ معنا في طاعون عمواس ثم تولى بعده معاذ، فاستشهد بعدهبأيام وحينما علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بوفاة أبي عبيدة ووفاة معاذ من بعدهعين على أجناد الشام يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وفرق أمراء آخرين على الشام،وقد كان يزيد صاحب خبرة في إمارة الأجناد، إذ كان على رأس أحد الجيوش التي بعثهاأبو بكر إلى الشام للفتح، كما أن أبا عبيدة قد استخلفه عدة مرات على دمشق أثناءغزواته ، وقد ذكر المؤرخون أن عمر حينما ولّى يزيد على أجناد الشام حدد أمراءآخرين وزعهم على المناطق واختص يزيد بفلسطين والأردن ، وتعتبر فترة يزيد على الشامقصيرة لذلك يقل الحديث عنها في المصادر التاريخية وقد توفي يزيد في السنة الثامنةعشرة، وقبيل وفاته استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان على ما كان يتولاه وكتب إلىعمر كتاباً في ذلك، وكانت مدة ولاية يزيد قريباً من السنة ، وأقرّ عمر رضي اللهعنه ولاية معاوية وأجرى تعديلات في إدارة الشام بعد وفاة يزيد، وقد حدد لمعاويةجند دمشق وخراجها، وحدّ من سلطات معاوية في القضاء والصلاةحيث بعث إليه برجلين من أصحاب رسول الله e وجعلهما على القضاء والصلاة ، وهذا فيهتحديد لسطات معاوية خصوصاً أن الصلاة وكلت إلى غيره وكان الأمير في العادة هو أميرالصلاة، ولعل هناك أسباباً دفعت عمر إلى هذه السياسة الجديدة التي بدأت تظهر فيالأقاليم الأخرى وبالأسلوب نفسه الذي نهجه مع معاوية تقريباً، وقد اشتهر معاويةبالحلم والبذل مما جعل مجموعات من الناس تلحق بولايته من العراق وغيرها ، وقد قامعمر بتعيين بعض الأمراء في الشام، وجعل ولايتهم من قبل معاوية، وخلال ولاية معاويةعلى بلاد الشام كان في بعض الأحيان يقوم ببعض الغزوات ضد الروم في شمال الشام وهيما عرفت بالصوائف ، وقد استمر معاوية والياً على الشام بقية عصر عمر حتى وفاته رضيالله عنه، مع وجود أمراء آخرين في مناطق معينة من الشام لهم اتصالهم المباشربالخليفة في المدينة المنورة، إلا أن معاوية يعتبر أشهرهم، حيث كان والياً علىالبلقاء والأردن وفلسطين وانطاكية وقلقيلية ومعرة مصرين وغيرها من مدن الشام ، وقدسماه بعض المؤرخين والي الشام بينما تحفط بعضهم فقالوا حين ذكروا ولاة عمر ومعاويةبن أبي سفيان على بعض الشام ولكن بعضهم ذكر أنه قبل موت عمر جمع الشام كلهالمعاوية بن أبي سفيان ، ولابد من التنبيه على أن الولايات كانت تجري فيها تغييراتمستمرة تبعاً للظروف العسكرية والظروف العامة للدولة في تلك الأيام، فكانت الأردنأحياناً تستقل وأحياناً تضم لها أقاليم وأحياناً تنزع منها أقاليم وتضم إلى الشام أوإلى فلسطين إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره .





    ثامناً: ولايات العراقوفارس:


    كانت الفتوحات قد بدأت في العراق أيام أبي بكر رضي اللهعنه وكانت في البداية تحت إمارة المثنى بن حارثة الشيباني إلى أن قدم خالد بنالوليد إلى العراق، فجعل الولاية له، فلما أمره بالمسير إلى الشام أعاد أبو بكرالولاية مرة أخرى إلى المثنى بن حارثة، وحينما تولى الخلافة عمر بن الخطاب عزلالمثنى وعين أبا عبيدة بن مسعود الثقفي، وكان عزل المثنى في الوقت نفسه الذي عزلفيه خالداً، مما أثار استغراب الناس فقال عمر: إني لم أعزلهما في ريبة ولكن الناسعظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما ، ومع عزل المثنى فقد كان جندياً مخلصاً اشترك معأبي عبيد في معظم معاركه وأبلى بلاء حسناً وبعد استشهاد أبي عبيد عاد المثنى إلىالقيادة ثم تولى قيادة جيوش العراق سعد بن أبي وقاص، وقد انتقضت على المثنى جراحهالتي أصابته يوم الجسر فمرض منها ومات قبل أن يصل سعد بن أبي وقاص للعراق فقد كانتالبصرة قد بدأت بالظهور على مسرح الأحداث كولاية قبيل معركة القادسية، إلا أنانتصار القادسية وسقوط المدائنفي يد المسلمين يعتبر بداية مرحلة جديدة وقوية في بلادالعراق، بدأ فيها تنظيم الولايات يأخذ شكلاً معيناً وبارزاً تتضح فيه الملامحالعامة سواء في ولاية البصرة أو ولاية الكوفة، وما ألحق بكل منهما من المدن والقرىالتي كانت تتبع كلاً منهما من أقاليم فارس والعراق، أو ما استقل عنهما من الولاياتفي بلاد فارس .








    - ولاية البصرة:


    بنية في خلافة عمر رضي الله عنه سنةأربع عشرة وأختط عتبة بن غزوان المنازل بها وبني مسجدا من قصب وسبب بنائها أن عمررضي الله عنه كتب إلي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو علي حرب العراق يستنبئ ماالذي غير ألوان العرب ولحومهم ، فكتب إليه إن العرب غير ألوانها وخومة المدائنودجلة ، فكتب إليه أن العرب لا يوافقها إلا ما يوافق إبلها من البلاد فابعث سلمانوحذيفة رضي الله عنهما ، وكانا رائدي الجيش ، ليرتادا منزلا ليس بيني وبينكم فيهبحر ولا جسر ، فبعث سعد حذيفة وسلمان رضي الله عنهم حتى أتيا الأنبار ، فسار سلمانرضي الله عنه في غربي الفرات لا يرضي شيئا حتى أتي الكوفة ، وسار حذيفة رضي اللهعنه في شرقية حتى أتي الكوفة فأكبا عليها وفيها ديارات ثلاثة ( منها ) دير حرقةبنت النعمان ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما : اللهم ربالسموات وما أظلت ، ورب الارضين وما أقلت ، ورب الرياح وما أذرت ، والنجوم وما هوت، والبحار وما حوت ، بارك لنا في هذا الكوفة واجعله منزل ثبات ، ثم رجعا إلي سعدرضي الله عنه بالخبر .


    وفي رواية أن عمر رضي الله عنه كتبإلي سعد رضي الله عنه ان العرب لا صلحها من البلدان إلا ما يصلح الشاه والبعيروسأل من قبله عن هذه السفة فأشار عليه من رأي العراق من وجوه العرب وعلمائهاباللسان لسان البر الذي ادلعه في الريف ، وهو نهر الكوفة ، فكتب عمر إلي سعد رضيالله عنهما يأمره بنزوله ، وبين هذا اللسان وبين القادسية ثمانية فراسخ ، فأرتحلسعد رضي الله عنه من المدائن بالناس حتى عسكر في الكوفة سنة سبع عشرة . ([2])


    وجه عمر بن الخطاب إلى نواحي البصرةقبل إنشائها شريح بن عامر، أحد
    بني سعد بن بكر مدداً لقطبة بن قتادة ثم ولاه عمر في نواحي البصرة، وقتل في إحدىالمعارك ، ثم قام عمر بن الخطاب بإرسال عتبة بن غزوان إلى نواحي البصرة مع مجموعةمن الجند وولاه عليها، وذلك في السنة الرابعة عشر وليس في السادسة عشر كما يرجحذلك صالح أحمد العلي إذ يقول: ويزعم بعض المؤرخين أن عتبة أرسل سنة 16هـ بعد معركةالقادسية أو جلولا ولكن الأغلبية المطلقة من المؤرخين يؤكدون أنه أرسل سنة 14هـمما يجعلنا نرجح روايتهم ، وقد كانت مرحلة ولاية عتبة على البصرة مرحلة تأسيسيةوهامة في حياة هذه الولاية، فقد كانت حافلة بالعديد من الأعمال الجليلة، ومنهامجموعة من الفتوح قام بها في بلاد الفرس القريبة منه على ضفتي دجلة والفرات ، وقداستعفى عتبة من عمر فأبى عمر أن يعفيه وكان ذلك في موسم الحج وعزم عليه عمر ليرجعنإلى عمله ثم انصرف فمات في الطريق إلى البصرة، فلما بلغ عمر موته قال أنا قتلته،لولا أنه أجل معلوم، وأثنى عليه خيراً وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة ثم تولىمن بعده المغيرة بن شعبة وهو أول من وضع ديوان البصرة واستمر والياً على البصرةإلى أن عزله عمر رضي الله عنه في السنة السابعة عشرة من الهجرة بعد التهمة الموجهةإلى المغيرة بالزنا وقد قام عمر بالتحقيق وثبتت براءة المغيرة وجلد الشهود الثلاثةوقام عمر بعزل المغيرة، من باب الاحتياط والمصلحة، وولاه عمر فيما بعد على أماكنأخرى ، وبعد عزل المغيرة بن شعبة ولّى عمر على البصرة أبا موسى الأشعري رضي اللهعنه، ويعتبر أبو موسى – بحق – أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت فيأيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه ويرسل القواد للجهات المختلفة منالبصرة، ففي أيامه تمكن البصريون من فتح الأهواز وما حولها وفتحوا العديد منالمواضع المهمة وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاةالمجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطقالمفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شؤونها، وقد جرت العديد منالمراسلات بين أبي موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا منها توجيهه لأبي موسى فيكيفية استقباله للناس في مجلس الإمارة ومنها نصيحته لأبي موسى بالورع ومحاولةإسعاد الرعية، وهي قيّمة قال فيها عمر: أما بعد فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته،وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، إياك أن ترتع فيرتع
    عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرةمن الأرض فرتعت فيها تبغي السمن وإنما حتفها في سمنها ، وهناك العديد من الرسائلبين عمر وأبي موسى تدل على نواحٍ إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسىبتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابة القيم عن الوثائقالسياسية ، وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات حتى لقد عبرعنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد، وهو الحسن البصري رحمه الله فقال: ما قدمهاراكب خير لأهلها من أبي موسى ، إذ أن أبا موسى رحمه الله كان بالاضافة إلى إمارتهخير معلم لأهلها، حيث علّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة ، وفي عهد عمر بن الخطابكان العديد من المدن في فارس، والتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة وتدار من قبل واليالبصرة الذي يعين عليها العمال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً وهكذااعتبرا أبو موسى من أعظم ولاة عمر اعتبر مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادرالتي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبيّنَت ملامح أسلوبه في التعامل معهم .





    - ولاية الكوفة:


    هي المدينة الكبرى بالعراق والنصرالأعظم وهي أول مدينة أختطها المسلمون والعراق سنة أربع شعرة وتقع علي نهر الفرات، ونزلها جماعة من صحابة رسول الله e وكتب عمربن الخطاب إلي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما : أنبئني ما الذي غير ألوان العربولحومهم ، فكتب إليه : إن العرب غير ألوانها وخومة المدائن ودجلة ، فأجابه : إنالعرب لا يوافقها إلا ما يوافق إبلها من البلاد ، فابعث بسلمان وحذيفة رضي اللهعنهما ، وكانا رائدي الجيش ، فليرتادا منزلا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر ،فبعث سعد حذيفة وسلمان رضي الله عنهم ، فسار كل واحد منهما لا يرضي شيئا حتى أتيالكوفة فأكبا عليها ،وفيها ديارات ثلاثة ، فأعجبتهما البقعة فنزلا وصليا ، ودعا كلواحد منهما : اللهم رب السموات وما أظلت ، ورب الارضين وما أقلت ، ورب الرياح وماأذرت ، والنجوم وما هوت ، والبحار وما حوت ، بارك لنا في هذا الكوفة واجعله منزلثبات ، ثم رجعا إلي سعد رضي الله عنه بالخبر . فكتب عمر إلي سعد رضي الله عنهمايأمره بنزوله ، وبين هذا اللسان وبين القادسية ثمانية فراسخ ، فأرتحل سعد رضي اللهعنه من المدائن بالناس حتى عسكر في الكوفة سنة سبع عشرة . ([3])


    يعد سعد بن أبي وقاص أول ولاة الكوفةبعد إنشائها بل إنه هو الذي أنشأها بأمر عمر، وكان له الولاية عليها وعلى المناطقالمجاورة لها قبل بناء الكوفة، وقد استمر سعد والياً على الكوفة وقام بدوره علىأكمل وجه، وكانت لسعد فتوحات عظيمة بعد استقراره بالكوفة في نواحي بلاد فارس ، كماكان لسعد مجموعة من الإصلاحات الزراعية في ولايته، منها أن مجموعة من الدهاقينسألوا سعداً أن يحفر لهم نهراً لصالح المزارعين في مناطقهم، فكتب سعد إلى عامله فيالمنطقة يأمره بحفر النهر لهم فجمع العمال وحفر النهر، وقد كان سعد ينظم أمورالمناطق التابعة للكوفة ويعين عليها الولاة من قبله بعد التشاور مع عمر بن الخطابرضي الله عنهما، وقد أعجب عقلاء أهل الكوفة بسعد بن أبي وقاص وامتدحوه، فحين سألعمر بن الخطاب أحد مشاهير الكوفة عن سعد أجاب: أنه متواضع في جبايته عربي في نمرتهأسد في تأمُّرِه يعدل في القضية ويقسم بالسوية، ويبعد بالسرية ويعطف عليها عطف البرةوينقل علينا خفياً نقل الذرة ، كما سأل عمر جرير بن عبد الله عن سعد بن أبي وقاصوولايته فقال جرير: تركته في ولايته أكرم الناس مقدرة وأقلهم قسوة هو لهم كالأمالبرة يجمع لهم كما تجمع الذرة أشد الناس عند البأس وأحب قريش إلى الناس ، ومعاقتناع خيار أهل الكوفة وعقلائها بسعد وامتداحهم له فقد وقعت بعض الشكاوي ضده منقبل بعض عوام الناس فتم عزله وسيتم بإذن الله بيان ذلك عند حديثنا عن الشكاوى ضدالولاة، وبعد عزل سعد بن أبي وقاص عنالكوفة أصدر عمر قراراًبتعيين عمار بن ياسر على صلاة الكوفة،ويلاحظ أن عماراً رضي الله عنه كان ضمن القادة الذيكانوا في الكوفة، وكان سعد بن أبي وقاص يستعين بهم أثناء ولايته على الكوفة ولذلككانت لدى عمار خبرة سابقة وشبه كاملة عن الولاية قبل أن يتولى عليها، وتختلف ولايةعمار هذه عن ولاية سعد، إذ أن عمر جعل مع عمَّار أناساً آخرين يشتركون معه فيالمسؤولية ويتقاسمون المهام، فكان عمار على الصلاة وابن مسعود على بيت المالوعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، لذلك اختلف الوضع إلى حد ما في الولاية في هذهالمرحلة عما كانت عليه أيام سعد، ولا يمكننا تجاهل هذا التوزيع الجديد للمسؤوليةفي الولاية، وقد قام كل منهم بما نيط به من أمور، فكان عمار يقوم بالصلاة، وينظمأمور الولاية وشؤونها ويقود الجيوش، فقام ببعض الفتوح، واشترك أهل الكوفة في أيامهفي عدد من المعارك ضد الفرس الذين جمعوا الجموع ضد المسلمين، فكان عمار يدبرولايته بمقتضى تلك الظروف الحربية حسب توجيهات عمر بن الخطاب، وقد استمر عمار يؤديمهمته في ولاية الكوفة مع ابن مسعود إضافة إلى قيامه بالشؤون المالية للولاية يقومبتعليم الناس القرآن وأمور الدين ، وكانت ولاية عمار لأهل الكوفة قرابة سنة وتسعةأشهر، وعزله عمر بناء على عدة شكاوى من أهل الكوفة ضده وقد قال عمر لعمّار أساءكالعزل؟ فقال عمّار ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت، وقيل إنه قال ما فرحتحين وليتني ولا حزنت حين عزلتني ، كما ذكر أنه استعفى عمر حين أحس بكراهية أهلالكوفة له فأعفاه عمر ولم يعزله ثم عين عمر جبير بن مطعم على الكوفة ثم عزله قبلأن يتجه إلى الكوفة، نظراً لأن عمر أمره بكتمان خبر التعيين، ولكن الخبر انتشر بينالناس فغضب عمر وعزله ثم تولى ولاية الكوفة المغيرة بن شعبة واستمر يؤدي واجبهوالياً للكوفة إلى أن توفي عمر بن الخطاب .


    - أذربيجان:


    هي كورة تلي الجبل من بلاد العراق وهي مفتوحة الألف وتليكور أرمينية من جهة المغرب وأهل أذربيجان مشهورون بالإكباب لي طلب العلم والأشتغالبه ، وفيهم يقول الحافظ أبو الطاهر السلفي :


    ديار أذربيجان في الشرق عندنا كأندلس في الغرب في النحو والأدب


    فلست تري في الدهر شخصا مقصرا من آهلها إلا وقد جد في الطلب


    وكان عمر رضي الله عنه قدفرق أذربيجان بين بكير ابن عبد الله وبين عتبة بن فرقد وأمر كا واحد منهما بطريقغير طريق صاحبه ، ثم جمع عمر رضي الله عنه أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد وعادتأذربيجان سلما ، وكتب عتبة بينه وبين أهلها كتابا : هذا ما أعطاه عتبة بن فرقدعامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان ، سهلها وجبلها وحواشيها وشعابهاوأهل مللها كلهم ، علي الأمان علي أنفسهم وأموالهم وشرائعهم علي أن يؤدوا الجزيةعلي قدر طاقتهم ، ليس ذلك علي صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه من الدنيا شيءولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء ، لهم ذلك ولمن سكن معهم ، وعليهم قريالمسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلاته ، ومن حشر منهم في سنة رفع عنه جزاءتلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام في ذلك ومن خرج فله الأمان حتى يرجع إليحرزه .([4]) وكان حذيفة بن اليمان أول الولاةعلى أذربيجان ثم تولى بعد ما نقل إلى المدائن عتبة بن فرقد السلمي وفي أثناءولايته حدثت بينه وبين عمر العديد من المراسلات، من ذلك أن عتبة بن فرقد حين جاءإلى أذربيجان وجد عندهم نوعاً من الحلوى الطبية تسمى (الخبيص) ففكر أن يصنع منهالعمر بن الخطاب، وبالفعل وضع منها وغلفها بما يحفظها من الجلود وغيرها وبعث بهاإلى عمر بن الخطاب في المدينة، فلما تسلمها ذاق الخبيص فأعجبه، فقال عمر: أكلالمهاجرين أكل منه شبعه؟ قال الرسول: لا إنما هو شيء خصك بك، فأمر عمر بردها علىعتبة في أذربيجان، وكتب إليه يا عتبة إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمينفي رحالهم مما تشبع في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسولالله e نهى عن لبوس الحرير ، وقد رويتالحادثة بروايات مختلفة يؤكد بعضها بعضاً، وقد استمر عتبة والياً على أذربيجانبقية خلافة عمر رضي الله عنه وجزءاً من خلافة عثمان، وقد وجد العديد في ولاة عمرفي مناطق مختلفة في العراق وفارس، منهم من كان مستقلاً بولايته، ومنهم من كانت ولايتهمرتبطة بإحدى الولايتين الكبيرتين في العراق اللتين هما محورا الإدارة، والقيادةلبلاد العراق وفارس الكوفة، أو البصرة، ومن هذه البلدان التي اختصت بولاة، الموصل،حلوان، كسكر .








    - المدائن:


    كانت المدائن عاصمة كسرى، قد تم فتحها من قبل سعد بن أبي وقاص، واستقر بهاسعد فترة من الوقت ثم انتقل منها إلى الكوفة بعد تمصيرها، وقد كان ضمن جيش سعدسلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو الذي اشترك في العديد من المعارك ضد الفرس، وكانله دور كبير في دعوتهم إلى الإسلام قبل القتال وقد ولاه عمر بن الخطاب على المدائنفسار في أهلها سيرة حسنة، فقد كان مثالاً حياً لتطبيق تعاليم الإسلام، وقد ذكر أنهكان يرفض الولاية لولا أن عمر أجبره على قبولها، فكان يكتب إلى عمر يطلب الإعفاءفيرفض عمر ذلك، وقد اشتهر عن سلمان رضي الله عنه زهده، فكان يلبس الصوف، ويركبالحمار ببرذعته بغير اكاف ويأكل خبز الشعير وكان ناسكاً زاهداً وقد استمر سلمانيعيش في المدائن إلى أن توفي على أرجح الأقوال سنة 32هـ في خلافة عثمان بن عفان،ويبدو أن سلمان لم يكن والي المدائن في أواخر أيام عمر رضي الله عنه إذ أن عمر قدعين حذيفة بن اليمان على المدائن ولم يذكر المؤرخون عزل عمر لسلمان، فلعله استعفىعمر فوافقه بعد أن كان يمانع في إعفائه وولى بعده حذيفة بن اليمان، وقد ورد العديدمن الأخبار عن ولاية حذيفة على المدائن منها كتاب عمر إلى أهل المدائن بتعيينحذيفة والياً عليهم، وأمر عمر أهل المدائن بالسمع والطاعة لحذيفة، وقد استمر حذيفةوالياً على المدائن بقية أيام عمر وكذلك طيلة خلافة عثمان . ([5])

    * * * *




    1- كتاب الروضالمعطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري ص552 ، 553 .


    1- كتابالروض المعطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري ص105 ، 106 .


    1- كتابالروض المعطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري ص502 .


    1- كتاب الروض المعطار في خبرالأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري ص20-21 .


    1-أنظر كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار ( معجم جغرافي الحميري ص526 ومابعدها ) .



  14. #14
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (5)


    محاسبةعمر للقادة وولاة الأمصار




    (أولا )


    تدقيق عمر في اختيار القادة والولاة






    كان عمر رضي الله عنه دقيقا فياختيار ولاته أو قواده لأنه يعتبر نفسه مسئولا عن تصرفات هؤلاء وأن الله سيجازيعمر إن أحسنوا وسيعاقبهم إن أساءوا إلي الرعية لذا كان دقيقا في اختيار عماله بلكان يجري لهم في بعض الأحيان أختبارا سريا حتى إذا أطمئن إليه عينه كأحد عماله .


    وكان عم رضوان اله عليه إذا استعملعاملا اشترط عليه شروطا أن لا يركب دابة ولا يلبس رفيعا ولا يأكل نقيا ولا يغلقبابه دون حوائج الناس وما يصلحهم قال فأرسل إليه رجلين فقال : سلا عنه فإن كان كذبعليه فأعلماني وإن كن صدق فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتياني به فسألا عنهفوجداه قد صدق عليه فاستأذنا ببابه فقال : إنه ليس عليه إذن فقال : ليخرجن إليناأو لنحرقن بابه وجاء أحدهما بشعله من نار فلما رأي ذلك آذنه أخبره فخرج إليهمافقالا : أنا رسولا عمر لتأتيه قال : إن لي حاجة بتزود قالا : ما انت بالذي تأتيأهلك فاحتملاه فأتيا به عمر رضوان الله عليه فسلم فقال : من أنت ويلك ؟ قال :عاملك علي مصر وكان رجلا بدويا فلما رأي من زيت مصر أبيض وسمن فقال : استعملتكوشرطت عليك شروطا فتركت ما أمرتك به وانتهكت ما نهيتك عنه أما والله لا عاقبنكعقوبة أبلغ إليك فيها إيتوني بدراعة من كساء وعصا وثلثمائة شاه من شاء الصدقة قال: ألبس هذه الدراعة وقد رأيت أباك وهذه خير من دراعته وهذه خير من عصاه إذهب بهذهالشاة فارعها في مكان كذا وكذا وذلك في يوم صائف ولا تمنع السائل من ألبانها شيئاوأعلم إنا آل عمر لم نصب من شاء الصدقة ومن ألبانها ولحومها شيئا فلما أمعن ردهقال : أفهمت ما قلت لك ؟ وردد عليه الكلام ثلاثا فلما كان في الثالثة ضرب بنفسهالأرض بين يديه وقال : ما استطيع ذلك فإن شئت فاضرب عنقي قال : فإن رددتك فأي رجلتكون ؟ قال : لا تري إلا ما تحب فرده فكان خير عامل . ([1])


    وقد سار الفاروق رضي الله عنه على النهجالإسلامي في اختيار الولاة، كما أوضحنا سابقا ، فكان لا يولي إلا الأكفاء والأمناء والأصلح منغيرهم على القيام بالأعمال، ويتحرى في الاختيار والمفاضلة غاية جهده ولا يستعمل منيطلب الولاية، وكان يرى أن اختيار الولاة من باب أداء الأمانات، بحيث يجب عليه أنيعين على كل عمل أصلح من يجده، فإن عدل عن الأصلح إلى غيره مع عدم وجود ما يبرر ذلك،يكون قد خان الله، ورسوله والمؤمنين ، ومن أقواله في هذا الشأن: وأنا مسؤول عنأمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولاأستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحدسواهم ، وقال رضي الله عنه: من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هوأرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين ، وقال أيضاً: من ولي منأمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسولهوالمسلمين .


    - ومن المبادئ أيضا التي أستند إليهافي تعيين الولاة علم فرائض الدين: وقد جرى عمرالفاروق على سنة رسول الله صلى الله عله وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصة. قالالطبري: إن أمير المؤمنين، كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان، أمّر عليهمرجلاً من أهل الفقه والعلم ، ومن المبادئ أيضا الخبرة بشئون الحكم : كان عمر بنالخطاب يستعمل قوماً، ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل ، والتفضيل هنا إنما يعني أنأولئك الذين تركهم عمر، كانوا أفضل ديناً، وأكثر ورعاً، وأكرم أخلاقاً، ولكنخبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهمامعاً، وهذه القاعدة التي وضعها عمر، ما زالت متبعة حتى اليوم، في أرقى الدول، ذلكبأن المتدين الورع الخلوق، إذا لم تكن له بصيرة في شؤون الحكم، قد يكون عرضةلخديعة أصحاب الأهواء والمضللين، أما المحنَّك المجرَّب، فإنه يعرف من النظرةالسريعة، معاني الألفاظ، وما وراء معانيالألفاظ وهذا السبب نفسه هو الذي دعا عمر بن الخطاب أيضاً لاستبعاد رجل لا يعرفالشر، فلقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملاً فقيل له: يا أمير المؤمنين: إنه لايعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه ، وهذا لا يعني أن يكونالعامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمهامنطق الإدارة والحكم، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سمّاهعمر بن الخطاب: البصر بالعمل .


    - من المبادئ أيضا النظر إلي الحالةالإجتماعية التي يتمتع بها القائد فكان عمر ينظر، حين تعيينه أحد عماله، إلى بعضالخصائص والطباع والعادات والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهى عن استعمال رجل من أهلالوبر على أهل المدر ، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدنوهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن معاً، في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبروالمدر طبائع وخصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الواليعارفاً بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجلٌ جاهل بها، فقد يرىالعُرف نُكراً وقد يرى الطبيعي غريباً، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع منأهداف يسعى إلى تحقيقها .


    - وكان من أهم المبادئ التي يستندإليها الفاروق في إخيار الولاة : (القوة والأمانة) : وقد طبقالفاروق رضي الله عنه هذه القاعدة، ورجّح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمرشرحبيل بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل ، ومن أجمل ما أثر عن عمر فيهذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة .





    - ومن السمات أيضا أن يكون الواليشفوقا رحيما برعيته : فكان عمر رضي الله عنه يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة علىالرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغرروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزلهلكة، وكتب عمر لرجل من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعضأولاد عمر في حجر أبيهم يُقبّلهم. فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما قبَّلت ولداً لي قط، فقال عمر: فأنت واللهبالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملاً، ورده عمر فلم يستعمله ، وغزت بعض جيوشه بلادفارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يومشديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أنأموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولميلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، وبعثإلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال: لولا أن تكون سنّة لأقدت منك، لا تعمل لي على عمل أبداً ، وخطب عمر ولاتهفقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعمّ من حلم إمام ورفقه، وأنه ليسأبغض إلى الله ولا أعمّ من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بينظهرانيه يُرزق العافية ممن هو دونه .


    عدم تولية الأقارب : كان عمرحريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثلسعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضالأهل الكوفة به في أمر ولاتهم وكان دائم الشكوى منهم . وقول عمر: لوددت أني وجدترجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبدالله بن عمر،فقالعمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا ، وكان يقول: من استعمل رجلاً لمودة أولقرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله . كما أنه نهج النبي e فكان يحرم الولاية علي من طلبها أو سعيإليها : حيث كان لا يولي عملاً لرجل يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لميُعن عليه، وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول r.


    - ومن عجائب عمر في تولية الولاة انهأحيانا كان يلجأ إلي إخبارهم اختبارا دقيقا ليقف علي حسن نيتهم وطيب سرائرهم فيرويالأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عندهحولاً فقال يا أحنف قد بلوتك وخبرتك فرأيت أن علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكونسريرتك مثل علانيتك وأنّا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم، ثم قال لهعمر أتدري لم احتبستك وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاه ، ومن نصائح عمر للأحنف:ياأحنف، منكثر ضحكه قلتْ هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامهكثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه .


    - وكان من أهم المبادئ التي حاسبالولاة عليها هي عدم مزاولة العمال من التجارة حتي يتفرغوا لها فكان عمر يمنععماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين ، روي أنعاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عنمصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكملتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح . وكذلك فعل ذلك مع عمرو بن العاص حاكم مصرآنذاك حيث أغتني فجأة وذاع صيت غناه فأرسل إليه عمر بن الخطاب مفتشه الخاص محمد بنمسلمة ليحقق معه وقال له إني أزاول التجارة في ومصر أسعارها رخيصة فرفض عمر ذلكوطلب من محمد مسلمة أن يقاسمه نصف أمواله ويضعها في بيت مال المسلمين وفعل ذلك معولاة وقواد آخرين . وكان من عادته رضي الله عنه عندما يولي الولاة أن يقول بإحصارثروتهم قبل التعيين ثم يحصيها مرة أخري وما زاد عن ذلك زيادة غير مشروعة كانيقاسمه فيها كما فعل مع عمرو بن العاص .


    وكان عمر بن الخطاب يراعي عند توليةالولاة أن يعين الوالي علي عصبيته إذا وجد في ذلك صلاح لأمر الرعية فمن الملاحظ أنعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في كثير من الأحيان يولي بعض الناس على قومهم إذارأى في ذلك مصلحة ورأى الرجل جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته ((جابر بن عبد اللهالبجلي)) على قومه بجيلة ، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي علىالمدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعلهكان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره .


    - ويشير الدكتور الصلابي إلي أن عمربن الخطاب كان يصدر مرسوما مكتوبا لولاية العهد عند التعيين وقد يصدر مرسوما أخرلعز الوالي يحمله الوالي الجديد إلي الوالي المخلوع فكان إذا استعمل عاملاً كتب لهكتاباً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار واشترط عليه شروطاً في الكتاب كماقد يكون الشخص المرشح للولاية غائباً، فيكتب له عمر عهداً يأمره فيه بالتوجه إلىولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين أمره بالتوجهإلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، كما أنه في حال عزل أمير وتعيين آخر مكانهفإن الوالي الجديد كان يحمل خطاباً يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتابعمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعين أبا موسىمكانه .


    وكان عمر حريص علي أن يعيش العمال حياةالذهد والتقشف أمام رعيتهم وأن يكونوا صادقين في ذلك حتي يقتضي بهم المسلمون فكانيشترط علي الولاة : أن لا يركب برذوناً ، ولا يأكلنقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم فاشهد .


    وهذه الشروط تعني الالتزام بحياةالزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط فيالمعيشة، واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها،وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجباًفي الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوةالأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار. ([2])

    * * * *


    ( ثانيا )


    محاسبة عمر للمقصرين منالولاة



    لقد شكلت الفتوحات لعمر مشكلاتكبرى كان عليه أن يواجهها فإن تلك الفتوحات التي انتشرت في ميداني الفرس والروموالتي اتسعت كثيرا بدخول الكثيرين من أهلها في الإسلام كان علي عمر أن يضمن لهم الأمن والطمأنينة والرخاء في ظلالدولة الإسلامية الكبرى ، كما كان هناك نصارى معاهدون لم يدخلوا الإسلام ولكنهمدفعوا الجزية وعاشوا في كنف دولة الإسلام فكيف لعمر أن يدير تلك الدولة الكبرىبأقاليمها المتسعة ومشاكلها التي لا حصر لها وبأجناسها العديدة ؟ لقد كان عمر يعدنفسه مسئولا علي راحة المسلمين وسوف يحاسبه الله علي ذلك إذا قصر في حق من حقوقهم لذاكان يتفقد الناس في المدينة وما حولها بنفسه ويقوم بحاجة ذوي الحاجات منهم يفعلذلك بنفسه كما قلنا أو يأمر عماله أن يفعلوا ذلك وكان كل ما يخشاه أن يقصر الولاةفي أهل الأنصار ويكون لأحد منهم شيكات يقصر فيها العمال فيسأل عنها عمر يومالقيامة وكان يقول لو أن جمل هلك ضياعا علي شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.


    وكان عمر حريصا علي الأموالالعامة للدولة يحافظ عليها وينميها فكان يرعي أبل الصدقة بنفسه ويعالجها بيديهويضع يده علي موضع الداء : ويقول أني لأخشى أن يسألني الله عما بك. وقد وقف مرة فيحر الشمس يعد هذه الإبل ومعه علي وعثمان فكان يقول لعلي ويملي علي بن أبي طالب عليعثمان فيكتب عثمان ما يملي عليه فقال علي لعثمان مشيرا إلي عمر إن هذا لكما قالت ابنةشعيب لأبيها في موسي ( يا أبت أستأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) .


    ويقول الرواة أن عمر أول منأبتكر نظام العسس وهو أول من عس في المدينة ليلا وكان يطوف بها مرتين في الليلةيتفقد فيها أحوال المسلمين وكان يواجه في عسسه نوادر وطرائف تدعوا إلي الدهشةوالإعجاب .


    فكان يعس في احدي اللياليفسمع امرأة تقول : هل من سبيل إلي خمر فأشربها ، أم هل سبيل إلي نصر بن حجاج .فلما أصبح سأل عن نصر بن حجاج فأخبر بأنه رجل من سليم فأمر بإحضاره فلما نظر إليهرآه رجلا من أحسن الناس وجها وأجملهم شعرا ، فأمره أن يقص شعره ويعود إليه فلماعاد رآه قد أزداد حسنا ، فأمره أن يعتم فلما رآه بعد ذلك إذ العمامة قد زادتهجمالا ، فأقسم عمر لا يساكن هذا الرجل أبدا فأمر له بما يصلحه وسيره إلي البصرةجنديا يجاهد هناك .


    ويروي أيضا في هذا الصدد أنهعسي ليلة أخري فسمع نسوة يتحدثن ويتساءلن : أي أهل المدينة أصبح قالت إحداهن : أبوذئب فلما أصبح سأل عن أبي ذئب هذا فقيل له رجل من سليم فدعا به فرآه رجلا جميلافقال : أأنت ذئبهن ؟ وكررها ثلاثا ثم أمره بمثل ما أمر به صاحبه وفي كل مرة يزدادجمالا فأقسم لا يساكنه في بلد هو فيه فقال الرجل فإن كنت مسيري فألحقني بابن عميفألحقه بابن عمه بعدما زوده بما يصلحه وقد يقول قائل ما ذنب هذين الرجلين وقدخلقهم الله علي مسحة كبيرة من الجمال ولم يرتكبوا ذنبا يستحقان عليه التهجير ؟.ولكن المتأمل في تصرفات عمر يجد ان الباعث علي ذلك هو حرصه علي صالح العامللمسلمين وحتي لا تقع فتنه بين نساء المدينة وبخاصة أن الكثيرات منهن أزواجهنمغربون في ميادين القتال ومن هنا أخذ عمر بأخف الضررين . ولعل في تصرفات عمر هذه ما يدعونا اليوم إلي أننأخذ به أو باليسير منه ولم اقل كله فإن تلك الفتنة التي كان يخشاها عمر هي اليومسبب عدم انضباط الشارع المصري بل بصفة عامة هي سبب عدم انضباط السلوك عند كثير منشباب الأمة وهذا ما يفسر لنا انتشار ظاهرة الأغتصاب والتحرش الذي يتم ولا اكونمبالغا إذا قلت ان السبب الرئيسي في التحرش يرجع إلي العنصر النسائي وبما تمتلكهالفتيات من جمال وزينة وبما عليه منالعري والسفور . فهل لنا بعمر يضبط الشارع المصري !؟


    ومن يقرأ تاريخ عمر يجدأمثال هذه النوادر كثيرة ومنبثة في ثنايا سيرة عمر والباعث عليها كما نعرف هو خوفهمن الله سبحانه وتعالي وحرصه علي صالح الإسلام والمسلمين بل كان عمر أحيانا يدفعههذا الدافع الفطري إلي أن يخطأ أحيانا ولكنه سرعان ما يعترف بخطئه ويستغفر ربهفيروي أنه عس ذات ليلة فرأي رجلا من أهل المدينة جالسا علي شراب له فأنصرف عنه وقدعرفه فلما أصبح دعاه فقال له : أليس قد نهاك الله عن الخمر قال الرجل بلي . قالعمر : فما شراب كنت جالس عليه البارحة ؟قال الرجل : من أنبأك بذلك قال عمر : أنا رأيتك قال الرجل : ألم ينهك الله عنالتجسس يا أمير المؤمنين ؟ فسكت عمر عنه واستغفر الله . ([3])


    كان عمر شديدا كل الشدة عليولاته ويحاسبهم أدق حساب ويعد هذا بلا شك رفق من عمر بالمسلمين وحرصا منه علي أداءالحق إلي أهله وكان لا يولي أحدا من الولاة إلا أحصي ماله وما يمتلك قبل أن يذهبإلي عمله فإن رآه أغتني أو زاد علي ماله الأصلي زيادة غير مقبولة قاسمه هذهالزيادة فعل ذلك مع خالد بن الوليد بعد عزله وقاسم أيضا جماعة من ولاته في أموالهمبعد أن عزلهم .


    وحرصا علي مصلحة الرعية أيضاكان يراقب ولاته مراقبة شديدة فلم تصل إليه شكوى من أحد من الرعية إلا وأهتم بهاوحقق فيها وأصدر أوامره التي تنجيه من سؤال ربه كما سنوضح بعد .

    ( ثالثا)


    شكاوى الرعية في الولاة:



    كان عمر رضي الله عنه يحقق بنفسه في شكاوى الرعية ضد ولاتهم وكان يحرص علىاستيضاح الأمر، والتحقيق الدقيق واستشارة أصحاب الرأي والشورى الذين كانوا منحوله، ثم كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحق سواء أكانعاملاً أم من الرعية ، وهذه بعض الشكاوى ضد الولاة وكيف تعامل عمر معها رضي اللهعنه ومن أمثلة هذه الشكاوي :


    أ- شكوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:


    عن الحسن رحمه الله قال : قال عمر : أعياني أهل الكوفة فإن استعملت عليهملينا استضعفوا وإن استعملت عليهم شديدا شكوه ولوددت أني وجدت رجلا قويا أمينامسلما استعمله عليهم فقال رجل : يا أمير المؤمنين أنا والله ادلك علي الرجل القوىالأمين المسلم فأثني عليه قال : من هو قال : عبد الله بن عمر قال عمر : قاتلك اللهوالله ما أردت الله بها .


    وعن الحسن قال : قال عمر رضوان الله عليه : هات شيئا أصلح به قوما أبدلهمأمير مكان أمير ([4]) .


    - اجتمع نفر من أهل الكوفةبزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أميرالمؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ماداهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيماً بالرعية قوياً حازماً على أهلالباطل والشقاق، عطوفاً على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممنلا يطيقون حكم الحق ويريدون أن يحققوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتاًرأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيريةتستدعي اتفاق كلمة المسلمين وتظافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمامعمر الشديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصة في مثل تلك الظروف، فرجوا أنيفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مععلمه بأنهم أهل هوى وشر، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرّح لهم بذلك، وبين لهم أناعتقاده بظلمهم لواليهم وتزويدهم الحقائق لا يمنعه من التحقيق في أمرهم، واستدلعلى سوء مقصدهم بتوقيتهم السيء حيث قال لهم: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقداستعدّ لكم من استعدوا،، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوابكم ، فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع،وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شُكي زمان عمر فقدم محمد علىسعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوَّف بهعلى مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر منشانهم إذ ذاك .


    وفي هذا بيان لمنهج الصحابةرضي الله عنهم في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤولين ومن تحتولايتهم، فالتحقيق يتم في العلن، وذلك بحضور المسؤول والذين هو مسؤول عنهم وكان لايقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيراً ولا نشتهي به بدلاً،ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوايسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بنيعبس. فقال محمد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللهمإن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، فقالسعد: اللهم إن كان قالها كذباً ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضهلمضلات الفتن، فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتىيحبسها، فإذا عثر عليه، قال: دعوة سعد الرجل المبارك. قال: ثم أقبل – يعني سعد –على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً وكذباً فاجهدبلاءهم، فجُهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط،وشُدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء – يعني الضرب – بنعال السيوف – يعنيبأعقابها .


    وكان عمر رحمه الله واثقا منسعد لانه كان علي حق وعندما جاء إلي عمر بن الخطاب سأله قائلا – يا سعد ويحك كيفتصلي؟ قال: أطيل الأُوليين وأحذف الأخريين، فقال هكذا الظن بك، ثم قال عمر رضيالله عنه: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنا، ثم قال: من خليفتك يا سعد علىالكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره واستعمله ([5]) وقول عمر رضي الله عنه:لولا الاحتياط كان سبيلهم بينا يعني قد اتضح أمرهم، وأنهم ظالمون جاهلون، وظهرت ومنهنا تأكد براءة سعد فقد أوصي به عمر عند مماته خيرا وقال إنني لم أعزله عن تقصيرفه وأوصي عثمان بأن يستعمله إن أراد .


    ب- شكاوى ضد عمرو بن العاص والي مصر:


    كما شكا أهل مصر واليهم عمرو بنالعاص وكان دائما يسأل من يأتي من الأمصار عن سيرة عمرو معه وطريقته في حكمه وقدسمع انه أتخذ عمرو بن العاص منبراً كتب إليه: أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراًترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك فعزمتعليك إلاما كسرته ([6]) ، وكان عمرو بن العاص يخشى مراقبة عمر بن الخطاب ويعلم مدى حرصه على إقامةالعدل بين الناس، وعلى إقامة الحدود الشرعية، فكان يبذل جهده حتى لا يصل إلى عمرمن الأخبار إلا ما يسره ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ورجلاً آخر شرباشراباً دون أن يعلما أنه مسكر فسكرا، ثم إنهما جاءا إلى عمرو بن العاص يطلبان منهأن يقيم عليهما الحد فزجرهما عمرو وطردهما، فقال له عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرتأبي قال عمرو: فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني، ثم إن عمرو جلدهماأمام الناس وحلق رأسيهما داخل بيته، وكان الأصل العقاب بالحلق مع الجلد في وقتواحد أمام الناس، فجاءه كتاب من عمر يعنفه على عدم حلقه أمام الناس، وكان فيه:تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبدالرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت هو ولد أميرالمؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه .


    وقد وجهت ضد عمرو بن العاص بعض الشكاوى أثناء ولايته بعضها من جنودهالمسلمين، وبعضها من أهل البلاد من الأقباط، مما دعا عمر رضي الله عنه إلى استدعاءعمرو بن العاص عدة مرات، لمعاتبته بل وأحياناً لمعاقبته على ما بدر منه، ومن ذلكما تقدم به أحد المصريين ضد ابن لعمرو بن العاص ضربه بالسوط، مما جعل عمر بنالخطاب يستدعي عمرو وابنه ثم يأمر المصري بالقصاص من ابن عمرو بن العاص ويقول له: لو ضربت أباه عمرولما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: متىاستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ، وكذلك يدخل في هذا الباب ما تقدم بهأحد الجنود من أن عمرو بن العاص اتهمه بالنفاق وكتب معه عمر إلى عمرو بن العاصأمراً بأن يجلس عمرو أمام الناس فيجلده إذا ثبت صدق ما ادعاه بشهادة شهود، وقد ثبتبالشهادة أن عمرو رماه بالنفاق، فحاول بعض الناس أن يمنع الرجل من ضرب عمرو وأنيدفع له الأرش مقابل الضرب، ولكنه رفض ذلك، وعندما قام على رأس عمرو ليضربه سأله:هل يمنعني أحد من ضربك؟ فقال عمرو: لا فامض لما أمرت به، قال: فإني قد عفوت عنك .(2)


    جـ- شكاوى ضد أبي موسى الأشعري والي البصرة:


    كما كان هناك بعض الشكوى من أهل البصرة ضد واليهم أبي موسي الأشعري فعنجرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية،في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً،فجلده أبو موسى عشرين سوطاً وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتىقدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب، قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يدهفاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر ثم قال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدقوالله لولا النار فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره،وقال ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه، فقال عمررضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، فأحب إلي من جميع ما أفاء اللهعلينا، فكتب عمر إلى أبي موسى: السلام عليك أما بعد فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا،فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس، حتىيقتص منك وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتصمنك، فقدم الرجل، فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا والله لا أدعه لأحد من الناس،فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم إني قدعفوت عنه .


    وكان عمر لا تستبد به شهوة الضرب لرعيته او القسوة عليهم وإنما كان يستمعإليهم ويستغفر لهم حتى يتوبوا ويقلعوا عن ذنوبهم وعن عبد الله بن عمر –رضي اللهعنهما- قال: كنا مع عمر في مسير فأبصر رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجليريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى وبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ماشأنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطافبي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيكفتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر –رضي الله عنه- وقال:ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك وأن لي كذا وكذا، وقال: إن كنت ممن شرب الخمر، فلقدشرب الناس الخمر في الجاهلية، ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً أتاني فذكر كذاوكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فأمر الناس أن يجالسوه وأن يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته،وكساه وأمر له بمائتي درهم ، وجاء في رواية: إن فلاناً بن فلان التميمي أخبرنيبكذا وكذا، وايم الله لئن عُدت لأسودنّ وجهك وليطاف بك في الناس، فإن أردت أن تعلمأحقًّ ما أقول فعد وأمُر الناس فليؤاكلوه وليجالسوه، وإن تاب فاقبلوا شهادته وكساهعمر رضي الله عنه حُلّة وحمله، وأعطاه مائتي درهم ، وهذه القصة فيها حرص الفاروقعلى ألا يتعدى أحدٌ من عماله العقوبات الشرعية عند معاقبة العاصين .([7])


    د- شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر:


    وكان عمر غالبا لا يعلم الولاة كيف يحكمون فقد وردت رواية عن قاضي دمشق أنهجاء إلي عمر فسأله : كيف تقضي قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإذا جاءك ما ليس فيكتاب الله ؟ قال : أقضي بسنة رسول الله . قال : فإذا جاءك ما ليس في سنة رسول اللهقال : أجتهد برأيي وأوامر جلسائي فقال : أحسنت ! قال : وإذا جلست فقل اللهم إنيأسألك أن افتي بعلم وأن أقضي بحلك وأسألك العدل في الغضب والرضا قال : فسار الرجلما شاء الله أن يسير ثم رجع إلي عمر قال : ما أوجعك ؟ قال : رأيت الشمس والقمريقتتلان مع كل واحد منهما جنود من الكواكب قال : مع أيهما كنت ؟ قال مع القمر قال: يقول الله عز وجل ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آيه الليل وجعلنا آيةالنهار مبصرة )(2) لاتلي ليعملا وتمامه فلما اقتتل علي ومعاوية كان مع معاوية .(3)


    وكان عمر ينتهز فرصة تواجد الولاة مع رعيتهم في موسم كموسم الحج مثلافيستغلها فرصة ليتكلم عن حقوق كلا من الوالي والرعية فقد بلغ عمر رضوان الله عليهأن عمالا من عماله اشتكوا فأمرهم ان يوافوه فلما أتوه قام فحمد الله وأثني عليه ثمقال : أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا : النصيحة بالغيب والمعاونة علي الخير .أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقا : اعملوا أنه لا حلم إلي الله أحب ولا أعم نفعامن حلم إمام ورفقه ، وأنه ليس جهل أبغض إلي الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه اعملواانه من يأخذ بالعافية ممن بين ظهرانيه يرزق العافية ممن هو دونه .


    عن قيس بن كعب قال : بعث عمر جرير مسمعا علي الجيش انه من يسمع يسمع اللهبه فسقطت رجلُ رجلِ من المسلميت من البرد فبلغ عمر فأرسل إليه جريرا مسمعا أنه منيسمع يسمع الله به . (4)


    وكانت حمص كثيرة الشكوى من الولاة حتى سمها الرواة الكوفي الصغرى ولننظرونتأمل تلك المحاكمة التي دارت بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبين عامله عليحمص سعيد بن عامر الجمحي عندما قدم عمر إلي تلك المدينة في الشام قال: يا أهل حمص،كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، فقالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالىالنهار، قال: أعظم بها وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، وماذا؟قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة وماذا؟ قالوا: يَغْنَطالغَنْطَة بين الأيام ([8]) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم، وافتتحالمحاكمة فقال لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار،قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثم أجلسحتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم . فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لايجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهموجعلت الليل لله عز وجل . قال: وما تشكونمنه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه . قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولالي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجفّ ثم أدلكها ثم أخرج إليهم آخر النهار . قال: ما تشكون منه، قالوا: يَغْنط الغنطة بينالأيام قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثمحملوه على جذعة فقالوا، أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال، والله ما أحب أني في أهليوولدي وأن محمداً e يشتاكُ شوكة ، ثم نادى يا محمدفما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلاظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر:الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك،ففرَّقها جميعها علي الفقراء والمساكين وذوى الحاجة .





    هـ- عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية:


    قال قيس بن أبي حازم رحمهالله: استعمل عمر –رضي الله عنه- رجلاً من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بنحيان بن بقيلة، فأمال عليه بالطعام والشراب ما دعا به، فاحتبس الهزل ،(2) فدعاالرجل فمسح بلحيته، فركب إلى عمر –رضي الله عنه- فقال يا أمير المؤمنين، قد خدمتكسرى وقيصر فما أُتي إليّ ما أتي في ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلانفأمَلْنا عليه بالطعام والشراب، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي، فأرسلإليه عمر –رضي الله عنه- فقال: هيه؟! أمال عليك بالطعام والشراب ما دعوت به، ثممسحت بلحيته؟ والله لولا أن تكون سنة ما تركت في لحيتك طاقة إلا نتفتها، ولكن اذهبفوالله لا تلي لي عملاً أبداً (3) .


    - ويروي أن سعد بن أبي وقاصوالي الكوفة آنذاك قد أتخذ لدار الإمارة باب تحميه من الضوضاء وجلبت السوق وكان عمر يأمر ولاتهدائما ألا يتخذوا أبوابا لدورهم تمنع الناس من الدخول إلي الولاة لقضاء حاجاتهم فلما علمبذلك الباب أرسل محمد بن مسلمة وأمره إذا بلغ الكوفة أن يعمد إلي هذا الباب أولا فيحرقهقبل أن يكلم سعدا أو يسمع منه ففعل ذلك وأحرقالباب .


    ويقال أنه أرسله مرة أخرىإلي سعد بن وقاص في الكوفة عندما أشتكي منه بعض الناس وأوصي محمد بن مسلمة أن يسأل الناس أفراداوجماعات عن سعد وتصرفة معهم فلم يسمع إلا مدحا وثناء علي سعد إلا نفرا قليلا زعمواأنه لا يحسن الصلاة فعزله عمر .


    ومما يجدر الإشارة إليه أنعمر بن الخطاب كان واثقا من صلاح سعد وتقواه ولكنه عزله لأنه كان يري دائما أنمصلحة الرعية أفضل من مصلحة الفرد فلم يعزل سعدا عن تقصير أو خيانة ومما يدل عليذلك أن عمر سأل سعد بعد عودته إلي المدينة كيف كنت تصلي قال سعد : كنت أطيل فيالرقعتين الأوليين ، وأقصر في الركعتين الأخريين . قال عمر : ذلك الظن بك يا أباإسحاق ويقال أنه قاسمه ماله مع ذلك فلما طعن عمر وهو في اللحظات الأخيرة من حياتهأوصي من يأتي بعده أن يولي سعدا فإنه لم يعزله عن عجز ولا عن خيانة كما أوضحناسابقا .


    وكان عمر رفيق رحيم بالناسوكان يغضب أشد الغضب إذا عذب الولاة الناس أو ظلموهم كان يقول دائما ويسمعه أهلالمدينة ويسمعه من ورد عليها من الأمصار ( إني لن أرسل عمالي ليضربوا أبشار الناسولا ليظلموهم وإنما أرس إليهم ليعلم الناس يدينهم وسنة نبيهم ويقسموا بينهم فيئهمويقيم أمرهم كله علي العدل وكان دائما ينصح عماله بألا يضربوا المسلمين فيزلوهمولا يحرموهم فيكفروهم ولا ينزلوهم الغياض فيضيعوهم .([9])


    وكان رحمه الله دائم التفقدفي عماله في كل مناسبة تلوح فكان لا يري أحدا عائدا من الأمصار إلا سأله عن أمرهكله وعن أمر الجند وعن سيرة قواده .

    ( رابعا)


    تأديب عمر لولاته بفرض العقوبة عليهم :



    نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته فقد لاحظ ذلك الرجل وجود بعض الأخطاء التيوقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم ومعاقبتهم على هذه الأخطاء التي وقعوا فيها وقداختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث وحسب ما يراه الخليفة ومن أهم أساليب تلكالمعاقبة :


    أ- القود من الأمراء والاقتصاص منهم لو أخطأوا:


    - كان يقود الأمراء ويقتص منهم إذا أخطئوا أو أصروا علي الخطأ أو ضربواأحدا من الرعية ضربا مبرحا بدون وجهة حق وقد كان عمر يقول: ألا وأني لم أرسل عماليليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم،فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه ، ولم يكتف عمربالبيانات الرسمية التي تهدد الولاة وتمنعهم من الاعتداء على الناس بل إنه طبق ذلكعملياً، كما مر معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو بن العاص رضيالله عنهم علي نحو ما عرفنا سابقا . وكان يقوم عمر أحيانا بعزل الولاة المعانديناو المصرين علي الأخطاء لا يرتضيها عمر ، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجةتدخله فيما لا يعنيه في شئون أجناده حيث بعثه على جيش، فلما نزل بهم قال: عزمتعليكم لما أخبرتموني بكل ذنب أذنبتموه فجعلوا يعترفون بذنوبهم فبلغ ذلك عمر فقال:ما له لا أم له، يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً ، كما غضبعمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره وهو يتمثل فيها بالخمر فعزله . فقد استعملالفاروق عمر النعمان علي مدينة ميسان فقال شعرا :


    ألا هـل أتـي الحسناء أن خليلها بميسانيسقي في زجاج وحنتم


    إذا شئـت غنتنـي دهاقين قـرية ورقاصةتحثو علي كل منسـم


    فغن كنت ندماني فبالأكبر اسقنـي ولاتسقني بالأصغـر المتلثـم


    لعـل أميـر المـؤمنين يسـوءه تنـادمنابالجـوسق المتهـدم


    فلما بلغ عمر قوله قال : نعم واللهإنه ليسوءني من لقيه فليخبره إني قد عزلته فقدم عليه رجل من قومه فأخبره بعزلهفقدم علي عمر فقال : والله ما صنعت شسئا مما قلت ولكن كنت أمرا شاعرا وجدت فضلا منقول فقلت فيه الشعر ( فقال عمر ) والله لا تعمل لي علي عمل ما بقيت وقد قلت ما قلت.([10])


    ب - النهي عن البذخ في بيوت الولاة


    وكان عمر رحمه الله يأمر ولاته بعدم البذخ والاقتصار فيمعيشته والاكتفاء بما يقوم عليه معاشهم بدون إسراف او موالاه حتى لا يقعوا فيالترف المنهي عنه منه الله سبحانه وتعالي ، فروى ابن شبة: أن عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عمل فبلغه أن امرأته تجددبيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليكأما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألاتضعه من يدك حتى تهتك ستورها، قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس فنظر في الكتاب،فعرف القوم أنه قد أتاه بشيء يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثم قال للقوم: انهضوا فنهضوا:والله ما يدرون إلى ما ينهضهم، فانطلق بهمحتى أتى باب داره فدخل فلقيته امرأته فعرفت الشر في وجهه فقالت له: مالك؟ فقالإليك عني قد أرمقتني ( أوجعتني وأغضبتني لسان العرب ) ، فذهبت المرأة، وقال للقوم:ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النحو واهتكوا، قالفهتكوا جميعاً حتى ألقوها إلى الأرض والكتاب في يده لم يضعه بعد وفي أثناء زيارةعمر إلى الشام دعاه يزيد بن أبي سفيان إلى الطعام فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعضالستائر، فأخذ عمر يقطعها ويقول: ويحك أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من الناسلسترهم من الحر والبرد .(2)


    جـ- التأديب بالضرب :


    لقد كان عمر رحمه الله ل يخشي في الله لومة لائم وكان لا يتحرج من ضربالولاة إذ أخطئوا وكان يحمل دائما الدرة بيده يضرب بها بعض الولاة ، بسبب حوادثاقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إلى الشام دخل على بعض ولاته فوجد عندهم بعض المتاعالزائد، فغضب عمر وأخذ يضربهم بالدرة ، وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام لقيهالأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثم خالد على الخيول،عليهم ثياب فاخرة لا تليق بالمجاهدين فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرعما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم مذ سنتين وبالله ولوفعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنهايلاقة وإن علينا السلاح، قال فنعم إذن . ويبدو من هذه العبارة كياسة معاوية بن أبيسفيان الذي عمل علي أن يظهر أمام أهل الشام بمظهر يليق بالدولة الإسلامية ويليقبخليفتها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأهل الشام معاصرون للروم وكان يرون نظام الدولة وهيبتها فأراد معاويةبهذا اللباس الفاخر وبالسلاح الشاكي أن يوقع الهيبة في نفوس أهل الشام .


    د- خفض الرتبة من وال إلى راعي غنم:


    وقد استعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أحد ولاته، روى ابن شبة: أنعمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذنوّاباً ، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف،فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها فلماجازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب،حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردهاعلي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال انزع عليهافاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها فلم يزليعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعودقال: لا قال: ارجع إلى عملك ، وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياضبعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه .


    هـ- فصل العمال قساة القلوب


    وكان عمر رحمه الله يفضل الولاة الرحماء برعيته بل كان لا يتورع أن يعزلالولاة إذا قست قلوبهم ، فعن المصفق ان عمر رضوان الله عليه كتب لرجل عهدا بعضولده فأقعده في حجره فقال الرجل : ما أخذت ولدا لي قط قال : فما ذنبي إن كان اللهعز وجل نزع الرحمة من قلبك وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ثم انتزع العهد ن يده.


    عن أبي عثمان قال : استعمل عمر رضوان الله عليه رجلا من بني أسد هذا عملفدخل ليسلم عليه فأتي عمر ببعض ولده فقبله فقال الأسدي : أتقبل هذا يا أميرالمؤمنين ؟ فوالله ما قبلت ولدا لي قط فقال عمر : فانت والله بأولاء الناس أقلرحمة لا تعمل لي عملا أبدا فرد عهده .([11])


    و- من أين لك هذا :


    كان عمر رحمه الله حريصا علي المال العام للدولة وعلي ألا تمتد أيدي الولاةاو القاضة لنهبه أو الأخذ منه من أجل هذا كان يحصي أموال الولاة أولا ثم يعينهمفإذا ظهر لهم ثروة وغنا حاسبهم عليها وكان تطبيق هذا النظام أمراً احتياطياً فيزمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشي أنيكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم وقد علق ابن تيمية علىفعل عمر هذا فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرةوالمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بنالخطاب -رضي الله عنه- من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهملما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنه كانإمام عدل، يقسم بالسوية وقد قام عمر رضيالله عنه بمشاطرة أموال عماله منهم، سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة وعمرو بن العاصرضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله، إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زادعلى ذلك، وربما أخذه منهم ، وقد قام أيضا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذاما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إنيلم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال وعشور الأبلة، فهو يقرضك المالتتجر به ، وقاسم كذلك عمرو بن العاص عندما ظهر غناه في مصر وكذلك خالد بن الوليدوقد قاسمه أيضا امواله في الشام وكان عمر يأمر ولاته بالتفرغ التام للحكم وعدم العمل بالتجارة أو الزراعة أو غير ذلك منمهن . وإذا كان الولاة قد فرض لهم عطائهم وأرزاقهم وأنصبتهم المشروعة ما يكفيهم فيحياتهم فإذا امتدت أيديهم إلي المال العام فينبغي أن يحاسبهم بقانون أين لك هذاوهو فانون قد سبق به عمر الحضارات الحديثة .


    س- التوبيخ الشفوي والكتابي:


    وقد قام عمر بن الخطاب رضيالله عنه على معاتبة الأمراء على تصرفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إنه عاتب عمروبن العاص مرات، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وغيرهممن الأمراء ، وأما المعاتبة الكتابية في خلافة عمر فهي كثيرة، منها: أنه كتب إلىأحد الولاة، وكان قدم عليه قوم فأعطى العرب وترك الموالي: أما بعد فبحسب المرء من الشرأن يحقر أخاه المسلم والسلام .


    ومن هذا كله نجد أن الولاةلم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتأديب بصور مختلفة، ولم تشهد البشرية مثيلاً لهافي عدلها وجرأتها، مما جعل هذا العصر الراشدي بحق نموذجاً رفيعاً للحضارةالإسلامية بعد عصر الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، هذا وقد كانت حرية النقاش وبحث المشاكل بينالخليفة وولاته مكفولة إلى أقصى ما يمكن تصوره من حرية النقاش، لا يرهب الواليسلطان الخليفة وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشام تلقاه معاوية في موكبعظيم فلما رأى معاوية عمر نزل من على صهوة جواده، ومشى إليه، وقال: السلام علىأمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يرد عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر وكانمعاوية سميناً، فلهث. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل، فلوكلمته: فالتفت إليه عمر وقال يا معاوية، أأنت صاحب الموكب الذي أرى. قال: نعم ياأمير المؤمنين. قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: نعميا أمير المؤمنين. قال: لم ويحك؟ قال معاوية: لأننا ببلاد كثر بها جواسيس العدو،فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف منالابتذال وجرأة الرعية. وأنا بعد عاملك، إن استوقفتني وقفت، وإن نهيتني انتهيت ياأمير المؤمنين. قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه، إن كنت صادقاً فإنه رأىلبيب، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك، وانصرف عنه . ([12])




    * * * *




    1- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص116 .

    1- أنظر كتاب فصل الخطاب في سيرة بنالخطاب – الصلابي صـ310 ( بتصرف ) .


    1-أنظر الشيخان صـ 184 .


    1- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص114 ،115 .

    1- الطبري ج4 .


    1- ابن عبد الحكم فتوح مصر وأخبارها صـ92 .
    2- المرجعالسابق .

    1- فصلالخطاب في سيرة بن الخطاب للدكتور علي محمد الصلابي ص249 .
    2- سورة الإسراء آية 12 .
    3- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ص114 .
    4- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    1- أي يغمى عليه ويغيب عن حسه .
    2- أي أكثر من الهزل .
    3- الصلابي المصدر السابق351 .



    1- المصدر السابق ص 351.


    1- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ص111 ، 112 .
    2- الصلابي المصدر السابق ص353 .



    1- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ص116 .

    1- فصل الخطاب في سيرة بنالخطاب للصلابي ص356 .



  15. #15
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة الخامسة)


    عزل عمر لخالد بن الوليد


    تعددت الأسباب عند كثير من الرواه بل تضاربت تضاربا شديدا لا يقوي إحداهاعلي أن تكون سببا حقيقا دفع الفاروق عمر إلي عزل خالد بن الوليد سيف الله المسلولومن هذه الأسباب كما رواها بعض المؤرخين :


    أسباب وهمية في تفسير عزل خالد


    - أسباب تعود إلي حياة الجاهلية حيث يروي بن عساكر أن خالدا بن الوليد وعمرتصارعا وهما غلامان فكثر خالد ساق عمر فحملها له في نفسه وحقد عليه حتي إذا ماأصبح الخليفة رأي الفرصة سانحة للانتقام منه وذلك بعزله . ([1])


    وبطبيعة الحال فإن هذه الرواية باطلة لأن الإسلام الذي تغلغل في أعماق عمروالذي غيره تغيرا جديدا فعلمه السماحةوطهارة النفس والإحسان لم يدفعه ذلك إلي أن يبيت تلك الأعوام علي ضغينة في نفسه .


    - ومن الأسباب أيضا ما رواه بعض الرواة أن سبب غضب عمر علي خالد لأنه كانالسبب الأول في هزيمة المسلمين يوم أحد إذ شج وجه رسول الله e وكسرت رباعيته وتمزقت شفته معقتل أعداد كبيرة من الصحابة . وأعتقد أن هذه أيضا رواية باطلة فإذا كان النبي e لم يغضب من خالد ولم تدعه الموجدة إلي أن يكبت غضبه في نفسه بل أنالرسول e تناسي ذلك تماما بمجرد إسلامخالد بن الوليد وقد سر الرسول بإسلامه وبلغ في إكرامه مبالغة كبيرة ثم سماه بعدذلك سيف الله بل أمره علي الجند في عزوة الفتح وفي حنين .


    - أن خالدا كان يتميز بمواهب فائقة ومهارات فيالقيادة حاذقة ولعل البعض قد أخذته الغيرة من تلك السمات التي يتحلي بها خالد فبدأيسجلها بطريقة فيها تشويه يسيء إلي خالد نفسه ، وكان يتصرف أحيانا من تلقاء نفسهدون انتظار أمر من الخليفة حتى لا تضيع عليه الفرص التي يراها سانحة ، وكان يأخذهاالبعض ان هذا ضعف من الخليفة أبي بكر وتحكم من خالد بن الوليد فيه وقالوا أن خالدالا يرفع حسابا لأبي بكر ويفعل ما يريد من أشياء لا يراها أبو بكر وكان الصديق يغفرله ذلك بينما عمر كان يغضب لها . ([2])


    - والأمر الذي ينبغي الالتفاتإليه هو طبيعة خالد بن الوليد التي أهلته للقيادة لقد كان يحب أن يعمل فياستقلالية تامة ولا يرجع إلي الخليفة إلافي الأمور الكبرى فقط وذلك يعطيه مرونة فائقة في مواجهة الصعاب لانه إذا ما أنتظرأمر الخليفة ضاعت الفرصة لأنها لا تحتاج إلي التأخير والتواني ويروي بن حجر في الإصابةعن الإمام مالك بن أنس ، قال عمر لأبي بكر : اكتب إلي خالد : لا يعطي شيئا إلابأمرك . فكتب إليه أبو بكر بذلك : فأجاب خالد بقوله : (( إما أن تدعني وعملي ،وإلا فشأنك بعملك )) فأشار عمر علي أبي بكر بعزله فقال له أبو بكر : (( فمن يجزيعني جزاء خالد ؟ قال عمر : أنا فقال أبو بكر : (( فأنت )) وتجهز عمر حتى أنيجالظهر في الدار ، فمشي أصحاب النبي إلي أبي بكر وقالوا : ( ما شأن عمر يخرج وأنتمحتاج إليه ، ومالك عزلت خالدا وقد كفاك ؟ فقال : ( فما أصنع ) ؟ ( قالوا : تعزمعلي عمر فيبقي ، وتكتب إلي خالد فيقيم علي عمله ) ففعل . أ . هـ .


    وعلي الرغم من استقامة المتنمع المعني المرجو من الرواية إلا ان فيها أيضا تبرم نحو شخصية أبي بكر فهل كانمذبذبا إلي هذا الحد أن يأمره بعض الناس بعزل خالد فيعزل ، ويأمره بعضهم أن يرجعهفيرجعه فالقصة فيها تهافت يضعفها .


    ولعلني لم أخطأ إذا عللتكثرة هذه الآراء والروايات حول عزل خالد ؛ فإن شخصية خالد بن الوليد في جاهليتهوإسلامه وإكبار الناس له جعلت عزله حادثا لا يصدق يثير الدهشة في نفوس الناسفراحوا يألفون الروايات تلو الروايات التي في ظنهم أنها تحفظ علي القائد مكانتهولكن من في مثل خالد ليس في حاجة إلي من يدافع عنه أو يثني عليه فالكبير كبير دومابإيمانه وعمله ووجاهته ، وإذا كنا نريد أن نفتش عن الأسباب المعقولة التي أدت إلي أنيعزل عمر بن الخطاب خالدا بن الوليد بعدما عرفنا ذلك الكم الهائل من الركام والأوهام والأسباب المختلقة فعلينا أن نقف وقفةمتأنية تتيح للعقل أن يعمل وللفكر أن يتدبر . فالأسباب المعقولة لعزل خالد يمكنناأن نستنبطها علي النحو التالي :-


    الأسباب المعقولة لعزل خالد


    1- خشي عمر ان يفتتن بهالجند المسلمون فقد حقق النصر تلو النصر وظلت راية خالد منتصرة في معاركه الكبرىلذا نراه يخشي أن يتأثر به بعض الجند فيداخلهم الغرور إلي نفوسهم وهم بلا شكمجموعة من القواد العظام التي تخرجت في مدرسة النبوة العسكرية وقد عبر عن هذا الفاروقعمر إذ كان هذا السبب يختلج في نفسه وتأثر في مكنون سريرته فكان دائما ينظر إليخالد بن الوليد والمثني بن الحارثة فاتحي الشام والعراق نظرة فيها خوف وإشفاق فكانيقول : ( أنا والله لئن صير الله هذا الأمر إلي ، لاعزلن المثني بن الحارثة عنالعراق وخالد بن الوليد عن الشام حتى يعلما أن الله هو الذي نصره ، ليسا هما ) ([3]) .


    2- تطلع الفاروق إلي ظهور دماء جديدة في القيادةالعسكرية العربية وذلك بإفساح المجال بطلائع جديدة من القيادات حتى تتوفر لديالمسلمين نماذج كثيرة من القواد كل قائد متميز في ناحية من نواحي الحرب أو فيمجالات الحرب كلها أمثال خالد بن الوليد ، عمرو بن العاص ، المغيرة بن شعبة ،والمثني بن الحارثة ، وسعد بن أبي وقاص ، والقعقاع بن عمرو ، وشرحبيل بن حسنهوغيرهم كثيرون .


    3- كان منهج كل من الشيخين مختلفا حول خالد بن الوليد وهذا الاختلاف منبثقبطبيعة الحال من المنهج العام في حكم كلا منهما فقد كان أبو بكر يترك الأمورلقادته ولاسيما الأمور الصغرى أو العاجلة في الميدان من تعبئة وتشكيلات لصفوف وخدعوتسليح وتموين إلي غير ذلك بينما كان عمر يصر بكل شدة علي أن يكون ملما لكل شيءوأن يستأذنه القادة في كل صغيرة وكبيرة وهذا أمر كان يرفضه خالد فهو لا يلاءمأسلوب العسكري المرموق فهو يود أن يعطيالحرية كاملة من غير الرجوع إلي أحد وتطلق يده في كل التصرفات فهو يؤمن بأن الشاهديري ما لا يراه الغائب ، وهناك مثال علي ذلك وقد خرج خالد بن الوليد وهو وعياض بنغنم إلي دروب الروم ومداخلها فغنموا غنائم كثيرة فلما عادوا بها إنتجعهم طلابالإحسان ورواد الجود فأعطي خالد بسخاء وكان ممن غمره خالد بعطائه الأشعث بن قيسالكندي حيث أعطاه عشرة ألاف دينار ، فبلغ أمر هذا العطاء عمر بن الخطاب فأعظمه ،ورأي في سياسة خالد التي عزل من أجلها عن إمارة الجيش وهي تمتعه بحرية التصرف فيالمال والاندفاع بالمسلمين في مغامرات حربية من غير أن يستأذن الخليفة .


    4- كان خالد يتصرف بحرية تامة في أموال الغنائم حينا وذلك ليتألف القلوبويغري ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء . وكان عمر يري أنه لا داعي لتأليف القلوبآنذاك فإن فترة تأليف القلوب بالمال قد انتهت وسار الإسلام في غير حاجة إلي هؤلاءومن هنا كان هذا الأمر سببا من أسباب النزاع حيث كان خالد بناء علي هذه النظريةيعطي أصحاب البأس وذا الشرف ، وذا اللسان أعتمادا علي أن رسول الله لما رجع منحنين أعطي الطلقاء من أمال قريش وأعطي أشراف العرب أمثال الأقرع بن حارث وعيين بنحصن الفزاري وعباس بن مراداس ... وكلهؤلاء ليسوا في حاجة إلي العطاء ولكن الرسول قد كان معهم سخيا بينما ترك رسول اللهسادة المسلمين من المهاجرين والأنصار دون عطاء يذكر . ([4]) إذن بعد هذاالعرض لابد أن نتبين قصة العزل المتعلقة بخالد بن الوليد وان نتبينها ونقف حولهاتلك الوقفات :

    قضية عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه:



    وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم علي خالد مجالاً واسعاً لتصيدالروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم،اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقلهالرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضيالله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيدووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بنالوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لاتقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه وإليكقصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق، فقد مرّ عزل خالد بنالوليد بمرحلتين (2) ، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.


    1- العزل الأول:


    عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادةالعامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرةغداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديقعن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة، فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراءعمله أن يترك لهم حرية ا لتصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلكبتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدلمنشوراً بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبيرأمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسرعلى الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم ، وكان الفاروققد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولابعيراً إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعنيوعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله ، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله ،ولما تولى الفاروق الخلافة، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاتهطريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذيينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعنعمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولىالخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبيفوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزءوالأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم ، وكان يقول:أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا:نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟ ، فعندما تولى الفاروقالخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهموأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد ، فعن مالك بن أنس، أن عمر لماولي الخلافة كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد إماأن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبيبكر بأمر فلم أنفذه، فعزله ، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ماشاء فيأبى عليه .


    فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولةومسؤوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريبيحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء، وميول وأهواء ونزعات، فعمر بن الخطابخليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له منالحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه فيالحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائدأن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كانهناك من يغني غناءه ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كانموفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير، فعزل وولى، فلميكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية ([5]) التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسيةالفاضلة وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبيعبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلىأمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه فقال عمر قولته المشهورة: أمّر خالدنفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني ، ويعني عمر بمقولته هذه أنخالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفتهفي المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك أبيبكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرةخالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم .


    هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنهاختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادثعلى خالد فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورتهوإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة، أحسن الأثر فيصفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة وعمله في فتح دمشق وقنسرينوفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف اللهخالد بن الوليد ، ويحفظ لنا التاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله:.. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع،وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه فيدينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما فيالخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم .([6])


    وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته، أجابه خالدقائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني، فقال أبو عبيدة:استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيفأخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعتبإيمانك مع المسارعين، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآنأشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً، ولا وليتإمارة بعدها أبداً ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفوربتنفيذ المهمة المطلوبة منه ، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا، أن الوازعالديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقيخالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرتمن حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش .


    إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى)، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائنجاهلية، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد، ولكنكان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيقمنهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين؛من غير عناد ولا حقد وضغينة .


    إن من توفيق الله تعالىللفاروق تولية أبي عبيدة رضي الله عنهم لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركةاليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوبفأبو عبيدة رضي الله عنه يسرع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها ولا يبطئ عن الحربإذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال علىأهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون علىالتسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنة عمرية وكانتولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها.


    2- العزل الثاني:


    وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة ، فقدبلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهماورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه وبره منهمالأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله ،فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذيأجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمهالمدينة، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريدالخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءةخالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف ولما علم خالدبعزله ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزلالذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشامحتى إذا كانت بثنية ، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير، فإنهاالفتنة فقال: خالد: أما وابن الخطاب حي فلا ، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب،لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد e: فأية قوة روحية سيطرت علىأعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئالحكيم . ([7])


    سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافةالعمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهمعلى أشلاء الفتن والثورات الهدّامة وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناءوالتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرورالمفتون .


    ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمثلاً)[8])



    صنعت فلم يصنع كصنعك صانع

    وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ




    وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل
    يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسُّهمان، ما زاد علىالستين ألفاً فلك، فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال. ثمقال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم علىشيء ، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سُخطة ولا خيانة، ولكن الناسفتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع،وألا يكونوا بعرض فتنة
    .





    3- خلاصة الأمر في عزل خالد.


    مما سبق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالد من وجهة نظر عمر رضي الله عنه فيالأمور التالية:


    أ- حماية التوحيد: ففي قول عمر رضي الله عنه:ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، يظهر خشية عمر من فتنةالناس بخالد وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد؛ فيضعف اليقين بأن النصر من عندالله سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا، وهذا الوازع يتفق مع حرص عمر على صبغإدارته للدولة العقائدية الخالصة وبخاصة وهي تحارب أعداءها حرباً ضروساً متطاولةباسم العقيدة وقوتها، وقد يقود الافتتان بقائد كبير مثل خالد نفسه إلى الافتتانبالرعية وأن يرى نفسه يوماً في مركز قوة لا يرتقي إليها أحد، وبخاصة أنه عبقري حربومنفق أموال، فيجر ذلك عليه وعلى الدولة خسران كبير ، وهو إن كان احتمالا بعيداًفي ظل ارتباط الناس بخليفتهم عمر وإعجابهم به، وفي ظل انضباط خالد العسكري وتقواه،فقد يحدث يوماً ما بعد عمر، ومع قائد كخالد، مما يستدعي التأصيل لها في ذلك العصرومع أمثال هؤلاء الرجال ، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف منقائد صغير لم يُبْلِ أحسن البلاء ولم تتساير بذكره الأنباء ([9])


    وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله إلى تخوف عمر فقال في عمريتهفي الديوان:



    وقيل خالفت يا فاروق صاحبنا

    فيه وقد كان أعطى القوس باريها
    فقال خفت افتتان المسلمين به

    وفتنة النفس أعيت من يداويها (2)







    ب - اختلاف النظر في صرف المال:


    كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء،قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلىإيمانهم وضمائرهم، حتى تؤدي التربية الإسلامية رسالتها في تخريج نماذج كاملة، لمدىتغلغل الإيمان في القلوب، بينما يرى خالد أن ممن معه من ذوي البأس والمجاهدين فيميدانه من لم تخلص نيتهم لمحض ثواب الله، وأن أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقويعزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال (3) ، كما أن عمر كان يرى أن ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم، فعندما اعتذرإلى الناس بالجابية من عزل خالد قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرينفأعطاه ذا البأس (4) ، ولا شك أن عمر وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إليهولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالد رضي الله عنهما .


    ­­­­­­جـ - اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة:


    فقد كان عمر يصر على أنيستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يُعطى الحريةكاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي وأن تطلق يده في كل التصرفات إيماناًمنه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب .


    ولعل من الأسباب أيضاً، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتى تتوفرفي المسلمين نماذج كثيرة من أمثال خالد والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أنالنصر ليس رهناً برجل واحد ، مهما كان هذا الرجل وإنما هو من عند الله .


    د- موقف المجتمع الإسلامي منقرار العزل:


    تلقى المجتمع الإسلامي قرارالعزل بالتسليم لحق الخليفة في التولية والعزل، فلم يخرج أحد عن مقتضى النظاموالطاعة والإقرار للخلافة بحقها في التولية والعزل وقد روي أن عمر خرج في جوفالليل فلقي عَلْقَمة بن عُلاثة الكلابي، وكان عمر يشبه خالداً إلى حد عجيب، فحسبهعلقمة خالداً، فقال: يا خالد عزلك هذا الرجل، لقد أبى إلا شحّاّ حتى لقد جئت إليهوابن عم لي نسأله شيئاً، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً، فقال له عمر يستدرجه ليعلمما يخفيه: هيه! فما عندك؟ قال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم، وأجرنا علىالله، فلما أصبحوا قال عمر لخالد وعلقمة مشاهد لهما: ماذا قال لك علقمة منذالليلة؟ قال خالد: والله ما قال شيئاً، قال عمر: وتحلف أيضاً؟ فاستثار ذلك علقمةوهو يظن أنه ما كلم البارحة إلا خالداً، فظل يقول: مَهْ يا خالد؛ فأجاز عمر علقمةوقضى حاجته، وقال لأن يكون من ورائي على مثل رأيك يعني حرصه على الطاعة لولي الأمروإن خالفه أحب إليّ من كذا وكذا ، وهذا وقد جاء اعتراض من أبي عمرو بن حفص بن المغيرةبن عم خالد بن الوليد بالجابية، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس وإنيأعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين،فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته وأمّرت أبا عبيدة بن الجراح. فقالأبو عمرو بن حفص بن المغيرة: والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب، لقد نزعت عاملاًاستعمله رسول الله e، وغمدت سيفاً سله رسول اللهe، ووضعت لواء نصبه رسول اللهe، ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم. فقال عمر بن الخطاب: إنك قريبالقرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك ، وهكذا اتسع صدر الفاروق لابن عم خالد بنالوليد، وهو يذب عن خالد حتى وصل دفاعه إلى دعوى اتهامه للفاروق بالحسد، ومع ذلكظل الفاروق حليماً . ([10])

    * * * *


    (4)


    وفاة خالد بن الوليد وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت:



    دخل أبو الدرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء، لئنمات عمر، لترين أموراً تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك. فقال خالد:قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفتأن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي،حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهدبدراً، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته علي، وكنت أدل عليهبقرابته، فرأيته لا يبالي قريباً ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي ذهب عني ماكنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر: فقد كنت في حربومكابدة وكنت شاهداً وكان غائباً، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري ([11])، ولما حضرته الوفاة وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إلهإلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتّها وأنا متترس والسماءتنهل عليَّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذاوكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح،وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء لقدطلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي (2) وأوصى خالدأن يقوم عمر على وصيته وقد جاء فيها: وقد جعلت وصيتي وتركتي وإنفاذ عهدي إلى عمربن الخطاب، فبكى عمر رضي الله عنه فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه كما قالالشاعر:



    لا ألفينَّك بعد الموت تندبني

    وفي حياتي ما زوّدتني زادي




    فقد حزن عليه الفاروق حزناً شديداً، وبكته بنات عمه، فقيل لعمر أنينهاهنَّ، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثل أبيسليمان تبكي البواكي .


    وقال عنه: قد ثلم في الإسلامثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سداداً لنحور العدو،ميمون النقيبة ، وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم،وكان هشام شاعراً، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلما أنشده قال له: قصرتفي الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كانالشامت به لمتعرضاً لمقت الله ثم تمثل بقول الشاعر:



    فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي

    تهيأ لأخرى مثلها فكان قدِ ولا موت من قد مات بعدي بمخلدي




    ثم قال: رحم الله أبا سليمانما عند الله خير له مما كان فيه ولقد مات فقيداً وعاش حميدا ولقد رأيت الدهر ليس بقائل( أي ليس بتارك أحدايخلد في هذه الدنيا ، فهو من الإقامة في المعني ) هذا وقد توفي ودفن بحمص ببلاد الشامعام 21هـ ([12])رحمه الله رحمة واسعة وأعلىذكره في المصلحين .




    * * * *




    1- أنظر أباطيل يجب أن تمحي منالتاريخ صـ146 .


    1- أنظر أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ151 .


    1- أنظر أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ لإبراهيم شعوط صـ 152 .


    1- أنظر أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ لإبراهيم شعوط صـ158.
    2- أنظر فضل الخطاب في سيرة ابن الخطاب للدكتور علي محمد الصلابي ص 358 ،وأنظر أيضا إبراهيم شعوط أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ ص154 .

    1- أنظر فضل الخطاب في سيرة بن الخطاب للصلابي ص361 .


    1- أنظر فضل الخطاب في سيرة بن الخطاب للصلابي ص362 .


    1- أنظر فضل الخطاب في سيرة بن الخطاب للصلابي ص364 .

    1- أنظر الطبري ج4 ص .


    1- العقاد عبقرية عمر ص158 .
    2- انظر ديوان حافظ .
    3- أنظر أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ ص134 .
    4- البداية والنهاية ج7 ص115 .

    1- أنظر الصلابي المصدر السابقص369 .


    1- المصدر السابق ونفس الصفحة .
    2- سير أعلام النبلاء 1/382.


    1- الطبري ج4 ص وللاستزادة يرجع إلي كتاب الصلابي ص 370 .



  16. #16
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة السادسة)


    عمر في مواجهة الصعوباتالإدارية والمالية

    (أولا )


    الصعوبات الإدارية :



    وقد كان عمر بن الخطاب حريصاعلي أن يسوس تلك الدولة المترامية الأطراف وان تصل أوامره إلي ولاته بسرعة وأنيكون علي دراية بأمر المسلمين هنا وهناك قريبا وبعيدا وكانت هذه مشكلة واجهها عمرهو وأصحابه وقد تمكنوا من تنظيم الدولة فقسمها إلي أقاليم أو أمصار وجعل منهاثمانية أمصار وهي ( الكوفة – البصرة – الشام – الجزيرة – الموصل – مصر – اليمن –البحرين ) وعين علي كل مصر واليا . وقد ذكر الطبري عمال وولاة عمر ثلاث وعشرين وهيالسنة التي توفي فيها عمر فكان علي مكة نافع بن عبد الحارث الخزاعي ، وعلي الطائفسيفان بن عبد الله الثقفي ، وعلي صنعاء يعلي بن منية ؛ حليف بني نوفل ابن عبد مناف، وعلي الجند عبد الله بن أبي ربيعة ، وعلي الكوفة المغيرة بن شعبة ؛ وعلي البصرةأبو موسي الأشعري ، وعلي مصر عمرو بن العاص ؛ وعلي حمص عمير بن سعد ، وعلي دمشقمعاوية بن أبي سفيان ؛ وعلي البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثقفي .


    وقسم الأمصار الكبيرة إليالكور فيحكم المصر واليا الذي كان يعينه عمر وعلي هذا الوالي أن يعين عمال الكورمستقلا عن عمر .


    وكان مهمة عمال الكور يقيمونالأحكام وينفذون أمر الشريعة في كورهم ويجبون ما يفرض علي الكورة من خراج وما يفرضالذميين من جزية . ([1])


    وقد نظم عمر أمر الخراجوالجزية تنظيما دقيقا فجعل الأرض مع أصحابها الأصليين وفرض عليها خراجا كما نظمأمر الجزية التي فرضها علي أهل الكتاب من النصارى واليهود حيث فرض ثمانية وأربعين درهما في العام الواحدعلي الغني منهم ،وأربعة وعشرين درهم علي أوساط الناس منهم وأثني عشر درهم عليالفقير منهم وكان يثق تماما أن الرجل الذمي لا يعجزه علي أن يتحصل علي هذا المبلغكل شهر .


    وكان عمال الكور يجبون هذه الأموالويرسلونها إلي ولاة الأنصار وكان ولاة الأنصار يعطون منها الناس أعطياتهم المقررةلهم وينفقون منها فيما هو ضروري ويرسلون ما تبقي إلي عمر في المدينة كما يرسلونإليه أيضا أخماس الغنائم .


    وعلي هذا النظام الدقيق أقيمالكيان الاقتصادي للدولة كيانا مبسطا ولكنه كافيا لكل مصر وما يناسبه ولكل كورهوما يناسبها وفق احتياجات كل منهما عملا بنظام غير مركزي تكون فيه الرعاية أشملوأدق من الحكام إلي شعوبهم .


    ويرجع إلي عمر العديد منالوظائف في الدولة الإسلامية التي زادت الدولة تنظيم ورعاية وكانت الوظائف فيالمصر الواحد أو الإقليم الواحد علي النحو التالي :-


    - الوالي ومهمته حكم ذلكالإقليم ويقيم للناس صلاتهم ويعطيهم أعطياتهم ويدبر لهم أمورهم .


    - عمال بيت المال : وهم يقيمونعلي بيت المال يتلقون ما يجبى في الكور ويعطون الوالي ما يؤدي منه إلي الناسأعطياتهم وما يحتاج إليه من نفقه ثم يؤدون إلي عمر ما بقي من مال وحساب ما أنفق وكان نظام المال نظام دقيقا والولاية يخشون اللهكما كان عمر يحاسبهم حسابا دقيقا فلا غرو أن عمر كان عالما بموارد الدولة ومصادرهاوكان عمال بيوت الأموال حراصا أشد الحرص علي الدقة في تنظيم الأموال .


    وكان عمر بن الخطاب رحمهالله يتخذ من موسم الحج مؤتمرا يلتقي فيه بالولاة ووفود الرعية فيسأل الولاة عنرعيتهم ويسأل الرعية عن ولاتهم وكان لا يتورع أن يقتص من الولاة إذا ظلموا أو أذواالرعية وقد كلمه عمرو بن العاص في ذلك وقال له: أتقص من الولاة إذا أدب رجلا من رعيته؟ قال عمر : أجل ومالي ما أفعل وقد رأيت رسول الله e يقص بنفسه . ([2])


    - القاضي : أرسل عمر القضاةإلي الأمصار لتنفيذ أحاكم الشريعة الإسلامية وتنفيذ أحكام الله بين الناس وأن يبدأأولا بكتاب الله ثم سنة نبيه e فإن لم يجدوا فيهما نصا اجتهدوا وتحروا العدل وكان القضاة لايخضعون للولاة مطلقا وإنما كان يخضعون لعمر مباشرة فهو الذي كان يختارهم بنفسهفإذا ما كلفهم أمر القضاء فليس لأحد عليهم سلطان إلا سلطان الله وبذلك تحقق نزاهةالقضاء في عصر عمر .


    - كما عين عمر المعلمين وهذه الوظيفة ظهرت في عصر عمر فيرجع له الفضل فيإنشائها وكان علي المعلمين أن يعلموا الناس أمور دينهم من عبادات ومعاملاتويعلمونهم قراءة القرآن الكريم وكيف يتعاملون معه .

    * * * *


    ( ثانيا )


    الصعوبات المالية



    كانت مصادر دخل الدولة عديدةومتنوعة منها الزكاة التي كانت تأخذ من الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، الإبلوالبقر والغنم ، والخراج من الأرض الزراعية – وغنائم الحرب وكان نصيب الدولة منهاالخمس ويقسم الباقي علي المجاهدين – الجزية التي كانت تأخذ من اليهود والنصارى ، العشور وهي ما تفرض علي التجارة .


    وأنشأ عمر بيت المال نظرالزيادة الأموال من المصادر سابقة الذكر وكان عمر مهموما بأمر هذا المال ويروي أنهصادف وأن جاءه مال عظيم من البحرين يقدر بخمسمائة ألف درهم وقال عمر للناس إنه قدجاءنا مال كثير فإن شئتم أن نعده لكم عدا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلا فقال رجل ياأمير المؤمنين أني قد رأيت وأنا في الشام أن الأعاجم يدونون ديوانا يعطون الناسعليه فدون الديوان ومن هنا أتخذ عمر الديوان .

    (1)


    مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه:



    كان المسلمون ومعهم أبو بكروعمر ينظرون إلي الأموال التي تأتي وتوزع علي الناس مهما كان نوعه علي انه مالالله والإنسان مستخلف فيه فهو أمين علي ذلك المال وعليه أن ينميه وينفقه في أوجهالتي شرعها الله سبحانه وتعالي فيقول:} آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْمُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ { ([3]) } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ { (2) .


    وقوله تعالى يتحدث عن البروهو جماع الخير } وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَىوَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ { ([4])


    وإيتاء المال اعتراف منالمسلم -ابتداء- بأن المال الذي في يده هو رزق الله له:}وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ { لأنه خلقه هو، ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق انبثق البر بعبادالله ، وعلى هذا الأساس الإيماني نظر الفاروق إلى مال الدولة التي توسعت مواردهافي عصره، حيث فتحت الدولة بلداناً واسعة، وخضعت لحكمها شعوب كثيرة، فنظم علاقةالدولة مع هذه الشعوب، فمنهم من دخل في حكم الدولة صلحاً، ومنهم من دخل في حكمهاكرهاً، وتبعاً للفتح آلت إليها أرض غلبت عليها عنوة (2) ، وأراضٍ صالحأصحابها، وأرضٌ جلا عنها مالكوها أو كانت ملكاً لحكام البلاد السابقين ورجالهم،ومن شعوب هذه البلاد كتابيون (3) وقد نظم الفاروق طريقة التعامل معهموفق شرع الله المحكم، وقد قام عمر رضي الله عنه بتطوير النظام المالي في دولتهسواء في الموارد أو الإنفاقات أو ترتيب حقوق الناس من خلال نظام الدواوين، وقدأخذت موارد الدولة تزداد في عصر عمر رضي الله عنه، وشرع في تطويرها، ورتب لهاعمالاً للإشراف عليها فكانت أهم مصادر الثروة في عهده: الزكاة، والغنائم، والفيء،والجزية، والخراج، وعشور التجارة ، فعمل الفاروق على تطوير هذه المصادر واجتهد فيقضايا وفق مقاصد الشريعة التي وضعت لمصالح العباد، فقد أخذت الدولة تستجد فيهاظروف لم تكن موجودة في عهد رسول الله e ، وكان عمر رضي الله عنه منفذاً للكتاب والسنة تنفيذا عبقرياً، لايستأثر بالأمر دون المسلمين، ولا يستبد بالرأي في شأن من الشئون، فإذا نزل به أمرجمع المسلمين يستشيرهم ويعمل بآرائهم ، وأما أهم مصادر الثروة في عهد الفاروق فهيالآتي:





    أ- الزكاة:


    قال أبو محمد بن قتيبة :الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة ، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه ، يقال :زكا الزرع ، إذا كثر ريعه ، وزكت النفقة إذا بورك فيها ، وهي في الشريعة حق يجب فيالمال ، فعند إطلاق لفظها في موارد الشريعة ينصرف إلي ذلك ، والزكاة أحد أركانالإسلام الخمسة ، وهي واجبة بكتاب الله تعالي ، وسنة رسوله ، وإجماع أمته ، أماالكتاب : فقول الله تعالي : ( وآتو الزكاة ) (4) وأما السنة : فإنالنبي e بعث معاذا إلي اليمن فقال : ((أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم )) ([5]) متفق عليه ، في آي وأخبار سوى هذين كثيرة ، وأجمع المسلمون في جميعالأعصار علي وجوبها ، واتفق الصحابة رضي الله عنهم علي قتال ما نعيها .فروي البخاري بإسناده عن أبيهريرة قال : لما توفي النبي e وكان أبو بكر ، وكفر من كفر منالعرب ، فقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله e : ( أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قالهافقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه علي الله ؟ فقال : والله لأقاتلن من فرقبين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونهاإلي رسول الله e لقاتلهم علي منعها ، قال عمر :فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (2)رواه أبو داود وقال : لو منعوني عقالا (3) . أو لأنه نشأ بباديةعن الأمصار عرف وجوبها ولا يحكم بكفره ، لأنه معذور ، وإن كان مسلما ناشئا ببلاد الإسلامبين أهل العلم فهو مرتد ، تجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثا ، فإن تاب قتل ،لان أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا تكاد تخفي علي أحدممن هذه حالة ، فإذا جحدها فلا يكون إلا لتكذيبة الكتاب والسنة وكفره بهما (4)


    وتجب الزكاة في أربعة أصنافمن المال السائمة من بهيمة الأنعام ، والخارج من الأرض ، والأثمان ، وعروض التجارة. (5)


    ب- الجزية:


    أجمع الفقهاء علي ان الجزيةتأخذ من أهل الكتاب ومن المجوس وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف عن أخذالجزية من المجوس حتي شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله e أخذها من مجوس هجر ( أشهد لسمعت رسول الله يقول سنوا بهم سنة أهلالكتاب وهذا صريح في انهم ليسوا من أهل الكتاب ، وهناك آراء أخري يمكن الرجوعأليها في كتاب أحكام أهل الذمة . (6) وقد جاء في القرآن الكريم } قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِالآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَدِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَعَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29) { ([6])


    فالجزية وفق الآية المذكورةسابقا هي الخراج المضروب علي رؤوس الكفار حتي يعطوا الخراج عن رقابهم .


    وأختلف في اشتقاقها فقيلأسمها مشتق من الجزاء إما جزاءا علي كفرهم لأخذها منهم صغارا ، أو جزاءا عليأماننا لهم لأخذها منهم رفقا .


    وقال صاحب المغني هي مشتقةمن جزاه بمعني قضاء لقوله ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) فتكون الجزية مثل الفدية .


    وأما قوله : ( عن يد ) فهوفي موضع النصب علي الحال : أي يعطوها أذلاء مقهورين : هذا هو الصحيح في الآية .وقالت طائفة : المعني : من يد إلي يد نقدا غير نسيئه : وقال فرقة : من يد إلي يدالأخذ ، لا باعثا بها ولا موكلا في دفعها . وقالت طائفة : معناه عن إنعام منكمعليهم بإقراركم لهم ، وبالقبول منهم . والصحيح القول الأول ، وعليه الناس . وأبعدكل البعد ولم يسب مراد الله من قال : المعني : عن يد منهم ، أي عن قدرة علي أدائها، فلا تؤخذ من عاجز عنها . وهذا الحكم صحيح ، وحمل الآية عليه باطل ، ولم يفسر بهأحد من الصحابة ولا التابعيين ولا سلف الأمة ، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين .


    وقوله تعالي : (( وهم صاغرون)) حال أخرى ، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم ، أن يأخذوها بقهر وعن يد ،والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل .


    واختلف الناس في تفسير ((الصغار )) الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية فقال عكرمة : أن يدفعها وهو قائم ،ويكون الآخذ جالسا . وقالت طائفة : أن يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا . ويطالوقوفه عند إتيانه بها ، ويجر إلي الموضوع الذي تؤخذ منه بالعنف ، ثم تجر يده ويتمهن. وهذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتي الآية ، ولا نقل عن رسول الله e ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك والصواب في الآية أن الصغار هوالتزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية ، فإن التزام ذلك هو الصغار .وقد قال الإمام أحمد في راوية حنبل : كانوا يجرون في أيديهم ، ويختمون في أعناقهمإذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعال : (( وهم صاغرون )) . وهذا يدل علي انالذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلي ان يجر بيده ويضرب . وقد قال فيرواية منها بن يحيي : يستحب أن يتعبوا في الجزية . قال القاضي : ولم يرد تعذيبهمولا تكليفهم فوق طاقتهم ، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم . ([7])


    وقد أختلف أئمة الإسلام فيتقدير الجزية ولكن علي ما يبدوا أن عمر بن الخطاب رحمه الله جعلها علي قدر اليسارمن أهل الذمة : أثني عشر – وأربعة وعشرون – وثمانية وأربعين قال علي قدر طاقتهم (2)


    وقد فرض عمر علي أهل الشامأربعة دنانير وكسوة وزيت ، وعلي أهل اليمن علي كلا منهم دينار ، أما أهل العراقفعلي ما يأخذ منهم (3)


    ويجوز الزيادة والنقصان عليما يراه كل في بلده ، ولا يتعين في الجزية ذهب ولا فضة فليجوز أخذها مما تيسر منأموالهم من ثياب وسلاح يعملونه وحديد ونحاس ومواش وحبوب وعروض وغير ذلك وقد دل عليذلك سنة رسول الله e وعمل الخلفاء الراشدين من بعده.


    وقد روي أبا داوود في سننهعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صالح رسول الله e أهل نجران علي الفيء حلة ، النصف في صفر ، والنصف في رجب يؤدونهاإلي المسلمين ؛ وعلي ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كلصنف من أصناف السلاح يقرون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كانباليمن كيد أو غدرة ، علي ألا يهدملهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ؛ ولا يفنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا او يأكلوا الربا وهو صريح في أن أهل الذمة إذا أحدثوافي الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمة لهم ، وقد دل علي ذلك القرآنوالسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالي . (4).


    كما كان عمر ن الخطاب رضيالله عنه يأخذ النعم في الجزية وكان علي بن أبي طالب يأخذ الجزية من كل ذي صنعه منمتاعه من صاحب الأبر أبرا ومن صحاب المسان مسان (5) ومن صاحب الحبالحبالا (6)


    ولا يحل تكليف أهل الذمةمالا يقدرون عليه ، ولا يعذبوا علي أدائها ولا يحبسوا ولا يضربوا ، فقد روي عنهشام بن عروة عن أبيه وعن هشام بن حكيم بن حزام أنه مر علي قوم يعذبون في الجزيةبفلسطين فقال هشام سمعت رسول الله e يقول : ( إن الله يعذب يومالقيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا ) .


    ويروي عن عمر بن الخطاب رضيالله عنه أتي بمال كثير – أحسبه قال : من الجزية – فقال : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس . قالوا : لا والله ،ما أخذنا إلا عفوا صفوا . قال : بلا سوط ؟ ( بلا ضرب بالسوط ولا تعليق ) قالوا نعم. قال : الحمد لله الذي لم يجعل ذلك علي يدي ولا في سلطاني . ([8])


    وقد ألتزم الحكام المسلمونالرأفة والرحمة بأهل الذمة فكانوا يعفون من دفعها كبار السن والغير قادر عليأدائها والنساء بل كان أحيانا يجرى عليهم الأموال من بيت مال المسلمين فقد أجرىعمر علي بعض اليهود أمولا عندما رآهم شيبة قد وهمت عظامهم وقد أقتدي بذلك الخلف منأبناء الصحابة والتابعين .


    فتأمل كتاب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالي إلي عدي بن أرطاة ، قرئ علينا بالبصرة : أما بعد ، فإنالله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام ، وأختار الكفر عنتاوخسرانا مبينا ، فضع الجزية علي من أطاق حملها ، ودخل بينهم وبين عمارة الأرض ،فإن في ذلك صلاحا لمعاشر المسلمين وقوة علي عدوهم ، ثم أنظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنة وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه عليه أن يقوته حتىيفرق بينهما موت او عتق ، وبذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مربشيخ من أهل الذمة يسأل علي أبواب الناس فقال : ما أنصفناك ، ان كنا أخذنا منكالجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك ! قال : ثم أجري عليه من بين المال ما يصلحه .(2)


    وجب الجزية في آخر الحول ،ولا يطالبون بها قبل ذلك . هذا قول الإمام أحمد والشافعي . وقال أبو حنيفة : يجببأول الحول ، وتؤخذ منه كل شهر بقسطه . ولأبي حنيفة رحمه الله تعالي أصل في الجزية، وهي أنها عنده عقوبة محصنة ، يسلك بها مسلك العقوبات البدنية . ولهذا يقول : إذااجتمعت عليه جزية سنين تداخلت كما تتداخل العقوبات ؛ ولو أسلم وعليه جزية سنينسقطت كلها كما تسقط العقوبات . ولو مات بعد الحول وقب الأخذ سقت عنه .


    وفي ( الجامع الصغير ) : ومنلم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة ، وجاءت السنة الأخرى ، لم يؤخذ منه . وهذاأبي حنيفة وقالا : تؤخذ منه ، فغن مات عند تمام السنة لم تأخذ منه قي قولهم جميعا. ([9])


    ولا جزية علي صبي ولا امرأةولا مجنون : هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم . قال ابن المنذر : ولا أعلم عنغيرهم خلافهم . وقال أبو محمد في ( المغني ) : ( لا نعلم بين أهل العلم خلافا فيهذا ) .(2)


    - وفي سنن أبي داوود عن أنسبن مالك رضي الله عنه أن رسول الله e قال : ( انطلقوا باسم الله ( وبالله ) وعلي ملة رسول الله e . ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولاتغلوا ، وضموا غنائمكم ، وأصلحوا وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين ) (3)


    - ولا جزية علي فقير عاجز عنادائها : هذا قول الجمهور (4)


    - ولا جزية علي شيخ فان ولازمن ولا أعمي ولا مريض و يرجي برؤه بل قد أيس من صحته ، وإن كانوا موسرين . (5)


    - وأما الفلاحون الذين لايقاتلون والحراثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية ، لأنهم لم يستثنوهم معمن استثني . وظاهر كلام أحمد أنه لا جزية عليهم فانه قال : من أطبق بابه علي نفسهولم يقاتل لم يقتل ، ولا جزية عليه . وقال في ( المغني ) : فأما الفلاح الذي لايقاتل فينبغي ألا يقتل لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : اتقواالله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم في الحرب . وقال لأوزاعي : لا يقتل الحراثإذا علم أنه ليس من المقاتلة . وقال الشافعي : يقتل إلا أن يؤدي الجزية ، لدخولهفي عموم المشركين . وأما قول عمر ، فإن أصحاب النبي e (لم) يقتلوهم حين فتحوا البلاد ، ولأنهم لا يقاتلون ، فأشبهواالشيوخ والرهبان ) (6) .


    شروط عقد الجزية :


    وقد استنبط الفقهاء من خلالعصر الخلفاء الراشدين مجموعة من الشروط:


    أن لا يذكروا كتاب الله تعالىبطعن فيه ولا تحريف له.


    أن لا يذكروا رسول الله e بتكذيب ولاإزدراء.


    أن لا يذكروا دين ا لإسلامبذم له ولا قدح فيه.


    أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولاباسم نكاح.


    أن لا يفتنوا مسلماً عندينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.


    وأن لا يعينوا أهل الحرب ولايودّوا أغنياءهم .


    هذه هي الجزية التي فرضهاالإسلام علي أهل الذمة وهي في حد ذاتها ضريبة بسيطة هينة يدفعها القادرون منهم وهيبمثابة شراء تذكرة للمواطنة الصالحة فأهل الذمة يدفعون تلك الجزية لينعموا بالأمنوالطمأنينة في ظل الدولة الحاكمة وهي دولة الإسلام فهو بدفع تلك الجزية يصبحمواطنا صالحا يشارك المسلمين في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ويصبحواحدا من نسيج المجتمع .


    كما أن الذمي لا يشارك فيالحرب ولا يطلب منه ان يقاتل وإنما تقوم الدولة الإسلامية بهذا العمل بواسطةالمقاتلين المسلمين ونظير ذلك الدفاع يقوم بأداء الجزية المكررة عليه .


    ومما يؤسف له إننا في هذهالأيام نسمع ضجة مفتعلة من المسيحيين إزاء الجزية إذ يرفعون بها أصواتهم ليعبرواعن ظلمهم علي أيدي المسلمين وقد لعب اليهود دورا بارزا في هذه القضية في الأروقةوالمجتمعات الدولية والفضائيات وأجهزة الإعلام المختلفة فأثار أقباط مصروالمسيحيين ضد الإسلام والمسلمين وقد تناسوا أن المسلم يدفع هو أيضا الزكاة التيتجبي في بيت مال المسلمين كما يدفع أهل الكتاب من النصارى واليهود الجزية التيتجبي أيضا وتوضع في بيت مال المسلمين فالزكاة والجزية كلاهما برهانان علي الوحدةالوطنية الصادقة لأنهما أكبر السبل لتدفق الأموال علي بيت مال المسلمين الذي يعودالأموال التي به علي أبناء المجتمع كلهم المسلمين وأهل الكتاب المعوزين الغيرقادرين علي أعباء الحياة وأنني لواثق أن الجزية لو أعيد جبايتها كما كانت تجبيإبان الدولة الإسلامية لانتهت كل مشاكل التعصب الديني في مصر وفي غيرها من البلادالإسلامية علي أن يسبق ذلك ثقافة إسلامية أصيلة تفهم الناس بأهمية الجزية وشروطفرضها في الإسلام وكيف تعامل المسلمون الأوائل بسماح ورفق ورحمة في جبايتها وإذاأضفنا إلي ذلك التغير العظيم الذي يعيشه الأخوة الأقباط والمسيحيين من أنشطةاقتصادية مرتفعة إذ أصبحوا اليوم يتحكمون في عصب الحياة الاقتصادية في مصر فهميمتلكون الذهب والمشروعات الكبرى وتجارة الجملة ويحتكرون خطوط الإنتاج في المصانعالكبرى لحساباتهم الخاصة فلو صدقت النوايا وجبيت الجزية لأنتفي من مصر الفقروالعوز بل سلمت من العديد من المشاكل المستعصية والتي سببها الأساسي هو الضيقالاقتصادي .


    وسوف ينبثق من ذلك الكلامقضية لها أهميتها البلاغة في عصرنا الحاضر وهي قضية ( الأقليات ) في المجتمعات المسلمة . كيفتعيش مع الأغلبية المسلمة وهي أغلبية قانونية وكيف تتعامل مع قوانين وشريعة الدولةالإسلامية


    - وقد يقول قائل إن الحكومةالعلمانية هى أنسب الحكومات لأمة مسلمة تعيش بينها أقليات غير مسلمة كما هو الحالفى تركيا وماليزيا وأندونيسا وبعض بلداننا العربية والإسلامية ، ظنا منه أن فىالحكومة اللادينية إنصافا لتلك الأقليات!. والحقيقة أن ذلك وهم وظن ليس فى محلهمطلقا ، يدفع ببطلانه "المفهوم الديمقراطى" المتبع لدى الحكوماتالعلمانية نفسها ، فإن المسلمين فى البلاد التي سبق ذكرها تشكل أغلبية كبرى تكفللها بطبيعة الحال التغلب فى ظل القوانين الوضعية سواء أكانوا منصفين أو جائرين وهؤلاءالمسلمين تجمعهم شريعتهم الغراء من إيقاع الجور أو الظلم على غيرهم من رعاياالأقليات ، ومعنى ذلك أن الأمة المسلمة التى تعيش بين أبنائها أقليات غير مسلمةسوف تنعم بعدالة التشريع الإسلامى الذى يعم ولا يخص ، والتاريخ الإسلامى خير شاهدعلى روح التسامح التى تميز بها حكام المسلمين وسف نري وكما هو معهود علي مرالتاريخ أن تلك الأقليات كانت ومازالت تفضل الاحتكام إلى الشرع الإسلامى دون غيرهمن الأحكام . وسوف نضرب مثالا نبين فيه كيف كان الإسلام أشد رحمة وأكثر فائدةللنصاري واليهود إذا عاشوا مع الأكثرية المسلمة .


    حيث يشير "شكيبأرسلان" إلى أن السلطان سليم الأول أراد توحيد عناصر السلطنة وإجبار عناصرالمسيحيين على إحدى خطتين : الإسلام أو الرحيل فانبرى له شيخ الإسلام آنذاك"ذبنيلى على أفندى"وقال له :"لا يحق لك هذا والمسيحيون واليهود متىخضعوا ودفعوا الجزية فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم . ([10])


    جـ- الخراج :


    أختلف مدلول مصطلح الخراجعند الفقهاء والمؤرخين في العصور الإسلامية القديمة وقد شمل الخلاف أغلب استخداماتالمعاصرين لهذا المصطلح .


    فالخراج بمعناه العام هو ذلكالمال الذي يصل إلي بين مال المسلمين من غير الصدقات ، أما الخراج بمعناه الخاص هوإيراد الأراضي المفتوحة علي أيدي المسلمين عنوة وقد كثرة الفتوحات بالقضاء عليدولتي الفرس والروم ومن ثم أعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وتطلب ذلكإنفاقا علي المصالح العامة والخاصة وتسليح الجيوش وموارد التموين إلي غير ذلك منمصالح تطلبت من عمر أن يرسم سياسة مالية حكيمة حيث فكر في إيجاد مورد مالي ثابتودائم ألا وهو الخراج .


    وقد ظهرت المشاكل عند تقسيمالأموال والأراضي علي المحاربين والمسلمين كما تقسم الغنائم للرسول خمس الغنائموالباقي يوزع علي الجند بنسبة معروفة ، وإذا كان هذا الأمر قد يكون يسيرا فيالأموال والمنقولات ولكنه سيكون أشد عثرا مع الأراضي المفتوحة فكيف توزع هذهالأراضي علي المحاربين والمسلمين وأنقسم المسلمون ما بين مؤيد لتقسيم الأرض عليالمسلمين وما بين معارض ومن المعارضين علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل . وقد أرادعمر تقسيم الأرض علي الفاتحين ولكن معاذ بن جبل عارضه قائلا : والله إذاً ليكوننما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثميبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يَسُدون منالإسلام مَسَداً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهموآخرهم .


    وتطور الأمر ورفض عمر تقسيمالأراضي المفتوحة وتبين له بعد قراءة سورة الحشر وتدبر آيات تقسيم الفيء أنها تشيرإلي تقسيم الفيء فقط ومن هنا عزم عمر علي تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه .


    ولقد تبين من النقاش الذيدار بين عمر والصحابة مدي صحة رأي عمر رحمه الله حيث وجد أنه لو قسمت الأراضي عليالمسلمين فقد يركد الجميع إلي الزراعة وإلي التجارة وإلي الأعمال المدنية فلا نجدمن يشحن به الجيوش أو الثغور وتقاعس المسلمون ومالوا إلي الطرف ولين الحياة فتنكسرإرادتهم ويضعف شانهم .


    ونتج عن عدم توزيع الأراضيوتقسيمها عدة مشاكل شائكة بعضها يتناول الشريعة والبعض الآخر يتناول شيء من جوانبالسياسة والحروب والعلاقات المختلفة ويمكن إجمال هذه المشاكل في عدة قضايا عليالنحو التالي :


    القضية الأولي : هل خالف الفاروقعمر النبي e في عدم تقسيم أرض الخراج ؟


    بلا شك إن الفاروق عمر لميخالف الرسول rفي عدم تقسيم أرض الخراج وقد ظن البعض ذلك لان الرسول قدقسم خيبر وقال إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقب حكمة لأنه خالف السنةوهذا الرأي خطأ لا يشير الخلفاء الراشدين بعدم تقسيمهم أرض الخراج ففعل النبي r في خيبر كان جائزا ولا يدل علي وجوب تقسيمها ومما يؤيد ذلك عدمتقسيم أراضي مكة عند فتحها فقد فتحت عنوة فلم يصالح النبي احد من الكفار ولم يوصلإليهم أحد يصالحهم ، وخلاصة القول هنا أن مكة فتحت عنوة ومع هذا إن النبي لم يقسمأرضها ولم يسترق رجالها .


    القضية الثانية : كيف نفذالفاروق مشروع الخراج دون مشاكل ؟


    لما انتهى كبار الصحابةورجال الحل والعقد إلى إقرار رأي الخليفة عمر رضي الله عنه بتحبيس الأرض علىأهلها، وتقسيم الأموال المنقولة على الفاتحين انتدب شخصيتين كبيرتين هما: عثمان بنحُنيف، وحذيفة بن اليمان وذلك لمسح أرض سواد العراق، وحين بعثهما لهذه المهمةزوّدهما الخليفة بنصائحه وتوجيهاته الثاقبة وأمرهما بأن يلاحظا ثروة الأفراد،وخصوبة الأرض وجدبها، ونوع النباتات والشجر، والرفق بالرعية، فلا تحمل الأرض مايتحمله المكلفون، بل يترك لهم ما يجبرون به النوائب والحوائج ولكي ينطلق قرار عمررضي الله عنه على أساس عادل، رغب أن يعرف الحالة التي كان عليها أهل العراق قبلالفتح، وطلب من الصحابيين عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان أن يرسلا إليه وفداً منكبار رجال السواد، فبعثا إليه وفداً من دهاقنة السواد، فسألهم عمر رضي الله عنه،كم كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضهم؟ قالوا: سبعة وعشرين درهماً، فقال عمر رضيالله عنه لا أرضى بهذا منكم ، وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي كان عدلاً على الناسالذين فتحت بلادهم، وكان عمر يرى أن فرض خراج على مساحة الأرض أصلح لأهل الخراج،وأحسن رداً، وزيادة في الفيء من غير أن يحملهم مالا يطيقون فقام عثمان بن حنيفوحذيفة بن اليمان بما وكل إليهما خير قيام فبلغت مساحة السواد (36000.000) ستةوثلاثين ألف ألف ، ووضعا على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانيةدراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعيردرهمين ، وكتبا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأمضاه وقد حرص عمر (رضي الله عنه) علىالعناية بأهل تلك الأرض والبلاد، وما يوفر العدل ويحققه خوفاً أن يكون عثمانوحذيفة رضي الله عنهما حملا الناس والأرض ما لا يطيقون أداءه من خراج فسألهما: كيفوضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركتفضلاً، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته فقال عمر رضي الله عنه عندذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي .


    وهذه الطريقة التي نفذت فيسواد العراق هي ذاتها التي نفذت في الأراضي المصرية، لكن الذي تولاها هو عمرو بنالعاص وكانت وحدة المساحة التي ربط على أساسها الخراج الفدان ، وكذلك فعل عمر (رضيالله عنه) بأرض الشام كما فعل بأرض السواد، ولم يذكر المؤرخون معلومات صريحة واضحةعن المساحة ونوع الزروع والثمار التي فرض عليها الخراج، ولا من قام بعملية مسحأراضي الشام ، وكان الخليفة عمر رضي الله عنه بهذا الصدد عمل إحصاءً دقيقاً لثروةالولاية قبل الولاية عليها، ثم إلزام الولاة عند اعتزالهم أعمالهم بمصادرة بعضالأموال التي جمعوها لأنفسهم في أثناء ولايتهم، إذا تبين له أن أعطياتهم لا تسمحلهم بادخار هذه الأموال كلها وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الولاة وقدكثرت الممتلكات الخاصة للدولة التي اصطفاها عمر رضي الله عنه لبيت المال في العراقوالشام ومصر، فكانت هذه الأملاك تدرّ دخلاً عظيماً ووفيراً على خزانة الدولة، خاصةفي مصر لاتساع الأراضي الزراعية التي يملكها التاج في العصور القديمة ([11])


    القضية الثالثة : الفوائد والمصالح المترتبة علي عدم تقسيم أراضي الخراج؟


    لقد كان عدم تقسيم أراضيالخراج سياسة ناجحة ودليل أكيد علي صلاحية الخلفاء لبناء الدول واستمرارية قيامهافقد كان رأي الفاروق فيه من المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ما يلي :


    1- فقد سد بابا من أبوابالنزاع والخلاف بين المسلمين أنفسهم بعد أن ضمن لهم مصادر ثابتة لمعايشهم وتوفيرحاجات وأرزاق الأجيال التالية .


    2- العمل علي دوام شحنالجيوش والثغور بما تحتاج إليه من أفراد وأموال .


    3- وضع دعائم ثابته لأمنالمجتمع المسلم سياسيا في كل العصور .


    4- استند الخليفة وأهل الحلوالعقد في آرائهم إلي النصوص المنزلة فقد كانت هي الفيصل في أتخاذ القرارات وكيفأجتهد الخلفاء مع بعض النصوص التي فيها بعض التفاوت .


    5- كما ان الخلفاء عنداستشارتهم يلجئون إلي اهل السابقة من كبار الصحابة العلماء المتفقهين في الأحكامومصادر الشرع فهم أهل الفهم والدراية .


    6- لقد استفاد الفلاحون منتمليك الأرض وألغي نظام الإقطاع تماما واحتكار الأرض لصالح الأغنياء وهذا أدي إليارتياح شديد عند الفلاحين إذ شعروا لأول مرة أنهم أصحاب الأرض بعدما كان أجراء لاقيمة لهم فشعروا بالعدل والمساواة والدخول في الإسلام مما قطع الطريق علي الفرسوالروم في محاولاتهم اليائسة العودة إلي البلاد .


    ومن هذا المنطلق الذي سبقذكره أن عمر بن الخطاب قد جعل قضية الإسلام ومركزية الدولة ونظام الخراج والعصبية العربيةقضية واحدة. وتدل الحوادث على أن عمر كان حريصا كل الحرص على توفير أسباب الحفاظ علىتماسك العصبية العربية وإبقائها تحت سيطرة الخلافة فى نفس الوقت، فعمل على أن تقامالأمصار حيث يمكن أن ترعى الإبل ، بقصد إبقاء نمط معيشة سكانها العرب البدوى – الرعوى– الحربى المنفصل عن نمط معيشة سكان البلاد المفتوحة، كما كان حريصا على توفير عطاءالجند وأسرهم ، حتى يظلوا معتمدين فى معاشهم على الدولة وحتى لا يتحولوا للزراعة والاستقرار.أما مبدأ تقسيم الفيىء الذى ورد فى القرآن فقد قصره عمر على ما يحرزه المقاتلون فىالمعارك من مال أو سلاح . كذلك طبق عمر نظام الخراج فى مصر . وترتب على ما فعله عمراعتماد نظام الدواوين الخاصة بالخراج، والتى ورثها العرب عن البلاد المفتوحة ، وإنشاءديوان العطاء. ترتب على تزايد أهمية نظام الخراج أن وضع الفقه الإسلامى على عاتقه مهمةالتكيف مع هذا الواقع والتشريع له. ورغم المعاناة والحيرة التى لقيها الفقهاء ، إلاأنهم أنجزوا مهمتهم. وصارت تشريعاتهم الاقتصادية تنزع فى الأغلب الأعم إلى الحفاظ علىقوة نظام الخراج وبقائه، مقتفين أثر عمر بن الخطاب. فقد منع عمر تحويل أرض الخراج إلىأرض عشر إذا أسلم أهلها، واقتفى أثره الفقهاء واكتفوا بإلغاء الجزية على الرؤوس متعللينبأن لحظة الفتح تحديدا هى التى تحدد ما إذا كانت الأرض أرض عشر أم أرض خراج . بل ويصلالأمر بأبى يوسف إلى حد منع الخلفاء من أخذ أرض الخراج من أهل الخراج .


    ويصف لنا بن عبد الحكم نظامفرض الخراج في مصر إذ كان يفرض على القرى جملة تبعا لمساحة كل قرية من الأرض العامرة، وتقسم هذه المساحةعلى الأسر فى القرية بحسب قدرتها على الفلاحة، أى بحسب ما تحوزه من قوة العمل. ومايفيض من أرض القرية مما لا يرغب سكانها فى فلاحته كان يقسم عليهم ويلزمون بزراعته.


    كانت الدولة تجبى الخراج عن طريقموظفين ينتظمون فى جهاز يسمى ديوان الخراج يرأسه والى الخراج. وقد عرفت ثلاثة نظم لجبايةالخراج. كان عمر بن الخطاب قد جبى خراج السواد طبقا لنظام المساحة، الذى كانت دولةفارس قد أخذت به بدءا من عهد كسرى أنو شروان. وهو نظام يقوم على مسح الأرض وإحصاء الناس ، وتحديد الحيازات وما فيها من مزروعاتفى سجلات، بحيث تتحدد قيمة الخراج تبعا لمساحة الأرض وجودتها ومدى بعدها عن السوق ونوعالمحصول المزروع .


    وفى عهد المهدى تحولت الخلافةالعباسية إلى نظام المقاسمة، نظرا لشكوى الحائزين من إنخفاض أسعار المحصولات بحيث صارواعاجزين عن أداء الخراج. ويقضى نظام المقاسمة بأن تحصل الدولة على نسبة تتراوح بين النصفوالربع من المحصول تبعا لطريقة الرى . لا شك أن نظام المقاسمة يحتاج إلى مسح الأرضلتحديد الحيازات ووسيلة الرى ونوع المحصول. ويشدد أبو يوسف على أهمية نظام المساحة،نظرا لأنها تمنع تعدى الأقوياء على حق الضعفاء، ويترتب على ذلك العجز عن أداء الخراج،فضلا عن المساس بهيبة الدولة.


    أما النظام الثالث لجباية الخراج،فهو نظام القبالة. وفيه تعهد الحكومة – عن طريق مزاد علنى فى أغلب الأحوال – إلى أحدالأشخاص بجباية خراج دائرة أو ولاية معينة فيصير مسئولا عن توريد المبلغ الذى تعهدبدفعه للحكومة، وله أن يحصل على ما يفيض عن ذلك من نتاج الجباية. وهذا النظام من مضارهأنه يضع الحائزين تحت رحمة المتقبل الذى يلجأ عادة لاعتصار أهل الخراج من أجل زيادةأرباحه .


    وعمرو بن العاص الذى عاب علىخلفه فى ولاية مصر تحميل أهل الخراج فوق ما يحتملون يحدد وضع القبط الاجتماعى بأنهمخزنة العرب ، ويشبه أرض مصر بالبقرة الحلوب وحليبها الخراج. كذلك أمر عمر بن الخطاببأن "يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ولا يدعوهميتشبهون بالمسلمين فى لبوسهم" .


    ــــــــــــــــــ


    ( للاستزادة في هذا الموضوع يرجع للمصادر الآتية :


    1- الخراج، تحقيق وتعليق محمد إبراهيمالبنا، القاهرة 1981 ) .


    2- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، ط 4، القاهرة 1977، لمحمد ضياءالدين الريس.


    3- الجهشيارى، الوزراء والكتاب، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، ط 4، القاهرة1938.


    4- المغني لابن قدامه .








    د- العشور:


    هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولةالإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أراضي الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركيةفي العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له (العاشر) أي الذي يأخذ العشور ، ولميكن لهذه الضريبة وجود في عهد النبي r، وخليفته الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لأن تلك الفترة كانتفترة دعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل ونشره، وبناء الدولة الإسلامية، فلما اتسعتالدولة في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، وامتدت حدودها شرقاً وغرباً وصار التبادلالتجاري مع الدول المجاورة، ضرورة تمليها المصلحة العامة، رأى الخليفة عمر رضيالله عنه أن يفرض تلك الضريبة على الواردين إلى دار الإسلام، كما كان أهل الحربيأخذونها من تجار المسلمين القادمين إلى بلادهم، معاملة بالمثل وقد أجمع المؤرخون ،أن أول من وضع العشر في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك عندما كتب إليهأهل منبج ومن وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا بتجارتهم أرض العرب وله منهاالعشر فشاور عمر في ذلك أصحاب النبيe فأجمعوا على ذلك،فهو أول من أخذ منهم العشور، ولكن عمر أراد أن يتأكد من مقدار ما تأخذه الدولالأخرى من تجار المسلمين إذا اجتازوا حدودهم، فسأل المسلمين كيف يصنع بكم الحبشةإذا دخلتم أرضهم؟ قالوا: يأخذون عشر ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم ،وسأل أيضاً عثمان بن حنيف كم يأخذ منكم أهل الحرب إذا أتيتم دارهم؟ قال: العشر،قال عمر: فكذلك فخذوا منهم .


    وقد ساهم هذا التشريع الجديدفي تنظيم العلاقات التجارية بين الدول، وقد حققت التجارة الإسلامية مكاسب كبيرة فيعالم التجارة حيث فتحت أبواب الدولة الإسلامية للتجارة وجلبت البضائع والسلع إلىالدولة الإسلامية من كل أنحاء العالم .


    وقد كان لهذه التنظيمات المالية التي وجدت أيامالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبخاصة ضريبة العشر ، النفع الكبير في سهولةالتبادل التجاري بين المسلمين وجيرانهم، وورود أصناف متعددة من متطلبات الناسواحتياجاتهم فهو لم يقتصر اهتمامه على تنظيم المواد الآتية إلى بيت المال، بل نظمالطرق التي بواسطتها وبسببها يزداد دخل بيت المال، وتنعم البلاد بالرخاء ورغدالعيش، ومن ذلك اهتمامه بالتجارة الخارجية، وحسن معاملته لأهلها، وتتبعه العمالوالأمراء، والكتابة إليهم بذلك وحرصه على استيفاء حقوق الدولة من غير تعسف فيجبايتها . ([12])


    هـ- الفيء والغنائم:


    هل الغنيمة والفيء شيء واحد؟!


    وقد أختلف العلماء فيهما :فقال بعضهم : الغنيمة ما اخذ عنوة من الكفار في الحرب . والفيء ما أخذ عن صلح ...وهذا قول الشافعي .


    وقال بعضهم : الغنيمة ما أخذمن مال منقول . والفيء هو مال غير المنقول كالأرضين والعقارات وغيرهما ... وهذاقول مجاهد .


    وقيل : الغنيمة والفيء بمعنيواحد . والصحيح الأول وهو ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله . ([13])


    كيف يوزع الخمس بين الغانمين ؟


    ذكرت الآية الكريمة ان خمس الغنائم يوزع لمن سماهم الله عز وجل في كتابهالعزيز وهم ستة ( الله ، الرسول ، ذوالقربى ، اليتامى ، المساكين ، ابن السبيل ) وسكتت عن الباقي فدل ذلك علي أنه يوزععلي الغانمين .


    سهم الله : أما سهم (( الله)) عز وجل فقد اختلف المفسرون فيه علي قولين :


    أ- إنه يصرف علي الكعبة لانقوله ( لله ) آي لبيت الله فهو علي ( حذف مضاف ) .


    ب- وقال الجمهور إن قوله(لله) استفتاح كلام يقصد به التبرك فلله الدنيا والآخرة وهو المالك لكل ما فيالسموات والأرض فليس سبحانه بحاجة إلي سهم من هذه السهام لانه هو الغني وإنما ذكرتبارك وتعالي اسمه ليعلمنا التبرك بذكره وافتتاح الامور باسمه وعلي هذا الرأي يكونالخمس بين خمسة ( الرسول ، ذي القربى ، اليتامى ، المساكين ، ابن السبيل ) .


    سهم الرسول : أما سهم الرسولe فإنه حق له e يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين ،يدل علي ذلك قوله e ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ) .


    وقال آخرون إن لفظ ( الرسول) في الآية استفتاح كلام كما قالوا في قوله ( لله ) وأن الخمس يقسم علي أربعة أسهم( ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) .


    سهم ذي القربى : والمرادقرابة الرسول e وقد اختلف في( ذي القربي ) علي ثلاثة أقوال :


    أ- قيل إنهم قريش جميعا .


    ب- وقيل إنهم بنو هاشم فقط .


    جـ- وقيل إنهم ( بنو هاشموبنو المطلب ) وهذا هو الرأي الصحيح والراجح .([14])


    كيف توزع الغنائم ؟


    ظاهر الآية يدل علي أن توزيعالغنيمة يكون بين المحاربين علي السوية من دون تفضيل أو زيادة او نقص ، وقد وردتالسنة النبوية تشير إلي التفضيل فقد روي أن النبي e ( جعل للفارس سهمين وللراجل سهما ) وفي البخاري عن ابن عمر ) انرسول الله e ( جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما ) .


    ورأي الجمهور من العلماء أنيعطي الفارس سهمين ويعطي الراجلُ سهما واحدا وذلك لان الذي يركب الفرس يحتاج إلينفقة لفرسه ويكون بلاؤه في الحرب أعظمولذلك فإن الشارع الحكيم راعي هذه الناحية فزاده في القسمة فأعطي سهما له وسهمالفرسه .(2)


    أما الفيء، فهو كل مال وصلالمسلمين من المشركين من غير قتال، ولا بإيجاف خيل ولا ركاب، ويوزع خمس الفيء علىأهل الخمس الذين بينهم الله سبحانه في كتابه الكريم: } مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىفَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ { (3)


    وأما الغنائم: فهي ما غلب عليه المسلمون من مال أهل الحرب حتى يأخذوه عنوة ،قال تعالى: } وَاعْلَمُوا أَنَّمَاغَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِيالْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْآمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَالْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41) { ([15])


    ففي خلافة عمر رضي الله عنهزادت الغنائم زيادة كبيرة لاتساع المناطق المفتوحة ولما كانت تتمتع به من ازدهاراقتصادي كبير، وكان القادة الفرس والروم يخرجون إلى الميدان بكامل أبهتهم، فيقعسلبهم للمسلم، وأحياناً يبلغ 15.000 درهم، و 30.000 درهم ، وقد فتحت المدن العظيمةكالمدائن وجلولاء وهمذان والري واصطخر وغيرها، فحاز المسلمون أموالاً عظيمة، مثلبساط كسرى، وهو 3600 ذراع مربعة أرضه مفروشة بالذهب وموشى بالفصوص وفيه رسوم ثماربالجواهر، وورقها بالحرير، وفيه رسوم للماء الجاري بالذهب، وقد بيعت بعشرين ألفدرهم (20.000 درهم) وحاز المسلمون الذهب والفضة والمجوهرات العظيمة من غنائمجلولاء ونهاوند، حيث بلغ خمس جلولاء ستة ملايين درهم ، وأعظم الغنائم هي أرضالسواد التي وقفها عمر رضي الله عنه للدولة، وأراضي الصوافي التي قتل أصحابها أوفروا عنها، وأملاك كسرى وأهله، حيث جعلت غلتها للدولة، فكانت بإدارتها لصالح بيتالمال، ويقال إن غلتها – فيما بعد – بلغت سبعة ملايين درهم، فقد كانت الغنائمعظيمة القدر، وأنها أغنت المسلمين أفراداً ودولة وارتفعت بمستوى المعيشة وظهرت آثارها أكثر جلاء في خلافة عثمانرضي الله عنه .


    هذه الأموال جميعها التيأكتظت بها بيوت مال المسلمين سواء في المدينة النبوية أو بيوت المال في الولاياتوقد كان المال كثيرا متدفقا هلع له عمر وخشي من كثرته أن يكون أبتلاء من الله لهوللمسلمين فكان دائما يقول في نفسه لما خصني الله جل جلاله بكثرة تلك الأموال دونصاحبي ؟ فيراها أبتلاء من الله له وللمسلمين أيضا ، فكان يخشي أن تؤثر تلك الأموالفي أخلاق المسلمين وفي سلوكهم فينقلبون من حياة الزهد والتقشف إلي حياة الرغدوالرفاهية والترف الذي هو أكبر أعداء المدنية والحضارة وهو القاضي عليها يقول الله تعالي : ( إذا أردنا أن نهلك قريةأمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا ) (2)


    وأراد الله سبحانه وتعالي أنيختبر المسلمين ويبتليهم بابتلاء بسيط ليعلمهم أن الحياة ليست نعيما دائما ولاشقاء دائما وإنما هي مزيج من السعادة والشقاء واللذة والألم والعطاء والحرمان .وسوف نوضح ذلك فيما بعد .(3)

    (2)


    كيف واجه عمر مشكلة كثرة أموال المسلمين


    ( أولا )


    كثرة الأموال والغنائم من الحروب :



    ، لقد اكتظت بيوت المال بالأموال التي لا حصرلها إذ كانت الجيوش المنتصرة تظفر بالغنائم الهائلة التي لا سبيل إلي وصفها لا منجهة كثرتها ولا من جهة قيمتها ، حتى حين نقدر أن الرواة قد أسرفوا في أمرها وفيوصفها . وكان أمر الله في الغنائم ينفذ في دقة أي دقة ، فكانت أخماسها الأربعةتقسم علي الجنود علي النظام الذي شرع للمسلمين أيام النبي e ، وكان القادة ينفلون أصحاب البلاء من الجنود ، وكان خمس الغنائميرسل إلي عمر . ثم يتعقد الأمر بعد ذلك ، فإن الجنود لم يكونوا يظفرون بالغنائمالمنقولة التي يمكن أن تقسم ويرسل خمسها إلي أمير المؤمنين وإنما كانوا يظفرونبالأرض ويفرضون الجزية علي الذين يؤثرون البقاء علي دينهم من المغلوبين وقد أصرعمر علي ألا تقسم الأرض ، وإنما تترك لأهلها يعملون فيها ويعيشون عليها ويؤدونعنها الخراج ، فكان عمر إذن يتلقي أخماس الغنائم كلما أنتصر جيش من جيوشه ، وكانيتلقي الخراج علي الأرض التي يعيش عليها المعاهدون ، وكان يتلقي الجزية التي فرضتعلي من لم يسلم من المغلوبين .


    فكان المال الذي يرد عليهأكثر جدا مما كان يتوقع ومما كان العرب يظنون أنه سيساق إليهم في يوم من الأيام .وكانت الأخماس ترد علي أبي بكر – رحمه الله – في حروب الردة . وفي بدء الفتح وكانتسياسته فيها ساذجة كل السذاجة يسيرة كل اليسر ، كان يحفظ منها ما يؤدي به حق اللهمن أخماس الغنائم ، كما بينه في الآية الكريمة من سورة الأنفال : } وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربىواليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا علي عبدنا يومالفرقان يوم التقي الجمعان والله علي كل شيء قدير {.([16])


    ويقسم باقيها علي المسلمينقسمة سواء ، لا يفرق بين الناس مهما تختلف منازلهم . وكان يسوي في هذه القسمة بينالأحرار والأرقاء ، وكانت الأخماس التي ترد إلي أبي بكر لا تكاد تذكر بالقياس إليما كان يرد إلي عمر من الشام ومصر ومن العراق وأرض الفرس . وقد ظهرت له المشكلةخطيرة كل الخطورة حين كثرت الأخماس من جهة ، وحين جاء ما كان يجي من الجزيةوالخراج من جهة أخرى كان هذا المال أكثر من أن يقسم علي الناس ، وكان تقسيمه خطرا، وكان نوعا من السرف ، وكان مغريا للناس بالكسل والاتكال والاعتماد علي حظوظهم منالأخماس والخراج . وقد شغل عمر بهذه المشكلة واهتم لها ، ولاسيما بعد أن دخل سعدبن أبي وقاص وجيشه المدائن عاصمة الفرس وأرسلوا إليه خمس ما غنموا في هذه المدينة.

    * * * *


    ( ثانيا )


    عمر يستشير الصحابة في أمرالمال



    وقد استشار عمر أصحاب النبيفي أمر هذا المال وأخذ بعضهم يدلي برأيه فكانت آراؤهم علي النحو التالي :


    - رأي علي– رحمه الله – فأشار عليهبأن يقسم في كل عام ما يجتمع له من المال ولا يمسك منه شيئا . ومعني ذلك أنه كانيري أن يسير عمر سيرة أبي بكر حيث كان يقسم المال كله ويتخلص منه ويترك بيت المالفارغا حتى لا يحاسبه ربه .


    - رأي عثمان– كان يري أن المال كثير يسعالناس كلهم بالتساوي ولكن طلب أن تحصي الأموال أولا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذومعني ذلك أن عثمان – رحمه الله – أراد أن ينظم تقسيم المال بحيث لا يأخذ بعضالناس ويحرم البعض الآخر وهو يتفق مع أبي بكر ليس في الإحصاء وإنما بتوزيع المالكله دون أن يبقي في بيت المال شيء .


    - رأي الوليد بن هشام بن المغيرة– وقد كان رأيه صوابا حيثقال لعمر أنه جاء من الشام ورأي ملوكهم يدونون الدواوين ويجندون الجنود وقال لعمرفدون ديوانا وجند جنودا ومعني هذا ألا يقسم المال علي الناس لغير غرض معروف وإنما يوظففي الأمور المهمة كتجنيد الجنود حيث يجب أن يبقي المال يعطي هؤلاء الجنود أعطياتهمبجانب حقهم المتروك لهم من الغنيمة وكان الجنود في بداية الأمر تعيش في أسرهم معأبنائهم وآبائهم ومن هنا كان لهؤلاء الجميع حقهم في العطاء فإذا ما أعطي الجندوأعطيت أسرهم وأعطي الذين يحتاجون ثم يبقي مالا يمسكه الخليفة في بيت المال يكونعدة لما يحدث من الأحداث فاقتراح الوليد بن هشام كان عظيما وقد عمل به عمر بنالخطاب فهو رأي نظم قسمة المال وجعل للجند حقا إلي جانب أسهمهم من الغنائم ويقوم بأمر أسرهم كما أنه يغني من يحتاج منالمسلمين . ([17])

    * * * *


    ( ثالثا )


    فكيف نظم عمر صرف العطاء للمسلمين ؟



    كان تنظيم عمر للعطاء بعدتدوين الديوان له نظام خاص فهو لم يسو بين الناس في أعطياتهم وإنما جعلهم طبقاتوأنزل كل طبقة منزلتها وقد بدأ ببني هاشم ثم بدأ من بني هاشم من هو أقرب إلي النبيثم الأقرب فالأقرب من رسول الله e (2) ومن هنا ظهر تاريخ الأنساب لتوزيع العطاء وهو فرع من فروع التاريخالعام وكان أبو بكر وعمر رحمه الله من أمهر العارفين بالإنساب من أجل صرف العطاء .


    وكان عمر – رحمه الله –دقيقا وحازما في تنفيذ هذا الأمر ومن مظاهر دقته ووقوفه عند الحق أن كتاب الديوانجعلوا بني تيم قبيلة أبي بكر بعد بني هاشم ، وبني عدي قبيلة عمر بعد بني تيم فأبىعمر وقال : ضعوا عمر حيث وضعه الله ورفض أن تتميز قبيلته .


    بل كان عمر دقيقاً أشد الدقةفهو في تنظيم العطاء نظر إلي القرابة من رسول الله بالقياس إلي بعض الناس ففضلأقرب الناس إلي النبي وأحبهم إلي النبي علي سائر بني هاشم من هذه طبقة . ثم رتبالناس في العطاء وكان التميز في العطاء يقوم علي الأقدمية في الإسلام والأسبقيةإلي الإسلام وعلي البلاء في الإسلام وعلي الأفضلية في قراءة القرآن إلي غير ذلك منموازين وصفها عمر .


    ولنأخذ مثال علي ذلك :- التدرج في قيمة العطاء :


    - فرض للذين هاجروا قبل فتح مكة كل واحد منهم ثلاثة ألاف درهم ويتساوي فيذلك أحرارهم وعتقائهم .


    - وفرض للذين شهدوا بدراخمسة ألاف درهم في العام .


    - وفرض للذين هاجروا إليالحبشة وشاهدوا أحدا أربعة ألاف درهم .


    - وجعل لمن شهد الأحداث منأبناء المهاجرين والبدريين ثلاثة ألاف درهم إلا الحسن والحسين – رحمهما الله – فقدفرض لهما مثلما فرض لأبيهما لكل من هما خمسة ألاف درهم في العام .


    – وفرض لأسامة بن زيد أربعةألاف درهم حيث فضله علي أترابه من أبناء المهاجرين ومن طرائف عمر في هذا المجال أنابنه عبد الله أعترض علي ذلك قائلا فرضت لي ثلاثة ألاف ولأسامة بن زيد أربعة ألاففلماذا ؟ فقال عمر : فضلته لأنه كان أحب إلي رسول الله e منك ، ولأن أباه كان أحب إلي رسول الله من أبيك .


    - فرض لعمر بن أبي سلمةأربعة ألاف فعارض في ذلك محمد بن عبد الله بن جحش وسأله لم تفضل أبن أبي سلمةعلينا وقد هاجر آبائنا وشهدوا المشاهد فكان رد عمر أفضله لمكانه من النبي e ، فليأت الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة .


    - وفضل العباس بن عبد المطلبففرض له خمسة ألاف درهم .


    - وفضل أزواج النبي e علي الناس جميعا ففرض لكل واحدة منهن أثني عشر ألف درهم . الطبري الصفحات السابقة .


    - ثم أنزل الناس بعد ذلك منازل مختلفة ، ففرض لكثير منهم ألفين وخمسمائة ،وللآخرين ألفين ألفين ثم جعل ينزل الناس منازلهم حتى كان أخر عطاء فرضه ثلاثمائةدرهم ولم ينقص أحدا من هذا .([18])


    وقد كان عطاء عمر كافيا وشاملا شمل جميعالمستويات في المجتمع حتى الأطفال فقد وضع لهم عطاء لأن النساء كن تستعجلن فطامأبنائهن من أجل العطاء وقد روعه ذلك فيروي أنه سمع صراخ طفل بالليل وكان عمر يعسفي تلك الليلة فطرق الباب وقال لأمه أحسني إلي طفلك وفي جولته الثانية في الليلسمع عمر الطفل مازال يصيح فدق الباب وقال ألم أقل لك أحسني إلي طفلك فقالت المرأةأني أستعجل فطامه لأن عمر لا يفرض للمواليد عطاء فبكي عمر وقال يا بؤسي كم قتل عمرمن أبناء المسلمين ثم أمر أن ينادي المنادي في الناس ألا تعجلوا أبنائكم عن الفطامفإنا نفرض لكل مولود في الإسلام واصبح يعطي لوي الطفل عطاء مولودة منذ أن يولد كماجعل عمر للقطاء كلا منهم مائة درهم يأخذها وليه ويدخرها له وجعل رضاعته ورزقه منبيت المال يأخذ منه وليه في كل شهر ما يكفي اللقيط فإذا ترعرع يزيد عطائه وكانشأنه شأن أطفال المسلمين .


    ولم ينس عمر الأرامل منالنساء فجعل لصفية بنت عبد المطلب ألف درهم ، ولأسماء بنت عميس زوجة أبو بكر ألفدرهم ولأم عبد الله بن مسعود ألف درهم وكان عمر حريصا علي أن يصل العطاء إليمستحقيه فكان يعطي الناس عطائهم بنفسه في المدينة أما ما بعد عن المدينة فكانديوان القبائل يحمله إليهم ويعطي النساء أعطياتهن في أيديهن واشرف علي هذا النظام الذيأقره عمر للناس كلا حسب ما يستحق من سابقه في الإسلام أو بلاء في الحروب أو حفظهفي القرآن أو قرابة للرسول e المهم أنه لم يسو بين الناس كما فعل أبو بكر . ([19])


    ويقارن الدكتور طه حسين بيننظام العطاء كما فرضه عمر وبين النظم المالية في الأمم الحديثة فيجده نظاما جديدامن جميع نواحيه لم يسبق إليه عمر من الأمم التي سبقت أو حتي شيء قريب منه . فالأمم القديمة كانت تستأجر الجنود في الحربوتعطيهم نصيبا من الغنائم أو وفق نظام الإقطاعيات وبعض الحكومات القديمة كانت تقطعالجنود أجزاء من الأرض يعيشون من غلاتها أما أن تكفل الدولة رزق المسلمين جميعاعلي هذا النحو فما عرفه التاريخ القديم .


    وكذلك ما فعله عمر فاق مافعلته الحضارة الحديثة في بعض البلاد فغاية ما وصلت إليه تلك الحضارة هو التأمينالاجتماعي الذي يقتطع نفقاته من الناس لترد عليهم بعد ذلك كما نري اليوم حينماتحتاج الأفراد إلي العلاج أو تصرفه الدولة للشيوخ والضعفاء والعاجزين عن العمل أوما تقوم به من تامين العمال من أخطار العمل أو ذلك المعاش الذي تقدمه الدولةوالهيئات الاجتماعية الأخرى حين تنقضي خدمتهم . ومع ذلك فإن نظام العطاء في عهدعمر يبقي مميزا متفردا بقيمته وفائدته فمعني أن يعطي كل فرد من أفراد الأمة نصيبمقسوم من خزانة الدولة فهذا شيء لم تعرفه الدول إلي في عهد عمر – رحمه الله .


    أن تلك السياسة المالية التينظمها عمر لم تبق بعد وفاته حيث تغير ذلك النظام في حياة عثمان رحمه الله فقد الحالصحابة علي عثمان أن ينهي ذلك العطاء وأن يقصره علي الجند حيث رأوا أن هذا الماللمن قاتل عليه ولا ينفق هنا وهناك ومما دفع الصحابة إلي ذلك كثرة ما كان يعطى منالمال لبعض الناس فألغاه عثمان وقصره علي الجند ولم يستثن من ذلك إلا بعض الشيوخمن أصحاب النبي e لأنهم شهدوا المشاهد معهوقاتلوا المرتدين وشارك الكثير منهم في الفتوح . هذا جانب من جوانب الامتياز فينظام العطاء الاقتصادي في الإسلام ولاسيما عند الفاروق عمر .


    ومن المزايا الأخرى التييراها طه حسين في نظام العطاء هو ما يخص الأطفال فعمر جعل للأطفال رزقا منذولادتهم والحضارة الحديثة تفعل ذلك ولكنها تفعل لهدف معين وذلك لتشجيع المواليدمثلا عندما يقل عدد سكان الدولة وتتعرض الأمة للنقصان والضعف فالدولة الحديثة هناترزق الأطفال وتشجع الناس علي الإكثار من الولد لأنها محتاجة إلي الشباب الذينينهضون بالخدمة العامة ويدافعون عن الوطن وهي تفعل ذلك بغرض معين أما عمر – رحمهالله – كان يعطي الأطفال لأن ذلك حقا لهم وهو جزء مقسوم من ميزانية الدولة دون أنينتظر منهم أن يخدموا أو لا يخدموا فالرزق عند عمر للأطفال هو رزق واجب علي الدولةوهو حق معلوم لهم . ([20])


    ومن المزايا أيضا نظاماللقطاء فهو نظام جديد لم تصل إليه الأمم القديمة وما عرفته الحضارة الحديثة عليالنحو الذي أراده عمر فقد كان لهؤلاء اللقطاء حق معلوم من خزانة الدولة ينفق عليهمبعضه ويدخر لهم بعضه الأخر حتى إذا بلغوا سن الرشد وجدوا من المال ما يستطيعونالعيش منه أما اليوم فإن هؤلاء اللقطاء يعيشون تحت الكباري في عصابات تقوم بالنشلوقبائح الأعمال الأخرى من شرب المخدرات والبانجو والشم إلي غير ذلك وقد ترعاهم بعضالجمعيات الدينية أو الجمعيات المدنية وهناك بعض الأقسام أقامتها الدولة فيالملاجئ ولكن كل ذلك غير كاف باستيعاب اللقطاء وأولاد الشوارع .


    وهكذا يؤمن عمر ان لكل إنسانجزء مقسوم من بيت المال سواء أقل أم كثر وكان يقول :(والذي نفسي بيده ما من واحدمن المسلمين إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه ) وكان يقول أيضا:( والله لئنعشت ليأتين الراعي حقه من هذا المال قبل أن يحمر وجهه في طلبه ) ويريد بذلك أنه كانحريصا علي أن يصل العطاء إلي أصحابه سواء القريب منه أو البعيد فيصل إليهم قبل أن يطلبوه . فإذاما قارنا ذلك بالأهوال والمآسي التي يلاقيها أصحاب المعاشات اليوم لصرف مستحقاتهملوجدنا أن عمر بن الخطاب قد صان ماء وجوههم من التردد لصرف أموالهم.(2)


    ومما يأسف له أن بعضالمستشرقين الحقودين علي الإسلام ومن تبعهم من أبناء جلدتنا قد انتقدوا عمر فيعطائه إذ ظنوا أن إنزاله الناس منازلهم من العطاء حيث أكثر عطاء بعضهم وأقل عطاءبعضهم الأخر أنه جعل نظام المال في بيت المال درجات أي أنهم اتهموا عمر بأنه يؤثرنظام الطبقات الذي ينبذه الإسلام .


    والحقيقة أن هذا خطأ ولايمكن أن ننتظر من عمر ان يؤثر نظام الطبقات ولا يفضل بعض الناس علي بعض إلابالتقوى وما يستوجب ذلك ولو طبق نظام الطبقات لخالف عن نظام الإسلام وهل يجرؤ عليمخالفة أمر الله الذي جعل الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى والذي كان يحاسبالأغنياء وينتصف منهم للفقير وكان الضعيف عنده قويا حتى يأخذ الحق له . إذن لماذالجأ عمر بن الخطاب إلي نظام التمايز في العطاء طالما هو لا ينوي إقامة نظامالطبقات ؟ لعل عمر بن الخطاب لجأ إلي نظام التميز في العطاء للأسباب التالية :


    - إن المال الذي كان يرد إليبيت المال من الخراج والجزية والأخماس علي الرغم من كثرته الهائلة إلا انه كان أقلمن ان يسع المسلمين كلهم علي سواء وهذه الكثرة في أعداد المسلمين جاءت من انتشارالدعوة وكثرت عدد الداخلين في الإسلام فكان لابد أن يفضل بعضهم علي بعض وفق ميزانالتفاضل الذي وضعه عمر وذلك بالقدم في الإسلام أو بالسابقة أو حسن البلاء والقرابةمن الرسول .


    - كان يفضل قرابة النبي e لإيمانه العريق بأن العربشرفت بالنبي وبأن أقاربه الأدنين أحق بالفضيلة من غيره .


    - وكان يقدم الذين آسوا رسولالله بأنفسهم وشاركوه في الشدة والجهد والدين وقاتلوا أعدائه يفضل كل هؤلاء عليالذين كادوا للنبي وقاتلوه ولم يستجيبوا للإسلام إلا كارهين .


    - وما كان عمر ليسوي العطاءبين من قاتل علي الإسلام ناشرا له ومدافعا عنه ومن أقام هانئا في عافيته لا يقاتلولا يتعرض لخطر .


    - وما كان لعمر أن يسوى بينمن عاشر النبي وأبلي معه في سبيل الله وبين من لم يلق النبي وإنما أسلم بآخرة أوأسلم بعد وفاة النبي .


    - وما كان لعمر كذلك أن يسوىبين الذين أقاموا علي إسلامهم لم يخالفوا عنه ولا يخرجوا منه وبين الذين أسلموا ثمكفروا ثم عادوا إلي الإسلام بقوة السيف .


    كل ذلك لم يكن عمر يستطيعهوالمال أقل من أن يسع الناس جميعا علي السواء ويري طه حسين أن عمر لم يكن يفعلهحتى لو كثر المال إنما يريد أن يجعل الناس سواء دون أن ينزل بأصحاب السابقةوالبلاء عن منازلهم كما يري من ناحية أخري أن تمييز هؤلاء حقا عليه لأنهم أتقيالناس وأئمتهم ومعلموهم عنهم يؤخذ الدين وبسيرتهم يقتدي عامة الناس كما ان حياةهؤلاء الأئمة من أصحاب النبي محدودة بآجالهم فإذا أختارهم الله بجواره تمتالمساواة بين الناس ولم يميز أحد من أحد ولم يفضل إنسان علي إنسان . ذلك القولمرهون بطبيعة الحال علي الخلفاء من بعد عمر لو حافظوا علي سياسته وعلي النظام الذيوضعه ولكن مما يؤسف له لم ينقض علي وفاة عمر إلا قليل من الوقت حتى ظهرت الأثرةوأستبقي الناس إلي الغنى وفضل بعضهم علي بعض في منازلهم من الخلفاء . ([21])





    * * * *



    1- الشيخان صـ 191 ، 192 .


    1- الشيخان صـ 191 .


    1- سورة الحديد آية:7 .
    2-سورة البقرة آية:254 .

    1- البقرة آية:137 .
    2- بقوة السلاح .
    3- أهل كتاب كاليهودوالنصارى .
    4- البقرة :43 .

    1- أخرجه البخاري 3/ح1395 .
    2- أخرجه البخاري في صحيحه 2/131، 147.
    3- أخرجه أبو داوود 2/ح1556.
    4- أنظر المغني لابن قدامه طدار الحديث ج3 ص335 .
    5- المغني ص336 ، والشرحالكبير لشمس الدين بن عبد الرحمن ص236 .
    6- أحكام أهل الذمة بن قيمالجوزية تحقيق دكتور / صبحي الصالح دار العلم للملايين ج1 ص1 .


    1- التوبة،آية:29.

    1- أحكام أهل الذمةج1 ص24 .
    2- المصدر السابق ص28 .
    3- المصدر السابق ص28 ، 29 .
    4- المصدر السابق ص30
    5- المسان : هو كل ما يسن بهأو عليه .
    6- المصدر السابق ونفسالصفحة .

    1- أحكام أهل الذمة ص35 .
    2- المصدر السابق ص38 .


    1- أحكام أهل الذمة ص39 – 40 .
    2- المصدر السابق ص42 .
    3- المصدر السابق ص44 .
    4- أنظر ما ذكره ابن قدامه في ( المغني ش 10 /585 )حول هذا الموضوع .
    5- أحكام أهل الذمة ص49 .
    6- المصدر السابق ص51 .


    1- الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافةالعثمانية ص88 .

    1- الخراج لأبي يوسف من 38 – 41 ،وأنظر أيضا الدولة العباسية للخضري ص144 ، وأنظر أيضا الصلابي فضل الخطاب في سيرةبن الخطاب ص213 .


    1- الصلابي فضل الخطاب في سيرة بن الخطاب ص218 .

    1- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للدكتور محمد علي الصابوني ج1 ص603 .


    1- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للدكتور محمد علي الصابوني ج1 ص605 .
    2- المصدر السابق ج1 ص606.
    3- الحشر آية : 7 .

    1- الأنفال آية:41 .
    2- سورة الإسراء آية 16 .
    3- الصلابي ص222 .

    1- الآية 41 .


    1- الطبري ج3 صـ614 – 618 .
    2- يذكر الطبري أن عمر حينما أراد وضعالديوان قال له علي وعبد الرحمن بن عوف أبدا بنفسك ، قال لا بل أبدأ بعم رسول اللهe فالأقرب فالأقرب ففرض للعباس وبدأ به . أنظر تاريخالطبري ج3 صـ 614 .

    1- المصدر السابق ونفس الجزء صـ 615.


    1- أنظر طه حسين في كتابهالشيخان صـ168 – 173 .


    1- الشيخان صـ 176 .
    2- المصدر السابق صـ 177 .

    1- الشيخان صـ 179.



  17. #17
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة السابعة )


    أمثلة لإدارة عمر لبعضالأزمات



    ليست الحياة نعيم متصل ولاشقاء دائما وإنما هي مزيج من السعادة والشقاء واللذة والألم وتمضي الحياة هكذا ،قد تمر الأمة بأزمة تعيشها ليتضح منخلالها معرفة الرجال ومعادنهم فكم مر بأمتنا من فترات حرجة ترتب عليها نتيجة مؤثرةومناهج أخرجت قادة لهم قدرة علي مواجهة الأزمات وأحتوائها .


    وقد تتطلب تلك الازمةأستخدام أساليب إدارية مبتكرة وسريعة مما يستلزم التغير السريع لإعادة التوازن وقدتكون تلك الأزمة نقطة تحول في حياة الأمة ومن ثم تتطلب قرارات سريعة وقد تفقدالسيطرة عليها . وسنري كيف واجه عمر تلكالأزمات وهو الرجل البدوي الذي لم يتخرج من جامعة أو اكاديمية علمية وكيف استطاعان يواجه الأزمات بفطرته السليمة وأنيحاصرها ويقضي عليها بحلول مستنبطة من القرآن والسنة ، وأن يضع دائما مرضاة الله نصب عينيه في إدارةالازمة ويواجهها وهو واثق بالله سبحانه وتعالي كل الثقة مع الشعور بالطمأنينة .كما أنه لا ينسي الدعاء وهو يتجه لله سبحانه ويلح عليه في طلب زوال تلك الأزمةأقتداء بالنبي e .


    كما أننا نري عمر وهو يواجهالأزمة يحاول أن يستفيد من خبرات الأخرين فكان يشاورهم في الأمر فيسأل الصحابةرضوان الله عليهم فيشيرون عليه ببعض الحلول ، وكان عمر لا يمل ولا يكل من مواجهةالأزمات فكان يواجهها بحماس فائق ورغبة ملحة لإرضاء الله وكان يوازن بين البدائلالمتاحة ويختار أقربها إلي حل الإزمة وتحقيق مصلحة الجماعة .


    كما كان عمر وهو يواجهالازمة ينتظر الفرج بعد الشدة عملا بقوله تعالي : ( فإن مع العسر يسري ) ([1]) ، وقوله تعالي : ( لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (2).


    كما كان رحمه الله مهمااشتدت الازمة لا تنسبه التمسك بالقيم والمثل العليا والأخلاق الفاضلة والسلوكياتالحسنة ، فلا غرو بعد ذاك إن كان عمر قويا جريئا في صنع القرار ، وسوف ندلل عليذلك من خلال موقفين وقفهما الفاروق عمر واجه فيهما القدر المر هو وجماعة المسلمينفكيف تمت مواجهة عمر وجماعة المسلمين لهاتين الازمتين ؟ .

    (1)


    مواجهة عمر لأزمة عام الرمادة[2]:-



    كان عام الرمادة ابتلاء منالله لعمر بن الخطاب ونازلة كبري من النوازل التي سوف يواجهها هو والمسلمون بعد . تصديقا لقول نبينا e ( أشد الناس بلاءا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ويبتلي الرجل عليقدر دينه ) ، ففي عام ثمانية عشر بعد أنعاد الناس من الحج أصاب عرب الحجاز وتهامة ونجد جدب شديد حيث أنقطع المطر الذي هوباعث الحياة في الجزيرة واستمر ذلك فترة طويلة أسودت فيها الأرض حتى صارت كالرمادلذا سمي هذا العام بعام الرمادة وقد سميت بهذا لأسم كما يقول الحافظ بن كثير :


    لأنالأرض قد اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيهاً بالرماد ، أو كانت الريحتسفي تراباً كالرماد ،كما قيل أن ألوان الناس أضحت مثل الرماد .


    -ومن الشواهد الدالة علي قسوة تلك المجاعة وشدتها : منها ما يأتي:


    1- ماأخرجه الطبري من خبر عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كانت الرمادة جوعاًشديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعلالرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر".


    2- وقالالحافظ ابن كثير: "وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلميجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسألعن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السؤَّال سألوا فلم يعطوا، فقطعواالسؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون".


    3- قال نافع مولى الزبير: سمعتُأبا هريرة يقول: "يرحم الله ابن حنتمة ، لقد رأيته عام الرمادة، وإنه ليحملعلى ظهره جرابين، وعكة زيت في يده، وإنه ليعتقب هو وأسلم ، فلما رآني قال: من أينيا أبا هريرة؟ قلت: قريباً؛ قال: فأخذت أعقبه، فحملناه حتى انتهينا إلى صرار، فإذاصرم نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، قال:فأخرجوا لنا جلد الميتة مشوياً كانوا يأكلونه، ورمة العظام مسحوقة كانوا يسقونها،فرأيت عمر طرح رداءه، ثم ائتزر فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، وأرسل أسلم إلىالمدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها، حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، وكان يختلفإليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك".


    4- تجمع بالمدينة من غير أهلها حواليستين ألفاً من العرب، وبقوا عدة أشهر ليس لهم طعام إلا ما يقدم لهم من بيت مالالمسلمين، ومن أهل المدينة.


    وقد أمتحن الله المسلمينبهذه المحنة الشديدة وفيها ظهر حسن بلاء عمر وحسن تصريفه للأمور وضرب للناس مثلاأعلي عند الشدائد حيث علم الناس الصبر علي الكوارث واحتمال الشدائد . وقد انقلبتعليه أهل البادية إذ تركوا مواطنهم ورابطوا علي أطراف المدينة يلتمسون الرزق منأهلها وقد أهم عمر وضع هؤلاء الناس فكان لابد أن يجيرهم ويوفر لم ما يقيم لهمحياتهم من مأكل ومشرب .


    ولم لا وهو خليفة المسلمينوراعيهم والمسئول عنهم وقد قال رسول الله e : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش برعيته إلاحرم الله عليهم الجنة ، وقوله e : من ولاه من ولاه الله شيئاًمن أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلتهوفقره يوم القيامة" ، وبوصفه صلى الله عليهوسلم للإمارة بأنها: "أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذهابحقها، وأدى الذي عليه فيها".


    وكان عمر يطوف في شوارعالمدينة ليلا فخرج يمشي حتى وصل إلي منازل الأعراب حول المدينة الذين هربوا منجفوة الصحراء وجاءوا يلتمسون الرزق من عمر وكان كثيرا ما يخرج بالليل هو ومولاهوهما يحملان الدقيق والزيت فإذا ألم أو أحس جوعا في أهل بيت أعطاهم ما يصلحهموربما أعطاهم طعاما صنعه لهم بنفسه ثم يعود فيصلي الفجر ثم يجلس بالناس نهارا .


    فماذا يعمل عمر وقد اشتدتالضائقة وضغطت بكلكلها فماذا يفعل وقد فنيت الأرزاق وشحت المأكولات :

    * * * *




    ( أولا )


    تدبير عمر وإشرافه وقيامه بنفسه على غوث الملهوفين



    من المواقف الخالدة لعمر، والتدبيراتالناجحة له في عام الرمادة، جعل مشرفين وأمراء على كل ناحية من نواحي المدينة،يوافونه بحال القوم وحاجتهم، ويجتمعون عنده في كل مساء، ويشرفون على تقسيم المؤنوالأطعمة، ويتفقدون أحوال كل جهة، حتى لا تتضارب الاختصاصات، ويطمع البعض في حقوقغيرهم.


    · أخرج ابن سعد في طبقاته من خبرزيد بن أسلم عن أبيه قال: "لما كان عام الرمادة تجلبت العرب من كل ناحية،فقدموا المدينة، فكان عمر بن الخطاب قد أمر رجالاً يقومون عليهم، ويقسمون عليهمأطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد بن أخت النمر، وكان المِسْوَر بن مخرمة، وكان عبدالرحمن بن عبد القاري ، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود. كانوا إذا أمسوا اجتمعوا عند عمر، فيخبرونه بكلما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة، وكان الأعراب حلولاً فيمابين رأس الثنية، إلى رابح، إلى بني حارثة، إلى بني عبد الأشهل، إلى البقيع، إلىبني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سلمة، هم محدقون بالمدينة.


    فسمعتُ عمر يقول ليلة، وقد تعشى الناسعنده: أحصوا من تعشى عندنا؛ فأحصوهم من القابلة، فوجودهم سبعة آلاف رجل؛ وقال:أحصوا العيال الذين لا يأتون، والمرضى، والصبيان؛ فأحصوا فوجدوهم أربعين ألفاً.


    ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهمفأحصوا، فوجد من تعشى عنده عشرة آلاف، والآخرين خمسين ألفاً، فما برحوا حتى أرسلالله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤء النفر بناحيتهم يخرجون إلىالبادية، ويعطونهم قوتاً وحملاناً إلى باديتهم".




    * * * *


    ( ثانيا )


    مواساته للرعية في هذهالمجاعة



    هذا الموقف من أجل وأنبل المواقف التيوقفها عمر في هذا العام، إذ واسى رعيته مواساة كاملة، حيث لم يتميز عليهم بشيء قط،حتى أذهب الله عنهم ذلك الكرب، وإليك نماذج من مواساته لرعيته:


    · خرج ابن جرير الطبري بإسناده عنعدد من الشيوخ قالوا: "أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينةوحولها.. فآلى عمر ألا يذوق سمناً، ولا لبناً، ولا لحماً، حتى يحيى الناس من أولالحيا ( المطر ) ، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق عُكة منسمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أميرالمؤمنين، قد أبرَّ الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن،فابتعتهما بأربعين؛ فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً؛وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم!" .


    · وأخرج ابن سعد من خبرعبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: "كان عمر يصوم الدهر ، قال:فكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد سرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيامجزوراً فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها، فأتي به، فإذا فدر من سنام ومن كبد، فقال:أنى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرنا اليوم؛ قال: بخ بخ، بئسالوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها ، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غيرهذا الطعام؛ قال: فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحكيا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتى تأتي بهاأهل بيت يثمغ ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام،فأحسبهم مقفرين ، فضعها بين أيديهم". وهكذا ضرب عمر المثل الأعلي لنفسه وكانقدوة صالحة إذ حرم علي نفسه أن يزوق أطيب الطعام قبل أن يزوقه المسلمون ، فهل منحكامنا نري تلك الصورة ونري ذلك الإيثار الذي تطيب لهم النفوس أعتقد أن الإجابة خلاف ذلك فكم مدت للأغنياءموائد تزينت بأطيب المأكولات وأغلاهاوالمسلمون يتناحرون علي أرغفة العيش حتى يظفر احدهم في ببضعة أرغفة تسد رمقه ورمقأهله وكم من أفراح أقيمت وأنفق عليها الملايين في فنادق مصر أو خارجها وقد استوردتالمأكولات والمشروبات وغيرها من أصناف الطعام والفقراء تتلوى وتتضوع جوعا يرحمكالله يا ابن الخطاب علي ما فعلت بالمسلين .

    * * * *


    ( ثالثاً )


    اعتماده بعد الله على مواردبيت المال وما عند أهل المدينة



    منالمواقف الكريمة والتدبيرات الحازمة الحكيمة اعتماد عمر رضي الله عنه في أول الأمرعلى موارد بيت المال، وعلى ما جادت به نفوس أهل المدينة من المهاجرين والأنصارالأطهار، حيث لم يلجأ إلى طلب الغوث من الأقاليم والأمصار إلا بعد أن نفذ كل مابحوزته وما بحوزة أهل المدينة، فالاعتماد بعد الله على النفس وعلى الموارد المحليةمن حسن التدبير، وسبب من أسباب النجاح الكبير الذي حققه عمر في هذه المحنة.


    · قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو يؤرخ لعام الرمادة: "كان عام الرمادة جدبعم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعاً شديداً.. وجفلت الأحياء إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأواإلى أمير المؤمنين، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال، مما فيه من الأطعمة والأموالحتى أنفذه".


    أنظر إلي عمر بن الخطاب فيعدله الاجتماعي وفي مساواته الكاملة بين الناس وهو يتحدث إليهم في خضم تلك المحنةالقاسية فكان يقول دائما : ( نطعم إذا ما وجدنا الطعام ، فإذا لم نجد أدخلنا عليكل أهل بيت بعددهم أناس لا يريدون الطعام فشاركوهم في طعامهم فإنهم لم يهلكوا عليأنصاف بطونهم ) ومعني هذا أن الدولة تنفق علي الفقراء والمحتاجين إلي الطعامبإيجاد القوت اللازم للحياة لمن عجز عن تحصيله ، وإذا عجز بيت المال ( وزارةالمالية عن إطعام الناس حين إذن يفرض علي الأغنياء أن يقاسموا الفقراء ما يجدون منطعام حتى لا يشبع أناس من المسلمين ويجوع أناس آخرون .

    * * * *





    (رابعاً )


    طلب الغوث من الأمصاروالأقاليم



    عندمانفذت موارد بيت المال، ونفذ ما عند أهل المدينة، لجأ عمر رضي الله عنه إلى طلبالعون من عماله، ولم يلجأ لذلك إلا في حال الاضطرار، وهكذا ينبغي على المسلم أنيصبر على الأسى والبلواء ولا يسأل الناس،لا لنفسه ولا لغيره، إلا في حال العجز التام، فآخر العلاج الكي، ورحم الله أولئكالنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين بايعوا رسول الله صلى اللهعليه وسلم أن لا يسألوا أحداً شيئاً أبداً، منهم أبو بكر وحكيم بن حزام.


    علىالرغم من هذا الضيق لم يلجأ عمر رضي الله عنه لطلب الغوث إلا بعد رؤيا منامية رآهابلال بن الحارث المزني رضي الله عنه. حيث روى سيف بن عمر عن سهل بن يوسف السلمي عنعبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأولسنة ثماني عشرة.. فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار، حتى أقبل بلال بنالحارث المزني، فاستأذن على عمر، فقال: أنا رسول رسول الله إليك، يقول لك رسولالله صلى الله عليه وسلم: لقد عهدتك كيساً، وما زلت على ذلك، فما شأنك؟ قال: متىرأيت هذا؟ قال: البارحة؛ فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين، ثمقال: أيها الناس، أنشدكم الله هل تعلمون مني أمـراً غيره خير منه؟ فقالـوا: اللهملا؛ فقـال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية ؛ قالوا: صدق بلال، فاستغث بالله ثمبالمسلمين؛ فبعث إليهم – وكان عمر عن ذلك محصوراً – فقال عمر: الله أكبر، بلغالبلاء مدته فانكشف، ما أذن لقوم في طلب إلا وقد رفع عنهم الأذى والبلاء.


    وكتبإلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم، وأخرجالناس إلى الاستسقاء، وخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشياً، فخطب وأوجز،وصلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لناوارحمنا، وارض عنا؛ ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران، ثم كتبعمر بن الخطاب إلى عماله أبا عبيدة وأبا موسى الأشعري وغيرهما يطلب منهمالغوث".


    · قال سيف بن عمر: "كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومنحولها، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف راحلة من طعام،فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فلما فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم،فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين، إنما أردت اللهَ وما قِبَله، فلا تُدْخِلعلي الدنيا؛ قال: خذها فلا بأس بذلك إن لم تطلبه؛ فأبى، فقال: خذها فإني قد وليتُلرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، فقال لي مثل ما قلتُ لك، فقلت له كما قلتَلي، فأعطاني؛ فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله".


    · وروى ابن كثير : "فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد؛ وكتبإلى عمرو بن العاص بمصر: يا غوثاه لأمة محمد؛ فبعث إليه كل واحد منهما بقافلةعظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلىمكة".


    · قال الحافظ ابن كثير: (هذا الأثر جيد الإسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عامالرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادةبعد سنة ثماني عشرة، أويكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم، والله أعلم).

    * * * *


    ( خامسا )


    استسقاؤه عدة مرات



    منالسُّنة إذا قحطت البلاد وأجدبت أن يفزع الإمام ورعيته إلى صلاة الاستسقاء التيشرعها لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسار على طريقه خلفاؤه من بعده.


    فهاهو عمر رضي الله عنه استسقى لقومه عدة مرات، ولم ييأس من تكراره وإعادته إلى أنكشف الله عنهم تلك الغمة.


    · خرج عمر مرة يستسقي، فنادى في الناس فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال:"اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حولولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحيي العباد والبلاد".


    · روى ابن أبي الدنيا بسنده إلىالشعبي قال: "خرج عمر يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا:يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت! فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التييُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَغَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا" ([3])ثم قرأ: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ" (2).


    · وروى الطبراني بسنده إلى أنس: "أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقيبقوله: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا فتسقنا، وإنانتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ قال: فيُسقون".


    استسقاءعمر بالعباس رضي الله عنهما من أقوى الأدلة على عدم جواز الاستغاثة بذوات الأنبياءوالصالحين ولا بجاههم، أحياء أو أمواتاً، إذ لو كان جائزاً لما عدل عمر رضي اللهعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هووأمي، أفضل وأكرم على الله من العباس رضي الله عنه.


    وعمررضي الله عنه استسقى بدعاء العباس وليس بذاته وجاهه، لأن العباس قال في استسقائه:"اللهم ما نزل بلاء إلا بمصيبة، ولا رفع إلا بتوبة"، ثم دعا ودعا معهعمر ومن كان خرج معهما.


    وهذاقسم من أقسام التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء الحي الحاضر، هذا بجانب التوسلبأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وبالأعمال الصالحة، وما سواها شرك أكبر .

    * * * *


    ( سادسا )


    الدعاء، والتضرع،والابتهال



    ومنأهم تلك المواقف، وأهم تلك التدبيرات، تضرعه إلى الله عز وجل، وابتهاله له،واستغاثته به وحده، لعلمه ويقينه أنه هو مسبب الأسباب، وكاشف الكرب، وميسر ومذللالصعاب، ليرفع هذا البلاء، ويزيل تلك الضراء، ويغيث العباد والبلاد.


    البلاءوالمصائب التي تحل بالعباد والبلاد قد تكون بسبب ما اقترفته الأيدي يقول تعالي :"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيالنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"([4]) ، "وَمَا أَصَابَكُم مِّنمُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (2) والغرضتطهيرهم وتكفير سيئاتكم . وقد يكون نزولالبلاء لرفع الدرجات، ولنيل المقامات في دار الكرامات، كحال عمرهذه.


    والجميعليس لها من دون الله كاشف ولا مزيل ولا رافع . والعاقل لا يبرئ نفسه، ويمنيها، ويزكيها، بل يتهمها ويلومها: "وَمَاأُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَرَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ"([5]) ، وهكذا كان حال عمر رضي الله عنه.


    · أخرج ابن سعد في طبقاته من خبر سليمان بن يسار قال: "خطب عمر بن الخطاب الناسفي زمن الرمادة، فقال: أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس منأمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السخطى عليَّ دونكم، أوعليكم دوني،أوقد عمتني وعمتكم، فهلموا فندع الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عناالمحل.


    قال:فرئي عمر يومئذ رافعاً يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس ملياً، ثمنزل".


    · وأخرج أيضاً ابن سعد من خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بنالخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثميخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب،فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمدعلى يدي".


    - وقد أوقف عمر الزكاة فيهذا العام ( عام الرمادة ) فلم يرسل الجباه والعاملين علي الزكاة إلي القبائلولكنه في العام التالي لتلك المحنه أمر السعاه أن يأخذوا الصدقة مضاعفة وطلب منالولاة أن يقسموا نصفها بين فقراء القبائل ويرسلون إليه بنصفه الأخر كما يروي أنهلم يقم حد السرقة في هذا العام .


    ومما سبق يمكننا أن نخرجبالفوائد والعظات التالية من عام الرمادة :


    - كان عمر رحمه الله إبانهذه المحنه كثيرا ما يدعو الناس إلي أن يستغفروا ربهم فيقول لهم ( استغفروا ربكمثم توبوا إليه ) لان الأستغفار يمحوا الذنوب وكثرة الذنوب تضيع الأرزاق . وكانينبههم ويحثهم دائما إلي الدعاء والتضرع إلي الله وإنكسار النفس إليه فهذا سبيلالمستضعفين والسبيل لتفريج الكروب .


    - كان عمر يأخذ نفسه دائمابالشدة ويري أن ما يصيب المسلمين إبان خلافته هي محنه قاسيه له فيقول أن ما أصابهمفي هذا العام هو آية سخط الله ! وما يدري أكان هذا السخط علي المسلمين من دونه أمكان عليه هو من دون المسلمين ، أم كان سخط قد عمهم جميعا ! . وهذا يدعوا كلا منالخليفة والمؤمنين أن يبحثوا عن المخارج الصحيحة للنفاذ من الكروب .


    - كما ينبغي ان يتعلمالمسلمون ان الحياة ليست نعيم متواصل وليست شقاء دائما وإنما هي مزيج من اللذةوالألم والحب والكره فإذا أعتقد المسلم ذلك صبر علي قضاء الله حلوه ومره .


    - إن لله في خلقه سنن كونيةوعام الرمادة من تلك السنن الكونية التي ينبغي أن يتعلم المسلم كيف واجه تلك السنن وهذا ما يعرف بفقه النوازل وإدارة الأزماتوقد شاهدنا عمر رحمه الله قد وقف أمام تلك المعضلة وكيف وضع لها الحدود السليمةوالتي ترضي الله فنفذ من المشكلة دون أن تترك أثار سيئة ، فالتخطيط السليموالتدبير الحكيم من أنجح الطرق في الخروج من الأزمات .


    - ولعل هذه المشكلة تذكرنابما نواجهه اليوم من أزمة اقتصادية عنيفة ينبغي علينا الوقوف إزاءها كما وقف عمروإيجاد الحلول العادلة التي يتساوي في حقوقها وواجباتها الفقراء والأغنياء الضعفاءوالأقوياء فلا يزداد الأغنياء غني ويزداد الفقراء فقرا فالمسرع لمواجهة تلك الأزمةالتي أطلت علينا بقرونها .


    - وقد رأينا عمر استعان فيمواجهة تلك الأزمة بالجهود الذاتية أولا ، ثم موارد بيت المال ثانيا ، ثم لجئ إليطلب الغوث من البلاد المسلمة ، ولا يجوز للحاكم المسلم أن يلجئ إلي الجمعياتوالمنظمات اليهودية أو الكنسية والتي تتستر اليوم تحت عناوين البنك الدولي ، منظمةالتجارة الدولية إلي غير ذلك من بنوك لقرض الأموال ، فإن تلك المنظمات غنما هيخاضعة للمنظمات الصهيونية والتي تسعي دائما لربط الشعوب الفقيرة بعجلتها فتتحكم فيإصدار القرار السياسي وفي دفة الحكم في تلك البلاد .


    - لقد أحسن عمر تصرفا حينماأمر بعودة أهل البادية إلي أماكنهم بعدما دفعهم الجفاف للهجرة إلي المدن فإن تلكالهجرة العشوائية ينبغي الاهتمام بها والقضاء عليها فعندما انفرجت الأزمة أمر عمرأهل البادية أن يرجعوا إلي باديتهم ولميكتفي بذلك بل كلف من يشرف علي رجوعهم وهذا الأمر ينبغي مراعاته اليوم فغن أهلالبوادي والأرياف قد تركوا أماكنهم وهاجروا إلي المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندريةوغيرها حتى اكتظت بهم تلك المدن فينبغي إقامة بعض المشروعات الكبرى فيالبوادي وفي بعض الأرياف ونقل بعضالوزارات والمؤسسات في الدولة إلي الصحراء المحيطة بالقاهرة لتخفيف الضغط علي تلكالمدينة .


    - وأخيرا ينبغي أن يلاقيالشعب حنانا وحدبا من الحكام المسئولين عند وقوع المآسي والكوارث وأن يكونوا جادينفي عملهم وفي إنقاذهم فيجد كل منكوب حقه ويجد كل من وقع عليه كرب إنصافا فهذايذكرنا بزلزال مساكن جبل المقطم ويذكرنا أيضا بحيارى وضحايا العبارة السلام وغيرذلك من قضايا وكوارث شقية فيها الشعوب أي شقاء .


    أعتمادنا في الحديث عن عامالرمادة علي المراجع التالية :


    1- الطبري ( تاريخ الأمموالملوك ) ج4 من 96 - 101


    2- ابن كثير ( البدايةوالنهاية ) ج7 من 92 – 94


    3- ابن الأثير ( الكامل ) ج2من 555 – 558 .

    * * * *


    ( 2)


    مواجهة عمر لطاعون عمواس ª



    كان في العام الثماني عشر من الهجرة وقد توفي فيه عددكبير من الناس ومات فيه من الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبيسفيان ، والحارس بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعتبة بن سهيل ومجموعات أخرى من أشرافالناس .


    والوباء من طبيعته انه خطير ينتقل بالعدوى من المريض إليالسليم وقد يموت فيه كرى بأكملها فإن كان الإنسان في تلك البلدة التي فيها طاعونفلا يخرج منها ولا يدخل إليها .


    وقد عرف عمر بذلك الطاعون وخشي أن يموت فيه أبو عبيدةالجراح قائد الجيوش العربية في الشام إذ سمع عمر بشكواه وتوجعه فكتب إليه يستخرجهمن الشام : ( أن سلام عليك ، أما بعد ، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهكفيها ، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي . قال : فعرف أبو عبيدة أنهإنما أراد أن يستخرجه من الوباء ، قال : يغفر الله لأمير المؤمنين ! ثم كتب إليه :يا أمير المؤمنين ، إني قد عرفت حاجتك إلي ، وإني قد جند من المسلمين لا أجد بنفسيرغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أسره وقضاءه ؛ فحللني ( ابنالاثير وابن كثير : (( فخلني )) من عزمتك يا أمير المؤمنين ، ودعني في جندي . فلماقرأ عمر الكتاب بكي ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عبيدة ؟ قال : لا، وكأن قد . قال : ثم كتب إليه : سلام عليك ، أما بعد ، فإنك أنزلت الناس أرضاغمقه ، ( وهو فساد الريح وخمومها ) ، فارفعهم إلي أرض مرتفعة نزهة . فلما أتاهكتابه دعاني فقال : يا أبا موسي ، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى ، فاخرجفارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم ، فرجعت إلي منزلي لأرتحل ، فوجدت صاحبتي قدأصيبت ، فرجعت إليه ، فقلت له : والله لقد كان في أهلي حدث ، فقال : لعل صاحبتكأصيبت ! قلت : نعم ، قال : فأمر ببعيره فرحل له ، فلما وضع رجله في غرزه طعن ،فقال : والله لقد أصبت . ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ، ورفع عن الناس الوباء . ([6])


    فلما اشتدالوجع بأبي عبيدة قام في الناس خطيبا فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة بكمودعوة نبيكم محمد صلي الله عليه وسلم ، وموت الصالحين قلبكم ، وإن أبا عبيدة يسألالله أن يقسم له منه حظه . فطعن فمات ، واستخلف علي الناس معاذ بن جبل . قال :فقام خطيبا بعده ، فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمه ربكم ، ودعوة نبيكم وموتالصالحين قبلكم ، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم ، فطعن ابنه عبدالرحمن بن معاذ ، فمات . قم قام فدءا به لنفسه ، فطعن في راحته ؛ فلقد رأيته ينظرإليها ثم يقبل ظهر كفه ، ثم يقول : ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا ، فلمامات استخلف علي الناس عمرو بن العاص ، فقام خطيبا في الناس فقال : أيها الناس ، إنهذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار ، فتجبلوا ( أي دخلوا في الجبل ) ومنهفي الجبال . فقال أبو وائلة الهذلي : كذبت ؛ والله لقد صبحت رسول الله صلي اللهعليه وسلم وأنت شر من حماري هذا ! قال : والله ما أرد عليك ما تقول وايم الله لا نقيم عليه . ثم خرج وخرج الناسفتفرقوا ، ورفعه الله عنهم . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص ،فوالله ما كرهه . (2)


    وقالوا عنالطاعون : موتانا لم ير مثله ، طمع له العدو في المسلمين ، وتخوفت له قلوبالمسلمين كثر موته ، وطال مكثه ، مكث أشهرا حتي تكلم في ذلك الناس .


    وخرج عمر وخلفعليا علي المدينة ، وخرج معه بالصحابة وأغذوا السير واتخذ أيله طريقا ؛ حتى إذا دنمنها تنحي عن الطريق ، واتبعه غلامه ، فنزل فبال ، ثم عاد فركب بعير غلامه ، وعليرحله فرو مقلوب ، وأعطي غلامه مركبة ، فلما تلقاه اوائل الناس ، قالوا : أين أميرالمؤمنين ؟ قال : أمامكم – يعني نفسه – وذهبوا إلي أمامهم ، فجازوه حتي انتهي هوإلي أيله فنزلها وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين أيله ونزلها فرجعوا إليه. (3)


    وكان عمر قد عزم علي الخروج إلي بلاد الشام ، ولكن أمراءالأجناد ، قد استقبلوه علي الحدود ، وأخروه بأن الأرض سقيمه وأن الوباء منتشر يعصفبأرواح الناس ، وطلبوا منه العودة إلي المدينة .


    ووقف عمر من الامر كعادته في مثل تلك الحالة ، فاستشارالناس ، فقال فريق : خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده ، ولا نري أن يصدك عنه بلاءعرض لك .


    وقال الآخرون : إنه لبلاء وفناء ، ما نري أن تقدم عليه .


    لم يستبن الأمر للخليفة ، وتلجلج في صدره منه شيء ولميدر بأي الرأيين يأخذ ؟ فدعا شيوخ قريش من مهاجرة الفتح ، واستشارهم في الأمر ،فأجمعا علي أن يرجع بالناس وأخبروه بأنه بلاء وفناء .


    عندئذ قرر عمر العودة إلي المدينة ، فنادي عبد الله بنعباس وقال له يا ابن عباس ، اصرخ في الناس فقل : إن أمير المؤمنين يقول لكم إنيمصبح علي ظهر فأصبحوا عليه .


    واصبح الناس جميعهم متهيئين للعودة إلي المدينة ، ووقفبينهم عمر وقال : أيها الناس إني راجع فارجعوا .


    وكان أبو عبيدة ممن لا يرون رجوع عمر ، ويرون عودتهفرارا من قدر الله ، ولم يخف ذلك علي عمر ولكن صارحه به فقال : أفرارا من قدر اللهوأجاب عمر ، نعم فرارا من قدر الله إلي قدر الله .([7])


    ويقول الدكتور محمد السيد الوكيل بهذا الحوار الهادئ بينالرجلين يتضح للمسلمين أمر عظيم من أمور العقيدة التي يجب أن يستقر مفهومها فيصدور المسلمين ، إن أبا عبيدة يري ان العودة محاولة للفرار والهروب من قدر قدرهالله ، وهذه ثلمة في إيمان الرجل ينبغي أن يتنزه عنها ، وبخاصة إذا كان أميرالمؤمنين الذي هو قدوة الناس ، وعنه يأخذون أمور دينهم ، وهذا فهم اعتقده أبوعبيدة باجتهاده الخاص ، وإن تابعه بعض الصحابة عليه ، فليس له أن ليزم الناس جميعابه .


    وأما عمر فقد نظر للموضوع من جانب آخر ، إنه يري ألاضرورة تجبر علي الدخول في أرض موبوءة ، وحتي إذا وجدت الضرورة فمن حق المسلم أنيختار أخف الضررين ، وهي قاعدة معمول بها بين المسلمين ، وكان عمر يري أن الدخولفي الأرض الموبوءة مهلكة يجلبها الإنسان لنفسه ، والمسلم منهي عن ذلك بقوله –تعالي : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ([8]) . ألم تر إليعمرو ابن العاص في غزوة ذات السلاسل لما أصبح جنبا ولم يجد سوي الماء البارد وخافإن استعمله الضرر علي نفسه تيمم ، وصلي الصبح بأصحابه ، فلما كلموه في ذلك استدلبالآية الكريمة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وعلم الرسول e بذلك فأقره علي استدلاله .


    وعمر بذلك ينظر في أفق أرحب من أفق أبي عبيدة ، إنه يريقدر الله في الأرض الموبوءة والأرض الصحيحة علي حد سواء ، ويري أن السلامة أفضل منالأستسلام ويري فوق ذلك أنه لا يستطيع إنسان الفرار من قدر الله وإنما هو يتقلب فيقدر الله فدخوله الأرض السقيمة قدرالله ،ودخوله الأرض الصحيحة قدر الله ، فلماذا إذن يحبس نفسه علي الوباء ويدعي أنهقدر الله .


    لهذا قال عمر : نعم فرارا من قدر الله إلي قدر الله (2).


    ثم ضرب له مثلا آخر ليزيده أقناعا فقال له : أرأيت لو انرجلا هبط واديا له عدوتان : إحداهما خصبة والأخري جدبة ، أليس يرعي من رعي الجدبةبقدر الله ، ويرعي من رعي الخصبة بقدر الله ؟


    والتفت عمر إلي أبي عبيدة وقال : لو غيرك يقول ( عند ابنكثير يقولها ) هذا يا أبا عبيدة ؟ ثم خلى به بناحية دون الناس فينما هم علي ذلك إذأتي عبد الرحمن بن عوف وكان متخلفا عن الناس لم يشهدهم بالأمس فقال : ما شأن الناس؟ فأخبر الخبر وقال عندي من هذا علم ، وقال عمر : فأنت عندنا الأمين المصدق فماذاعندك ؟ قال سمعت رسول الله e يقول : ( إذا سمعتم الوباء بلدا فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتمبه فلا تخرجوا فرارا منه ) ولا يخرجنكم إلا ذلك فقال عمر فالله الحمد فانصرفواأيها الناس فنصرف بهم (3).


    وقفل أمير المؤمنين ومن معه عائدا إلي المدينة مسلماأمره إلي الله تعالي راضيا بقضائه وقدره حلوه ومره ولا شك أن نظرة عمر في قضاءالله وقدره كانت نظرة إيجابية ينبغي للمسلم أن يتحلي بها عند وقوع المصائب فهويعمل عقله ثم يرتضي ما مر به الشرع ولا يستسلم إلي المكروه بحجة قضاء الله وقدرهطالما في يده الإنقاذ .


    ومرة أخرى نري أثر التربية الإسلامية التي تحلي بها جيلالصحابه - رضوان الله عليهم - فقد واجهواالوباء المحتم بشجاعة وإباء وانظر معي إلي هؤلاء الصحابة وهم يواجهون ذلك الوباءبعدما تمكن منه فلما طعن أبي عبيدة وهو بالأردن وبها قبره دعى المسلمين فلما دخلواعليه قال : إني أوصيكم بوصية إن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم ، وبعد ماتهلكون . أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا ، وتصدقوا ، وحجوا ، واعتمروا ،وتواصلوا ، وتحابوا ، واصدقوا أمراءكم ، ولا تغشوهم ، ولا تلهكم الدنيا ، فإن إمراءالو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلي ان يصير إلي مصرعي هذا الذي ترونه وإنالله قد كتب الموت علي بني آدم فهم ميتون وأكرمهم منهم أطوعهم لربه وأعلمهم بيومميعاده . ثم طلب من معاذ ان يصلي بالناس .([9])


    كتاب معاذ بن جبل إلي عمر بن الخطاب بوفاة أبي عبيدة ، رضي الله عنهم


    حدثنا الحسين بن زياد عن أبي إسماعيل قال : وحدثني محمدبن يوسف عن ثابت البناني ، أن أبا عبيدة لما هلك كان معاذ كتب إلي عمر ، رضي اللهعنه فنعي لعمر أبا عبيدة ، وكتب :


    (( لعبد اللهعمر أمير المؤمنين من معاذ بن جبل ، سلام عليك ، فإني احمد إليك الله الذي لا إلهإلا هو ، أما بعد فاحتسب امرءا كان لله أمينا ، وكان الله في عينه عظيما ، وكانعلينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا ، أبا عبيدة بن الجراح ، غفر الله له ما تقدممن ذنبه وما تأخر ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعند الله نحتسبه ، وبالله نثق له، وكتب إليك وقد فشا الموت ، وهذا الوباء في الناس ، ولن يخطئ أحدا أجله من الموت، ومن لم يمت فسيموت ، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا ، وإن أبقانا أوأهلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين ، وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانهوجنته ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .


    قال : فوالله ما هو إلا ان أتي عمر بن الخطاب رضي اللهعنه الكتاب فقرأه فبكي بكاء شديدا ، ونعي أبا عبيدة إلي جلسائه .


    قال : فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا علي رجل منهم جزعهمعلي أبي عبيدة بن الجراح ؛ فوالله ما مضي لذلك إلا أيام حتي جاءه كتاب عمرو بنالعاص ينعي فيه معاذ بن جبل ، رحمة الله عليه .


    فكتب : (( لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص ، سلام عليك ، فإني أحمدإليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن معاذ بن جبل رحمه الله ، وقد فشاالموت في المسلمين ، وقد استأذنوني في التنحي عنه إلي البر( الصحراء ) وقد علمت أنإقامة المقيم لا يقربه من أجله ، وأن هرب الهارب منه لا يباعده من أجله ، ولا يدفعبه قدره ، والسلام عليك ورحمة الله )) .


    قال ، فلما أتىعمر ، رضي الله عنه ، وفاة معاذ بن جبل إثر أبي عبيدة جزع عليه جزعا شديدا ، وبكيعمر رحمة الله عليه والمسلمون ، وحرنوا حزنا شديدا ، وقال عمر ، رضي الله عنه ،رحم الله معاذا ، والله لقد رفع الله بهلاك معاذ من هذه الأمة علما جما ، ولربمشورة له صالحة قد قبلناها منه ، ورأيناها أدت إلي خير وبركة ، ورب علم قد أفادناه، وخير قد دلنا عليه ، جزاء الله جزاء الصالحين .
    * * * *

    1- الإنشراح الآية 5 .
    2- آل عمران الآية 138 .

    [2]أعتمادنا في الحديث عن عامالرمادة علي المراجع التالية :
    1- الطبري ( تاريخ الأمم والملوك ) ج4 من 96 - 101
    2- ابن كثير ( البداية والنهاية ) ج7 من 92 – 94
    3- ابن الأثير ( الكامل ) ج2 من 555 – 558 .


    1-{سورة نوح الآية 11 }. 2- { سورة نوح الآية 12)

    1- سورة الروم آية 41 .
    2- سورة الشورى 30 .

    1- سورة يوسف 53 .


    ª( عمواس كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس ، عليأربعة أميال من الرملة علي طريق القدس ، والطاعون بثور أو أورام تظهر في الجسم معالتهاب شديد ومؤذ جدا وهو مرض شديد العدوى وفتاك ) .

    1- الطبري ج4 ص61 .
    2- المصدر السابقج4 ص62 .
    3- الطبري ج4 ص64

    1- جولة في عصرالخلفاء للدكتور محمد السيد الوكيل ص 276 .


    1- النساء الآية29 .
    2- الطبري ج4 ص57 .
    3- تاريخ الطبريج4 ص58 .

    1- تاريخ فتوح الشام للأزدي تحقيق عبد المنعم عبد الله عامر ص267 .



  18. #18
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثامنة )


    اهتمام عمر بأمور الدين

    (أولا)


    تغير الأحوال وضرورة الاجتهاد في الدين



    أتسمت فترة الخلافة التيقضاها الصديق رحمه الله بالحروب وعدم الاستقرار النسبي للقبائل فكان أظهر ما فيهاهي حروب الردة التي واجهها الصديق بكل صلابة وجند لها أحد عشر جيشا علي الرغم منقصر فترة تلك الخلافة التي لم تتجاوز السنتين إلا قليلا وكان أغلب تعامله معالأعراب وتلك ظاهرة معروفة إذ لم يتمكن الإسلام من قلوبهم بعد رغم دخولهم فيالإسلام وقد كانت تلك الأعراب تعيش علي أطراف البادية فقد قال الله تعالي : ( قالتالأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإنتطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ) ([1]) . فقد أختار الله نبيه إليجواره ومازال الأعراب مسلمين لم يتمكن الإيمان أو يستقر في قلوبهم استقرار قويابعد أذ ظهر الدين الإسلامي الجديد ودانت العرب به في الجزيرة كلها وقد كان ذلكالسلطان الجديد يدعوا إلي التوحيد وفيهم من السلطان القوة والبأس ما أدي إلي إذعانبعض القبائل لهذا الدين الجديد طائعين أو كارهين وقد أكد هذا المعني مساومةالأعراب المرتدين الصديق في أمر الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام ولو بقي الرسول e فيهم أعواما كثيرة لأذعنت قلوب هؤلاء الأعراب لهذا الدين كماأذعنت له ألسنتهم وقد فارق الرسول e هؤلاء الناس بعدما أرشدهمإلي الهدي وبين أركان دينهم دون أن يقصر في شيء ففارق الدنيا راضيا بما أداه من تكاليفراجيا رضا ربه وأن يتقبل منه وأن يأتيه الوسيلة التي وعده إياها.


    وتولي الأمر من بعده رجل يعرفونه ولا يوحي إليهمن السماء وقد أتيح له ما أتيح من الظهور علي كل من خالفه واعتبروه ملكا وليس نبيافأخذوا يساومونه علي الزكاة ومن هنا تكشفت دخائل أنفسهم وظهر أحقادهم القديمةوتألبت القائل علي أبي بكر شاردة متمردة . وقد نهض هذا الرجل العظيم فأطفئ تلكالفتنة ورد العرب إلي الإسلام كما كانوا ولم يكتف بذلك بل أراد ان يؤمن حدودالجزيرة فتطلع إلي تحرير العرب المقيمين خارج الجزيرة من سلطان الفرس والروم وقدتحقق له ذلك حيث حرر عرب العراق من سلطان الفرس .


    وإن كان العراق العربي قدتحرر إلا انه أرتد إلي الفرس أما ميدانالشام الذي بدأ الحرب فيه أيام الصديق فإنه بدأ يؤتي ثماره ودارت بعض المعارك كانأهمها معركة اليرموك التي توفي عندها الصديق ومن ثم بدأت مدن الشام تتهاوي في أيدي المسلمينحتى تم الاستيلاء علي مدن الشام العربي منأيدي الروم وتوفي الصديق رحمه الله بعدأن أنجز هذا الإنجاز العظيم .


    جاء الفاروق عمر ليتوليالخلافة ويسوس الأمة فكانت فترة خلافته ذاتمنهج يخالف منهج الصديق رحمه الله . إذنظر إلي المسلمين ووجد أصحاب العقيدة الإسلامية الصحيحة لا يتعدي مسلمي مكةوالمدينة والطائف أما باقي القبائل فكان إيمانهم مذبذبا ضعيفا يحتاجون إلي من يعمقذلك الإيمان ويقودهم من هدي إلي هدي ومن فلاح إلي فلاح ويرسخ عقائد الدين فيأنفسهم ويثبت مرامي الشريعة ومقاصدها في حياتهم ومن هنا جاء دور عمر الذي أهتمبأمور الدين اهتماما بالغا .


    ومن ثم لم يكن عمر في أثناءخلافته معنيا بشئون الناس يدبر لهم أمر دنياهم فحسب ، ولكنه كان معنيا بهم يعلمهمشئون دينهم في المدينة ، يخرج بين وقت وآخر من بيته فيجلس علي المنبر ، ويتسامعالناس بمجلسه ذاك في المدينة ، فيسرعون إلي المسجد متشوقين لذلك ، فيعلمهم عمر منشئون دينهم ما شاء الله أن يعلمهم .


    وكان رجلا يحب أن يكون عملياكما يقال ، فلم يكن يعلمهم الدين خالصا نظريا ، وإنما كان يعلمهم الدين ويبين لهمكيف يلائمون بينه وبين حياتهم اليومية . وكيف يطابقون بينه وبين ما يأتون من الأمروما يدعون ، يفسر لهم آيات من القرآن الكريم تتصل بحياتهم العامة ، ويعظهم فياثناء ذلك ، ويبين لهم كيف يؤدبون نفوسهم بأدب الدين فيؤثرون في القول والعمل مايرضي الله ، يهتدون في ذلك بهدي القرآن وبهدي النبي صلي الله عليه وسلم .([2])


    وكان يرسل الأمراء إليالأمصار علي أن يقيموا للناس صلاتهم ويعلموهم شرائع دينهم ، ويمضوا فيهم بالعدل ،ويسيروا فيهم سيرة صالحة ملائمة للدين أشد الملاءمة وأدقها . وربما أرسل معالأمراء رجالا من أصحاب النبي يقرئون الناس القرآن ويعظونهم ويعلمونهم الدين .


    ولم يكتف عمر بذلك وإنما كانيرعي شئون الدين كلها في دقة كما كان يرعي شئون الدنيا ، ورعايته هذه لشئون الدينقد حملته علي أن يبتكر أشياء لم يكن للمسلمين بها عهد أيام النبي ولا أيام أبي بكر. فهو الذي أخذ الناس بقيام رمضان بعد أن تصلي العشاء . فسن لهم صلاة التراويح ،لم يقصر هذا علي الرجال وحدهم وإنما سنه للنساء أيضا . وجعل للرجال قارئا يصلي بهمصلاة التراويح هذه ، وجعل للنساء قارئا يصلي بهن هذه الصلاة . وكتب بذلك إليالآفاق لتكون هذه الصلاة عامة بين المسلمين .


    وأشتد في عقاب الذين يشربونالخمر ،ففرض لشرب الخمر حدا لم يكن معروفا قبله فالله حرم الخمر في القرآن الكريم، ولكنه لم يفرض علي شاربها عقابا في الدنيا ، وإنما ترك ذلك لما أدخر للمخالفينعن أمره ونهيه من العقاب يوم القيامة .


    ولم يحاول أبو بكر رحمه اللهأن يزيد علي ما كان النبي e يفعله ، ولكن عمر رأي أنالمسلمين ينساحون في الأرض ويمضون في الفتوح ، وأشفق أن يغريهم بعدهم عن مركزالخلافة بالتهاون في رعاية ما أمر الله به واجتناب ما نهي عنه .([3])


    ورأي المال يكثر في المدينةوالرزق يتسع للناس فأشفق أن يستجيب الناس لغرائزهم وطبائعهم ، وأن يعود بعضهم إليما كانوا فيه قبل الإسلام من شرب الخمر والإدمان عليها ، فاشتد في ذلك إلي أقصيغايات الشدة ، وشاور المسلمين فيما يجب أن يفرض علي شارب الخمر من عقاب .


    فيقول الرواة : إن عليا أشارعليه بان يأخذ شارب الخمر بعقوبة القاذف فيضربه ثمانين جلدة . لأنه إذا شرب سكر ،وإذا سكر كان حريا أن يفتري . فأخذ عمر بهذا الرأي وأنفذه في المدينة ، وكتب إليولاته بإنفاذ هذا الرأي في الأمصار .


    ويتحدث الرواة بان نفرا منالمسلمين الذين شاركوا في فتح الشام ، ودخلوا دمشق فيمن دخلها من الجند مع أبيعبيدة ، قد فتنتهم الحياة في دمشق فشربوا الخمر ، فكتب فيهم أبو عبيدة إلي عمر ،فكان جواب عمر أن كلف أبا عبيدة سؤال هؤلاء النفر أمام جماعة المسلمين في المسجد :أيرون الخمر حلالا أم حراما ! فإن رأوها حلالا فليضرب أعناقهم ، لأنهم استحلوا ماحرم الله ، وإن رأوها حراما أقام عليهم الحد فضرب كل واحد منهم ثمانين جلدة .(2)


    ولم يكن الحد يقام علي الناسسرا أو يستخفي به ، وإنما كان يقام بمشهد من المسلمين .


    فلما سأل أبو عبيدة هؤلاءالنفر عن الخمر : أيرونها حلالا أم حراما ؟ قالوا نراها حراما : فأقام عليهم الحدبمشهد من المسلمين كان في هؤلاء النفر رجل من اشراف قريش ومن الذين أسلموا قبلالفتح وفتنوا في دينهم ، وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو . فلما أقيم عليه الحدأنكسرت نفسه واستخزي فجلس في داره واحتجب عن الناس فكتب أبو عبيدة في شأنه إلي عمر، وطلب إليه أن يكتب إلي أبي جندل معزيا له عما أصابه وفاتحا له بابا إلي الأمل .


    قال الرواة : فكتب إليه عمريعزيه ويعظه وينهاه عن القنوط من رحمة الله ، ويذكر قول الله عز وجل : } قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنالله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم {.([4]) فلما قرأ ابو جندل هذا الكتاب سري عنه وخرج للناس وشهدجماعة المسلمين .


    وقصة عمر مع ابنه عبد الرحمنالأوسط أبي شحمة معروفة رائعة حقا ، تصدق ما كان عمر يوصف به من أنه لم يكن يخاففي الله لومة لأئم . فالرواة يتحدثون أن ابن هذا كان بمصر ، وأنه شرب الخمر معصاحب له ، ثم ندما ، فأقبلا إلي عمرو بن العاص يطلبان إليه أن يطهرهما بإقامة الحدعليهما . وكره عمرو أن يقيم الحد علي ابن أمير المؤمنين بمشهد من الناس فضربه فيصحن داره . وبلغ ذلك عمر . ولم تكن أنباء الأمراء تخفي علي عمر . فكتب إلي عمرويعنفه أشد التعنيف ، ويأمره أن يرسل إليه ابنه علي قتب ؛ ليكون السفر أشق عليه .فأطاع عمرو ، وكتب إلي الخليفة يعتذر إليه ، ويؤكد له أنه أقام الحد علي ابنه حيثيقيم الحدود في صحن داره . ولكن عمر لم يقبل منه ، ولم يعتد بالحد الذي أقامه ، وطلبمنه أن يرسله إلي المدينة وجيء به إليهمريضا مكدودا ، لم يحفل بمرضه ولا بما لقي في سفره من العناء ، وإنما أقام الحدعليه فورا بمحضر من جماعة المسلمين . وقد استغاثه الفتي فلم يلتفت إليه . وقال لهالفتي : إنك قاتلي . فلم يعبأ بما قال ، وإنما مضي في ضرب الفتي ضربا مبرحا .


    فيقول الرواة : إنه حين رأيابنه مشرفا علي الموت لم يزد علي أن قال له : إذا لقيت رسول الله e فأنبئه أن أباك يقيمالحدود . (2) ومات ابنه فلم يظهر حزناعليه .(3)


    ولم يكن عمر يكتف بإقامةالحدود علي الذين يشربون الخمر ، وإنما كان يتتبع الذين يبيعونها فيعاقبهم أشدالعقاب ، فيقال إنه أحرق بيت رجل من ثقيف – يقال له رشيد – ونفي الرجل إلي خيبرفهرب إلي بلاد الروم وتنصر هناك . وكذلك كان عمر شديدا في دين الله منذ وليالخلافة إلي أن توفي رحمه الله .([5])

    * * * *



    ومما لا شك فيه أن حياةالمسلمين في عصر عمر قد يشوبها بعض الاختلاف عما ما كانت عليه في خلافة أبي بكررحمه الله إذ جدت أمور كثيرة ومشاكل عديدة وأحداث لم يكن لها عهد في عهد الرسول أوفي عهد أبي بكر ولا عجب في ذلك فإن الفتوحات قد اتسعت في عهد عمر ودخل الناس فيدين الله أفواجا سواء في ميدان الفرس أو ميدان الروم وعاش العرب بين كثير منالأجانب الذين جاءوا بثقافتهم وحضارتهم المختلفة وبقوانينهم الوضعية وما ألفوه فيعهد الأكاسرة والقياصرة فكان علي عمر رحمه الله أن يواجه هذه المشكلة وأن يجد لهاحلا يتناسب وروح الإسلام فماذا كان يفعل ؟ كان يتحري أولا النصوص القطعية في القرآن الكريموالسنة النبوية فإذا لم يجد فيهما سنداً أجتهد برأيه وبمشورة أصحابه أهل العقدوالحل ومن هنا اتسمت فترة حكم عمر بالابتكار والتجديد والاجتهاد المستمر في الدين حتى يوائم بينالمسلمين وحياتهم الجديدة وليس معني ذلك أنه لم يكن مقلدا ومتبعا للرسول صلي اللهعليه وسلم .


    وليس علي عمر – رحمه الله –بأس مما ابتكر من صلاة التراويح في رمضان ، ومن إقامة الحد علي شرب الخمر ، بل لهفي ذلك الفضل كل الفضل ، وما أشك في ان الله قد رضي عن ذلك وادخر من أجله لعمرمثوبة عظيمة ، إلي ما كان قد أعد له من المثوبة علي حسن بلائه في الإسلام ، وحسنصحبته للنبي e ، وصدق نصحه لأبي بكر رحمهالله ، ولعنايته بأمور المسلمين وحدبه عليهم ورفقه بهم ، وحسن الرعاية لفقرائهموأغنيائهم علي السواء ، وما فتح للمسلمين من أبواب لنشر الإسلام في آفاق واسعة لميكن قد بلغها أيام النبي e وأيام أبي بكر .


    وليس علي عمر بأس من أنيجتهد ويبتكر وإنما يكره الله من الأئمة أن يبتدعوا في سياسة الناس ما لا يلائمأصول الإسلام ، وأن يهملوا من أمور الدين قليلا أو كثيرا ؛ وأن ينظروا إلي أنفسهمأكثر مما ينظرون إلي رعيتهم من المسلمين والمعاهدين .


    فكيف بعمر قد وفر للمسلمينالرخاء ، وبلغ أقصي الرفق بالذميين ، وكان شديد الحرص علي أن يحيا أولئك وهؤلاءحياة رضية فيها سعة ويسر دون أن يكون فيها سرف أو مخالفة عما أمر الله .(2)


    والله عز وجل قد أمر نبيه e بقيام الليل ، فقال في سورة المزمل : } يا أيها المزمل قم الليل إلاقليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا {. ([6]) فعمر لم يسن للمسلمين حين سن لهمصلاة التراويح في رمضان إلا قليلا مما طلب الله إلي رسوله . فهو إذن ملائم للقرآنأشد الملاءمة وأقواها .


    ويقول المحدثون : إن النبي e قام ليلة في المسجد ، ليصلي وتلك التي عرفت بصلاة القيام أو التراويح، وتسامع الناس بذلك ، فجعلوا يسرعون إلي المسجد ليشهدوا مع النبي صلاته تلك .فلما كان من غد قام النبي في المسجد قيامه البارحة فكثر الناس ، ثم ما زالوايكثرون بعد ذلك حتى اكتظ بهم المسجد . فلما رأي النبي e منهم ذلك لم يخرج للناس في الليل بعد صلاة العشاء واكتفي بالقيامفي بيته فلما سأله الناس عن ذلك قال :(( خشيت أن تفرض عليكم وألا تطيقوا ذلك )) .(2)


    فعمر إذن لم يزد علي أن عادإلي شيء ضئيل من سنة النبي e في رمضان . والله عز وجل قدحرم الخمر في القرآن واشتد في تحريمها ، واستجاب الناس لله والنبي حين تلي عليهمما في القرآن من تحريم الخمر ؛ ولكنهم بعد وفاة النبي ، وبعيد العهد قليلا بهذهالوفاة ، جعل بعضهم يستجيب لغريزته وجعل الناس يتعللون بالعلل والمعاذير التيلا تستقيم ، فأي بأس علي عمر أن يقومدونهم لمنعهم من معصية الله والخلاف عن امره ما استطاع إلي ذلك سبيلا . ومن حقالإمام أن يؤدب الرعية إذا انحرفت عن الدين قليلا أو كثيرا ، وعمر مع ذلك لم يستبدبفرض هذا الحد ، وإنما استشار فيه أصحاب النبي e من المهاجرين والأنصار ، فلم ينكروا عليه ذلك ، وأشار عليه عليرحمه الله بضرب شارب الخمر ثمانين ، كما رأيت آنفا .


    وقصة أبي محجن الثقفي معروفة، حين قال شعرا يذكر فيه الخمر وحبه لها وحرصه عي أن يذوقها حيا وميتا ومن شعره :


    إذا مت فأدفني إلي جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها


    ولا تدفنـَي بالفـلاة فإننـي أخاف إذا مـا مـتألا أذوقهـا


    وكان في القادسية للجهاد فيسيبل الله حين قال هذا الشعر . فلما سمع سعد بن أبي وقاص – رحمه الله – هذا الشعروضع رجليه في القيد وحبسه في القصر ، ثم كانت وقعة شديدة من وقعات القادسية ، فطلبأبو محجن إلي سعد أن يطلقه ليشهد الوقعة ، فأبي عليه سعد وزجره ، فلما كان بعدقليل طلب إلي سلمي بنت حصفة – زوج سعد – أن تضع عنه قيده وتعيره فرسا لسعد – تسميالبلقاء – وأعطاها عهدا علي نفسه علي أن يعود بعد انتهاء الموقعة إن سلم فيضعرجليه في القيد ، فأبت سلمي وكرهت أن تخالف عن أمر زوجها . فسكت أبو محجن ساعة ثمأنشد هذه الأبيات :


    كفي حزنا أن تلتقي الخليلبالقنا وأترك مشدوداعلـي وثاقيـا


    إذا قمت عناني الحديد وأغلقت مصارع دوني قد تصم المناديا


    وقد كنت ذا مال كثيـر وإخوة فقد تركوني واحدا لاأخـا ليا


    ولله عهـد لا أخيـس بعهده لئن فرجت ألا أزورالحوانيا


    فلما سمعت هذا الشعر سلميرقت له وقبلت عهده وأطلقته ، وأعارته البلقاء ، فخرج وشهد القتال وأبلي فيه أحسنبلاء .


    قال الرواة : وكان سعد يريفرسه في الميدان فيعجب لذلك . فلما انتهت الموقعة عاد أبو محجن فرد الفرس ووضعرجليه في القيد وأنبأت سلمي بذلك سعدا فعفا عنه وأعطي أبو محجن لله عهدا ألا يذكرالخمر في شعر بعد .


    ولم أذكر هذه القصة لأقف عندبطولة أبي محجن وحسن بلائه ، فقد كان أمثاله من المسلمين كثيرين في تلك الحرب ،وإنما أذكرها لان سعدا حبس هذا الشاعر لذكره الخمر علي ذلك النحو في شعره .


    وأكبر الظن أن أبا محجن لميشرب خمرا في تلك الموقعة ، وإنما ذكر عهده في الجاهلية فأحس حنينا إلي الخمر ،فقال ما قال : وكره ذلك سعد مخافة أن يؤثر شعره هذا في غيره من المسلمين في موقفلم يكن موقف حنين إلي الخمر أو غير الخمر ، وإنما كان موقف حرب أي حرب . فلم يكنبد لعمر إذن من أن يعاقب علي شرب الخمر وعلي بيعها ، وأمير المؤمنين بعد ذلك مكلفأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويعمد إلي التعذير إذا لم يكن من التعذير بد .([7])


    ومن عناية عمر بالدين أنهأنشأ نظام القضاء وعممه في الأمصار وكان هو قاضي المدينة وكان القاضي لا سلطانعليه إلا سلطان الله ولا يخشي في الله لومه لائم وكان يعلم القضاة كيف يحكمون حيث ينظرونأولا في كتاب الله فإن وجدوا فيه حلا لمشاكلهم قضوا به غير مترددين فإن لم يجدوانظروا في سنة النبي e فإن وجدوا بها الحل قضوا بها غير مترددين أيضا فإن لم يجدوااجتهدوا لأرائهم وقضوا بما فيه مصلحة المسلمين وكان عمر كثيرا ما يستشير أصحابالنبي عسي أن يجد عند بعضهم حديثا من سنة النبي أو يشير عليه بعضهم برأي فيه الخيروالنصح للمسلمين .


    عمر يتحرج من رواية الحديث


    وعرف عن عمر أنه كان يتحرجمن رواية الحديث عن النبي e مخافة أن يزيد الناس فيه أو ينقصون منه وكان لا يقبل الحديث عنالنبي من رجل إلا إذا جاءه برجل أخر يتفق معه في راوية هذا الحديث وربما لا يقنعفيطلب رجلا ثالثا وكان يتعرض بالضربالشديد من عمر إذا لم يكن صادقا وكان يكره أن يكثر الناس من الحديث عن النبي e وانذر المكثرين منهمبالعقوبة فقد أنذر أبا هريرة لأنه كان يكثر الحديث . ([8])


    - وكان عمر أول من أخذ الدرة يؤدب بها الناس إن جاروا عن قصد قليلا أو كثيرا، لا يفرق في ذلك بين كبار الصحابة وغيرهم من الناس . وقد ضرب سعد بن أبي وقاصبالدرة حين جلس يوما يقسم بين المسلمين مالا . وأقبل سعد وجعل يزاحم الناس حتي وصلإليه ، فعلاه بالدرة وقال : إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض ، فأردت أنأعلمك أن سلطان الله لن يهابك .


    وكان يأخذ الدرة ويمشي فيالمدينة وفي سوقها خاصة ليري كيف يبيع الناس وكيف يشترون ، فإن رأي من أحد شيئايكرهه ضربة بالدرة .


    ورأي مرة رجلا يزحم الطريقفضربه بالدرة وقال : أمط عن الطريق ؛ فلما حال الحول وأقبل موسم الحج لقي عمر ذلكالرجل فقال له : أتريد الحج ؟ قال الرجل : نعم يا أمير المؤمنين . فأعطاه نفقة حجه، ثم قال له : أتدري لم أعطيتك هذا ؟ قال الرجل : لا . قال عمر : إنما ذلك بالضربةالتي ضربتك في الطريق . قال الرجل : والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها إلا حينذكرتني بها .


    وقد هم عمر أن يكتب السنةفاستخار الله في ذلك شهرا ثم عدل عن ذلك وقال : ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلواعليه ونسوا كتاب الله . وإذا دل هذا علي شيء فإنما يدل علي تحرج عمر من تدوينالحديث وإذا كان مقل في رواية الحديث ، فكيف بكتابة ما حفظ هو ، وما حفظ الناس منحديث النبي e .وكل هذا يصور احتياط عمر للدين وشدة حرصه عليألا يعرضه لشيء من الشك أو الخطأ .


    هكذا كانت خلافة عمر كلهاكما كانت حياته كلها قائمة علي الدين ويكتنفها الخوف الدائم من الله فما قضي ذلكالرجل ساعة من حياته يقظ لم يشعر فيها بالخوف من الله بل لم نعرف بعد عمر خليفة أوملكا كان يستحضر في نفسه دائما ذكر الله والخوف من عذابه .


    - وقد كان عمر زاهدا في حياته يجافي طيبات الحياة الدنيا من مأكل أو ملبس أومشرب خوفا أن يفتقد بسببها نعيم الآخرة فكان يستحضر دائما قوله تعالي :- } أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذابالهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون { ([9]) ، وبذلك فرض علي نفسه أضيق الحياة وعلي أسرته أيضا مع أنه لم يكن فقيراوكان في استطاعته ان ينعم علي نفسه ويوسع علي أسرته بما يأخذه من بيت مال المسلمينحيث قد سمح له المسلمون ذلك وإنما آثر ما عند الله علي ما في الدنيا من متاع .


    هل في الإسلام دولة دينية ؟


    وقد يظن البعض أن عمر أقامدولة دينية يحكمها رجل دين بالمعني الثيوقراطي فالإسلام لا يعرف رجل الدين وإنمايعرف رجل الإسلام فالإسلام منهج شامل بكل مناحي الحياه وليس مقصورا علي العباداتفقط كما يتوهم البعض ونري ذلك الخليفة العظيم يركز علي معني دائما يسعي إليه وهوأن يكون الدين منهج حياة يهدي الإنسان في شتي مجالاته لذا نراه يمزج السياسةبالدين ويمزج الاقتصاد بالدين ويمزج الاجتماع بالدين إلي غير ذلك ولا يعزل الدينعن الحياة كما يفعل العلمانيون اليوم .


    * ومن أمثلة هذا انه كانيحاسب ولاته ولا يولي أحدهم علي الأمصار إلا ورعي في توليته رضا الله أولا ثممصلحة المسلمين بعد ذلك وكان يختار لولاية الأمصار أولي القوة والكفاية حتى وإنأسلموا بآخرة ويترك الأكابر من أصحاب النبي e دون أن يوليهم وكان حجتهفي ذلك أنه يكره أن يدنسهم بالعمل .


    ولكن الرأي المرجح من عدمتوليتهم وما دفعه إلي منعهم من الخروج إلي الأمصار فهو كان يخاف عليهم أن يفتتنوابالدنيا أو يفتنوا الناس لما لهم من مكانة عند رسول الله ولم يستثن من منع أكابر الصحابة من الخروج إلا سعدا حين ولاه حربالفرس وأبا عبيدة حين ولاه حرب الشام بل ذهب إلي أبعد من ذلك أذ منع قريشا منالإنسياح والانتشار في الأمصار لنفس الهدف أيضا وكان بعض الصحابة الكبار قد سمعواعن الأمصار المفتوحة وما فيها من رغد العيش ومتاع الحياة فأراد أن يخرجوا منالمدينة إلي تلك البقاع فرفض عمر وقال ألا ( وإن قريشا يريدون أن يجعلوا مال اللهدولة بينهم ، أما وأبن الخطاب حي فلا . ألا وإني قائم لهم بحرة المدينة فآخذبحجزهم أن يتهافتوا في النار )([10])


    بل وصل عمر حدا انه منع كبارالصحابة من الاشتراك في الجهاد فأبي عليهم وقال لمن يستأذنه قد كان لك من الغزو معرسول الله e ما يجزئك .


    ولقد كانت مراقبة عمر لولاتهمراقبة فاقت كل وصف فاقت مراقبة البرلمانات المعاصرة في محاسبة الوزراء والحكوماتالمقصرة فكان رحمه الله شديدا مع ولاته يراقبهم بكل شدة فلا يكاد يبلغه شيء منأمرهم يثير في نفسه شك إلا وأرسل إليه من يحقق معه فكان يؤمن أن أي ظلم يقع منولاته ثم لا يجد هو في إصلاحه فيري نفسه هو الظالم والمسئول عن ذلك أمام الله فقدعزل عمار بن ياسر علي الكوفة عندما شكي أهل الكوفة منه وذلك لأنه لا علم لهبالإدارة وقد سأله عمر بنفسه فلم يحسن جوابه بادر بعزله .


    كما كان عمر شديد الحرص عليصيانة مال المسلمين يصونه فلا يقربه هو نفسه ولا يأخذ منه إلا قوته وقوت أهلهوكسوته حلة في الشتاء وأخرى في الصيف ويراقب عماله في إنفاق المال وقد عرفنا سابقاأنه كان لا يولي عاملا إلا وكتب وماله قبل أن يذهب فإذا عزله حاسبه فإن وجد فيماله زيادة غير مقبولة قاسمه ماله كما قاسم سعد بن أبي وقاص حين عزله عن الكوفةوقاسم أبا هريرة حين عزله عن البحرين وقاصم خالد بن الوليد وهكذا عرف بالعدل وماهذا العدل إلا مظهر من مظاهر خوفه بالله حتي هابه الناس وكان يقال دائما بعد وفاتهلدرة عمر أهيب من سيفكم . (2)

    * * * *


    (ثانيا)


    عمر ومحاولة نشر الإسلامخارج الجزيرة العربية





    قد يتساءل البعض عن السياسةالخارجية لعمر بن الخطاب ، والحق أنها سياسة تتصف بالحرص الشديد علي نشر الدعوةالإسلامية وأن يعم الإسلام الأرض من جميع أقطارها القريبة والبعيدة علي السواءوهذا هو الهدف الأساسي لإقامة دولة إسلامية رسالتها الأولي هي نشر التوحيد وشريعةالله الغراء علي الإنسانية كلها فقد كان عمر رحمه الله يشعر بان حرمان أمة ما منالدخول في الإسلام مهما تباعد أرضها فهي مسئولية يحاسب عليها بين يدي الله عز وجلوهذا الشعور كان يجعله قلقا دائما .


    إنا الفاروق عمر كان يؤمنبان رسالة الإسلام للناس جميعا العربي وغير العربي فلماذا يقف بالدعوة عند حدود الجزيرة العربية ؟ لماذا لا يطرقالإسلام بلاد الأكاسرة ويدق أبواب القياصرة ويسير بها الدعاة ينساحون في السهول والجبال والبوادي والحضر وفي كل شبرتعيش فيه نفس إنسانية ورأي عمر أن إنشاء الجيوش وتملك القوي ليس لها إلا ذلك الهدفالاسمي لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض وتحرير الإنسان من عبادة الإنسان وكان تحريرالإنسان العربي من وقعة الفرس والروم هما في مقدمة هدف النبي والخلفاء الراشدين منبعد . ولم يكن عمر بدعا في هذا الأمر وقدسبقه الرسول e فقد مهد الطريق وأرسل الجيوش إلي مؤتة ثم إلي تابوك وكذلك نهجهاأبو بكر حيث أقتدي بالرسول e في أنفاذ جيش أسامه وعلي هذا الهدي رسم عمر بن الخطاب سياستهالخارجية وخرجت الجيوش المسلمة من عاصمة الإسلام بعد أن زودت بالنصائح التي كانيزودها بها عمر والتي كانت تدعوا إلي مهمة واحدة هي مهمة تلك الجيوش وهي الدعوةإلي الله وهداية الناس ونشر دين الله هذه هي مهمة الجيوش والتي حددها النبي e ونؤكد ذلك بما كان يدوربين بعض القادة المسلمين وبعض أمراء الفرس الذين يجهلون طبيعة الإسلام وكانوايندهشون لما يسمعونه من قواد المسلمين ذكر بن كثير المناقشة الطويلة التي دارت بينالمغيرة بن شعبه القائد المسلم وبين رستم قائد الفرس في غزوة القادسية فقد سألهرستم بعد مناقشة طويلة ( إنا ليس طلبنا الدنيا ، وإنما همنا وطلبنا الآخرة وقد بعثالله إلينا رسولا فسأله عما جاء به الرسول فأجابه بأختصار هو دين الحق لا يرغب عنهأحد إلا ذل ، ولا يعتصم به إلا عز ثم وصف له المغيرة الإسلام وقال له رستم وأي شيءأيضا تدعون إليه قال إخراج العباد من عبادة العباد إلي عبادة الله ثم أنهي رستمالحديث بسؤال أخير أرأيت أن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا ؟ قال إي والله ثملا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة وذكر بن كثير أيضا أن سعد بن أبي وقاص أرسلإليه رجلا مسلما أخر وهو ربعي بن عامر فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبةوالزرابي الحرير وأظهر اليواقيت والزينة العظيمة .... وجلس علي سرير من ذهب ودخلعليه ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتي داس بها علي طرفالبساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل علي رستم وعليه سلاحه ودرعه وبيضته عليرأسهفقالوا له ضع سلاحك فقال....... وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم أأذنواله فأقبل يتوكأ علي رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له ما جاء بك فقال قولةأوجزت هدف الحروب الإسلامية والتي كررها من قبل المغيرة والتي مازال يكررها منبعدهم القواد المسلمون قال الله ابتعثنا ليخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادةالله ، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام فأرسلنا بدينهإلي خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبي قاتلناه أبدا حتىنفضي إلي موعود الله . ([11])


    إذن تلك سياسة عمر الخارجيةمحصورة في شيء واحد هو نشر الإسلام خارج الجزيرة العربية إذ يري أن حرمان أمه مامن الدخول في الإسلام مهما بعدت أرضها فهي مسئولية كبري أمامه سيحاسب عليها بينيدي الله عز وجل . وكان هذا الشعور يخالجه كثيرا ويقلقه طويلا حتي تمني لو أنهاستطاع أن يري الأرض كلها مسلمة تدين بعقيدة التوحيد وتؤمن بالرسالة المحمديةخاتمة الرسالات كلها .


    ومن هذا المنطلق يبدوالتساؤل ذو الأهمية كيف كانت سياسة عمر الخارجية إنه بلا ريب أن سياسة عمرالخارجية ستمتد لتكون سياسة موجهة إلي دولتين كبريين آنذاك هما دولة الفرس التيكان يحكمها الأكاسرة ، ودولة الروم التي كان يحكمها القياصرة وكان علي عمر أن يعيدالعراق العربي ( الحيرة ) إلي حظيرة العروبة والإسلام .


    وكان علي عمر أن يتمم مابدأه الصديق في ميدان الشام أيضا حيث يوجد هناك أربعة جيوش ومجموعة كبيرة منالقواد تواجه جموع الروم في أكثر من معركة فكان علي عمر أن يسوس أمر الحرب فيالميدانين معا ميدان الفرس وميدان الروم .


    وكانت علاقة عمر بالدولةالفارسية علاقة تقوم علي نشر الدين والدعوة إلي الله وإنصاف الإنسان من عبوديةالإنسان لذا اتصفت سياسة عمر مع ملوك الفرس بالمصادمة وعدم الاتفاق فسادتها الحروبوالصراعات المختلفة حتى أستولي المسلمون علي بلدان فارس بأكملها .


    أما علاقة عمر بن الخطاببالروم فقد كانت علاقة حروب متواصلة سادتها العداء والكراهية إذ استطاع عمر بنالخطاب أن يقضي علي ممالك الروم في الشام ويستولي علي مدن الشام واحدة إثرا الأخرىمما دفع إمبراطور الروم إلي مغادرة البلاد العربية كلها والرحيل إلي مملكته فيالغرب وسيطر المسلمون بعد ذلك علي مصر وبرقه وتونس وطرابلس والشمال الأفريقيبأكمله .



    1- سورة الحجرات الآية 14 .


    1- الشيخان صـ201 .

    1- الشيخان صـ202 .
    2- أنظر المصدر السابق صـ 203 .

    1- { سورة الزمر :53} .
    2- بعض الرواة لم يأخذوا بهذه الرواية لأن فيها مبالغة وتجاوز من الرواة فيعدل عمر . وعدل عمر واضح ليس في حاجة إلي تلك المبالغات .
    3- أنظر الشيخان صـ 205 .


    1- الشيخان صـ 206 .
    2- المصدر السابق ص207 .

    1- سورة المزمل من 1-4 .
    2- الشيخان صـ208 .


    1- الشيخان صـ 211 .


    1- الشيخان صـ213 .

    1- سورة الأحقاف : 20 .


    1-الشيخان صـ 216 .
    2- المصدر السابق صـ218 .

    1- بن كثير البداية والنهاية ج7 صـ 39 – 40 .


  19. #19
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة التاسعة )


    استعانة عمر بالقضاء والشورى


    (أولا)


    اضطرار عمر لتأسيس نظامالقضاء





    القضاء من أهمالقواعد التي يقوم عليها الدول ، فلا دولة بلا قضاء ، فالعدل الإجتماعي ضرورة منضروريات حياة المجتمعات لما ينشب بين الأفراد من نزاعات أو بين الأفراد والدولة .وقد رأي عمر أن الإسلام قد أعتني بحقوق الإنسان عناية بالغة إذ كفل له الحريةوجعلها حق من حقوقه التي لا يمكن نزعها منه بل جعلها مناط التكليف فلا تكليف لمنلا حرية له وقد نظم الإسلام الحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية وحرصا منالإسلام علي الأمن والطمأنينة التي ينبغي أن يتمتع بها الأفراد أوجب القضاء وقدكان الجهاز القضائي إبان عهد الرسول e والصديق جهازا بسيطا يقضي الرسول أحيانا بينالناس أو أبو بكر الصديق ولما مات النبي eوتولي الخلافة أبو بكر كان عمر هو قاضيه في المدينة .


    وفي عهد الفاروق عمرقد اتسعت الفتوحات وكثرت مشاغل الخليفة وتشعبت أعمال الولاة في الأمصار وكثرتالخصومات والمشاجرات فرأي عمر رضي الله عنه أن يخصص وظيفة للقاضي وأن يكون مستقلاعن الوالي ومن هنا أستقل الولاة في الولايات وأصبح القضاء في الأمصار الإسلاميةقضاء مستقلا بعيدا عن سلطة الوالي أو القائد ولا سلطان عليه إلا سلطان الله ، وبذلكضمن عمر قاعدة قويمة لمواجهة النوازل والكوارث وحماية المسلمين من الفتنوالإضطرابات وضياع حقوق الناس .


    وهكذا استطاع الفاروقعمر رحمه الله أن يقف أمام النوازل والكوارث بالقضاء يقوم الناس لتستقيم حياتهمويأخذ علي يد العاصي المذنب بإقامة الحدود أو السجن والتعذيب وبذلك استطاع الفاروقأن يقبض علي زمام الأمور بيد شديدة في أغلب مجالات الحياة . لا فرق بين راع أورعية ، عربي أو أجنبي فالكل سواء


    وكان الفاروق يعينالقضاة بنفسه أو يعينهم الولاة بمرسوم من الخليفة . ومن قضاة عمر المشهورين ، عبد بن مسعود قاضي الكوفة، وسلمان بن ربيعة قاضي البصرة ثم القادسية ، وقيس بن أبي العاص قاضي مصر .


    وكان بعض القضاةيجمعون بين الولاية والقضاء في عصر عمر مثل نافع الخزاعي والي مكة ، ويعلي بن أميةوالي صنعاء ، وسفيان بن عبد الله الثقفي والي الطائف ، والمغيرة بن شعبة واليالكوفة ، ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي واليالبحرين وعمان ، وابو موسي الأشعري والي البصرة ، وعمير بن سعد والي حمص ([1]).


    وقد أهتم عمر بن الخطاب بالقضاة وأوصي بهمالولاة أن يغدقوا عليهم الأرزاق وقد ذكرت بعض الروايات مرتبات بعض القضاة في عهدعمر فقد رزق سلمان بن ربيعة الباهلي علي الكوفة 500 درهم في الشهر ، وشريح القاضي100 درهم كل شهر ، وعبد الله بن مسعود الذهلي والي الكوفة 100 درهم كل شهر وربعشاه كل يوم ، وعثمان بن قيس بن أبي العاص والي مصر 200 دينار كل شهر (2)

    * * * *



    - وعنمكانة القضاء واستقلاليته قال أحد القضاة: " خطة القضاء فى نفسهامن أسمى الخطط ، فإن الله تعالى قد رفع درجة القضاة وجعل إليهم تصريف أمور الأنام، يحكمون فى الدماء والأبضاع والأموال والحلال والحرام ، وتلك خطة الأنبياء ومنبعدهم من الخلفاء فلا شرف فى الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء وقد استحق القضاةهذه المكانة لما يتمتعون به من استقلال سلطتهم فهم لا ينقادون إلى أحد ، ولايتلقون اوامرهم من أحد ، بل هم القادرونعلى إنصاف الناس من الوزراء والخلفاء ، وليس هناك من سلطة فى الدولة الإسلاميةتستطيع أن تنقض أحكامهم أو أن تلغيها ، أو أن تمد يدها إليهم لأنهم يحكمون بماانزل الله .


    وإذا كان للقضاء هذهالمكانة فإنها لمكانة عظيمة وخطيرة ولهذا حذر منه النبى eونبه إلي خطورته بقوله " القضاة ثلاثة :واحدفى الجنة واثنان فى النار ، فأما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ، ورجل عرفالحق وجار فى الحكم فهو فى النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار .


    ولا ينبغى أن يسندمنصب القضاء لرجل طلبه أو لرجل يحرص فى الحصول عليه ، لأن القضاء تبعة ثقيلةوأمانة عظيمة لا يطلبها إلا مستخف بشأنها مستهين بحقها ، وفى ذلك فساد الدين والبلاد، وظلم العباد ما فيه ، لذا قال رسول الله e" إنا والله لا نولى هذا العمل أحدا يسأله ، أو احدا يحرص عليه "([2])


    ولذلك كان كثير منعلماء السلف يزهدون فى منصب القضاء ولا يتولونه إلا مكرهين لما يعلمون من خطورةالقضاء فى الإسلام .

    * * * *



    - والقضاء قد أوجبه الشرع فقد عقد الماوردى فىكتابه " أدب القاضى "فصلادلل فيه على أن القضاء واجب) بالقرآن والسنةوالإجماع قال الله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم )ودليلوجوب القضاء فى السنة قول رسول الله eلعلى رضى الله عنه حين ولاه قضاء اليمن : " إذا حضر الخصمان إليك، فلا تفض لأحدهما حتى تسمع الأخر "وقال e : " إذا ابتلى أحدكم بالقضاء فلا يجلسأحد الخصمين مجلسا لا يجلسه صاحبه ، وإذا ابتلى أحدكم بقضاء فليتق الله فى مجلسه ،وفى لحظه ، وفى إشارته " .


    أمادليل إجماع الصحابة ، فقد حكموا رضوان الله عليهم بين الناس وقلدوا القضاة والحكامفحكم أبو بكر بين الناس واستخلف القضاة ، وبعث أنسا إلى البحرين قاضيا ، وحكم عمربين الناس وبعث أبا موسى الأشعرى إلى البصرة قاضيا ، وعبد الله بن مسعود إلىالكوفة قاضيا ، حكم عثمان بين الناس وقلد شريحا القضاء .وحكم على بين الناس وبعث عبد الله بن عباس قاضيا إلى البصرة . فصار ذلك من فعل الخلفاء الراشدين ـإجماعا .


    أماحكم القضاء فهو فرض كفاية إذا تقلده من يقومون به سقط عن الآخرين وما سبق عن إحجامبعض السلف عن تولى القضاء طلبا للسلامة ودفعا للخطر حتى عده بعض الباحثينالمعاصرين سنة حسنة وتقليدا مرعيا عند أسلافنا ينبغى الأخذ به . فإننى أرى خلاف ذلك ، فالسنة قد شجعتعلى تولى القضاء ولم ينفر منه إلا العاجزين عنه ، أو أصحاب الأهواء . أما الأكفاء القادرين على تحمل اعبائه ، ولاجناح عليهم إذا هم أخطأوا ، فالقاضى مجتهد بلا منازع لأن النصوص تنتهى والوقائع لاتنتهى كما قال الإمام ابن القيم ، وكما قد عرضت للقاضى في كل زمان ومكان نوازل لميجد لها نصا وهنا لابد من اجتهاده ولهذا قال الرسول e " إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب ، فلهأجران ، وإذا حكم فاجتهد فاخطأ فله أجر ([3])


    فهذا العزوف عن ولايةالقضاء لا يتفق مع هذه النصوص ولا مع سيرة الرعيل الأول من الصحابة ، فلقد قضى أبوبكر وعمر وعثمان وعلى وكثير من الصحابة ولم يجدوا فى ذلك إلا تقربا إلى الله .وتيسيرالمصالح العباد .


    أجمعالمسلمون على ضرورة استقلال القضاء فى أحكامه عن السلطتين :التنفيذيةوالتشريعية . أما عن استقلال القاضى فى أحكامه لخليفةأو وزير ، وخير شاهد على ذلك سلوك القضاة فى أغلب العصور الإسلامية ، فما كانوايقبلون أبدا أن ينحرفوا عن الشريعة إرضاء للخليفة أو لمن له سلطة عليا ، ولهم فىذلك مواقف عظيمة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور . ولاغرو في ذلك فإن القاضى والخليفة كلاهمامنفذ لشريعة الله فالقاضى يطالب بان يحكم بمقتضى كتاب الله وسنة رسول الله e فإن لم يجد قاس النظائر على النظائر .أمافيما وراء المصادر الأساسية للتشريع الإسلامى يكون دور المجتهدين من السلطةالتشريعية الذين يستنبطون الأحكام ، وهم باجتهادهم أيضا مستقلون ، ولاحق لهم أنيتدخلوا فى القضاء أو فى إلزام القاضى بحكم فى قضية بمقتضى رغبتهم .


    وتتضح نظرية الفصلبين السلطات الثلاث أكثر فى قول الخليفة عمر بن عبد العزيز فى أول خطبة له عندماتولى الخلافة : " أيها الناس إنه لاكتاب بعد القرآن ، ولا نبى بعد محمد e، ألا وإنى لست بقاض ولكنى منفذ ولست بمبتدع ولكنى متبع .. وإن الرجل الهارب منالإمام الظالم ليس بظالم ، ألا لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ".


    ولضمان استقلالالقضاء اعترف الإسلام أولا بنيابة القاضى عن الخليفة فى تنفيذ أحكام القضاء ،فأصبح منفذا للأحكام باسم الشريعة ، وله فى ذلك نيابة مطلقة عن الإمام ، وبذلكأصبح القاضى جرمة يشعر معها بأنه المباشر للسلطة القضائية .

    * * * *



    - وشروطتولية القضاء معروفة لدي فقهاء الإسلام بحيث لا يولى منصب القضاء إلا من توفرت فيهالصفات الآتية : كما جاء فى كتاب الأحكام السلطانية وهىسبعة:


    1- أن يكون رجلا بالغا .


    2- أن يكون عاقلا صحيح التمييز جيد الفطنة ، بعيدا عن السهووالغفلة ، له قدرة فى توضيح ما أشكل وفصل ما أعضل .


    3-أن يكون حرا ـ لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته لغيره .


    4-أن يكون مسلما : لأن الإسلام شرط فى جواز الشهادة .


    5 ـ أن يكون عادلا ـ فالعدالة أن يكون صادق اللهجة ، ظاهرالأمانة ، عفيفا عن المحا رم ، متوقيا المآثم ، بعيدا من الريب ، مأمونا فى الرضاوالغضب ، فإن تكامل ذلك فهى العدالة التى تجوز بها شهادته وتصح معها ولايته .


    6 ـ السلامة فى السمع والبصر ، ليصح بهما إثبات الحقوق ويفرق بينالطالب والمطلوب ، ويميز المقر من المنكر ، فإن كان ضريرا كانت ولايته باطلةوجوزها مالك كما جوز شهادته : أما سلامة الأعضاء الأخرى فغير معتبرةفيه وإن كانت معتبرة فى الإمامة .


    7ـ ان يكون عالما بالأحكام الشرعية ملما بعلوم أصولها . وأصول الأحكام فى الشرع أربعة :


    أـ المعرفة بكتاب الله بما تضمنه من الأحكام ناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها ،وعموما وخصوصا ، ومجملا ، ومفصلا .


    بـ علمه بسنة رسول الله eالثابته من أقواله وافعاله وطرق مجيئها فى التواتر والآحاد ، والصحة والفساد ...الخ.


    جـ علمه بأقوال السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد رأيه معالاختلاف .


    دـ علمه بالقياس الموجب لرد الفروع إلى الأصول .

    * * * *



    أما عن دستور القضاءفإن الرسول eأول قاض فى الدولة الإسلامية ، فوضع دستور القضاء والتقاضى فيما كان يفعله ، وفيماكان يأمر به من ينوب عنه فى القضاء . فى أربعة أمور هى :


    1- الإقرار : هو اعتراف المدعى عليه بما ادعى عليهفيه من حق لقوله e " فإن اعترفت فارجمها "متفقعليه .


    2- البينة : وهى الشهود لقوله e" البينة على المدعى واليمين على من أنكر " رواه البيهقى باسنادصحيح .


    3- اليمين : لقوله eفى الحديث السابق ، فإذا عجز المدعى عن إحضار البينة حلف المدعى عليه يمينا واحدةوأبرأه من الدعوة .


    4- النكول : وهو أن ينكل المدعى عليه عن اليمين فلميحلف ، فيعذر إليه القاضى بأن يقول له : إن حلفت خليت سبيلك وإلا قضيت عليك فإنأبى قضى عليه . غير أن مالكا يرى أنه فى حال النكول ترداليمين على المدعى فإذا حلف قضى له .


    وهناك أمور أخرى يجبمراعاتها مثل :


    ـ إذا علم القاضىعدالة الشاهد حكم بها .


    ـإذا ادعى على امرأة ذات حجاب شديدة الحياء يمكن لها أن تنيب عنها فى حضور الدعوى .


    ـ لا يجوز للقاضى أن يحكم بعلمه بل بالبينة حتىلا يتهم فى عدالته .


    ـإن ادعى على حاضر وجب حضوره ولا يصدر حكمه فى غيبته إلا أن ينيب عنه وكيلا.


    ـ إذا تعارضتالبينتان ولم يوجد مرجح لأحدهما قسم المدعى به بين المتخاصمين لقضاء رسول الله e بذلك ، فقد روى أبو داود والبيهقى والحاكمأن رجلين ادعيا فى بعير فى عهد النبى eفبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه بينهما نصفين .


    حكمالقاضى فى الظاهر لا يحل حراما فى نفس الأمر ، ولا يحرم حلالا ، لقوله e " إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلى فمنقضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار " متفق عليه


    - ويتناول دستور القضاءأيضا اختصاصات القضاة كما أوصي بها الر سول eعلي النحو التالي - إذا كانت ولاية القاضي عامة مطلقة فإن اختصاصاته تشمل على :


    1- الفصل فى المنازعات ، وقطع التشاجروالخصومات ، إما صلحا عن تراض أو إجبارا بحكمه .


    2-استيفاء الحقوق ممن ماطل بها وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالبينة أوالإقرار .


    3-إثبات الولاية عن الممنوعين من التصرف كالمجانين وصغار السن ، والحجر على السفهاء .


    4- النظر فى الأوقاف بحفظ أصولها وتنميةفروعها وصرفها فى سبيلها .


    5- تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع.


    6- تزويج الأيامى بالأكفاء إذ عد من الأولياءوطلبن للزواج .


    7- إقامة الحدود على مستحقيها .


    8ـ النظر فى المصالح من الكف عن التعدى فى الطرقات والأفنية وإخراج مالا يستحق منالمبانى ، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره الخصم .


    ـتصفح الشهود وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه .


    10- التسوية فى الحكم بين القوى والضعيف ،والعدل فى القضاء ولا يتبع هواه فى تقصير المحق أو مماطلة المبطل .


    -ويشمل دستور القضاء أيضا بعض آداب يلتزم بها القاضي في نفسه وفي مجلسه أو بعض أمور يجب أن يتحاشاها علي النحو التالي فمنالآداب التى يجب أن يتحلى بهاالقضاة ثلاث :


    أـ فى نفسه : أن يكون قويا غير عنيف ، ولينا من غيرضعف ، حتى لا يطمع فيه ظالم ، ولا يهابه صاحب حق ، وأن يكون حليما من غير مهانةحتى لا يتجرأ عليه سفهاء الخصوم ، وأن يكون فطنا ذا بصيرة فى غير إعجاب بنفسه ولااستخفاف بغيره .


    ب ـ فى مجلسه: أن يكون مجلسه فى وسط البلادفسيحا يسع الخصوم ولا يضيق عن الشهود.


    جـ مع المتخاصمين : يعدل بينهما فى لحظه ، ونظره ، والدخولعليه ، فلا يؤثر خصما دون آخر فى شئ ، وان يحضر مجلسه الفقهاء وأهل العلم بالكتابوالسنة وان يشاورهم فيما أشكل عليه .


    ومن الأمور التى يجب أن يتحاشاها القاضى:


    أن يحكم وهو غضبان أو مريض : او كان شاعرا بالجوع او العطش أو حر اوبرد أو سآمة أو كسل . قال رسول الله e: " لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ".. كذلك ينبغى له الايحكم بدون شهود أو يحكم أو أن يحكم لنفسه ـ ألا يقبل رشوة لقوله e : " لعنة الله على الراشى والمرتشى فىالحكم " ـ وان لا يقبل هدية ممن لميكن يهاديه قبل توليه القضاء .


    هذا هو القضاء فى الإسلام صفحة مشرقة فىحضارة الإنسان بما يتمتع من حيطة شديدة ورغبة صادقة فى إقرار الحقوق لأهلها حتىولو كان صاحب الحق عبدا حبشيا فكم من أفراد عاديين جلسوا أمام خلفاء المسلمين وجهالوجه ليتقاضوا معهم على منصة القضاء دون خوف من سلطتهم لأن الإسلام أعلا سلطةالقضاء عن السلطة الحاكمة .

    * * * *



    - كان عمر بن الخطابدائما يتابع قضاته متابعة دقيقة ويوجههم إذ وجد هناك أعوجاجا أو يعزلهم أن وجدمنهم تقصيرا في حق العباد ولكي يضمن العدل بقدر مستطاع فكان دائما يكتب برسائل إليقضاته يعلمهم كيف يقضون وكيف يتصرفون مثل رسالته إلي عبد الله بن قيس ، وأبو موسيالأشعري ، وقد جاء فيها (سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنةمتبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس فيوجهك وعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينةعلى من ادّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلحراماً، أو حرّم حلالاً، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عَقْلَكَ،وهُدِيتَ فيه لرشدك: أن ترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير منالتّمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثماعْرِف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله، وأشبههابالحقِّ واجعل لمن ادّعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنتهأخذت له بحقه وإلا استحْللت،عليه القضيّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى،المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدِّ، أو مُجرّباً عليه شهادة زور، أوظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ بالبينات والأيمان،وإياك والغلق ، والضجر والتأذي للخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطنالحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاهالله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شانهالله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجلرزقه وخزائن رحمته، والسلام .


    فالمتأمل في هذه الرسالة يجد آدابالقاضي الذي ينبغي أن يتحلي بها القضاة وأصول المحاكمة وكأنها وليدة اليوم مازالتبرونقها وما زلنا نحن في أمس الحاجة إليها .


    ومن الرسائل المهمة في هذا الباب رسالةالفاروق إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسيخيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ بأفضل حظَّيك: إذا حضر الخصمان فعليكبالبينات العدول، والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى تبسط لسانه، ويجترئ قلبه،وتعهّد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنّ الذي أبطل من لميرفع به رأساً. واحرص على الصلح ما لم يستبن لك القضاء. والسلام .


    وكتب رضي اللهعنه إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في القضاء: أما بعد، فإني كتبت إليكبكتاب في القضاء لم آلك ونفسي فيه خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيهبأفضل حظك: إذا تقدم إليك خصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدْنالضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه،ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به، وآسِ بينهم في لحظك وطرفك، وعليكبالصلح بين الناس، مالم يستبن لك فصل القضاء .


    وكتب إلىالقاضي شريح عن الاجتهاد: إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليسفي كتاب الله فاقض بما سنَّ فيه رسول الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولميسنّه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد فأيّ الأمرين شئت فخذ به وفي رواية أخرى: فإنشئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيراً لك .


    ومن رسائلهأيضا رسالته إلي أبي موسي الأشعري : نص الرسالة (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله بن لخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاءفريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله، آسِ ( سوي ) بين الناس في وجهكوعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ( ظلمك ) ، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادّعى،واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرّمحلالاً، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عَقْلَكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدك: أنترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التّمادي في الباطل، الفهمالفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعْرِف الأشباه والأمثال،فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحقِّ واجعل لمن ادّعىحقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنته أخذت له بحقه وإلااستحْللت ،عليه القضيّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى، المسلمون عدول(المستقيمون في أمرهم ) ، بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدِّ، أو مُجرّباً عليهشهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ( دفع) بالبينات والأيمان، وإياك والغلق ( ضيق الصدر وقلة الصبر ) ، والضجر والتأذيللخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسنبه الذُّخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومنتخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شانه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام ) ([4]).

    * * * *


    ( ثانيا )


    عمر يستعين بالشورى في حل المعضلات



    مقدمة


    تعدالشورى قاعدة أساسية وحتمية من قواعد الدولة الإسلامية فلابد من تشاور قادة الدولةوحكامها مع المسلمين والعمل علي إرضائهما فقال تعالي ( فبما رحمة من الله لنت لهمولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمرفإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين ) (2) ( وقال eلا خير في امر أبرم من غير شوري ) .


    وقد توسع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرةالمستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظممتباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع مثل معاملة الأرض المفتوحةوتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع أموال الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمعللشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار([5])،وكان لأشياخ بدر لهم مكانتهم الخاصة في الشورى لفضلهم وعلمهم وسابقتهم إلا أن عمررضي الله عنه أخذ يشوبهم بشباب، فإنهم على دربهم ماضون لأجلهم ورحمة ربهم ومغفرتهوالدولة لابد لها من تجديد رجالاتها وكان عمر العبقري الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقةفأخذ يختار من شباب الأمة من علم منهم علماً وورعاً وتقى فكان عبد الله بن عباس منأولهم، وما زال عمر يجتهد متخيراً من شباب الأمة مستشارين له متخذاً القرآن فيصلاًفي التخير حتى قال عبد الله بن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاًكانوا أو شباناً([6])وقد قال الزهري لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطابرضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم([7])وقال محمد بن سيرين: إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشيرالمرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذه وقد ثبت أنه استشار مرة أمالمؤمنين حفصة رضي الله عنها([8])وقد كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة وذوي الرأي، منهم العباس بن عبدالمطلب وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفر ولا حضر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب([9])ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت([10]) ، ونظرائهمفكان يستشيرهم ويرجع إلى رأيهم .





    الشورى هي: القرار الملزم الصادر من الجماعة . والشورى تعلق بكل ما يخص نظم الجماعة سواءالمتعلقة بشئونها الاجتماعية أم السياسيةأم التنظيمية أم المالية ، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها .ومن جهةأخرى فإن حق الفرد فى الشورى نابع من حريته وحقوقه الإنسانية التى يستمدها منفطرته الآدمية ، ومن شريعة الله تعالى .


    ومن معاني الشورى : هى تبادل الرأى فىغير إلزام . ويدخل فى المشورة والاستشارة : النصيحة ، والفتوى ، والاستشارة العلمية والقانونية .


    وقد تستعمل الشورى بهذا المعنى الأخيرأيضا ، فيكون لها معنيان أحدهما خاص عرفى يستعمل أساسا فى المجال السياسى . والآخرواسع وعام يستعمل فى كافة المجالات .


    وتمتازالشورى فى الإسلام بالشمول حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد فى المشاركة فى القرارالملزم الصادر عن الجماعة ، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية واستشارة أهلالخبرة وتبادل النصيحة ، حيث يندب الإسلام الجميع لتدريب الأفراد والجماعات على تبادل الرأى بحرية كاملة واحترام متبادل .


    لقد درجكثيرون على اعتبار الشورى مبدأ يقوم عليه نظام الحكم ، ويقيد سلطة الحكام ، بينمايجب اعتبارها نظرية عامة شامة للمبادئ التى تقوم عليها حرية الأفراد ، وحقوقالشعوب ، وتضامن المجتمع فى جميع النواحى السياسية والاجتماعية والماليةوالاقتصادية وغيرها .


    فالشورىفى الإسلام مبدأ إنسانى أولا ، واجتماعى وأخلاقى ثانيا ، ثم هى قاعدة دستوريةلنظام الحكم أوصي بها الشرع الإسلامي ، ولذلك فإن نطاق تطبيقها واسع شامل . وواجب في شتي مجالاتالأنشطة الحيوية .


    كما أنالنظرية العامة للشورى تشمل تطبيقها فى مجال الفقه ، ولا يخفى ما للإجماعوالاجتهاد من دور فى استنباط الأحكام الشرعية ، ولا تقل أهمية الشورى فى هذاالمجال عن أهميتها فى المجال السياسى . ويمكننا أن نصف شريعتنا بأنها شريعة الشورىبالقدر نفسه الذى نصفها بأنها شريعة السماء ، فالشريعة الإسلامية كما أنها شريعةإلهية من حيث مصادرها السماوية ، فإنها تعتمد أيضا على مصادر اجتهادية كالإجماعوالاجتهاد اللذين يعتمدان على الشورى .


    والمنبعالإلهى للشريعة يفرض سيادة الشريعة على المجتمع والدولة ، وما دامت الشريعة هىالتى فرضت الشورى ، فإن الشورى تكون أسمى من الدولة ، وبذلك تحررنا من فلسفاتالفقه الأوربى الذى يجعل الدولة صاحبة سلطة التشريع الوضعى الذى يمكن للحكاماتخاذه وسيلة لتحكم فى حريات الأفراد وحقوقهم بحجة أن القانون الوضعى هو إرادةالدولة التى يمثلونها .


    ولا ننسى أن الفقه الإسلامى يقصر عمل الحكومة فىنطاق السلطة التنفيذية .ولهذا فإن الفقه الدستورىالإسلامى يقوم على مبدأ سيادة الشريعة واستقلالها وهيمنتها على المجتمع والدولة ،ومن ثم فكل عرض لأصول الحكم فى الإسلام لا يكون صحيحا إلا فى ضوء استقلال الشريعةوحمايتها لحقوق الإنسان ، وحرية الشورى فى الفقه الإسلامي هى حصن حقوق الإنسان وحرية الشعوب وسلطانها ،فاستقلال الشريعة وحرية الشورى الفقهية هما محور النظام الإسلامى .


    ولقدرسمت الشريعة الإسلامية حدودا للشورى ليس لها أن تتجاوزها ، وهى حدود ثابتة خالدةطالما بقى الإسلام وبقيت شريعته ، بخلاف الديمقراطية فإنها لا تعرف الحدودالثابتة .


    فهناكثوابت لا يمكن تجاوزها بدءا من وجوب سيادة الشريعة ، واستقرار ما يعرف بالمعلومبالدين بالضرورة مما لا يجوز تغيره ، ولا التنكر له ، والفواصل القاطعة بين الثابتالذى لا يمكن تغييره ، والمتغير القابل للاجتهاد والتغيير ، يمكن النقاش فيه .


    فارتباطالشورى بالشريعة يجعلها خاضعة لمبادئها الأخلاقية الثابتة ، وملتزمة بسيادةالشريعة ، وأصولها وشمولها .ومن هنافإن الشورى شرعية ، أى : قررها الشرع ، وهى ملتزمة به . ومن هذاالمنطلق يمكننا القول أن الشورى ليست تشريعا مستقلا ، بل منضبطابالشريعة الإسلامية .فالشورى بذلك هى الحصن الذى يجب أنتحتمى به أصول نظم الحكم الإسلامية ، وخاصة فى عصرنا الحاضر بعد أن خرجنا من ظلالعظمة الواقعية التى كانت أظلتنا بها ضخامة دولة الخلافة الموحدة ، حينما كانتصورتها العملاقة تخفى عن الناس نقصها الناتج عن انحراف الحكام عن تطبيق مبدأالشورى فى اختيار الحكام ، كما أن هذه الانحرافات ما زالت تخفى عن بعض الباحثين أنحضارتنا التزمت فعلا بحرية الشورى فى الفقه والعديد من المجالات فى جميع عصورالخلافة الناقصة التى سادت العالم الإسلامى بعد عهد الخلفاء الراشدين .





    الشورى فى عهد الصحابة


    أما عنأساس الشورى من أفعال الصحابة ، فان الثابت في تاريخيا أن الخلفاء الراشدين رضوانالله عليهم اقتدوا برسول الله عليه الصلاة والسلام ، فكانوا يتشاورون فى كل الأمورالهامة التى تحدث لهم .


    1- فقد وصف أحد كبار التابعين -وهو ميمونبن مهران- خطة الحكم فى عهدى الخليفتين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فقال ([11]). ((كانأبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم ، نظر فى كتاب الله تعالى ، فإن وجد فيه ما يقضىبه قضى به ؛ وإن لم يجد فى كتاب الله نظر فى سنة رسول الله eفإن وجدما يقضى به قضى به ؛ فإن أعياه ذلك ، سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله eقضى فيهبقضاء ؟ فربما قام إليه القوم ، فيقولون : قضى فيه بكذا وكذا . فإن لم يجد سنةسنها النبى eجمعرؤساء الناس فاستشارهم ؛ فإذا اجتمع رأيهم على شىء قضى به)) . ثم قال : ((وكان عمريفعل ذلك ؛ فإذا أعياه أن يجد ذلك فى الكتاب والسنة ، سأل : هل كان أبو بكر قضىفيه بقضاء ؟ فإن كان لأبى بكر قضاء قضى به . وإلا جمع علماء الناس واستشارهم ؛فإذا اجتمع رأيهم على شىء قضى به)) .


    2- وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ، فإن النبىe لم ينص عليها حتى كان فيها بينأبى بكر والأنصار ، فى حديث السقيفة المشهور .


    3- وتشاوروا فى أهل الردة واستقر رأى أبى بكر علىالقتال ، وأقنع المسلمين به .


    4- كما استشار أبو بكر صحابة رسول الله منالمهاجرين والأنصار فى غزو الشام ، ذاكرا لهم أن رسول اللهe كان قد عول أن يصرف همته إلىالشام ، فقبضه الله إليه ، واختار له ما لديه ، ثم أضاف أن ((العرب بنو أم وأب ، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروموالشام ، فمن هلك منهم هلك شهيداً ، وما عند الله خير للأبرار ، ومن عاش منهم عاشمدافعاً عن الدين مستوجبا على الله عز وجل ثواب المجاهدين)) ، ثم طلب إليهم رأيهم، وبعد مناقشة بينهم أبدى فيها بعض كبار الصحابة كعمر وعبد الرحمن رأيهم وغيرهم . انتهتالمناقشة بتفويض الخليفة فى الأمر ، فقام أبو بكر يدعو القوم إلى الاستعداد لغزوالروم والشام ويقول ((فإنى مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم عليكم فأطيعوا ربكم ولاتخالفوا أمراءكم ، ولتحسن نيتكم وسيرتكم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هممحسنون)) ([12])


    5- وعن عبد الله بن عباس أنه قال :((كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته ، كهولا كانوا أو شباباً)) أخرجه البخارى .


    6- والروايات عن عمر رضي الله عنه فى جمعه للقراء (أى العلماء) ،واستشارتهم فى كل ما يهم المسلمين ، كثيرةمتواترة ، ومن ذلك تشاوره معهم فى أمر ((الخراج)) . وهكذا كان مثله غيره ، من باقىالولاة والخلفاء فى صدر الإسلام .


    7- وكان عمر يجمع كبار الصحابة فى عهدهويمنعهم من الخروج من المدينة لحاجته إلى استشارتهم .


    8- ومن الصور الرائعة للاستشارة ما قام بهعمر قبل موقعة نهاوند . فقد وردت الأخبار للخليفة بتجمعات للفرس واستعداداتهم ضدالمسلمين الذين كانوا قد احتلوا الطرق ونادى عمر بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون بالمسجد حيث عقد لهم مجلس شورى افتتحه بأن عرض ماوصل له من أخبار وسأل المسلمين أن يشيروا عليه بما يفعل ، وقال لهم : أوجزوا فىالقول فان هذا يوم له ما بعده . فوقف طلحة بن عبيد الله يدلى برأيه فأعلن طاعةالمسلمين للخليفة ولما يراه . ووقف عثمان بن عفان يقترح أن يندب الجند من الشامومن اليمن للزحف إلى فارس وأن يقود عمر مسلمى الحجاز وهناك يتولى القيادة العامة ،ثم وقف على بن أبى طالب ينتقد هذا الرأى على أساس أن جنود المسلمين لو أخلوا الشامواليمن لأمكن أن تهب بهما ثورات يشعلها أعداء الإسلام واقترح أن يسير ثلث الجيشويبقى الثلثان فى كل مصر من الأمصار الإسلامية ، وأن يبقى الخليفة بالعاصمة يدبرالأمر ويمد الجيش بما يحتاجه من عتاد ورجال ، وارتأى المسلمون هذا الرأى وسار عليهعمر ([13])


    9- ومن ذلكأيضاً استشارته رضي الله عنه فى مسألةالوباء لما خرج إلى الشام وأخبروه اذ كان فى ((سرغ)) أن الوباء وقع فى الشام ، فاستشار المهاجرينالأولين ثم الأنصار فاختلفوا ، ثمطلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخولعلى الوباء ، فنادى عمر بالناس : انى مصبح على ظهر -أى مسافر ، والظهر : الراحلة- فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة : أفرار من قدرالله . فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة .. نعم نفر من قدر الله إلى قدرالله ، أرأيت لو كانت لك ابل فهبطت واديا له عدوتان احداهما خصبة والأخرى جدبةأليس ان رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ ثمجاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق لرأى شيوخ قريش (2) .


    فهذا كلهيقطع بأن نظام الحكم فى عهد الخلفاء الراشدين كان نظاماً شورياً أساسه الشورى(3).


    حكم الشورى فى الشريعة الإسلامية


    وقد اختلفالفقهاء فى أمر الشورى : هل تعد واجبة على الحكام أم هى مندوبة فقط ؟ فذهب بعضالفقهاء إلى أن الأمر بالشورى لم يكن للوجوب ، وإنما كان للندب ، وأن أمر الرسول eبمشاورةأصحابه إنما كان تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه .


    ونحن لانوافق على هذا الرأى ، ونرى أن الشورى واجبة على الحكام ، ونستند فى ذلك إلى مايلى :


    أولاً :أن القرآن الكريم قد أشار إلى الشورى فى آيتين فى إحداهما نجده قد وضع الشورى إلىجانب ركنين هامين من أركان الإسلام ((الصلاة والزكاة)) ، حتى لكأنه يعدها بالنسبةللمسلم المؤمن إحدى صفاته ، أو شرائطه الأساسية ، بل ويذهب بعض العلماء إلى أنسورة الشورى سميت كذلك لأنها السورة الوحيدة التى قررت الشورى عنصرا من عناصرالشخصية الإيمانية المحقة .


    وفىالآية الثانية نجد أن الله قد وجه الخطاب إلى الرسول eبأن يلجأإلى الشورى ، وذلك بصيغة الأمر إذ قال تعالى {وشاورهم فى الأمر} .


    ثانياً :أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشاور أصحابه فى كل ما يجد من أمور هامة تمسالجماعة المسلمة . وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الأمر فى الشورى هو للوجوب، ولذلك نجد أنهم كانوا حين ينزل بهم الأمر لا يبرمونه من غير شورى ، وكان عمر بن الخطاب يقول ((لا خير فى أمر أبرم من غير شورى)) ، ويدلعلى هذا الفهم كذلك أن كلا من أبى بكر وعمر قام خطيبا فى قومه أثر توليه الخلافةفقال الأول : ((..فإن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى)) ، وقال الثانى : ((ياأيها الناس .. من رأى منكم فى اعوجاجاً فليقومه ، فقام رجل أعرابى فقال : والله لووجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ، فقال عمر : الحمد لله الذى جعل فى المسلمينمن يقوم عوج عمر بسيفه)) .


    ومعنىالتقويم فى الخطبتين هو التنبيه إلى الحق والإرشاد إلى الطريق المستقيم وهذا مايدل على وجوب الشورى .


    وهذاالرأى الذى يذهب إلى أن الشورى واجبة على الحاكم هو الرأى الراجح فى الفقه ، فإنظاهر الأمر يفيد الوجوب ، ولا توجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب أو إلى غيره ،وبناء عليه فالأمر فى قوله {وشاورهم فى الأمر} هو أمر على الوجوب بمقتضى القاعدةالأصولية ، ولا دليل على أنه أريد به غير الوجوب .


    كما أنالأمر فى قوله {وشاورهم فى الأمر} عام فى رسول الله وغيره من المكلفين ، وليستهناك قرينة لاختصاصه eبه .


    وفى ذلكيقول الفقهاء : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلموالدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه .


    وقال أحدالفقهاء : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وما أشكل عليهم منأمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحروب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ،ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها .


    وفى ذلكيقول الأستاذ محمد رشيد رضا : ((وإذ أوجب الله المشاورة على رسوله فغيره أولى ،وسيرة الخلفاء الراشدين ، وإجماع الأمة ناطق بذلك ، وإن جهل ذلك من جهله منالفقهاء فجعلوها فضيلة لا واجبة ؛ لإرضاء الملوك والأمراء)) .


    فليس أدلعلى وجوب الشورى من التزام النبى e للمشاورة وهو المعصوم بالوحى ، فكان التزامغيره به أولى ، وكذلك التزام الخلفاء الراشدين طريق الشورى فى الولاية والحكم .


    نظام الشورى


    أما عننظام الشورى يمكننا طرح التساؤل الآتي : هل جاء الإسلام بنظام محدد للشورى ، يبين نطاقها، أى الموضوعات التى يمكن استشارة الأمة فيها ، ويبين أهلها أى الذين يمكناستشارتهم ، ويبين كذلك كيفية إبداء المسلمين لآرائهم ، والأغلبية المطلوبة لكىيصبح الرأى ملزما ؟


    إنالإجابة عن كل ذلك لا شك بالنفى ، فلم يأت الإسلام بنظام محدد لا يجوز غيره فى كلهذه المسائل ، بل أتى بالمبادئ العامة ، التى لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان ،وترك تفاصيل الأمور ، وما هو أشبه بالإجراءات إلى ما تقرره المصلحة ، ويختلف شأنهباختلاف
    الزمان والمكان .



    فالنبى والخلفاءالراشدون قد أقاموا الشورى فى زمنهم بحسبمقتضى الحال ، من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معهم فى مسجد واحد ، ففي زمن الهجرةالتى انتهت بفتح مكة -فكان النبي يستشير السواد الأعظم من المسلمين كما فعل يومبدر ويوم أحد ، وكان صلوات الله وسلامه عليه يستشير فى كل أمر من أمور الأمة إلاما ينزل عليه الوحى .


    ولما كثرالمسلمون ، وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الآفاق البعيدة عن المدينة يمكن أنيقال إنه قد ظهرت الحاجة إلى وضع نظام للشورى يبين كل مسألة من المسائل السالفبيانها ، ومع ذلك فإن النبى e لم يضعهذا النظام لأسباب عديدة نعتقد أن من أهمها :


    أولا :أن تنظيم الشورى أمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية فى الزمان والمكان .وكانت تلك المدة القليلة التى عاشها الرسول eبعد فتحمكة مبدأ دخول الناس فى دين الله أفواجاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذاالأمر سينمو ويزيد ، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ، ويخضع لها الأمم وقد بشرهابذلك . كل هذا كان مانعا من وضع نظام محدد للشورى يصلح للأمة الإسلامية فى عامالفتح وما بعده من حياة النبى e، ولايصلح فى العصر الذى يتلو عصره إذ ستفتح الممالك الواسعة ، وتدخل شعوب جديدة فىالإسلام ؛ لأنه لا يمكن أن تكون النظم الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن ، ولا يمكنأيضا أن يكون النظام الصالح لحال العرب فى بساطتهم صالح لهم بعد ذلك أو صالحلغيرهم ، فكان الأحكم أن يترك النبى عليه الصلاة والسلام للأمة أن تصنع النظامالصالح لها طبقا لمقتضيات العصر ومتطلبات ظروفها .


    ثانياً :أن النبى صلوات الله وسلامه عليه لو وضع نظما مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمنلاتخذها المسلمون نصا ثابتا ، وحاولواالعمل بها فى كل زمان ومكان ، وما هى من أمر الدين ، ولأصبح من الصعوبة إقناعالأمة بأنه يجوز لها أن تتصرف فى هذه النظم ، بحسب المصلحة .


    كيفية إبداء الرأي والأغلبية المطلوبة :


    أما عنكيفية إبداء الرأي وعن الأغلبية المطلوبة في اتخاذ القرار قد قرر الإسلام مبدأالشورى لأنه من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل، وتقرير هذا المبدأ قد قصد به أن يكون توجيها للمسلمين لمراقبة الحكام ومحاسبتهموالحد من سلطانهم .


    أما أساليبتنفيذ المبدأ وفنون تطبيقه ، فإنه مما يتطور حتما مع تطور أساليب المعيشة وفنونالحياة الجماعية بصفة عامة ، دون أن يكون فى هذا التطور ما يغير من مضمون المبدأأو يضيف إليه ، ولذلك ترك الإسلام أمره لأولى الأمر والرأى فى الجماعة الإسلاميةينظمونه بما يتفق مع ظروفهم ، وفى حدود استطاعتهم .


    فالشورىالتى كان يطبقها الرسول eبسماعهرأى من حوله من أصحابه أو يطبقها خليفته أبو بكر حينما يخرج على باب خبائه ، ويقول: أشيروا على أيها الناس ، هى من ناحية الجوهر لا تختلف عن استفتاء الشعب الذىتنظم له قوانين الانتخاب وصناديقه .


    الشكلإذن لا يهمنا ، وليس هو مما نطيل الوقوف عنده ، لأن الأمة تستطيع أن تنظم كيفيةإبداء الرأى على النحو الذى تراه محققا للغاية المرجوة من الشورى .


    إنماالذى يهمنا أن نقرره هنا هو أنه لا يجوز ولا يتفق مع مبادىء الإسلام أن تنقسمجماعة المسلمين عند إبداء رأيها إلى جماعات وأحزاب ، بل على كل منهم أن يبدى رأيهبصفته الفردية ، فالإسلام يأبى أن يتحزب أهله شيعا وأحزابا ، ويكون كل فريق معحزبه سواء أكان على حق أو على باطل ، بل الذى يقتضيه الإسلام أن يدور كل منهم معالحق حيث دار وأن لا يحيد عنه .


    وأوضح مثال على ذلك ، واقعة أسرى هوازن ، إشارةالنبى eإلى((العرفاء)) هو حديث عن الإجراءات ، وكيفية استطلاع رأى الناس ، وتفيد هذه الواقعةأن على كل فرد ممن تعلقت به أن يبدى رأيه بكامل حريته .


    هذا منناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الشورى يجب أن تقوم على الإخلاص لله ، وطاعة المسلمين، دون نظر إلى المنافع الذاتية ، والعصبيات القبلية ، أو الإقليمية ، ولا يصح أنتقوم الشورى على كذب ، أو غش ، أو خداع ، أو إكراه ، أو رشوة ، فكل ذلك يحرمهالإسلام لذاته ، ومن يفعله فى الشورى فإنما هو خائن لله ولرسوله ، وخائن للأمانةالتى حمله الله إياها فوق كذبه أو غشه ؛ لأن الشورى أمانة فى عنق صاحبها ،والمستشار مؤتمن كما يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فإن خان أمانته فقد خانالله ورسوله .


    - وأماعن الأغلبية المطلوبة فإنه ليس من الضرورى أن تجمع الأمة على رأى واحد ، وإنماالرأى ما اتفقت عليه أكثرية المشيرين ، ويعبر عن أكثرية المسلمين بجماعتهم بدليلحديث حذيفة المشهور الذى أخبر فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بما يكون من الفتنفى الأمة : قال حذيفة : فما تأمرنى إن أدركنى ذلك ؟ قال : ((تلزم جماعة المسلمينوإمامهم)) قال قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : ((فاعتزل تلك الفرقكلها)) .


    فالجماعةفى هذا الحديث ليست كل المسلمين وإنما هى أكثر المسلمين ، وقد اعتبرت على حق دونغيرها ، وأساس ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ((لا تجتمع أمتى على ضلالة)). ، و ((يد الله مع الجماعة .. فمن شذ شذ فىالنار)) .


    كيف نصل إلي قرار الشوري :


    إذااجتمعت كلمة أهل الشورى على رأى واحد ، فلا خلاف على ضرورة الالتزام بهذا الرأى .أما إذا اختلفوا وتفرقوا على أكثر من رأى . فبأى الآراء يؤخذ القرار .


    يرىالبعض فى هذه الحالة الأخذ برأى الأغلبية ، مستدلين بما حدث فى غزوة أحد من نزولالنبى eعلى رأىالأغلبية فى الخروج ، رغم أنه كان على خلاف رأيه e، وبأنرأى الأكثرية يكون أقرب إلى الصواب .


    بينمايذهب آخرون إلى عدم اعتماد رأى الكثرة دون تمحيص ، بل يجب فى هذه الحالة عرضالآراء المختلفة على الكتاب والسنة والأخذ بما يوافق الكتاب والسنة ، ومصلحة الأمة؛ لأن الله تبارك وتعالى يأمرنا برد الأمر المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة {فإنتنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيروأحسن تأويلا} .

    * * * *



    الخلاف بين رئيس الدولة ورجال الشوري :


    أما إذاحدث خلاف بين رئيس الدولة وأهل الشورى فالعمل هو الرد إلى الكتاب والسنة ، فإن وجدالحكم صريحا فى الكتاب والسنة وجب اتباعه ، ولا طاعة لأحد فى خلافه ، وإن لم يوجدالحكم صريحا ، فأى الآراء أشبه بكتاب الله ، وسنة نبيه eعُمِلَبه .


    أما إذالم يظهر الرأى الموافق للكتاب والسنة فبأى الآراء يأخذ القرار ؟


    هناكثلاثة اتجاهات :


    الأول : أنيأخذ الرئيس برأى الأغلبية ، وإن خالف رأيه كما كان من النبى eحيناستشار أصحابه فى الخروج للمعركة يوم أحد .


    الثانى : الأخذبرأى رئيس الدولة دون تقيد برأى الأغلبية أو الأقلية ، وذلك لأن رئيس الدولة مسئولومحاسب على عمله ، فيجب أن يمنح الحرية فى اتخاذ القرار الذى يراه ما دام أمراًاجتهادياً لا يخالف نصاً قطعياً ، ويصدق هذا على الأمور التى هى من صميم عملالرئيس والمسئول عنها ، أما الموضوعات التى يجب عليه أن يعرضها على أهل الشورى فلايستقيم الأخذ فيها برأيه وحده ، وإلا لما كان لعرضها فائدة .


    الثالث : عرضالخلاف على لجنة للتحكيم ، يكون لها سلطة التقرير وبيان أصلح الآراء .


    والواقع الذى سبق أن قررناه مراراً أن تشريع الشورى فى النظامالإسلامى يتسع لكل هذه الأفكار علي هذا التساؤل ، وعلينا أن نستخلص الإجابة مماسبق ذكره فهل هناك من مرزق بينهم يمكننا أن نأخذ منها ما يتلائم مع ظروفنا ، ونتركما لا يحقق لنا هذا التلائم .

    * * * *



    الفرق بين أهل الشورى وأهل الحل والعقد :


    وكثيرا ما نسمع عن ؟أهل الشورى وأهلالحل والعقد في موضوع الشورى فللأمة أنتبقى من الأمور العامة ما لا بد فيه من شورى جمهور أفرادها ، ومن الممكن أن نطلقعليها ((شورى العامة)) ، أو ((الشورى العامة)).


    كما لها أن تفوض أو توكل من ينوب عنهافى الشورى فى بعض الأمور الأخرى ، ومن الممكن أن نطلق عليها ((شورى الخاصة)) ، أو((الشورى الخاصة)).


    والذى نراه أن صفات أهل الشورى-بقسميها العامة والخاصة- أعم وأوسع من صفات أهل الحل والعقد .


    فأهل الشورى العامة : يشترط فيهم مايشترط من حد التكليف الشرعى : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل .


    وأهل الشورى الخاصة : يشترط فيهمبالإضافة إلى ذلك : سعة التجربة ، والخبرة ، وأن يكونوا من أهل الكفاءات المتميزة، والعقول الراجحة ، والرأى الصائب .


    أما أهل الحل والعقد : فبالإضافة إلىشرائط أهل الشورى الخاصة : يشترط فيهم ما يشترط فى المجتهد من اكتمال العلمبالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ... إلى آخر ما ذكره الأصوليون فى شرائطالمجتهد .


    فأهلالحل والعقد داخلون فى أهل الشورى العامة ، بطبيعة الحال .


    كما يجوزاختيارهم ضمن أهل الشورى الخاصة ، لكن مع ملاحظة اختلاف نطاق المجالين .


    على أن السوابق التاريخية والتطبيقات العملية فى عهد الرسول eوالخلفاء الراشدين جاءت واسعة فضفاضة ، فتارة يكون المستشار واحدا بعينه ، منتدباأو متطوعا ([14]) ، وتارةيكون أهل الشورى اثنين (2)


    وتارة يكون أهل الشورى عدد يصعبحصره ، وقد يكونون جمهور المسلمين ، وقد يكون أهل الشورى جماعة منتخبين يمثلونجماهير المسلمين([15]) .


    وقد يكون المستشار امرأة ، خاصة فى الأمور التىتخص النساء ، وتكون المرأة فيها أكثر خبرة ودراية من الرجل (2)


    وقد يكون المستشار شاباً أوكهلاً ، وقد كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً (3) .


    والذى ينبغى أن نقرره هنا أن الشريعةبنصوصها وسوابقها التطبيقية لم تضع نظاما محددا للشورى ، وهذا من حسناتهاواحتياطها للمستقبل لأن تحقيق الشورى عملا مما يختلف باختلاف الزمان والمكان ،فتركه للأمة تنظمه حسب الظروف والأحوال هو السبيل الأقوم للشورى .


    وعلى هذا فالشورى فى منهاج الإسلامالسياسى تتسع لكل فكرة وكل نظام يحقق أعمال المشاورة ، فيجوز أن تقوم الأمةباختيار أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة ، على أن يشترط فى المرشح بعضالشروط العلمية التى تؤهله للمشاورة .


    ويجوز لرئيس الدولة مشاورة أهلالاختصاص فى موضوع اختصاصهم سواء كانوا من أهل الشورى المنتخبين ، أو من غيرهم .ويجوز أن تحدد سلفا الموضوعات التى يجب على رئيس الدولة عرضها على أهل الشورى فلايستطيع أن يبرمها بغير مشورتهم . ويجوز أن تعرض بعض المسائل على الأمة جميعها عنطريق الاستفتاء الشعبى (4) .



    1- فضلالخطاب في سيرة بن الخطاب صـ242 .
    2- المصدرالسابق صـ247 .

    1- متفق عليه

    1- متفق عليه .

    1- أنظر فضل الخطاب في سيرة بن الخطاب للصلابي ص243.
    2- آل عمران، آية :159 .

    1- عصر الخلافة الراشدةص90 .

    2- نفس المصدرص147 .

    3- عصر الخلافةالراشدة ص90.

    4- عصر الخلافةالراشدة ص90.

    5- السنن الكبرىللبيقي (9/29) نقلاً عن عصر الخلافة الراشدة ص90.

    6-الخلفاء الراشدون للنجار ص247.

    1- البيهقى بسند صحيح - مشار إليه فى فتح البارى (13 /354) ،والدارمى (1 /58). وابن قيم الجوزية : إعلام الموقعين ، (1 / 20-21 ).

    1- محمد حسين هيكل : الصديق أبوبكر ، ص281-282 ، ط 2 ، النهضة المصرية ، 1362هـ .


    1- د. أحمد شلبى : السياسة والاقتصاد فى التفكيرالإسلامى ، م س ، ص60-61 .
    2- محمد رشيد رضا : الخلافة ،ص32-33 ، مط المنار ، 1341هـ .
    3- ضياء الدين الريس ، النظرياتالسياسية الإسلامية ، م س ، ص232- 237 .





    1- كما كان الحباب بن المنذر فى بدر وسلمان الفارسى فى الخندق .
    2- كما كان السعدان فى الخندق .

    1- وهمالذين يسمون النقباء أو العرفاء - البخارى ك الأحكام ب26 العرفاء للناس ح رقم 7176 .

    2- كاستشارةعمر ابنته حفصة فى المدة التى تصبر فيها المرأة عن زوجها - تاريخ عمر بن الخطابص77 .
    3- البخارى - ك الاعتصام بالكتابوالسنة ب28 معلقا ج4 ص179 . والحديث موصول برقم 7286ب 2- نفس الكتاب .

    4- جمال أحمد المراكبى ، الخلافة الإسلامية، م س ، ص 202- 203 .





  20. #20
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة العاشرة )


    وفاة عمر




    لقد كان مقتل عمر رضي الله عنه نازلة كبري من النوازلالتي حلت بالمسلمين لقد كان اغتياله عملا إجراميا لا مثيل له قضى علي إمام عادلشجاع وخليفة ملهما قد أخذ بأيدي الأمة من نصر إلي نصر ووسع رقعة الدولة ونشرالإسلام خارج الجزيرة وقضي علي دولتي الفرس والروم ولم يكن أغتياله هذا إلي مؤامرةدبرها موالي الفرس إذ شعروا أن عمر بن الخطاب قد دمر بلادهم وأسر ذراريهم وسسبانساءهم وكانوا يشفقون لرؤية الأطفال من بني جنسهم يمشون في شوارع المدينة وينظرونإليهم وقلوبهم تفيض حسرة وألم وكان أبو لؤلؤة المجوسي مولي المغيرة بن شعبة منأكثر الموالي حقدا علي عمر حتى أنه كان إذ مر به الأطفال من أبناء جلدته مسحرؤوسهم بيده وبكى قائلا : ( إن العرب أكلت كبدي ) ([1]) .


    والغريب أن عمرفي أخر أيامه قد شعر بعظم التبعة وثقل المسئولية التي حمل أعبائها كخليفة وقائدللمسلمين وقد طلب الموت خوفا أن يقصر عن الرعية فعند سعيد بن المسيب رحمه الله انعمر بن الخطاب رضوان الله عليه كوم كومة من بطحاء وألقي عليها طرف ثوبه ثم استلقيعليها ورفع يديه إلي السماء ثم قال : (( اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فأقبضني إليكغير مضيع ولا مفرط )) وفي رواية فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات . (2)


    ويزعم الرواة أن النبي e رأي علي عمر قميصا فقال له : أجديد قميصك أم لبيس ؟ قال عمر : بلهو لبيس يا رسول الله . فقال له النبي e : ألبس جديدا وعش حميدا ومت شهيدا . وليعطيك الله قرة عين فيالدنيا والآخرة .


    فمن أجل ذلك كان عمر يسألالله شهادة في سبيله ووفاة في بلد نبيه فلما سئل كيف يعطيه الله الشهادة ويميته فيبلد النبي . قال : الله يأتي بها أني شاء . وقد استجاب الله له فمات شهيدا فيمدينة النبي e . قتله رجل مجوسي من العجم . وقتله في أحبالأوقات إلي الله عز وجل . وهو الوقت الذي تؤدي فيه صلاة الفجر ، والله عز وجليقول لنبيه e . من سورة الإسراء .} أقم الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا { (3) .


    وكان عمر رحمه الله يتمني رحمة ربه ويرجوه أن يخرجه منالدنيا غير مضيع لحقوق الناس ولا مفرط لحق الله فكان أقصي ما يتمناه ان يخرج منالدنيا كفافا لا له ولا عليه . ([2])


    وكان عمر رحمه الله تواقا للشهادة ويتمني أن يفوز بهافعن حفصة رضي الله عنها قالت سمعت عمر رضوان اله عليه يقول : ( اللهم قتلا فيسبيلك ووفاة في بلد نبيك ) قلت : وأنى يكون ذلك ؟ قال : يأتي الله به إذا شاء .(2)


    عن معدان بن أبي طلحة العمري أن عمر بن الخطاب رضوانالله عليه قام علي المنبر يوم جمعة فحمد الله وأثني عليه ثم ذكر النبي e وذكر أبابكر رضوان الله عليه ثم قال : رأيت رؤيا لا أرها إلا بحضور أجلي رأيت كأن ديكانقرني نقرتين فقصصتها علي أسماء بنت عميس فقالت : يقتلك رجل من العجم . (3)


    وكان أغتيالعمر مؤامرة دبرت بين موالي الفرس الحانقين علي عمر الذي دمر بلادهم وشرد نساءهموأطفالهم وقد دبرت تلك المؤامرة بين أطراف ثلاثة من الفرس هم : أبو لؤلؤة المجوسيوالهرمزان وجفينة ، فقد روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما رأي الخنجرالذي قتل به عمر قال : رأيت هذا أمس مع الهرمزان وجفينة ، فقلت ما تصنعان بهذه السكين فقالا : نقطع بها اللحم ، فإنا لا نمساللحم . (4)


    ويقول عبد الرحمن بن أبي بكر: مررت علي أبي لؤلؤة قاتل عمر ومعه جفينة والهرمزان وهم نجوي ، فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصاب ونصابه في وسطه ، فانظروا ما الخنجر الذي قتلبه عمر ، فوجدوه الخنجر الذي نعته عبد الرحمن .


    تأكد الأمر لدي المسلمين ،ولم يعد هناك ما يريبهم في أنها مؤامرة دبرت بين هؤلاء الثلاثة : الهرمزان وجفينةوأبو لؤلؤة .


    ويقول الدكتور محمد السيدالوكيل إن هذا الثالوث الذي تشير إليه أصابع الاتهام لا يخلو ذكره من علاماتاستفهام وترتسم أمام عيني الباحث المحقق ، وتستوقفه ملحه عليه في طلب الإجابة عنهذا الاستفهام .


    ذلك لأن شهادة عدلين من كبارالصحابة لا يمكن للإنسان أن يصرف النظر عنها دون أن يكون هناك أدلة قاطعة مبرئةللمتهمين ، والحق أن لكل منهم قصة تدينه وتضعه بغير تردد في قفص الاتهام حتى تثبتبراءته .


    فأما الهرمزان فهو رجل شديدالتعصب ضد العرب ، وقد عاهده المسلمون مرات ، وفي كل مرة كان ينقض العهد عندماتسنح له سانحة ، ولم يدخل في الإسلام إلا حينما رأي السيف فوق هامته .


    جيء به بعد استسلامه إليالمدينة ليقابل أمير المؤمنين حسب طلبه فرأي عمر نائما في المسجد فسأل أين حجابه ؟وأين حراسة .


    فقالوا : ليس له حجاب ولاحرس ، فقال : ينبغي أن يكون نبيا .


    فقالوا : بل يعمل عملالأنبياء . ([3])


    واستيقظ الخليفة فرأيالهرمزان فقال : الهرمزان ؟ قالوا : نعم


    فنظر عمر إليه وتأمل مايلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ ثم قال : أعوذ بالله من الناروأستعين به ، الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه ، والتفت إلي الهرمزان وقال: يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله ؟ وسأله الخليفة ، ما عذرك وماحجتك في إنقاضك مرة بعد مرة ؟ وأجاب الهرمزان ، وأخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك . فقال عمر : قل ولا تخف ذلك ، ولكن الهرمزان لميقل شيئا .


    واعتبر الهرمزان قول عمرتأمينا له من القتل ، وغضب عمر لذلك واعتبرها خديعة خدعه بها الهرمزان ، وقال :خدعتني ، والله لا أنخدع إلا أن تسلم . وعندئذ أسلم الهرمزان .


    لا شك أن الإسلام الذي أعلنهالهرمزان كان فقط لحقن دمه حتى يقول الطبري : فأيقن – الهرمزان – أنه القتل أوالإسلام ، فأسلم . (2)


    وذلك لا يمكن أن يكون هوالإسلام الذي يمنع صاحبه من ارتكاب تلك الجريمة ، بل يدل تمرده المتكرر ، ونقضه العهد مرة بعد مرةعلي ما ينطوي عليه قلبه من الخبث والشرللمسلمين .


    والرجل الآخر جفينة فقد كانرجلا نصرانيا ، وكان صديقا لسعد بن أبي وقاص أقدمه المدينة لما كان يستملحه منحديثه ، وكان جفينة يعلم الكتاب بالمدينة .


    ورجل يعيش في المدينة بينالمسلمين ، ويخالط كبار الصحابة ثم يظل متمسكا بدينه الباطل ، ولا يري الحق الذيظهر لكل ذي عينين لا يستبعد أن يشترك في هذه المؤامرة بل يستطيع الإنسان أن يقطعبذلك فهو عدو للإسلام ويغيظه كل تفوق للمسلمين . ([4])


    وأما أبو لؤلؤة (2)، فهو الذي كان يبكي حنينا لأسري نهاوند ، وهو الذي هدد عمر حينما قال له :لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس . كما وضحنا سابقا ، وقد شعر عمر ان الغلام يتوعدهوبعد ليالي مر هذا العبد علي عمر فدعاه وقال ألم أحدث عنك أنك تكون لو شاء لصنعترحى تطحن بالريح ؟ فألتفت العبد ساخطا عابسا إلي عمر ومع عمر رهط من الناس فقال :لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس فلما ولي العبد أقبل عمر علي الرهط وقال لهم :أوعدني العبد آنفا فلبس ليالي ثم حصل علي خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه فكمن فيزاوية من زوايا المسجد في غلس السحر فلم يزل هنالك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاةالفجر – وكان عمر يفعل ذلك فلما دنا منه عمر وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات ، إحداهنتحت السرة قد خرقت الصقاقين وهي التي قتلته ثم انحاز أيضا علي أهل المسجد فطعن منيليه حتي طعن سوى عمر أحد عشر رجلا ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين أدركه النزف : ((قولوا لعبد الرحمن بن عوف فيصل بالناس )) ثم غلب النزف حتي غشي عليه .


    قال ابن عباس : (( فاحتملتعمر في رهط حتي أدخلته بيته ثم صلي بالناس عبد الرحمن بن عوف فأنكر الناس صوت عبدالرحمن .


    قال ابن عباس : فلم أزل عندعمر ، ولم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فلما أسفر الصبح أفاق فنظر في وجوهنا فقال :أصلي الناس ؟ قلت : نعم فقال : لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ ثم صليثم قال :


    (( أخرج يا ابن عباس فسل منقتلني ؟ )) فخرجت حتي خرجت من باب الدار فإذا الناس مجتمعون جاهلون بأمر عمر فقلتمن طعن أمير المؤمنين ؟ قالوا :


    (( طعنه عدو الله أبو لؤلؤةغلام المغيرة بن شعبة )) . قال : فدخلت فإذا عمر يبد في النظر يستأني خبر ما بعثنيإليه فقلت : ( أرسلني أمير المؤمنين لأسأل من قتله فكلمت الناس فزعموا انه طعنهعدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ثم طعن معه رهطا ثم قتل نفسه فقال :الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ما كانت العربلتقتلني. ([5])


    ومن يتأمل سير الأحداث لايستطيع إلا أن يسلم لتلك المؤامرة بأطرافها الثلاث : الهرمزان وجفينة وأبو لؤلؤةالمجوسي ، وإذا كان ابن كثير ينص علي ان الهرمزان قد حسن إسلامه وكان لا يفارق عمرحتى قتل إلا أنه متهم كما يقول الكثيرون بممالأة أبي لؤلؤة هو وجفينة فابن كثيرينفي التهمة عن الهرمزان ودليله في ذلك أنه كان ملازم لعمر وإن كان هذا لا يصلحدليلا علي حسن إسلام الهرمزان بل يمكنناالقول انه كان يلازم الخليفة عمر ليعرف مخارجه ومداخله ويدرس الوقت المناسب لتنفيذالمؤامرة وبلا شك فقد أفاد أبو لؤلؤة كثير حيث أختار له أفضل الأوقات التي يكونفيها عمر بعيدا عن ذاته قريبا من ربه فما إن وقف واستقبل القبلة وذهب بفكره مع الله إلا ونهال عليه عدو اللهبخنجره .


    وربما يقول قائل أن عمر بنالخطاب كان سببا في اندفاع أبي لؤلؤة لقتله فنقول أيضا أن عمر بن الخطاب حينماجاءه يشكوه من كثرة الخراج عليه فوجد أن ذلك الخراج مناسبا لأنه يجيد أكثر من عمليجيد النجارة والحدادة والنقاشة فهو يكسب كثيرا ويمكنه دفع الخراج إلي سيده دونمشقة فالخراج ليس سببا دافعا لقتل عمر ولكن الدوافع الخفية كانت وراء تلك الجريمة البشعة وهي دوافع الحقد علي عمر بنالخطاب الذي كثر ملك كسري وسبا نساءهم وأطفالهم .


    ولنعد إلي عمر بن الخطاب بعدذلك الطعن المميت لنعيش معه ساعاته الأخيرة قبل أن يلفظ الحياة .


    - لن تنسه الشدة عن إقامةالصلاة فقد أختار عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس وقد أصابته غشية فلما أفاق منهاوقد اسفر الصبح نظر فيمن حوله وقال أصلي الناس . فقالوا : نعم فقال : لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعى بوضوءفتوضأ ثم صلي وجرحه ينزف .


    - وكان يهمه أن يعرف قاتلهفكلف ابن عباس ليسأل الناس من طعن أمير المؤمنين فسألهم فقال : عدو اللهأبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ودخل بن عباس علي عمر فأخبره الخبر فقال الحمد للهالذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط . ما كانت العرب لتقتلني.([6])


    - قال عمر أرسلوا أليا طبيباينظر إلي جرحي هذا فأرسلوا إليه طبيبا فسقي عمر نبيذا فشبه النبيذ بالدم حين خرجمن الطعنة التي تحت السرة فدعوت طبيبا آخر من الأنصار فسقاه لبنا فخرج اللبن منالطعنه أبيض فلما رأي عمر بياضه أحسن بدنو أجله وأقترابه من آخر لحظات حياته وتذكرهول الموقف وسؤال ربه له عما استرعاه فبكي حتى أبكي من حوله من الصحابة ، وقال :هذا حين ، لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لأفتديت به من هول المطلع .


    قال الصحابة : وما أبكاك إلاهذا ؟ قال : ما أبكاني غيره . فقال ابنعباس : يا أمير المؤمنين ، والله إن كان إسلامك لنصرا ، وإن كانت إمامتك لفتحا ،والله لقد ملأت إمارتك الأرض عدلا ، ما من اثنين يختصمان إليك إلا انتهيا إلي قولك. قال : فقال عمر : أجلسوني .


    فلما جلس قال لابن عباس :اعد علي كلامك . فلما أعاد عليه قال أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه ؟ فقال ابنعباس : نعم . ففرح عمر بذلك وأعجبه.(2)


    ولعل شهادة عبد الله بن عباسالرجل الصالح لعمر بن الخطاب فلعلها تكون مقبولة عند الله فالمؤمن إذ شهد للمسلمبالخير كان من أهله فكانت تلك الشهادة بمثابة طمأنينة لعمر وتهدئه من روعه . فقال له الطبيب : يا أمير المؤمنين أعهد فقالعمر : صدقني أخو بني معاوية ولو قلت غير ذلك لكذبتك قال : فبكي عليه القوم حينسمعوا فقال لا يبكي علينا من كان باكيا فليخرج ألم تسمعوا ما قال رسول الله e ؟ قال : (( يعذب الميت ببكاء أهله عليه )) .(3)


    وكان عمر رحمه الله يخاطبابن عباس بعدما قال له قاتلك أبو لؤلؤة فقال عمر ( نعم قاتله الله لقد أمرت بهمعروفا ) الحمد الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبانأن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس رضي الله عنه أكثرهم رقيقا فقال : إن شئتفعلنا . أي قتلناهم قال : تكذب بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم . (4)


    - ثم أهم عمر أمر الدين الذيعليه فقال لابنه عبد الله يا عبد الله بن عمر أنظر ما عليا من الدين فحسبوه ووجدوهستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفى به مال آل عمر فأديه لهم من أموالهم وإلا فسلفي بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلي غيرهم([7]) .


    قال عبد الرحمن بن عوف : ألاتستقرضها من بيت المال حتى تؤديها ؟ فقال عمر : معاذ الله أن تقول أنت وأصحابكبعدي أما نحن فقد تركنا نصيبنا عمر فتعزوني بذلك ، فتتبعني تبعته ، وأقع في أمر لاينجيني إلا المخرج منه .


    والتفت إلي ابنه وقال :اضمنها ، فضمنها ، ولم يدفن عمر حتى أشهد بها ابن عمر علي نفسه أهل الشوري وعدة منالأنصار ، وما مضت جمعة بعد دفن عمر حتي حمل ابن عمر المال إلي عثمان بن عفان ،وأحضر الشهود علي البراءة بدفع المال (2) .


    - وقد أنشغل عمر بأمر مدفنهوكان قد استأذن أم المؤمنين عائشة في أن يدفن بجانب صاحبيه فأذنت له فقال لأبنهأنطلق إلي عائشة أم المؤمنين وقل لها : يقرأ عمر عليك السلام ولا تقل أميرالمؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن معصاحبيه فمضي وسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال : يقرأ عليك عمر بنالخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت : أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم علينفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال : ارفعوني فاسنده رجل إليه فقال: : ما لديك قال : الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال : الحمد لله ما كان شيء أهمإلي من ذلك فإذا أنا قضت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت ليفأدخلوني وإن ردتني فردوني إلي مقابر المسلمين وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساءتسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجتداخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل . (3)


    وكان عمر في حاجة إلي أنيعرف هو أحد من البدريين المهاجرين والأنصار قد عرف أمر تلك المؤامرة فطلب من ابنعباس أن يخرج إليهم وهم وقوف علي بابه فسألهم هل ما حدث لعمر كان عن ملأ ومشورة ؟فقال القوم لا والله ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا . (4) فطمأنت نفس عمر فوضع رأسه علي الأرض يستقبلالموت في ذلة لربه حتى يعفوا عنه فدخل عثمان بن عفان ورفع رأس الخليفة ووضعها فيحجره فقال له عمر أعد رأسي في التراب ويل بي وويل لأمي إن لم يغفر الله لي .(5)


    ويري بن الأثير في تاريخهانه قال لأبنه عبد الله خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله ينظر إليفيرحمني([8])


    أما عن تكفينه فقد طلب منهابنه أن يقتصدوا في كفنه وأن يقصدوا في حفرته ولا تخرجن معه امرأة ولا يذكوه بماليس فيه فإن الله هو أعلم به وإذا خرجوا به فيسرعوا في المشي فإنه لم يكن عند اللهخيرا فقد قدموه إلي ما هو خير له وإن كان علي غير ذلك فقد ألقوا عن رقابهم شرايحملونه (2) .


    وقد روي عن عبد الله بن عمررضوان الله عليه أن عمر غسل وكفن وصلي عليه فكان شهيدا ويكون بذلك قد أعطانا حكماجديدا فالشهداء لا يغسلون وإنما يدفنون بهيئتهم وقد بشر الرسول عمر بأنه سيموتشهيدا وطلب عمر أن يغسل فبين بذلك نوعين من الشهداء ، شهداء الميدان وهم الذين لايغسلون بينما شهداء الدنيا هم الذين يغسلون .


    وكان عمر رضي الله عنه لايريد أن يستخلف إلا ان ابنه عبد الله قد اقنعه بذلك . فعن عبد الله بن عمر انه قال: دخلت علي حفصة ونوساتها ( ضفائرها ) تقطر ماء فقالت : علمت أن أباك غير مستخلف ؟قلت : ما كان ليفعل ، قالت : إنه فاعل . (3)


    فحلفت أن أكلمه في ذلك ،فغدوت عليه ولم أكلمه فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا حتى رجعت فدخلت عليه ، فسألنيعن حال الناس وأنا أخبره ، ثم قلت له إني سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أنأقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف . أرأيت لو أنك بعثت إلي قيم أرضك ألم تحب أنيستخلف مكانه حتى يرجع إلي الأرض ؟ قال : بلي قلت : أرأيت لو بعثت إلي راعي غنمك ،ألم تكن تحب أن يستخلف رجلا حتى يرجع ؟ فماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولمتستخلف علي عباده ؟ فأصابه كآبة ثم نكس رأسه طويلا ثم رفع رأسه وقال : إن اللهتعالي حافظ هذا الدين ، وأي ذلك أفعل فقد سن لي ، إن لم استخلف فإن رسول الله w لم يستخلف ، وإن استخلف فقد استخلف أبو بكر .


    فعلمت أنه لا يعدل أحدابرسول الله w وأنه غير مستخلف .


    قال عمر : قد رأيت من أصحابيحرصا شديدا ، وإني جاعل هذا الأمر إلي هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله wوهو عنهم راض ، ثم قال : لو أدركني أحد رجلين ، فجعلت هذا الأمر إليه لوثقتبه . سالم مولي ابي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح فإن سألني ربي عن أبي عبيدة قالت :سمعت نبيك يقول إنه أمين هذه الأمة ، وأن سالني عن سالم قلت : سمعت نبيك يقوك أنسالما شديد الحب لله قال : المغيرة بن شعبة : أدلك عليه ، عبد الله بن عمر .


    قال : قاتلك الله ! والله ماأردت الله بهذا ، لا أرب لنا في أموركم وما حمدتها فأرغب فيها لاحد من أهل بيتي ،إن كان خيرا فقد أصبنا منه ، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحدويسأل عن أمر أمة محمد w ، اما لقد جهدت نفسي ، وحرمتأهلي ، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد .


    وجعلها عمر شورى في ستة :عثمان ،وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص رضي اللهعنهم . وجعل عبد الله عمر معهم مشيرا وليس منهم ، وأجلهم ثلاثة أيام ، وأمر صهيباأن يصلي بالناس .


    وكان طلحة بن عبيد الله غيرموجود آنذاك بالمدينة حيث كان مشغولا ، خارجا ببعض أعماله . فدعا عمر القوم ، وقاللهم : إني قد ظهرت لكم في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقا إلا أن يكون فيكم ،فإن كان شقاق فهو منكم ، وقال إن قومكم إنما يؤمرون احدكم أيها الثلاثة (لعثمان وعلي وعبد الرحمن ) فاتق الله يا علي ، إن وليت شيئا من أمور المسلمين فلاتحملن بني هاشم علي رقاب المسلمين ، ثم نظر إلي عثمان وقال : اتق الله ، إن وليتشيئا من أمور المسلمين فلا تحملن بني أمية علي رقاب المسلمين . وإن كنت علي شيء منأمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحمل ذوي قرابتك علي رقاب الناس . ثم قال قوموافتشاورا فأمروا أحدكم .


    فلما خرجوا قال : لو ولوهاالأجلح ( علي ) لسلك بهم الطريق ، فقال ابنه عبد الله : فما يمنعك يا أميرالمؤمنين أن تقدم عليا ؟ قال : أكره أن أحملها حيا وميتا .


    وذكر عمر سعد بن أبي وقاصفقال : إن وليتم سعدا فسبيل ذاك ، وإلا فليستشره الوالي فإني لم أعزله عن عجز ولاخيانة .


    وقال عمر : أمهلوا ثلاث ليالفإن حدث بي حدث فليصل لكم صهيب – مولي بنيجدعان –، ثم أجمعوا أمركم ، فمن تأمر منكم علي غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.


    وأرسل عمر إلي أبي طلحةالانصاري قبل أن يموت بقليل فقال له : كن في خمسين من قومك من الانصار مع هؤلاءالنفر أصحاب الشورى فإنهم فيما احسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم علي الباب بأصحابك، فلا تترك أحدا يدخل عليهم ، ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم .وقم علي رؤوسهم ، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبي واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإناتفق أربعة ورضوا رجلا منهم وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلا منهموثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم ،فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلواالباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ، ولا يحضر اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ، اللهم أنت خليفتي فيهم. وقد لزم أبو طلحة أصحاب الشورى بعد دفن عمر حتي بويع عثمان بن عفان .


    ويبدو أن سيدنا عمر رضي اللهعنه سار في جعل الأمر بين رجال الشورى علي غير الطريق كان يتبعها وهي طريقة الحسمفي الأمر ، إذ أن الاختيار ربما يجعل الرجل يفكر في أمر لم يكن يخطر في باله منقبل ، بل ربما حدثت خلافات لم تكن لتحدث لو استخلف رجل معين فالكل يطعنون ،والجميع لا يرغبون في هذا الأمر ، هكذا الفطرة البشرية ترغب عند الاختيار ، وتطلبحين الترشيح .


    وربما ظن بعضهم أن هذه خطيئةوقع فيها سيدنا عمر ، ويحاولون تخفيف ذلك الخطأ بأنه كان مصابا ومن أجل ذلك حدث ماوقع ، إلا أن التخطيط للانتخاب ، ومحاولته معرفة سبب قتله ، والنظرة البعيدة إليالمستقبل مع إصابته لتدل علي مدي صحة تفكيره وسلامة عقله وعدم إضاعة أي شيء منالنظر لمصلحة المسلمين .


    فلا غرو أن يقول حافظإبراهيم متأثرا بهذا الوضع :


    يا رافعا راية الشورىوحارسها جزاك ربك خيرا عن محبيها


    لـم يلهك النزع عن تأييددولتها ولـلمنيـة آلام تعـانيـهـا


    رأي الجماعة لا تشقي البلادبـه رغم الخلاف ورأي الفرديشقيها


    وصية عمر رضي الله عنه للخليفة الذي بعده:


    أوصى الفاروق عمر -رضي اللهعنه- الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى اللهوحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيكبالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً،فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل الباديةخيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد علىفقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذاأدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذرمنه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشىالناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهمعلى فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمركحتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك وآمرك أن تشتد في أمرالله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهكمنه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في اللهلومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم،وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنياوالآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً،وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهلالذّمة، وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت مندلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن علمت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذيأمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تتركمعاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً،لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفةقبلك، فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله،الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدكالله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم،ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأئر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عندمحلّها فتفقرهم، ولا تجمّرهم في البعوث فينقطع نسلهم ولا يجعل المال دُولة بينالأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم هذه وصيتي إليك، وأشهدالله عليك، وأقرأ عليك السلام([9]).


    وعن القاسم بن محمد أن عمرلما طعن جاء الناس يثنون عليه ويودعونه فقال عمر ( رضي الله عنه ) : (( أبا لإمارة تزكوننيلقد صحبت رسول الله e وهو عني راض وصحبت أبو بكر رضوان الله عليه فسمعت وأطعت وتوفي أبوبكر وأنا سامع مطيع وما أصبحت أخاف علي نفسي إلا إمارتكم هذه )). (2)


    ولم يخل موت عمر حين توفي مننفع للمسلمين بإثبات حكم ديني له خطره . وقد روي الرواة هذا الأمر ملحين كأنهمعجبوا له ، وكأنهم أحسوا شيئا من غرابته . ذلك أن عمر غسل وكفن وكان المسلمون يعلمونأن الشهداء لا يغسلون ولا يكفنون وإنما يدفنون كهيئتهم حين يقتلون.


    وقد أبي النبي e أن يغسل شهداء أحد ، بل قال بشأن حمزة رحمه الله : لولا أن تجزعصفية – وهي أخت حمزة – لتركته نهبا لسباع الطير .


    وقد دفن شهداء أحد دون أنيسعي لهم في الكفن : لف حمزة رحمه الله في برد كان عليه . فكان إن بلغ رأسه لميبلغ رجليه ، وإن بلغ رجليه لم يبلغ رأسه . فأتموا ستر جسمه بشيء من ورق الشجر .وكذلك فعل بعثمان بن مظعون رحمه الله . ([10])


    ويقول الرواة : إن عمار بنياسر كان يقول في صفين : لا تغسلوني فإني مخاصم . وسمع المسلمون له فلم يغسلوهوإنما دفنوه كهيئته ساعة قتله .


    ولم يكن غسل عمر وتكفينه إلاعن أمره ، فهو قد أمر بالقصد في كفنه ، وأمر بألا يجعل في حنوطه مسكا ، فدل ذلكعلي أن الشهداء إنما يدفنون علي هيئتهم ساعة يقتلون ، إذا استشهدوا في ميدانالقتال .


    فأما إذا استشهد المسلم لأنعاديا أثيما عدا عليه فقتله ، فإنما يجهز كما يجهز غيره من الموتى . فيغسل ويكفنويصلي عليه . وكذلك كانت حياة عمر وموته مصدر نفع للمسلمين سلام الله عليك يا عمرطبت حيا وطبت ميتا .


    عن المقدام بن معد يكرب قال: لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة رضي الله عنها فقالت : يا صاحب رسول الله e : ويا صهر رسول الله e ويا أمير المؤمنين فقال عمر لابن عمر يا عبد الله أجلسني فلا صبرلي علي ما أسمع فأسنده إلي صدره فقال لها : (( إني أحرج عليك بما لي عليك من الحقأن تندبيني بعد مجلسك هذا فاما عينك فلن أملكها إنه ليس من ميت يندب بما ليس فيهإلا الملائكة تمقته . (2)


    والحقيقة ان موت عمر كانفجيعة كبرى لم يتوقعها المؤمنون فعن محمد بن الصباح قال : سمعت جريرا يقول : سمعتجدي يقول : لما جاءنا نعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الناس يقولون إن القيامةقد قامت .


    وقد روي عن جعفر بن محمد رضيالله عنهما عن أبيه قال : لما غسل عمر وكفن وحمل علي سريره وقف عليه علي فقال :والله ما علي وجه الأرض رجل أحب إلي أن ألقي الله بصحيفته مثل هذا المسجي بالثوب ([11]) .


    وعن ابن سيرين قال : كتب عمر إلي أبي موسي : إذا جاءك كتابي هذا فاعط الناسأعطياتهم واحمل إلي ما بقي مع زياد ففعل فلما كان عثمان كتب إلي أبي موسي بمثل ذلكففعل فجاء زياد بما معه فوضعه بين يدي عثمان فجاء ابن لعثمان فاخذ شيئا بذاته منفضة فمضي بها فبكي زياد فقال له عثمان : ما يبكيك ؟ قال : أتيت أمير المؤمنين بمثلما أتيتك به فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه حتى أبكي الغلام وإن ابنك هذاجاء فأخذ هذه فلم أر أحدا قال له شيئا ! )) فقال له عثمان : إن عمر كان يمنع أهلهوأقرباءه ابتغاء توجه الله وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله ولن تلقي مثلعمر ولن تلقي مثل ولن تلقي مثل عمر (2) .


    عن أنس بن مالك قال : قالأبي طلحة الأنصاري : والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمرنقص في دينهم وفي دنياهم .


    إنما كان مثل الإسلام أيامعمر مثل أمر مقبل لم يزل في إقبال فلما قتل أدبر فلم يزل في إدباره . (3)


    عن القاسم بن محمد عن عائشةقالت : من رأي ابن الخطاب علم أنه خلق غناء للإسلام كان والله أجودنا نسيج وحده قدأعد للأمور أقرنها .


    روي طارق بن شهاب قال : قالتأم أيمن يوم أصيب عمر رضي الله عنه اليوم وهي الإسلام . (4)


    وعن محمد بن سعد قال : طعنعمر رضوان الله عليه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرينودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين فكانت ولايته عشر سنين وخمسةأشهر وإحدي وعشرين ليلة وقال غيره عشر سنين وسته أشهر وأربعة أيام (5) وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة .



    1- أنظر طبقات بن سعد ج3 ص347 .
    2- مناقب أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص201 .
    3- سورة الإسراء الآية 78 .

    1- طبقات بن سعد ج3 ص288 .
    2- أخرجه مالك2/462 /34 . ورواه الطبراني في الأوسط 2816 .
    3- مناقب أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص204 .
    4- ابن سعد 3/350 .

    1- طبقات بن سعد ج3 ص284 .
    2- الطبري ج4 ص88 .

    1- جولة في عصر الخلفاء الراشدين للدكتور محمد السيد الوكيلص284 – 286 .
    2- كان عمر لا يأذن لمشرك قد بلغ حد الاحتلال لدخول المدينة حتي كتب لمغيرة بنشعبة وهو علي الكوفة يذكر له غلاما عنده صانعا ويستأذنه أن يدخله المدينة حيثيتميز بأنه يجيد أعمالا كثيرة فيها منافع للناس فهو حداد ، نقاش ، نجار فأذن لهودخل المدينة وفرض عليه المغيرة مائة درهم كل شهر فجاء أبو لؤلؤة إلي عمر يشتكيكثرة الخراج المفروض عليه وقال له عمر : ماذا تحسن من العمل فذكر له الأعمال التييحسنها فقال له عمر : ما خراجك بكثير فأنصرف ساخطا علي عمر ، مناقب أمير المؤمنينعمر بن الخطاب ص204 ، 205 .

    1- أخرجه بن سعد الطبقات ج3ص262،مناقب أمير المؤمنين عمر بنالخطاب لابن الجوزي ص205 ، 206 .

    1- أخرجه بن سعدالطبقات ج3ص262،مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص205 ، 206 .
    2- ابن سعد 3/354 وما بعدها .
    3- رواه البخاري ومسلم معا في الجنائز، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص206 .
    4- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص208 .

    1- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص208 .
    2- ابن سعد 3/358 .
    3- مناقب أمير المؤمنين عمر بنالخطاب لابن الجوزي ص209 .
    4- طبقات بن سعد 3/354 وما بعدها .
    5- المصدر السابق ص361 .


    1- الكامل ج3 ص52 .
    2- طبقات بن سعد ج3 ص359 .
    3- التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر ج2 194 .

    1- الطبقات لابن سعد (3/339)، الكامل في التاريخ (2/210) .
    2- أخرجه مسلم (1823) عن ابن عمر ، مناقب أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب ص213 .

    1- الشيخان صـ 241 .
    2- ابن سعد الطبقات ج3 ص362 .

    1- أخرجه بن سعد 3/283 ، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطابص233 .
    2- مناقب عمر ص232 .
    3- ابن سعد ج3 ص275 .
    4- مناقب عمر بن الخطاب ص237 .
    5- الطبري ج4 ص194 .


  21. #21
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    النوازل الكبري

    فـي عهـدي

    عثمـان وعلـي

    ­­

    عصر الفتنة والتمرد


    الجزء الثاني

  22. #22
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    دراسة تمهيدية


    أولا نبذة عنالشيخين



    1- أمير المؤمنين عثمان ذو النورين :


    عثمان بن عفان الذي امتدت خلافته من (23 - 35 هـ ) ثالث الخلفاء الراشدين،وهو أحد العشرة المبشرينبالجنة، ومن السابقين إلى الإسلام. وكنيته ذوالنورين. وقد لقب بذلك لأنه تزوج أثنتين من بنات الرسول : رقية ثم بعد وفاتها أم كلثوم.


    وينتمي إلي أشراف قريش فأبوه : عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بنعبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب‏ بن فهر بن مالك بن النضربن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.‏ وعفـّان هوابن عم أبي سفيان. يلتقي نسبه مع رسول الله في الجد الرابع من جهة أبيه‏‏‏. فهوينتمي بني أمية من قبيلة قريش.


    أما أمه فهي : أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بنقصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب‏ بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بنخزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأم أروى البيضاء بنتعبد المطلب عمة الرسول .‏‏ فأروى هي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم.


    ولد بمكة، كان غنيا شريفا في الجاهلية. وكان أنسب قريشلقريش. أنجبت أروى مرتين من عفان: عثمان وأخته أمنة. و بعد وفاة عفان, تزوجت أروىمن عقبة بن ابي معيط, و التي أنجبت منه ثلاثة أبناءو بنت: الوليد بن عقبة. خالد بن عقبة. عمرو بن عقبة. أم كلثوم بنت عقبة.


    أسلم عثمان في أول الإسلامقبل دخول محمد رسول اللَّه دار الأرقم، وكانت سنِّه قد تجاوزت الثلاثين.دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام فأسلم، ولما عرض أبوبكر عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمانواللَّه إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثانالتي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع‏؟‏ فقال‏:‏ بلى واللَّه إنها كذلك. قال أبو بكر‏:‏هذا محمد بن عبد الله قد بعثه اللَّه برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيهوتسمع منه‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏. وفي الحال مرَّ رسول اللَّه فقال‏:‏ ‏‏يا عثمان أجباللَّه إلى جنته فإني رسول اللَّه إليك وإلى جميع خلقه‏‏.‏ قال ‏:‏ فواللَّه ماملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنمحمدا عبد الله ورسوله.


    و كان عثمان أول مهاجر إلى أرض الحبشة فارا من بطش قريش ولحفظ دين الله وسلامته ثم تابعه باقي المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة وبذلك أصبح عثمان من اللذين شهدوا الهجرتين وقد كان منالأشخاص اللذين دعموا الإسلام وتحملوا الأذى في سبيله وبذلك عظمت مكانته .


    تزوج عثمان رقيةبنت رسول الله محمد وهاجرت معه إلى الحبشة وأيضاً هاجرت معه إلى المدينة وكانيقال‏:‏ أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وعثمان. ثم إنها مرضت وماتت سنة 2هـأثناء غزوة بدر فحزن عليها حزنًا شديداً فزوّجه الرسول من أختها أم كلثوم لذلك لقّب بذي النورين لأنه تزوج من بنتى رسول اللهمحمد. وكان رسول اللَّه يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه ودماثة أخلاقه وحسن عشرته وماكان يبذله من المال لنصرة المسلمين، وبشّره بالجنة كأبي بكر وعمر وعلي وبقيةالعشرة، وأخبره بأنه سيموت شهيدًا.


    ‏استخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته ذات الرقاع والتي وجهت إلي غطفان،وكان محبوبًا من قريش، وكان حليمًا، رقيق العواطف، كثير الإحسان‏.‏ وكانت العلاقةبينه وبين أبي بكر وعمر وعليّ على أحسن ما يرام، ولم يكن من الخطباء، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، حافظًا للقرآن، ولم يكن متقشفًا مثل عمر بنالخطاب بل كان يأكل اللين من الطعام‏ الذي لم يحرمه الله .‏


    أما عن عائلة عثمان فقبلإسلامه كان لعثمان زوجتان هما: أم عمرو بنت جندب و فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس. أم عمرو بنت جندب : انجبت منه: عمرو و خالد و أبان و عمر و مريم. وفاطمة بنت الوليد انجبت منه: وليد و سعيد وأم سعيد . وعمرو كان أكبر أبناء عثمان وفي فترة ما قبل الإسلام كان يعرف عثمان بأبي عمرو, و بعد إسلامه قد تزوج من: رقية بنت محمد ابنة الرسول, و قد أنجبت عبداللهبن عثمان, و لكنه توفي مبكراً, و كان يسمى بأبي عبدالله بعد إسلامه. و عندما توفيترقية تزوج من أختها: أم كلثوم بنت محمد ثاني بنات الرسول, و لم تنجبلعثمان, و بعد وفاة أم كلثوم, تزوج عثمان من كل من: فاختةبنت غزوان : انجبت له عبدالله بن عثمانالصغير, و قد توفي صغير السن وأم البنين بنت عيينة بن حصن: انجبت لهعبدالملك بن عثمان، وقد مات صغيرا. و رملة بنت شيبة : انجبت له عائشة و أم أبان و أمعمرو بنت عثمان.


    وزوجته نائلة بنت الفرافصة : ولدت له : أم خالد ،أم أبان الصغرى وأروى . وولدت له ابنته مريم كما قال ابن الجوزي وابن سعد ، وقالآخرون مريم ليست ابنتها. قال ابن الجوزي : (ومريم أمها نائلة بنت الفرافصة ) .


    فقد كان مقتل عمر بن الخطاب نازلة كبري فاجأت المسلمين وأحدثت ارتباكاشديدا في حسابات الدولة وأمورها الإدارية من عدة نواحي : منها سياسة عمر التي عرفتبالحزم والبأس والشدة ومراقبته الشديدة والمتواصلة لعماله والثأر منهم من أجل ضمانالعدل لرعيته وكما كان منهج عمر في حياته وفي سياسته قائما علي الزهد في الحياةوالتقرب إلي الله والتضييق علي نفسه وعلي أهله خوفا من الله وإنصافا للناس ولم لا! وهو القدوة والمثل الأعلى للمسلمين باعتباره أميرهم .


    كما ترك عمر الدولة وهي تموج بالأحداث التي تتطلب الأناة من ناحية وسرعةالبت من ناحية أخرى فهناك من البلاد ما كانت تتمرد وتتحامل علي الأمراء ويرفضونأميرهم مثل الكوفة والبصرة وقد كان عمر مهموما بأمر هؤلاء الولاة فقد روي عنه أنهقد ضاق بأهل الكوفة وتمردهم علي أمرائهم فكان يقول : من عذيري من أهل الكوفة أناستعملت عليهم القوي فجروه وإن وليت عليهم الضعيف حقروه . وأنتقل عمر إلي جوار ربهوكان علي الخليفة الذي بايعه المسلمون أن يتحمل تلك التبعة الثقيلة وما عسي أنتكون تلك التبعات إنها لتبعات ثقال وقد اكتنف عصر عثمان الخليفة الجديد عن عهد عمربعض التجديد في المنهج وفي سياسة الحكم وفي واقع الحياة فقد كان عثمان رضي اللهعنه قد تعود رغد الحياة منذ نعومة أظفاره فقد كان رجلا تاجرا ثريا ومع ثرائه فقدكان ينفق أمواله فيما يرضي ربه ويرضي نبيه فكان معطاءا مجوادا ينفق علي تجهيزالجيوش ويجهز الغزاة في سبيل الله ويوفر الموارد اللازمة لحياة المسلمين من أموالهالخاصة ونظرا لذلك فلم يكن لديه القدرة علي ان يعيش عيشة الخشونة والجفاف التي كانيعيشها عمر رضي الله عنه فلقد كان رحمه الله مثالا يتوافر فيه أعلي درجات الكمالقد يعجز الناس علي ان يصلوا إليه وقد أجهد نفسه لذلك جهدا عنيفا فكان يجادلهاويقرعها ويؤنبها كثيرا وقد أدرك عمر ذلك في أيامه الأخيرة قبل أن يترك الدنيابقوله : لقد جاهدت نفسي وحرمت أهلي وإني لأتمنى أن أخرج منها كفافا لا لي ولا عليما وزر ولا أجر أني لسعيد . ومن هنا فوسع عثمان علي نفسه وأقتضي به الكثير منالمسلمين فوسعوا علي أنفسهم وبدا لونا جديدا من الحياة يعيشه المسلمون في المدينة.


    فقد بدأت خلافة هذا الرجل محاطة بكثير من المشكلات وكانت تحتاج إلي حزمشديد وسرعة إنجاز لمواجهة تلك المشاكل فالملك يزدجر ملك الفرس يتربص بالمسلمينويتقرب اللحظة لاسترداد بلاده كذلك مشكلات الولاة التي أطلت بقرونها أمام عثمان بنعفان . مشكلات في مصر ومشكلات في الكوفة ومشكلات في البصرة ومشكلات في الإسكندريةأضف إلي ذلك المتمردين الذين ظهروا للنيل من الدولة الإسلامية والحط من شأنالخلافة والإسلام وذلك في محاولة لضياع هيبة الخلافة وقوتها فظهرت المؤامراتودبرها ابن سبأ وإتباعه في جميع الأمصار ما عدا المدينة التي كان بها مقرالحكم فقد استغل أعداء الإسلام ما أشتهربه عثمان من اللين ودماثة الخلق فقاموا بتلك الانتفاضات لا لينالوا من عثمان فحسبوإنما لينالوا من مركز الخلافة التي هي رمز قوة الإسلام وعزته آنذاك . ([1])


    وكانت هذه النوازل أو تلك الشدائد تمثل عقبات كبري وتحديات أمام الخلافةالإسلامية آنذاك والحقيقة أن المسلمين في خلافة أبي بكر وعمر كانوا إيجابيين لايستنيمون للنوازل وإنما كانوا يواجهونها ويقارعونها بكل شدة حتى تنفرج وتزول وهذاما شاهدناه عند الحديث عن النوازل في عصر أبي بكر وعمر . أما في عصر عثمان فقد تغير الحال شيئا ما ، فقدتغير نمط القيادة وتغير أيضا أسلوب الحكم وأنساح كبار الصحابة في الأمصار وبرزتمشكلات جديدة نتيجة لتطور الحياة لم تكن موجودة إبان أبي بكر وعمر فكان عليالخليفة عثمان أن يبتكر وان يجتهد ويجد حلولا لمواجهة هذه الشدائد التي قابلهاالبعض ورفضها البعض الأخر واعتبروا الخليفة خارجا عن الدين ومخالفا سياسة صاحبيهمن قبله أبي بكر وعمر . فلا غرو أنالنوازل كانت شديدة تأتي من كل جهة نوازل جاءت من خارج البلاد دبرها ملوك الفرسوملوك الروم ونوازل جاءت من داخل الأمصار المفتوحة دبرها بن السوداء عبد الله بنسبأ الذي أثار المسلمين ضد عثمان في الأمصار وأتي بهم إلي المدية ليحاصروا بيتالخليفة ومن ثم يقتلوه .


    والعجيب أن المسلمين قد استكانوا إزاء تلك النوازل ولم يواجهوها كماواجهوها إبان أبي بكر وعمر وقد نجم عن ذلك تفاقم الأمر وانقسام المسلمين ، وظهورالمتمردين علي السلطة الإسلامية العليا في المدينة المنورة ، وقد أثاروا الشائعاتوأحكموا المؤامرات التي زلزلت كيان الخلافة الإسلامية الناشئة آنذاك وهذه أمور قدفاضت وزادت إبان عصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان وإن كان ظهر بوادرها في أواخرحكم عمر بن الخطاب حين أحكم موالي الفرس خطتهم في قتلهأحك .


    أما عن الرخاء الذي عاشه عثمان بن عفان وعاشه المسلمون معه فهذا راجع إليطبيعة العصر الذي عاشه عثمان بن عفان هو عصر الرخاء والسعة وكثرة الأموال . وهذهالحال لم تكن موجودة إبان عصر النبي r .


    فقد أدرك الرسول r ما يعانيه أصحابه من قسوةالحياة والفقر فيصبرهم ويمنيهم بالأمل الذي سوف يطل عليهم حين تفتح خزائن الدنياوخيراتها وعاش أبو بكر ومن بعده عمر علي هذا النحو بعيدين عن زخارف الدنيا وفتنةالمال فكان عمر رحمه الله يمنع الصحابة من أن يهاجروا إلي الأمصار خوفا عليهم منفتنة الأموال أو يفتتن الناس بهم فتحمل خشونة العيش وحرم نفسه وأهله من مباهجالحياة قربانا إلي الله .


    فلما جاء عثمان واتسعت الفتوحات وأمتلئت أيدي الناس بالخيرات والأرزاق كانأثرها كبيرا علي سلوك الناس وعلي تصرفاتهم حيث أنتشر الرخاء وأقبلت عامة الشعب عليجمع المال وقد امتلئت بيوت المال بالأموال والسبايا وأصبح المجتمع يختلف عن مجتمعأبي بكر وعمر حيث أنتشر الترف وتعلقت القلوب بالحياة وتحول المجتمع عن طبيعتهالأولي فما المتغيرات التي طرأت علي المجتمع الإسلامي آنذاك ؟ :


    لقد حدث تغير في طبيعة وتكوين المجتمع البشري في الجزيرة العربية وكان يتكون المجتمع من :-


    أ- السابقون في الإسلام من الصحابة وظل أعدادهم في تناقص تدريجيا إما عنطريق الموت وإما بالاستشهاد في الحروب وقد توزع منهم ما بقي في الأمصار كالبصرةوالكوفة والشام ومصر بعد موت عمر .


    ب- سكان المناطق المفتوحة وهذه المناطق تشكل الأغلبية فقد نتجت من حركةالفتوحات وقد كان سكان هذه الأمصار تتسم أكثريتهم بالعجمة فهم أصحاب البلادالمفتوحة بينما الفاتحون كانوا عربا وقلة لذا كان سكان هؤلاء الأمصار لجهلهم وقلةفهمهم في الدين وللعصبية التي تشدهم شدا فكان أغلبهم يكره العرب ويحقدون علي قريشلمكانتها السامقة بين العرب جميعا ولا نعجب إذا كان سكان هؤلاء الأمصار كانت مرتعاللفتنة التي أحدثها ابن سبأ فيما بعد .


    جـ- ظهور جيل جديد لقد ظهر في المجتمع الإسلامي جيل جديد من الناس وهو غيرجيل الصحابة وهذا هو الجيل يعتبر في سماته وصفاته أقل من سمات الجيل الأول فقدتميز الجيل الأول من الصحابة بقوة الإيمان والشجاعة والفهم السليم لجوهر العقيدةالإسلامية وهذا الجيل الجديد كون مفهوما جديدا للحياة قد يكون مفهوما مختلفا عماسبق لجيل الصحابة في عصر الراشدين


    - ولعل هذا الخلط بين هاذين الجيلين وهو خلط غير متجانس جعل ذلك المجتمعمهيئا للهزات مستعدا للاضطرابات قابلا لتصديق الشائعات .


    - ولقد كان خروج كبار الصحابة من المدينة وتفرقهم في الأمصار أحدث ثغرة فيمجلس الشورى الذي كان يعتمد عليه من قبل أبو بكر وعمر رحمهم الله وكان عمر يحبسالصحابة يمنعهم من الخروج ليشاركوه الرأي والمشورة أما عثمان فقد سمح لهم بالهجرةفهاجروا إلي الأمصار المفتوحة وأخذوا فيها إقطاعيات وعاشوا حياة الترف وافتتنالناس بهم وافتتنوا بالناس من هنا لم يجد عثمان تلك الكوكبة من الصحابة بجانبهوكان من نتيجة ذلك اضطراب أحوال الأمصار ولم يجد عثمان ما يدعم رأيه وما يثبتفؤاده نحو اتخاذ القرارات ويقول في ذلكابن خلدون : ( لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك ونزل العرب بالأمصار لحلول مابينهم من البصرة والكوفة والشام ......... ووافق ذلك أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاتهبالأمصار والمآخذة لهم باللحظات والخطوات والاستبطاء عليهم بالطاعات ....... ويفيضون في النكير علي عثمان وفشت المقالة في ذلك .([2])


    لقد كان المجتمع مهيئا كماقلنا لقبول الأقاويل والشائعات وأصحاب الفتنة قد طعنوا في الأمراء والولاة بحجةالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي قادهم إلي ذلك بن السواء حيث أتخذ من تلكالدعوة ( الأمر بالمعروف ) ستارا أستمال به الناس إلي حركته ووصل الطعن إلي عثمان.


    ومن هذا المنطلق فإنه ينبغيعند دراسة النوازل التي ألمت بالمسلمين إبان خلافة عثمان أن نلاحظ أنها تختلف فينوعيتها وفي مواجهتها عن مواجهة النوازل إبان عصر الشيخين السابقين وسوف نعرض لأهمتلك النوازل التي واجهت عثمان بن عفان ونري كيف تصرف الخليفة تجاهها وهل قاومهاالمسلمون معه هذا ما سوف يتضح من الدراسة التالية .


    2- الإمام علي بن أبي طالب :


    علي بن أبي طالب رضي الله عنه – واسم أبي طالب عبد مناف – بن عبد المطلب –واسمه شيبة – بن هاشم – واسمه عمرو – بن مناف – واسمه المغيرة بن قصي – واسمه زيدبن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمةبن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان ([3]) .


    فهو ابن عم رسول الله e ويلتقي معه في جده الأول عبدالمطلب بن هاشم ، ووالده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي e ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي أول هاشمية ولدت هاشميا ؛ قدأسلمت وهاجرت ، وكان اسم علي عنده مولده أسد ، سمته بذلك أمه رضي الله عنها باسمأبيها أسد بن هاشم ، ويدل علي ذلك ارتجازه يوم خيبر .


    وكان أبو طالب غائبا ، فلما عاد ، لم يعجبه هذا الاسم وسماه عليا .


    - كنيته: أبو الحسن ، نسبة إلي ابنه الأكبر الحسن وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله e ويكني أيضا أبو تراب ، كناه بها النبي e .


    - مولده: اختلفت الروايات وتعددت في تحديد سنة ولادته ، وذكر ابن إسحاق أن ولادتهقبل البعثة بعشر سنين ، رجح ابن حجر قوله ، وذكر الباقر محمد بن علي قولين : الأول: كالذي ذكره ابن إسحاق ، ورجحه ابن حجر وهو أنه ولد قبل البعثة بعشر سنين ، وذكرالفاكهي ، بأن عليا أول من ولد من بني هاشم في جوف الكعبة ، وأما الحاكم فقال : إنالأخبار تواترت بأن عليا ولد في جوف الكعبة .


    وعلي رضي الله عنه ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأخو رسول الله e بالمؤاخاة ، وصهره علي فاطمة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها ،وأحد السابقين إلي الإسلام ، واحد العلماء الربانيين ، والشجعان المشهورين ،والزهاد المذكورين ، والخطباء المعروفين ، وأحد من جمع القرآن وعرضه علي رسول اللهe وعرضه عليه أبو الأسود الدؤلي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وعبدالرحمن بن أبي ليلي .([4])


    وهو أول خليفة من بني هاشم ، وأبو السبطين ، أسلم قديما ، بل قال ابن عباسوأنس وزيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجماعة إنه أول من أسلم ، ونقل بعضهم الإجماععليه .


    وأخرج أبو يعلي عن علي رضي الله عنه قال : بعث رسول الله e يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء ؛ وكان عمره حين أسلم عشر سنين ،وقيل : تسع ، وقيل ثمان ، وقيل : دون ذلك .([5])

    علي بن أبي طالبفي أحضان النبوة





    قال له رسول الله e : (( يا علي ، ألا أدلك علي خير أخلاق الأولين والآخرين ؟ )) قال : (( بلي يا رسول الله )) قال (( تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك )) .


    وأوصاه الرسول حين زوجه ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنهما ، قال (( يا علي ! لا تغضب ، إذا غضبت فاقعد وتذكر قدرة الله تعالي علي العباد ،وحلمه عنهم ، وإذا قيل لك : اتق الله فاترك غضبك عنك ، وارجع لحلمك )) .


    وعلمه الرسول أن : (( من كظم غيظاوهو يقدر علي إنفاذه ملأه الله إيمانا وأمنا ، ومن وضع ثوب جمال تواضعا لله وهويقدر عليه كساه الله تعالي حلة الكرامة )) .


    وعلمه e أن : (( من استأجر أجيرا فظلمه ولم يوفه أجره ، فأنا خصمه يوم القيامة . ومن أكنخصمه فأنا أخصمه ( أي أغلبه ) )) .


    علي هذه التعاليم التي تلقاها منذ نعومة أظفاره ، عاش علي ابن أبي طالب .


    ولكم عفا عمن ظلمه ، ووصل من قطعه ، وأعطي من حرمه !! ولكم كظم من غيظ ! ولكم ناضل لكي يوفي الأجراء أجورهم ، قبل أنيجف عرقهم !!


    وواجه بكل هذه الفضائل التي تعلمها من النبي عليه الصلاة والسلام عصرا شرساتنهار فيه قيم لتسود قيم جديدة !


    فهو عصر تضمحل فيه الإمامة بجلال تقواها ، لتنشأ فيه الملكية بأطماعهاوقبضها وطغواها !! حيث انتهت الخلافة الراشدة ، وبدأ الملك العضوض !! .


    وتروي فاطمة بنت أسد : (( بينا أنا أسوق هديا ([6]) ، إلي هبل ([7]) ، إذ استقبلني رسول الله e ، وهو يومئذ غلام شاب قبلالبعثة فقال لي ( يا أماه إني أعلمك شيئا فهل تكتمينه علي ؟).قلت: ((نعم )) .


    قال : (( أذهبي بهذا القربان فقولي )) : ( كفرت بهبل ، وآمنت بالله وحده لا شريك له ) . فقلت : ( أعمل ذلك لماأعلمه من صدقك يا محمد ) . ففعلت ذلك فلما كان بعد أربعة أشهر ، ومحمد يأكل معيومع عمه أبي طالب إذ نظر إلي وقال : ( يا أم مالك ! مالي أراك حائلة اللون ؟ ) . ثمقال لأبي طالب : ( إن كانت حاملا أنثي فزوجنيها ) . فقال أبو طالب : ( إن كان ذكرافهو لك عبد ، وإن كان أنثي فهو لك جارية وزوجة ) .


    فلما وضعته – في الكعبة – جعلته في غشاوة ، فقال أبو طالب : ( لاتفتحوهاحتى يجئ محمد فيأخذ حقه ) . فجاء محمد ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاما حسنا فشالهبيده ، وسماه عليا ، وأصلح أمره ، ثم إنه لقمه لسانه فمازال يمصه حتى نام . هذا هوما روته فاطمة أم علي عن مولده .


    كان الرسول - e - يعيش في كنف عمه أبي طالب ،فقد كفل محمدا وهو صبي يتيم منذ وفاة جده عبد المطلب ، وكان يعامل أبا طالب كمايعامل ابن أبا ، ويعامل فاطمة بنت أسد كما يعامل ابن بسر أماًّ !


    هكذا فتح علي بن أبي طالب عينيه أول ما فتحهما علي ابن عمه محمد الذي أصبحفيما بعد رسول الله ... e . منه تعلم أولي الكلمات ، وأولي الخطوات .


    وكان رضي الله عنه كثير التبسم ، ينزع أحيانا إليالسخرية ، ولكنها ليست سخرية الممرور المحروم من طيبات الدنيا ، بل سخرية من عرفالدنيا فزهد فيها ، وسما عليها ... فهي سخرية تريح القلب بحلاوة الدعابة ، ودفءالإيمان ، وتقنع العقل بان العظمة تنبع من الاستغناء عن الزخرف لا من استجداءالأبهة ! ......


    وكان قوي البنية ، عريض المنكبين ، ممتلئ الجسم ، عظيمالعينين ، كثير الشعر ، عريض اللحية ، ربعه في الرجال لا بالطويل ولا بالقصير فيزمن كان طوال رجاله في مثل قامة الجمل ، حتى ليقال أن من هؤلاء الطوال من كان يقبلامرأته وهي في هودجها علي ظهر بعير !! ومنهم من كان إذا ركب جواده كادت قدماهتمسان الأرض .....!


    وكان كرم الله وجهه ضخم عضلة الذارع ، ضخم عضلة الساقإذا أمسك بخصمه كاد يحبس أنفاسه . فما صارع أحدا إلا صرعه ، يتدفق بيانه كالسيل ،جذاب الحديث ، قوي الحجة ، ما جادل أحدا إلا أسكته كان يسرع في سيره ، وقد انكفأإلي أمام ، فإذا سار إلي الحرب هرول ... متشبها في مشيته بالرسول e ، الذي جعله أسوته منذ نشأ .


    وعندما تقدم به العمر ، دهمه الصلع ، وابيضت لحيتهالعريضة ، وما في رأسه من شعر ، واستعمل الخضاب مرة ولكنه تركه ، لأنه يخفي حقيقةشيبته ، ويخالف صراحة طبعه،ويغير مظهره !!


    ولأنه أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم ، ولأنه لزم الرسول e ، فقد كان يشعر إلي أغوار قلبه بكرامة الإنسان الذي علا عليالشهوات ، والتزم مكارم الأخلاق .


    حتى إذا شب محمد ، وتزوج من خديجة بنت خويلد ، ترك بيتعمه أبي طالب ليعيش في بيت الزوجية . ومع ذلك فقد ظل يبر عمه أبا طالب وزوجة عمةفاطمة ، ويرعي ابنهما عليا .


    نشأ علي بن أبي طالب إذن في حجر النبي e ، ولم يفارقه حتى اختاره الله إلي جواره ، وفي هذا يقول علي لقومه: (( تعلمون موضعي من رسول الله e ، بالقرابة القريبة ؛ والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليديضمني إلي صدره ، ويكفني فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرقه ، وما وجد لي كذبة فيقول ولا خطلا في فعل ، وكنت أتبعه أتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم منأخلاقه علما ، ويأمرني بهذا الاقتداء ) .


    وبهذا العلم وهذا الاقتداء ، لم يحن علي بن أبي وجههلصنم أو وثن قط ، فقد كرم الله وجهه ، فلم يحنه لغير الله تعالي ... وانفرد بهذهالخصلة إذ كان أول من أسلم من الذكور ، وأول من صلي منهم خلف رسول الله e .



    1- تاريخ الخلفاء ص_324.

    1- تاريخ بن خلدون ج2 صـ477 .

    1- ( الطبقات الكبرى ج3 صـ19 والبداية والنهاية ج7صـ333) .

    1- طبقات بن سعدج2 صـ337 ، الطبري ج4 صـ427 ، مروج الذهب ج3 صـ93 .

    2- تاريخ الخلفاءصـ198 ، 199 .

    1- ما يهدي إلي الكعبة من النعم .

    2- كبير آلهة المشركين وهو أول صنم نصب بمكة .


  23. #23
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    ثانيا طبيعةذلك العصر ( عصر الفتنة والتمرد )


    وكمافعلنا في عصري أبي بكر وعمر وجعلناهما عصرا واحدا او حقبة واحدة فإننا نتبع نفسالمنهج لحقبتي عثمان وعلي إذ إنني أري أنهما حقبة واحدة أو عصر واحد متميز بسماتهالخاصة التي تميزة عن عصر أبي بكر وعمر فإذا صح أن نطلق علي عصر أبي بكر عصرالاستقرار والتمكين ، فإننا نطلق علي عصري عثمان وعلي عصر الفتنة والتمرد والتذبذب.


    وهذا العصر قد استغرق سبعة عشرة عاما ابتدأ منذأن تولي عثمان الخلافة في عام 23هـ إلي أن قتل الإمام علي رحمه الله في عام 40هـ .والخليفتان من كبار صحابة الرسول ، والرعية أغلبهم من أصحاب النبي eأيضا وبعض التابعين ، ومن الظواهر المشتركة التي جمعت بين عصريعثمان وعلي :

    خلافة عثمانوعلي عصر واحد متميز


    (1)



    قد بدأت خلافة عثمان رضي الله عنه فينصفها الأول مستقرة هنيئة سعد فيها الناس وأثنوا علي خليفتهم بالثناء الحسن ولميقصر الخليفة أيضا في بذل أقصي جهده في إسعاد الناس وبث حياة الأمن والرغد والرفاهية. أما الشطر الثاني من خلافة عثمان رضي الله عنه فهي فترة اتسمت بالفتنة وعدمالاستقرار اشتد فيها القلق والانزعاج وبرزت ظاهرة تمرد أهل الأمصار علي الولاةوالخليفة .


    ويعدذلك الانزعاج والتمرد هو القاسم المشترك وظاهرة قد أكدت وجودها .


    وقد بدأت تلك الظاهرة تلوح في الأفقفي أواخر عصر عمر بن الخطاب رحمه الله فقد كان ذلك الرجل العظيم بعيد النظر واسعالفكر ، يخشي علي المجتمع الإسلامي من التلوث ، ويخاف عليه من عدم التجانس بوجودعناصر غريبة فيه ، تضيع معها الرقابة ، وتنتشر آراء متباينة بالاختلاط ، وتكثر فيهالإساءة والنيل من مقوماته فكان عمر رحمه الله ، يخشي الاختلاط مع من يأتون منخارج المجتمع العربي من المجوس وسبي القتال فقد كانوا يقيمون بأعمال يريدون بهاهدم الكيان الإسلامي والحط من شأن المسلمين ، لهذا فإنه منع من احتلم من هؤلاءدخول مدينة الرسول e ، إلا أن عددا من الفرس الذين دالت دولتهم قد أظهروا الإسلام ،ودخلوا المدينة ، ولا تزال عندهم من رواسب الماضي صلات مختلفة بعقيدتهم المجوسيةالقديمة ، وارتباطات بحكومتهم السابقة ، أو أنهم أظهروا الإسلام وأبطئوا المجوسية، وكانت لهم مخططات رهيبة تنطلق كلها من الحقد علي الخليفة الذي زالت دولة الفرسعلي يديه ، والكره للدين الجديد الذي أظهروا للناس أنهم دانوا به ، ولم تتهيأالفرص لبعضهم بعد للتفقه في الدين والإطلاع علي حقيقته وسماحته ، ومعرفة الخير ،وكان الحاقدون من الفرس الذين تقوضت دولتهم علي يدي عمر . وأصبح لا ملجأ لهميستقرون فيه إلا دولة الإسلام . وفوق كلهذا كانت هناك عناصر من يهود الذين أظهر بعضهم للإسلام عندما غلب علي أمرهم ،ووجدوا ألا سبيل للمقاومة ، وأنه من الأفضل لهم أن يقوموا بهدم الكيان الإسلامي منداخل الصف الإسلامي ، وقد أضمر هؤلاء الحقد علي الإسلام . والتقي المكر اليهودي معالمخطط المجوسي للعمل علي ضرب الإسلام بإثارة الفتن داخل المجتمع الإسلامي ، وقتلالقادة المسلمين الذين يتمكنون من قتلهم ، ويبدو أن النصرانية قد أدلت بدلوها فيهذا الميدان واشتركت في هذا الأمر .


    طلب المغيرة بن شعبة أمير الكوفة منأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ان يسمح لغلامه ( فيروز ) الذي يدعي ( أبا لؤلؤة ) بدخولالمدينة للعمل فيها خدمة للمسلمين حيث هو رجل ماهر يجيد عددا من الصناعات التيتفيد المجتمع وتخدم الدولة فهو حداد ونقاش ونجار ، فأذن له عمر . وكان أبو لؤلؤةخبيثا ماكرا يضمر حقدا ، وينوي شرا ، يحن إلي المجوسية ولا يستطيع إظهارها ،وتأخذه العصبية ولا يمكنه إبداءها ، فكان إذا نظر إلي السبي الصغار يأتي فيمسحرؤوسهم ويبكي ، ويقول : أكل عمر كبدي . وكان أبو لؤلؤة يتحين الفرص ، ويراقب عمروانتقاله وأفعاله ، ويبدو أنه قد وجد أن قتل الخليفة وقت الصلاة أكثر الأوقاتمناسبة له ، إذ يستطيع أن يأخذه علي غفلة منه . وقد تمكن منه إذ ضرب عمر بخنجرهوهو يدخل في صلاة الصبح .


    ومنذ ذلك الوقت أخذ يتزايد سبيالمسلمين من الأطفال فيدخلونهم المدينة كأرقاء وعبيد وأجراء ثم تكاثر أعدادهم في عهد عثمان رحمه الله وصاروا شوكةفي ظهر الدولة الإسلامية يدبرون المؤامرات ضد الخلافة وينشرون البدع والضلالاتويكونون الفرق والأحزاب لتمزق كلمة المسلمين كما سنعرف بعد .


    والعجيبأن أولئك المتمردين قد سيطروا علي حياة المسلمين في المدينة منذ النصف الثانيلخلافة عثمان فقد غصت بهم شوارعها وازدحمت بهم مساجدها وتحكموا في كل شيء حتىمنعوا الخليفة عثمان نفسه في أخريات حياته وقت حصارهم للبيت ان يصلي بالمسلمينجماعة وتجرأ وصلي أحدهم مكانه وعلي الرغم من هذا الاضطراب وتلك الفتنة فقد تميزعهد عثمان بن عفان بالفتوحات الكبري التي اتسعت شرقا وغربا وامتدت معها حدودالدولة خارج الجزيرة العربية وضمت العديد من القوميات والأجناس كالفرس والروموغيرهما كل هذا أدي إلي اختلاف شديد وتباين في أمور الدولة والمجتمع المسلم آنذاكفي الدولة في عصر عثمان وعلي رضي الله عنهما عما كان عليه الحال في عهدي أبي بكروعمر وإن كانت تلك الظاهرة قد بدأت في الظهور في أواخر عصر عمر كما قلنا ، إذ تغيروضع قريش الاجتماعي بين القبائل وسارت لها الرئاسة والمكانة المرموقة بين الناسجميعهم ، وقد أراد الحانقون علي العرب من الشعوبيين أن يحطوا من مكانتها وأنيهونوا من شأنها فهي قبيلة رسول الله e وأهل عشيرته وإذا نالوا منها فقد نالوا من الرسول e لذا كثر الطعن حول قريش .


    ودخل الكثيرون في الإسلام وحاول العجمأن يتكلموا العربية فأصابوها بكثير من اللحن كما جدت مشكلات أخري لم تكن موجودة من قبل وليس لها وجود في القرآنوالسنة فكان لابد من الاجتهاد والابتكار والتجديد وهذا هو الأمر الذي لم يألفهالصحابة وكثير من الناس من قبل إذ كانوا جميعا يسيرون علي الإقتداء التام بسنةنبينا محمد e وإذا حدثبعض المشكلات تتطلب الاجتهاد فكان عمر يجتهد هو وبعض الصحابة وخاصة علي بن أبيطالب في وضع حلول مناسبة لها ، ولكن عصر عثمان بدأ يختلف اختلافا بينا وأضطرالخليفة معه إلي الكثير من الاجتهاد وقد لمس ذلك إمام المسلمين عثمان رحمه الله ،فقد أرسل كتابه بعد توليه إلي عمالة وولاته يقول فيه ( أما بعد فإنكم إنما بلغتمما بلغتم بالاقتداء والإتباع ، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم ، فإن أمر هذه الأمةصائر إلي الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم : تكامل النعم وبلوغ أولادكم من السبايا ،وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن فإن رسول الله e قال : ( الكفر في العجمة فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا) فكان عثمان بن عفان أول من زاد في الاجتهاد والابتداع لصالح الأمة ولصالحالإسلام والمسلمين . وقد قام عثمان رضي الله عنه بالاجتهاد في كثير من الأمور التيضاقت بالمسلمين وسببت حرجا كثيرا للناس . ولكنه للأسف الشديد قوبل من المتمردينبهجوم عنيف واعتبروا تجديد عثمان مآخذ يؤاخذ عليها ، فمن أمثلة اجتهاده أنه حميالحمي وزاد في مساحته عما كان عليه أيام النبي e وأبي بكر وعمر وذلك لكثرة الدواب من الفتوحات ، وكذلك أحرقالمصاحف كلها وجمع المسلمون علي مصحف واحد عندما رأي الأمصار قد اختلفت في قراءتهحيث قدم حذيفة بن اليمان علي عثمان من الشام بعد فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعهأخلافهم في القراءة فجاء لعثمان وقال له يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أنيختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى . فهل حرق المصاحف وتوحيد المسلمين عليقراءة واحدة تعد نقيصة أم ميزة . ومن اجتهاده أيضا إتمام الصلاة الرباعية في منيإذ صلاها أربع ركعات وكان النبي e يصليها ركعتين ، وله مبرراته الفقهية والاجتماعية في ذلك . كذلكحينما زاد درجة في منبر النبي e عما كان عليه الرسول وأبو بكر وعمر ولا شك أنه كان مصيبا فياجتهاده فقد اتسع المسجد عما قبل فكان لابد أن يعتلي حتى يراه كل الجالسين ، إليغير ذلك من اجتهادات لصالح المسلمين اتخذ منها للأسف الشديد بعض المغرضينوالحاقدين من جماعة ابن سبأ مآخذ للتشويه علي عثمان وحولوا كل نعمة فعلها إلي نقمةشهروا بها . وقد حللنا هذه الابتكارات وأثبتنا أنه علي حق في جميعها حيث كانمجتهدا وقد أصاب في الكثير منها ولكن حقد الحاقدين كما قلنا من جهة وعدم استيعابالصحابة لهذا التجديد الذي لم يألفوه من جهة أخرى كل هذا أدي إلي اتخاذ تلكالاجتهادات والابتداعات إلي مآخذ هاجموا بها أمير المؤمنين عثمان رحمه الله .


    3- وعلي الرغم من ذاك التمرد وثورةالثائرين إلا أن الحياة قد ازدهرت في ذلك العصر ازدهارا عظيما إذا امتلأت بيوتالمال واكتظت بما فيها من أموال جاءت من الفتوحات الكبرى ومن ثم توسع المسلمون فيحياة الرغد والترف ومتع الحياة الطيبة التي لم يحرمها المولي سبحانه وتعالي ، وقدظهر ذلك في أخر عهد عمر وكانت النفوس تتطلع إلي المزيد فحقق الله رجاءها بولايةعثمان بن عفان إذ تغيرت الأحوال عما كانت عليه في أبي بكر وعمر فقد كان عثمان رضيالله عنه قد تعود منذ نشأته حياة هانئة ورغدة إذ كان صاحب تجارة تدر عليه أمولاطائلة فرأي عثمان أن يتمتع بطيبات الحياة طالما هي حلال لم يحرمها المنعم سبحانهوتعالي ومع ذلك فكان لا يسرف في التمتع اقتداء بصاحبيه فيروي انه كان يقبل علياللحوم وخاصة صغار الضأن وطيبات المأكولات يأكلها ويقدم منها للعامة فقد روي انعثمان كان يطعم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت ([1]) .


    فعثمان بن عفان لم يتغير عن صاحبيهفقد عاش عيشة الزهد والتقشف كما كان يعيشها أبو بكر وعمر ولكن عصره كان عصرالخيرات والأموال الفائضة التي نعم بها الصحابة وذاقوا من خلالها طيب الحياةوحلوها فأخذ الكثيرون منهم ينعمون بزينة الدنيا مجافين حياة الزهد والتقشف التيكان عليها عمر .


    كما كان عثمان رحمه الله لين الجانبالأمر الذي أطمع الناس فيه وطالبوه بأشياء كثيرة حتى تدخلوا في سياسة الدولةوطالبوه بعزل منها عزل الولاة ، فقد عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة وولي سعد بنأبي وقاص ، ثم عزله وولي الوليد بن عقبة ، ثم عزله وولي سعيد بن العاص ، ثم عزلهوولي أبا موسي الأشعري . وعزل أبا موسي الأشعري عن البصرة وولي عليها عبد الله بنعامر بن كريز . وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح . كماكان لينا مع الولاة أيضا فتطاول بعضهم عليه . فعثمان رضي الله عنه كان بطبعة لينا، وعمر بطبعه حازما . شديدا علي أمرائه وولاته . فقد روي الطبري : أن عمر رضي الله عنه جاءه مال ، فجلس يقسمه بين الناسفازدحموا عليه ، فأقبل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يزاحم الناس حتى خلص إليه ،فعلاه عمر بالدرة ،وقال : أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض فأحببت أن أعلمك أنسلطان الله لا يهابك ولعل تلك المفارقة بين شدة عمر ولين عثمان من ضمن أسباب تجرؤالناس علي عثمان رحمه الله .


    ومما يثير الإعجاب والتقدير لكل منالشخصيتين عمر وعثمان فإن الأول كان شديدا علي أهله ، فكان إذا نهي عن شيء جمعأهله فقال لهم : إني نهيت الناس عن كذا وكذا ، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظرالطير إلي اللحم ، فإن وقعتم وقعوا ، وإن هبتم هابوا ، إني والله لا أوتي برجلمنكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب لمكانه مني ، فمن شاء فليتقدمومن شاء فليتأخر ، أما سيدنا عثمان فقد كان لينا علي أهله وأقربائه كما كان ليناللناس جميعا ، بل الأولي والأحرى أن يكون ذا رفق بذي رحمه ، ويوم قامت الدولةالإسلامية كان ينفق ما شاء الله أن ينفق علي الدولة وتجهيز الجيوش ، وإعداد الغزو، فلما قامت الفتوحات ، وجاءت الغنائم والفيء ، وأصبحت الدولة بحالة غني وثراء التفتعثمان إلي أقربائه يعطيهم ويتقرب إليهم وبقربهم ، وهذا أمر محبب ومطلوب إن يصلالإنسان رحمه ، ولكن هذا اللين الزائد لهم قد أطمعهم فيه كما أنه ، ولي بعضهملقدرتهم علي العمل ، وكفاءتهم في الإمارة .


    وبصفة عامة فقد كان لين الجانب عندعثمان وكرم أخلاقه وفضله العظيم وبعده عن الشدة والبأس كان مطمعا لهؤلاء الثوارالمتمردين إذ طالبوا عثمان بأشياء ليس من حقهم أن يطلبوها مما جعلهم يتجرؤون عليهوتضيع هيبته وكرامته مع هؤلاء الأوباش الذين وصل بهم الحمق أقصاه فطالبوه بالعزلمن الخلافة وهذه سابقة خطيرة في تاريخ الإسلام .


    وقدتميز عصر عثمان وعلي رحمهما الله بمغادرة كبار الصحابة المدينة فقد هاجر البعض حيثسمح لهم عثمان بن عفان بالهجرة إلي الأمصار قبل الفتنته ، ثم هاجر عدد كبير منهمأثناء حصار بيته ، فقد أغضبهم ذلك الحصار القبيح ومنع المحاصرين الخليفة من الماء وإصرارهم علي قتله . فقد رأيهؤلاء الصحابة أن الأمر قد خرج من أيديهم وأنه لا يصح لهم البقاء في المدينة أثناءقتل الخليفة عثمان لأنها ستكون سابقة خطيرة يتخذها الناس ذريعة بعد ذاك لارتكابأعظم الجرائم دون تهيب أو خوف لذا نري كبار الصحابة يغادرون المدينة ويتركون أبنائهميحرصون الخليفة ويدافعون عنه لأنه رفض أن يدافع عنه الصحابة وأن يقاتلوا عنهالمتمردين وأمرهم بالانصراف عنه .


    ثم غادر البعض الأخر المدينة أثناءالصراع الذي دار بين علي ومعاوية وكان عمر رحمه الله من قبل يمنع هجرة كبارالصحابة إلي الأمصار ليحميهم من فتنة الدنيا ومن افتتان الناس بهم هذا من جهة ومنجهة أخرى ليكونوا بجانبه كمجلس شوري يستشيرهم ويرجع إليهم عند الشدائد كما قلناسابقا . والمتتبع لعصر عثمان أخره وعصر علي يجد أغلب الصحابة قد هاجروا المدينةوفقدت


    4- ومن الظواهر المشتركة في هذا العصرسطو أهالي الأمصار والأقاليم علي الخلافة في المدينة فقد امتلكوا من الرأي العامما يؤثر في الأحداث الجارية إذ أصبحت تأتي الوفود والموالي والأرقاء وتغيرت طبيعةالمدينة عن طبيعتها الأولي وتنوعت فيها الحياة بتنوع من جاء إليها باختلافحضاراتهم ومشاربهم ، وهذا ما جعل تمازجا يتم بين السكان من بيئات متباينة شكلتعوائق في النهاية جعلت سياستها صعبة واتجاهاتها مختلفة عما كانت عليه ، ففشت رائحة الطبقية التي لا يعرفها الإسلاموتظاهر جماعات تظاهرت بالإسلام وقد اخفوا الحقد والكره في نفوسهم ، ومنهم عبد اللهبن سبأ وهو من يهود صنعاء والمعروف بالمكر والدهاء إذ رأي أن يتظاهر بالإسلام وانتظاهره ذلك سيرفعه إلي مستوى المسلمين إذ ليس في الإسلام طبقات وفروق فالكل سواءوكان ابن السوداء هذا من أهم المحرصين علي الثورة ومن أشد العوامل التي أدت إليتمرد أهل الأمصار علي عثمان ثم علي رحمهما الله ، وأصبحت الكوفة والبصرة والشام منأهم العواصم المؤثرة في صنع الأحداث آنذاك فإن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشةرضي الله عنهم جميعا فقد غضبوا لمقتل عثمان وطالبوا بالثائر من قاتليه ولكنالخليفة رأي تأجيل ذلك الأمر . ولكي يحدثوا صوتا مسموعا تستجيب له الخلافة التي رأتتأجيل القصاص نراهم يتجهون إلي البصرة والكوفة ليثيروا الناس ويحركوهم نحو هدفهمالذي ينشدونه والذي يريدون إخضاع الخلافة له .


    وإذنأصبح لأهالي الأمصار صوت مسموع له أثره الكبير في مسامع الخلافة ولا عجب إن كانظهور ذلك الصوت في نهاية خلافة عمر إذ كانت بعض الأمصار ومنهم الكوفة قد رفضت بعضالولاة الذين عينهم عمر حتى أن بعضهم كانوا يعترضون طريق ذلك الوالي ويطردونه ليعود من حيث أتي فصار عمر يشكو منأهل الكوفة ويقول ( من عذيري من أهل الكوفة إن استعملت عليهم قوي فجروه وإن استعملتعليهم ضعيف حقروه ) ولكن عمر بحنكته وخبرته استطاع أن يحد من تلك الظاهرة ويمنعها أن تمتد وأن تستشري فقد كان حازمامهابا عند الولاة وأهل الأمصار .


    5- ومن الظواهر المشتركة في هذا العصرهو استعانة كلا من عثمان وعلي بأقاربه في الحكم وفي تولية الولايات . وقد كان هذاالأمر ينكره علي بن أبي طالب في أول خلافته وقد أقر بعضهم لكنه أمر بعزل معاوية بنأبي سفيان من علي الشام ، وعبد الله بن عامر والي البصرة ، وسعيد بن العاص واليالكوفة ، ويعلي بن منية والي اليمن ، لأنهم من الأمويين ولم يحسنوا السيرة معرعاياهم كما كان يعتقد الإمام علي رحمه الله ، وكانوا مكروهين من الناس ، ولما علمالمخلصون لعلي أنه عزم علي عزل هؤلاء الولاة نصحوه أن يبقيهم إلي أن يأخذ البيعةمن الأمصار ويقوى شأنه ، نصحه بذلكالمغيرة بن شعبة ولما رآه مصمما علي عزلهم طلب منه أن يبقي معاوية في مكانه إذ لهأتباع كثيرون في الشام ولكن عليا رفض .


    وإذا كان علي قد أمر بإقالة أقاربعثمان من الولايات معترضا علي توليهم فقد اتضح أيضا أنه عين بعض أقاربه وفعل كمافعل عثمان ، وأصبح لكل منهما بطانة من أهله . فمن أقارب علي الذين استعان بهم فيالولاية : عبد الله بن عباس ، و قثم بن عباس ، و عبيد الله بن عباس . و من رؤوسالفتنة : الأشتر النخعي ، و محمد بن أبي حذيفة ،و محمد بن أبي بكر .و من الصحابةالأنصار : عثمان بن حنيف ، و أبو أيوب الأنصاري ،و أبو قتادة -رضي الله عنهم . هذا وقد اعتمد كلا منهما عليبطانة من أقاربه يستشيرها وترشده إلي أصح الأمور وأضلها لكن الإمام علي هنا قد نلتمس له العذر دونعثمان بن عفان رضي الله عنه فأحدهما كان علي حق حينما استند إلي أقاربه وهوعلي بن أبي طالب فقد كان مضطرا إلي ذلكلقلة من يثق فيهم بعدما تفرق الصحابة عنه واعتزلوا الفتنة ، أما عثمان فليس له عذرفي أن يولي أقاربه فلم يكن مجبرا علي ذلك إذ كان معه جمع كبير من الصحابة يقفونبجانبه ويقدمون له المشورة متى طلبها .


    وقد شكلت قضية اختيار بعض الولاة منأقارب عثمان وعلي مشكلة امتدت طوال العصر، فقد لاحظنا رجوع عثمان دائما إلي أقاربه من بني أميه وخاصة عمرو بن العاصومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح ، ومروان بن الحكم وقداستاء الصحابة من هذه التصرفات لان المشورة لم تأت في محلها فكان كثيرا ما يتدخلكبار الصحابة ويعدلون أغلب ما أشير علي عثمان لصالح الإسلام والمسلمين . وإذا كانعثمان قد ركن إلي أقاربه من الولاة واستعان بهم فإن تلك كانت قاصمة الظهر والتيأخرجت الصحابة عن هدوئهم وكم من عهود قطعها أمير المؤمنين عثمان علي نفسه بعد أنيقر ويتوب ويعزم علي عدم الرجوع ولكنه سرعان ما ينسي ويعود إلي بعض الأخطاء التيوقع فيها . وهذا التصرف بلا شك قد أظهر خلافة عثمان بمظهر الضعف والترددمما أدي إلي ضعفه وإلي تهجم الكثيرين عليه .


    6- ولعل ظاهرة ابن سبأ ( ابن السوداء) تعد ظاهرة متفشية في عصري هذين الخليفتين فقد استطاع ذلك المارق أن يتردد عليالأمصار ويكون له فيها خلايا وأتباع حرضهم ضد الخلافة الإسلامية وجرأهم علي كل منعثمان وعلي وقد استطاع أن ينشر سمومه بين أهالي الأمصار بأن عثمان قد أغتصبالخلافة من علي وأبنائه أولي بها وأخذ يتظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرحتى انطلت خرافاته وأكاذيبه علي أتباعه من السذج والرعاع . وقد كانت لابن السوداءيد طوي في قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ولم يكن قتل الخليفة هي الغاية التييقصدها هو ومن معه من الثوار كما يظن بعض الناس ولو كان الأمر كذلك لهان الأمروسكنت الفتنة واستبدل خليفة بخليفة وأصبح كل شيء علي ما يرام ؛ ولكن الثوار كانتلهم أهداف أبعد أثرا وأشد خطرا من قتل الخليفة ، إن غاية الثوار هي هدم حقيقةالإسلام والنبيل من عقيدته وتشويه مبادئه وهي التي تناولها ابن سبأ بمبادئهالمدمرة كالرجعة والتناسخ والحلول فكان هو والثوار يضربون الإسلام في مقتل وهذا هوهدفهم الذي لا يحيدون عنه عبر العصور ، ولك أن تتصور أيها القارئ الكريم حينمابدأت محاولات الصلح بين علي وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم قبيلواقعة الجمل حيث تفاهم الرجال وتقاربت النفوس واتفقوا علي الصلح ولكن ابن سبأ هووجماعته وقد لجأ إلي خديعة إذ بادربالقتال ، وبدأ المعسكران يقتتلان فيما يعرف بمعركة الجمل وقد دبر بن سبأ وجماعتههذا الهجوم قبيل طلوع الصباح إذ تم الهجوم علي الفريقين في آن واحد وظن كل فريق أنالفريق الآخر قد هجم عليه فنقض الصلح الذي بدأت بشائره ، وصار قتالا رهيبا وكانت ضحاياه أرهب في عددالقتلى وفيما مس المسلمين والصحابة .


    تلكهي طبيعة العصر الذي عاشه عثمان وعلي الذي عرف بعصر الفتنة ، هيمن فيه المتمردونوالثوار كل هيمنه وانساحوا في جيش علي حتي أصبح من الصعب التمييز بينهم وأخذ الثأرمنهم ، ومن المضحك أنهم حينما وقفت حرب معركة الجمل قال طلحة وأتباعه لابد أن نأخذالثأر من قتلة عثمان فوقف أحد القادة وسأل جيش علي بأعلي صوت : أفيكم قتلة عثمانفإذا بهم جميعا يرفعون أصواتهم قائلين كلنا قتلة عثمان .


    -وهذه صورة تعطي القارئ لمحة عن طبيعة ذلك العصر الذي هيمن فيه المتمردون والثائرونمن كل صوب وناحية وفاحت الفتنة تزكم الأنوف ، وأصبح تأثيرهم علي مجريات الأمورتأثيرا كبيرا بلا شك هذا عن المتردين والثوار والناقمين علي عثمان وعلي . أماالصحابة رضوان الله عليهم فقد انقسموا إلي مجموعات ثلاث الأولي رجال ناصروا علياوأدركوا أن الحق بجانبه وهو أحق بالخلافة من غيره . ومجموعة ثانية رأت ضرورة البدءبالثأر من قتلة عثمان قبل كل شيء وتطالبت الإمام علي بهذا الأمر ، وهذه المجموعةعلي رأسها طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة ، وفيها رجالات الشام جميعهم يقودهممعاوية الذي يري أنه ولي عثمان وهو الأولي بأخذ الثأر من هؤلاء القتلة . والمجموعةالثالثة : وهي مجموعة اعتكفت الصراع وعاشت بعيدة عنه حتى لا تكون ظالمة ويصدقعليها قول الرسول ( الفئة الباغية ) .


    ولم يكتف أبن سبأ بما فعل بل اشرأبت نفسهإلي إفساد العقيدة الإسلامية ذاتها وتخريب نفوس بعض الضعفاء من المسلمين فأخذ يدعيالرجعة ويقول أن عليا لم يمت وإنه ذهب إلي ربه وسوف يرجع ، وأخذ ينشر تلك العقيدة ،وقد استشرت دعوته في عصر عثمان وعلي رحمهما الله ولم يستطع أحد أن يضع لها حدا مماأفسدت عقائد المسلمين وأفسحت مجالا لبعض الفرق التي انشقت عن الإسلام .


    7- ونظرا للصراع الذي دار بين عليومعاوية وقد انقسم غالبية المسلمين آنذاك إلي معسكرين متضادين معسكر علي بن أبيطالب في الكوفة والبصرة ومعسكر معاوية في الشام وقد استغرق هذا الصراع مدة خلافةعلي بن أبي طالب والتي تناهز الخمس سنوات قد هيمن عليها الصراع بكافة أنواعه ولمتستقر أمور الدولة آنذاك والحق يقال رغم كثرة الروايات فإن معاوية رضي الله عنه لمينكر علي الإمام علي أحقيته بالخلافة ولم يكن في يوم من أيام ثائرا عليه بسبب هذاالموضوع وإنما أنصب الخلاف حول المطالبة بالثأر من قتلة عثمان إذ كان الإمام علييري تأجيل هذا الأمر إلي حين أن تستقر أمور الخلافة ويستطيع تدبير أمره وحصر هؤلاءالقتلة المندسين وسط المسلمين بينما كان معاوية وأتباعه يرون ضرورة البدء بالقصاصقبل كل شيء .


    8- وإذا كانت الظروف قد أدت إلي أنيتقاتل المسلمون ويشهر كل واحد منهم سلاحه في وجه أخيه وهذا عملا يتنافي مع تعاليمالإسلام إلا أن كل فريق كان آنذاك حريصا علي أن يكون علي حق في رأيه وفي زعمه ؛فالمناصرون لعلي اعتقدوا صحة إمامته وصحة بيعته الذي وقف عليها المسلمون فهميناصرونه وهم علي حق كما يزعمون . ورجال المعسكر الآخر وجدوا أنهم من الظلم أنيقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان بهذه الطريقة الخسيسة وأن يضيع دمه هباء بينهؤلاء الرعاع فلابد من الضرب علي أيديهم وأخذ القصاص منهم فهم علي حق كما يزعمون .


    -أما باقي الصحابة فقد انعزلوا عن تلك الفتنة وعاشوا بعيدين عنها وهم يزعمون انهمعلي حق متمثلين بقول النبي eقال: ((إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والماشي فيها خير منالساعي ، فاكسروا قوسكم ، وقطعوا أوتاركم ، واضربوا بسيوفكم الحجارة ، فإن دخل –يعني علي أحد منكم – فيكن كخير ابني آدم . ومما يؤكدهذا الاعتقاد الطيب الصادر عن معتقد أصيل لا يتبدل ومن نفوس صافية لا تتغير تلكالتصرفات التي كانت تتم من أحد المعسكرين ضد الآخر والتي إذا دلت علي شيء فإنماتنم عن طبيعة الأدب الإسلامي الراقي ، فإن خروج أم المؤمنين عائشة هي وطلحةوالزبير وإن كان الأليق لها عدم الخروج لمكانتها ولقوله تعالي ( وقرنّ في بيوتكن )الأحزاب الآية 33 . ولكن علي ما يبدوا أن خروجهم لشعورهم بالتقصير في حق عثمانولعلهم يجدوا من المسلمين ما يساعدهم علي تكفير هذا الذنب فهم لم يخرجوا عن طوععلي أو رفض لبيعته وإنما خرجوا لذلك السبب ، كما كان موقف علي أمير المؤمنين منهمموقف الرضا من أم المؤمنين عائشة رغم خروجها هذا فبعد انتهاء المعركة حملها فيهودجها في حراسة معززة مكرمة للمدينة بعدما طيب خاطرها وأثني عليها قائلا لها ياأماه .


    والحقيقة ان حصاد المعركة كان مرا فقد قتل منالفريقين الكثير والكثير فما من بيت من بيوت المسلمين إلا وبه مأتم أو عويل هذاناهيك عن قتل كثير من الأحبة من كبار الصحابة وكيف تكون الحال وكبار الصحابةيقاتلون بعضهم بعضا إنه بلا شك كان من تصرف المتمردين ابن سبأ وأصحابه غضب اللهعليهم وأحلهم دار البوار إنها مأساة مرة .


    -وإن أصدق تعبير ما رواه الطبري عن هذه المأساة التي يتجرع مرارتها المسلمون هو قولطلحة بن عبيد الله حين سأله علقمة بن وقاص ، وقد رآه مطرقا يفضل الخلوة ، ويبتعدعن الاختلاط ، فقال له علقمة : يا أبا محمد ، أري أحب المجالس إليك أخلاها وأنتضارب بلحيتك علي صدرك ، إن كرهت شيئا يطلب فاجلس ، وأجاب طلحة : يا علقمة بينمانحن يد واحدة علي من سوانا ، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا .


    لقد عبر طلحة رضي الله عنه عن الموقفخير تعبير إذ كان المسلمون يدا واحدة علي من سواهم يصدون كل عدو يغدر بالإسلاموالمسلمين فأصبحوا اليوم جبلين من حديد يطلب كل واحد منهما الأخر ليفتك به . إنأمة الإسلام لا تقوم لها قائمة إلا بالتكتل والتوحد والاعتصام بحبل الله وهذا مايكرهه أعداء الإسلام ، فهم يهابون تلك الوحدة أشد هيبة لأنها أقوي من السلاح وأمضيمن الموت . وهكذا تميز ذلك العهد بالفرقة والاختلاف وإراقة الدماء


    9- أما معركة صفين والقتال الذي داربها فإن أحداث تلك المعركة قد تنم عن رجال قد خاضوا التجربة من قبل وأرادوا أنيجنبوا أنفسهم مرارة القتل فكانت رفع المصاحف علي أسنة الرماح لإيقاف الحرب وقبولالتحكيم . وإذا كان التحكيم قد أفضي إلي ما أفضي إليه علي نحو خلع أحد المتنازعينوأبقاء الأخر وهذا أمر سوف نناقشه بعد إلا انه كان لابد أن يبقي أحدهما ليكونخليفة يجتمع حوله المسلمون ولسنا مع القائلين والمرددين لروايات غير صحيحة والتيمازالت تتردد علي ألسنة السذج كالقول بدهاء عمرو بن العاص الذي خلع علي وأثبتمعاوية إلي غير ذلك من أقوال ، وقد أفضت الأحداث إلي إنعكاف كل منهما في ناحيةفأهل الشام وعلي رأسهم عمرو بن العاص فقد انصرفوا مع معاوية بعد أن سلموا لهبالخلافة بينما أهل العراق الذين التفوا حول علي ولكنهم في حالة يرثي لها فقدعاشوا في نقاش دائر بغيض وقالوا إن الحكم لا يكون إلا لله وهي قولة حق أريد بهاباطل ، وكان هذا الجدل بلا شك معول هدم لكل ما بناه علي بن أبي طالب وأخذ يستعد كلا الفريقين للقتالمرة أخرى ولكن معسكر معاوية كان في ازدياد ونمو مطرد حيث استطاع أن يستقطب زعماءالقبائل وكبار القواد إلي معسكره بينما كان معسكر علي في نقاش وجدال وحيرة وتذبذبوظل الأمر هكذا إلي أن قتل ابن ملجم علي بن أبي طالب .


    10- إن الفترة التي قضاها علي بن أبيطالب في خلافته هي فترة مليئة بالشقاق والنزاعات وهذا أمرا يحزن الإنسان ويغضبهغضبا شديدا فليس هناك من هو أولي بأمارة المؤمنين بعد عثمان بن عفان من علي بن أبيطالب وهذا أمر يكاد يجمع عليه أغلب علماء المسلمين وأهل السنة والجماعة . وقد يعدبعض المؤرخين أن تلك الفترة التي حكمها علي والتي تناهز الخمس سنوات هي فترة شاذةفي تاريخ المسلمين ينبغي إسقاطها وهذا اعتبار خاطئ فإن حركة المد التاريخي لحركةالمسلمين ينبغي أن تسطر كما هي بحلوها ومرها وباستقامتها واعوجاجها وأصابوا فيهاواخطأوا ، وهناك رؤية ضيقة لبعض المؤرخين إذ يري بعضهم أن فترة الحكم الإسلاميالصحيحة هي فترة الرسول ثم عهد صاحبيه أبي بكر وعمر فقط . وهذا تجاوز أيضا غيرمقبول فالصحابة بشر وليسوا ملائكة فهم يصيبون ويخطأون كما أنهم مثابون في اجتهادهمإذا أصابوا وكذلك لم يحرموا من الثواب إنأخطئوا ومن هذا المنطلق فإننا ينبغي أن نحسن الظن بصحابة رسول الله eالذين تربوا علي يديه ولا نتهم أحدامنهم بالخيانة او بالخروج علي مبادئ الإسلام بل نحترم الجميع ونعتبرهم جميعامأجورين ، وقد حزرنا رسول الله e من الوقوع فيهم أو الإساءة كما روي مسلم إذ يقول (( الله الله فيأصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضيأبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله ومن آذي الله يوشك أن يأخذه)) وقوله – عليه الصلاة والسلام : ( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي فوالذينفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه )) .


    والذي يخرجنا من هذا التصور الخاطئ هواعتقادنا أن الصحابة ومن تبعهم بإحسان بشر مثلنا ، وهم غير معصومين يجوز عليهمالخطأ كما يجوز علي كل البشر ، وحينئذ نستطيع أن نقبل ما يحدث في تصرفاتهم منأخطاء غير مقصودة ، وإنما وقعت نتيجة اجتهاد لم يوفقوا فيه إلي الصواب .


    11- إن فترة الفتنة الكبرى التي أشرناإليها والتي بدأت بقتل أمير المؤمنين عثمان وانتهت بمقتل أمير المؤمنين علي إذا ماأخذنا فيها بالمبررات لوقوع هذا النزاع واشتعال نار الحرب بين هذين الفريقين منالمسلمين ، وعلي الرغم من اعتبارنا لهذه الفترة ظاهرة شاذة في تاريخ الإسلام فأنالإسلام قد حرم علي المسلم أن يحمل السلاح علي أخيه المسلم فإن تقابل المسلمينبالسلاح فالقاتل والمقتول في النار . أقول أن أفضل تبرير يطمأن إليه قلب المؤمن هوان الفريقين اجتهدا وإن أخطأ كل منهما ومن هذا المنطلق فلا يصح أن نتهم أحدا منهمبالدهاء كما قيل عن عمرو بن العاص أو الخيانة أو السذاجة كما قيل عن الإمام علي بنأبي طالب بل نحترم الجميع ونعتبرهم مصابيح هدي في حياتنا .


    ومع ذلك فإن أحداث تلك الفترة تتطلبمنا تعليلا تطمأن إليه نفوسنا بحيث لا يتعارض مع مبادئ الإسلام ومع مثله العلياوخاصة إذا وضعنا في الاعتبار تواجد الخوارج الذين فهموا الإسلام فهما خاطئا لميقرهم عليه أحد . وقتلة عثمان الذين مازالوا مندسين في جيش علي لا يمكن تمييزهمكما قلنا .


    وكنا نتمنى ان تخمد أنفاس تلك الفتنة بأطرافها المتعددة علي أيدي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب الذي نكن له كل حب وتقدير ولكن لحكمة إلهيه لم يدركهاالكثيرون منا فلم يشأ سبحانه وتعالي أن يكون ذلك علي يديه واتخذت الأحداث مساراأخر . إذا انتقلت الخلافة وزمام الأمور من معسكر علي إلي المعسكر الأخر إلي معاويةبن أبي سفيان الذي تضخم معسكره وقوي رجاله وأحاطت به القبائل والعشائر وهو القادرحينئذ أن يقبض علي زمام الأمر وأن يعيد وحدة البلاد كما كانت ويجعل منها أمة مسلمةواحدة ومتماسكة ، ورحم الله كلا من علي ومعاوية رضي الله عنهما وأثابهما ثواباعظيما ، فقد كان هدف كلا منهما هو نصرة الحق وقد خرج لنصرته لا لشيء أخر كما كانيعتقد أغلب الناس .



    1- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للأمام الحافظ أبينعيم الأصفهاني ت 430 ج1 ص98 .


  24. #24
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الأولي )


    مخاطر تزعزع أركان الحكم


    (1)


    انتفاضات الفرس والروم علي المسلمين



    كان اغتيال عمر بن الخطاب مؤشراخطيرا ينم عن الحقد الدفين الذي ملأ قلوب أهل الفرس وعبر عنه أبو لؤلؤة المجوسي إذسبي نسائهم وأطفالهم وقتل رجالهم وأزاح ملك كسري فارس . فلا غرو إذن بعد ذاك أنتدبر المؤامرات ضد الخلافة الإسلامية وأن يقف يزدجر ملك الفرس متربصا ينتظر الفرصةالمواتية لاسترداد ملكه ، كما كانت الأمصار كالكوفة والبصرة قد شهدتا حركة تمردعلي ولاتهما وقد ضاق عمر بهذا الأمر فالكوفة مثلا قد تولي أمرها أربعة أمراء فيسنتين فقد شكوا سعدا واتهموه بالباطل فعزله عمر وولي مكانه عمار بن ياسر ، ثم شكوه فعزله وولي مكانه سعدا مرةأخرى ، فشكوه فولي مكانه جبير بن مطعم وتحاملوا عليه فعزله وولي مكانه المغيرة بنشعبة ، وقد ضاق عمر بأهل الكوفة ومن تصرفاتهم التي لا حد لها حتى انه قال من عذيريمن أهل الكوفة إن استعملت عليهم القوي فجروه وان وليت عليهم الضعيف حقروه .


    وقد انتشرت الفتنة والتمرد في ميدان الفرس بأكمله : في أذربيجان والري فقدنقض أهلهما الصلح الذي صالحهما عليه حذيفة ومنعوا الجزية عن المسلمين وفي الكوفة كما كانت الأوضاع أسوء ما تكون فيبقية الأمصار . ولم يكن الأمر هكذا في ميدان الفرس فقط بل نري هجمات متتالية منملك الروم حينما بلغه وفاة عمر إذ طمع في استرداد ما فقده من الملك وهكذا كانت تلكالنازلة من الشدة والبأس لأنها باتت تهدد أمن المسلمين في جزيرتهم كما تهدد دعوةالإسلام في انتشارها وانسيابها إلي العالم فهي دعوة إنسانية عالمية فليس المطلوبآنذاك الجهاد في الجزيرة العربية فهذا أمر قد فرغ منه المسلمون ولكن هذه المرحلةالتي يعيشها عثمان والمسلمون معه تتطلب انتشار الإسلام من جهة وأتساع للفتوحات من جهة أخرى حتى يتوفر الأمنوالطمأنينة للدعوة الإسلامية وأن يضمن لها الانتشار في كل أرجاء الأرض .


    ويروي الطبري لما أشتد الأمر علي عثمان بن عفان وتمرد عليه الولاة والعمالفقد أرسل إلي معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وإلي سعيد بن العاصوإلي عمرو بن العاص وإلي عبد الله بن عامر فلما أجتمعوا عنده قال لهم إن لكل امرئوزراء ونصحاء وأنكم وزرائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما قد رأيته وطلبوا إلي أن أعزلعمالي وأن ارجع عن كل ما يكرهونه إلي ما يحبون فاجتهدوا رأيكموأشيروا علي فقال عبد الله بن عامر : رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاديشغلهم عنك وأن تجمرهم ([1]) في المغازي حتي يذلوا لك فلا يكونهمسة أحدهم إلا نفسه ، وما هو فيه من دبرة دابته ، وقمل فروه . (2)


    والحقيقة التي ينبغي الإشارة إليها هو أن المسلمين قد تابعوا الجهاد في عهدعثمان سواء عمل بهذه الوصية التي أوصي بها عبد الله بن عامر أو بتطوع المسلمينالراغبين في الجهاد في سبيل الله فقد كانوا كثرة كثيرة من الجزيرة العربية ومنالبلاد المفتوحة تحدوهم الرغبة في الشهادة من جهة والرغبة في الثراء والاستحواذعلي المال من الغنائم من جهة أخري . أقول كان هذا دافعا دفعه العديد من المسلمينللجهاد في سبيل الله لذا نستطيع أن نقول باطمئنان علي الرغم من ضعف الخليفة وكثرةالمشاكل إلا أن هذا لم يمنع سلسلة الفتوحات في عصر عثمان أن تمتد وأن تستكمل ماقام بها الفاروق عمر – رضي الله عنه .

    * * * *


    (2)


    اتساع الفتوحات وكيفية السيطرة عليها



    لم يقطع استخلاف عثمان سلسلة الفتوح التي قام بها المسلمون في عهد عمر فقد فتحت بلاد أرمينية وإفريقية وقبرص ، وواصلالمسلمون العمل علي توطيد نفوذهم في بلاد الفرس التي انتقض بعضها ، فلم يكن بد إذنمن أن يعملوا علي فتحها وتوطيد نفوذهم فيها من جديد .


    ففي عهد عثمان فتحت بلاد طبرستان علي يد سعيد بن العاص . وقد قيل إن جيشالمسلمين كان يضم الحسن والحسين أبني علي وعبد الله بن العباس وعمرو بن العاصوالزبير بن العوام . وقد اضطر ملك جرجان إلي طلب الصلح من سعيد بن العاص وتعهد بأنيدفع له200.000درهم كل سنة .


    وفي سنة 31 هـ انتقض أهل خراسان علي عثمان. فأرسل إليهم عبد الله بن عامر عامله علي البصرة في جيش كثيف اشتبك مع أهالي هذهالبلاد في مرو ونيسابور ونسا وهراة وبوشنج وبدعيس ومرو والشامجان وغيرهما . ففتحهامن جديد .


    ثم وجه القائد الأحنف بن قيس إلي طخارستان . فلما بلغ (( قصر الأحف )) وكانمن حصون بلاد مرو الروذ ، حاصر أهله فيذلك المكان وأرغمهم علي طلب الصلح . بيد أنه سرعان ما أنضم إلي أهل مروالروذ أهلالجوزجان والطالقان والفارياب والصغانيان شرقي نهر جيحون . واشتبكهؤلاء جميعا مع الأحنف بن قيس الذي أحل بهم الهزيمة في عدة مواقع ، وفتح الجوزنجانعنوة ، ثم فتح الطالقان صلحا ، ثم فتح الفارياب ، وسار إلي بلخ فصالحه أهلها ، ثمسار إلي خوارزم ، ولكنه لم يتمكن من فتحها فأتجه إلي مرو . ثم عبر الآحنف نهر جيحون فصالحه أهالي بلاد ماوراء النهر ، ثم قدم علي عثمان بعد أن استخلف قيس بن الهيثم علي هذه البلاد ، كماأنه توغل في طخارستان بعد ذلك وفتحها ثم رضي أهلها علي مصالحته ([2]) .


    ومن ناحية أخري فقد ضرب عثمان علي أيدي الثائرين في سائر الولاياتالإسلامية ، فجمع علي الكوفة الوليد بن عقبة ، وأمده بأربعين ألف مقاتل للمحافظةعلي الثغور كالري وأذربيجان وغيرهما . وإعادة أهلها إلي الطاعة إذا حدثتهم أنفسهمبالعصيان . وقد خصص عامل الكوفة عشرة آلاف من جنده لغزو هذه الثغور مرة في كل سنة.


    كما انتقضت أذربيجان ومنعت الجزية التي فرضها عليها المسلمون ، فغزاهاالوليد وأرغمها علي دفع الجزية . ولما خرج أهل أرمينية عن طاعة المسلمين سير إليهمالوليد جيشا شتت شملهم وأحل بهم الهزيمة .


    وكان معاوية علي ولاية الشام منذ أيام عمر . وقد أنشأ هذا الوالي أسطولاحارب به البيزنطيين حتى وصل إلي عمورية في آسيا الصغري ، كما استولي علي جزيرتيقبرص ورودس وفتح كثيرا من الحصون ، وسار إلي أرمينية الصغري حتى وصل إلي قاليقلا (2)فصالحه أهلها ، ثم استمر في فتوحه حتى بلغ تفليس .


    أما مصر فإن عمر بن الخطاب لم يرض بمقدار الخراج الذي جباه عمرو ابن العاص، فظن فيه الظنون وأرسل ابن مسلمة ليقاسمه ماله ، ثم عزله سنة 23هـ ، أي قبل وفاته بقليل ، عن ولاية الصعيد وقلدها عبد الله بن سعد ابن أبيسرح . فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمرا بعد أن تولاها أربع سنين وأشهرا ، وولي ابنأبي سرح مصر جميعها . فكان هذا سبب الجفاء والعداوة بين عمرو وعثمان كما سنعرف بعد. علي أن ابن سرح لم يكد يستقر فيولاية مصر حتى انتقض الروم فيها وكتب أهل الإسكندرية إلي الإمبراطور قسطنطين بنهرقل يصفون له ما كانوا عليه من الذلة ويهونون عليه فتح الإسكندرية لقلة من كانبها من حامية المسلمين .


    ثم أنفذ قسطنطين القائد الأرمني مانويل إلي الإسكندرية علي رأس جيش كثيف ،فاستولي عليها ، وأخذ هو وجنده ومن انضم إليهم من الروم المقيمين في الوجه البحرييعيثون في هذه البلاد حتي بلغوا مدينة نقيوس .


    ولم يرحب القبط بعودة بلادهم إلي الروم فيسومونهم الخسف لمظاهرتهم العربورضائهم عن حكمهم من جهة ، ولما كان بينهم وبين الروم من الخلاف المذهبي الذي كانمصدر شقائهم من جهة أخرى . لهذا كتب القبطإلي الخليفة عثمان يلحون في إسناد حروب الروم إلي عمرو بن العاص لما كسبه في حروبهمعهم من خبرة ، فولي عثمان عمرا الإسكندرية وعهد إليه بحرب الروم وإخراجهم من مصر. وفي مدينة نقيوس دار القتال بين جندعمرو وجند مانويل في البحر وفي النهر ، وكثر الترامي بالنشاب حتى وقع فرس عمرو منتحته . ثم طلب المسلمون المبارزة بين فارس منهم وفارس من الروم ، فكانت الغلبةلفارس المسلمين ، فثارت حميتهم وشدوا علي العدو وانتصروا عليه وقتلوا قائده ، ثمتعقبوا الفارة إلي الإسكندرية وأعملوا السيف في رقابهم ، ثم أمر عمرو بوقف القتال، وأمر بأن يبني في الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدا أطلق عليه فيما بعد مسجدالرحمة ، وهدم سور الإسكندرية ،وكان قد حلف لئن نصره الله ليهدمنه . وبهذا ثبتتأقدام العرب في مصر من جديد(25هـ) .


    وقد أقام والي مصر الجديد في الفسطاط يرقب الأمور عن كثب وينتظر ما سوفتلده تلك الحرب الناشئة بين العرب والروم في مصر ولا شك أن انتصار عمرو وطد قدمعبد الله بن سعد في ولايته ، فحذا حذو سلفه في الإصلاح الداخلي وفي الحروبالخارجية . أما الإصلاح الداخلي فإن عمرا لم يترك له شيئا جديدا ، اللهم إلا ماكان من زيادة الخراج في ولايته حتى بلغ 14.000.000 دينار بدل 12.000.000 .


    - أما عن الفتوحات الخارجية : فإنعمرا بن العاص أمن حدود مصر من ناحية الغرب بفتح برقة صلحا سنة 21هـ وفتح طرابلس عنوة سنة 22هـ ثم بعث نافع بن عبد القيسالفهري إلي بلاد النوبة فقاتل أهلها قتالاشديدا فانصرفوا عنه .


    فلما ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 27هـ فكر في غزو إفريقية واستأذن الخليفة عثمان ، فأذن له بعد ان استشار كبارالصحابة وكان منهم ابن مخرمة وعليّ بن أبيطالب وطلحة والزبير والعباس وكان عثمان يخلو بكل واحد منهم في المسجد ، ثم دعا أباالأعور (( سعيد بن زيد )) فقال له عثمان : لم كرهت –يا أبا الأعور – من بعثة الجيوش إلي إفريقية ؟ فقال له : سمعت (( عمر )) يقول : لا أغزيها أحدا من المسلمين ما حلمت عينتاي الماء . فلا أري لكخلاف عمر ، فقال له عثمان : والله ما نخافهم وإنهم لراضون أن يقروا في مواضعهم ،فلا يغزون ، فلم يختلف عليه أحد ممن شاوره غيره ، ثم خطب الناس ، وندبهم إلي الغزوإلي إفريقية ، فخرج بعض الصحابة منهم عبد الله بن الزبير ، وأبو ذر الغفاري ([3])، وأرسل إليه من المدينة المنورة جيشا يضم كثيرا من أعيان الصحابة .


    وسار هذا الجيش إلي افريقية، وانقطعت أخباره عن مركز الخلافة فأرسل عثمان عبد الله بن الزبير في جماعةلموافاته بأخبار الجند . ولما وصل ابن الزبير إلي إفريقية ، لم ترقه الخطة التيسار عليها ابن أبي سرح في قتال الأعداء ، إذ كان يقاتلهم كل يوم إلي وقت الظهيرة ،ثم يعود الجيشان إلي معسكرهما في اليوم التالي .وقد أنكر ابن الزبير علي ابن أبيسرح خطته هذه لما رأي فيها من إتاحة الفرصة للعدو للاستعداد ، وأشار عليه بتقسيمجيش المسلمين إلي فريقين : إحدهما يسير لقتال العدو أول النهار ، علي حين يأخذالآخر قسطا من الراحة وتستعد لمباغتة العدو عندما يأوي إلي معسكره . فنزل ابن أبيسرح عن قيادة الجيش لابن الزبير الذي شرع في تنفيذ خطته . فلما حان الموعد المضروبلانصراف الجيشين ، استعدت الفرقة التي لم تخرج للحرب أول النهار ، وهجم بها عليالعدو الذي أنهكته الحرب . ثم غشيهم في خيامهم ، وهزمهم هزيمة منكرة ، وقتل ملكهمجرجير . وبذلك تم النصر للمسلمين ؛ ولولا خطة ابن الزبير وحيلته ، لما أحرز المسلمونهذا النصر .


    وقد غنم المسلمون في هذه الحرب غنائم كثيرة حتى قيل إن سهم الفارس بلغثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار (2) .


    عاد ابن الزبير بالغنائم إليالمدينة ، وأخبر عثمان بانتصار المسلمين وما غنموه من ذلك الفتح ، فسر بذلك وطلبمنه أن يخطب الناس ، فقام عثمان في الناس خطيبا ، فحمد الله واثني عليه ، ثم قال :(( أيها الناس ! إن الله فتح عليكم افريقية ، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركمبخبرها إن شاء الله )) . وكان عبد الله بن الزبير إلي جانب المنبر ، فخطب الناسخطبة طويلة رواها ابن عبد ربه . (3)


    ثم وجه ابن أبي سرح همه إليالجنوب فغزا بلاد النوبة من جديد – وكان عمرو قد غزاها من قبل – فبلغ دنقله سنة 31هـ وقاتل أهلها قتالا شديداولكنه لم يتمكن من فتحها ، فأذن أهلها وعقد معهم صلحا (4) ، وهو أشبهبمعاهدة اقتصادية بين مصر وبلاد النوبة ، هذه تمدهم بالحبوب والعدس وتلك ترسلالرقيق إلي مصر .


    وفي سنة 34 هـ نشب القتال بين عبد الله بنسعد وبين الروم تحت قيادة ملكهم قسطنطين في البحر الأبيض المتوسط علي مقربة منالإسكندرية . وكان النصر للعرب في هذهالموقعة التي عرفت بموقعة ذات السواري ، لكثرة سواري السفن التي اشتركت في المعركة، حتى قيل إنه اشترك فيها ألف سفينة ، منها مائتان للمسلمين .


    وقد دارت هذه الموقعة بالقرب من الساحل الإفريقي في الفرضة المسماة فرضة ((زيوارة )) . وساعدت السفن التي استولي عليها العرب في هذه الموقعة علي إنشاء أسطولمصري كان له أثر كبير في المواقع البحرية التي دارت بين المسلمين والبيزنطيين بعدذاك .

    (3)


    احتياج المدن العربية لبحرية تؤمن سواحلها





    كانالبحر المتوسط وما زال مجالا من أهم وأخطر مجالات النقل فى تاريخ الحضارة البشريةوحياة الإنسانية بصفة عامة . فقد كان منذ وقت بعيد نواة تتجمع من حوله حضاراتومدنيات تقوم بدور فعال فى تحديد نوعية نشاطات الإنسان وعلاقاته الدولية ، وما منشعب أو أمة أطلت أو تطل على هذا المسطح المائى إلا وكان لها معه نصيب فى التعامل .


    ولاغرو فى ذلك فإن هذا المسطح المائى يقع فى نطاق معتدل المناخ وتحيط به مساحات شاسعةمن الأرض والأمم الضاربة فى القدم بأصولها العريقة والموصلة بحلقات السباق الحضارىسواء أكانت تلك الأوطان فى الظهير الأفريقى أو فى الظهير الأسيوى أو فى الظهيرالأوروبى . ولقد كان امتلاكها للواجهة البحرية التى تطل على البحر المتوسط بخصائصهالجغرافية وأهميته الاستراتيجية يدعوها إلى التفاعل ويحفزها على الاحتكاك الحضارى بحضاراتمختلفة .


    واليوموقد اتسعت معرفة الإنسان المعاصر بأهمية المسطحات المائية واتخذ منها استراتيجيةفى أعالى البحار ، وبعض المضايق والجزر يطلق عليها الإستراتيجيون اسم مناطق "ساخنة الصراع " فإن البحر المتوسط ما زال مهما وخطيرا فى هذا المجال ويكاديحتل قمة عظمى لما له من أهمية استراتيجية على الصعيد السياسى والعسكرى والاقتصادىهذه الأهمية لم ينقطع دورها منذ فجر التاريخ ولقد فطن إليها المسلمون الأوائل منذبداية دولتهم الإسلامية حيث أدركوا أن توطيد أركان هذه الدولة مرهون قبل كل شئبامتلاك زمام ذلك البحر والانتفاع به بطريقة مباشرة وبدأ هذا الاتصال المباشربالبحر المتوسط مع انطلاقة المسلمين للجهاد فى سبيل الله فقد كان مسرح عملياتهمالعسكرية جبهة طويلة تمتد من ساحل بلاد الشام شرقا حتى ساحل المغرب الإسلامىوسواحل شبه جزيرة إيبريا غربا وكانت مناطق اليابس من البلاد التى وقعت فى حوزةالمسلمين ظهير هذه الجبهة تخدم هذا الاتصال المباشر ولا غرو أن تقيم الدولةالإسلامية العديد من الربط والثغور والمدن الساحلية على سواحل البحر المتوسط وأنترتب فيها الجند وان تقيم الحرس على مناظرها وان تضع لها المواقيد زيادة فى الحيطةمن أى هجوم مفاجئ .


    معاوية مؤسس البحرية الإسلامية


    باستيلاءالمسلمين على الشام ومصر فتحت صفحة جديدة فى تاريخ البحر المتوسط حيث كانالاستيلاء طعنة نافذة فى جسم الإمبراطورية البيزنطية شطرتها إلى شطرين :


    الإمبراطوريةالأم فى أسيا الصغرى وما وراءها ، ثم الولايات التابعة لها مثل مصر وإفريقية .


    ولميعد هناك ما يصل بين أجزاء هذه الإمبراطورية إلا البحر المتوسط ، ولهذا كان للبحرالمتوسط دور بارز فى توجيه دفتى الصراع بين المسلمين والبيزنطيين : محاولاتبيزنطية لإنقاذ إمبراطوريتهم المترنحة ، ومحاولات إسلامية لتصفية وجودها وتحطيمكيانها . وإزاء هذا الإصرار ركب كلا الفريقين البحر ليعلو خصمه ويخضعه لسيطرته .


    وأدركمعاوية بثاقب نظره ، المقومات الضرورية اللازمة لإبقاء المسلمين فى حوض هذا البحروالاحتفاظ بهيبتهم بين دوله ، لأن بقاء الدولة الفائزة مرهون بسيطرتها على مياههذا البحر . ورأى أن فوزه فى هذا المضمار يمكن أن يتحقق بإبعاد مخالب البيزنطيينالتى كانت تتحفز لتنشب مرة أخرى فى شواطئ بلاد الشام ، فرسم سياسة بحرية محكمةحققت أهدافه وأثبتت صواب رأيه ، وكانت بداية المجد للبحرية الإسلامية من بعده .


    وظهرتالخطوط الأولى لهذه السياسة البحرية حين أرسل معاوية إلى الفاروق عمر " رضىالله عنهما " يستأذنه فى غزو جزيرة قبرص مبينا له خطورة هذا الموقع البيزنطىعلى أمن الشام وسلامته ، إذ قال : " يا أمير المؤمنين إن بالشام قرية يسمعأهلها نباح كلاب الروم وصياح ديوكهم ، وهم تلقاء ساحل حمص([4])"وأنهى خطابه طالبا أن يسمح له بغزو هذه الجزيرة . واستشار عمر بن الخطاب رضى اللهعنه قادة المسلمين فى رأى معاوية ، فأجابه عمرو بن العاص والى مصر فى ركوب البحربرأى رائع ينم عن معرفة خبير بأهوال البحر وصعابه ، فكتب إلى الخليفة عمر "إنى رأيت خلقا كبيرا ، يركبه خلق صغير ، إن ركن خرق القلوب ، وإن تحرك أزاغ العقول.. هم فيه كدود على عود ، إن مال غرق وإن نجا برق (2) .


    فماكان من عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلا أن رفض مطلب معاوية فى ركوب البحر وفتحجزيرة قبرص ، وإن كان المؤرخون قد فسروا ذلك الرفض بتفسيرات مختلفة ، إلا أنه يبرزحقيقة هامة أفصح بها عمر رضى الله عنه فى رده على معاوية وقد تغافل عنها جلالمؤرخين إذ قال فى رده " تالله لمسلم ، أحب إلى مما حوت الروم (3)" فعمرهناحريص على أمن وسلامة جنده طالما لم توجد حاجة ملحة تتطلب دخول المسلمين فى مغامراتبحرية .


    وإنكان معاوية لم يفلح فى الحصول على موافقة الفاروق فى غزو قبرص إلا أنه ظفر بتصريحمنه مؤداه أن يطلق يديه فى إصلاح السواحل وتوفير إجراءات أمنها وسلامتها ضد أىغارة مفاجئة حيث وكله ".. مرمة حصونها ، وترتيب المقاتلة فيها ، وإقامة الحرسعلى مناظرها واتخاذ المواقيد لها(1)".


    وكانالتصريح هذا فرصة سانحة اقتنصها معاوية لتحقيق هدفه ومشاريعه البحرية فلجأ إلىتحصين السواحل بالقلاع والمراكب والمناورة ، كما عمد إلى نقل أهالى البلادالداخلية إلى الجهات الساحلية ومنحهم فيها الإقطاعات الواسعة لتشجيعهم على ركوبالبحر من جهة وتعمير هذه البلاد والإسهام بصورة مباشرة فى الذود عنها ساعة الخطرمن جهة أخرى .[5]


    ويذكرالبلاذرى أن معاوية نقل أعدادا غفيرة من بعلبك وحمص وإنطاكية والبصرة والكوفة إلىالسواحل وأقطعهم الإقطاعات(2) .


    وبنقلالسكان إلى السواحل يكون معاوية قد ضمن العنصر الأول فى بناء البحرية الإسلاميةوهو عنصر البحارة والمحاربين من المسلمين .


    ثمفكر معاوية بعد ذلك فى إنشاء دور لصناعة السفن فى بلاد الشام فجمع الصناعوالنجارين والحدادين وأرسلهم إلى عكا ، مقر بناء الأسطول ، وأمدهم بأخشاب لبنانالتى فاقت شهرتها أخشاب العالم فى صناعة المجاديف .


    وعندماأنس معاوية اكتمال قواته البحرية على نحو ما خطط لها ، شرع فى نشاطه البحرى ضدهجمات الروم المتكررة على سواحل المسلمين فى بلاد الشام ، واستهل باكورة أعمالهبالاستعداد لفتح قبرص ، ذلك المعقل القريب من أرض الإسلام والذىيحتلموقعه الجغرافى ركنا مهما فى الشمال الشرقى لحوض البحر المتوسط ، وتقترب حدوده منخليج الإسكندرونة والذى يتحكم فى مصير منطقة شاسعة من بلاد المسلمين تشمل مصروبلاد الشام وشمال العراق .


    ومنهنا أدرك معاوية أهمية هذه الجزيرة وضرورة الإسراع بمهاجمتها وكسر شوكة البيزنطيينبانتزاعها من أيديهم والحيلولة بينهم وبين اتخاذهم إياها محطة تموين ومركز هجوممتقدم على سواحل المسلمين .


    وكاتبمعاوية عثمان بن عفان رضى الله عنه فى ذلك يطلب منه الإذن لفتح قبرص وإزاء إلحاحاتمعاوية المتكررة نحو هذه الجزيرة منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أراد عثمانرضى الله عنه أن يختبر صدق نواياه فى هذه الحرب فأذن له شريطة أن ترافقه زوجه حيثجاء فى رده على خطاب معاوية " فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فأركبه مأذونا لك ،وإلا فلا([6]).


    ولميستطع معاوية أن يكتم مشاعر الفرحة بهذا الإذن فأطلق صيحة الجهاد مدوية ورافقتهزوجه وأخته واكتسبت الحملة طابع الجهاد الدينى واجتمع لديه عدد من قادة المسلمينتصحبهم زوجاتهم وكان فى مقدمتهم عبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان الأنصارىالتى كانت أول شهيدة من المسلمين فى قبرص(2) ودفنت أم حرام فى أرض تلك الجزيرة وعرف قبرها منذلك الحين بقبر المرأة الصالحة(3) .


    وهكذابصدق العزيمة وقوة الإيمان وبروح جهاد خالصة تمكن معاوية من النزول بساحل قبرصمسجلا نجاح أول مهمة بحرية لأسطول المسلمين سنة " 28 هـ 649م " وأضافإلى قلاع المسلمين قلعة بحرية مهمة قلم بها أظافر البيزنطيين وجعلهم يدركون ماعليه بحرية المسلمين الناشئة من قوة عزيمة وصلابة شكيمة وتصميم أكيد على جعل بحرالروم بحيرة إسلامية .


    وقد اثبتالتاريخ أن القادة المسلمين يتمتعون بحس إستراتيجي عسكري حيث كانوا يدركون أهميةالجزر القريبة من سواحل الدولة والمواجهة للبلاد حيث أتخذوا منها نقاط حراسةلحماية سواحل الدولة من كل جهاتها ومن هنا كان الهدف الأسمى أمام المسلمين هوالإستيلاء علي بعض هذه الجزر وخاصة ذات الأهمية الإستراتيجية ونذكر من هذه الجزرما يأتي :-


    أ- جزيرة أرمينية


    أرمينيا هي منطقة جبلية ممتدة في غرب آسيا ، ويحدها من الشمال والشمالالشرقي البحر الأسود وبلاد القوقاز ، ومن الجنوب الركن الشمالي الغربي من ارضالجزيرة ومن الشرق والجنوب الشرقي أذربيجان وبحر قزوين ، ومن الغرب آسيا الصغرى .وتبدوا أهمية موقع تلك الجزيرة أنها تقع علي مفترق الطرق الثلاثة المؤدية إليالبلاد التي فتحها المسلمون واستوطنوها وهي :


    1- بلاد بالعراق . 2- بلاد الشام . 3- جنوب آسيا الصغرى .


    وجزيرة أرمينيا واسعة المساحةومقسمة إلي أربعة أقاليم : أرمينية الأولي وأرمينية الثانية ، وأرمينية الثالثة ،وأرمينية الرابعة .وتعود أهمية تلك الجزيرة أنها مساحة عظمي تمتد بين بلاد الروموبلاد الفرس والذي يستوي عليها يمكنه التحكم والسيطرة علي الميدانين معا الفرسوالروم . وهذا يفسر لنا الصراع الدائم والمستمر بين الفرس والروم أكبر قوتين قبلظهور الإسلام فكلا منهما يحاول السيطرة علي هذه البقعة ليتفوق علي خصمه عسكرياواستراتيجيا .


    وقد شجع الموقع الذي تتمتع به أرمينية المسلمين علي فتحها ولما كانت أرمينية واقعة علي حدود أذربيجان فإنالوليد قد عزم علي فتحها ، فوجه إليها جيشا بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي قوامهاثنا عشر ألفا فسار حتى دخل أرض أرمينية فقتل وسبي وغنم ، وقد عاد إلي الوليدظافرا غانما .


    ومن جهة الشام فإن الخليفة عثمان – رضي الله عنه – قد كتب إلي معاوية يأمرهبتوجيه جيش إلي أرمينية بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري ، وأنفذ معاوية رغبة الخليفة، فسير هذا القائد نحو أرمينية في جيشتعداده ستة آلاف جندي أو ثمانية آلاف جندي من أهل الشام والجزيرة .وتتابعت الحملاتمن جهة الشرق والشمال واستطاعوا أن يصدوا جيوش الروم التي جاءت لتساند أهل أرمينيةوفروا أمام جيوش المسلمين مولين الأدبار وأنطلق المسلمون يزحفون ويستكملون فتحباقي مناطق أرمينية حتي استكمل الفتح وعقد صلحا مع أهلها وكان نص كتاب الصلح عليالنحو التالي :-


    بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لنصاري أهل دييلومجوسها ويهودها ، شاهدهم وغائبهم ، إني قد أمنتكم علي أنفسكم واموالكم وكنائسكموبيعكم وسور مدينتكم ، فأنتم آمنون ، وعلينا الوفاء لكم بالعهد ما وفيتم وأديتمالجزية والخراج ، شهد الله ( وكفي بالله شهيدا ) .


    واشترط حبيب علي البطريق أن ينصح للمسلمين ، ويعاونهم علي أعدائهم .


    وهكذا يتضح لنا أن فتح أرمينية إنما كان لتأمين حدود الدولة الإسلامية ،حيث كان الروم يستغلون موقعها ويجتمعون فيها للانقضاض علي المسلمين فيقلقونهم ،ويقضون مضاجعهم . ومن هنا حقق عثمان بن عفان مع قواده الأمن الذي ينبغي أن يكونللبلاد التي تم فتحها إبان خلافة الفاروق عمر – رضي الله عنه- بل ذاد عليها عثمانمساحات أخري ذات قيمة إستراتيجية قضت عي أمال الفرس من ناحية وأمال الروم من ناحيةأخرى في أن يستردوا بلاد العراق أو بلاد الشام ومما لا شك فيه كان صمام الأمن هوجزيرة أرمينية ([7])


    ب- جزيرة أرواد


    تقعهذه الجزيرة بالقرب من ساحل الشام بين مدينتى جبلة وطرابلس ، وقد تمتع سكان هذهالجزيرة بموقع جغرافى مهم من جهة البر والبحر واتخذوا منه ملاذا أمينا لأعمالالقرصنة والانقضاض على أساطيل التجارة فى عرض البحر .


    ولميكن معاوية بالقائد الذى يسمح لأى معقل بيزنطى أن يهدد سلامة بلاده ، فأعد حملةلمهاجمة هذه الجزيرة سنة 27هـ تمت بعقد معاهدة لإيقاف أعمال القرصنة ضد المسلمين .وفى العام التالى تمكن معاوية من الاستيلاء على الجزيرة وأضرم فيها النيران وألزمأهلها بإخلائها تماما([8]).


    جـ- جزيرة صقلية :


    أدرك معاوية أهمية موقع هذه الجزيرة إذأنها تتحكم فى المداخل الرئيسية الكبرى للحوض الشرقى من البحر المتوسط ، وتقسمالبحر المتوسط عامة إلى قسمين رئيسيينتشرف على الاتصالبينهما عن طريق مضيق مسينا ، ومضيق صقلية الواقع بين طرف جزيرة صقلية الجنوبىوشمال أفريقيا(1)وبفضل هذا الموقع غدت هذه الجزيرة المعقل الذى يمكنه الصمود أمام الزحف الإسلامىفلا غرو أن يتخذ منها الحاكم البيزنطى السابق لمدينة قيصرية مقرا له وقاعدة للقواتالبيزنطية المعدة لشن هجوم على المسلمين وشل حركة التعاون البحرى بين معاوية حاكمبلاد الشام ، وعبد الله بن أبى السرح حاكم مصر(2).


    لذا عول معاوية على أهمية اشتراكالأساطيل المصرية بجانب الأساطيل الشامية فى الإغارة على هذه الجزيرة ، وبالفعلرست الحملة المشتركة على سواحلها وأضرمت النيران فى قلاعها وحصونها وأجبرت قواتهاعلى الانسحاب إلى داخل الجزيرة سنة 652م(3).


    د- جزر بحر إيجه :


    لإعاقةحركة الأساطيل البيزنطية وإحكام الخناق عليها اتجه نظر معاوية إلى السيطرة على أهمجزر بحر إيجه بدءا بجزيرة " رودس " مقر صناعة الأساطيل البيزنطية .ويتمثل خطر هذه الجزيرة بالدرجة الأولى على أطراف الشام الشمالية القريبة من الحدودالبيزنطية فى أسيا الصغرى .


    لذانرى معاوية يرسل حملة بحرية بقيادة جنادة بن أمية الأزدى سنة 33هـ ــ ( 654م )للاستيلاء على هذه الجزيرة ، فاستولى عليها وأمر معاوية ببناء حصنها وترتيب الجندوإقامة المنائر به ، وبذلك صارت رباطا من أعظم الأربطة فى الإسلام .


    ولميكتف معاوية بذلك بل أراد أن يغلق بحر إيجه ويسد منافذه نهائيا فى وجه الأساطيلالبيزنطية فتطلع للاستيلاء على جزيرة " كريت "،" أقريطش " وإنكانت حملته عليها لم يكتب لها النجاح إلا أنه اكتفى بالإغارة عليها وتدمير أساطيلالبيزنطيين بها(4) وبهذه السياسة البحرية القائمة علىالإدراك وحسن البصيرة لأهمية البحر الإسلامى كفل معاوية لمسلمى الشام قوة بحريةساندتها قوى الأساطيل المصرية الإسلامية فى منافسة البيزنطيين سيادة البحر المتوسط، واكتملت هذه السيادة مطلقة فى أيدى المسلمين وأصبح ذلك البحر بحيرة إسلامية تمخرعبابه سفن المسلمين غادية رائحة تحرس حدود الدولة الإسلامية وتؤمن سلامتها ، وتزيلأى خطر بيزنطى من أمامها ، وأدرك المسلمون أنه لا جدوى من هذه الفتوحات إلا إذااستهدفوا القسطنطينية عاصمة البيزنطيين الخطيرة على المسلمين ، فأعدوا عدتهم لضربهذه العاصمة والقضاء على آخر معقل للبيزنطيين .


    هـ- جزيرة قبرص


    هيجزيرة من جزر البحر المتوسط وتقع في أقصي الشمال الشرقي بالقرب من الشاموالأناضول ويفصل البحر بينها وبين أرضالشام والأناضول بمضيق قصير المسافة حيث كان أهل الشام يسمعون صياح دجاج أهل قبرصونباح كلابهم وتتمتع المدينة بأرض خصبة وهواء طلق وفواكه كثيرة ومتنوعة ولكن الأهممن ذلك هو موقعها لاستراتيجي المهم وخيراتها الوفيرة اللذان كانا سببا في مطمعالفرس والروم في الاستيلاء عليهم .


    وقد أدرك القادة المسلمون أهمية تلكالجزيرة وبخاصة عندما أنهزم الروم أمام جيوش المسلمين في كثير من المعارك وبخاصةموقعة الإسكندرية البحرية التي قادها منويل الخصي والتي هزم فيها الروم أشنع هزيمةوقتل ذلك القائد ومنذ ذلك الحين والمسلمون يتهيئون لغزو تلك الجزيرة والاستيلاءعليها وقد كان معاوية بن أبي سفيان ذلك القائد الملهم له النصيب الأوفى فيالإستيلاء علي تلك الجزيرة حيث أعد مراكبه واتخذ ميناء عكا مكانا للإقلاع وحمل معهزوجه وأخته وهذا شرط الخليفة علي معاوية كما عرفنا سابقا حتى يضمن جدية القتالواشترك في هذه المعركة أيضا الصحابي الجليل عبادة ابن الصامت وامرأته أم حرام ([9]) .


    وأمحرام هذه هي صاحبة القصة المشهورة ، التي رويت في الصحيح روي مسلم في صحيحة عن أنسبن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله eكان يدخل علي أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخلعليها رسول الله e يوما فأطعمته ثم جلست تفلي منرأسه فنام رسول الله e ثم استيقظ وهو يضحك .


    فقال : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟.


    قال :- ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحرملوكا علي الأسرة أو مثل الملوك علي الأسرة .


    قالت : فقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم وضعرأسه فنام ، ثم استيقظ وهو يضحك .


    فقال : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟.


    قال :- ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأولي .


    قالت : فقلت : يا سول الله ، أدع الله أن يجعلني منهم .


    قال : أنت من الأولين .


    فركبت أم حرام البحر جهادافي سبيل الله مع زوجها وقد صارعتها دابتها إذ وقعت علي الأرض ودق عنقها فماتتودفنت في هذا المكان وقبرها معروف في جزيرة قبرص ويعرفه الناس بقبر المرأة الصالحة.([10]) واتجهت السفن من عكا كماقلنا حتى وصلت إلي جزيرة قبرص واتبع معاوية بأصحابه وكانوا من أكبار الصحابة رضوانالله عليهم وتضطرم نفوسهم بروح الجهاد الصادق منهم أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وأبو الدرداء وابو ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وواثلة بن الأسقع وعبد الله بن بشرالمازني وشداد بن أوس بن ثابت والمقداد بن الأسود وكعب الحبر بن ماتع وجبير بننفير الحضرمي. (2)


    وقد تشاورها هؤلاء القادةفيما بينهم واتفقوا علي أن يشاور أهل الجزيرة علي أن يفتحوا المدينة سلما ولكنهمرفضوا ذلك وتحصنوا بالعاصمة قسطنطين فتقدم المسلمون نحو تلك العاصمة وحاصروهاوسرعان ما طلب أهلها الصلح فأجابهم المسلمون وكتبوا وثيقة صلح فيها شروط عليالطرفين المسلم والقبرصي وعاد المسلمين إلي بلاد الشام ولكنهم سنة (32هـ) نقضالقبرصيون شروط الصلح حيث ساعدوا جيوش الروم وعلي ما يبدوا كانت تلك المساعدةبالإكراه عليهم حيث أكرههم الروم أن يمدوهم بالسفن يغزو بها بلاد المسلمين ولماعلم معاوية بتلك الخيانة صمم علي الاستيلاء علي هذه الجزيرة فجرد لها سنة (33هـ)يحمله خمسمائة مركب . ([11])وأمر عليهم عبد الله بن قيس.


    ولما علم عبد الله بن سعد ابن أبي السرح والي مصر بأمر تلك الحملة فتوجه هوأيضا بأسطول أخر إلي قبرص واجتمع الجيشان علي الجزيرة . (2). وهاجم المسلمون الجزيرة هجوما عنيفا حيث أشتد القتل والسبي من كل الجهاتوتحت هذا الضغط العنيف اضطر ملك قبرص أن يستسلم ويطلب الصلح فأقرهم معاوية عليالصلح الأول بشروطه فقبلوا ذلك .


    ورأي معاوية بثاقب نظره ألا يترك هذه الجزيرة بغير جيش يرابط فيها ويحميهامن غارات الأعداء وأن يحافظ علي الأمن ويقمع تمرد أهلها علي المسلمين فأقر فيهاجيشا مقيما مكونا من أثني عشرة ألفا من الجنود وأقام في الجزيرة مسجدا وأجريمعاوية علي الجنود أرزاقهم .


    وقد اثبت تصرف المسلمين في جزيرة قبرص عدة ملاحظات منها :-


    - تمتع القادة المسلمين بقدر رائعة علي إدارة المعارك البحرية رغم أنهم لميأنفوها من قبل .


    - أن الروم لم يتصدوا للمسلمين لأنهم يدركون قوتهم في المعارك التي انتشرفيها الإسلام وأراد أن يحتفظوا بقوتهم البحرية أملا لضربة قوية يجهدون بها الأسطولالإسلامي الناشئ آنذاك .


    لقد أثبتت غزوة قبرص قوة البحرية الإسلامية الناشئة في مصر والشام كماأثبتت التعاون التام بين الأسطولين المصري والشامي .


    وقدأثبت المسلمون فى إغارتهم على قبرص فهما جيدا لطبيعة الجزر البيزنطية وبما تتمتعبه من مواقع استراتيجية مهمة ، ولم تأت إغاراتهم على هذه الجزر إغارات عشوائيةوإنما كانت وفق خطط عسكرية بحرية مدروسة تهدف شل حركات البحرية البيزنطية وتأمينسلامة البلاد الإسلامية ، وسارت هذه الخطة على مرحلتين الاستيلاء على الجزرالقريبة ذات الخطر المباشر كمرحلة أولى ، ثم الاستيلاء على غيرها من الجزر البعيدةالتى تتحكم فى مداخلها أطراف بعض هذه الجزر .


    لذاكان الهدف الأسمى أمام معاوية هو الاستيلاء على مجموعة من هذه الجزر لفرض سيادةالمسلمين على البحر المتوسط. وكان من هذه الجزر المهمة التى استهدفتها البحرية الإسلاميةلتأمين وسلامة الدول الإسلامية .


    وأدرك الإمبراطور قسطنطين الثانى خطورةتقدم المسلمين المطرد فى بحر إيجه وتوالى استيلائهم على أهم جزر البحر المتوسطوالإغارات الإسلامية البحرية التى أحكمت الخناق على عاصمته وكادت تفصلها نهائيا عنباقى أملاكه فى البحر المتوسط .


    وترامت إلى مسامع الإمبراطور أنباءاستعدادات بحرية إسلامية وأخرى برية لضربعاصمته ضربة أخيرة ، فجهز أساطيله وقرر أن يلقى أساطيل المسلمين فى مياه الشام قبلإبحارها من قواعدها ، واستعدت الأساطيل الإسلامية لملاقاة أساطيل الروم وأخذت كلتاالقوتين التراتيب الزمنية لخوض معركة بحرية حاسمة .


    ولكي يدرك القادة الكريم أن البحريةالإسلامية علي الرغم أنها بحرية ناشئة لم يتجاوز عمرها بضع سنوات إلا أنهم أثبتوامقدرة بارعة في ركوب البحر وإدارة المعارك البحرية فقد كان القواد مبدعين حقا كلفي مجاله وفي مكانه ولكل يا أخي أن تعتز بتلك البحرية وبما حققته من إنجازات ضخمةلحماية سواحل الدولة الإسلامية من غزو أو غدر من عدو مترقب وكانت أولي المعاركالبحرية هي معركة ذات السواري * وإنني لست في معرض شرحها حتى لا نبعد عن موضعنا ([12])ولكن يكفي أن نشير هنا إلي مقارنة القوات بين الطرفين .


    تشير أغلب الروايات التى أطلع عليهاالباحث إلى تفوق القوى البحرية البيزنطية عدة ورجالا على قوى المسلمين البحرية كماهو مبين فى الجدول الآتي :- (2)



    نوع القوى البحرية
    عدد المراكب
    عدد الجنود
    المجموع الكلي
    المرجع
    بحارة
    رجالة
    المسلمون
    200
    10000
    10000
    20000
    ابن عبد الحكم
    حسن إبراهيم حسن
    البيزنطيون
    500
    800
    1000
    50000
    80000
    100000
    ـــــ
    ـــــ
    ـــــ
    50000
    80000
    100000
    إبراهيم العدوى
    حسن إبراهيم حسن
    ابن عبد الحكم




    منمقارنة القوات فى الجدول السابق يتضح ما يأتى :


    ـ المبالغة فى قوات البيزنطيين حيث تراوحتعدد مراكبهم حسب الروايات ما بين الخمسمائة إلى الألف مركب ، ويمكن الأخذ برأىالدكتور حسن إبراهيم حسن لأنه أقرب الآراء إلى الحقيقة حيث قدر عدد مراكبالبيزنطيين بحوالى 800 مركب . فإذا قدرنا للمركب الواحد أن يحمل ما بين المائةوالخمسين مقاتلا([13])فيكونعدد قواتهما كالآتى :


    قوات البيزنطيين = 800 × 100 = 80000مقاتل .


    قوات المسلمين = 200 × 100 = 20000مقاتل .


    ولقد قسمت قوات المسلمين كما يلى :


    10000بحارة ، 10000رجالة حسب رواية بن عبد الحكم الذى ذكر بأنه كان كل مركب يحمل نصفشحنته من البحارة بينما النصف الآخر نزل إلى البر (2) .


    ـكانت قوات البحرية الإسلامية التى شاركت فى المعركة مكونة من أساطيل وبحارة من مصرفقط بقيادة القائد المسلم " عبد الله بن سعد بن أبى السرح " والى مصرآنذاك فى عهد عثمان بن عفان الخليفة الثالث رضى الله عنه ولم تشرك أساطيل الشام فى المعركة وإنما كانت فى مهمةأخرى تجاه أسيا الصغرى سوف نتحدث عنها عند الكلام عن الخطة العسكرية .


    ـويتضح كذلك التفوق الهائل فى عدد مراكب وبحارة البيزنطيين على قوات المسلمينالبحرية وهذا ما يفسره دهشة أحد المشاركين فى الحملة الإسلامية عندما شاهد أساطيلالروم : " فالتقينا فى البحر ، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط " (3).


    وقداستعاض المسلمون النقص فى العدة والرجال بروح جهاد عالية ـ وإيمان قوى بنصر اللهوتأييده ، فعندما علم عبد الله بن أبى السرح بمجئ البيزنطيين وقف بين ظهرانى الناسيخطب فيهم ويطلب مشورتهم قائلا : " قد بلغنى أن هرقل قد أقبل إليكم فى ألفمركب فأشيروا على ، فما كلَّمه رجل من المسلمين فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم .ثم قام الثانية فكلمهم ، فما كلمه أحد فجلس ، ثم قام الثالثة فقال : إنه لم يبق شئفأشيروا على . فقام رجل من أهل المدينة كان متطوعا مع عبد الله بن سعد بن أبىالسرح فقال : أيها الأمير ، إن الله جل ثناؤه يقول ( كم من فئة قليلة غلبت فئةكثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين )([14]).فقال عبد الله : اركبوا باسم الله ، فركبوا ، وإنما فى كل مركب نصف شحنته ، قد خرجالنصف الآخر إلى البر .(2)

    * * * *


    (4)



    نبذه عن معركة ذاتالسواري *


    لقدكان انتصار المسلمين فى موقعة " ذات السوارى " ذا أهمية كبرى بما حققهمن نتائج على الصعيدين السياسى والعسكرى كما سنرى .


    أولا : نتائج المعركة على الصعيد السياسى


    ـتعد هذه الموقعة البحرية من المعارك الحاسمة التى غيرت مجرى تاريخ البحر المتوسطوخريطته السياسية فبعد أن كان بحرا روميا صار بحرا إسلاميا ، وتلك قمة رائعة منوجهة النظر الإستراتيجية حيث انتهت هذه المعركة وقد أسلمت للمسلمين رقعة فسيحة علىسواحل البحر المتوسط تمتد من طرطوس شمالا حتى برقة وتونس جنوبا .


    وهذاالامتداد الشاسع كفل للمسلمين نتيجتين مهمتين تعد كل منهما كسبا وإضافة إلى رصيدالمسلمين فى إطار دولتهم العظمى كالتالى :


    الأولى: نتيجة عاجلة أصابت الهدف على المدى القصير وتتمثل فى تلك الضربة الموجعة التىمنيت بها الدولة البيزنطية فى أعز ممتلكاتها من أقاليم وجزر وسواحل حرمتها من أنتطل على سواحل البحر المتوسط وأعاقت حركة تجارتها الدولية وسجل هذا الحدث بدايةلانحسار الدولة البيزنطية وأفول نجمها ، مما شجع المسلمين على القيام بمحاولاتمتعددة لتصفيتها ، بدأت أولى هذه المحاولات بمعاوية ثم عبد الملك بن مروان ( 65 ـ86هـ ) ثم سليمان بن عبد الملك ، إلى أن تمت أخيرا تصفيتها واستيلاء المسلمين علىعاصمتها " القسطنطينية " على أيدى السلطان العثمانى محمد الفاتح .


    الثانية: نتيجة بعيدة المدى كانت لها أهميتها الكبرى فى تطور الدولة الإسلامية ونموعمرانها وازدهار حضارتها حيث كان إشراقها على البحر المتوسط يمثل نقطة البداية فى تشكيل علاقات جديدة وصلاتمباشرة مع دول قارات العالم القديم ــ آسيا وأوروبا وإفريقية ــ على أعلى مستوىسواء فى العلاقات التجارية أو السياسية أو العسكرية مما مكن من انتشار الإسلام بينشعوب هذه القارات .


    وظهرأثر هاتين النتيجتين فى أنهما مهدتا الطريق لمقدرة المسلمين البحرية فى السيطرةالتامة على حوض البحر المتوسط ورضيت الدولة البيزنطية بهذا الواقع حتى أن أساطيلالمسلمين قد ضريت عليهم ضراوة الأسد على فريسته ، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذاالبحر عدة وعددا .


    وعلى الرغم من أن معركة " ذاتالسوارى " قامت بجهود الجيش الإسلامى القادم من مصر الذى تحمل عبء المعركةمنفردا ، وسجل قائدها عبد الله بن أبى السرح صفحة مجيدة فى تاريخ البحريةالإسلامية ، إلا أن الاستعدادات الأولية لهذه المعركة تشير إلى إظهار التعاون الوثيقبين القوات الإسلامية فى البحرية "المصرية والشامية " فى هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الأساطيل الإسلامية .[15]


    ولقد كان الاتصال وثيقا بين معاوية وابنأبى السرح فى تخطيط محكم للقيام بجهود مشتركة للانقضاض على القسطنطينية مما حدابإمبراطور الروم أن يبادر بشل حركة التعاون البحرى بين المصريين وأهل الشام ، وأنيفاجئ أساطيلهم فى مراسيها قبل أن تبحر إليه ، وإن كان هذا التعاون لم يحقق فىمراحله الأولى نتائج ذات بال إلا أن الخلفاء المسلمين فيما بعد تنبهوا إلى أهميةهذا التعاون فى السيطرة على حوض البحر المتوسط ، لذا نراهم لم يألوا جهدا فىالاعتناء بالأساطيل البحرية فى مصر والشام وإشراكهما معا فى كل نشاط بحرى تخطط لهالقيادة الإسلامية .


    ثانيا : على الصعيد العسكرى


    علىالرغم من أن معركة ذات السوارى كانت أولى المعارك البحرية فى الدولة الإسلاميةالناشئة إلا أنها تمخضت عن دروس عسكرية مفيدة نذكر منها ما يلى :


    ـ توفر عوامل عسكرية أدت إلى انتصارالمسلمين فى هذه الموقعة منها : القيادة الحكيمة لابن أبى السرح القائمة علىالشورى والاقتناع ، ويظهر ذلك من خلال اجتماعه بالمسلمين عند قدوم قسطنطين بأسطولهإلى مياه الإسكندرية قائلا لهم " أشيروا على " وبهذا اكتسب ذلك القائدحب جنوده وارتفعت معنوياتهم وقرروا خوض المعركة على الرغم من قلة إمكانياتهمالبحرية وافتقارهم إلى العديد من البحارة المقاتلين .


    ـ ظهور آثار هذه القيادة فى تعاونالمقاتلين وتضافر جهودهم فى مواجهة أعدائهم بشجاعة فائقة وفى التفانى والمحبةوالإخلاص لقائدهم ولا أدل على ذلك من تلك المغامرة التى اندفع إليها علقمة بن يزيدحينما وثب على سلسلة المركب البيزنطى الذى نجح فى جر سفينة عبد الله بن أبى السرحفقطعها بسيفه معرضا نفسه للهلاك والموت ، مفديا قائده بروحه وهى أغلى ما يمتلك . [16]


    ـتحلى المحاربون المسلمون بالصبر والثباتعند الشدائد والتصميم على إحراز النصر مهما كانت التضحيات ، والمقدرة على التصرفالسليم أمام المواقف الحرجة .


    وقد تجلى ذلك عندما نفدت جميع أسلحةالمسلمين من سهام وقسى وحجارة فلم يهنوا ولم يستسلموا وإنما فرضوا واقعا أرادوه وغيروامن خطتهم وفاجأوا بها عدوهم فربطوا سفنهم بعضها إلى بعض ثم قرنوها بمراكب العدووحولوا لجة البحر إلى ميدان قتال برى يجيدون القتال عليه ، وبفيض من الإيمان الذىملأ قلوبهم ورغبة فى نيل إحدى الحسنيين انطلق الرجال يحصدون أعداءهم حصدا وسالتالدماء على صفحة الماء وطرحت الأمواج جثثهم على الشاطئ ركاما ... وتحقق النصر بأمرالله .


    وبعدفهذه أولى معارك المسلمين البحرية تسجل صفحة مشرقة فى تاريخ البحرية الإسلاميةجعلت من البحر المتوسط بحيرة إسلامية دعمت دوحة الإسلام ووضعت نواة حضارة المسلمينعلى سواحل ذلك البحر تنساب منه هدى ورحمة إلى سائر شعوب الأرض . لقد مهدت هذهالمعركة الطريق إلى قيام بحرية إسلامية قوية على مدى القرون كانت بمثابة ذراع قويةللمسلمين تسحق كل من ينازعهم السيادة على جنبات ذلك البحر . [17]


    ومماينبغي الإشارة إليه أن تأسس تلك البحرية كان علي يد الصحابي الجليل معاوية بن ابيسفيان بإذن من الخليفة عثمان بن عفان ذلك الرجل العظيم الذي تكالبة عليه الأحزانوالمواجع من كل ناحية وزاحمته المشاكل ببأسها وشدتها وأنتفض عليه بعض المسلمين فيالأمصار يطالبون بعزله ورحم الله عثمان بن عفان ذلك الرجل الذي لم يلق حظه من التكريموالإشادة بأعماله العظيمة الإيجابية حيث لم يري بعض الناقدين المتطرفين إلا مساوئهوزلاته . وإن لم يكن فعل شيئا سوي تكوين القوي البحرية وإقامة الأساطيل وذلكبالانتصار العظيم في معركة السواري لكفاه ذلك فخرا وأملا في رضي الله عنه أثابهالله وتغمده برحمته .



    1- يقال جمر الجيش إذا حبسه في أرض العدو ولم يقفله منالثغر .
    2- أنظر الطبري ج3 صـ333 .

    1- البلاذري : فتوح البلدان ص342 ،410 -415 .
    2- أو كيلكيا وهي البلاد التي فوق زاوية خليج اسكندرونة وتعرف عند العرب باسمقاليقلا .

    1- علي محمد الصلابي عليّ بنأبي طالب سلسلة الخلفاء الراشدين صـ198 .
    2- البلاذري ، فتوح البلدان ص 231 –234 .
    3- العقد الفريد ج2 ص 375 – 386 وقدقيل إنه أول من خطب إلي جانب المنبر .
    4- رواه البلاذري فتوح البلدان ص 245 – 246 .







    1- العدوى الأمويون والبيزنطيونصـ 125 .



    1- البلاذري فتوح الشام صـ 158 وابن كثير ج7 صـ 153 .

    1- أنظر البلاذري صـ 158 .والكامل لابن الأثير ج 3 صـ 97 .
    2- المصدر السابق صـ158 - 159 .



    1- البلاذري صـ158 .
    2- الكامل بن الأثير ج3 صـ 96

    1- أنظر معركة الصواري في كتاب د/ فتحي زغروت عقيد تغدق نصرا .مكتبة العلوم والحكم مصر صـ201 إلي222 .
    2- انظر عدد قوات الطرفين فى كل من بنعبد الحكم فتوح مصر تحقيق عبد المنعم عامر 1961م ص255 ـ وحسن إبراهيم حسن تاريخالإسلامى السياسى والدينى والثقافى والإجتماعى ج1 الطبعة الأولى . القاهرة 1967مص262 .

    1- عبد الرحمن ذكى السلاح فى الإسلام .القاهرة . طبعة الجمعية التاريخية ص36 .
    2- ابن عبدالحكم فتوح مصر .... مرجع سابق . ص 256 .
    3- الطبرىتاريخ الرسل والملوك ص 69 ، 70 .

    1-البقرة 249 .
    2- ابن عبدالحكم فتوح مصر والمغرب والأندلس . مرجع سابق ص256 .
    * وقد سميت المعركة بذات الصوارينسبة إلي بذات السواري عمود يركز في وسط السفينة ، يعلق به الشراع ليسوقها وجمعها –صوار وقد تكتب بالسين فيقال السواري نسبة للاعمدة التي تنصب في أوساط السفن لتعلقبها القلوع . مفردها " ساري " أو لأنها كانت معركة بحرية اعتمدت عليالسفن . وقد وردت اللفظة بالصاد في المراجع الأصلية مثل : تاريخ الأمم والملوكللطبري " كما وردت أيضا بالسين وكلتا اللفظتين بمعني واحد .








  25. #25
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    (النازلة الثانية )


    تمرد أهل الأمصار علي عثمان وولاته


    مما لا شك فيه أن الفتوحات الإسلامية في عصر أميرالمؤمنين عثمان بن عفان قد اتسع اتساعا كبيرا كما عرفنا سابقا ودخلت في حوزةالدولة أقاليم ومدن كثيرة مترامية الأطراف عامرة بسكانها ومجتمعاتها المتنوعة إذتباينة الأجناس والديانات والعادات والتقاليد وبعض شعوب هذه البلاد قد بقيت عليديانتها ورضيت بدفع الجزية للمسلمين بينما دخلت الكثرة الكثيرة في الدين الإسلامي. ولعل هذا التنوع السكاني والتباين كان يحدث عداوات كثيرة ومشاكل عديدة تطلبت منالدولة الإسلامية أن تحكم قبضتها علي ما تحت يديها من الأمصار وبذلك حددة تلكالأمصار علي هيئة أقاليم ومدن وكور ثم عينت عليها الولاة الاكفاء .

    (1)


    أقاليم الدولة في عهد عثمان وسياسته مع الولاة :



    1) مكة لمكرمة 2)المدينة المنورة . 3) البحرينواليمامة .


    4) اليمن وحضر موت . 5)ولاية الشام . 6) أرمينية .


    7) ولاية مصر 8)ولاية البصرة 9) الكوفة .

    * * * *


    (2)


    كيف كانت سياسة عثمان مع الولاة



    تولي عثمان الخلافة في بداية سنة 24 هـ وكان ولاة عمر ينتشرون في الأمصاروقد أقرهم عثمان في ولاياتهم عاما كاملا ثم باشر العزل والتعيين وفق سلطته وحسب مايراه صالحا للمسلمين وكان عمر رحمه الله لا يقر عاملا أكثر من سنه واحدة عليولايته وكان عثمان رضي الله عنه كان يعتمد علي مشورة الصحابة عند تعيين الولاة أوعزلهم وكان رحمه الله دائم النصح لولاته وأن يكونوا رحماء مع رعيتهم وقد جاء فيتاريخ الطبري بعد وصاياه : أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدمإليهم أن يكونوا جباة وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة وليوشكنأئمتكم أن يصيروا جباة ، ولا يكونوا رعاة ، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانةوالوفاء ، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم مالهم وتأخذوهم بما عليهم ، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوا بالذي عليهم ،ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء ([1])


    فعثمان رضي الله عنه يوصي ولاته في الكتاب الموجز بالعدل والرحمة مع الرعيةويمكننا أن نستخلص سياسة عثمان لعماله فهو يوصيهم :


    1- رعاية الدين والإصلاح قبل جباية الأموال كما كان عليه الأئمة في صدر هذهالدولة النبي وأبو بكر وعمر وهو يخشي أن يصبح أولئك الولاة جباه لا رعاة فيضيعالحياء ويضيع الحق وتتكدس الأموال في بيوت المال ظلما وجورا وتنقطع الأمانة ويحلمحلها الغش الذي يضيع حقوق الراعي والرعية معا وينتشر الشك وتطل الظنون بقرونهاوتفسد العلاقات بين الناس وتسوء العلاقة بين الراعي والرعية وهذا ما يحدث الآنحينما تركز بعد الدول التي أختلت موازين اقتصادها في التركيز علي الضرائب بفرضأنواع جديدة تثقل كاهل الجماهير حين أذن تسوء العلاقات بين الدولة والأفراد وينتشرالغدر والكذب والنصب والاحتيال لتفادي تلك الضرائب . فلا عجب إذن أن يطلب عثمان منعماله وموظفيه أن يكونوا رعاة ولا يكونوا جباة .


    2- والمطلب الثاني قريب الصلة بالمطلب الأول ولأهميته وهو جاء تركيزا لاينبغي أن يظلم المسلمين إرضاء للحكومة والعكس صحيح ألا تظلم الحكومة إرضاء لعامةالمسلمين وإنما الواجب أن يؤخذ من المسلمين ما عليهم وأن يرد إليهم فلا ظلم ولاإسراف علي الناس لأخذ الصدقات وجباية الخراج وإنما ينبغي القسط الذي لا يضار فيهراع ولا رعية فيتحقق العدل المنشود بين المسلمين وبين أئمتهم وأمرائهم .


    3- العدل مع أهل الذمة لأن لهم عهد علي الإمام المسلم بالحماية والدفاع عنهطالما يدفعون الجزية ونصحوا وأخلصوا وأوفوا بما عاهدوا عليه حين أذن لا ينبغي أنيأخذ منهم أكثر من الحق فهم كالمسلمين في استحقاق العدل .


    4- وهذا المطلب يتصل بالعدو الذي يواجه عمال المسلمين في أمصارهم ويقول (ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء فما أعدل عثمان حيث تأثر بعدلالقرآن الكريم حيث يقول الله تعالي في سورة براءة إذ يأمر أن يستفتحوا عليهم ولكنبالوفاء وليس لهم أن يغدروا بالعدو وإنما عليهم أن يعرضوا الدعوة ويخيروا العدوبين واحدة من ثلاث . (2)


    هذه بعض الملامح من سياسة عثمان لعماله وهي نفسها التي نزل بها القرآنواتبعها الأئمة قبل عثمان .


    ولنمض معا نترسم خطاه وهو ينصح عمال الخراج فيقول : (( أما بعد ، فإن الله خلق الخلق بالحقفلا يقبل إلا الحق . خذوا الحق وأعطوا الحق . والأمانة الأمانة ، قوموا عليها ،ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلي ما اكتسبتم . والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله خصم من ظلمهم .


    فعثمان هنا يحذر عمال الخراج من أن يكونوا أول من ينحرف عن الأمانة فيحملواإثم انحرافهم عنها وأثم من يذهب مذهبهم ويتبع انحرافهم ثم يأمرهم في شدة أن يأخذوا الحق ولا يزايدونعليه وأن يرعون الأمانة فيما يجبون من أموال الناس وفيما ينفقون علي مرافق الدولةمن المال العام والمدهش إذا اللهجة الشديدة الذي امتاز بها هذا الكتاب إذ يركز عليالأمانة ثم الوفاء بعدها ثم ينهاهم عن ظلم اليتامى وأهل الذمة واعتقد أن عثمان فيهذا الصدد يكون قد حقق ما بايع عليه عبد الرحمن بن عوف إبان البيعة في المسجد وفعلما فعله أبو بكر وعمر ولنمض مع سياسة عثمان أيضا ونتوقف وهو يوصي قادته من أمراءالحرب في الثغور:( أما بعد ، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم ، وقد وضع لكم عمر ما لميغب عنا بل كان عن ملأ منا . ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير اللهما بكم ويستبدل بكم غيركم . فانظروا كيف تكونون ، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظرفيه والقيام عليه) .


    إن أول ما يلفت أنظارنا في هذا الكتاب أن عثمان حريص علي أن يتبع سياسة عمرالتي رسمها لقواده وأمراء الجيوش في ميادين الحروب وقد جاءت سياسة عمر هذه بعداستشارة متأنية من كبار الصحابة من المهاجرين والأمصار فهو هنا يأمر أمراءه بكلعزم وقوة ألا يغيروا ولا يبدلوا شيء مما أمر به عمر أو رسمه في سياسة الحروب حتىانه ينذرهم بالعزل والعقوبة إن بدلو ذلك فهو لا ينسي عهد البيعة الذي أخذه عليهعبد الرحمن بن عوف أن يتبع الأئمة السابقين له وأن يقتدي ويسترشد بخطاهم وأن يجتنبالتكلف والتجديد أو الابتداع . ثم تأمل معي وهو ينبه المسلمين ويحثهم علي الإتباعوالاقتداء وإلي أنه لم يبلغوا ما بلغوه من سعة الفتوحات في ميداني الفرس والرومإلا بالإقتداء والإتباع فيقول : ( أما بعد ، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداءوالأتباع ، فلا تلفتكم الدنيا عن أمركم ؛ فإن أمر هذه الأمة صائر إلي الابتداع بعداجتماع ثلاث فيكم تكامل النعم ، وبلوغ أولادكم من السبايا ، وقراءة الأعراب والأعاجمالقرآن . فإن رسول الله e قال : الكفر في العجمة ؛ فإذااستعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا ) .


    فعثمان متبع للأئمة من قبله ويخشي عليهم أن يبطرهم الرخاء وبسطة العيشويحذرهم من امتزاج دماء العرب لدماء السبايا من البنات فإن ذلك الامتزاج يفرز جيلاغير خالص العروبة في دمائه وهذا قد يؤدي إلي الابتداع والتجديد وترك الاقتداءنتيجة تفاعل الشخصيات والثقافات العربية وامتزاجها بغير المسلمين .


    ثم يعرض بعد ذلك قضية من أخطر القضايا وهي تؤثر في الدين تأثيرا شديدا فإنذلك الجيل ( المولدين ) قد يدخل علي الدين ما ليس منه وكذلك اللغة فيتكلف النطقبها مما يؤثر علي أصحاب اللغة الأصلية فهم قد أصبحوا مسلمين وقد يصعب عليهم نطقاللغة العربية وقراءة القرآن الكريم وفهمه فيضطرون أخيرا إلي التكلف والتزيد وهذهآفة من آفات الفتح ينبغي محاصرتها والعمل علي علاجها فكان عمر يضرب بالدرة من ينطقاللغة العربية ويلحن فيها وطلب من معلميها ان يعلموا النحو الصحيح وقواعد اللغةالصحيحة فكان يقول لهم النحو اسم وفعل وحرف ثم أنحوا هذا المنحي وليس بغريب أنيقتدي به أمير المؤمنين عثمان في هذا الكتاب كما يقول حيث كثرت النعم وظهر الطرفوالبطر ونشأ جيل المولدين فكان التكلف والابتداع في كل مناحي الحياة دينا وعلما وواقعا .


    ولم يكن مستغربا أن يقر عثمان بن عفان عمال عمر بعدما آلت إليه الخلافةوذلك بوصيه من عمر فقد خشي عمر أن يتعجل الإمام بعده الاستمتاع بالسلطان فيعزلويولي ويقطع لذلك ما استأنف العمال من أعمالهم ويضطرب بذلك أمر المسلمين فيالأمصار والثغور وذلك لحرمان الوالي القديم من إعطائه وقتا كافيا لينجز باقيمشروعاته إذ يأتي الجديد فيلغي ما عمله القديم لذا نري أمير المؤمنين عثمان يلتزمهذه الوصية ويلزم بها العمال في عهده وخاصة في النصف الأول من خلافته . ويروي أنهألزم العمال في العام الأول من خلافته للسياسة التي كان عمر يأخذهم بها حيثأحتملهم عام كامل .([2])


    ولم يشذ عثمان عن سياسة عمر في سني خلافته الأولي إلا في زيادة أعطياتالناس إذ زاد في أعطياتهم مائه ولم يكن قد حدث شيء يوجب هذه الزيادة ويبدوا أنأمير المؤمنين عثمان قد استهل خلافته بتلك التوسعة علي الناس وقد اقتطعها من حصة المرافق العامة دون أن يفرض علي الناس ضرائبجديدة ولعل في ذلك تيسير بسيط وخروج قليل عن سياسة عمر حيث كانت سياسته الإبقاءعلي بيت المال وألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة من الإنفاق وعلي ما يبدوا أن عثمانأراد أن يوسع علي الناس حيث كان عمر ممسكا عن الإنفاق إلا بقدر حاجته إليه فأرادأن يشعر الناس ويبشرهم أن سياسته سوف تعتمد علي سياسة اللين والرحمة وليست حياةالشظف والتقشف كما كان يفعل عمر فهو يمحوا سياسة التقرب إلي الناس والتوسعة عليهممن بيت مال المسلمين وقد عرف المسلمون أن هذا من حق الإمام طالما لم يتجاوز حقهفهو يوفر لهم العطاء ولهم الحق في أن يزيده أو ينقصه حسب ظروف بيت المال ولكن هذهالسياسة قد نظر إليها بعض الصحابة بعين الحزر والتوقف والخوف لان التوسعة عليالناس لا حد لها فإذا ما وسع علي عامة الناس اليوم وقد يوسع علي خاصتهم غدا ومن ثميظهر الإيثار والمحاباة ويترتب علي ذلك التنافس والتزاحم والتطلع إلي الأموالالعامة .


    وقد عرف عثمان بكرمه وسخائه فكان ينفق من ماله الكثير والكثير في سبيل اللهوينفق منه وكأنه يغرف من بحرا لا يخشي الفقر كل همه أن يصل رحمه ويبر أصدقائه وكانيري أن في ذلك قربي لله تعالي وإذا عجز ماله الخاص عن ذلك فليغرف ويعطي من أموالالمسلمين ويفتح علي نفسه بابا من المآخذة والعتاب دلف منه الثائرون والمتآمرون .


    إن عثمان في ذلك التصرف لم يقتدي بسيرة عمر اقتداء دقيقا ولا يظنن ظان أنعمر كان يضق علي المسلمين إنما كان يوسع لهم في الإعطاء كل حسب درجته وقربه منالرسول وأسبقيته للإسلام ولكن عثمان بن عفان أراد أن يوسع عليهم توسعة أكثرويأخذهم بالسعة الواسعة بعد أن كان عمر يأخذهم بالسعة الرشيدة المقتصلة .


    كيف كان يراقب عثمان ولاته وعماله ؟


    كان أمير المؤمنين عثمان يراقب ولاته وعماله وقواده بطرق كثيرة ومتنوعة


    1) موسم الحج حيث كان يلتقي مع الوالي ورعيته ويتلمسالمشاكل التي تلم بهم وكان غالبا ما يشير علي الوالي ببعض التصرفات لخدمة رعيته.


    2) كان يستغل فرصة وجود بعض رجال القادمين من الأمصاروالولايات فيسألهم عن مسيرة الوالي معهم وعن مشاكلهم وأحوالهم .


    3) وكان أحيانا عندما ينتشر خبر من الأخبار فكان يراسلأهل الأمصار ليقف علي حقيقة ذلك الخبر .


    4) إرسال المفتشين إلي الولايات مثل عمار بن ياسر الذي أرسله إلي مصر – محمد بن مسلمة الذي أرسله إليالكوفة - واسامة بن زيد الذي أرسله إلي البصرة – وعبد الله بن عمر الذي أرسله إليالشام .([3])


    5) وكان أحيانا يستقدم بعض الأفراد الموثوق فيهم منالولايات لتسألهم عن ولاتهم.


    6) وفي بعض الأحيان كان يستقبل الولاة لسؤالهم عن أحوالالبلاد .

    * * * *


    (3)


    صلة عثمان بكبار الصحابة



    توسع عثمان في العطاء أكثر مما كان يجبيه الفاروق عمر رضي الله عنهما إذدعا الأمصار إلي أن توفد إليه وفودها للعطاء وهذا توسع في الإنفاق لم يفعله عمر منقبل .


    وكان عمر قد توسع في الإنفاق حيث فرض في شهر رمضان لأهل المدينة عطاء خاصا درهمافي كل يوم من أيام الصوم ولأزواج النبي درهمين درهمين يوسعون به العطاء علي أنفسهم وعلي عيالهم .


    وإذا كان عثمان قد وسع علي الناس إلا انه أوجد ثغره قد تسيء إلي الإمام فهيلا تخلوا من سوء الظن عن البعض بل من سوء الحديث أحيانا وقد دعا البعض ان هذهالتوسعة التي أجراها عثمان إنما أراد بها أن يتحبب إلي رعيته وأن يكتسب محبتهموينفذ إلي قلوبهم . والقارئ للروايات المتضاربة في هذا الشأن يجد ان إمام المسلمينعثمان بن عفان بعد مرور فترة من خلافته أخذ يصل الأعلام من أصحاب النبي e بصلات فوق ما قرر لهم من العطاء وقد وصل الزبير بن عوام 600.000ألف درهم ووصل طلحة 200.000 ألف درهم ويروي بن سعد أن الزبير حينما قبض هذه الصلةأخذ يبحث عن أفضل الوسائل لاستغلال المال فأتجه نحو اتخاذ الدور في الأمصار ([4]) .


    وقد صنع عثمان بن عفان مع كبار الصحابة صنيعا لم يصنعه عمر إذ سمح لهم بالهجرةمن المدينة والتفرق في الأرض والإنسياح في الأقاليم مخالفا بذلك سياسة الفاروق عمرالذي شدد علي عدم خروجهم لعدة أسباب قد رآها عمر أنها جديرة لمنع الصحابة منالرحيل فكان يقول : ( إني واقف لقريش بشعاب الحرة فآخذ بحجزها فحائل بينها وبينالفتنة ) فالفاروق يريد ألا يفتتن أصحاب النبي بالمال والدنيا بعدما تجردوا منهماكما خشي أن تفتتن بهم الأمصار فيقدسونهم أو تجتمع لكل منهما زعامة ويمضي الناسورائهم ويصير بكل حزبه وجماعته ولكل رأيه وفكره وهذا يؤدي إلي تفكيك العقليةالعربية المسلمة آنذاك .


    وقد يحق لنا أن نتساءل ما سبب انحراف عثمان عن نهج عمر وأبي بكر في هذاالجانب ، من المؤكد أنه أنحرف ومن المحقق أيضا أنه لم يتعمد بذلك ظلما للرعية أومحاباة لأحد إنما الذي نطمأن إليه هو أنه أراد أن يوسع علي الناس من أموالهم إذارأي بيت المال قد تكدس بالأموال ففضل ان يعود علي الناس فهم أحق به وكان رحمه اللهلا يري أي حرج في أن يصل أصحاب النبي بشيء من هذا المال وهم المهاجرون الأولونوالذين صدقوا الرسول في كل مواقعهم وأبلوا معه بلاء حسن وتحملوا الشدائد ولاقواطعم الحرمان فلما لا يخصهم بشيء من مال المسلمين .


    وقد كثر الكلام حول تلك الصلات وبعض الناس من أيده والبعض الأخر رفض ، ووجدفيه نذيرا إلي عواقب وخيمة وإن كان أغلب الناس لم يروا في ذلك بأس خير جاءهم فلميردوه ونعم الناس بتلك الصلات حتى عم الخير وهذا ما نراه في كثيرا من رواياتالمؤرخين الذين أجمعوا علي أن الصدر الأول من خلافة عثمان كان فيه الرضا والخيروالطمأنينة وأحب الناس عثمان ورضوا عن خلافته فهل استمرت تلك السياسة في النصفالثاني من خلافة عثمان أم جرت الأمور عكس ما كان يتوقع ذو النورين عثمان بن عفان منحيث بروز الفتنة وتمرد المتمردين ؟

    * * * *


    (4)


    طبقات المجتمع في عصر عثمان وأثرها في إثارة الفتنة



    عرفنا فيما سبق أن عمر بن الخطاب حجر علي أكابر الصحابة من المهاجرين أنيهاجروا من الحجاز وكان عمر شديدا كما قلنا في هذا الأمر حتى هابته قريش إذ حصرهمفي المدينة حتى إذا جاءه رجل يستأذنه في غزو وهو من المهاجرين فيرفض ويقول له :جزاك ما قمت به مع رسول الله e وخيرا لك من الغزو ألا تريالدنيا ولا تراك .


    والحقيقة أن عمر كان لم يخش الفتنة من أحد إلا من قريش فهو كان يعرف هؤلاءالقوم معرفة تامة ويعرف مواطن الضعف ومواطن القوة فقد كانت لقريش زعامة العربلوضعها الديني وإشرافها علي الحرب واستقرارها حول البيت فمنحها كل ذلك بصيرة واعية وهمة بالغة وإرادة وزعامة لم تكن لغيرهاوقد كانت قريش أصحاب تجارة مرت عليهم الأرباح الكثيرة وقد احتكت بكثير من الشعوبوالأمم الأخرى أكسبها حرصا وغناء وحسن التدبير .


    فلما أشرق الإسلام ودخلت قريش ذلك الدين الجديد ظلت قريش محتفظة بصفاتهاالتي كانت عليها قبل الإسلام فقد نظر أغلبهم إلي الدين الجديد علي انه وسيلة وليسغاية وذهبوا يتلمسون النفع من وراءه كما كان ينتفعون من بيع الأوثان وعبادتها لذاعرف عمر تلك الطبيعة في قريش لذا نراه يؤثر الاحتياط في سياستها ولم تلن شكيمته لهم ولم يخل بينها وبين طمعهاالشديد وبينها وبين اعتدادها بنفسها وازدرائها لغيرها ([5]) .


    ويقول طه حسين أن تلك القوة التي تحدث عنها كانت مصدر ضعف لقريش حيث كانتتدفعها إلي ان تغالي بنفسها فتتورط في الكبرياء ، ولأنها كانت تدفعها إلي إيثارأنفسها بالخير فتتعرض للانهزام أمام المنافع العاجلة وأمام اللذات القريبة التي لاتخلو من الإثم أحيانا . وكانت تدفعها الطموح الذي لا حد له فتعرضها لتجاوز الحدوالطموح إلي ما لا ينبغي الطموح إليه . كما تعرضها للظلم والاستعلاء وقد خشي عمر من هذا كله إذا قيس ذلك إليالمهاجرين الذين أحسنوا الصحبة للنبي e وحسن بلائهم فإذا أضفنا إليذلك أن هناك بعض شيوخ قريش لمن يسلموا عن رضا أو رغبة وإنما دخلوا الإسلام قهراحينما فتحت مكة ومن هنا نظر هؤلاء المتأخرون من قريش للإسلام علي أنه صفقة ومغامرةينبغي الاستفادة منها وقد تذكروا ما وعد به النبي e المسلمين أن الله سيثيبهم حسن ثواب الدنيا والآخرة ففكروا جميعافي ملك الدنيا واندفع بعضهم إلي جمع الدنيا والآخرة ، وأراد كثيرا منهم أن يعوضبحسن البلاء في الفتوح ما فاتهم من حسن البلاء مع النبي e في غزواته فإذ بهم ينفرون إلي الحرب خفافا وثقالا منهم ما يريدعرض الدنيا وقليل منهم من يرد عرض الآخرة وكانوا يحسون أنهم الطلقاء وأنهم أقلدرجة من الذين سبقوا للإسلام وقد فهمهم عمر وخبر طبائعهم وكان عمر يحرمهم من بعضالمزايا حتى لا يفتتنوا بها وكان ذلك يدفعهم إلي كراهيته والحنق عليه ، وكان عمر يشفق علي المهاجرين أن يتوسعوا فيمارخص لهم فيه النبي ويشفق علي غير المهاجرين من قريش وجعلنا نذكر أنه أبي عليمعاوية ركوب البحر إشفاقا علي المسلمين من هوله بل كان يري أن الحق عليه نحوالمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش .


    هذه هي الرعية التي ابتلي بها عثمان يوم أن بويع للخلافة وإذا ما تلمسناتلك الرعية ولوجدنا أنها تمثل طبقات المجتمع آنذاك علي النحو التالي .


    1- الطبقة الأولي وهي طبقة قريش التي جمعت بين مهاجرين سابقين أبلوا معالرسول بلاء حسن وبين مهاجرين أسلموا بآخرة ولهم مطامعهم في الدين الجديد يريدأغلبهم ان يستحوذوا علي المال والمكانةوالثراء ويتقمصوا طبيعة المؤمنين الصادقين وهذه الفئة من قريش المتوثبة هي التيكان يخشاها عمر .


    فكان علي عثمان أن يختار احد الموقفين : إماأن يشتد عليهم كما اشتد عمر فيمسك زعماء المهاجرين في المدينة ، ويظهر لعامة قريشما كان يظهر لها عمر من سوء الظن بها . ويقف فتيان قريش وكهولهم كما كان يقفهم عمرعند حدود لا يتعدونها ، ويجعل أمور الحكم والولاية كما كان يجعلها عمر شائعة بينالعرب بل بين المسلمين لا ينهض بها منهم إلا القادرون علي احتمال اعبائها ، وإماأن يلين فيخلي بين قريش وبين الطريق تمضي فيها إلي غير غاية ، لا حد لطمعها ولا سقفلجشعها ولا لمغامراتها ولا لإيثار نفسها بالخير . وسنري ان عثمان قد أختار الثانيةراضيا عنها أو مكرها عليها .


    2- الطبقة الثانية وهي طبقة الأنصار وهي الطبقة التي آوت ونصرت ورضي اللهعنها ومكانها محفوظ في القرآن وموروث في القلوب وقد رضيت تلك الطبقة أن تكونبمثابة الوزراء لأن الأئمة كانوا من قريش كما عرفنا عند بيعة الثقيفة إلا أنهمكانوا بمثابة المستشارين المخلصين لأبي بكر وعمر وعثمان في أغلب الحالات فكيف كانتتتعامل تلك الفئة ( الأنصار ) مع قريش أصحاب الأمر من الأئمة ؟ لقد كان أبو بكروعمر يعرفان حق الأنصار وكانا يعينان الولاة من قريش وغير قريش وقد تفاعل الأنصاربطبيعة الحال فأخلصوا لأبي بكر وعمر بالرأي والمشورة ورضوا عنهم . ولكن بمرور الوقت ظهر جيل وراء جيل من الشباب قدلمسوا الفارق بين استئثار قريش بالملك وبين تهميش الأنصار ولو بعض الشيء .


    ولما جاء عثمان أنحاز لقريش انحيازا يكاد يكون كاملا مما أثر علي نفسيةالأنصار تأثيرا كبيرا كان له أثره في إندلاع الفتنة علي نحو ما سنعرف .


    الطبقة الثالثة : أما الطبقة الثالثة في رعية عثمان هي عامة العرب وهم أناسأسلموا طوعا أو كرها ثم دفعهم أبو بكر وعمر إلي الفتح فأصابوا منه ما أصابوا منأموال وثراء ثم استقروا في أمصارهم وثغورهم يدافعون عن أرض الإسلام وهؤلاء العربقد ساوي الإسلام بينهم مساواة تامة لا فضل لأحد منهم علي الآخر إلا بالتقوى .


    ولم ينس عمر قدر هؤلاء الناس فكان دائما يقول : هم الذين فتحوا الأرضوأذلوا العدو ونشروا دين الله وأن هذه الطبقة كانت حديث عهد الإسلام وقريب عهدبالجاهلية وينبغي أن يساس هؤلاء سياسة عادلة تنسيهم عصبيتهم الجاهلية ثم تنشئهمتنشئه إسلامية خالصة من أجل هذا نري عمر قاوم العصبية البغيضة وأرسل إلي الأمصارمعلمين من أصحاب النبي يقرآون أهلها القرآن ويبصرونهم بالسنة ويفقهونهم في الدين وقدراقبهم عمر أشد المراقبة وأشتد عمر أيضا في مراقبة الولاة شدة لا نظير لها .


    ولما جاء عثمان بن عفان أمضي السنة الأولي مع العمال بسيرة عمر فأبقاهم فيأماكنهم ثم بعد ذاك إذ بعثمان يقبل علي التمييز بين العرب ويعين أقاربه ويعزل بعضالولاة ويتخذ طريقامخالفا لعمر.


    الطبقة الرابعة : هذه الطبقة من رعية عثمان هم هؤلاء المغلوبين من أهلالبلاد التي فتحت والتي تعرف بطبقة المعاهدين من أهل الذمة فهذه الطبقة لم تشاركفي السياسة وهي الطبقة التي يجبى منها الأموال والتي عاش أبو بكر وعمر دون ظلمهمفلا يبالغ في فرض المال عليهم أو يقلل منه إلا كما فرضها عليهم عمر بن الخطابوفيها رفق ورحمه بهم كما كان لا يمز أحدا علي أحد فلا يميز قريش علي من سواها ولكنعثمان لم يستطع أن يحتفظ بهذه المساواة فآثر قريش من دون العرب عن عمد أو غير عمد ثملم يستطع أن يسوي بين قريش نفسها فأثر فريقا منها علي فريق راضيا بذلك أو كارها لهحتى أن عمر قد أحس بذلك قبيل وفاته فقال لعثمان إذا وليت أمور المسلمين فلا تحملنبني أمية وبني أبي معيط علي رقاب الناس . كما قال لعلي إذا وليت أمور المسلمين فلاتحملن بني عبد المطلب وبني هاشم علي رقاب الناس .([6])


    وقد مضي عثمان في سياسته مخالفا لنصيحة عمر فحمل بني أميه وآل معيط عليرقاب الناس وإذا كان قد أخذ علي عثمان تعين أقاربه فإن علي بن أبي طالب قد ولي هوأيضا ثلاثة من بني عمه العباس .


    وإذا كان للبيئة أحكامها وللزمان حسبته فإننا لا نستطيع أن ننكر التطورالذي قد ينشئ من مرور الزمن واختلاف البيئات فكانت رعية عثمان هي رعية عمر بلأغلبهم رعية علي والبعض منهم رعية معاوية فقط امتد الأجل مع أكابر الصحابة وعاشوامنذ النبي eحتى مقتل علي ومنهم من عاشفي ملك بني أمية ولكن تقدم الزمن بعثمان وكذلك بعلي وكانت سياسة عمر ومن قبلها أبيبكر تصلح لضبط هذه الرعية وتصلح أيضا للاقتداء بالنبي e حتى شعر الناس أنه لا أدني تغيير بعد موت النبي .


    وإذا كانت خلافة أبي بكر قصيرة الأجل فهي لم تجاوز السنة وبضعة أشهر بينماطالت خلافة عمر وعاش مع المسلمين يسوسهم للجادة ويأخذهم بمنهج التقشف وخشونة العيشحتي لا يركن المسلمون إلي الدنيا وقد رضي أغلب المسلمين علي تلك السياسة وشعرواإزاءها بالرضا لأنها سياسة حازمة ترعي مصالح المسلمين وفيها العدل والمساواة وليسللخليفة ولا أهله أدني مصلحة في تلك الخلافة .


    وقد سار عمر علي هذا النهج شديدا يؤدب بالدرة ولا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاعالجها بما يتفق مع القرآن والسنة فإذا لم يجد اضطرا إلي التجديد بعض الشيءواستعان بعلي بن أبي طالب وغيره في أمور هذا التجديد المحدود والذي يتفق وروحالدين ورعاية المقاصد العامة .


    وقد اتسعت الفتوحات شرقا وغربا ودخلت شعوب الفرس في دين الله وتباينتالبيئات واختلفت المشكلات بل استعصي بعضها عن الحل فكان من الضروري أن يجدد ويجتهدالمسئولون لمواجهة الجديد من تلك المشكلات , فإن سياسة عمر لم يعد يستطيع أن يسير عليها كلالناس فقد كثرت الأموال وذخر بيت مال المسلمين من أموال ونعم وذا ثراء كثيرا منالعرب وتطلعت بعض الأسر بالتمتع بطيبات ما أحل الله وكان علي عثمان مزيدا منالاجتهاد ومزيدا من التجديد الذي يتلاءم وطبيعة الحياة في ذلك العصر .


    وإذا كان عثمان رحمه الله قد عين أقاربه أو وزع عليهم من أمواله الخاصة أومن أموال بيت المال مما جعلهم طبقة ثرية في قريش فإن هذا السبب لوحدة غير كافليكون سببا من أسباب التمرد علي عثمان وظهور الفتنة التي خيمت علي المسلمينبظلالها الكريهة .

    * * * *


    (5)


    عثمان ونقل الفيء إلي أهل الأمصار



    وهذه قضية أخري من القضايا التيأدت إلي اضطراب كبير في المجتمع سواء في الأمصار أو غيرها إذ أقترح عثمان اقتراحاعجيبا وهو يعد انقلاب اقتصادي خطير إذ ساعد في إنشاء الملكيات الكبيرة في الإسلام ، وقد جاء فيكتاب الطبري أحداث سنة ثلاثين أن عثمان أقترح أن ينقل إلي الناس فيئهم حيث أقاموامن بلاد العرب فيقيم في الأمصار إلا من كان له في الإقامة فيها هدف وانتفاع ما عداالجند فلابد من إقامتهم في الأمصار وقد أندهش أهل المدينة لهذا الاقتراح فسألوهكيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض ؟ قال عثمان يبيعها ممن شاء لما كانله بالحجاز ففرح الناس بهذا الأمر ولكنهم لم يقفوا علي خطورة هذا الأمر فيما بعد ومعنيهذا الطلب هو أن يعرض علي أهل الحجاز أن يستبدلوا بما كان لهم في العراق وفيالأقاليم من الأرض أرضا بالحجاز أو في غيرها من بلاد العرب وقد بدأ في تنفيذ ذلكمع أهل الحجاز فإذا ما تم هذا الأمر فسوف يضطر أهل الحجاز أن يقيموا في بلادهم ولميرحلوا عنها وأقام معهم أهلهم وعبيدهم فيخف الضغط علي الأقاليم ويقل هجرة الأعرابإليها وسيحتاج هؤلاء الذين يشترون أرض الحجاز وبلاد العرب مكان أرض الأقاليم إليكثيرا من الأيدي العاملة لاستصلاحها واستثمارها والقيام عليها فيكثر اجتلاب الرقيقوالموالي إلي بلاد العرب ويخفف الضغط علي الأقاليم من هؤلاء الأساري الذين كانوايهاجرون إلي الأمصار في غير انقطاع وهذا أمر بلا شك محبب إلي النفوس لأنه سيظل كلأناس في أرضهم فأهل الحجاز سيبقون في أرض الحجاز وهذا أحب إليهم من أرض العراق وأهلاليمن سيبقون في أرض اليمن وهي أحب إليهم من الشام ومصر وهكذا يقيم كلا في أرضهبعد هذا الاستبدال دون سفر أو مشقة ودون هجرة من أرض الآباء والأجداد .([7])


    وقد كتب عثمان هذا القرار وأرسله إلي الأمصار وفتح علي الناس بابا كان لهتأثير عظيم في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهناك فريق من كبارالصحابة علي سبيل المثال كانوا يملكون أموالا سائلة كثيرة وأخرى جامدة في بلادالحجاز فعندما سمعوا هذا القرار فأسرعوا وأنفقوا جل أموالهم في شراء الأرض فيالأقاليم لأنهم يعرفون جيدا أن ارض الأقاليم أخصب تربة وأكثر ثمرا من ارض الحجاز ومنأوائل من فعل ذلك طلحة بن عبيد الله فقد كان أشتري أغلب أسهم خيبر من المدينةشهدوا فتحها مع النبي e أو من ورثتهم فلما أعلن عثمانبن عفان شراء الأرض بالبدل ، نري طلحة قدباع كل ما كان يملك من أسهم خيبر لأهل الحجاز ممن شهدوا فتح العراق بما كانوايملكون هناك ، كما كان له مال آخر كثيرافأشتري به من بعض أهل الحجاز أرضهم في العراق وباع هو نفسه أرضا كان يملكها فيالعراق بأرض كان هو يملكها في الحجاز وفعل الناس مثله وأقبل ممن كرهوا الهجرة مافعل طلحة وغيره ونشأ عن ذلك الملكيات الضخمة في العراق وغيره من الأقاليم ولم يقوعلي الشراء إلا أصحاب الأموال الضخمة وكان منهم بجانب طلحة الزبير ومروان بن الحكمفهل كان هذا القرار الذي أعلنه أمير المؤمنين عثمان في صالح الخلافة الإسلامية أمكان ضدها ، هذا ما سنعرفه بعدما نتكلم عن الدوافع التي دفعت أمير المؤمنين عثمانإلي اتخاذ هذا القرار ، فقد وصله كتاب من سعيد بن العاص يعرفه بحقيقة الأمر فيالكوفة . ([8])، حيث ازدحمت الكوفة بالطارئين والناشئين وأنها تتعرض إلي الفتنة وذلكلتضاؤل أصحاب السابقة من صحابة النبي وضعف أمرهم بمرور الزمن وأصحاب السابقة كمانعرف هم السادة الذين سبقوا إلي الفتح واستقروا في الكوفة وكان فيهم الشريف صاحبالرياسة في قومه وفيهم القارئ الذي كانت له المكانة الدينية لاتصاله بالنبي اوبأصحابه وقد أخذوا يتناقصون شيء فشيء ، ويقابل هذا كثرة الطارئين والناشئين منالأعراب الذين يقبلون من تلقاء أنفسهم إلي الكوفة او يرسلهم الخليفة جنودا كما كثرالأسري الذين كانوا يوزعون علي الفاتحين مع الغنائم فيعودون معهم إلي الكوفةليقيموا فيها كذلك تكاثر هذا الجيل الجديد وهو ما يسمي جيل المولدين الذين يولدونمن أبناء الأحرار غير العرب ومن أبناء العبيد وأضف إلي ذلك الطارئين من الأعرابوالطارئين من الأعاجم . كل تلك الأجناسوالطوائف تكاثرت حتي زحموا أهل السابقة وكادوا يستأثرون بالأمر من دونهم وتحكيالمراجع أن الوليد بن عقبة هو الذي أحسن إلي تلك الفئات من العبيد والسبايا حيثكان يوسع عليهم ويعطيهم من بيت مال المسلمين ففرض للرقيق أعطيات يتوسعون بها ثلاثةدراهم لكل واحد منهم كل شهر دون أن ينقص ذلك من أعطيات سادتهم ومواليهم وإنما كانيؤدي إليهم ذلك من فضول الأموال واستطاع بذلك أن يضاعف أعداد هؤلاء العبيد لينشأمنهم لنفسه قوة تعينه علي هؤلاء السابقة أو السادة والأشراف العرب . ويتحدث الرواة أن الإماء والعبيد قد اتخذواالحجاز حين عزل الوليد بن عقبة . (2)


    ولعل عزل الوليد قد كان فيه متنفسا لأصحاب الرأي والسادة في الكوفة فقدكانوا يبغضونه أشد البغض ومما ينبغي معرفته أن ما أصاب الكوفة أصاب الأمصار الأخرىفكان تشكوا أيضا من كثرة الطارئين عليها .


    مما لا شك فيه أن ذلك القرار الذي أتخذه أمام المؤمنين عثمان بإيصال الفيءإلي أهل الأمصار إنما هو قرارا خاطئ حيث ظن عثمان أنه سيقضي علي الفتنة في الكوفةوغيرها ، كما فهم من كتاب سعيد بن العاص فخطب يقول يا أهل المدينة إن الناسيتمخضون بالفتنة وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم ذلك . فهل ترونه حتى يأتي من شهد مع أهل العراقالفتوح فيه ، فيقيم معه في بلادهم ؟ ([9])


    فهل تخلص عثمان بهذا القرار من الفتنة التي أطلت بقرونها في الأمصار أم كانسببا في ازدياد الفتنة وإثارتها .


    الحقيقة أن النتيجة التي نشأت علي ذلك القرار كان لها عواقب وخيمة إذ كانمن مساوئه :


    1- ظهور الملكيات الضخمة في العراق وفي غيرهم من الأمصار حيث لم ينتفع منهذا القرار إلا أصحاب الأموال الضخمة أمثال طلحة والزبير ومروان بن الحكم وغيرهم وبذلكانتشرت الإقطاعيات الكبيرة الضخمة والضياع الواسعة العريضة لأول مرة وأقيم فيهاالعابدون من الرقيق والموالي والأحرار ، ومن ثم تبلورت تلك الطبقة المالكة لتلكالضياع وتميزت عما حولها من طبقات المجتمع .


    2- اجتلاب الرقيق بكثرة للعمل في تلك الأراضي حتي أحالوها إلي جنات تجودبأجود الثمار وأحسنه وكان من جراء ذلك أن نشأ كما يقول طه حسين طبقة منالارستقراطية الفارغة التي لا تعمل وإنما تعتمد علي غيرها في مأكلها ومشربهاوحضارتها والتي باتت تنفق أوقاتها في اللهو والعبث والمجون ونشأ عن جلب الحضارةإلي بلاد الحجاز ظهور الترف والتبطل وما صاحب ذلك من مجون أحيانا ومن غناء متواصلوإيقاع ورقص وقرض الشعر وبجانب تلك الطبقة المترفة عاش الرقيق الذين كان يملكون سادتهم.


    3- ولم يخطر لعثمان رحمه الله حين فكر في هذا الأقتراح أو فكر له فيه خاصتهومشيروه ، شيء من هذه النتائج البعيدة ، وإنما رأي شرا فأراد حسمه ، أراد أن يخففالهجرة علي الأمصار ، ويمسك الأعراب في بلادهم ، ويجلب الأسري والرقيق إلي بلادالعرب ، ويستخلص لأهل الحجاز من أصحاب الملكيات الصغيرة في الأقاليم ما لهمليشيروا به الأرض التي تليهم ويقوموا عليها من قريب ولكنه لم يبلغ من ذلك ما أراد، وإنما أضاف شرا إلي شر وفسادا إلي فساد . فلست أدري أوقف لصرف الأعراب عن الهجرةإلي الأمصار أم لوقف هذه الهجرة وقتا ما ، أم لم يوفق . الحقيقة أنه لم يستطع انيخفف ضغط المستعربين والمغلوبين علي الأمصار بصفة عامة وعلي الكوفة والبصرة بصفةخاصة .


    4- خالف عثمان بهذا القرار الاقتداء بعمر بن الخطاب فإن عمر حين أحتبسقريشا في المدينة ومنعهم من الهجرة إلي الأمصار فإنه لن يحتبس الأشخاص فقط إنماكان بل احتبس مع الأشخاص رءوس أموالهم أيضا فقد كانوا يبتاعون ويتجرون بين الحجازوالأقاليم تجارات عظيمة واسعة تغل عليهم مالا كثيرا سائلا وقد تكاثر ذلك المال حيثلم يكن من اليسير عليهم أن يوظفوه في الأعمال الكبري وإنما كان المال يجتمع إليالمال والنقد يضاف إلي النقد وكان الفقراء يصيبها شيء من ذلك المال علي سبيلالصدقات والعطاء ومع ذلك بقي الكثير والكثير مما شكل هما أمام الخليفة عمر بنالخطاب الذي قال في آخر حياته : (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت منالأغنياء فضول أمولهم فرددتها علي الفقراء )) وقد روي أن أهل المدينة صبحوا ذاتيوم فسمعوا رجة عظيمة ، فسألت عائشة عن هذه الرجة ، فقيل لها إنما هي عير لعبدالرحمن بن عوف قد أقبلت وعليها تجارة له . قالت عائشة : أما إني سمعت رسول اللهصلي الله عليه وسلم يقول : كأني بعيد الرحمن بن عوف علي الصراط يميل به مرةويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد . فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال : هي وما عليهاصدقة . قال الرواة : وكأن ما عليها أفضل منها . وكانت العير خمسمائة راحلة ([10]) .


    وهكذا وجد نظام الاقتراحسبيله إلي البلاد الذي استحدثه أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن رأي ظن أنه يساهمفي القضاء علي الفتنة ولكنه فرق الناس إلي أحزاب تنازعت السلطان وأثرت علي قرارالخليفة فيما بعد كما كان لهذا النظام نتائجه الاجتماعية السيئة إذ وجدت تلك الطبقة الغنية صاحبة السلطان الواسعووجدت بجانبها طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون علي خدمة هؤلاء السادة. ووجدت بين الطبقتين المتناقضتين طبقة متبسطة هي طبقة العامة من العرب الذينكانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون علي العدو ويحمون الثغور ، وهذه الطبقة المتوسطة هيالتي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا . ولعله من الملاحظ أن الصراع الأول كان بينالأغنياء ثم بين هذه الطبقة الوسطي وهؤلاء الأغنياء . فأما الطبقة الثالثة طبقةالعاملين في الأرض والقائمين علي المرافق لم يظهر أمرها إلا بعد ذلك .


    ويمكننا أن نخلص بهذا كله أن الفتنة عربية نشأة من تزاحم الأغنياء عليالغنى والسلطان ومن حسد العامة لهؤلاء الأغنياء . ولم يكد نظام عثمان هذا يذاعويسرع الأغنياء إلي الانتفاع به ، حتي ظهر الشر ، وظهر في الكوفة قبل أن يظهر فيأي مصر آخر ، وظهر في مجلس سعيد بن العاص نفسه . وقد كان ذلك سنة ثلاث وثلاثين .فقد كان سعيد ، كما قدمنا ، تخير وجوه الناس وقراءهم وذوي الصلاح منهم ليدخلواعليه إذا لم يجلس للعامة ، وليسمروا عنده إذا كان الليل . فقال ذات يوم أو ذاتليلة : إنما السواد – سواد الكوفة – بستان لقريش . فتغاضب القوم ، وكانت كثرتهم مناليمانية ، وردوا عليه في ذلك ردا غليظا ، وقالوا له : إنما السواد فيء أفاءه اللهعلينا ، وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين . وغضب صاحب شرطة سعيد ؛لأن القوم ردوا علي الأمير ردا غليظا فزجرهم ، فقاموا إليه فضربوه حتى أغمي عليه .فقطع سعيد سمره واحتجب عن هؤلاء في قريش ، وتسامع الناس بهم واجتمع بعض الناسإليهم . فكتب سعيد إلي عثمان ينبئه بأمرهم ، ويذكر أنه يخالفهم أن يفتنوا الناس .فأجابه عثمان أن يسيرهم إلي الشام عند معاوية لكي يناقشهم ويحاجهم ويعيدهم إليالسيرة الحسنة .

    * * * *


    (6)



    وظائفالولاة في عهد عثمان


    يمكننا حصر وظائف الولاة في الأمور التالية :-


    1) إقامة أمور الدين : مثل نشر الدين الإسلامي علي أيدي المعلمين – وإقامةالصلاة وحفظ الدين وأصوله ورد كيد ودسائس أعداء الدين – تخطيط وبناء المساجد –تيسير أمور الحج – إقامة الحدود الشرعية .


    2) تأمين الناس في بلادهم ويتم ذلك بإقامة الحدود عليالعصاه والفساق وقطاع الطريق .


    3) الجهاد في سبيل الله وفتوح البلدان ومن أشهر هؤلاء الولاة الفاتحين عبدالله بن عامر – المغيرة بن شعبة – أبو موسي الاشعري – عبد الله بن سعد بن أبي سرحفي فتوحات إفريقية – ومعاوية بن أبي سفيان في أرمينية وكان أهم أعمال الولاةللجهاد :-


    أ- إرسال المتطوعين للجهاد ب- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء .


    جـ - تحصين البلاد . د- إمداد الأمصار بالخيل .


    و- تتبع أخبار الأعداء . ر- متابعة دواوين الجند .


    هـ- تنفيذ المعاهدات . ح- تأمين أرزاق الناس .


    ج) تعيين العمال والموظفين . ل) رعاية أهل الذمة .


    ك) مشاورة أهل الرأي . ن) مراعاة الأحوال الاجتماعيةفي الولاية .


    تمثل هذه المشكلة سببا من أسباب تأزم الأمور علي الخليفة عثمان رحمه اللهفالقارئ لتاريخ تلك الفترة يجد عصيان وتمرد كان يتم من أهل هذه البلاد علي ولاتهمفيطالبون بعزل الولاة ويعصون أوامر الخليفة وكانت هناك بعض الأمصار تلح في ذلكإلحاحا كبيرا فيمنعون دخول الولاة بالقوةويصرون علي تغييرهم وكم تكرر ذلك حتى ضاقبه الخلفاء فقد ضاق عمر من هذه الأمور قبل عثمان كما قلنا سابقا فقد كانت الكوفةأحدي الأمصار التي كانت أكثر تمردا أو أشد تحاملا علي الأمراء وتشير الروايات ، أنهقد ولي أمرهم أربعة أمراء في سنتين ولقد عبر عن ذلك الفاروق عمر عندما ضاق بهمذرعا حيث طالبوه بعزل واليهم سعيد بن العاص فعزله عمر إذ اتهموه بالباطل ووليمكانه عمار بن ياسر ثم شكوه فعزله وولي مكانه سعدا مرة أخرى فشكوه فولي مكانه جبيرابن مطعم فتحاملوا عليه فعزله وولي مكانه المغيرة بن شعبة ([11]) .


    فلا غرو أن يقول عمر بن الخطاب لأبي موسي بعد عزله للمغيرة : يا ابا موسيأنا مستعملك ، أني أبعثك إلي أرض قد باض فيها الشيطان وفرخ .(2)


    وكان عمر رحمه الله يردد تلك العبارة عندما يضيق بأهل الكوفة ( من عذيري منأهل الكوفة إن استعملت عليهم القوي فجروه وإن وليت عليهم الضعيف حقروه . (3)


    -وقد استمرت تلك المنازعات وازدادت تعقيدا إبان حكم عثمان بن عفان وذلكلتغير الأحوال وتغير سياسة الخليفة عن سياسة الشيخين أبي بكر وعمر فقد كان فيهمامن البأس والشدة والحزم ما يكفي لانقياد الشعوب وراء ولاتها عملا بوجوب السمعوالطاعة فما إن تولي هذا الخليفة المعروف بالرفق والرحمة واللين حتى طارت الأنباءإلي بلاد الفرس والروم وظهر التمرد واشتعلت نيران الفتنة فقد سار أهل الفرس فيأذربيجان وأعلنوا العصيان ومنعوا الجزية ونقدت الإسكندرية الصلح المبرم مع المسلمين([12]) ، واستعان أهلها بالروم وقد أصدر الخليفة عثمان أمره إلي الوليد بن عقبةليكون والي علي أذربيجان (2) وكذلك أبي موسي الأشعري بالتوجه إلي الريليكون واليا عليها ويبدوا أن أهل أذربيجان قد تمردوا أكثر من مرة في عهد عثمان فقدانتقضت علي الأشعث بن قيس ولكنه واجه الثائرين وأنزل بهم هزيمة منكرة وتم الصلح ، وفيعهد سعيد بن العاص تمرد أهل أذربيجان علي الوالي الجديد ( سعيد) فبعث أليهم سعيد ابن جرير ابن عبدالله البجلي واخمد ثورتهم ودعاهم إلي الإسلام فأسلموا وشاهد هؤلاء الثوار أنالإسلام يسوي بينهم وبين الفاتحين وسادهم شعور بالرضا وتم الصلح ومن هنا كانت دعوةالشعوب إلي الإسلام من أعظم الحلول للقضاء علي تمرد الشعوب في تلك البلاد فقدكانوا يأنفون من الجزية التي تفرض عليهم ويشعرون بهوة عميقة بينهم وبين قادةالمسلمين ومن هنا بدأت أذربيجان تهدأ بأهلها بعدما دخلوا في الإسلام وفهموا نصوصالقرآن الكريم .


    - وكذلك كانت مدينة الري كثيرة التمرد وقد بدأ فيها الانتفاض في عهد عمر وكذلك في خلافة عثمان رضي الله عنهوقد يبدوا لدينا تساؤل مثير ما أسباب تمرد تلك الشعوب علي الخليفة عثمان بن عفانوعلي ولاته المعينين من قبله ؟ ويمكننا أننلتقط إجابة لهذا التساؤل من خلال بعض الروايات التاريخية . وقد يبدوا هذا التمردراجعا إلي عدة أمور منها ما أثاره ابن سبأ من شائعات يستهدف بها إثارة الفرقة بينالمسلمين من ناحية والطعن في خلافة عثمان من ناحية أخرى كما سنعرف بعد ولكن مانلفت إليه النظر هو نجاح ذلك الرجل الذي صار له أتباع كثيرون وانتشروا في الكوفةوالبصرة ومصر يثيرون تلك البلاد علي خليفتهم عثمان بن عفان قد أرسلوا وفودهم إليالمدينة لدعوة عثمان إلي التنازل عن الخلافة وعلي ما يبدوا أن طعنهم في شخصيةعثمان لم يكن بقدر ما كان ذلك الطعن موجها إلي مركز الخلافة في حد ذاته الذي أصحرأس الأمر وعموده في الدولة الإسلامية .


    - وقد كانت شخصية عثمان الضعيفة الرقيقة سببا في تمادي العصيان والتمرد فلميكن حازما في مواجهة المتمردين كحزم الفاروق عمر رحمه الله بل كان رحمة عثمان تسبقغضبه وشدته ويتراجع في كثير من الأمور عن قراراته وكم عاتبه الصحابة في ذلك .


    - وعثمان بن عفان وإن كان خليفة من الخلفاء الراشدين فإننا نعزه ونبجلهولكنه بشر والبشر قد يخطأ ويصيب وقد أرتفع الوحي الذي كان يسدد خطي الجماعة في عصرالنبي e ومن هذا المنطلق فإنا سياسةالخليفة عثمان بن عفان قد شابهها بعض الأخطاء التي أدت إلي تمرد بعض مسلمي الأمصارعليه وكذلك اصطدامه مع بعض من كبار الصحابة حاولوا أن يردوه إلي الطريق السوي الذيكان يسلكه الشيخان من قبل ، فقد كان رحمةالله محبا لأقاربه يأثرهم بأهم المناصب في الدولة ويمنحهم الأموال والعطاء الجزيلحتى أثار ذلك نفوس المسلمين وهم لا يدركون علة ذلك ، فقد رد عثمان بن عفان سعيد بنالعاص أميرا علي الكوفة فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فردوه وقالوا لا والله لايلي علينا حكما ما حملنا سيوفنا .([13])


    - ثم أرسل الخليفة عثمان أبا موسي أميرا علي الكوفة فأقروه عليها وقد حاولالخليفة عثمان أن يرضي أهل الكوفة فوافق علي تعينه وكتب عثمان إلي أهل الكوفة كتابيقول فيه :- بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكممن سعيد ، والله لأفرشنكم ((لأقرضنكم )) عرضي ، ولأبدلن لكم صبري ولأستصلحنكمبجهدي ، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصي الله فيه إلا سألتموه ، ولا شيئا كرهتموهلا يعصي الله فيه إلا استعفيتم منه ؛ أنزل فيه عندما أحببتم ، حتى لا يكون لكم عليحجه . (2)


    - ويروي الواقدي في سنة (34هـ) أنه أجتمع كثير من الناسونالوا من عثمان وأصحاب رسول الله جالسين بجانبه فلم يدافع عنه أحد وكلموا علي بنابي طالب أن يكلم عثمان وأن يعدل من سياسته فدخل عليه علي وكلمه كلاما مطولا (3) ، وقد نفهم من الحوار بين عليوعثمان كما رواه الطبري أن عثمان حين عين أقاربه وولي ابن عامر واليا إنما فعل كمافعل عمر بن الخطاب عندما ولي المغيرة ابن شعبة وهو أحد أقاربه كما نفهم منالمقارنة التي أجراها عثمان بينه وبين عمر أن عثمان يدافع عن نفسه فإنه ليس بدعةأن يولي هو أقاربه فقد فعلها عمر من قبل وإذا كان عمر قد ولي معاوية وأقره عليبلاد الشام فإن عثمان قد فعل ذلك أيضا فيبادره علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله( إن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها يقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولاتغير علي معاوية .


    - ونلمس حجة عثمان حينما كان يدافع عن نفسه التهم الموجهة إليه حيث أنه قدفعل ما فعله عمر فلماذا قصروا في توجيهها إلي عمر من قبل ، فيقول وهو علي المنبر (قد والله علمت ، ليقولن الذي قلت ، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك ، ولا جئت منكرا أن وصلت رحما ، وسددت خلة ، وآويت ضائعا ، ووليتشبيها بمن كان عمر يولي . أنشدك الله يا علي ، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك!


    قال : نعم ؛ قال : فتعلم أن عمر ولاه ؟ قال : نعم ، قال : فلم تلومني أنوليت ابن عامر في رحمي وقرابتي ؟ قال علي : سأخبرك ، إن عمر ابن الخطاب كان كل منولي فإنما يطأ علي صماخه([14]) ، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصي الغية ؛ وأنت لاتفعل ، ضعفت ورفقت (2) علي أقربائك .


    ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده ، وقمعكم(3) ، بلسانه فدنتم له علي ماأحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم ، وأوطأت لكم كتفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتمعليّ . فكفوا عليكم ألسنتكم ، وطعنكم وعيبكم علي ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لوكان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا . (4)


    كما كان من الأمور التي أغضبت أهل الأمصار هو اعتماد عثمان في حكمه لمشورةبعض من أقاربه مثل معاوية ومروان بن الحكم فقد كان الناس يكرهون أن يستبد هؤلاءالولاة وبخاصة الأمويون بالخليفة ويوجهونه وجهة ليس فيها صالح للمسلمين وبذلك بلغتالفتنة حدا عظيما في الكوفة وتسببت في ضعف مركز الوالي ولم يستطع أن يأدبهم وأنيكبح جماحهم حتى أنهم اجترئوا علي الولاة ويروي الطبري في ذلك روايات مفادها أنأهل الكوفة كانوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان بن عفان الخليفة وسعيدا بن العاصواليهم وقد أجتمع إليهم الناس حتى كثر عددهم فكتب سعيد بن العاص وأشراف أهل الكوفةإلي عثمان بن عفان في إخراجهم وقد بلغ من جرأتهم أنهم انهالوا علي صاحب الشرطةضربا وركلا حتى وقع علي الأرض مغشيا وكان سبب تلك الفتنة تافها وقد رواه الطبريحيث قال سعيد بن العاص الوالي مشيرا إلي بستان علي جانب الفرات وقد أشار شاب قائلاوالله لوددت أن هذا الملطاط لك أي أن هذا البستان يكون لسعيد كما كان لكسري فهذاالشاب يتمني أن يكون البستان لسعيد بن العاص في هذه الناحية من الفرات حتى يجودبمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد الله فأنظر كيف أوسعوا هذا الشاب ضربا بمجرد انهتمناه لقريش فضربوه وضربوا أباه وقد توسل إليهم الوالي أن يتركوهما فلم يطيعوه .


    وروي الرواة أن هناك سببا غير ذلك وهو قول سعيد : ( إنما هذا السواد بستانقريش ) فأغلظوا عليه القول فغضب صاحب الشرطة ولامهم علي ما كان منهم فأوسعوه ضرباحتى غشي عليه . وعلي ما يبدو أن هؤلاء القوم كانوا من المقربين إلي سعيد بن العاصوكان يخصهم بسمره في بعض الليالي وكل ما فعله هذا الوالي أنه كتب إلي الخليفة فيشأنهم وفوض إليه الأمر ولم يعاقبهم بنفسه حتى لا تشتد الفتنة فأمر الخليفةبإرسالهم إلي معاوية بن أبي سفيان في الشام فأخذ معاوية يعظهم ويحدثهم عن فضلالإسلام عليهم وأن رسول الله e قد أوصي بأتباع أصحابهالراشدين وعندما فشل معاوية في إقناعهم كتب إلي عثمان (أنه قدم عليا أقوام ليستلهم عقول ولا أديان لا يردون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة وإنما همهم الفتنة وأموالأهل الذمة) وقد ذكر الطبري حوارا مطولا بينهم وبين معاوية وكان يردون عليه رداًوقحاً جريئا طاعنين فيه وفي ولايته وقالوا لست بذلك أهلا فرد عليهم معاوية قائلاأما والله إن لله لسطوات ونقمات وإنني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطانحتى تحلكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار البوار والهوان من نقم الله في عاجلالأمر والخزي الدائم في الأجل . ووثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال : مه إن هذهليست بأرض الكوفة والله لو رأي أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أنأنهاهم عنكم حتى يقتلوكم . فلعمري أن صنيعكم لا يشبه بعضه بعضا . ([15]) . ثم كتب إليعثمان كتابا فأمر بردهم إلي سعيد بن العاص بالكوفة وهكذا تري هؤلاء القوم قدتطاولوا علي معاوية كما قلنا سابقا وأمروه أن يتخلي عن مركزه لأن من المسلمين منهو اصلح منه ، كما تطاولوا علي سعيد بن العاص من قبل وطعنوا علي عثمان . وهم وإنكانوا من أشرف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة . وقد تسامح معهم معاوية كما تسامحمعهم سعيد . ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلميؤخذوا ويحاكموا علي أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفي بتسييرهم من بلد إلي آخر واجريعليهم عبد الرحمن بن خالد رزقا .


    ولعل جانب الحرية التي كان يتمتع بها المسلمون في الأمصار والتي لمسوها منالقادة الفاتحين ومن صحابة رسول الله e فقد كانوا يتجادلون ويتحاورونبالحسني حتى ركز واستقر في نفوس أهل الأمصار جميعا حرية الرأي وحرية العقيدة وكذلكالمشاورة ولعل الصفة الأخيرة تلك قد حرص رسول الله e علي غرسها فيهم حيث يقول اللهتعالي : ( وشاورهم في الأمر ) فالرسول قد أمره ربه بأن يتشاور مع المسلمين في كلأمر جلل ، والحقيقة أن الرسول e ليس في حاجة إلي الشورى فهوأكمل الناس عقلا وأكمل الناس فكرا وكان يهبط عليه الوحي فيسدد خطاه إن أخطأ . ولكنالرسول كان يهتم بالشورى لتكون قاعدةأساسية في حياة المسلمين وسوف نري تلك القاعدة لم يحد عنها أبو بكر وكذلك عمر ثمعثمان وكتب التاريخ تفيض بأمثله عديدة من الشورى بين عثمان وولاته أو بينه وبينأصحاب رسول الله وكذلك بين الولاة ورعيتهم ولعل مبدأ الشورى هذا مع حرية الرأيوالفكر التي منحها الإسلام بالمسلمين وحرص علي الأخذ بها الخلفاء كانت سببا فيعصيان وتمرد كثير من الأمصار علي الولاة .


    ولم يأت هذا التمرد من خلاء وإنما لعب فيه عبد الله بن سبأ دورا بارزا ذلكالحاقد اليهودي الذي أسلم أيام عثمان ثم تنقل في بلاد المسلمين يحاول إضلالهموإثارة الفتنة فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام وقد فشل أن يعبأ أهلالشام بما فيه من صفوة الصحابة وكذلك أهل المدينة فخرج إلي مصر وأختلط بأهلها وأدعيبأن محمدا سيرجع كرجعة عيسي وفسر قوله تعالي خطأ : ( إن الذي فرض عليك القرآنلرادك إلي ميعاد ) ([16]) .


    وبذلك وضع مبدأ الرجعة وقال لهم أن لكل نبي وصي وعلي وصي محمد ، وقال لهممحمدا خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء .(2) . ثم نفث حقده علي الخلافة الإسلامية التي أرادأن يرديها ويهون من أمرها وقال لهم إنعثمان أخذ الخلافة بغير حق وهذا علي وصي رسول الله e فأنهضوا في هذا الأمر فحركوا وابدءوا بالطعن علي أمرائكمواستميلوا الناس وأدعوهم إلي هذا الأمر وانبث الدعاة في الأمصار يدعون لذلك الأمروكاتبوه في السر والعجيب أنهم اظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتخذوامنها شعارا كاذبا أمام الناس بينما كانوا يضمرون إثارة المسلمين في الأمصار عليخليفتهم وكان أول شيء يدعون إليه هو التمرد علي الولاة بذكر عيوبهم فهم يظهرونالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحرج ويضمرون التمرد علي الولاة حتىشاعت في جميع الأمصار فكرة التمرد علي الخليفة وعماله وكان يتم ذلك في السر وأميرالمسلمين عثمان في غفلة عن ذلك حتى سأله بعض الصحابة ذات يوم فقالوا يا أميرالمؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا ؟ قال لا والله ما جاءني إلا السلامةفأخبروه بالذي عرفوه فقال لهم أشيروا علي فأشاروا عليهم أن يبعث رجالا ممن يثق بهمإلي الأمصار حتى يرجعوا إليه بالأخبار فأرسل محمد بن مسلمة إلي الكوفة ، وأسامة بنزيد إلي البصرة وعمار بن ياسر إلي مصر وعبد الله بن عمر إلي الشام وأرسل أناساآخرين إلي بقية الأمصار فرجعوا جميعا قبل عمار وعندما استفسر عثمان من الرسل ووقفعلي طبيعة الأمر عرف أن عمارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه ومنهم عبدالله بن سبأ وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر .(3)


    وكتب عثمان إلي أهل الأمصار كتابا هدد فيه العمال بالقصاص إن ظلموا الرعية أو أساءوا إليها ومن قوله : (فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم وقد سلطة الأمة منذ وليت علي الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر فلا يرفع علي شيء ولا علي أحد من عمالي إلا أعطيته ، وليس ليولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم ، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون ، فيامن ضرب سرا ، وشتم سرا ، من أدعي شيئا من ذلك فليواف الموسمفليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي ، أوتصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين ) . فلماقري في الأمصار أبكي الناس ، ودعوا لعثمان وقالوا : إن الأمة لتمخض بشر . وبعث عثمان إلي عمال الأمصار فقدموا إليه منهمعبد الله بن عامر ومعاوية ، وعبد الله بن سعد وادخل معه في المشورة سعيد وعمراوقال لهم ويحكم ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة ؟ وأعرب عثمان عن خوفه أن يكن فيالأمر شيئا لم يدركه هؤلاء العمال وقالوا ما نعلم عنه شيئا وما هو إلا أمر تافهيسير ولا يحل الأخذ به ولا الانتهاء إليه قال عثمان أشيروا علي ) . وأنظر معي أيهاالقارئ الكريم إلي روح المشاورة التي دارت بين الخليفة وولاته .


    - قال سعيد بن العاص : هذا أمرا مصنوع يصنع في السر فيلقي إلي الناسفيتحدثون به في مجالسهم ويشير علي الخليفة بطلب هؤلاء القوم ثم قتل هؤلاء الذينيخرج هذا القوم من عندهم.


    - قال عبد الله بن سعد خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم أيليأكل من الناس شيئا إلا إذا أعطاهم حقوقهم .


    - وقال معاوية قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير وأشار بحسنالأدب وقال عمرو أري أنك قد لنت لهم وتراخيت عنهم وزدتهم علي ما كان يصنع عمر وأريأن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين إن الشدة تنبغي لمنلا يألو الناس شرا واللين لمن يخلف الناس بالنصح وقد فرشتهما جميعا اللين والشدة .([17])


    وقام عثمان وألقي خطبته جاء فيها وليست لأحد علي حجة حق ، وقد علم الله أنيلم آل الناس خيرا ، ولا نفسي . ووالله إن رحا الفتنة لدائرة ، فطوبي لعثمان إن ماتولم يحركها . كفكفوا الناس ، وهبوا لهم حقوقهم ، واغتفروا لهم ، وإذا تعوطيت حقوقالله فلا تدهنوا فيها .


    ولكن يبدوا أن تأثير بن سبأ كان تأثيرا كبيرا في الناس إذ خرج يزيد بن قيسوهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كان يكاتبهم ابن سبأ حيث أستفسد الناس علي عثمانوبس دعايته في الحجاز والكوفة والبصرة والشام ومصر يدعون الناس للثورة فقالالقعقاع بن عمر إنما نطلب عزل سعيد فقال يزيد أما هذا فنعم وكاتب المسيرين الذينسيرهم عثمان إلي معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة وجاءوا وإذ بالاشتر علي باب مسجد الكوفة يقول جئتكم من عند أمير المؤمنينعثمان وتركت سعيدا يريد نقصان نسائكم علي مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إليألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فستكف الناس وأخذ أهل الرأي ينهونهم فلا يسمعمنهم وهكذا أثار أهل الكوفة وخرج بهم يزيدوتفاقمت الفتنة بعد ذلك .


    أما تصرف عثمان مع أقاربه إذ كان يخصهم ويميزهم ببعض المال والمناصب فإنذلك راجع كما يقول عثمان رحمه الله إلي أن رهطه كان أغلبهم فقراء وهم في حاجة إلي مايعين معاشهم فبسط يديه في شيء من ذلك المال .(2) ومن هذا المنطلق الذييفيض بالرفق والرحمة وصلة الأرحام ، فإن عثمان قبيل وفاته قسم ماله وأرضه في بنيأميه وجعل نصيب ولده كنصيب أحدهم فبدأ ببني أبي العاص فأعطي بني الحكم مائة ألفوأعطي بني عثمان مثل ذلك وقسم في بني العاص وفي بني معيص وفي بني حرب .([18]) وإن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما وقترا عليأهلهما بقربان إلي الله ، وكان رسول الله e يعطي قرابته . ثم إنه سأل صحابته فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمريلأمركم تبع وقالوا أصبت وأحسنت . والمعروف أن عثمان كان يولي أقاربه بالمناصب فيالدولة ويكثر لهم المال والعطاء ويري أن هذا فيه تقربا إلي الله فهو عمل صالحيتقرب به إلي رحمه ومما يؤكد هذا القول : قول عثمان رحمه الله حينما وجد عمر مسجيافنظر إليه وقال ( إن عمر كان بمنع رحمة تقربا إلي الله وأنا أصل رحمي تقربا إليالله ومن لنا بمثل عمر ) . (2)


    ولسنا بصدد تفنيد المزاعم والأكاذيب التي ألصقت بعثمان والتي رددهاالمتمردون في الأمصار ولكنني أركز هنا علي أن عثمان كان جادا في معاملة عماله وكانيعزلهم إذا تطلب الأمر ذلك حرصا علي العدل ورعاية أمور الرعية ولكن علي ما يبدواأن المتمردين استغلوا طيبة ذلك الرجل وعلي رأسهم ابن سبأ الذي حاك الإشاعة وبثهاجيدا وخدع بها الناس إذ استطاع أن يخرج الثوار في مصر والكوفة والبصرة في موعدواحد ليجتمعوا في المدينة من أجل خلع عثمان والغريب أنه كيف استطاع أن يتواعد مع أهل الأمصار جميعهم في وقت واحد ؟ لقدكان دقيقا ولكي لا يشك الناس في خروجهم ضد أمير المسلمين عثمان أمر أتباعه أنيخرجوا مبررين خروجهم أنهم ذاهبون إلي الحج وبذلك لم يشك فيهم احد فتواجدوا عليمشارف المدينة يرسموا الخطة التي بها يزيلوا عثمان عن الحكم . (3)

    * * * *




    1- تاريخ الطبري ج5 ص244وكتاب عثمان صـ275 .
    2- ( أنظر تفسير بن كثير للآيات الأولي من سورة التوبة ) .


    1- طه حسين الفتنةالكبرى عثمان ط . دار المعارف بمصر صـ73 .

    1- الطبري .

    1- أنظر الفتنةالكبرى طه حسين صـ77 .

    1- الفتنة الكبرى صـ80-82 .

    1- الطبري تاريخ الامم والملوك ج4 ص192 .

    1- أنظر ذلك فيكتاب الطبري ج4 صـ279-280 .

    1- الطبري ج4صـ279 .
    2- الطبري ج4 صـ277-278 .

    1- ( الطبري ج4 صـ280 ) .

    1- طبقات ابن سعد ، طبع لندن ، ج3 القسم الأول ص93 .


    1- أنظر الطبري ج4 صـ 70 .
    2- المصدر السابق ونفس الصفحة .
    3- البلاذري فتوح الشامصـ278 .


    1- الكامل بن الأثير ج3 صـ82 .
    2- المصدر السابق ج3 صـ84 .

    1- الطبري ج4 صـ 335 .
    2-الطبري ج4 صـ336 .
    3- أنظر الطبري صـ337 .

    1- في راوية لابنكثير :صماخيه .
    2- أي ورققت .
    3- أي : وقهركم .
    4- الطبري ج4 صـ339 .

    1- الطبري تاريخ الأمم والملوك ج2 صـ 638 وابن الأثير الكامل ج3 صـ 35 .

    1- سورة القصص 85 .
    2- الطبري ج3 صـ340
    3- الطبري ج3 صـ 341 .

    1- تاريخ الطبري ج4 صـ 343 .
    2- المرجع السابق صـ345

    1- الطبري ج4 صـ348 .
    2- الشيخان طه حسين صـ230 .
    3- المرجع السابق صـ 346 .

  26. #26
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثالثة )


    ابن سبأ يسعر الفتنة وينقلها إلي الأمصار





    قبل الخوض في الفتنة التي أدت إلي مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان لابدأن نتحدث عن شخصية لها تأثيرها الشديد في مجال تلك الفتنة وهي شخصية عبد الله بنسبأ بن السوداء كما كان يطلق عليه إذ قام ذلك الرجل بدور خطير فهو باذر الشر بينالمنافقين والشعوبيين في الأمصار وقد أظهر إسلامه في عهد عثمان رضي الله عنه وأظهرالصلاح والتقوى وتشيع بآل البيت وحاول التقرب من علي بن أبي طالب وإظهار محبته وأدعي أنه أولي بالخلافة من عثمانوأخذ ينشر في الأمصار أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وأخذ يطعن في خلافة أبي بكروعمر وعثمان وكان يشير إلي علي بن أبي طالب ويقول هذا وصي رسول الله e فأنهضوا إلي هذا الأمر فحركوه وأبداوا بالطعن علي أمرائكم وطافببلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدفعهم إلي الثورة والتمرد مما كان لهأكبر الأثر في الفتنة التي أدت إلي مقتلعثمان .


    وقد أختلف حول شخصية بن سبأ الكتاب والعلماء والمؤرخون اختلافا بينا فمنهم منأثبت وجوده ومنهم من رأي أن شخصية بن سبأ شخصية وهمية رمزية لا وجود لها فيالتاريخ .


    وقد أثبتت كتب السنة والشيعة وجود تلك الشخصية ونري ذلك في كتب المحدثين وأهلالجرح والتعديل وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات كل هذه الكتب اتفقت عليوجود شخصية خبيثة يهودية هي شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي الملقب بابن السوداءوسوف نعرض لبعض آراء من النافين لوجود بن سبأ ومن المثبتين لوجوده حتى يستبين الحقحول هذه الشخصية .

    (1 )


    آراء النافين لشخصية بن سبأ :






    أولا : رأي طه حسين :-


    وقد استعرض الدكتور طه حسين الصورة التي رسمت لابن سبأ وانتهى إلى أن ابن سبأ شخصيةوهمية خلقها خصوم الشيعة ودعم رأيه بالأمور التالية :


    أ: إن كل المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة عبد الله بن سبأ ولم يذكروا عنهاشيئا .


    ب : إن المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب،ومقطوع بأنه وضاع.


    جـ : إن الأمور التي أسندت إلى عبد الله بن سبأ تستلزم معجزات خارقة لفردعادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله بن سبأ وسخرهم لمآربه وهمينفذون أهدافه بدون اعتراض : في منتهى البلاهة والسخف .


    د : أن البلاذري لم يذكر شيئا عن ابن السوداء ولاأصحابه في أمر عثمان. ثم يستغرب الدكتور طه حسين كيف أن حادثة تحريق عليّللذينأللهوه والتي ذكرها الطبري كيفلم يذكرها بعض المؤرخين ولم يؤقتها، وإنما أهملوهاإهمالا تاما ([1])


    الرد عليه


    الحقيقة أن طه حسين لم يستقص كلآراء المؤرخين الثقاة حتى يحكم عليهم جميعا هذا الحكم وهو أنهم لم يشيروا إلي تلكالشخصية . ودعك من شخصية سيف بن عمر التي يحتج بها من كتب الجرح والتعديل قد أفاضتالحديث حول الثقاة وغيرهم .


    أما عدم ذكر البلاذري لابن سبأفلايعني أسطورة وجوده، لأنه قد يذكر بعض المؤرخين ما لا يذكره البعض الآخر منهم،ثم هلالتزم البلاذري بذكر كل الوقائع والأحداث؟ وربما لو ذكر البلاذري أخبار ابنسبأوأصحابه لقال البلاذري لا يعتمد على أخباره لأنه غير متفق على توثيقه! .


    أما حادثة تحريق علي رضي اللهعنه للذين ألهوه من إتباع ابن سبأ فسنذكرها في موقف عليرضي الله عنه من عبد الله بنسبأ وأصحابه، حيث ذُكرت في أصح الكتب بعد كتاب الله عزوجل وهذه الروايات تغني عنالروايات التاريخية، إضافة إلى ذلك فقد ذكرت في الكتبالموثقة عند الشيعة. وفي هذا غناء كبير لإثبات وجودتلك الشخصية وعدم نفيها .





    ثانيا : رأي بعض المستشرقين :


    أما المستشرقونفأنكروا وجود شخصية عبد الله بنسبأ وقال أنه شخصية وهمية تخيلها محدثو القرن الثاني ومن هؤلاء المستشرقينالذين أنكروه اليهودي الإنكليزي الدكتور برنارد لويس LEWIS,B.)([2]) ، ويوليوس فلهوزن (2) WELLHAUSEN,J اليهودي الألماني الذي بدأدراسته باللاهوت، وفرييد لاندر(3) FERIEDLAENDER الأمريكي، والأمير كايتاني (4) CAETANI LEONE الإيطالي.


    ومن المعلوم عند العقلاء المنصفين من مثقفي المسلمين أن ديننا وعقيدتناوتاريخنا ومايتعلق بتراثنا لا يمكن أن نعتمدفيه على تقولات ودراسات هؤلاء المستشرقين الحاقدين الذينينضوون تحت راية الحروب الصليبية بمنهج ثقافي وأسلوب فكري، بعيدا عن أسلوبالسيف والبارود ولوكانوا أصحاب نوايا صادقة لشرحالله صدورهم بالإيمان لما أطلعوا على صفاء الإسلامونقاء ثوبه، ولكنهم كرسوا جهودهم وأفنوا حياتهم في إلقاء الشبهات والشكوكوالضلالوالريب بكل ما يتعلق بالقرآنوالسنة والعقائد والنظم الإسلامية والتاريخ الإسلامي وحضارته ، ومعظم هؤلاء المستشرقين من القسس واليهود،وأعمالهم ومناهجهم تنظم ما بين الكنيسةودوائر المخابرات ووزاراتالخارجية إلا بعض أفراد منهم أمناء هوايتهم العلم والبحث وهم قلة قليلة. (5)


    - أتباع المستشرقين :


    أما أتباع المستشرقين الذين خدعوا بهم وغرهممنهجهم العلمي المزعوم فيرددون ما يطرحون من أفكار ودراسات ويدندنون حولمعتقداتهملينالوا الزلفى منهم وعلى رأسهمالدكتور طه حسين (6) .


    ومما لا يخفي علي أحد أن طه حسين قد تأثر بفكر اليهود ، فدعاة الشيوعية في مصرفي مطلع هذا العصر كانوايهودا وهم "هنري كوريل،وراؤول كوريل، وريمون أجيون" وكانوا هؤلاء وغيرهم يمولونالحركات الشيوعية بالمال وقيل بالجنس أيضا، وقد تعاقدوا مع الدكتور طه حسينعلىإصدار مجلة الكاتب المصري، وكانالدكتور طه حسين قد أعلن تأييده لمفهوم اليهوديةالتلمودية باكرا حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل وكذب القرآن والتوراة ولم يكنيُعرف في هذا الوقت الباكر أن ذلك تمهيد لتحقيق أهداف الصهيونية ([3])وغير ذلك منالأفكار والضلالات التي لم يجرؤحتى المستشرقين بالإفصاح والإعلان عنها . (2)


    ومن المنكرين أيضا لشخصية بن سبأ وممن يعتبرونها أساطير وخرافات الدكتور /محمدكامل حسين وكذلك الدكتور حامد حفني داود رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عينشمس والذي أكد ( أن ابن سبأ من أعظم الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمامالباحثين وغمّ عليهمأمرها فلم يفقهوها ويفطنواإليها، هذه المفتريات التي افتروها على الشيعة حتى لفقواعليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه واعتبروها مغمزا يغمزون به عليهم (3).


    ثالثا : رأي الشيعة المعاصرين


    أما الشيعة في العصر الحاضر فينكرون وجود ابن سبأ، والسبب الحقيقيلإنكارهم إياه عقيدته، التي بثها وتسربت إلى فرق الشيعة حتى المتأخرة منها،وسنذكربعضا من أقوال وآراء المنكرينثم نثبت وجوده وعقيدته من المصادر المعتمدة عندالشيعة ويقول عنه محمد جواد مغنية أن عبد الله بن سبأهو البطل الأسطوري الذي اعتمد عليه كل من نسب إلى الشيعة ما ليس لهبه علم وتكلم عنهم جهلا وخطأ أو نفاقا وافتراء (4) .


    وكذلك مرتضي العسكري ينكر بن سبأ ويراه شخصية وهمية بينما يري الدكتور عليالوردي أن أبن سبأ هو نفسه عمار بن ياسر ويستدل على ذلك بما يلي:


    - أن ابن سبأ كان يكنى بابنالسوداء ومثله في ذلك عمار بن ياسر.


    - كان عمارمن أب يماني، ومعنى هذا أنه كان من أبناء سبأ فكل يماني يصح أن يقال عنه أنهابنسبأ.


    - وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي بن أبي طالب يدعو لهويحرض الناسعلى بيعته في كل سبيل.


    - وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلىمصر وأخذ يحرِّضالناس هناك على عثمان فضجالوالي منه وهم بالبطش به.


    - وينسب إلى ابن سبأقوله: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وإن صاحبها الشرعي هو علي بن أبيطالب.


    - قضايا تتعلق بدور عمار في حرب الجمل، وفي علاقته مع أبي ذرالغفاري، ويستخلص الدكتور الوردي أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فقدكانت قريش تعتبر عمارا رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ في أول الأمر أن تصرحباسمه، فرمزت عنهبابن سبأ أو ابن السوداء،وتناقل الرواة هذا الرمز غافلين وهم لا يعرفون ماذا كانيجري وراء الستار ([4]) .


    ويقول الدكتور أيضا : ويبدو أن هذه الشخصية العجيبةاختُرعت اختراعا وقد اخترعها أولئك الأغنياء الذين كانت الثورة موجهة ضدهم .


    إن ما يقوله الدكتور الوردي لا يستسيغه عقل ولا يقبله منطق فشخصية عمار بنياسر شخصية معروفة وواضحة للمسلمين وهي أسرة رضي عنها الرسول e وقد عرف عمار بصلاحه وتقواه وأن كتب الجرح والتعديل سوءا عن أهلالسنة أو الشيعة لا تجرح الرجل وقد مدحت عمار وذمت ابن سبأ وأحلت عليه اللعنة وهلننسي مقولة الرسول e عندما رأي أم عمار وأباهيعذبان فقال لهما صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة . فهل يعقل أن يكون عمار هو ابن سبأ وهناك أشخاصآخرون ينكرون تلك الشخصية يمكن الرجوع إليهم في البحث السابق المنشور في مجلةالمدينة النبوية العدد 46 .

    * * * *


    (2)


    آراء المثبتين لشخصية بن سبأ :



    يوجد العديد من كتاب المسلمين ومؤرخيهم من يثبتون وجود تلك الشخصية الخطيرةويعتقدون بخطورتها سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة القدامى منهم :


    أولا : المؤرخون القدامي


    1) الثقفي صاحب كتاب الغارات (توفي عام 280 هـ ) يقول في كتابه :(دخلعمرو بن الحمد وحجر بن عدي وحبة العوفي والحارث الاعور وعبد الله بن سبأ على أميرالمؤمنين عليه السلام بعد ما افتتحت مصر وهو مغموم حزين ، فقالوا له : بينلنا قولك في أبي بكر وعمر ؟ فقال لهم عليه السلام : وهل فرغتم لهذا وهذه مصرقد افتتحت ، وشيعتي بها قد قتلت ؟! أنا مخرج إليكم كتابا أخبركم فيه عما سألتم ،وأسألكم أن ....)([5]) ، ويتابع الثقفي في نفس الكتاب في موضع آخر : (...تلك الطائفة الضعيفة العقول السخيفة الأحلام الذين رأوا أمير المؤمنين عليه السلامفي آخر أيامه كعبد الله بن سبأ وأصحابه فإنهم كانوا من ركاكة البصائر وضعفها علىحال مشهورة ...)


    2) القمي ( توفي 301هـ ) يقول في كتابه"المقالات و الفرق": أن عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكرو عمر و عثمان والصحابة ، و تبرأ منهم ، وادّعى أن علياً أمره بذلك . و ( أنالسبئية قالوا للذي نعاه ( أي علي بن أبي طالب ) : كذبت ياعدو الله لو جئتناوالله بدماغه خربة فأقمت على قتله سبعين عدلاً ما صدقناك ولعلمنا أن لم يمت ولميقتل وإنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض ثم مضوا) .


    3) النوبختي ( توفي 310هـ ) يقول في كتابه "فرقالشيعة" : عبد الله بن سبأ كان ممن أظهر الطعن على أبى بكر، وعمر،وعثمان ، والصحابة ، وتبرأ منهم ، وقال إن عليا أمره بذلك ، فأخذه علي ، فسأله عنقوله هذا ، فأقر به ، فأمر بقتله فصاح الناس إليه ، يا أميرالمؤمنين ! ! أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم ، أهل البيت ، وإلى ولايتكم ،والبراءة من أعدائكم ، فسيره إلى المدائن وقال: ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي عليبالمدائن ، قال للذي نعاه : كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة ، وأقمت علىقتله سبعين عدلا، لعلمنا أنه لم يمت ، ولم يقتل ، ولا يموت حتى يملك الأرض


    4) أبو حاتم الرازي ( ت 322هـ ) يقول في كتابه"الزينة في الكلمات الإسلامية": أن عبد الله بن سبأ و من قال بقوله منالسبئية كانوا يزعمون أن علياً هو الإله ، و أنه يحيي الموتى ، وادعوا غيبته بعدموته .


    5) الكشي ( ت 340هـ ) روي في"الرجال" أقوالاً عن الباقر والصادق وزين العابدين تلعن فيها عبد اللهبن سبأ. و لا يجوز و لا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول. ويروي الكشيكذلك بسنده إلى أبي جعفر ( أن عبدالله بن سبأ كان يدعي النبوة وزعم أن أميرالمؤمنين هو الله تعالي عن ذلك علواً كبيرا فبلغ ذلك أمير المؤمنين فدعاه وسألهفأقر بذلك وقال : نعم أنت هو وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبيفقال له أمير المؤمنين : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتبفأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار والصواب أنه نفاه بالمدائن).


    6) ابن أبي الحديد ( ت 655هـ ) : "أن عبد اللهبن سبأ قام إلى علي وهو يخطب فقال له: أنت أنت، وجعل يكررها، فقال له -علي-: ويلكمن أنا، فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه" ([6]) وهناك مؤرخون قدماء أفاضواالقول في تلك الشخصية ودورها الخطير في تحريف معتقدات المسلمين .


    ثانيا : المثبتون لشخصية بن سبأ من المستشرقين :-


    -يوليوس فلهاوزن (2) .


    -فان فلوتن (3) .


    -كايتاني (4) .


    -ليفي ديلافيداGiorgio Levi Della Vida (إيطالي) 0(5)


    -إسرائيل فريد لندر0(6)


    -جولد تسيهرen:Ignaz Goldziher . (7)


    -رينولد نيكلسنen:ReynoldNicholson . (8)


    -داويت رونلدسن . (9)


    -برنارد لويسen:Bernard Lewis . (10)


    بعد هذا العرض للنافين لشخصية بن سبأ والمثبتين له لا يملك المرء إلا أنيقر بوجود تلك الشخصية الكريهة الشاذة في التاريخ الإسلامي فإن أقواله مثبتهوتصرفاته وتحركاته مدونه ذكرتها كتب الحديث الصحاح ولن يبقي أمامنا في هذه العجالةإلا أن نذكر طرفا من عقيدة هذا الرجل اليهودي .


    - القول بالوصية: وهو أول من قالبوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي،فكان يقول يوشع بن نون وصي بعدموسي وكذلك علي وصي بعد محمدا e وأنه خليفته على أمته من بعدهالنص. ولا شك أن أبن سبأ قد اخذ فكرةالوصية من التوراة في إصحاح 18 من سفر تثنية الإشتراع .


    - كان أول من قال بألوهية وربوبية علي رضي الله عنه . والدليل على ذلك ما رواه الكشي بسنده عن أبيجعفر (ع) أن عبد الله بن سبأ كانيدعي النبوة وزعم أن أمير المؤمنين (ع) هو الله، تعالىالله عن ذلك علوا كبيرا، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (ع) فدعاه وسأله فأقر بذلكوقالنعم أنت هو، وقد كان ألقي فيروعي أنك أنت الله وأني نبي فقال له أمير المؤمنين (ع) ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب فأبى فحبسه واستتابهثلاثةأيام فلم يتب فأحرقه بالنار- والصواب أنه نفاه إلى المدائن بعد أن شُفع له على ماسنبينه في موقف الإمام منه - وقال - أي الإمام - إن الشيطان استهواه فكانيأتيهويلقي في روعه ذلك ([7]) .


    - ادعى ابن سبأ اليهودي أن عليا رضي الله عنه هو دابة الأرض وأنههو الذي خلق الخلق وبسط الرزق. وقال ابن عساكر: روىالصادق عن آبائه الطاهرينعن جابر قال: "لما بويععلي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقالله: "أنت دابة الأرض"، فقال له: "اتق الله"، فقال له :"أنت الملك"، فقال له: "اتقالله"، فقال له: "أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق" فأمر بقتلهفاجتمعت الرافضة فقالت: "دعه وانفه إلى ساباطالمدائن.." (2) .


    - وقال قوم من السبئية بانتقال روح القدس في الأئمة وقالوا أيضا (بتناسخالأرواح)، يقولابن طاهر المقدسي: "ومنالطيارة (أي السبئية) قوم يزعمون أن روح القدس كانت فيالنبي كما كانت في عيسى ثم انتقلت إلى عليّ ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين ثمكذلك فيالأئمة، وعامة هؤلاء يقولونبالتناسخ والرجعة" ، ولعل كتاب الحسن بن موسىالنبوختي المسمى بـ (الرد على أصحاب التناسخ) قد صنفه النوبختي في الردعليهم .(3)


    - وقالوا: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشارالوحي"، ولقد رد علىمقالتهم هذه أحد أئمة أهلالبيت وهو الحسن بن محمد بن الحنفية في رسالته التي سماهابـ (الإرجاء) والتي رواها عنه الرجال الثقاة عند الشيعة فيقول: و"منقول هذهالسبئية: "هُدينا لوحيضل عنه الناس، وعلم خفي عنهم"، وزعموا أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم وآله كتم تسعة أعشار الوحي، ولو كتم صلى اللهعليه وسلم وآله شيئا مماأنزل الله عليه لكتم شأنامرأة ز يد، وقوله تعالى: { تَبْتَغِي مَرْضَاتَأَزْوَاجِك…}" ، وقال الحافظ الجوزجاني (ت259هـ) عن ابن سبأ:"زعم أن القرآنجزء من تسعة أجزاء وعلمه عندعلي فنهاه عليّ بعدما همّ به".([8])


    - ومن المناسب ما دمنا نتكلم عنتحريق علي بن أبي طالبلأصحاب ابن سبأ والزنادقة أن نذكر حادثة أخرى ذكرها ابن أبيالحديد في شرح نهج البلاغة ، يقول ابن أبي الحديد: "وروى أبو العباسأحمد بن عبيدبن عمار الثقفي عن محمد بنسليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين، وروى أيضا عن عليبن محمد النوفلي عن مشيخته (أن عليا عليه السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهررمضاننهارا فقال : "أسفر أممرضى"، قالوا: "لا ولا واحدة منها"، قال: "فمن أهل الكتابأنتم فتعصمكم الذمة والجزية"، قالوا:"لا"، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان،فقاموا إليه فقالوا: "أنت أنت" يومئون إلى ربوبيته، فنزل عليهالسلام عن فرسه فألصقخده بالأرض، وقال:"ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلىالإسلام" فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم،فنهض إليهم وقال: "شدوهم وثاقاوعلي بالفعلة والناروالحطب" ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا والأخرىمكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحا وألقىالنار في الحطب فدخن عليهموجعل يهتف بهم ويناشدهمليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقيعليهم فأحرقوا فقال الشاعر:


    لترم بي المنية حيث شاءت إذالم ترمني فيالحفرتين


    إذا ما حشنا حطبا بنار فذاك الموت نقدا غير دين


    فلم يبرحعليه السلام حتى صاروا حمما.


    بعد هذا العرض لابن سبأ وحقيقته نتجه بالحديث عن الدور الخطير الذي لعبه بنسبأ في إثارة الفتنة ودعوته لأهل الأمصار في الثورة والتمرد علي أمير المؤمنين ذيالنورين وهو دور ينبغي الوقوف عنده طويلا لنري كيف كان الحقد يملئ قلوب أعداءالإسلام من الشعوبيين والمنافقين وأصحاب الملل الأخرى ولا غرابة أن يقوم بن سبأبهذا الدور وقد سبقته فتنة المرتدين والتي كادت أن تقضي علي الإسلام دفعة واحدةلولا أن هيأ الله لها الصديق ابو بكر . فلا غرو أن يكون بن سبأ إثارة من فتنةسابقة .


    تولي أمير المؤمنين عثمان بن عفان الخلافة الإسلامية بعد مقتل عمر بنالخطاب وعاش في خلافته اثنتي عشرة سنة كان الشطر الأول منها يتميز بالرضا الكاملمن الرعية لراعيهم وكان عثمان أحب إلي قلوب الناس وخاصة قريش من عمر بن الخطاب لأنعمر كان شديدا عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ([9]) ، وقد زادهم في أعطياتهم ووسع عليهم في أرزاقهم واستحالت حالة التقشفوالخشونة إلي حالة اللين والترف .


    وظل الأمر كذلك حتى دخل اليهودي الحاقد عبد الله بن سبأ في المسلمين وأخذيحرض علي عثمان ويقول : إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق ، ويشير إلي علي – رضي اللهعنه – ويقول : هذا وصي رسول الله e انهضوا إلي هذا الأمر فحركوه ،وابدأوا بالطعن علي أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلواالناس ، وادعوهم إلي هذا الأمر (2).


    إن هذا الكلام الخطير يوضح الخطة الخبيثة التي خدع بها ذلك اليهودي للمسلين، حيث كان يتظاهر بالإصلاح وهو لا يريد إلا الإفساد ويمشي في الناس باسم الأمربالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو لا يقصد إلا ان يصدقه المسلمون ويثقوا به لينفذخطته الخبيثة من وراء ذلك الستار الكثيف .


    وأخذ ابن سبأ ينتقل في بلاد المسلمين يحاول إضلالهم وإفساد عقيدتهم ، فخرجمن صنعاء إلي الحجاز ولكنه لم يجد سميعا لدعوته فذهب إلي البصرة ثم إلي الكوفة ،وتوجه منها إلي بلاد الشام ولكنه كان يطارد من الأمراء في كل مكان نزل فيه ،واستقر أخيرا في مصر (3).


    واستطاع ابن سبأ – لعنه الله – أن يجد له أتباعا في الكوفة والبصرة ومصرولكنه لم يفلح في ذلك حين توجه إلي بلاد الشام كما قلنا حيث يجتمع كبار الصحابةوالسابقون إلي الإسلام الذين استنارت بصائرهم بهدية وتوجيهاته ، فرأوا في دعوة ابنسبأ وكلامه الخديعة ، ولمسوا فيه الحقد اليهودي الدفين ،فلم يقبلوا منه، ولميستمعوا له كما حدث ذلك في بلاد الحجاز تماما حيث يأوي المهاجرون والأنصار .


    لم ييأس ابن سبأ من سكان الشام ، ولكنه ظل يتصل بهم فرادي ، ويثيرهم حسبخطته علي أميرهم معاوية – رضي الله عنه – فاتصل بأبي الدرداء وحرضه علي معاوية ،ولكن أبا الدرداء – رضي الله عنه – رفض ذلك ، وأمسك بابن سبأ وقال : من أنت ؟ أظنكوالله يهوديا .


    وترك ابن سبأ أبا الدرداءليحرض غيره من المسلمين ، وكأنه كان يتحري كبار الصحابة لأنه إذا نجح في إثارةواحد منهم تبعه علي ما هو عليه المسلمون ، ولذلك بعد أن ترك أبا الدرداء اتصلبعبادة بن الصامت – رضي الله عنه- وكشف عبادة أمره فتعلق به ، وسار إلي معاويةوقال له : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر ([10]) .


    ويبدو أن ابن سبأ قد يئس منالشام كما يئس من الحجاز واكتفي بمن اتبعه من أهل الأمصار الأخرى كمصر والكوفةوالبصرة ، وبدأ الثوار يوجهون التهم إلي الخليفة وهم بعد في أماكنهم لم يتحركواليثيروا بذلك شكوك المسلمين ويوغروا صدورهم علي الخليفة ، وعندئذ تتهيأ لهم الفرصةللانقضاض عليه وخلعه حسب الخطة الموضوعة(2) .


    فلما تهيأ الجو ، ورأواالفرصة سانحة تواعدوا أن يذهبوا إلي المدينة لمحاصرة الخليفة وإجباره علي التنازلعن الخلافة أو يقتلوه ويتخلصوا منه .


    وتقدم الثوار من أمصارهمقاصدين المدينة ، وخرجوا جميعهم في شهر شوال متظاهرين بأنهم يريدون الحج حتى يخفيأمرهم علي المسلمين فلا يتعرض لهم من يصدهم ويحبط مؤامرتهم ، ونزل أهل البصرة بذيخشب ونزل أهل الكوفة ومصر بذي المروة .


    والغريب أن هؤلاء المتمردينلم يكونوا علي رأي واحد ، بل كانت كل جماعة منهم تريد رجلا وتهوي أن يكون هوالخليفة ، فكان متمردوا الكوفة يريدون الزبير بن العوام ، ومتمردوا البصرة يريدونطلحة بن عبيد الله ، ومتمردوا مصر لا يريدون غير علي بن أبي طالب ، ولكنهم لميجرؤوا علي مصارحة بعضهم بذلك ، وحاولت كل جماعة منهم أن تكتم أمرها ، وتبايع منتريد سرا وأدعوك أيها القارئ أن تتأمل تلك الفكرة الشيطانية التي رسمها بن سبأ فهويريد أن يعدد الخلفاء في دولة واحدة ليشب النزاع فيما بينهم وتتقطع أواصر الدولةالموحدة ومن ثم يسهل القضاء علي دولة المسلمين وهو نفس الأسلوب الذي يتبع اليوم فيتمزيق كيان المسلمين وتجزئ دولهم إلي كيانات صغرى هذا من ناحية وبث الفرقة بينحكام المسلمين وزعمائهم من ناحية أخرى .

    * * * *


    (3)


    مثيرو الفتنة وإشاعتها بين الأمصار



    قبل الحديث عن ذلك كله، أود أن أشير إلى أن ثمة روايات ضعيفة الإسناد تتهم بعضالصحابة رضوان الله عليهم بالتحريض على عثمان رضي الله عنه. ومعلوم كما تقدم أن علاقة المسلم بصحابة رسولالله صلى الله عليه وسلم من أمور العقيدة التي لا تقبل فيها إلا الروايات الصحيحة.


    هذه الروايات التي تتهم الصحابة لاتخلو أسانيدها من علة، إن لم تجتمع فيالإسناد الواحد منها عدة علل، ونجد في الغالب في أسانيدها من هو متهم بالرفض، أورافضي جلد.


    وهؤلاء الصحابة المتهمون -باطلاً وزوراً- بالتأليب على عثمان رضي الله عنهوقتله، قد أثبت الله عدلهم -جل وعلا- في مواضع عديدة من كتابه العزيز.


    بل رضي عنهم، وشهد لهم بأنهم قد رضوا عنه، -وهذه منقبة عظيمة لهم- وذلك فيقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِوَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُوَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاأَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ([11]) . ومن رضي اللهعنه لم يسخط عليه أبدا .


    والأدلة على تعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهممتضافرة متواترة، تحيط شخصيتهم بالإجلال والاحترام، وتحجز المؤمن عن النيل منهموالخوض فيما شجر بينهم -إن ثبت شيء من ذلك- فضلاًُ عن أن يعتمد في ذلك شيئاً لميثبت له إسناد، ولا متن.


    فمن الأدلة علي إثبات عدولهم قوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِوَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْرُكَّعاً سُجَّداً...} (2) .


    ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضلهم قوله: "لا تسبوا أصحابي،لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّأحدهم ولا نصيفه" (3) ، إلى غير ذلك من النصوص المستفيضة الدالة على فضلهم، وعدالتهم، يقول الله تعالي: { مُّحَمَّدٌرَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُبَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِوَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَمَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَشَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْوَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}([12]) .


    فلا يحق لأحد أن يتهمهم بعد تعديل الله لهم، وثناء الرسول عليهم، ومعرفة الأمةلقدرهم في حمل الإسلام والجهاد في سبيل الله، لإقامة صرح دولته وبناء حضارته.


    ومما يؤسفنا حقا أن ترد بعض الروايات الكاذبة والتي لا تليقبشأن الصحابة ومكانتهم ومما يثير العجب أن تتناقل تلك الروايات في المصادرالتاريخية عبر العصور دون أن يتصدي لها مؤرخ غيور يرد غائلة الصحابة فقد ألصقتالتهم بعمار بن ياسر وبأبي ذر الغفاري وبأبي موسي الأشعري وبسعيد بن العاصوبمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعا ومن أمثلة الهمز والكذب علي سبيلالمثال فقط وليس الحصر تلك التهمة التي ألصقت ولفقت إلي عمار بن ياسر حيث أتهم أنهيؤلب أهل الأمصار علي عثمان رضي الله عنه وقد جاءت تلك الرواية في تاريخ الطبريحيث أرسل أمير المؤمنين عثمان بعض الصحابة إلي الأمصار يتقصون الأخبار وسبب غضبالناس من الخليفة عثمان وكان منهم عمار بن ياسر حيث أرسله إلي مصر فتقول الروايةفقد رجع هؤلاء المرسلون إلي المدينة قبل عمار وإلي هنا فالقول صحيح ولكن بم فسرهذا التأخير وهنا موضع اللامز فقد ظن البعض أن عمارا اغتيل وهذا أمر قد يبدواطبيعيا أيضا ولكن الذي لا يبدوا طبيعيا والذي يجب أن نقف عنده فهو إكمال الخبر حيثيقول الطبري فلم يفاجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارقد أستماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجموسودان بن حمران وكنانة بن بشر وأعتقد أن كتاب عبد الله بن سعد إما قد يكون حرففيه أو لم يكن موجودا بالمرة وعلي ما يبدوا أن تصحيفا قد حدث فالكتاب يقول أنعمارا قد استماله قوم بينما في بعضالروايات الأخرى تقول أنه استمال قوما والفرق كبير بين التعبيرين والأصح أن هذهالرواية ضعيفة ولا يصح أن يأخذ بها إنصافا لصحابة رسول الله رضوان الله عليهم . (2)


    والذي تصوره أحداث هذه الفتنة أن إشعالها تم من خلال تخطيط دقيق منظم، ممايؤكد أن وراءها جماعة منظمة، تهدف إلى إشعالها، تحقيقاً لمصالحها الدنيئة،وإضعافاً لقوة المسلمين، فمن المبالغة عزو ذلك كله إلى فرد واحد وهو عبد الله بنسبأ .


    ولا شك أن لهذه الجماعة السرية ممثلين ووجهاء، كان من أبرزهم كما قلنا عبدالله بن سبأ اليهودي، تلك الشخصية التي دار حول إثبات حقيقتها، ودورها في الفتنةنقاش وجدال وخصام بين كثير من الدارسين والباحثين.


    والذي أكسب هذه الشخصية هذا الاهتمام هو أثرها الفعال في إشعال الفتنة، فيخلافتي عثمان وعلي رضي الله عنهما وفي إنشاء عقيدة الرافضة في الرجعة والوصية وسبالصحابة رضوان الله عليهم.


    ونجد أن أقدم وأبرز النافين لحقيقة هذه الشخصية -التي اعتمد الرافضة ماابتدعته- هم أبناء هذه العقيدة الضالة ([13]) سوى قلة قليلة منغيرهم منخدعة بأقوالهم ومغترة بها.


    وهذا النفي عبارة عن محاولة فاشلة منهم لستر حقيقة ارتباط الرافضة باليهودوأنها مستمدة منهم، وليس هذا هو الدليل اليتيم في ذلك، فإن أغلب عقائد الرافضة تدلعلى هذا الارتباط، يعرف ذلك من يقارن بينها، وبين عقائد اليهود أدنى مقارنة .


    وقد ذكر شيخالإسلام ابن تيمية نقلاً عن الشعبي، عدداً من الصفات التي يلتقي فيها الروافض معأسلافهم . من اليهود (2) ، ومال بعض المستشرقين(منهم: الدكتور اليهوديالإنجليزي " برنارد لويس " واليهودي الألماني/ فلهوزن، والأمريكي/ فرييدلاندر. (3) إلى هذه الفكرة التي تساعد الرافضة على التملصمن هذا الالتقاء، وذلك ضمن سلسلة محاولاتهم التي تهدف إلى هدم الإسلام وتشجيعومعاونة كل ما من شأنه إضعاف هذا الدين القويم. وتابعهم عدد من الكتاب المسلمين،وكان عمدة من نفى ثبوت شخصية عبد الله بن سبأ، أن سيف بن عمر التميمي، قد انفردبإثبات هذه الشخصية، وأن سيفاً هذا ضعيف طعن فيه جمع من العلماء. وتناقل بعض مثقفيالعصر هذه المعلومات مسلَّمة، واقتنع بها بعضهم دون تحقق من صحتها . (4)

    * * * *


    (4)


    قدوم أهل الأمصار إلي المدينة لمحاسبة الخليفة عثمان .





    بعد أن حرّض البغاة أهل الأمصار على الخليفة رضي الله عنهاتجهوا إلى المدينة، فقدم أهل مصر، وأهل العراق، والتقوا بعثمان رضي الله عنهوتفاوضوا معه. ولما علم الناس بمسير المصريين إلى عثمان رضي الله عنه أتى بعضالناس إلى حذيفة، فقالوا له: إن هؤلاء ساروا إلى هذا الرجل فما تقول؟ قال: يقتلونهوالله، فقالوا له: أين هو؟ فقال في الجنة والله، فقالوا: فأين قتلته؟ فقال: فيالنار والله ([14]) . خرج القوم من مصر قاصدين المدينة، وبلغ خبر قدومهم عثمان رضي الله عنه قبلوصولهم وكان في قرية خارج المدينة –لم تحددها الروايات- فلما سمعوا بوجوده فيها،اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها ويحددالمدائني تاريخ قدومهم بأنه كان في ليلة الأربعاء هلال ذي القعدة (2) .


    التقى القوم بعثمان رضي الله عنه في هذه القرية فقالوا: ادعبالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكان يسمون سورة يونس السابعة فقرأ حتىأتى هذه الآية: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (3).


    فقالوا له: قف.أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه، نزلت في كذاوكذا، فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدتفي الحمى لِما زاد من إبل الصدقة، امضه، قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه،نزلت في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطاً، وأخذ عليهم ألا يشقواعصا، ولا يفارقوا جماعة، ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين (4). وبذلك يتبين ضعف ما رُوي من أن عثمان رضي اللهعنه أرسل خمسين راكباً أميرهم محمد بن مسلمة وفيهم جابر رضي الله عنه إلى وفدالمصريين في ذي خشب، وأنهم وجدوا رجلاً من القوم معلقاً المصحف في عنقه، تذرف عيناه دموعاً، وبيده السيف، وهويقول: إلا إن هذا -يعني المصحف- يأمرنا أن نضرب بهذا -يعني السيف على ما في هذا- يعنيالمصحف - وأن محمدا بن مسلمة قال له: اجلس، فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس،وأنه لم يزل يكلمهم حتى رجعوا ([15]) .


    ونزل القوم في ذي المروة، قبل مقتل عثمان بما يقارب شهراًونصف . فأرسل عثمان إليهم علياً رضي الله عنه ورجلاً آخر لم تسمه الروايات. والتقىبهم علي رضي الله عنه فقال لهم: تعطون كتاب الله وتعتبون من كلّ ما سخطتم، فوافقواعلى ذلك (2) .


    وفي رواية أنهم شادّوه، وشادّهم مرتين أو ثلاثاً، ثم قالوا:ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول أمير المؤمنين، يعرض عليكم كتاب اللهفقبلوا (3) فاصطلحوا على خمس:على أن المنفي يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب. وأن يُردّ ابنُ عامر على البصرة، وأبو موسىالأشعري على الكوفة وأن يؤدى إلى كل ذي حقّ حقّه، ولم يكتبوا هذه، ثم انصرفواراجعين إلى الكوفة (4). هكذا اصطلح عثمان رضي الله عنه معوفد كلّ مصرٍ على حده، ثم انصرف الوفدان إلى ديارهم راضين.


    وفي رواية أن عثمان اجتمع مع أهل الأمصار جميعاً، وأنه قاللهم: ليقم أهل كل مصر يسألوني صاحبهم، الذي يحبونه فأستعمله عليهم، وأعزل عنهمالذي يكرهون، فقال أهل البصرة: رضينا بعبد الله بن عامر، فأقره علينا، وقال: أهلالكوفة: اعزل سعيداً واستعمل علينا أبا موسى ففعل، وقال أهل الشام قد رضينابمعاوية فأقرّه علينا، وقال أهل مصر: اعزل عنا ابن أبي سرح، واستعمل علينا عمرو بنالعاص، ففعل، فما جاءوا بشيء إلا خرج منه، فانصرفوا راضين (5)


    وبعد عقد الصلح، كتب عثمان رضي الله عنه كتاباً إلى أهلالعراق، يقول فيه: "إن جيش ذي المروة نزلوا بنا فكان مما صالحناهم عليه: أنيؤدى إلى كل ذي حقٍّ حقه، فمن كان له قِبَلنا حق فليركب إليه، فإن أبطأ أو تثاقلفليتصدق فإن الله يجزي المتصدقين" (6) .


    وبعد هذا الصلح العظيم وعودة أهل الأمصار جميعاً راضين،تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططواتخطيطاً آخر، يُذكي الفتنة ويحييها، ويدمر ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمانرضي الله عنه وبرز ذلك علي النحو التالي :


    في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكباً على جمل يتعرضلهم، ويفارقهم -يظهر أنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له:ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب علىلسان عثمان رضي الله عنه وعليه خاتمه إلى عامل مصر، فتحوا الكتاب فإذا فيه أمربصلبهم أو قتلهم أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها.


    وقبل أن نخوض في محاولات لكشف شخصية كاتب هذا الكتاب، هناكدلائل تشكك في صحة ما أشاعه أهل الأمصار من وجود هذا الرجل الذي يحمل هذا الكتاب،فلماذا لا يكونون قد ألفوا كتاباً في أثناء الطريق وعادوا به مظهرين أنهم وجدوه معرجل على جمل؟ ومما يقوي ذلك، أنه لم تنقل المصادر أنهم انتقموا من هذا الرجل الذييحمل هذا الكتاب الذي فيه هلاكهم، خاصة وأنهم قوم لم يتورعوا عن دم خليفتهموأميرهم، فمن باب أولى أنهم لا يتورعون عن دم هذا الرسول.


    ولو افترضنا صحة هذا الزعم، فلِم يسلك هذا الرسول طريقهم؟أليس هناك طرق إلى مصر غير طريقهم؟ وإذا لم يكن هناك طرق أخرى ألا يستطيع أن ينحرفعن الطريق عند اقترابه منهم، ثم يعود إلى الطريق نفسه؟.


    ولِم يتَعرض لهم ويفارقهم، ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم، فلِمَهذه التصرفات التي تدعوهم إلى القبض عليه؟. وإذا كان مرسله عثمان رضي الله عنه أوأحد ممن هم حوله، ألا يرشدونه إلى هذه التعليمات التي تعينه على التملص من أهلمصر، وينبهونه إلى أن يتستر ويخفي مضمون هذا الكتاب؟! بلى، هذا هو المتحتم من خلال هذا الموقف.


    ولكن انظر إلى هذا الرسول -المزعوم- عندما قبض عليه، قالواله: مالك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه فإذا هم -كما فيالرواية- بالكتاب على لسان عثمان رضي الله عنه عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهمأو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم. ومنالذي يؤكد لنا أن الخاتم خاتم عثمان رضي الله عنه؟ فلم تنقل لنا المصادر أن أحداًمن الصحابة رضي الله عنهم قد رأى هذا الخاتم وأقر أنه خاتمه. عاد القوم بعد ذهابهم يحملون هذه الأخبار، التيلا يستبعد إطلاقاً أن تكون ممثلة ملفقة، وقدموا المدينة.


    وتفصل بعض الروايات الضعيفة في ذهابهم إلى بعض الصحابة وعرضالكتاب عليهم، إلا أنه لم يصح في ذلك شيء من الروايات. ونفى عثمان رضي الله عنه أنيكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين، أويميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يُكتب الكتابعلى لسان الرجل ويُنقش الخاتم، فلم يصدقوه. ولا نشك نحن في صدق عثمان رضي الله عنه كما أنهم لا يشكون في ذلك، ولكنهملم يعبؤوا بهذا الحلف منه؛ لأنهم -ربما- يعرفون مسبقاً أنه ليس بكاتب الكتاب،وإنما هي حيلة لنقض العهد الذي أسفوا على إبرامه، أو أسف واغتاظ مشعلوا الفتنة علىوقوعه. إذا فرضنا أنهم وجدوا كتاباً فعلاًبخط كاتب عثمان رضي الله عنه وعليه خاتمه، فمن ذا الذي يكون قد باء بإثم تزويره؟! يتهمبعضهم مروان بن الحكم في ذلك، وأنه افتأت على عثمان رضي الله عنه بكتابته، وأستبعدذلك جداً، لما تقدم من أن تفاصيل خطة إرسال هذا الكتاب تدل على أن مرسله لم يكنيريد إيصاله إلى مصر، وإنما يهدف إلى إطلاع وفد أهل مصر عليه، كما أنه لا مصلحةلمروان في كتابة هذا الكتاب. والذي يبدو -والله أعلم- أن الذي زيف هذا الكتاب هو:عبد الله بن سبأ، أو أحدُ أعوانه، فهذه من عاداته القبيحة التي استخدمها في إشعالالفتنة، فليس هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد المزور في هذه الفتنة؛ بل زُوّر غيرهعلى ألسنة بعض الصحابة رضوان الله عليهم كعائشة، وعلي رضي الله عنهما.


    بعد عودتهم هذه حاصروا الدار، وقاموا بأبشع المعاملة معالخليفة عثمان رضي الله عنه، وتصرفوا أقبح التصرفات. وفي الباب الآتي تفصيل ما جرىأثناء الحصار.

    * * * *







    1- أنظر علي وبنوه مرجع سابق قـ 98-100 .


    1- أصول الإسماعيليين والإسماعيلية ، تعريب خليل جلو وجاسم الرجبص86-87.
    2- انظرالخوارج والشيعة ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي. .
    3- انظر:عبد الله بن سبأ والشيعة نشرة المجلة الأشورية 1909-1910.
    4- أنظر : أصولالإسماعيلية لبرنارد لويس ، نقلا عن مجلةالجامعة الاسلامية – المدينة النبوية – العدد 46 .
    5- أنظر مجلةالجامعةالاسلامية – المدينة النبوية – العدد 46 .
    6- أنظر علي وبنوه صـ 98-100 والفتنةالكبري المليء بالثقوب التي أخذها عن المستشرقين كما ذكر أنور الجندي في كتابه طهحسين صـ43 ،44 .


    1- أنظر المخططات الترموزيةالصهيونية اليهودية في عزو الفكر الإسلامي أنور الجندي صـ80 ط2 سنة 1977 .
    2- وأنظر أيضا مجلة الجامعةالإسلامية العدد السابق .
    3- أنظر مجلة الجماعة الإسلامية المدينةالنبوية العدد 46 .
    4- أنظر التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوةالإسلامية صـ18 .

    1- أنظر وعاظ السلاطين للدكتور عليالوردي صـ 274 – 278 نقلا عن مجلة الجامعة الإسلامية سابقة الذكر .


    1- الغارات ص302 .

    1- شرح نـهج البلاغة: ج5 ص5 .
    2- في كتابه الخوارجوالشيعة صـ170 – 171 .
    3- في كتابه السيادة العربية والشيعيةوالإسرائيليات في عهد بني أمية صـ80 .
    4- حوليات الإسلامالجزء الثامن .
    5- تحقيق كتاب أنساب الأشراف للبلاذري.
    6- المجلة الآشورية العددين من سنة (1909م ، ص 322) و(1910م ، ص 23) بعنوان : ( عبد الله بن سبأ مؤسس الشيعة وأصله اليهودي .
    7- العقيدةوالشريعة في الإسلام ( ص 205 .
    8- تاريخ الأدب العربي ص 215 .
    9- عقيدة الشيعة ص85 .
    10- أصول الإسماعيلية ص 86 .

    1- أنظر مجلة الجامعة الإسلامية سالفة الذكر العدد 46 .
    2- المرجع السابق .
    3- المرجع السابق .

    1- أنظر مجلة الجامعة الإسلاميةسالفة الذكر العدد 46 .


    1- طبقات بن سعد ج3 صـ64.
    2- الطبري 4/34،341 .
    3- الطبري ج4صـ341 .

    1- ابن الأثير 3/114/115 .
    2- يراجع في ذلك كتابنا المدينةالمنورة عاصمة الإسلام .

    1-سورة التوبة، الآية (100) .
    2- سورة الفتح، الآية (29).
    3- رواه البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/ 21)،ومسلم، الجامع الصحيح، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (4/ 1967 .

    1- الفتح الآية (29) .
    2- الطبري ج4 صـ341 .

    1- أنظر بن سبأ حقيقته ووجوده فيما ذكرناه سابقا .
    2- انظر منهاج السنةالنبوية 1/ 22- 42 .
    3- انظر ما كتبناهعن ابن سبأ حقيقة في الصفحات السابقة .
    4- انظر عبد اللهبن سبأ: دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة)، رسالة نشرتها جامعة الكويتفي حوليات كلية الآداب 1407 .

    1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(388-389) .
    2- ابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان رضي الله عنه.(1/153) .
    3- سورة يونس ،الآية 59 .
    4- أنظر العواصم من القواصم صـ85 ، الطبري ج4صـ347 .


    1- رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(321) .
    2- رواه ابنعساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (ص: 328) .
    3- جاء ذلك في رواية ابن عساكر .
    4- رواه ابنعساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (ص: 328) .
    5- المرجع السابق .
    6- رواه ابن عساكربإسناد حسن (تاريخ دمشق، ترجمة عثمان رضي الله عنه 362، 487- 488) .


  27. #27
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الرابعة )


    المآخذ التي أخذت علي عثمان


    (أسباب الفتنة )




    (1)


    عثمان يولي أقاربه الإمارة



    عندما تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة ، ترك ولاته في مناصبهم فترة منالزمن ([1])بوصية من عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ، ثم غيّر عثمان رضي اللهعنه بعضهم حسب اجتهاده و ما تقتضيه المصلحة و ظروف الأمصار ، و سار في رعيتهباللين و الحلم ،و العدل و التواضع لكنها أي رعيته وجدت في إسناده الإمارة لأقاربه مدخلا للطعنفيه و الإنكار عليه ، فقال الناقمون عليه إنه اتخذ بطانة سوء من أقاربه ،و قسّمبينهم الولايات ، من بينهم من لا يصلح للولاية ، حتى ظهر منهم الفسوق و العصيان والخيانة ، و مع ذلك لم يسمع لمن عاتبه عن ذلك الفعل و لم يرجع عنه . هذه بلا شك أهم المآخذ التي أخذت علي عثمانوالتي جلبت عليه نقمة الكثيرين مع وجود مأخذ أخرى سوف نذكرها . فهل كان أمير المؤمنين عثمان محقا في ذلك أمكان مخطأ ؟ ولكي ندرك ذلك ينبغي أن نتعرض بالتأمل والتأني للقضايا التالية :-


    يوجد في هذا المأخذ أربع قضايا لابد منإبرازها ثم تحليلها لنقف علي حقيقة هذا المأخذ وهل أخطأ فيه عثمان أم كان علي حق (2).


    القضية الأولي :- هل كان عثمان آثما فيتعيين أقاربه ولاة ؟


    أن تعيين عثمان أقاربه ولاة ليس بحرام ،على ما اعتقد ، فلا يوجد ما يثبت ذلك من القرآن والسنة . كماأن عثمان رضيالله عنه لم ينفرد عن الخلفاء الراشدين بتعيين أقاربهولاة له ، فقد أسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه- الإمارة لأقاربه ، و لأناسمطعون فيهم ، فمن أقاربه الذين ولاهم : عبد الله بن عباس على البصرة ،و عبيد اللهبن العباس على البحرين و اليمن ،و قثم بن العباس على الطائف و مكة ([2])و ولى من المطعون فيهم : محمد بن أبي حذيفة على مصر ،وكذلك الأشتر النخعي ،و محمد بن أبي بكر على مصر ، وهؤلاء الثلاثة هم من رؤوس الفتنة المتألبين على عثمان كما تروي بعض الروايات .وهذا ما سنوضحه بعد .


    فإذا كان عثمان يُلام على تعيين أقاربهولاة ، فعلي هو الآخر يلام على ذلك ، خاصة و أنه ولى حتى رؤوس الفتنة . لكن حقيقةالأمر أن ما فعلاه يدل على أن إسناد الإمارة للأقارب ليس حراما ، إذ لو كان حراماما اقتربا منه ،.و يدل أيضا على أنهما كانا مجتهدين فيما قاما به ، توخيا للمصلحةحسب الظروف المحيطة بهما ؛ فمن أصاب فله أجران و من أخطأ فله أجر واحد .

    * * * *



    القضية الثانية : - هل خص عثمان أقاربه بالإمارة دون غيرهم من الناس .


    فأشير أولا إلى أنه روى أن عثمانرضيالله عنه لم يكن يعزل أحدا من ولاته إلا إذا شكتهرعيته ،أو استعفاه أحد ولاته بأن يعفيه من منصبه ، أو ساءت علاقته مع أعوانهالمقربين منه([3]).


    وثانيا:- أن تعيين عثمان بعض أقاربه من بني أمية، لم يكن جديدا على المسلمين ، فقد كان بنو أمية من أكثر القبائل العربية تولياللمناصب منذ زمن رسول الله عليه الصلاة و السلام فإنه استعمل منهم ، عتاب بن أسيد ،و خالد بنالعاص ،و أبان بن سعيد بن العاص ،و سعيد بن سعيد بن العاص ،و يزيد بن أبي سفيان ،وشيخهم أبا سفيان بن حرب . و قد سار على ذلك النهج أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب، في إسناد المسؤوليات لبني أمية ([4]) .


    وثالثا:- فمنحق أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يولي من رآه أهلا للولاية ، سواء كان منأقاربه أو من غيرهم من الناس ، و لا يحق لأحد أن يعترض عليه لمجرد أنه ولى بعضأقاربه الإمارة . فهو خليفة راشد مُنتخبله مطلق الحرية في تعيين الولاة و عزلهم خدمة للدين و البلاد و العباد .


    و رابعا:- أن التهمة الموجهة إليه أي لعثمان في أنه خصّ أقاربه بالإمارة ، هي تهمة باطلةلا تثبت أمام الحقائق التاريخية ، فهو أي عثمان - كما ولى من أقاربه ، ولى أيضا أكثر من هؤلاء من مختلف القبائل ؛ فقد أحصيت من ولاته عشرينواليا ، و هم : عبد الله بن الحضرمي ،و القاسم بن ربيعة الثقفي ، و يعلى بن منية،و الوليد بن عقبة ،و سعيد بن العاص ،و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و معاوية بنأبي سفيان ، و عبد الله بن عامر بن كريز ،و محمد بن أبي بكر، و أبو موسى الأشعري،و جرير بن عبد الله ،و الأشعث بن قيس ، ،و عتبة بن النحاس ،و السائب بن الأقرع ،وسعد بن أبي وقاص ، و خالد بن العاص المخزومي، و قيس بن الهيثم السلمي ، و حبيب بن اليربوعي ،و خالد بن عبد الله بن نصر،و أمين بن أبي اليشكري ([5]).


    فهؤلاء هم ولاته الذين وردوا في بعض المراجع، لا يوجد منهم من أقاربه إلا خمسة ، و هم : معاوية بن أبي سفيان ،و الوليد بنعقبة ،و سعيد بن العاص ،و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و عبد الله بن عامر بن كريز. فهل يصح بعد هذا أن يقال أن عثمان خصّ أقاربه بالإمارة دون غيرهم من الناس ؟ . و ربما يقال أنهأكثر من أقاربه في السنوات الأخيرة من خلافته ، لذلك تألّب عليه المشاغبون . و هذاادعاء غير صحيح ،و مبالغ فيه جدا ، لأنه إذا رجعنا إلى وُلاّته في السنة الأخيرةمن خلافته ( سنة :35 هـ) وجدنا ثلاثة فقط من أقاربه ، و هم : معاوية على الشام ،وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر ، و عبد الله بن كريز على البصرة . و باقيولاته في تلك السنة من غير أقاربه، و عددهم تسعة ، و هم : قيس بن الهيثم السلمي على خراسان ، و القاسمبن ربيعة الثقفي على الطائف ،و يعلى بن منية على صنعاء ،و أبو موسى الأشعري على الكوفة ، و جرير بن عبد الله على قرقيسيا،و الأشعث بن قيس على أذربيجان ،و عتبة بن النحاس على حلوان ،و السائب بن الأقرععلى أصبهان ([6]). ألا ترى أن عثمان قد اتخذ عمالا من مختلف القبائل ، و أن ولاته من أقاربه همثلاثة فقط مقابل تسعة ليسوا من أقاربه ؟ فهذا يثبت أن الناقمين عليه افتروا عليهعندما اتهموه بأنه حابى أقاربه ،و خصّهم بالولايات دون غيرهم من الناس .


    وبرر شيخ الإسلام بن تيمية ، اعتماد عثمان على أقاربه في إدارة الدولة ، بأنه لابدللإمام من بطانة تساعده و تدافع عنه ، فكان -أي عثمان يرى ذلك في أقاربه .([7])و ذهب الباحث محمد الصادق عرجون إلى القول بأن عثمان لما رأى إزورار الهاشميين وبيوتات أخرى عنه ، اعتمد على عصبيته و قومه و هم موضع ثقته ،و أحرص الناس علىإنجاحه ،و تحقيق مقاصد الشرع من عدل ورحمة بين الناس ، و لكي ينتفع صاحبالمنصب بعصبيته عليه أن يقرّبهم منه و يرفع ذوي النبوغ منهم إلى كفاياتهم و قدراتهم([8])وليس في ذلك أدني شبهه من شبهات العصبية المجافية للإسلام .


    ومن الآراء الطريفة في هذا المجال أبي الأعلىالمودودي فهو يلتمس العذر للإمام علي دون عثمان بن عفان رضي الله عنه فأحدهما كانعلي حق حينما استند إلي أقاربه وهو علي بنأبي طالب فقد كان مضطرا إلي ذلك لقلة من يثق فيهم بعدما تفرق الصحابة عنه واعتزلواالفتنة أما عثمان فليس له عذرا في أن يولي أقاربه فلم يكن مجبرا علي ذلك إذ كانمعه جمع كبير من الصحابة يقفون بجانبه ويقدمون له المشورة متى طلبها ([9]).


    و قوله هذا فيه شيء من مبالغات ،فعثمان رضي الله عنه قد استعمل كثيرا من العمال من غير أقاربه ،كما سبق و أن ذكرناه . و عين من غير أقاربه أناسا قلدهم مسؤوليات على الشرطة ،وبيت المال ، و القضاء و الجند ، منهم : الصحابي زيد بن ثابت ،و القعقاع بن عمر ،وجابر بن عمر المزني ،و عقبة بن عمرو([10]).


    و أما قوله بأن عليا رضي الله عنه- ولى أقاربه لأنه لم يجدمن يثق فيه من أتباعه ، فهو قول غريب جدا ، لأن عليا ولى من أقاربه ، من الأنصار ،فمن أقاربه : عبد الله بن عباس ، و قثم بن عباس ، و عبيد الله بن عباس . و من رؤوسالفتنة : الأشتر النخعي ، و محمد بن أبي حذيفة ،و محمد بن أبي بكر .و من الصحابةالأنصار : عثمان بن حنيف ، و أبو أيوب الأنصاري ،و أبو قتادة -رضي الله عنهم – ([11]) .


    و من جهة أخرى ، فإنه قد كان مع علي بنأبي طالب - رضي الله عنه - كثير منالصحابة باعتراف أبي الأعلى المودودي نفسه([12])، و قد زاد عدد جيشه أي جيش علي - عن خمسين( 50 ) ألف جندي فيموقعة صفين([13]). كما أن المصادر التاريخية -المتوفرة لم تذكر أنه لم يجد من يوليه ، و إنما كانيولي و يعزل كما يريد ([14])، و حتى بعد انفصال الخوارج عنه ، فإن جيشه بقي يضم عشرات الألوف من الجنود ، فيهمالكثير من يحبه و يسمع له ([15])فكما يروي المسعودي أن الإمام علي في حروبه مع أهل النهروان قد أنفصل عن الكوفةبخمسة وثلاثين ألف وأتاه من البصرة عشرة ألاف وهناك في بعض النسخ أنه أتاه ستينبدلا من الثلاثية . ومن هذا المنطلق فإنأتباع علي كانوا من الكثرة وفيهم من كان يثق به من غير أقاربه .

    * * * *



    القضيةالثالثة :- هل كان عثمان يحاسب أقاربه الولاة أم يترك لهم الحبل علي الغارب ؟


    قد كان أمير المسلمين عثمان رضي الله عنه يحاسبولاته إذا ما قصروا في حق من حقوق الرعية ولم يكن غافلا عنهم في يوم من الأيام ومنأمثلة ذلك ، أنه عندما حدث خلاف بين والي الكوفة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه -، و بين المسؤول عن بيت المالعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه و مالت جماعة إلى هذا و أخرى إلى ذاك ، تدخلعثمان بحزم خشية تفاقم الخلاف ، فعزل سعدا ،و عوّضه بالوليد بن عقبة ،و ترك عبدالله بن مسعود في مكانه ، و بذلك وضع حدا للخصام ([16]) .


    - و حين فتح عبد الله بن سعد افريقيا سنة 27 هـ، وأخذ لنفسه خمس الخمس ، لم يرض الجند بصنيعه ، و أرسلوا إلى الخليفة يخبرونه بمافعل قائده ، قال لهم بأنه هو الذي وعدهبخمس الخمس إن هو فتح افريقيا ، ثم خيّرهم بين القبول و الرفض ، فلم يقبلوا ، وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد عن قيادة الجيش ، لأنهم لا يريدونه قائدا عليهم بعدالذي جرى بينه و بينهم ؛ فلبى عثمان طلبهم،و أرسل إلى أخيه من الرضاع :عبد الله بن سعد يأمره باقتسام خمس الخمس الذي عنده علىالجند ،و يستخلف عليهم رجلا غيره ، ممن يرضاه و يرضونه ، فاستجاب له عبد الله ،ورجع إلى مصر غانما ([17]).


    -فعثمان - رضي الله عنه -قد تدخل و حلالمشكلة التي حدثت بين جنده و قائده ، و تراجع عن وعده لقائده المظفر و عزله عنإمرة الجيش ، نزولا عند رغبة الجند و تطيبا لخاطرهم ، و لم يكن من أمر عبد الله بنسعد بن أبي سرح إلا السمع و الطاعة للخليفة ؛ و ما قام به عثمان تجاه جنده لميكن واجبا عليه .


    - و عندما شهد بعض الناس على والي الكوفة الوليدبن عقبة بشرب الخمر ، أقام عليه عثمان هو أخوه لأمه - حد شرب الخمرو عزله عن ولاية الكوفة ، و كان قد تولاها خمس سنوات ، كان فيها محببا إلى رعيتهعادلا معها ، ليس على داره باب([18]).


    - و رُوي أن عثمان رضي الله عنه كان يطلب من ولاته المجيء إليه في كل موسمحج ، ليطلعوه على أحوال الدولة ، و يسمع إلى ردودهم على شكاوي الناس منهم ([19]). و عندما طالبه أي طالبوا عثمان الناقمون عليه ( سنة 35 هـ) بعزل واليه علىمصر : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، لبى طلبهم و خيّرهم فيمن يوليه عليهم ،فاختاروا محمد بن أبي بكر فولاهعليهم . ([20])


    -ومما سبق ومن خلال الأمثلة التي أوردناها يتبين لنا أن عثمان رضي الله عنه كانيحاسب ولاته إذا قصروا ولم يترك لهم الحبل علي الغارب يعبثون بمقدرات الناسوبحياتهم أو يقصرون في ركن من أركان الدين في هذا المبحث ، يتبين لنا منه أن عثمان لم يكنمذنبا في إسناد الإمارة لأقاربه ، و أنه لم يخصهم بها دون غيرهم من الناس ، و أنهلم يكن غافلا عنهم و لا ساكتا عن أخطائهم و انحرافاتهم .

    * * * *



    القضية الرابعة: هل ولي عثمان من أقاربه ما لا يصلح للإمارة .


    اُتهمعثمان رضي الله عنه بأنه ولى من أقاربه من لا يصلح للإمارة، فظلموا الناس و أخذوا حقوقهم ، و هم : الوليد بن عقبة ،و و سعيد بن العاص ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و عبد الله بن عامر بن كريز ، و معاوية بن أبي سفيان. فهل يصدق ذلك الاتهام على هؤلاء سوف يتبين ذلك من خلال عرض سريع لألئك الولاةحتي يتضح وجه الحق ؟


    ( أ ) الوليد بن عقبة بن أبي معيط :


    هوأخ عثمان لأمه ، ولاه إمارة الكوفة سنة 25 هـ ، و استمر بها إلى سنة 29 هـ . و قدأنكر الناس على عثمان توليته للوليد بحجة أنه هو الفاسق الذي ذكره الله تعالى فيقوله : ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ، فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ،فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ))([21]) و ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه و سلم أرسله إلى بني المصطلق ليقبض منهم الزكاة ،لكنه لما بلغ منتصف الطريق رجع وقال أن القوم منعوه الزكاة ، فنزلت فيه الآيةالسابقة ([22]).


    إن : هذا الخبر إسناده صحيح ([23])، و قد أوردته كتب التفاسير في سبب نزول الآية السابقة الذكر ، من أنها نزلتفي الوليد بن عقبة ([24]) . لكن مع ذلك يبقى الخبر فيه مقال ، لأنالحافظ ابن عساكر ذكر أن الخطيب البغدادي قال أن الوليد بن عقبة ، رأى رسولالله عليهالصلاة و السلام و هو طفل صغير ([25]). فإذا صحّ هذا الخبر ، فإنه لا يعقل أن يبعث الرسول صلىالله عليه و سلم طفلا صغيرا إلى بني المصطلق ليقبض أموالالزكاة ! و بما أن الآية و صفت المبعوث بأنه فاسق ، فهذا يعني أنه كان بالغا مكلفا، و هذا لا ينطبق على الوليد بن عقبة .


    و حتى إذا ثبت أن الوليد كان كبيرا ،و أنالآية نزلت فيه ، فأن طريق التوبة مفتوح أمامه ليتوب عما صدر منه ، و لا تبقى صفةالفسق لازمه له . لذا وجدنا أن أبا بكر الصديق و عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد استعملاه ، فالأول استعمله على صدقات قضاعة ،و الثاني ولاه على صدقات بني تغلب ([26]). فلو لم يكن الوليد أمينا كُفئا ما ولاه الصديق و الفاروق على أموال الزكاة . وبناء على ذلك فإنه لا تثريب و لا حرج على عثمان أن يولي الوليد بن عقبة الإمارة ،و قد سبقه إلى استعماله الشيخان .


    ومنالاتهامات الموجهة للوليد أنه أساء السيرة في أهل الكوفة ، و أن الناس اشتكوا منجوره إلى الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - ، فصبّرهم و قال لهم : (( جور إمامكم خمسين اماخير من هرج شهر )) ، لكن هذا الخبر لايثبت ، لأن في إسناده : وهب الله بن رزق ، و هو مجهول الحال ([27]).


    وترده أيضا أي الخبر شواهد أقوى منه ، منها أن الحافظ ابن كثيرروى أن الوليد بن عقبة مكث واليا على الكوفة خمس سنوات ، كان فيها محببا إلى رعيتهعادلا معها ، ليس على داره باب ([28]). و روى الطبري أن الوليد بن عقبة قد افاض على الناس خيرا حتى جعل يُقسم المواليد و العبيد ، و عندما عزله عثمانتفجّع عليه الأحرار و المماليك([29]).


    ومما يُقوي ما رواه ابن كثير و الطبري عن عدل الوليد ، أنه تولى إمارة الكوفة خمسسنوات ، وهذا يشير إلى رضى الناس به ؛ فلو كان ظالما لهم ما صبروا على جوره تلكالمدة ، وأهل الكوفة معروف عنهم كثرة التشكي من ولاتهم ،و عدم الصبر عليهم منذ زمنعمر بن الخطاب .


    واُتهم الوليد أيضا بأنه أنقص التكبير في الصلاة ، فروي أن ابنمسعود رضي الله عنه قال : أول من نقص التكبير في الصلاة ،الوليد بن عقبة ، ثم قال : (( نقصوها نقصهم الله ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر كلما ركع ،و كلما سجد ،و كلما رفع )) . لكن هذه الروايةإسنادها لا يصح ، لأن فيه ثوير بن أبي فاختة ، و هو ضعيف ([30]) .


    لكنثبت أن الوليد بن عقبة قد شرب الخمر ، و تكلم فيه الناس ، و رفعوا أمره إلىالخليفة و شهد عليه شاهدان بشربه للخمر ، فأقام عثمان عليه الحد ،و عزله عن إمارةالكوفة ،و عوّضه بسعيد بن العاص ([31]). و في رواية مسلم أنه لما شهد على الوليد شاهدان ، قال آخر : رأيت الوليد يتقيأ ،فقال عثمان : (( إنه لم يتقيأ حتى شربها )) ثم أمر عليا بجلده ([32]).


    فشرب الوليد للخمر لاشك أنه ذنب كبير لا يجوز السكوت عنه و هوأمير البلد ، لذا لم يتساهل معه عثمان ، فأقام عليه الحد الشرعي ،و عزله عن إمارةالكوفة ،و لم يرأف به ،و لم يحاول تبرئته ، بل زاد في تأكيد شهادة الشاهدين عندما قال : (( إنه لم يتقيأحتى شربها )) .


    و إذا كان الوليد قد شرب الخمر ،و أن عثمانلم يتسامح معه و أقام عليه الحد و عزله عن الإمارة ، فإنه ينبغي علينا ألا نبالغفي ذم الرجل ، لأن له محاسن و قدرات و مهارات أهلته لتولي المسؤوليات ،فقد استعمله الشيخان الصديق و الفاروق على الصدقات ، و كان عادلا مع رعيته ليس علىداره باب .و من صفاته الحلم و الشجاعة ([33]) .


    وقد صح أن الصحابيين عبد الله بن مسعود ،و حذيفة بن اليمان قد سمرا ([34])عند الوليد طول الليل ، ثم خرجا يتحادثان ، فلما رأيا تباشير الفجر أوتر كل منهمابركعة ([35]). فلو كان الوليد على ما يصفه به خصومه من الفسق و الانحراف و الظلم ، ما سمر معهصحابيان جليلان طول الليل .فلا غرو بعد هذا السرد أن يثق به عثمان الذي قال عنتوليته ما وليته لأنه أخي وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صليالله عليه وسلم وتوأمة أبيه .


    (ب) سعيد بن العاص :


    هوأبو عثمان سعيد بن العاص ، الأموي ، ولاه عثمان إمارة الكوفة سنة 29 هـ، خلفا للوليد ، و استمر واليا عليها إلى سنة 34 هـ، حيث خرج منها إلى الحج ، فلما عاد إليها منعه جيش من الكوفة من دخولها ،و أُجبرعلى العودة من حيث أتى ، ثم أختار أهل الكوفة أبا موسى الأشعري واليا عليهم ، وأرسلوا إلى عثمان يطلبون منه الموافقة على تعيين أبي موسى ، فوافق على تعيينه ([36]). فلماذا أخرج أهل الكوفة سعيد ا بعدما حكمهم خمس سنوات ؟ .


    أ)فبخصوص سبب إخراجهملسعيد بن العاص ، فقد روي أنه أساء السيرة فيهم ، فذكر ابن سعد وابن عساكر أنسعيدا عندما حل بالكوفة أضر بأهلها إضرارا شديدا ([37]).


    -و في رواية أخرى أن سعيدا لما تولى إمارة الكوفة أنقص في الصاع و لم يزد فيه ،فجوّع الإماء و العبيد ([38]). و هذه الرواية ذكرها الطبري بإسناد غير صحيح .


    ب)إن الناقمين على سعيدبن العاص ، روّجوا عنه أنه كان يقول عن الأراضي الزراعية بسواد الكوفة ، أنهابستان لقريش ؛ فروى ابن سعد أن سعيدا كان يقول لأهل الكوفة : (( إنما هذا السوادلأغيلمة من قريش )) ، فشكوه لعثمان فقال لهم : كلما رأى أحدكم من أميره جفوة ،أرادنا أننعزله([39]). و عن ذلك القول روى الطبري خبرين ، الأول فيه أن سعيدا قال للأشتر النخعي وجماعته : (( إن هذا السواد بستان لقريش ))فرد عليه الأشتر : هذا ما أفاءه الله علينا بأسيافنا ([40]).و الثاني فيه أن الأشتر و أصحابه لمارجعوا منعند عثمان إلى الكوفة (سنة 34هـ) قالوا للناس أنهم تركوا سعيد بنالعاص عند عثمان كان قد ذهب إليه و يزعم أن فيئكم بستان لقريش ([41]) .


    أما رواية ابن سعد فهي رواية ضعيف لأنه لا سندلها و أما رواية الطبري الأولى فإسنادها غير صحيح ، لأن فيه : محمد بن عمر الواقدي، و هو ليس بثقة ([42]). و أما روايته الثانية فهي ضعيفة أيضا من جهة إسنادها . كما أنأخلاق سعيد بن العاص التي اشتهر بها بين الناس ، كالسخاء و الصدق ،و الحلم والجهاد ([43])، تأبى عليه أن يظلم رعيته و يأخذ حقها ظلما و عدوانا ، لذا فإنه من المرجح جدا ،أن تلك المقولة التي أشيعت عنه هي من أفانين وأكاذيب خصومه .


    جـ) أن المؤرخ ابن طاهر المقدسي قال أن سعيد بنالعاص كان شرا من الوليد بن عقبة ، عظيم الكبر ، شديد العجب ، و هو أول من وضع العشور على الجسور و القناطر([44]). و خبره هذا رواه بلا إسناد ، لذا فهو مردود عليه ، لأنه فقد شرطا أساسيا من شروطصحة الخبر . و أما متنه فهو قد وصف سعيدا بأنه عظيم الكبر شديد العجب ، و هذا كلاملا يصدق على هذا الرجل المعروف بالحكمة و العقل ،و السخاء و الإحسان ،و الصدق والحياء([45]) .


    و أما قوله بأن سعيدا هو أول من وضع العشورعلى الجسور و القناطر ، فهي رواية ضعيفة ومع ضعفها فماذا يعيب سعيدا إذا وضعالعشور علي الجسور والقناطر ربما يكون قد استدعي إلي ذلك ضرورة للصالح العام ، ولميكن هدفه التضييق علي الناس أو جباية الأموال بدون حق وهذه الصفات جميعها لاتتناسب وما عرف عن ذلك الصحابي الجليل من كرمه وشدة سخائه وعطفه علي الناس .


    د) يروي أن سعيدا بن العاص قال يوما لأهل الكوفة :من رأى منكم الهلال ؟ فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص : أنا رأيته . فقال سعيد :بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم . فقال هاشم : تعيّرني بعيني ، و إنما فتقتفي سبيل الله يوم اليرموك . ثم في اليوم التالي وإذ بهاشم هو ومجموعة من أصحابهيصبحون مفطرين ولم يكتف هشام بذلك بل تغدى عنده الناس ليأكد صحة رأيته للهلال ،فلما سمع به سعيد أرسل إليه من ضربه و أحرق داره ؛ فلما بلغ الخبر سعد بن أبيوقاص رضي الله عنه اتصل بعثمان و أخبره بما حدث لهاشم ، فحكم عثمان بضرب سعيد بن العاص ،و حرق دارهالتي بالمدينة ([46]).


    هذا الخبر يعد خبرا ضعيفا سواء من جهة بن سعد أوبن عساكر وإذا أردنا أن نحلل ذلك الخبر علي افتراض صحته فلا شك إنه تصرف خاطئ منسعيد بن العاص الذي عيره وأعتدي عليه حيث يقول الله تعالي : ( يا أيها اللذينأمنوا لا يسخر قوم من قوم عيسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكنخيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تتنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمانومن لم يتب فألئك هم الظالمون ) ([47]) . أما ضربه وإحراق داره فربما كان عليحق وهذا من سلطة الوالي لأن إفطاره هو والناس قبل التأكد من هلال شوال قد يحدثفتنة بين الناس فهو لم يكتفي بأن يفطر هو بل دعي الناس لتناول الغداء في بيته ومعذلك فإن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أقتص من سعد وأمر بضرب سعيد وحرق داره فيالمدينة


    ومن هذا المنطلق يتضحلنا عظمة تلك الشخصية التي تأبي أن يصدر منها ما روي عنها من أخبار باطلة أو ضعيفةفقد عرفت بدماثة الخلق والتقوى والورع الشديد والإيمان بالله . فكيف تصدر منه هذهالاخبار المنقوتة وقد عرف عن الرجل :-


    - أنه كان منالمجاهدين الشجعان والقادة المبرزين فكان له الفضل في فتح كثير من البلدان ونشرالدعوة الإسلامية كأذربيجان ،و جرجان ، طبرستان ، و غيرها من الأقاليم ([48]) .


    - وأن الرجل كان محلثقة الخليفتين أبي بكر وعمر فقد استعمله عمر علي أراضي السواد بالعراق كما كان محلثقة عثمان فجعله من بين اللذين كتبوا المصحف الإمام الذي وحد الأمصار جميعها عليقراءة واحده ([49]).


    - ومن أقوال سعيد بنالعاص : (لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنئ فتهون عليه ) ([50])ومن مظاهر كرمه وجوده أن المدينة قد أصابها جلب وقحط فقد أنفق كل ما في بيتالمال علي أهل المدينة وأستدانا من أجلهم ولما سمع بذلك معاوية بن أبي سفيان عزلهعن ولاية المدينة ([51]).


    - وقد شهد كبار المؤرخينلسعيد بن العاص بالمكانة المرموقة والكفاءة العالية فقال عنه الذهبي ( كان أميراشريفا جوادا ممدحا حليما وقورا ذا حزم وعقل يصلح للخلافة ([52]).


    - ويتبقي من سيرة ذلكالرجل هو ما قيل عنه أنه منع من دخول الكوفة عندما جاءهم واليا عليهم حيث حرضالأشتر النخعي الناس علي أن يخرجوا معه لرد سعيد بن العاص فخرج معه رعاع الناسوعوامهم ولم يخرج حلماء الناس وعقلاء البلد وقد نصحه الأشتر ولكنه لم يستمع لهم .


    - وينبغي الإشارة هناإلي ان عثمان رضي الله عنه قد استجاب لأهل الكوفة لأنهم كانوا كثيري الشغب فاستجابلهم حين طردوا أميره وعينوا مكانه أبا موسي الأشعري وطلبوا من الخليفة عثمان الموافقة فوافق لهم بل بالغ في مطاوعتهموملاينتهم ولكنهم قد خرجوا عن طوق الأدب مع الخليفة وكان ينبغي عقابهم وتأديبهمبدلا من تلك الملاينة وأفضل ما يقال من هذا الموضع هو ما قاله شيخ الإسلام بنتيمية : إن إخراج أهل الكوفة لسعيد بن العاص ، لا يدل على (( ذنب يوجب ذاك ، فإنالقوم كانوا يقومون على كل وال ، و قد قاموا على سعد بن أبي وقاص ،و هو الذي فتحالبلاد ،و كسر جنود كسرى ،و هو أحد أهل الشورى ، و لم يتول عليهم نائب مثله . و قدشكوا غيره أي سعيد بن العاص مثل عمار بن ياسر ، و سعد بن أبي وقاص ، و المغيرة بن شعبة و غيرهم ، و دعا عليهمعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : اللهم قد لبّسوا علي ، فلبّس عليهم)) ([53]).


    (ج ) عبد الله بن سعد بن أبي سرح :


    هو قائد كبير منالقواد المشاركين في الفتح وهو أخو عثمان لأمه من الرضاعة حيث أرضعته أم عثمان . اعتنقالإسلام وكتب الوحي قبل فتح مكة ، لكنه ارتد عنه ، و التحق بالمشركين ، فأهدرالنبي –عليه الصلاة و السلام- دمه ، وعندما فتحت مكة استجار بأخيه من الرضاعة :عثمان بن عفان-رضي الله عنه- فأجاره و جاء به إلى رسول الله –صلى الله عليه و سلم– و شفع له عنده ليتوب و يبايعه ، فقبل منه و بايعه و عاد عبد الله إلى الإسلام منجديد ، فحسن إسلامه ، و استقامت سيرته ، وولاّه عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- صعيد مصر، ثم ولاه عثمان بن عفان ولاية مصر سنة (25 هـ) وأحله محل عمرو بن العاص ، فقد أمرهالخليفة عثمان بغزو بلاد إفريقيه فغزاها وفتحها وجلب أموالا طائلة قسم بعضها عليالجيش وقد شاركوا في هذا الجيش عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بنعمرو وكذلك شارك في غزوة ذات السواري التي انتصرت فيها بحرية الإسلام الناشئة عليبحرية الروم .


    ولماأختلف الناس علي عثمان خرج من مصر وخرج لينصر عثمان بن عفان وعلي ما يبدوا فإنالمصريين لم يكن راضين عنه علي نحو ما سنعرف ، فلما قتل عثمان أقام بعسقلان وكانرجلا صالحا حيث كان يدعوا الله أن يقبضه وهو في الصلاة فصلي يوما الفجر ولما فرغمن التشهد سلم التسليمة الأولي ثم فاضت روحه إلي بارئها قبل أن يسلم التسليمةالثانية وذلك في سنة سبع وثلاثين هجريا علي ما يبدوا وعندما تولي علي مصر استقرت مصر واستقرت معهحياة المسلمين فيها لمدة طويلة ، واستقامت سيرته فيها([54]). لكن خصومه من دعاة الفتنة و السبئية أثاروا عليه العوام ، وطعنوا فيه و فيالخليفة ،و شكوه إلى عثمان و اتهموه بتهمخطيرة،و طالبوا بعزله . فما هي هذه التهم ؟ و هل لها من حقيقة ، أم هي مجرد ذريعة تندرج ضمن خطةموجهة لإثارة القلاقل ، و الكيد للمسلمين ، و الإطاحة بالوالي و خليفته ؟ .


    التهمالموجهة إلي عبد الله بن أبي سرح :-


    الرواية الأولي-: أن وفدا من مصر قدم إلى الخليفة عثمان –رضي الله عنه- ليشكو إليه عامله بمصر:عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فكتب إليه عثمان يتهدده و ينهاه ، فلم يسمع له ، ولم يقبل منه ، و ضرب رجلا –كان من بين الذين قدموا إلى عثمان- فقتله ؛ فأدى ذلكإلى خروج 700 رجل من أهل مصر ، و ذهبوا إلى الخليفة ، فلما و صلوا إلى المدينة ،أخبروه بما فعله بهم عامله بمصر ، و شكوا إلى الصحابة ما صنعه بهم والي مصر عبدالله بن سعد ؛ فلما لم ينصفهم الخليفة تدخل طلحة ، و علي ، و عائشة –رضي اللهعنهم-و طالبوا عثمان بالعدل و الاقتصاص من القاتل . فتراجع عثمان عن موقفه و قالللمصريين : اختاروا من تريدونه واليا عليكم ؛ فاختاروا محمد بن أبي بكر ، و عادواإلى مصر لكنهم بعد مسيرة أيام رجعوا إلىالمدينة ،و زعموا أنهم وجدوا كتابا من عثمان مع غلام له ، فيه أمر لوالي مصر بقتلهم([55]).


    و الرواية الثانيةرواها ابن طاهر المقدسي (ت507هـ)، بلا إسناد ،و زعم فيها أن عبد الله بن أبي سرح قتل 700 رجل بدم واحد ، فعزلهعثمان ، و لم ينكر عليه فعلته ([56]) .


    **نقدالروايتين


    فبالنسبة للرواية الأولي ( ابن عساكر ) ،فإسنادها ضعيف ، و أما متنها فهو الآخر باطل ، لأسباب عديدة ، أولها أن ما ذكرتههذه الرواية عن قتل الرجل المصري ، لم تذكره روايات أخرى ([57]) . الأمر الذي يدل على أن مسألة القتل قد تكونمقحمة في الخبر . و يؤيد ذلك أن أهل مصر لما اجتمع بهم عثمان- رضي الله عنه- اتفقمعهم على عزل ابن أبي سرح وولي عليهم محمد بن أبي بكر ،فرضوا و توجهوا إلى بلادهم ،و لم يطرحواقضية الاقتصاص من القاتل ، أو دفع الدية لولي المقتول و هذا أمر شرعي لا يجوزالسكوت عنه ،و هم قد أتوا من أجله ! أفلا يدل سكوتهم عنه على أنه خبر قد يكون أقحمفي الرواية ؟ .


    والثاني-:هو أن ما ذكرته الرواية عن سلبية الخليفة عثمان تجاه عامله بمصر ،و عدم اكتراثهبمطالب وفد مصر ، حتى تدخل الصحابة و أنبوه و حملوه على إنصافهم ؛هو خبر باطل يثيرالضحك و التعجب ؛ فكيف يصح أن نتصوّر صدوره عن صحابي له مواقف حازمة تجاهولاته ؟ ! من ذلك أنه عندما اُتهم أخوه منالرضاعة : الوليد بن عقبة ، بشرب الخمر عزله عن ولايته ، وأقام عليه الحد . و هذاخبر ثابت مشهور رواه البخاري و غيره من المحدثين و المؤرخين .


    و المعطى الثالثهوأن الرواية المشهورة عن خروج وفد مصر إلىعثمان-رضي الله عنه- لم تذكر أنه خرج وحده إليه بسبب قتل ابن سرح لرجل منهم ؛ وإنما ذكرت أنه خرج مع وفدي البصرة و الكوفة ،و فق خطة مبيتة و محكمة ، بدعوىالخروج لأداء فريضة الحج ،و في نوايا زعمائهم قتل عثمان ([58]). فلو كان سبب الخروج قتل رجل مصري ، ما احتاج الأمر إلى ذلك التكتم و التمويه ، ولا إلى خروج وفدي الكوفة و البصرة .


    وإذاتناولنا الراوية الثانية وهي رواية ابن طاهرالمقدسي(ت507هـ)،وهي رواية غير مقبولة وباطلة أيضا وفيها من الملابسات ما جعلها باطلة ، و تبطله الانتقاداتالتي ذكرت سابقا لرواية ابن عساكر . فهل يعقل أن يقتل عبد الله بن أبي سرح 700 رجلثم لا ينكر عليه عثمان فعلته ؟ ! و هل يعقل أن يحدث كل ذلك و لا تذكره المصنفاتالتاريخية و الحديثية المعروفة ، حتى يأتي ابن طاهر المقدسي بعد 400 سنة ، و يرويهلنا ؟ !


    وأود أن أنبه القارئ الكريم إلي أن مكانة هؤلاءالصحابة وعظيم شأنهم وما قدموه للإسلام والمسلمين كل ذلك يترفع بها تلك الشخصيةإلي أن تهبط فيقال عنها هذا القول وقد كان ما قيل هو أفتراء من خصومه إذ عرفنا منسيرته حسن إسلامه بعد عودته وقد شارك في كثير من الفتوحات والمعارك كمعركة ذاتالسواري سنة 34 هـ وعلي يديه فتحت إفريقيا سنة( 27هـ ) وكانسجله مع الخلفاء سجلا أبيض نقيا دائم الطاعة لخلفائه ومن دلائل ذلك أن عمر بنالخطاب ولاه صعيد مصر وجعله من رجال دولته وكان من كتبة الوحي المعدودين وقد كانمطيعا للخليفة عثمان بن عفان ولا أدل علي ذلك أنه ([59])عندما وعده بخمس الخمس إن هو فتح إفريقيا ، ثم تمّ له ذلك ، و أنكر عليه جنده أخذهلخمس الخمسوشكوه للخليفة ، استجاب له –أيلعثمان– عندما أمره برد ما أخذه على الجند ، وأن يولي عليهم من يرضاه و يرضونه ، ففعل ما أمره و انقلبعائدا إلى مصر ، و لم يحتج عليه بوعدهله ،و لم يجد غضاضة في ذلك ([60]).


    (د)عبد الله بن عامر بن كُريز :


    هوابن خال عثمان بن عفان ، ولاه إمارة البصرة سنة 29 هـ، خلفا لأبي موسى الأشعري ، و استمر بها إلى استشهاد عثمان ([61]). و عبد الله هذا هو من أقارب عثمان الذين طعن فيهم دعاة الفتنة ،و انتقدواالخليفة على توليته الإمارة ([62]). توفي سنة 59 هـ (678 م) فإن أم أبيه أروي بن كريز أمها البيضاءبنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي e فما هي التهم الموجهةإليه ؟ و هل كان ظالما لرعيته ؟


    أولا:- لم أعثر في المصادر المتوفرة لدي على أية تهمة محددة معروفة وجهت لعبد اللهبن عامر ، إلا ما سبق ذكره من أن دعاة الفتنة حين انتقدوا عثمان في تولية أقاربهالإمارة ، ذكروا من بينهم أميره على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز ، . و قولهمهذا هو زعم لا دليل عليه ، و العكس هو الذي عثرت عليه ، إذ اتفقت المصادر على مدحهو الثناء عليه ، فقالت أنه كثير المناقب ، و سخي كريم ،و رفيق حليم ،و جواد شجاع،و ميمون ُممدح كريم النقيبة ([63]) .


    و ثانيا:- أن من أعماله الخيرية التي تثبت ما قلناه سابقا،و تبين جانبا من شخصيته الخيّرة ، أنه كان مفعالا للخير ، ُيحسن لكل الناس ، منيعرف منهم و من لا يعرف .و كان أيضا يشتري العبيد و يعتقهم ([64]).و منها أنه حفر آبارا كثيرة في مناطق عديدة من البلاد ([65]). و عندما فتح خُراسان ثم توجّه إلى الحج رُوي أنه فرّق على أهل المدينة أموالاعظيمة ، حتى قال فيه علي بن أبي طالب :(( هو سيد فتيان قريش بغير مدافع )) ([66]).


    و من أعماله المشهورةأنه هو أول من اتخذ الحياض بعرفة ، و أجرى إليها العيون ، و سقى الناس الماء ،وكانوا من قبل يحملونه من منى يتروونه إلى عرفات ، لذلك سموه يوم التروية ([67]).ويُروى أنه اشترى دارا من خالد بن عقبة بن أبي معيط بثمانين أو تسعين ألف درهم ،فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد ، فقال لأهله : ما سبب بكاء هؤلاء ؟ فقالت له :يبكون دارهم ، فقال : يا غلام أعلمهم أن الدار و المال لهم جميعا ([68]).


    و أما فيما يخصعلاقته بأهل البصرة ، فيُروى أنه كان يتحبب إليهم بالإحسان إليهم ، فشق لهم نهرالبصرة ،و بنى لهم سوقا ، حيث اشترى دورا و هدمها ،و انشأ محلها سوق البصرة ([69]). و يُروى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه لما علم بمجيء عبد الله بن عامر ليخلفه علىإمارة البصرة، مدحه و قال لأهلها : (( قد أتاكم فتى من قريش ، كريم الأمهات والعمات ، يقول بالمال فيكم هكذا و هكذا )) ([70]).


    و ثالثا أن الرجل كان شجاعاحازما ، له جهاد و غزو ، ففتح خُراسان ، و مناطق عديدة من بلاد فارس ، كأسطخر،والكاربان،و أردشير،و سجستان ، و عندما فتح خراسان أحرم من نيسابور شكرا لله ،وتوجه إلي الحج ([71]).


    و رابعا فقد رُوي أن عبد الله بن عامر، عندما كان طفلاصغيرا ، أُخذ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم-فقال : هذا شبهنا ، ثم تفل عليه و عوّذه ، فجعل عبد الله يتسوقريق النبي عليه الصلاة و السلامفقال الرسول : إنه لمسقى . فكان عبد الله لا يُعالج أرضا إلا ظهر له فيها الماء ([72]).


    و ختاما لما سبق ذكره يتبين لنا أنه لا توجدأية تهمة معروفة و محددة ، تطعن في عبد الله بن عامر بن كريز، من حيث أخلاقه وسلوكه مع رعيته .و أنه كان يتمتع بأخلاق حسنة و كفاءة عالية ،و له أعمال خيريةجليلة ، مما يثبت أن ما اتهمه به دعاة الفتنة غير صحيح ،و أن عثمان أحسن اختيارهعندما عيّنه واليا على البصرة . وأن كل ماقيل عنه إنما هو من باب الشائعات ومن روايات كثيرة علي عظماء الإسلام ومما يأسفناأن نغض الطرف عن ذكر هؤلاء الأفزاز وما صنعوه في تاريخ الإنسانية فهو أحق أن يذكرلا أن نطمسه ونهون من شأنه كما يفعل المستشرقون اليوم بتراثنا العظيم وبرجالاتهاللذين لا مثيل لهم فقد خلت الكتب المدرسية ومناهجنا في الجامعات والمدارس من سردجيد لتاريخ هؤلاء العظماء بل يكاد ألا نري وميضا من ذكر تاريخ تلك الشخصياتفالقرار اليوم في دولنا العربية قرار علماني يجافي الإسلام ورجالاته وبتهاوننا نحنوانقيادنا وراء المخططون العبثيون أمسينا كالأمة التي لا مجد لها بينما الحقيقةإنها أمة نائمة علي تراث من المجد لا يحلم الغرب بمثله .





    ( هـ ) معاوية بن أبي سفيان :-


    هومعاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين ، ولد قبل البعثة بخمس سنين ، وأمه هي هند بنت عتبه بن ربيعة بنعبد شمس بن عبد مناف بن قصي أسلمت يوم الفتح وأصبح لها مكانتها بين صحابياتالمدينة ([73]).


    وقيل أنه أسلم قبلأبيه وقت عمرة القضاء وبقي خفيا إسلامه غير قادر علي اللحاق بالنبي والهجرة إليهمن أبيه ، وقد أظهر إسلامه يوم الفتح وهو وكثير من أفراد البيت الأموي فقد أتخذبعض الرواة من تأخير بني أمية إعلان إسلامهم سبة في جبينهم أخذوا يعيرونهم بها وسف نوضح ذلك فيما بعد .


    ولمعاوية أخوة ذكوروأخوات ومن أخوانه الأشقاء يزيد بن أبي سفيان وقد سماه الرسول يزيد الخير وقد ولاهأبو بكر قائدا علي أول جيش أرسل إلي ميدان الشام كما عرفنا في أخبار الصديق .


    - عقبة بن أبي سفيانويكني أبا الوليد وقد ولاه عمر بن الخطاب ولاية الطائف وجباية صدقاتهم ثم ولاهمعاوية مصر .


    - عنبسه بن أبي سفيانويكني أبا عثمان وكان مؤمنا تقيا ورعا .


    ومن أخواته البنات : أمحبيبة بنت أبي سفيان وهي ممن شاهدن الهجرة الثانية إلي الحبشة وهي التي رفضت أنتجلس أبيها علي فراش رسول الله e حينما قدم إلي المدينة لعقد الهدنة بينهوبين قريش لأنه كان آنذاك علي الشرك ([74])- ومن أخواته أيضا : أم الحكم – وعزة بنت أبي سفيان – أميمهبنت أبي سفيان .


    وكانمعاوية من المسلمين الأفاضل والصحيح عن إسلامه أنه قد أسلم مبكرا أسلم يوم عمرةالقضاء سنة سبعة هجريا وليس كما قيل يوم الفتح وشهد مع الرسول eغزوة حنين ، ومن فضائله أنه كان من كتاب الوحي المقربين لرسول الله eوكان من الجنود الذين أنعم الله عليهمبالسكينة مع النبي eحيث يقول الله تعالي : ﴿ ثم أنزل اللهسكينته علي رسوله وعلي المؤمنين﴾ ([75])،وقد دعا الرسول له ( اللهم أجعله هاديا مهديا وأهد به ) . وقال e( اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقهالعذاب ) ([76]).


    ولمعاويةمناقب كثيرة تشيد بفضله وتشير لسمو مكانته فهو أول من ركب البحر ونادي دعوة النبي eوقد روي البخاري عن طريق أم حرام بنتملحان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله eيقول: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ([77])،قالت : يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنتفيهم )) .ثم قال النبي eأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر([78])مغفور لهم فقلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : ((لا )) .([79])


    ومن الأمور التيينبغي الإشارة إليها هو تغيير بعض الأفكار السائدة عند بعض الناس كذبا وافتراء عليبني أمية ولعل هذا راجع إلي طغيان الخوارج والشيعة المتعصبين حتى أن بعضهم كذب عليالنبي eوأتي بأحاديث موضوعةفي ذم بني أمية ولو قرأنا كتب التاريخ لوجدنا أن بني أمية قد عوضوا تأخرهم فيالإسلام وكأن لم يكن هذا تأخيرا فكثيرا من الصحابة قد اسلموا يوم فتح مكة أو بعدها، والمفيد هنا أن بني أمية قد رحب بهم الرسول e وفرح بإسلامهم وأسند إليهم كثيرا من الأعمالفقد أستعمل أبا سفيان علي نجران وكان معاوية كاتبا للرسول eوكان أول والي عليمكة بعد فتحها رجلا من بني أمية وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية كما أستعملرسول الله eعمر بن سعيد بن أبيالعاص بن أمية علي جباية خيبر وتيماء وتبوك ووادي القرى كما استعمل النبي eخالد بن سعيد بنالعاص علي صنعاء وأبان بن سعيد بن العاص علي البحرين .


    ومنهذا المنطلق الذي ينبغي أن يدركه المسلم ويكون جزء كبيرا من ثقافته الإسلامية أنبني أمية ليسو من المغضوب عليهم بل قبض رسول الله e ومعظم رجالات البيت الأموي علي مختلف الأعمال بما لهم من درايةوخبرة كبيرة في الإدارة والكفاءة والأمانة وجباية الأموال وحسن إجادة الكتابةوالقراءة فلماذا إذن أن يعيب بعض الناس علي أمير المؤمنين عثمان في تولية معاويةوهو أحد أقاربه فهل في ذلك عيب ؟ وهل هذا العيب ينسحب علي بقية بني أمية ؟ ([80]).


    - ويري صاحب العواصم من القواصم أن عثمان قد ولي معاوية وقد ولاة من قبلهأبو بكر وعمر بل أن عمر ولاه الشامات كلها ، وأقره عثمان بل أنما ولاه أبو بكرالصديق رضي الله عنه ، لأنه ولي أخاه يزيد ، واستخلفه يزيد ، فأقره عمر لتعلقهبولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له ، فتعلق عثمان بعمر وأقره . ويدافع أبو بكربن العربي عن مسلك عثمان في تولية معاوية فإن عمر ولاه الشام كلها وأقره علي ذلكعثمان وقد بلغت الدولة الإسلامية الذروة في خلافة أبي بكر وعمر ولا عجب كذلك أنيوليه رسول الله e من قبل علي بعض الأمور الخاصةوكان من كتبة الوحي فلا بأس أن يستعمله عثمان رحمه الله ولا بأس أيضا أن يستشيرهفقد كان محل ثقة للصحابة جميعا يقول سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرينبالجنة ( ما رأيت أحدا بعد عثمان اقضي بحق من صاحب هذا الباب يعني معاوية وقال عنهبن عباس ما رأيت رجلا أخلق بالملك من معاوية وبطبيعة الحال أن الحاكم لا يكونعادلا إلا إذا كان أخلق الناس وقد يشهد لمعاوية صحابي جليل وهو عمير بن سعدالأنصاري الذي عين مكانه معاوية وقال الناس إن عمر بن الخطاب عزل عميرا وولىمعاوية ورغم عزله إلا أنه شهد لمعاوية عندما قال للناس لا تذكروا معاوية إلا بخيرفإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : (اللهم أهد به) بل يقال أن عمر بنالخطاب هو الذي شاهد تلك الشهادة وهذا مما يدل علي صلاحية معاوية للحكم وأن عثمانكان علي حق .


    وقد شهد شيخ الإسلام بن تيمية لمعاوية وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيارسير الولاة ، وكان رعيته يحبونه ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي e أنه قال (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم . وشرار أئمتكمالذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم )) . ([81])


    ولما الثورة ضد معاوية علي وجه الخصوص فإن قيل أن عثمان بن عفان قد ولاهلمقاربه بينهما فإن أعمال معاوية تشهد بحسن سيرته واستحقاقه أن ينال الولاية ولاأريد أن أعود إلي مكرور من الكلام فإن معاوية حينما تولي الشام فقد أعز تلك الجبهةحيث رجع إليه الفضل في إنشاء الأسطولالبحري الإسلامي كما قلنا سابقا وإنشاء دار للسفن كما انه عمل علي أن يواصلالمسلمون جهادهم فأحدث نظام الصوائف والشواتي وقد عبأ المسلمين في حمالات تلوالحمالات لتأديب الروم وإذا نظرنا إلي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وإلي وضعهفي عصر عثمان لتأكد لنا حنكة ذلك الرجل وحسن سياسته لما فعله في الشام حيث أصبح فيعصر عثمان أقوي ولاته وأشدهم نفوذا كما كان معاوية محط ثقة من أمير المؤمنين عثمانفكان دائما يستشيره حينما تتعقد الأمور وهذا مما يدل علي ثقله السياسي .


    وإذا كان بعض الرواة يأخذون علي عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه يعطيأقاربه من بيت المال وهذه القضية لا تحسب عليه بل له فهي منقبة نبغي كل إنسان أنيعمل بها فهو لم يعطيهم من بيت المال مطلقا وإنما كان يعطيهم من ماله الخاصة وهوصاحب تجارة ورزقه واسع وأمواله كثيرة وقد قسم عثمان أمواله وأرضه وبساتينه في بنيأمية وجع ولده كبعض من الأقارب له نصيب كنصيبه ويستمع إليه يقول : إني أحب أهلبيتي ، وأعطيهم .. فأما حبي لهم ؛ فإنه لم يمل معهم إلي جور ، بل أحمل الحقوقعليهم ... وأما إعطاؤهم ، فإني إنما أعطيهم من مالي ، ولا أستحل أموال المسلمينلنفسي ولا لأحد من الناس ، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرعية من صلب مالي أزمانرسول الله e ، وأبي بكر ، وعمر ، وأنايومئذ شحيح حريص ، أفحين أتيت علي أسنان أهل بيتي ، وفني عمري ، وودعت الذي لي فيأهلي ، قال الملحدون ما قالوا ؟ ([82]).


    وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية ، وجعل ولده كبعض من يعطي ، فبدأببني أبي العاص ، فأعطي آل الحكم رجالهم عشرة آلاف ، عشرة آلاف ، فأخذوا مائة ألف، وأعطي بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب . ([83])


    وقد وضح ابن تيمية رحمه الله ورد علي من أخذ عليه توزيع الأموال علي أهلهفقال : أين النقل الثابت بهذا . نعم كان يعطي أقاربه ، ويعطي غير أقاربه أيضا ،وكان يحسن إلي جميع المسلمين ، وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلي نقل ثابت ، ثميقال ثانيا : هذا من الكذب البين ، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدينأعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ ([84]).


    وكان لعثمان رحمه الله فلسفته في ذلك فكان يقول : ( إن صاحبي اللذين كاناقبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابا ، وإن رسول الله e كان يعطي قرابته وأنا وفي رهط أهل عيلة وقلة معاش فبسط يدي في شيءمن ذلك المال وكان قد أستشار الصحابة في ذلك فقالوا له أصبت وأحسنت ) ([85]) .


    وهكذا نري أن أختيار معاوية واليا من قبل عثمان وعلي الرغم من قرابته فإنهذا لا يقدح في أختيار عثمان فقد كان معاوية صادقا مجاهد له مواقفه العظيمة التيشهد بها الرسول e وأبي بكر ، وعمر ، فلماذا لايقف بجانب خليفة المسلمين الثالث وينافح عنه ويقدم له المشورة .


    لم نر ولم نعثر علىحوادث تذكر أن أهل الشام ثاروا على معاوية ، أو أنهم شكوه إلى عثمان و طلبوا منهعزله و تغييره بمن يحبون ، على غرار ما حدث في الكوفة و البصرة و مصر . مما يعنيأن معاوية كان موفقا في حكمه لأهل الشام ، محبوبا عندهم ، لذا وجدناهم يقفون معهفي موقعة صفين و ما بعدها .


    و أن كان هناك ثمة نقد أو اعتراض علي معاويةفيمكن إظهاره عند أبي الأعلى المودودي ، إذ انتقد عثمان بن عفان في إبقائه معاويةواليا مدة طويلة ، و توسيع رقعة ولايته لتشمل كل الشام ، بعدما كانت في عهد عمرمقتصرة على دمشق ، الأمر الذي مكّنه من ترسيخ نفوذه ، و الوقوف في وجه علي بن أبيطالب مستقبلا ([86]) . و ملاحظة المودودي صحيحة في أنمعاوية استغل طول مدة ولايته في تقوية نفوذه في الشام ، لكن لماذا يعزله عثمان؟ .


    كانا عثمان معروفا عنه أنه لم يكن يعزل أحدامن ولاته إلا إذا شكته رعيته ، أو استعفاه واليه من منصبه فيعفيه ، أو ساءت علاقتهبأعوانه المقربين منه ([87]). و هو كما أبقى معاوية على ولايته منذ أيام عمر ، فإنه أبقى أيضا يعلى بن منيةعلى اليمن ، و كان قد تولاه منذ عهد عمر ([88]). و معاوية لم يطلب الاستعفاء ،و لم تشتكيه رعيته إلى الخليفة ، لأنه كان عادلامعها ذكيا مرنا و هي تحبه ،و لم تشهد ولايته الفتن و القلائل التي شهدتها مصر والكوفة و البصرة . لذا فإنه ليس من مصلحة عثمان أن يعزل معاوية ، و من المحتمل جداإن لم يكن مؤكدا أنه لو عزله فإن رعيته ستحتج و تطالب بإرجاعه ،و تطرد من يخلفه ، انطلاقا من حبهاله ، أو بإعاز منه أو من رجاله ، أو من الكل .


    لذلك ليس من الحكمة ،و لا من مصلحة الخليفةعزل معاوية ، لأنه لو عزله فإنه سيفتح على نفسه فتنا أخرى ، في ظرف كثر فيهالناقمون عليه ،و هو في أمس الحاجة إلى من يساعده على استتباب أوضاع الخلافة . ولو كره أهل الشام معاوية لثاروا عليه ،و أثاروا في وجهه الفتن حتى يترك الإمارة ،و سيلبي الخليفة رغبتهم في عزله على غرار ما حدث في الكوفة و مصر .


    وختاما لما أوردناه في هذا المبحث ، يتبين لنا منه أن عثمان - رضيالله عنه- لم يول من أقاربه من لا يصلح للإمارة ، فكلهم كانت لهم قدرات و كفاءاتعالية لتولي المسؤوليات , و أنهم أحسنوا إلى رعيتهم و تحببوا إليهم ، و كانت لهمفتوحات و غزوات ؛ مما يثبت أن اتهامات الناقمين على عثمان ،و ولاته غير صحيحة، و ما صح منها فهي اجتهادات أو أخطاءقليلة و محدودة الأثر، لا يكاد يخلوا منها مجتمع ، و ما كانت تلك الأخطاء لتنتهيإلى الثورة على عثمان و قتله ، لو لم تكن من ورائها النوايا الخبيثة لرؤوسالفتنة . و تبين أيضا أن ولاة عثمان منأقاربه ، قد حيكت حولهم روايات كثيرة مكذوبة للنيل منهم و من الخليفة ، افتراهاعليهم كذابون من الحاسدين و الماكرين و الرواة المحترفين للتزوير .

    * * * *


    (2)


    حمي الحمى



    الحمي هو المكان المحمي وهو خلاف المباح وهي ارض فسيحة مخصصة لرعاية أبلالصدقة أو الأبل والخيول التابعة للدولة وقد ذاد أمير المؤمنين عثمان في مساحتهتبعا لزيادة الإبل والخيول وفق أتساع الدولة وكثرة غنائمها .


    - كان الشريف في الجاهلية أذا نزل أرضا في حيه استعوي كلبا ، فحمي لخيلهوإبله وسوائمه مدي عواء الكلب لا يشركه فيه غيره . فلما جاء الإسلام نهي النبي e (( لا حمي إلا لله ورسوله )) ([89])


    - ويري صاحب العواصم أن فعل عثمان لحمي خيل المسلمين لم يزد عما فعلهالرسول e وأبو بكر وعمر من قبله والنبي e حمى النقيع للخيل والمراد بالخيل هنا خيل المسلمين المرصودةللجهاد أو ما يملكه بيت المال. ([90])


    وقد سار أبو بكر علي نهجالرسول فلم يغير شيئا يذكر – أما في عهد عمر فقد اتسع الحمى فشمل سرف والربذة وقد أوصي أمير المؤمنين عامله عليالحمى وهو مولي له يدعي هنيا بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بنعفان وأن يتسامح مع رب الغنيمة وربالصريمة حتى لا تهلك ماشيتهما وكما فعل عمر في زيادة اتساع الحمى فعل عثمان رحمهالله فهل يجوز ذلك لأبي بكر وعمر ولا يجوز لعثمان فالمفروض أن تتضاعف مساحة الحمىلتقابل اتساع الدولة وازدياد الفتوح فهل يعد ذلك نقيصة أم مزية ، إن اعتراض هؤلاءالناس هو اعتراض علي أمر داخل في التشريع الإسلامي وقد دافع عثمان عن نفسه علي ملأمن الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه علي صدقات المسلمين يحمونهالئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع ، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحدا .وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيرا وشاه ، ثم أمسي وليس لهغير بعيرين لحجه . وسأل من يعرف ذلك من الصحابة : أكذلك ؟ قالوا اللهم نعم . ([91]) إلي هذا الحد يبدوا أن الأمر ليسفيه ما يغضب أحدا . إذن فما السبب الحقيقي وراء مآخذتهم عثمان عن الحمى ؟ سنعرف ذلك في ذلك الحوار الذي دار بين أهل مصروعثمان بخصوص هذا الشأن .


    - فلما قدم أهل مصر المدينةَ، واستقبلهم عثمان رضي الله عنه قالوا له: ادعبالمصحف، فدعا به، فقالوا: افتح السابعة - وكانوا يسمون سورة يونس السابعة - فقرأحتى أتى قوله تعالى: { قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}([92]). فقالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفتري ؟ .فقالعثمان رضي الله عنه: أمضه نزلت في كذا وكذا فأما الحمى، فإن عمر حماه قبلي لإبلالصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لِما زاد من إبل الصدقة،أمضه . ([93]) إن في رد عثمان رضي الله عنه على أهل مصر كفاية، وغنية، فقد ألقمهم حجراًفخرسوا عن الجواب، فإن عثمان رضي الله عنه لم يبتدع في حمي الحمى، بل سبقه إليهالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر رضي الله عنه، فقد حمى عمر رضي الله عنه ( السرف، والرّبذة ) لنعم الصدقة وهذا يدل علىجواز أصل حمي الحمى للخليفة، وهو مذهبالشافعية، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم .([94])


    فالزيادة للحاجة جائزة-أيضاً- لجواز الأصل، وقد احتاجت إبل الصدقة في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنهإلى زيادة الرقعة المحمية لزيادة عدد إبل الصدقة، مما يدل على كثرة الخيرات فيخلافته رضي الله عنه . ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمى في قوله: "لاحمى إلا لله ولرسوله" ([95]) .


    إنما هو نهي عن حمى الجاهليةالذي يخص به رئيس القبيلة نفسه دون غيره .كما أوضحنا سابقا . أما ما فعله عثمان رضي الله عنه فإنما كانلمصلحة المسلمين عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ ومسؤول عنرعيته؛ فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته،والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيّده راعٍ، وهومسؤول عن رعيته... فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" .


    ومما يذكر أنهم عابو عليه في حمي الحمى أنهم نقموا عليه حميه لسوق المدينةفي بعض ما يباع ويشترى ، فقالوا: لا يشتري منه أحد النوى حتى يشتري وكيلهمن شراء ما يحتاج إليه عثمان رضي الله عنه لعلف إبله وفي هذه الرواية تقول واختلاقولا أصل لها ولو فعل ذلك فيكون قد فعله بإبل الصدقة وألحقه بحمى المرعى لها ؛ .


    ومن أقوالهم أيضا الكاذبةأنه حمي البحر من أن تخرج فيه سفينة إلا في تجارته، وهل يقول بذلك عاقل، وغاية ما يقال على تقدير صحةالنقل في ذلك يحمل على أنها كانت ملكاً له، لأنه كان منبسطاً في التجارات، متسعالمال في الجاهلية والإسلام، فما حمى البحر، وإنما حمى سفنه أن يحمل فيها متاع غيرمتاعه"


    فإذا تأملنا تلك الردود منعثمان بن عفان علي افتراض صحة النقل لتأكدنا أن ما أتهم به في هذه القضية إنما هيمنقبة وميزة تميز بها عثمان ليساير العصرويساير كافة الغنائم التي كانت ترد إلي بيت المال من الفتوحات العظيمة .

    (3)


    جمع القرآن الكريم



    وأما جمع القرآن ، فتلك حسنته العظمي ، وخصلته الكبري كما يقول ابن العربي ،وإن كان وجدها كاملة ، لكنه أظهرها ورد الناس إليها ، وحسم مادة الخلاف فيها ،وكان نفوز وعد الله بحفظ القرآن علي يديه .([96])


    روي الأئمة بأجمعهم أن زيد بن ثابتقال : أرسل إلي أبو بكر عقب مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ،قال زيد : قال ( لي ) أبو بكر : إنك رجل شابعاقل لا أتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله e . فتتبع القرآن فاجمعه )) . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبالما كان أثقل علي مما ( كلفاني وأمراني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئا لميفعله رسول الله e ؟ قال عمر : (( هذا والله خير)) . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع ( أبي ) خزيمةالأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم )) حتى خاتمة براءة . ([97])


    فكانت الصحف عند أبي بكر حتي توفاه الله ، ثم عند عمر طيلة حياته ، ثم عندحفصة بنت عمر . حتى قدم حذيفة بن اليمان علي عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيةوأذربيجان مع أهل العراق ، ( فأفزع ) حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفةلعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافاليهود والنصارى . فأرسل عثمان إلي حفصه أن أرسلي الينا بالصحف تنسخها في المصاحف، ثم نردها إليك . فأرسلت بها حفصة إلي عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله أبنالزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف .([98])


    والأمر الذي قام به عثمانوالخاص بجمع القرآن الكريم بعد صاحبيه في جمع القرآن وتثبيته وتوحيد رسمه لأمرعظيم ينبغي علي المسلمين تذكره لعثمان عن علي بن أبي طالب قال : (( أيها الناس ،الله ، الله ، أياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم حراق المصاحف ، فوالله ما حرقهاإلا عن ملأ من أصحاب رسول الله e ، جميعا وقال : ما تقولون في هذه القراءة التي أختلف الناس فيها ،يلقي الرجل الرجل فيقول قراءتي خير من قرائتك ، وهذا يجر إلي الكفر ؟ فقلنا : ماالراي ؟ قال : أريد أن أجمع الناس علي مصحف واحد ، فأنكم أن اختلفتم اليوم كان منبعدكم أشد أختلافا . فقلنا : نعم ما رأيت )) .([99])


    - وقد حاول بعض الناس أن يلوموا عثمان علي أمره بإحراق المصاحف فقال لهمعلي بن أبي طالب لو لم يصنعه عثمان لصنعته أنا فجزي الله عثمان عن أمته خير الجزاء. ([100])


    وقد وفق عثمان في إختيار لغة قريش لغة القرآن كله وقال عثمان للرهطالقرشيين الثلاثة : ((إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ،فانما نزل بلسانهم )) ففعلوا .


    حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلي حفصه ، وأرسل إلي كلأفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق .


    قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بنزيد بن ثابت أنه سمع زيد ابن ثابت قال : (( فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحفقد كنت أسمع رسول الله e يقرأ بها ، فالتمسناهافوجدناها فألحقناها في سورتها في المصحف)) .


    واما المآخذ التي أخذها الثوار علي عثمان في صدد حرق المصاحف المخالفة لأنهكان في بقائها فساد ، أو كان فيها ما ليس من القرآن ، أو ما نسخ منه ، أو علي غيرنظمه ، وقد سلم في ذلك الصحابة كلهم إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: (( أما بعد فإن الله قال (( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة )) وأني غال مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفة فليفعل )) . وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه ، وأنيثبت ما يعلم فيه . فلما لم يفعل ذلك له قال ما قال ، فأكرهه عثمان علي رفع مصحفهحتى محي رسومه فلم تثبت له قراءة أبدا وعبد الله بن مسعود صحابي جليل من كبارعلماء الصحابة وكان أجودهم قراءة لكتاب الله وكان ابن مسعود يكتب ما يوحي منالقرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه ، وهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عماامتازت به مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير علي رسول الله e ويحتمل أن يكون بن مسعودفاته في مصحفه بعض آيات مما استقصاه زيد بن ثابت وزملائه بالإضافة إلي ذلك فإن ابنمسعود كان يقرأ القرآن بلهجة قومه بني هذيل فليس لابن مسعود أن يحمل الأمة في زمنهوالأزمان من بعده علي لهجته الخاصة فكان من الخير توحيد الأمة علي قراءة كتاب ربهاباللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله e ومن هنا كان عثمان علي حق عندما احرق المصاحف الأخرى حتى يتوحدالمسلمون علي قراءة واحدة وفي نظري أن هذه مزية لعثمان وليست نقيصة .


    ويروي عن حذيفة بن اليمان أنه رأى في البصرة نحواً من ذلك، فقد كان ذات يومجالساً في حلقة مسجد من مساجدها، زمن ولاية الوليد بن عقبة عليها؛ فإذا هاتف يهتف:من كان يقرأ على قراءة أبي موسى فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة، ومن كان يقرأعلى قراءة عبدالله بن مسعود، فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبدالله. فاجتمع القوم، واختلفوا في آية من سورة البقرة،قرأ أحدهم: {وأتموا الحج والعمرة للبيت} وقرأ آخر: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَلِلَّهِ} . ([101]) فغضب حذيفة رضيالله عنه حتى احمرّت عيناه، فقام وغرز قميصه في حجزته، وقال لرجل منهم: إما أنتركب إلى أمير المؤمنين، وإما أن أركب، فأقبل على الناس، وقال: إن الله بعث محمداًصلى الله عليه وسلم، فقاتل بمن أقبل من أدبر، حتى أظهر الله دينه، ثم إن اللهقبضه، فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلفأبا بكر فكان ما شاء الله، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثمإن الله استخلف عمر فنزل الناس وسط الإسلام، ثم إن الله قبضه، فطعن الناس فيالإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عثمان وأيم الله ليوشكنَّ أن تطعنوا فيهطعنة تحلقونه كله ([102]).


    وركب رضي الله عنه إلى عثمان بن عفان ([103])فقال له: يا أمير المؤمنين، أدرك هذهالأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في الكتب، ففزع لذلك عثمانبن عفان، وجمع الصحابة - وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال: ما تقولون فيهذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكونكفراً؟.


    فقالوا: ما ترى ؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولايكون اختلاف، فقالوا: فنعم ما رأيت .


    وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أومصحف أن يحرق، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار ([104]) وبعد سرد قصة جمع القرآن منذ بدايتها وحتىانتهائها، نعود إلى ما نُقل عن بعضهم من تحويل هذه الفضيلة من فضائل عثمان رضيالله عنه إلى عيب يعاب به . فإنَّ عثمانرضي الله عنه لم يبتدع في جمعه المصاحف؛ بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي اللهعنه كما أنه لم يصنع ذلك من قبل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة رضي الله عنهموأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضاً: قد أحسن؛ أي: في فعله فيالمصاحف. فقد أدرك مصعبُ بن سعد صحابةَالنبي صلى الله عليه وسلم؛ حين مشق ([105])عثمان رضي الله عنه المصاحف فرآهم قد أُعجبوا بهذا الفعلمنه ( . وكان علي رضي الله عنه ينهى من يعيب على عثمان رضي الله عنه بذلك ويقول:يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً –أو قولوا خيراً- فوالله ما فعل الذي فعل -أي فيالمصاحف- إلا عن ملأ منا جميعاً أي الصحابة... والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل ([106]). وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق،على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى، أن الواجب على المسلم الرضابهذا الصنيع الذي صنعه عثمان رضي الله عنه وحفظ الله به القرآن.


    ولم يثبت أن ابن مسعود رضي الله عنه خالف عثمان في ذلك، وكلما روي في ذلك ضعيف الإسناد ، كما أن هذهالروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك، تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابةفي جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمينفي ذلك. وقال: إن الله لا ينتزع العلمانتزاعاً، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليهوسلم على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه...وكتب بذلك إلى عثمان ([107]). ولم يثبت أن عثمان رضي الله عنه خص مصحف ابن مسعود بالحرق، وعلى فرض صحة ذلك، فإن ما فعله عثمانكان دواء لمفسدة كبيرة في الدين، لكثرة ما في مصحف ابن مسعود من الشذوذ المنكر عندأهل العلم بالقرآن، وبحذفه المعوذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنهما فيالقرآن ([108])ولعل سبب ذلك أن ابن مسعود كان يكتب مايوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه، فاختلف ترتيبه عما امتازت بهمصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدرما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم.


    ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته في مصحفه بعض ما استقصاه زيدبن ثابت ورفاقه من الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة، زد على ذلك أن ابنمسعود كانت تغلب عليه لهجة قومه من هذيل، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثل ابنمسعود أن يقرؤوا بلهجاتهم الخاصة. فكان من الخير توحيد الأمة على قراءة كتاب ربهاباللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعى الطحاوي،والباقلاني، وابن عبدالبر، أن قراءة القرآن على سبع لغات كان رخصة في أول الأمر،ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الحفظ، وكثرة الضبط، وتعلم الكتابة ([109]) .


    وكان فعل عثمان بتوحيد المسلمين علي قراءة واحدة وافق عليهاالصحابة جميعهم هو الطريق الصحيح إلى توحيد صف المسلمين، وجمع شملهم؛ فلا يتم ذلكإلا برجوعهم إلى الكتاب والسنة، وفهمهما فهماً صحيحاً مستمداً من فهم السلف الصالحلهما، وأن يعتصموا بهما، لتتحقق لهم الوحدة، فيجتمعون على عدوهم، ويرفع الله عنهمالفشل الذي استحقوه بسبب تنازعهم {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَرِيحُكُمْ}([110]). وهذه ثمرة من ثمراتدراسة تاريخ الخلفاء الراشدين، الحافل بالعبر ومواضع القدوة. وبعد توصلنا إلى هذهالحقيقة التي كان عليها سلفنا الصالح، يتبين لنا أثم من يترك دلالة القرآن، والسنةوراءه ظهرياً ويحكم عقله، ويرفض .

    (4)


    لم يحضر بدرا وبيعةالرضوان وانهزم يوم أحد



    هذه المآخذ الثلاثة من مجموعة المأخذ التي أخذها المتآمرون علي عثمان بن عفانرضي الله عنه ،ولو دققنا فيها النظر وتأملنها لوجدنا أن عثمان ليس له في هذه التهمناقة ولا جمل بل أن هذه المآخذ الثلاثة كانت ميزة لأمير المؤمنين عثمان ومنحتهقربي من الرسولe وسوف نعرف ذلكمن التفنيد التالي:


    - عدم شهوده غزوة بدر:


    كانت غزوة بدر في العام الثاني من الهجرة، وذلك لما ندب النبي صلى الله عليهوسلم أصحابه إلى الخروج إلى عير لقريش، وتعجل بمن كان مستعداً، دون أن ينتظر أهلالعوالي لاستعجاله بالخروج ([111]) ، ووافق ذلك أنكانت رقية -رضي الله عنها- ابنة النبي صلى الله عليه وسلم مريضة، قعيدة الفراش،وفي أمس الحاجة إلى من يمرضها ويرعى شؤونها، وخير من يصلح لذلك هو زوجها؛ لأنالزوجة لا تكتمل حريتها عند غير زوجها؛ لذلك كله أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بالبقاء في المدينة بجانب زوجته ليقوم بتمريضها،وضرب له بسهمه في غزوة بدر فقال عثمان: وأجري يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"وأجرك" . ([112])


    وبذلك يتبين أن عثمان رضي الله عنه لم يشهد غزوة بدر، ولكنهكان كمن شهدها لضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم فيها، من الغنيمة والأجر. وعلمذلك الصحابة رضوان الله عليهم فلم يصح عن أحد منهم أنه عابه بعدم شهوده بدراً،واستمر الأمر على ذلك.حتى انفجرت ينابيع الفتنة، وبدأ الخارجون على عثمان رضي اللهعنه يتلمسون ما يظهرون للناس أنهم أجازوا به الخروج عليه، فعابوه بعدم شهودهبدراً. ولكن ذلك لا ينطلي إلا على الجهلة من الناس، فإن أهل البصيرة يعلمون أن عدمشهوده رضي الله عنه هذه الغزوة إنما كان بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن شهدبدراً لم يحصّل ذاك الأجر العظيم إلا لامتثاله أمره صلى الله عليه وسلم فالمتخلفبأمر الرسول e كالشاهد للمعركة بأمره e ولا فرق بينهما ([113]) .


    وقد سأل العلاء بن عرار بن عمر رضي الله عنه كما يروي بن حجر في إحدى رواياته بينمايروي في موضع أخر بأنه رجل من أهل مصر يسأله عن حضور عثمان بدراً، أجابه بأنه لميشهدها، فكبر السائل فرَحاً وشماتةً بعثمان، فناداه ابن عمر رضي الله عنهما وبيّنله أن تخلف عثمان هذا لم يكن من قِبله، إنما كان بأمر من رسول الله صلى الله عليهوسلم فلا يُعدّ عيباً فيه، فقال له: وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسولالله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنلك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه" ([114]). ومن هذا المنطلق فإن تخلف عثمان عن غزوة بدر فيه إرضاء للرسول e من جهة وأجر المجاهد من جهة أخرى وفيه أيضا رضا من الله عليه فقدرضي الله علي من شهد بدرا .


    كما أن النفير -كما تقدم- لم يكن عاماً، وبسبب ذلك تخلف عن بدر كثير منالصحابة رضوان الله عليهم ممن كانوا في العوالي، وممن لم يحضروا ساعة الاستعدادللرحيل، لشدة استعجال النبي صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن تفوت العير فلا يدركونها.فعدم حضور بدر ليس بعيب في آحاد الصحابة رضوان الله عليهم .


    الذين لم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقعود في المدينة؛ فكيف يكونعيباً فيمن قعد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يكشف زيف استساغتهم الخروج علي عثمان ،بعدم شهوده بدراً، عدم عيبهم لسائر المتخلفين عنها الذين لم يتهيأ لهم الخروجإليها، وإن كان ذلك لعذر، فإن عذر عثمان رضي الله عنه أقوى من عذرهم، فلم ينقل لناشيء من هذا، مما يؤكد لنا أن القوم يتصيدون ما يمهدون به للخروج على الخليفة فحسب.


    والتخلف عن شهود غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع العذر، ممن لديه رغبةصادقة في شهودها، لا يوقع حرجاً على صاحبه، إذا كان ناصحاً لله ورسوله، وقد بينالله جل وعلا ذلك في قوله:
    {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى
    وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوالِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُمَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِحَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} ([115])فليس على هؤلاءسبيل، بل شهد الله لهم بالإحسان.


    أما الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم للقعود عن القتال، وهم أغنياء
    مستطيعون، ليس لهم عذر، ولكن رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين، فهؤلاء هم الآثمونالذين يعاقبهم الله بالطبع على قلوبهم. كما في قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَىالَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَالْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (
    [116]) .


    فمن يتخلف عن غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بأمر منه، ويضرب له رسولالله صلى الله عليه وسلم بسهم في الغنيمة وفي الأجر، فإنه أولى بأن لا يكون عليهسبيل ممن تخلف عنها لعدم الاستطاعة والقدرة . ثم لو كان قد أخطأ فتخلف عن غزوة بدر بدون عذر، فإن ذلك لا يسوغ قتلهصبراً، ولا يسوغ الخروج عليه وهو خليفة؟! ولوكان عثمان رضي الله عنه آثما لتخلفه عن غزوة بدر؛ فلم لم يعاتبه رسول الله صلىالله عليه وسلم على ذلك ؟ ولا عرف الصحابة هذا الوضع وعاتبوا عثمان عليه ولكنه لميرد رواية تشير إلي ذلك .


    - توليه يوم أحد عن المعركة :


    ومن المآخذ التي أخذت علي عثمان توليه عن القتال، في معركة أحد التي وقعت فيشهر شوال من العام الثالث للهجرة، بين المسلمين، والمشركين بالقرب من جبل أحد،الذي يقع شمال المدينة النبوية . وكان المسلمون قد انتصروا في أول المعركة، وقتلواعدداً من المشركين، وفي ذلك يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُوَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ([117]) ، ونتيجة لمخالفةأمر النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين فقد المسلمون مواقعهم، وأخذوايقاتلون دون تخطيط، فلم يستطيعوا تمييز بعضهم من بعض وأسقط في أيديهم، ففر كثيرونمنهم من ميدان القتال، وانتحى بعضهم جانباً دون قتال، في حين آثر آخرون الموت علىالحياة فقاتلوا حتى الموت ([118])


    وقد ذكر الله جل وعلا خبر فرار من فر، وعفوه عنهم فقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَااسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَاكَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ([119]). فبين الله أنه قد عفا عن جميع المتولين يومأحد، فدخل فيهم من هو دون عثمان في الفضل والسابقية، فكيف لا يدخل هو مع فضله،وسابقته، وكثرة حسناته ([120]). ولكن الخارجينعليه لم يعبؤوا بهذا العفو من الله، بل أظهروا وأشاعوا أنهم نقموا عليه فراره يومأحد، مما يدل دلالة واضحة على أن تسويغهم ليس بتسويغ مجتهد مخطئ، أو تسويغ متحمس ضال،إنما هو تسويغ مضل مفسد يتلمس ما يسوغ به إفساده. وإلا لم عابوا عليه أمراً قد عفا الله عنه وغفره؟ ولم أشاعوا ذلك بين المسلمين على ولي أمرهم أميرالمؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن فراره يوم أحد لا يُحل قتله،فكيف وقد غفر الله له، ولو استحق ذلك لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلممعاقبته، ولما بايعه الصحابة جميعاً بالخلافة. فلم ير الصحابة رضي الله عنهم فيموقفه بأحد ما يستوجب التردد في بيعته بعد عفو الله عنه وعن سائر الفارين. بل رأوافي مواقفه الأخرى، ما يقدمه إلى أعظم مسؤوليات الدولة، وهي: الخلافة.


    ولكن الخارجين عليه كانوا يفتشون عن مسوغات للفتنة، والتمرد، وقتل الخليفة،فتشبثوا بهذا الأمر وبغيره من المسوغات الواهية الأخرى . مما يبين جلياً أنالشيطان قد استحوذ عليهم، حتى أنساهم ذكر الله ([121])وزين لهم أعمالهمفأضلهم عن السبيل، وهم يحسبون أنهم مهتدون. ولما سأل ذلك الخارجي ([122]). ابن عمر رضي الله عنهما عن فرار عثمانيوم أحد، شهد ابن عمر على فراره؛ فكبر الخارجي شماتة بعثمان، فقال له ابن عمر:تعال لأخبرك، ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنهوغفر له... اذهب بها الآن معك . ([123])


    - تخلفه عن بيعة الرضوان:


    ومنها تخلفه عن بيعة الرضوان ([124])وقد كانت بيعة الرضوان في مستهل ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، تحت شجرةسمرة في مكان بالقرب من مكة يسمّى بالحديبية . دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلمبعد أن أرسل عثمان رضي الله عنه إلى أهل مكة يفاوضهم، ويبين لهم هدف المسلمين منقدومهم، وأنه العمرة وليس القتال، فلما استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم عثمان،وبلغه أن المشركين قد قتلوه، بايع أصحابه على قتال المشركين ثأراً لعثمان رضي اللهعنه. ونظراً لاحتمال عدم صدق الخبر بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده على اليدالأخرى عن عثمان رضي الله عنه . وقد بيّن الله جل وعلا فضل أصحاب هذه البيعة، فيآيات عديدة، كما بينه أيضا الرسول صلى الله عليه وسلم . فمن الآيات قوله جل وعلا:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِفَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْفَتْحاً قَرِيباً} ([125]) ، ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لمن شهدها:"أنتم خير أهل الأرض" ([126]). وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرةأحد الذين بايعوا تحتها".


    ومنذ أداء تلك البيعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ظلت مفخرة لمن شهدها، يعرفالناس فضلهم وقدرهم، ومكانتهم، ولا يعاب من لم يشهدها ممن كان في المدينة، وغيرهامن المسلمين، ولما بدأ الناس في الطعن على عثمان رضي الله عنه، وتلمسوا ما يعيبونهبه، أظهروا أنهم استساغوا الخروج عليه بعدة أمور: منها المفتراة، ومنها ما هومنقبة له في الحقيقة.


    وعدم شهوده بيعة الرضوان هو من هذا الصنف الأخير، فإن عدمشهوده إياها فيه ما يدل على سموّ مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسفيه منقصة له. لكن أفهام القوم قاصرة، وقلوبهم حاقدة، حتى إن أحدهم جاء إلى ابنعمر -رضي الله عنهما كما قلنا سابقا - يناشده: أَشَهِد عثمان رضي الله عنه بيعةالرضوان؟. فقال له ابن عمر: لا، وقبلانصراف الرجل، بيّن له ابن عمر رضي الله عنهما أن عدم شهوده البيعة لا يعدّ عيباًفيه، بل منقبة له، فإن سبب تغيبه عنها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلىأهل مكة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه لعثمان ([127])فَيَدُ رسول اللهصلى الله عليه وسلم خير من يد من بايع بيده.


    وفي ذلك يقول أبو نعيم: "وأما بيعة الرضوان فلأجل عثمان رضي الله عنهوقعت هذه المبايعة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه رسولاً إلى أهل مكةلِمَا اختص به من السؤدد والدين، ووفور العشيرة، وأُخبِر الرسول صلى الله عليهوسلم بقتله، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون له على الموت ليوافواأهل مكة ([128]).


    فعدم حضور عثمان رضي الله عنه بيعة الرضوان يُعَدّ منقبة له وليس مثلبة فيه،ولكن القلوب الحاقدة قلبتها إلى مثلبة وعابته بها ويمكنا أن نوضح جوانب هذهالمنقبة في الأمور الأربعة التالية :-


    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لأداء تلكالمهمة،بعدما رفض عمر بن الخطاب وأقتنع الرسول بأن عثمان هو أفضل من يتفاوض في تلكالمهمة وهذا أكبر دليل على فضله رضي الله عنه وصلاحيته كمناور سياسي .


    الثاني: أنه من أهل بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمبايع له بإحدى يديه
    على الأخرى.



    الثالث: أنه رضي الله عنهامتاز على باقي أصحاب الشجرة بأن النبي بايع عنه بيده الأخرى، فيد النبي صلى اللهعليه وسلم خير من أيديهم رضي الله عنهم أجمعين.


    الرابع: أن البيعة إنماعقدت من أجله مما يبين مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم.

    * * * *


    (5)


    رده للحكم وابنه مروان



    - وأما رد الحكم فلم يصح زعم البغاة علي عثمان في ذلك ولم يخالف الشرع فيذلك أبدا .


    وقال كثير من العلماء في هذاالصدد : قد كان أذن له فيه رسول الله e . وقال ( أي عثمان ) لأبيبكر وعمر ، فقالا له : أن كان معك شهود رددناه . فلما ولي قضي بعمله في رده . وماكان عثمان ليصل مهجور رسول الله e ولو كان أباه ولا لينقض حكمه . قال ابن تيمية في منهاج السنة (وقد طعن كثيرا من أهل العلم في نفي النبي e الحكم وقالوا ذهب باختياره : وإذا كان النبي e قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقي منفيا طول الزمان فإن هذاأمرا شاق ولم تأت الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفيا دائما كما أن عثمان بن عفان كانقد شفع في عبد الله بن سعد بن ابي سرح وقبل النبي منه ذلك فكيف لا يقبل شفاعته فيالحكم وقد روت بعض الروايات أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك وأن ذنب الحكمأقل من ذنب عبد الله بن أبي السرح فكيف يقبل ذنب ابن سعد دون ذنب الحكم كما أن هذهالقصة المروية عن الحكم ليس لها أسانيد ثابتة . ([129])


    - ويروي ابن تيمية أن نفي رسول الله للحكم لم يكن حدا واجبا ولا شريعة عليالتأبيد وإنما كان عقوبة علي ذنب أستحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنهتلك العقوبة دون خلاف من أحد من أهل الإسلام وسارت الأرض كلها مباحة . ([130])


    ** ويمكننا أن نستعرض رأيشيخ الإسلام بن تيمية بشيء من التفصيل في قضية رد عثمان للحكم وابنه مروان إليالمدينة وهذا الرد له وجاهته ومبرراته فيقول ( وطرد رسولُ الله صلى الله عليه وسلمالحَكَمَ بن أبي العاص؛ عم عثمان رضي الله عنه من المدينة، ومعه ابنه مروان، فلميزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما وليعثمان رضي الله عنه آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره، مع أنالله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِيُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}([131]) ، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه متعددة، نوجزها فيما يلي: ([132]) .


    أ - أن كثيراً من أهل العلم طعن في صحة نفي النبي صلى الله عليه وسلمللحَكَم وقالوا: ذهب باختياره وليس لقصة نفيه سندٌ يعرف.


    ب- أنه إن كان قد طرد النبي صلى الله عليه وسلم الحكم فلا يكون ذلك منالمدينة، كما قال الرافضي، بل يكون من مكة؛ لأن الطلقاء لم تسكن بالمدينة في حياةالنبي صلى الله عليه وسلم ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وليس أحد من الطلقاء الذين منهم الحكم هاجر إلى المدينة.


    ج - أن مروان كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طفلاًصغيراً في أول سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل، أو أقل بقليل، فلم يكن لهذنب يطرد بسببه.


    د - أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عزر رجلاًبالنفي، لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يُعرف في شيء من الذنوب،ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً، بل غاية النفي المقدر سنة، وهونفي الزاني والمخنَّث حتى يتوب من التخنيث، فإذا كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب،فإذا تاب سقطت العقوبة عنه، وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدَّر فيهقدر، ولم يوقَّت فيه وقت.


    وإذا كان كذلك، فالنفي كان في آخر الهجرة، فلم تطل مدته فيزمن أبي بكر وعمر، فلمّا كان عثمان طالت مدته، وقد كان عثمان شَفَعَ في عبد اللهبن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر دمه لردته، فقبل شَفَاعة عثمانفيه، وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم.


    بل قد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك،وذَنْبُه دون عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسنادالثابت، وأما قصة الحكم فعامة ، من ذكرها، إنما ذكرها مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون،الذين يكثر الكذب فيما يروونه .

    * * * *


    (6)


    عدم إقامة الحد علي عبيد الله بن عمر



    1- يقول الإمام أبو بكر بن العربي أما امتناع عثمان عن قتل عبيد الله بنعمر بن الخطاب بالهرمزان ، فإن ذلك باطل ويستدل علي ذلك بشهادة ابنه القماذبان فقدروي الطبري عن سيف بن عمر قال سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه قال : (( فلما وليعثمان دعاني فأمكنني منه ( أي من عبيد الله بن عمر بن الخطاب ) ثم قال : (( يا بنيهذا قاتل أبيك ، وأنت أولي به منا فأذهب فاقتله )) . فخرجت به وما في الأرض أحدالا معي ، ألا أنهم يطلبون إلي فيه . فقلت لهم : إلي قتله ؟ قالوا : نعم . وسبواعبيد الله . فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا . وسبوه . فتركته لله ولهم .فاحتملوني . فوالله ما بلغت المنزل إلا علي رؤوس الرجال وأكفهم )) . هذا كلام ابنالهرمزان ، وأن كل منصف يعتقده ( ولعل ابن الهرمزان أيضا كان يعتقد ) أن دم أميرالمؤمنين عمر في عنق الهرمزان ، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا آلة في يد هذا الفارسي .وأن موقف عثمان وأخوانه أصحاب رسول الله e من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة الإنسانية . ([133])(وإن) كان لم يفعل فالصحابة متوافرون موجدون ، والأمر في أوله .


    2- ويروي الطبري أن عثمان رضي الله عنه قد تصرف في هذا الأمر بعد استشارةالصحابة فيه إذ جلس في جانب المسجد ودعا عبيد الله وكان محبوسا في دار سعد بن أبيوقاص ، وهو الذي نزع السيف من يده ... فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : اشيرواعلي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق . فقال علي : أري أن تقتله . فقال بعضالمهاجرين : قتل عمر أمس ، ويقتل ابنه اليوم ؟! فقال عمرو بن العاص : يا أميرالمؤمنين ، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك علي المسلمين سلطان ، إنماكان هذا الحدث ولا سلطان لك . قال عثمان : أنا وليهم ، وقد جعلتها دية ، واحتملتهافي مالي . ([134])


    3- وقد قيل : إن الهرمزان سعي في مقتل عمر ، وحمل الخنجر وظهر تحتثيابه . وكان قتل عبيد الله له ، وعثمانلم يل بعد . ولعل عثمان كان لا يري علي عبيد الله حقا ، لما ثبت عنده من حال الهرمزانوفعله .


    4- ويري عبد الله بن عباس جواز قتل علوج الفرس الذين في المدينة بلااستثناء ويذكر بن تيمية عن عبد الله بنعباس لما طعن عمر إذ قال له عمر : كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينةفقال بن عباس : إن شئت أن نقتلهم فقال عمر : (كذبت أفا بعد أن تكلموا بلسانكموصلوا إلي قبلتكم ؟ ) . ويعلق ابن تيمية علي ذلك قائلا وهو أفقه من عبيد الله بنعمر وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لمااتهموهم بالفساد ، أعتقد جواز مثل هذا : وإذا كان الهرمزان ممن أعان علي قتل عمركان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله بذلك .


    5- ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا ويعتقدحل قتله لشبهة ظاهرة ، صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل وهو عبيد الله بن عمر وإلي هذاذهب عثمان في اكتفائه بالدية واحتمالها من ماله الخاص . ([135])


    - فهل تري عدلا مثل هذاالعدل فلو كان هذا الحادث وهو قتل أمير المؤمنين عمر لملك من ملوك اليوم أو رئيسمن الرؤساء لقتل بجريرته خلقا كبيرا يأخذون فيها المذنب وغير المذنب وتطاح فيهرقاب لا ذنب لها فهل تري مثل الصحابة في عدلهم وتسامحهم في هذا الحادث الأليم إلي حدالمطالبة بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول أبيه بيد الغدر والبغي والظلم .


    وأريد هنا أن أوضح نقطتين مهمتين :-


    الأولي: تتعلق في أمر الدية التيأخرجها أمير المؤمنين عثمان من ماله التي فرضها للهرمزان فإن الهرمزان لم يكن لهأولياء يطلبون دمه ، وإنما وليه ولي الأمر فله أن يقتل قاتله وله أن يعفو عنه إليالدية لئلا تضيع حقوق المسلمين وقد عفا عثمان رضي الله عنه عن قاتله ورأي أن يعطيقدر الدية لآل عمر لما كان علي عمر من الدين معونة لأهله ويعد هذا التصرف بلا شكمن محاسن عثمان رضي الله عنه فأن الدية للمسلمين وللحاكم أن يصرفها في مصارفالأموال وقد تركها لآل عمر وهو بعض ما يستحقونه علي المسلمين فالمسألة هنا مسألةاجتهادية ولا ينكر علي عثمان ما فعله باجتهاده . ([136]) .


    الثانية :- وهو ما ورد عن خوف عبيد الله بن عمر من علي رضي اللهعنهما أن يقتله بعد قتل عثمان فما روي في هذا الشأن ليس بصحيح حيث لم يرد في إسنادصحيح ولا متوقع ذلك من علي رضي الله عنه لأنه قد حكم الحكم في هذه المسألة بعصمةالدم فلا يتوقع من علي رضي الله عنه استحلال نقضه كما أن عليا رضي الله عنه ليسوليا للمقتول ولم يطلب ولي المقتول القود لأنه لاولي له فليس بعد عفو عثمان رضيالله عنه وحكمه بحقن دمه يباح قتله .


    والعجيب في هذا الأمر حينما يتبادر هذا التساؤل هل يباح دم الخليفة الثالث المبشر بالجنة صاحبرسول الله e لأنه لم يقم الحد علي رجلقتل رجلا مشكوكا في دينه متهما بالنفاق والمحاربة لله ولرسوله والسعي في الأرض بالفساد فإذا أضفنا إلي ذلك أن عثمان كان أفضل من أكفالناس عن الدماء وقد رفض قتال الخارجين عليه مع علمه الأكيد بأنهم يردون قتله وأنهعلي الحق وأنهم علي الباطل ورفض كل عروض المناصرين له حتى لا يكون أول من خلفالرسول محمد e في أمته وسفك دماء المسلمين . وبذلك يتبين بطلان اتهام عثمان بأنهكان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل حدود الله كما زعم هؤلاء الأفاكين . ([137])

    (7)


    - ضربه عمار بن ياسر وابن مسعود



    ومنها اتهامهم له بضرب عمار بن ياسر، فقد روي عن عائشة -رضي الله عنها-أنها ذكرت: أن مما عتب الخارجون على عثمان رضي الله عنه ضربه بالسوط، والعصا ([138])فلعل المقصود ما أشيع من ضربه عماراً رضي الله عنهما. ورُوي بإسناد ضعيف أن سعداً، وعماراً رضي اللهعنهما أرسلا إلى عثمان رضي الله عنه أن ائتنا، فإنا نريد أن نذكر لك أشياءأحدثتها، أو أشياء فعلتها، فاعتذر عثمان رضي الله عنه، عن المجيء لشغل كان مشغولاًبه، وأمرهما بالانصراف، وعقد لهما موعداً، ليستعد فيه لخصومتهما، فانصرف سعدٌ،وأبى عمار أن ينصرف، فتناوله رسول عثمان رضي الله عنه وضربه. وقد نقموا علي عثمانذلك حينما اجتمعوا مع عثمان رضي الله عنه قالوا له: ننقم عليك ضربك عماراً،فأخبرهم بالقصة وأنه لم يأمر بضربه ، ولكن رسوله تناوله من غير أمره، ثم أقسم لهمأنه ما أمر، ولا رضي، وقال : فهذه يدي لعمار فليقتص([139]). وهذه الرواية علي ضعفهافأن من حق عثمان أن يؤدب رعيته إذا صدر منهم ما يستحقوا عليه العقوبة الشرعية هذاعلي حال إذا افترضنا صحة الرواية .


    ولم يكن عثمان بدعا في تأديبه للخارجين عن الشريعة فقد سبقه إلي ذلك عمر بنالخطاب رضي الله عنه فقد ضرب أبي بن كعب بالدرَّة، لمّا رأى الناس يمشون خلفه،فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع ([140]). ولذلك لا حجة علي عثمان في ضرب عمار رضي الله عنهما لو قدر أنه ضرب عماروهذا لا يسوغ الخارجين أن يخرجوا علي عثمان .


    وهناك رواية أخري تروي بهذا الصدد أنه اجتمع خمسونمن المهاجرين والأنصار؛ فكتبوا أحداث عثمان رضي الله عنه وما نقمواعليه في كتاب، وقالوا لعمار: أوصل هذا الكتاب إلى عثمان رضيالله عنه، ليقرأه فلعله يرجع عن هذا الذي ينكر، وخوفوه فيه بأنه إن لم يرجع خلعوهواستبدلوا غيره.


    وأن عثمان رضي الله عنه طرح الكتاب بعدما قرأه، فقال له عمار: لا ترم بالكتاب،وانظر فيه، فإنه كتاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا - والله - لكناصح، وخائف عليك، فقال: كذبت يا ابن سمية، وأنه أمر غلمانه فضربوه حتى وقع لجنبهوأغمي عليه، وقام عثمان رضي الله عنه فوطئ بطنه، حتى أصابه الفتق، وأغمي عليه أربعصلوات ثم قضاها بعد الإفاقة، واتخذ لنفسه تباناً تحت ثيابه، وأنه أول من لبسالتبان لأجل الفتق، وأن بني مخزوم غضبوا له، وقالوا: والله لئن مات عمار من هذالنقتلن من بني أمية شيخاً عظيماً -يعنون عثمان رضي الله عنه- وأن عماراً لزم بيتهإلى أن كان من أمر الفتنة ما كان ([141]).وهذه الرواية مطعون فيها .


    وقد أثبتت الشواهد التاريخية كذب تلك الرواية وإن عثمان رضي الله عنه قد عرضعلي عمار أن يقتص منه كما أوضحنا سابقا وهذا بلا شك أبلغ ما يكون في الإنصاف كماروي عن عمار قد رضي عن عثمان حينما أنصفه بحسن الأعتذار ثم قال: "فما بال أهلالبدعة لا يرضون، وما مثله فيه إلا كما يقال: رضي الخصمان، ولم يرض القاضي".


    كما يروي لعمار مشهد من مشاهد الغضب من اجل عثمان حينما حاصر بيته الثائرونومنع من الماء قال لهم عمار رضي الله عنه: سبحان الله! قد اشترى بئر رومة وتمنعونهماءها! خلُّوا سبيل الماء، ثم جاء إلى علي، وسأله إنفاذ الماء إليه، فأمر براويةماء ([142]) . وهذا يثبت رضا عمار عن أمير المؤمنين عثمان وبذلك ندرك أنعثمان لم يكن آثما مع عمار فمن حقه أن يؤدب رعيته كما كان يفعل عمر بن الخطاب .


    ولما اشتدت الفتنة في الأمصار وتحدثوا عن عثمان بما لا يليق له أشارالصحابة علي عثمان ان يرسل إلي الأمصار رجالا ممن يثق بهم حتى يرجعوا إليهبالحقيقة فنجد عثمان يتناسى ما كان بينه وبين عمار ويرسل عمارا إلي مصر مع مجموعةمن الرجال ولكن مما يأسف له أن من كان مع عمار قد عاد إلي المدينة وبقي عمار فيمصر حيث ألتف حوله أصحاب بن سبأ ليستميلوه إليهم فلما تدارك عثمان الأمر أرسل إليعامله في مصر بإرسال عمار علي الفور وجئ بعمار بعد عودته إلي عثمان فعاتبه لما بدرمنه فقال له : ( يا أبا اليقظان قذفت بن أبي لهب أن قذفك وغضبت علي أن أخذت لكبحقك وله بحقه اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة ، اللهم أني متقرب إليكباقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي . أخرج عني يا عمار ) فخرج فكان إذا لقي العوامنضح عن نفسه وانتقي من ذلك ، وإذا وقي من يأمنه أقر بذلك وأظهر الندم . فلامهالناس وهجروه وكرهوه .


    - وأما ضربه ( ابن مسعود )ومنعه عطاءه فزور وبهتان فإن عبد الله بن مسعود لما بويع عثمان بن عفان بالخلافةقال : ( بايعنا خيرنا ولم نأل ) ويروي أنه قال ولينا أعلانا ذي فوق ولم نأل وممايؤكد هذه المشاعر ما رواه صاحب العواصم من القواصم فقد روي سبب غضب بن مسعود فعندولاية عثمان كان بن مسعود واليا لعمر علي أموال الكوفة وسعد بن أبي وقاص والياللصلاة بالناس ولقيادة الحروب فأختلف سعد وابن مسعود علي قرض أستقرضه سعد فعزلعثمان سعدا وأبقي بن مسعود وهذا مما يدل علي صفاء الأحوال بينهما .


    لكن حينما عزم عثمان علي تعميم مصحف واحد يجمعالمسلمين علي قراءة واحدة كان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف قد أسندت إليهوكان يود أيضا أن يبقي مصحفه الذي كان يكتبه بنفسه فجاء عمل عثمان بلا شك خلاف ماكان يتمناه بن مسعود ولكن المعروف أن عثمان أختار زيد بن ثابت لكتابة المصحفالموحد فهو أقتدي بأبي بكر وعمر في هذا الشأن فقد كان زيد بن ثابت هو الذي حفظالعرضة الأخيرة لكتاب الله علي الرسول صلوات الله عليه قبل وفاته وكان عثمان عليحق في ذلك نقول هذا وعثمان رضي الله عنه يعرف جيدا مكانة ابن مسعود وعلمه وصدقإيمانه وقد وقف جمهور الصحابة بإجماعهم مع عثمان في ذلك ولن يرتضوا قول ابن مسعود . ([143])


    يمكننا القول بكل اطمئنان أن عثمان لم يضرب بن مسعود ولم يمنعه عطاءه وقدحرص كل منهما علي ألا يمس قدر الآخر فعثمان لم يضربه وابن مسعود ظل مطيعا لإمامهالذي بايعه ([144]) .


    ويمكننا توجيه النقد للروايات السابقة علي النحو التالي :-


    1- ويري أيضا أن ضرب عثمان لعمار كذب وافتراء كما يقولون، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا .


    2- يروي الطبري عن سعيد بن مسيب أنه كان بين عمار وعباسبن عتبة بن أبي لهب خلاف دفع عثمان علي أن يؤدبهما عليه بالضرب ولا غرابة في ذلكفإن عمرا كان يؤدب الناس أمثال عمار ومن هم خير من عمار لما له من حق الولاية عليالمسلمين .


    3- قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن عثمان أفضل من كل منتكلم فيه بسوء .....وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن تشتغل بها لأنهامبنية علي باطل ومن هنا يتضح كذب هؤلاء الأدعياء علي أصحاب رسول الله e الذين يدعون أن عثمان ضربعمارا حتي فتق أمعائه وضرب ابن مسعود حتي كسر أضلاعه ، ولا يبني حق علي باطل ، ولاتذهب الزمان في معاشاه الجهال ، فأن ذلك لا آخر له .

    * * * *


    (8)


    نفي أبي ذر رضي الله عنه






    إن الخارجين علي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يشنعون عليه أنه نفي أباذر رضي الله عنه إلي الربذة ، وزعم بعض المؤرخين أن ابن السوداء ( عبد الله بن سبأ) لقي أبا ذر في الشام وأوحي إليه بمذهب القناعة والزهد ، ومواساة الفقراء ، ووجوبإنفاق المال الزائد عن الحاجة ، وجعله يعيب معاوية ، فأخذه عبادة بن الصامت إليمعاوية وقال له : هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر . فأخرج معاوية أبا ذر من الشام ([145])، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبها بين رأي أبي ذر ، ورأي مزدك الفارسي ،وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن ، وطوف في العراق وكان الفرسفي اليمن والعراق قبل الإسلام ، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقي هذه الفكرة منمزدكية العراق ، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها([146])، وكلما قيل في قصة أبي ذر ،مما يشنع به علي عثمان بن عفان باطل لا يبني علي رواية صحيحة ، وكل ما قيل حولاتصال أبي ذر رضي الله عنه بابن السوداء باطل لا محالة ([147])، والصحيح أن أبا ذر رضي الله عنهنزل في الربذة باختياره ، وأن ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذر في فهم آية خالف فيهاالصحابة ، وأصر علي رأيه ، فلم يوافقه أحد عليه ، فطلب أن ينزل بالربذة ([148])التي كان يغدو إليها زمن النبي r ، ولم يكن نزوله بها نفياقسريا ، أو إقامة جبرية ، ولم يأمره الخليفة بالرجوع عن رأيه لأن له وجها مقبولا ،ولكنه لا يجب علي المسلمين الأخذ به ([149])وأصح ما روي في قصة أبي ذر رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن زيدبن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له : ما أنزلكمنزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في : ] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالالناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فيسبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [ ([150]) ، قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بينيوبينه في ذاك ، وكتب إلي عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال لي : إنشئت فكنت قريبا ، فذاك الذي أنزلني هذاالمنزل ، ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت ([151]) وقد أشار هذا الأثر إلي أمور مهمة منها :


    1) سأله زيد بن وهب ، ليتحقق مما أشاعه مبغضو عثمان : هل نفاه عثمان أواختار أبو ذر المكان ؟ فجاء سياق الكلام أنه خرج بعد أن كثر الناس عليه يسألونه عنسبب خروجه من الشام ، وليس في نص الحديث أن عثمان أمره بالذهاب إلي الربذة ، بلاختارها بنفسه ، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصامت قال : دخلت معأبي ذر علي عثمان فحسر رأسه ، فقال : والله ما أنا منهم – يعني الخوارج – فقالا :إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة ، فقال : لا حاجة لي في ذلك ، ائذن لي بالربذةقال : نعم ([152]).


    2- قوله : (( كنت بالشام )) بين السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلي عنطريق زيد بن وهب : حدثني أبو ذر ، قال لي رسول الله r ، إذا بلغ البناء – أي المدينة – سلعا ، فارتحل إلي الشام ، فلمابلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها ([153])، وفي رواية قالت أم ذر : والله ما سير عثمان أبا ذر – تعني الربذة – ولكنرسول الله r قال : إذا بلغ البناء سلعا ،فاخرج منها ([154]).


    3- إن قصة أبي ذر في الماء جاء من اجتهاده في فهم الآية الكريمة : ] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالالناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فيسبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } 34 { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذاما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [ ([155]) وروي البخاري عن أبي ذر ما يدل علي أنه فسر الوعيد : ] يوم يحمى عليها .... [ الآية وكان يخوف الناس به ،فعن الأحنف بن قيس قال : جلست إلي ملأ من قريش في مسجد المدينة ، فجاء رجل خشنالشعر والثياب والهيئة ، حتى قام عليهم ، فسلم ثم قال : بشر الكانزين برضف ([156])يحمي عليه في نار جهنم ثم يوضع علي حلمه ثدي أحدهم ، حتى يخرج من نغضي ([157]) كتفه ويوضع علي نغض كتفه حتى يخرج من حلمه ثديه ، يتزلزل ([158]) ، ثم ولي فجلس إلي سارية ، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو ، فقلتله : لا أري القوم إلا قد كرهوا الذي قلت . قال : إنهم لا يعقلون شيئا . واستدلأبو ذر رضي الله عنه بقول رسول الله r : ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا ،أنفقه كله ، إلا ثلاثة دنانير ([159]).


    4- وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذر ، وحملوا الوعيد علي مانعي الزكاة ،واستدلوا علي ذلك بالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، قال : قال النبي r : ليس فيما دون خمس أواق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود صدقه ،وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ([160]). وقال الحافظ ابن حجر : ومفهوم الحديث أن ما زاد علي الخمس ففيه صدقة ،ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة ، فلا وعيد علي صاحبه ، فلا يسمي ما يفضل بعدإخراجه الصدقة كنزا . ([161]) وقال ابن رشد : فإن ما دون الخمس لا تجب فيه الزكاة وقد عفي عن الحق فليسبكنز قطعا ، والله قد أثني علي فاعل الزكاة ، ومن أثني عليه في واجب حق المال لميلحقه ذم من جهة ما أثني عليه فيه ، وهو المال ([162])، قال الحافظ : ويستخلص أن يقال : ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمي كنزا ؛لأنه معفو عنه فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك ؛ لانه عفي عنه بإخراج ما وجب منهفلا يسمي كنزا ([163]) .


    وقال ابن عبد البر : والجمهور علي أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته ،ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إذا أديت زكاة مالك ، فقد قضيت ماعليك .. ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر ([164]) .


    5- ولعل مما يفسر مذهب أبي ذر في الإنفاق ، ما رواه الإمام أحمد عن شداد بنأوس ، قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله r فيه الشدة ثم يخرج إلي قومه ، يسلم لعله يشدد عليهم ، ثم إن رسولالله r يرخص فيه بعد ، فلم يسمعه أبوذر فيتعلق أبو ذر بالأمر الشديد([165]) .


    6- قوله : إن شئت تنحيت فكنت قريبا ، يدل علي أن عثمان طلب من أبي ذر أنيتنحي عن المدينة برفق ، ولم يأمره ، ولم يحدد له المكان الذي يخرج إليه ، ولو رفضأبو ذر الخروج ما أجبره عثمان علي ذلك ، ولكن أبا ذر كان مطيعا للخليفة ؛ لأنه قالفي نهاية الحديث : لو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت ([166])، ومما يدل علي أنه يمقت الفتنة والخروج علي الإمام المبايع ، ما رواه ابنسعد في أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة : إن هذا الرجل فعل بكوفعل ، هل أنت ناصب له راية – يعني مقاتله ؟ فقال : لا ، لو أن عثمان سيرني منالمشرق إلي المغرب لسمعت وأطعت ([167]).


    7- والسبب في تنحي أبي ذر عنالمدينة ، أو طلب عثمان منه ذلك ، أن الفتنة بدأت تطل برأسها في الأقاليم ، وأشاعالمبغضون الأقاويل الملفقة ، وأرادوا أن يستفيدوا من إنكار أبي ذر متعلقا برأيهومذهبه ، ولا يريد أن يفارقه ، فرأي عثمان رضي الله عنه تقديم دفع المفسدة علي جلبالمصلحة ؛ لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طلاب العلم ،ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذهالمسألة .


    8- قال أبو بكر بن العربي : كان أبو ذر زاهدا ، ويري الناس يتسعون فيالمراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم ، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم، وهو غير لازم ، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام ، فخرج إلي المدينة فاجتمعإليه الناس ، فجعل يسلك تلك الطرق فقال له عثمان لو اعتزلت . معناه أنك علي مذهبلا يصح لمخالط الناس .... ومن كان علي طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه ،أو يخالط الناس ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة ، فخرج زاهدا فاضلا ،وترك جلة فضلاء ، وكل علي خير وبركة وفضل ، وحال أبي ذر أفضل ، ولا تمكن لجميعالخلق ، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل ([168]) .


    وقال ابن العربي : ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام ، وكان أبو الدرداءزاهدا فاضلا قاضيا لهم ( في الشام ) فلما اشتد في الحق وأخرج طريقة عمر بن الخطابفي قوم لم يحتملوها ، عزلوه ، فخرج إلي المدينة وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال ، وابو الدرداء وأبو ذر بريئان من كلعيب ، وعثمان برئ أعظم براءة ،وأكثر نزاهة ، فمن روي أنه نفي فهو كله باطل . ([169])


    9- ولم يقل أحد من الصحابة لأبي ذر إنه أخطأ في رأيه ، لأنه مذهب محمود لمنيقدر عليه ، ولم يأمر عثمان أبا ذر بالرجوع عن مذهبه ، وإنما طلب منه أن يكف عنالإنكار علي الناس ما هم فيه من المتاع الحلال ....، ومن روي أن عثمان نهي أبا ذرعن الفتيا مطلقا ، لم تصل روايته إلي درجة الخبر الصحيح ([170]). والذي صح عند البخاري أن أبا ذر قال : لو وضعتم الصمصامة علي هذه – وأشارإلي قفاه – ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي r قبل أن تجيزوا علي ؛لأنفذتها ([171])، وفي البخاري ، لم يرو أن عثمان نهي أبا ذر عن الفتيا ؛ لأن نهي الصحابيعن الفتيا دون تحديد الموضوع ، أمر ليس بالهين ([172]) .


    10- ولو كان عثمان نهاه عن الفتيا مطلقا ، لاختار له مكانا لا يري فيهالناس ، أو حبسه في المدينة ، أو منعه دخول المدينة ، ولكن أذن له بالنزول في منزليكثر مرور الناس به ؛ لأن الربذة كانت منزلا من منازل الحاج العراقي ، وكان أبو ذريتعاهد المدينة ، يصلي في مسجد رسول الله r . وقال له عثمان : لو تنحيت فكنت قريبا . والربذة ليست بعيدة عنالمدينة ، وكان يجاورها حمى الربذة الذي ترعي فيه إبل الصدقة ، ولذلك يروي أنعثمان أقطعه صرمة من إبل الصدقة ، وأعطاه مملوكين ، وأجري عليه رزقا . وكانتالربذة أحسن المنازل في طريق مكة ([173])، وبعد أن ذكر الإمام الطبري الأخبار التي تفيد اعتزال أبي ذر من تلقاءنفسه قال : وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأمورا شنيعة كرهتذكرها ([174]) .


    إن الحقيقة التاريخية تقولإن عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذر رضي الله عنه إنما استأذنه ، فأذن له ، ولكنأعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه ، ولذلك لما سأل غالب القطان، الحسن البصري : عثمان أخرج أبا ذر ؟ قال الحسن : لا معاذ الله ([175]) ، وكل ما روي في أن عثمان نفاهإلي الربذة ، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة ، مع ما في متنه من نكارةلمخالفة للمرويات الصحيحة والحسنة ، التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلي الربذةوأن عثمان أذن له ([176])، بل إن عثمان أرسل يطلبه منالشام : إنا أرسلنا إيك لخير ، ليجاورنا بالمدينة ([177]). وقال له أيضا : كن عنديتغدو عليك وتروح اللقاح ([178])، أفمن يقول ذلك له ينفيه ([179])؟ ولم تنص علي نفيه إلارواية رواها ابن سعد ، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي ، الذي قال عنه الحافظ ابنحجر : ليس بالقوي وفيه رفض . فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحةوالحسنة ([180])؟ ، واستغل الرافضة هذهالحادثة أبشع استغلال ، فأشاعوا أن عثمان رضي الله عنه نفي أبا ذر إلي الربذة ،وأن ذلك مما عيب عليه من قبل الخارجين عليه أو أنهم سوغوا الخروج عليه ([181])، وعاب عثمان رضي الله عنهبذلك ابن المطهر الحلي الرافضي المتوفي سنة 726هـ بل زاد أن عثمان رضي الله عنهضرب أبا ذر ضربا وجيعا ([182])، ورد عليه شيخ الإسلام ابنتيمية ردا جامعا قويا ([183])، وكان سلف هذه الأمة يعلمونهذه الحقيقة ، فإنه لما قيل للحسن البصري : عثمان أخرج أبا ذر ؟ قال : لا ، معاذالله ([184])، وكان ابن سيرين إذا ذكر لهأن عثمان رضي الله عنه سير أبا ذر ، أخذه أمر عظيم ، ويقول : هو خرج من نفسه ، ولميسيره عثمان ([185])، وكما تقدم في الروايةالصحيحة الإسناد – أن أبا ذر رضي الله عنه لما راي كثرة الناس عليه خشي الفتنة ،فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج ، فقال له عثمان رضي الله عنه : إن شئتتنحيت فكنت قريبا ([186]).

    (9)


    أخرج من الشام أبا الدرداء



    - ومما يلحق بعثمان من تهمهي تهمة أبي الدرداء حيث يروي أنه وقع بين أبي الدرداء ، ومعاوية كلام . وكان أبوالدرداء . زاهدا فاضلا قاضيا لهم (في دمشق) فلما اشتد في الحق ، ونهج طريقة عمر فيقوم لم يحتملوها عزلوه ([187]) ، فخرج إلي المدينة . وهذهكلها مصالح لا تقدح في الدين ، ولا تؤثر في منزله أحد من المسلمين بحال . وأبوالدرداء وأبو ذر أكثر ( براءة ) فلا يصح ان يلحق بهم عيب كما أن أمير المؤمنين وعثمانبرئ أعظم براءة وأكثر نزاهة ، فمن روي أنه نفي أحدا منهما فهو كاذب .

    (10)


    أعطي مروان خمس أفريقيا



    أما ما قيل عن عثمان أنهأعطي خمس خراج افريقية لمروان فهذا مجرد كذب وإفتراء فالمراد هنا ليس مروان ولكنهعبد الله بن سعد بن أبي السرح ([188]). علي أنه قد ذهب مالكوجماعة إلي أن الإمام يري رأيه في الخمس ، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده . وأنإعطاءه لواحد جائز ([189]) ، ومن الخطأ الواضح مايزعمه الزاعمون أن عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم ، فمودته ذوي قرابته من فضائله، وعلي أثني علي عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم ، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله: (( وقالوا : أني أحب أهل بيتي وأعطيهم . فأما حبي لهم فأنه لم يمل معهم علي جور، بل أخمل الحقوق عليهم . وأما أعطاؤهم فأني أنما أعطيهم من مالي ، ولا استحلأموال المسلمين لنفسي ، ولا لاحد من الناس . وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبةمن صلب مالي أزمان رسول الله e وابي بكر وعمر ، وأنا يومئذ شحيح حريص . أفحين أتت علي أسنان أهلبيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا ؟

    (11)


    أتمامالصلاة في مني



    كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر إبان الحج فيصلي الصلاة الرباعية ركعتين فيمني ، وتبعه على ذلك الخليفتان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أما عثمان ففعل ذلك فيالسنوات الست الأولى من خلافته، ثم اجتهد بعدها فأتمهما أربعاً. وخالفه في ذلك عددمن الصحابة رضي الله عنهم منهم ابن عمر الذي أوضح أن السنة القصر، كما فعلها النبيصلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان صدراً من إمارته ([190]) .


    ورُوي أن الناسأنكروا على عثمان ذلك، فبيّن لهم سبب إتمامه ([191]) .


    وحجته في ذلكوتذكر أنه سمع أن الأعراب الذين حجوا معه العام الماضي قصروا الصلاة في أوطانهم،واحتجوا بمنى فأتم ليعلمهم أن الصلاة أربع، وذلك خوفاً من أن يستنوا به، وخطبالناس، وأعلمهم بأن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه، ولكنهحدث من الناس فخاف أن يستنوا به . وذكر الحافظ ابن حجر: أن الزهري قال: "إنماصلى عثمان بمنى أربعاً؛ لأن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهمأن الصلاة أربع" . وعن ابن جريح أن أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنينما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين.


    واختار ذلك الحافظ ابن حجر، ثم قال بعد أن ذكر بعض هذهالطرق: "وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سببالإتمام".


    والذي يبدوا -والله أعلم- أن اختيار الحافظ ابن حجر اختيار قوي تدل عليهالروايات المقبولة. وهو: أن عثمان رضي الله عنه أتم ليعلم الأعراب أن الصلاةالرباعية أربعاً، وفعل ذلك في منى؛ لأنه مقيم فيها نوع إقامة، وغير جاد في السير. ([192])




    (12)


    كان عمر يضرببالدرة وعثمان بالعصا



    وأما قولهم أنه ضرب بالعصا ، فهذا أمر لم نستدل عليه ولم يرد إلا في بعضالروايات الضعيفة فهو زعم وباطل ( وما العجب في ذلك إن ضرب بالعصا أو بالدرة فكلاهمازجر وتعذير للمخالفين عن الدين وليس في ذلك حرج علي عثمان ) .

    (13)


    أرتفع درجة عن منبر الرسول وأبي بكر



    وأما ما يقولونه أن عثمان قد أرتفع درجة علي درجة رسول الله e في منبر مدينة رسول الله فهذاإشاعة ليثيروا الناس ويغيروهم علي عثمان ، وقد قال العلماء في ذلك قولا سديدا فلوصح أنه فعل ذلك فهل يستحق عليه القتل ؟ وإذاكان قد أرتفع درجة علي درجة رسول الله وتعداه كما يقولون فلم لم ينكر الصحابة عليهذلك ؟ ولكن علي ما يبدوا أنهم راؤا جواز ذلك لسبب أو لأمر تطلبه تطور العصر فقدكان مسجد رسول الله e ضيق المساحة في عصر النبوةوخلافة أبي بكر ، وكان من مناقب عثمان في زمن النبي e عندما زاد عدد الصحابة أنه أشتري من ماله مساحة من الأرض وسع بهاالمسجد النبوي ، ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب .ثم أزداد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها فوسعه أمير المؤمنينعثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه .فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أماكن بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون منضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه .

    (14)


    كتب إلي أبي السرحبقتل حاملي الخطاب



    وأما موضوع الكتاب الذي أرسله عثمان مع أحد غلمانه إلي عبد الله بن سعد بنأبي سرح يأمره بقتل حامليه . فينبغي أن يلاحظ هنا ملاحظتين :


    الأولي : أنهم قالوا أرسله مع غلام الصدقة وغلمان أبلالصدقة ألوف كثيرة وهم يتبادلون دائما الأمر الذي يجعلهم غير معروفين للمشرفونعليهم فكيف يعرفهم أمير المؤمنين عثمان ؟


    والملاحظة الثانية : علي افتراض أنه من رعاة ابل الصدقة فهذا ييسر لهم انيستأجر هؤلاء البغاة واحدا منهم ومما يدعم هذا الرأي أنه قد ثبت أن الأشتر وحكيمبن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها وفي تلك المدة التي تخلف فيهاالاثنان تم تدبير أمر الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار وقدكان لهؤلاء المتمردين من حيل أكثر التواء من استئجار راع يرعي أبل الصدقة بل ذكرواعن محمد بن أبي حذيفة ربيب عثمان والخارج عن طوعه أنه كان في نفس الوقت موجودا فيمصر يؤلب الناس علي أمير المؤمنين ويزور الكتب علي لسان أزواج النبي e إلي غير ذلك من الحيل ذكرها صاحب العواصم من القواصم (صـ119) . فقد قال لهم عثمان : أما أن تقيموا شاهدين علي (بذلك) ، والا فيميني أني ماكتبت ولا أمرت ([193]). وقد يكتب علي لسان الرجل ، ويضرب علي خطه ، وينقش علي خاتمه .


    ثم طلبوا من عثمان أن يسلم لهممروان . فقال : لا أفعل . ولو سلمه لكان ظالما (يري ابن تيمية أن عثمان إن كان أمربقتل محمد بن أبي بكر فهو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان بأن عثمان إمام هديوخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله أما الذين طلبواقتل مروان فهم من الخوارج المفسدون في الأرض وليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد وليسمروان أولي بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هذا الأخير أشهر بالعلم والدينمن مروان بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان . ([194]) ، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهمعنده علي مروان وسواه ، فما ثبت كان هو منفذه ، وآخذه وهل رفضه تسليم مروان لهميستوجب الخروج علي الخليفة وقتله ؟!! .


    وأمثل ما روي في قصته أنه – بالقضاء السابق – تألب عليه قوم لأحقاداعتقدوها : ممن طلب أمرا فلم يصل إليه ، وحملهم علي ذلك قلة دين وضعف يقين ،وإيثار العاجلة علي الآجلة . وإذا نظرت إليهم لتأكد لك دناءة (قدرهم ) وبطلانأمرهم ([195]) .


    أما الغافقي المصري أمير القوم ،وكنانة بن بشر التجيبي ، وسودان ابن حمران ، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وحكيم بن جبلة من أهل البصرة ،ومالك بن الحارث الأشتر في طائفة هؤلاء هم رؤوسهم .


    وقد كانوا أثاروا فتنة ، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد ، وصاروا في جماعتهم عندمعاوية فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحالوهتك حرمه الأمة ، حتى قال له زيد بنصوحان (يوما ) – فيما يروي -: (( كم تكثرعلينا ( من الأمرة ) وبقريش ، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريشتجاهد . فقال له معاوية : (( لا أم لك .أذكرك بالاسلام وتذكرني بالجاهلية ! قبح الله من كثر علي أمير المؤمنين بكم ، فماأنتم ممن ينفع أو يضر . اخرجوا عني )) .

    (15)


    ضياع خاتم الرسول


    اتخذ رسول الله صلىالله عليه وسلم خاتماً من ذهب -أو فضة- وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسولالله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها ألقاه، وقال: لا ألبسه أبداً، ثماتخذ خاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتم الفضة.



    وتوارث لبس هذا الخاتم الخلفاء من بعده؛ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضي اللهعنهم حتى وقع منه في بئر أريس .([196])


    ويبين لنا أنس رضي الله عنه قصة ضياعه والبحث عنه، فيقول: إن عثمان رضي اللهعنه جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم فجعل يعبث به، فسقط، فاختلفنا ([197]) ، ثلاثة أيام مععثمان رضي الله عنه ننزح البئر، فلم نجده ([198]) . وفي رواية لمسلمإن الذي أسقطه هو: معيقيب ([199]) . وتبين لنا رواية ابن سعد والنسائي، تاريخ وقوع الخاتم، وأنهكان في يد عثمان رضي الله عنه ست سنين، أي إنه وقع بعد تولي عثمان رضي الله عنهالخلافة بست سنين .


    قال الحافظ ابن حجر: "قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلممن السر شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهبملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر، وخرج عليهالخارجون، وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان" ([200]) .


    وكل ذلك يحتاج إلى دليل صحيح، وإلا فلا عبرة فيه ولا فائدة، لأن خلافة النبيصلى الله عليه وسلم لم تضع بقتل عثمان رضي الله عنه بل جاء بعده خلفاء أجلاء فيمقدمتهم علي ثم معاوية رضي الله عنهما. ولمأقف على رواية مسندة تبين أن الخارجين على عثمان رضي الله عنه عابوه بذلك، وسوغواخروجهم عليه به. وليس في ضياع خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الخروج علىالإمام، فضلاً عن قتله ، هذا إن صحّ أنهم اتخذوا وقوع الخاتم ذريعة وسببا لخروجهمعلي أمير المسلمين عثمان بن عفان .([201])

    (16)


    هل كان عثمانضعيفا عاجز عن إدارة الدولة ؟



    ربما يُقال أن من أسباب الثورة على عثمان ، أنهما كان أهلا للقيام بأعباء الخلافة لضعفه وعجزه و عدم أهليته .كما يشاع علي ألسنةالجهلة والحانقين علي الإسلام . فهل هذاالزعم صحيح ؟ إنه زعم باطل ، لأنه:-


    أولا، أن الصحابة الكرام هم الذين بايعواعثمان بالإجماع لتولي الخلافة ،و لو لم يكن أهلا لها ما قدموه و ما بايعوهبالإجماع.


    ثانياأن لعثمان مواقف تدل على حزمه و تأديبه و توبيخه لولاته و رعيته ، منها ما سبقذكره من أنه عندما شرب الوليد بن عقبةالخمر ، حدّه و عزله عن إمارة الكوفة . و عندما سمع أن عامله على البصرة عبد الله بن عامر قد أحرم للحج من نيسابور شكرالله على أثر فتحه لخُراسان، أنكر عليه فعله ، وأرسل إليه يتوعده ،و يقول له لقدتعرّضت للبلاء ([202]) .


    ثالثا:- أيضا أن بعض الناس لما رأوا أن عثمان قدلان لهم ووصلهم ([203]) ، وجدوا في ذلك مدخلا لمعارضته ، فيُروىأنه عندما أراد توسيع المسجد الحرام بعدما ضاق بالمصلين- سنة 26هـ ، أبتاعمن قوم منازلهم ،و أبى آخرون بيعها له ، فهدمها رغم أنفهم ،و وضع الأثمان في بيتالمال ، فصاحوا به فأمر بحبسهم ،و قال لهم : (( ما جرأكم عليّ إلا حلمي ، و قد فعلبكم عمر فلم تصيحوا به )) ([204]). فهؤلاء ظنوا أن الخليفة الليّن الحليم سيتراجع أمام رفضهم و احتجاجهم ، لكنهخيّب ظنهم ،واتخذ منهم موقفا حازما ،و إجراء رادعا عندما تعلّق الأمر بهيبة الدولة،و بمصلحة المسلمين العامة .


    رابعا:- أن عثمان لم يكن غافلا عما يجري فيالأمصار ، فقد كانت التقارير تصله من ولاته عن أوضاع البلاد ،و تحركات المشاغبينعليه ، فقد رُوي أنه أمر بتسيير هؤلاء المشاغبين من مصر إلى الشام ، فحبسهم أميرحمص : عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، و أدبهم و أذلهم حتى أظهروا الندم و التوبة، و أرسلوا الأشتر النخعي نائبا عنهم إلى عثمان لينقل إليه ندمهم و توبتهم ([205])، لكنهم ما إن أطلقوا حتى عادوا إلى فتنهم ، فنظّموا صفوفهم و قدموا المدينة سنة35 هـ ، و لمحاولة قال الخليفة ([206]).


    ويلاحظ على عثمان من خلال تلك الحادثة- أنه لم يتخذ ضد هؤلاءإجراءات قمعية صارمة في بدايات ظهورهم و بعده تكون كافية لردعهم ووضع حد لهمكالنفي و القتل ،و السجن لمدة طويلة ، ربما لأنه كان يعتقد أن أمر هؤلاء ليس خطيرالقلتهم و ضعفهم ،و أن الحال لا يصل بهم إلى قتل خليفة المسلمين .


    - وقد وقع في أوهام كثير من الناس أن عثمان - رضي الله عنه - كان ضعيفا في موقفه من الفتنةالتي أحاطت به ، أو مستضعفا يُساق إلى ما يُراد له ،. و هذا خطأ تاريخي فاحش يجبتصحيحه ، فقد كان في وسعه أن يتخذ ولاة من : يزيدبن معاوية ، و عبد الملك بن مروان ،و ابنه الوليد ، فيُحكّمهمفي رقاب المسلمين ، ليستبيحوا البلاد،و يُذلوا العباد ، لكنه لم يفعل ذلك لأنهخليفة راشد يسوس الناس بالعدل،و راعيا شفيقا يرعاهم بالرحمة و الليّن . و قد رأىأن له من الحقوق على رعيته ما كانلصاحبيه الصديق و عمر من قبله ، لكن أهل الأهواء و دعاة الفتنة أبو عليه ذلك ، و أنى له من (( رعية الصديق و الفاروق ،و كان عثمان من رعيتهما ،و كان ابنسبأ و أضرابه من رعيةعثمان )) ([207]) .


    و تبرز شجاعة عثمان وقوة نفسه ، في أنه كان من السابقين الأولين لاعتناق الإسلام ، فتحدى قومه ،و تحملالعنت ،و هاجر إلى الحبشة مرتين من أجل دينه ،و جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته .و عندما حاصره الأشرار لم يستجبلهم في ترك الخلافة ، و كان يخرج لأداء الصلاة في المسجد إلى أن منعوه من الخروجوضيّقوا عليه ، لكنه ظل متمسكا بموقفه ، و منع الصحابة أولادهم من الدفاع عنه ،وأمرهم بالانصراف إلى بيوتهم . فلو كان ضعيفا جبانا لأمر بقتال الثائرين عليه، أولهرب لينجوا بنفسه ، أو لاستجاب لمطالبهم و عزل نفسه لكي لا يقتلوه ، لكنه لم يفعلذلك ، و صبر على المحنة و لم يتزعزع ، حتى أتته الشهادة التي بشره بها رسولالله عليهالصلاة و السلام ([208]).


    فأثبت بذلك أنه كان قوي الإيمان ، ثابتاليقين ، كبير النفس ، صبورا على البلاء ، أبت عليه عقيدته و شجاعته أن يُقتلالناس من أجله ، أما إذا كانت الشجاعة (( سفكا للدماء ،و تقتيلا للأبرياء ،و نهباللأعمار ،و سلبا للأموال ، و إرعابا للآمنين ، و ظلما و عدوانا ، فليست هذهالشجاعة من عثمان في شيء ،و ليس عثمان منها في شيء )) ([209]). إنه اختار الشهادة ،و فدى الناس بنفسه ،و باء الأشرار بجريمته الشنعاء .

    (17)


    : هل كان الناس يعانون من الظلم الاقتصادي والسياسي فيعهد عثمان ؟



    من المعروف لديعلماء الاجتماع ان حالة المجتمع ونشاط أفراده تتأثر تلقائيا بالنشاط السياسي منناحية والنشاط الاجتماعي من ناحية أخرى فكلاهما يؤثر في تقدم المجتمع أو تأخره فهلكان الناس في عهد عثمان يعانون من مشكلات سياسية أو اقتصادية عجزت الخلافة في عهدعثمان عن حلها لضعفه وقلة حيلته أم كان الأمر عكس ذلك تماما كان ازدهارا اقتصادياوسياسة رشيدة هذا ما سنعرفه من الدراسة التالية :


    أولا :- الجانب الاقتصادي :-


    ربما يظن بعض الناسأن الثائرين على عثمان كانوا يعانون من الظلم الاقتصادي لذا ثاروا عليه . فهل هذاالظن صحيح ؟ إنه ليس صحيحا ، لأن عهد عثمان لم يعرف ظلما اقتصاديا ، فقد كثرت فيهالأموال و الخيرات ، حتى تكدست و ضاق بها عثمان ذرعا ، فاتخذ لها خزائن ،و قسّمهاعلى الناس ، فكان يأمر للرجل الواحد بمائة ألف بدرة ([210])في كل بدرة أربعة آلاف أوقية ([211]). و قد صحّ الخبر أن الناس في زمن عثمان كانوا يأخذون أعطياتهم وافرة ،و يستلمونأرزاقهم وافية ، و ما من يوم يمر إلا و يقتسمون فيه خيرا كثيرا ، و كان المنادييناديهم أن اغدوا على الملابس ،و السمن و العسل.


    و أشير هنا إلى أنه قد صدرت عن عثمان رضي الله عنه بعض تصرفات في توزيعالثروة ، أنكرها عليه أناس من رعيته ، كان هو فيها مجتهدا ، انطلاقا من وجهة نظرفقهية .


    1)منها أنه لم يسو بين المسلمين في العطاء كما فعل أبو بكر و علي -رضي الله عنهما - ، و انما اتبع طريقة عمر بنالخطاب ([212])


    رضي الله عنه فيالتفضيل بين الناس في العطاء ، حسب مراتبهم في الإسلام ، و هذه مسألة فقهية اختلفتفيها اجتهادات الفقهاء ([213]).


    2) منها أيضا أن عثمان كان له رأي فيما يخص خمسالغنائم ، خالف به غالبية الفقهاء ، و مفاده هو أن العلماء قد اختلفوا في خمسالغنائم بعد وفاة الرسول عليه الصلاة و السلام- فقال بعضهم سقط الخمسبعده ،و قال آخرون إن الخمس لذوي قربى الإمام بعد الرسول- يقسّمه على أقاربه ، و هذاالرأي قال به عثمان و الحسن بن علي ، و قال آخرون إن الخمس يُترك لاجتهاد الإماميقسمه بنفسه في طاعة الله و رسوله ، و هذا رأي أكثر السلف ،و أصح الأقوال دلّ عليهالكتاب والسنة ([214]).


    3) و قد جعل عثمانالعاملين على الأموال ممن لهم نصيب في العطاء ، و إن كانوا أغنياء قياسا علىالعاملين على الزكاة ([215]). و كان يرى أن قبيلة بني أمية و هو منها عددها كبير ،و معاشها قليل لذا فمن حقها عليه أن يزيدها في العطاء ([216])، لذلك كان يعطي لكل الناس حقوقهم ،و يزيد لأقاربه أكثر ، مجتهدا في الإحسان إليهم.و قد وافقه على اجتهاده طائفة من الفقهاء كالإمام مالك ، إذ رأت أن من حق الإمامالتصرّف في الخمس حسب اجتهاده ، و إن أعطاه لواحد فجائز ([217]).


    4) و قد اُتهم عثمانبأنه بالغ في إعطاء الأموال لبعض أقاربه ، فروى اليعقوبي ، أن المسلمين لما فتحواإفريقيا سنة 27 هـ، غنموا ما مقداره : 2520000 دينار ، فأعطى عثمان ذلك المبلغلمروان بن الحكم عندما تزوّج بابنته ([218])- أي بنت عثمان - . و هذا الخبر انفرد به اليعقوبي عن غيره من المؤرخين ([219])فلا يعتد به في الزعم بأن عثمان أعطى خمس غنائم إفريقيا لمروان بن الحكم ، لأن منالثابت في المصنفات التاريخية المعروفة ، أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أخذ خمسالخمس لنفسه ، ثم استرده منه الخليفة و أمره بتقسيمه على جنده ، أما باقي الخمسفأرسله إلى عثمان، وأخذ الجنود نصيبهم المتعارف عليه من الغنيمة . و لم تذكرالمصادر المتوفّرة ما الذي فعله عثمان بالذي أُرسل إليه من باقي الخمس ([220]).


    ومن جهة أخرى فإن اليعقوبي لم يذكر لخبره إسنادا ، و اكتفى بقوله : و روى بعضهم ([221])، وهذا دليل آخر يكفي لرد روايته التي فقدت شرطا أساسيا من شروط صحة الخبر .


    و في رواية أخرى يقولالواقدي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، بعث إلى عثمان أموالا قيمتها :2520000دينار ، فأعطاها بكاملها لآل الحكم ،و قيل لآل مروان ([222]). فالمبلغ الذي ُأرسل إلى الخليفة حسب هذه الرواية هو نفسه مجموع ما غنمه المسلمون على ما ذكرته رواية اليعقوبي ، و هذا ما يشكك فيرواية الواقدي ،و يعارضها و يزيدها ضعفا ، لأن هذه الرواية أي رواية اليعقوبي نصت على أن الذي أرسل لعثمان هو خمس ذلك المبلغ و ليس كله . كما أن رواية الطبري ،و ابن كثير و الذهبي ، قد نصت على أنه لم يرسل إلى عثمان إلا أربعة أخماس الخمس ،وقدره : 400 ألف دينار من مجموع الغنيمة الذي ذكره اليعقوبي . و هذه الرواية لاتصح أيضا من حيث الإسناد.


    و يرى ابن تيمية أن المبلغ حسب رواية الواقدي الذي قيل أن عثمان أعطاه لأقاربه هو مبلغ قد بولغ فيه جدا ، لأنه لم يثبتأن عثمان رغم سخائه جاد بذلك المبلغ الكبير ، و حتى الخلفاء منبعده لم يعطوا ذلك المبلغ ، فمعاوية الذي كان يعطي أكثر من عثمان ، غاية ما أعطاهللحسن بن علي : 100 ألف أو ثلاثمائة ألف درهم ، فقيل آنذاك أنه لم يعط هذا أحد قط ([223]).


    و حتى إذا افترضنا جدلا صحة تلك الرواية فإن ما قام به عثمان ليسبحرام ، و ذلك أن جماعة من الفقهاء - منهممالك بن أنس - قالوا أن من حق الإمام التصرّف في الخمس حسب اجتهاده ،و إن أعطاهلواحد فجائز ([224]).


    وبناء على ما ذكرناه عن قضية الخمس ، فإنه ليس من المستبعد أن يكون عثمان قد وزّع أربعة أخماس الخمس التي وصلته من غنائمإفريقيا ، على بعض أقاربه لكن ليس بالكمية التي ضخّمها المبالغون المفترون عليه.


    و روى اليعقوبي أن أقارب عثمان كانوا يتصرفونبكل حرية في أموال بيت مال المسلمين لمصالحهم الخاصة ،و أن عثمان كان إذا أجازأحدا من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال ([225]). و هذا اتهام خطير لخليفة المسلمين ،و طعن في أمانته ، فهل هذا الخبر صحيح أعتقد أنتلك الرواية رواية غير مقبولة وقد أنفرد بها اليعقوبي كما جاء بها دون إسناد .وعلي صحة روايتها فإن هذا الخبر يخالف تماما الروايات الصحيحة التي رويت عن عثمانرضي الله عنه والذي كان دائما يتحري أن يعطي من ماله الخاص ولا يقرب مال المسلمينفلا يجيزها لنفسه ولا يحلها لغيره كما دأب ان يأخذ من مال الأمصار الخمس فقط ويتركالباقي لبيت المال ليوزع علي المسلمين فقرأ معي قسمه الذي كان دائما يكرره ( أما والله ما أكله من مال المسلمين ، و لكني آكله من مالي ) وكان دائما يستشير صحابةرسول الله في المال الذي يعطيه لأقاربه فإن أشاروا بالمنع فيردوا تلك الأموال فكانيقول ( فأمر لأمركم تبع قالوا أصبت وأحسنت ) ([226]).


    فينبغيأن نتحرى الدقة في قبول الأخبار التي تليق بكبار الصحابة رضوان الله عليهم وأننرفض تماما الأخبار التي تخدش حياء هذه الكوكبة من الصحابة ولو افترضنا أن عثمانكان ينفق علي أقاربه من الخمس الذي يأتيه فماذا يعيب هذا ؟ أليس بحق الإمام أنيتصرف في ذلك الخمس في أن ينفقه علي الفقراء والمساكين وعلي أقارب الإمام كما كانيفعل الرسول e فكان عثمان يري أن خمس الغنائم للإمام وأقاربه فإذا أعطاهم منهفقد صح فعله ولا مأخذه عليه في ذلك .


    ولشيخ الإسلام ابن تيمية مقارنة جيدة ، بين تصرفات عثمان و علي -رضي الله عنهما - ومفادها أنه بما أننا لاننكر على علي بن أبي طالب ، على توليته أقاربه ،و قتاله للمسلمين ، لأنه كانمجتهدا ، فإنه علينا أيضا أن لا ننكر على عثمان اجتهاده في الأموال ، و أمر الدماءأخطر من الأموال ، و الشر الذي حدث في الأمة بسبب الدماء أضعاف الشر الذي حصلبإعطاء الأموال ، و ما وقع في خلافة علي أقرب إلى الملام ، مما وقع في خلافة عثمان،و قد جرى في عهده من الخير ما لم يجر مثله في خلافة علي .و اجتهاده أي عثمان كان أقرب إلى المصلحة و أبعد عن المفسدة ،من اجتهاد علي . لذا فإنه إذا كنا نتولى عليا و نحبه ، فبطريق أولى أن نتولى عثمانو نحبه بدلالة الكتاب و السنة ([227]) .


    و قد صدق الباحث محمدالصادق عرجون ، حين قال : إنه لم يكن واجبا على عثمان السيّر على نهج الصديق والفاروق، عندما حرما نفسيهما احتسابا لوجه الله ،لأن هذا الحرمان مرتبة فوق الحق و أعلىمن العدل ، و الشريعة لم توجبه ، لأن الواجب على الإمام هو الحق و العدل ، فإذاوصل الحق إلى أهله ، و تحقق العدل بين الناس ، فليس عليه حرج ، و له أن يُنفّل منشاء بما شاء لمصلحة يراها .و من حقه الإحسان إلى أقاربه و الاعتماد على من يراهمنهم قديرا على تحمّل المسؤوليات ([228]).


    وختاما لما ذكرناه يتبين لنا ، أن عثمان في تصرّفه في الأموال انطلق من اجتهاد فقهي، و لم يتصرّف فيها بهوى و عصبية .و قد كثُرت في أيامه الخيرات ،و وصلت الأرزاقإلى كل الناس ، وعمهم الرخاء ،ولم ينالهم ظلم اقتصادي . لكنه أي عثمان أعطى أقاربه أكثر مما أعطي غيرهم من رعيته ،متأولا صلة الرحم ،وحاجة قبيلته الماسة للمال ، انطلاقا من نظرته الفقهية للخمس ،وقد وافقه عليها بعض الفقهاء.


    ثانيا : الجانب السياسي :-


    قديخطر على بال كثير من الناس أن الناقمين على عثمان و ولاته ، ما دفعهم إلى الثورةعليه و قتله إلا الظلم السياسي . فهل هذا صحيح ؟ ، إنه ليس صحيحا ، لأن أيامه أي عثمان تجلّت فيها مظاهر العدل السياسي بشكل كبير ،منها أن عهده تمتع بالأمن و الاستقرار و الرخاء ، و قد صحّ الخبر في أن أيامه أي عثمان كان فيها العدو مُتقى شره ، و الخيرات كثيرة، و الناس في وئام ، يغمرهم الحب و الإخاء و الألفة ،و لا يخاف مؤمن مؤمنا فيالأمصار الإسلامية. فهذا كله من أثار العدل السياسي علي مستوى الخليفة و ولاته ورعيتهولاسيما في النصف الأول من خلافة عثمان أي السنين الست الأولى .


    و منها أيضا أن عثمان كان بابه مفتوحا للناس، فيستقبلهم و يسمع منهم ،و يعدل بينهم ، فعندما شكوه من واليه على الكوفة :الوليد بن عقبة و شهدوا عليه بشربه للخمر ، حدّه و عزله من منصبه . وعندما قدمإليه وفد جنود إفريقيا ،و أخبروه أن واليه عبد الله بن سعد أخذ لنفسه خمس الخمس منالغنائم ، قال لهم بأنه هو الذي وعده بذلك إن هو فتح إفريقيا ، ثم خيّرهم بينالقبول و الرفض ، فلم يقبلوا و طالبوه بعزله ، فلبى طلبهم و أرسل إلى واليه يأمرهباقتسام ما نقّله أياه على الجند ، ويستخلف عليهم رجلا يرضاه و يرضونه ، فاستجابلما أمره به ،و انقلب عائدا إلى مصر ([229]).


    فعثمانكان من حقه أن يُنفّل قائده المظفر بما يراه أهلا له في إطار المصلحة الشرعية ،لكنه تراجع عنه وعده لأخيه من الرضاع ،و عزله عن إمرة الجيش نزولا عند رغبة جنده،و تطييبا لخاطرهم ،و لم يكن ذلك واجبا عليه.


    و عندما طرد أهل الكوفة أميرهم سعيدأ واختاروا مكانه أبا موسى الأشعري ،و طلبوا من عثمان أن يعين عليهم أبا موسى والياعليهم ، استجاب لطلبهم ، وإزاحة لعذرهم ،و إزالة لشبههم ،و قطعا لعللهم ([230]). و كان في مقدوره أن يرفض طلبهم ،و يبعث من يُأدبهم ،و يعيّن عليهم من يريده.ومنها أيضا أن عثمان لم يجعل الإمارة محصورة في أقاربه ،و لم يعين على الناس من لايصلح للإمارة ، و انما ولى عليهم أمراء أكفاء لهم قدرات تؤهلهم للقيام بأعباء الإمارة ، و هذا أمر سبق و أن أثبتناه.


    و من مظاهر العدل السياسي أن الناقمين علىعثمان و ولاته كانوا يتحركون بحرية ،و يعترضون على ولاتهم ، و يطعنون فيهم و فيالخليفة ، و لم يتخذ عثمان و ولاته ضدهم إجراءات صارمة لردعهم و قطع شأفتهم ، وهذا أمر ثابت معروف([231]) .


    فهذه النماذج و التعليقات هي أدلة تعبر عنالعدل السياسي الذي كان يتمتع به الناس أيام عثمان رضي الله عنه و هي نماذج كافية للرد على تساؤلنا : هل كانالناس يعانون من الظلم السياسي ؟ ،و تؤكد أيضا على تنوّع مظاهر العدل السياسي الذيتمتع به الناس في عهد عثمان بن عفان .


    و ختاما لما قلناه فيهذا المبحث يتبين لنا منه أن التساؤلات التي طرحناها للبحث عن أسباب الثورة علىالخليفة ، قد أثبتت أي التساؤلات أن عثمان لم يجعل الإمارة محتكرة بين أقاربه ،و لم يول منهم على الناس إلا من يصلحللإمارة .و أنه أيضا لم يكن خليفة ضعيفا عاجزا عن إدارة الدولة ، و أنه قامبمسؤولياته كاملة تجاه المسلمين ، و نشر بينهم العدل الاقتصادي و السياسي حسبقدراته و اجتهاداته . كما أنه سلك طريق الشوري التي سنها الرسول صلي الله عليهوسلم وسار علي قواعدها أبو بكر وعمر وكذلك عثمان رضي الله عنهم جميعا . وكتبالتاريخ تفيض بأخبار أثبتت أن عثمان كان دائم التشاور مع الصحابة فكان يجمعهمويقول لهم أنتم وزرائي وخاصة رأي أشيروا علي فكان يقف كل واحد منهم ويبرز رأيه بكلحرية وأمانه حتى أنهم كانوا يسيئون له القول في بعض الأحيان .







    ملاحظات متعلقة بالثورة علي عثمان



    الملاحظة الأولي : هل كانت الفتوحات في عصر عثمان مطروحة للنقد من جانب المعارضين علي نحوما أسلفناه عن المآخذ ؟ إن فتوحات عثمان لم يعترض عليها المعارضون بل لم تكنمطروحة للمآخذة . فقد ساهم عثمان مساهمة كبيرة في الفتوحات علي نفس النهج الذي سارعليه عمر بن الخطاب بل قد أبلي قواده في ميادين الحرب بلاء حسنا فاق بلاء ما صنعهعمر بن الخطاب في الفتوحات ، فالمتتبع لميداني الفرس والروم إبان عمر بن الخطابالذي اشتهر بالفتوحات العظيمة فيجد أن عمر قد مات ولم يتم افتتاح بلاد فارس كلهابل مازال كسري يزدجرد حيا يتنقل من مدينة إلي مدينة ويجتمع الناس حوله محاولا ردسلطان أهله ولم يتم تشريد ذلك الملك وقتله إلا في عهد عثمان أمير المؤمنين فقدكانت الجنود تخرج من الكوفة والبصرة للجهاد في أرض فارس يلاحقون ذلك الملك الشريدويتتبعون أنصاره ويفرقونهم حتي أنتهي أمره هاربا إلي الترك ليجد أعوان يناصرونهولكنه أنفض من حوله الأنصار وظل هكذا إلي أن قتل وأنتهت بذلك دولة الأكاسرة وانطوتصفحتها علي أيدي المجاهدين في أيام عثمان من الكوفة والبصرة .


    ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أبلي قواد عثمان بلاءحسنا حتى فتحت أرمينية في أيامه وفتحت أفريقيه ثم سلك الطريق بعد ذاك إلي الأندلس، وفي عهد عثمان أيضا كانت معارك هائلة تدور في البحر بقيادة معاوية وعبد الله بنسعد حتى غزوا الروم واقتطعوا قبرص وحققوا نصرا عزيزا في موقعة ذات السواري وتمهيمنة المسلمين علي أغلب مياه البحر المتوسط والسؤال الذي قد يتبادر إلي الذهن : لماذالم تذكر تلك الفتوحات أو يلاقي عثمان من الثناء عليها ما لقاه عمر بن الخطاب ، فقدأتيح لعثمان من القوة العسكرية مثل ما أتيح لعمر ، وأتيح له من التوسع والفتحوالقضاء علي دولة الأكاسرة وإذلال الروم في البر والبحر ما لم يتح لعمر !


    إن المشاهد من خلال قراءته الروايات التاريخية يلبس أنهذه الفتوحات قد جرت علي عثمان كثيرا من المآخذ مما جعلها مصدرا من مصادر الفتنةوالخلاف ، فقد حقتت تلك الفتوحات الكثير والكثير من الغنائم والفيء ، وربما تصرفعثمان تجاه تلك الغنائم كان قد أحفظ الجند مثلما حدث حينما وافق عثمان علي إعطاءعبد الله بن سعد خمس الخمس إذا فتح إفريقيا ، وقد سبق أن قلنا في ذلك أنه ربما أنأراد أن يشجعه علي فتح إفريقيه كما أنه قد رد تلك الاموال إلي الجنود حينما غضبواعلي عبد الله بن سعد .


    كما يبدوا أيضا أنه أحفظ المهاجرين والأنصار بتصرفه فيبعض ما كان في بيت المال من الجوهر والحلي حتى لامه المسلمين وأغضبوه فنهض وخطبخطبته التي انتهى بعدها بضرب عمار بن ياسر ، ومهما يكن من الأمر فإن هيبة الدولةكانت ومازالت قوية ولم تضعف بل كانت للدولة هيبتها في عصر عثمان وأري أن تلكالروايات التي رويت عن أمير المؤمنين عثمان حول تلك الجواهر إنما هي كاذبةومتباينة فيما بينها ، وسندها ضعيف وهذا يؤكد نزاهة عثمان بن عفان ذلك الصحابيالجليل والخليفة الراشد والذي تعلم أن دينه يأمر بعدم الغلول في الغنائم كما يأمربالمحافظة علي المال العام .


    فهل هذا الاختلاف والتباين يحق للمسلمين أن يخرجوا عليعثمان ويثوروا ضده أو يقتلوه . إذن لابد لهذا الخلاف من أسباب . إن الأمر لا يدعواإلي الدهشة حقا فإمامة عثمان صحيحة وأن هؤلاء الثوار لم يفعلوا ذلك إلا لأسبابأخرى ، كما أن البيعة التي تمت لعثمان بالمجسد إنما هي عقد يلزم الطرفين الإماموالرعية : فيلزم عثمان أن يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر ولا يحيدعن شيء من ذلك . إذن نؤكد بعد هذا القول علي السؤال التالي : هل خالف عثمان عنكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ؟ أم لزم ذلك فلم يخالف عنه في قليلا ولا فيكثير ؟ وفي اعتقادي أن عثمان لزم ذلك ولم يخالف عن سيرة الشيخين مخالفة يستحقعليها النقد أو اللوم .


    الملاحظة الثانية : وهي ملاحظة مرتبطة بالملاحظة السابقة فإن بعض المآخذ مآخذ دينية قد تمسالدين سواء أكانت في العبادة أو العقيدة او الحدود إلي غير ذلك مثل :


    - إقامة الحد علي عبيد الله بن عمر .


    - إتمام الصلاة في مني وقت قصرها النبي والشيخان وقصرهاعثمان أيضا أعواما .


    - أخذه الزكاء علي الخيل وقد كان النبي قد أعفي عن زكاة الخيلوالرقيق وقد ثار علي ذلك الشيخان من بعده فلما أستخلف عثمان أخذ الزكاة عليهما .


    - أنه حمي الحمي . والله ورسوله قد أباحا الهواء والماءوالكلأ للناس جميعا .


    - أخذ من أموال الصدقة فانفق منها فيالحرب وغير الحرب من المرافق العامة ولم يصرف أموال الصدقة في مصارفها التي عينهاالله .


    - تحريق المصاحف وتجميع المسلمين علي مصحف واحد .



    1- الطبري : تاريخ الأمم والملوك ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1997 ، ج2 ص: 587، 681، 693 .و ابن كثير :البداية و النهاية ، بيروت مكتبة المعارف ، ج 7 ص: 214 . و الذهبي : الخلفاءالراشدون ، حققه حسام الدين القدسي ، ط1 ، بيروت دار الجيل ، 1992 ، ص: 482 .
    2-الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 661 .و ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 1ص: 314 .و ابنتيمية : منهاج السنة النبوية ، حققه رشاد سالم ، د1 مؤسسة قرطبة ، د م 1406 ، ج 6ص: 181 .

    1- الطبري : نفس المصدر ج2 ص: 163 .

    [3]-الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 597 ، 599 .و ابن كثير : المصدر السابق ، ج7 ص: 170 .

    [4]-ابن تيمية : منهاج السنة ، بيروت ، دار الكنب العلمية ، د ت ، ج 3ص: 145 .

    [5] - الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 693 .والذهبي : سيّر أعلام النبلاء ، ط3 بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1985 .

    [6]- الطبري : المصدر السابق ج 2ص: 605 ، 693 .

    1- ابن تيمية : المصدر السابق ، ط بيروت ج 3ص : 190 ، 191 .

    2- محمد الصادق عرجون : خالد بن الوليد ، ط2 الريض ، الدارالسعودية ، 1981 ، ص: 103 .

    3- أبو الأعلى المودودي : الخلافة و الملك ، الجزائر ، شركة الشهاب، د ت ص : 93 .

    4-الطبري: المصدر السابق ج 2 ص: 693 . المصدر السابق ج 1 ص: 156 و ما بعدها .

    5- المصدر السابق ج 1 ص:185 و ما بعدها .

    6- أنظر : الخلافة و الملك ، ص: 75-76 .

    1-ابن كثير : المصدر السابق ، ج 7 ص: 240 ، 260 .

    2- المصدر السابق ، ج1 ص: 185-186 .

    3- مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيعصـ399 .

    4- الطبري : المصدر السابق ،ج7 ص: 595 .و ابن كثير: المصدر السابقج7 ص:151

    5- الطبري : نفس المصدر ، ج2 ص: 597 .

    1- الطبري : المصدر السابق ، ج1 ص: 610 و ما بعدها .و ابن كثير :البدايةج 7ص: 151 ، دار ابن كثير ، 1987 .

    2- الطبري : نفس المصدر ، ج2 ص: 648 ، 679 ,

    3 -الطبري : نفس المصدر ، ج2 ص: 658 . و ابن كثير : المصدر السابقج7ص: 175 و ما بعدها

    1- سورة الحجرات الآية : 6 .

    2- الطبري المصدر السابق ،ج 2 ص: 661 . و ابن عساكر : المصدرالسابق ، ج11ص: 314 .و ابن تيمية : المصدر السابق .

    3- المصدر السابق

    4- أنظر مثلا ، تفسير ابن كثير للآية السابقة .

    5- تاريخ دمشق لأبن عساكر ، ج 63 ص : 224 .

    6- الطبري: المصدر السابق ، ج2 ص: 72 و ج63 ص: 221 .

    1-الثورة علي سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه دراسة في أسبابهاالظاهرة والخفية د / خالد كبير علال ط1 دار البلاغ الجزائر .

    2- البداية و النهاية ، ج7 ص: 151 .

    3- الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 612 .

    4- الثورة علي سيدنا عثمان مرجع سابق صـ 10

    5- الثورة علي سيدنا عثمان كمرجع سابق

    6- مسلم : الصحيح ، بيروت ، دار إحياء التراث، د ت ، ج3 ص: 1331،وأنظر أيضا الثورة علي سيدنا عثمان .

    1- الثورة علي سيدنا عثمان ونفس الصفحة مرجع السابق

    2- السمر هو الحديث في الليل . مختار الصحاح

    3- الثورة علي سيدنا عثمان صـ 11

    4- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    5- الطبقات الكبرى لأبن سعد ، بيروت ، دار صادر ، د ت ،ج 5 ص: 32.و تاريخ دمشق ، ج21ص: 114 .

    6- الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 612 .

    1- الطبقات الكبرى : ج 5ص : 32 .

    2- الطبري : المصدر السابق ج2 ص: 637 .

    3- الطبري: المصدر السابق ، ج2 ص: 641-642 .

    4- الثورة علي سيدنا عثمان صـ 12 .

    5- كما سنوضح بعد .

    6- الثورة علي سيدنا عثمان صـ 13 .

    7- المصدر السابق ونفس الصفحة

    1-ابن سعد الطبقات الكبري : المصدر السابق ،ج5 ص: 32 .و ابن عساكر: المصدر السابق ج 2ص:114-115 .

    2- سورة الحجرات الآية : 11 .

    3- ابن عساكر : المصدر السابق ج 21ص: 124 .

    1- ابن كثير البداية والنهاية ج8 صـ84 .

    [50]- ابن حجر الإصابة ج3 ط بيروت صـ108 .

    [51]- الثورة علي سيدنا عثمان صـ16 .

    [52]- سير أعلام النبلاء ج3 صـ445 .

    [53]- منهاج السنة النبوية ج6 صـ243 .

    1-ابن كثير البداية والنهاية : ج5 ص 304 ، 305.

    1-ابن عساكر : المصدر السابق ، ج 39 ص: 416 .

    2- انظر الثورة علي سيدنا عثمان صـ 19 .

    3- أنظر الثورة علي سيدنا عثمان صـ19

    1- الطبري : المصدر السابق ج2 ص: 652 و ما بعدها .

    2- ابن كثير : المصدر السابق ، ج4 ص: 297 .و ابن حجر : الإصابة،ج4ص: 110. و ابن تيمية : منهاج السنة ج6ص: 357 .

    3- الثورة علي سيدنا عثمان صـ 21 .

    4- ابن عساكر : المصدر السابق و أنظر أيضا الثورة علي عثمان صـ 23 .

    5- الطبري : المصدر السابق ج2 ص: 661 .

    [63]- ابن كثير: المصدر السابق ، ج8 ص: 88 .و ابن عساكر : المصدر السابق ، ج29 ص: 249.

    2- ابن عساكر : نفس المصدر ج 29 ص: 270 .

    3- نفس المصدر ، ج29 ص: 253 .

    4- ابن سعد : المصدر السابق ، ج5 ص: 47 .

    5- البكري: معجم ما استعجم ،بيروت عالم الكتب،ج4 ص: 1316 .

    6- الثورة علي سيدنا عثمان صـ 24

    7- ابن سعد : المصدر السابق ج5 ص: 44 ،47.

    1- المصدر السابق

    2- العواصم من القواصمصـ97 .

    3- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    1- أنظر ترجمة معاوية بن أبي سفيان في : سير أعلام النبلاء ج4صـ257 ، طبقات بن سعد ج3 والبداية والنهاية ابن كثير ج11 صـ398 ، الكامل لابنالأثير ج2 صـ64 ، 65 .

    2- أنظر سير أعلام النبلاءمصدر سابق ج2 صـ223 ، الطبقات الكبرى ج8 صـ99 وما بعدها .

    1- التوبة : جزء من الآية26 .

    2- د/ علي الصلابي معاويةبن أبي سفيان شخصيته وعصره مكتبة الإيمان بالمنصورة صـ26 .
    3- أي فعلوا فلايدخلون به الجنة .
    4- أي القسطنطينية .
    5- المصدر السابقصـ38 .







    1- د/ علي الصلابي معاوية بن أبي سفيان شخصيته وعصره مكتبة الإيمانبالمنصورة صـ26 .

    2- العواصم من القواصم صـ97 .

    1- تاريخ الطبري ج4 صـ 345 ، 348 .
    2- المصدر السابق .



    3- ( ابن تيمية منهاج السنة ج3 صـ190) .

    4- ( المصدر السابق ونفس الصفحة ) .

    1- الخلافة و الملك ، الجزائر ، دار الشهاب ، د ت ، ص : 70 .

    2- الطبري : المصدر السابق ، ج2 ص: 597، 599 .و ابن كثير : المصدر السابق ، ج7 ص: 170 .

    3- الطبري: نفس المصدر ، ج2 ص: 587، 693 .

    1- رواه البخاري .

    2- النقيع مكان يبعد عن المدينة عشرين فرسخا ومساحته ميل فيثمانية أميال







    1- ابن حجر، فتح الباري (5/ 44- 45) .

    2- رواه البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري(5/ 44) .
    3- ابن حجر، فتحالباري (5/ 44- 45) .
    4- رواه البخاري،الجامع الصحيح (فتح الباري 5/181) .
    5- رواه عبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج1 صـ452 وإسناده ضعيف(1/87) .

    1- العواصم من القواصم صـ80 .

    1- المصدر السابق صـ81 .

    2- العواصم من القواصم صـ82 .

    3- العواصم من القواصم صـ82 .

    4- المصدر السابق صـ84 .

    1- البقرة، الآية (196) .

    1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (233- 234).

    2- المصدر السابق صـ 234 .

    3- أنظر صحيح البخاري. الفتح ج9 صـ11 .

    4- المشق هو: الحرق (ابن منظور، لسان العرب10/ 344) .

    5- ابن عساكر (241- 242)، وقد صححه الحافظابن حجر (فتح الباري 9/ 18) .

    1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(239- 240) .

    2- أنظر العواصم من القواصم صـ 84 .

    3- انظر المصدر السابق (ص: 84) حاشية رقم:(84) .

    4- سورة الأنفال،الآية (46) .

    1- أنظر غزوة بدر المنهج الحركي للسيرة النبوية منير محمد الغضبان صـ174-181 .

    2- البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/54، 363)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256) .

    3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(ص29، 31) .

    1- البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/54، 363)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256 وأنظر أيضا فتنة مقتلعثمان كمرجع سابق .

    2- سورة التوبة، الآيتان (91-92) .

    1-سورة التوبة، الآية (93) .

    2- سورة آل عمران، جزء من الآية (152) .

    3- انظر هذه الغزوة في كتاب المنهج الحركيصـ297 إلي صـ308 وأنظر أيضا تفسير بن كثير من الآيات الخاصة لموقعة أحد في سورة آلعمران .

    4- سورة آل عمران، الآية (155).

    5- أنظر ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/298) .

    1- كما في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَعَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} سورة المجادلة، الآية (19).

    2- قد يكون رجلا من أهل مصر أو أنه العلاءعرار أنظر ( فتح الباري 7/ 354 إلي 364 ).

    3- البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (7/54، 363) ، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان ( 254-256) .

    4- أنظر بيعة الرضوان في كتابالمنهج الحركي صـ341 وما بعدها .

    5- سورة الفتح، الآية (18)، وانظر تفسيرهافي تفسير ابن كثير (4/190-191 وأنظر أيضا المنهج الحركي الصفحات السابقة .

    1- رواه البخاري ، الجامع الصحيح ، فتحالباري ج7 صـ 434 وأنظر أيضا كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجع سابق صـ81 .

    2- صحيح البخاري، فتح الباري (7/54، 363)وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (254-256 .

    3- أنظر المصدر السابق .

    1- العواصم من القواصم صـ90 .

    2- أنظر منهاج السنة لابن تيمية ج3 صـ235- 236 ، وأنظر أيضاالعواصم صـ90 .

    1- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/ 265-269)، والآية في سورة المجادلة، الآية (22) وأنظر أيضا فتنة مقتل عثمان كمرجع سابقصـ124 .

    2- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (6/267). وأنظر أيضا العواصم من القواصم صـ90 (1/126) .

    1- أنظر الطبري ج4 صـ43 ،44 . والعواصم من القواصم صـ117 .

    2- أنظر الطبري ج4 صـ43 ،44 . والعواصم من القواصم صـ117 .

    1- أنظر منهاج السنة ج3 صـ200 ( ج6 صـ280 ، 284 ) .

    2- أنظر بن تيمية منهاج السنةالنبوية ج6 صـ 284 .

    1- أنظر المصدر السابق ونفس الصفحة .

    2- أنظر فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه . محمد بنعبد الله غبان الصبحي (المملكة العربية السعودية ط 2 مصدر الكتاب موقع مكتبةالمدينة الرقمية http://www.raqamiya.orgصـ44 .

    3- أنظر المصدر السابق ونفس الصفحة .

    1- أنظر فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه . محمد بنعبد الله غبان الصبحي (المملكة العربية السعودية ط 2 مصدر الكتاب موقع مكتبةالمدينة الرقمية http://www.raqamiya.orgصـ44 .

    2- المصدر السابق صـ45 .

    3- أنظر فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كمصدر سابق ص 45 .

    1- أنظر هذا في منهاج السنة لشيخ الإسلام بن تيمية ج3 صـ191 ،192 .

    1- أنظر العواصم من القواصم صـ78 .

    2- المدينة المنورة فجر (الإسلام) (2/216،217).

    1- فجر الإسلام ،ص110 .

    2- المدينة المنورةفجر الإسلام ج2 صـ217 .

    3- كانت منزلا فيالطريق بين العراق ومكة .

    4- المدينة المنورة فجر الإسلام ج2 صـ217 .

    5- التوبة :34 .

    6 - البخاري ، كتاب الزكاة ، باب ما أدي زكاته ، رقم1406 .

    7- فتح الباري ج3صـ274 وكتاب عثمان بن عفان صـ319 .

    1- المدينة المنورة فجر الإسلام ج2 ص219 .

    2- سير أعلامالنبلاء ج2صـ72 .

    3- التوبة : 34 ،35 .

    4- الرضف : الحجارة المحماة وأحدها رضفة .

    5- نغض : العظمالدقيق الذي علي طرف الكتف أو علي أعلي الكتف .

    6- يتزلزل : يضطربويتحرك .

    7 - البخاري ، كتاب الزكاة رقم 1407 .

    8- البخاري ، كتاب الزكاة رقم 1405 .

    9- فتح الباري ج3 صـ272 .

    1- فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ج1 صـ107 .

    2- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    3- فتح الباري ج3 ص 273 .

    4- المسند ج5 ص125 .

    5- البخاري رقم 1406 .

    6- الطبقات ج4ص227، وكتاب عثمان بن عفان صـ322 .

    1- العواصم من القواصم ،ص77 .

    2- المصدر السابق ص79 .

    3- المدينة المنورة فجر الإسلام ج2 ص223 .

    4- البخاري ، كتاب العلم ،باب العلم قبل القول والعمل ج1ص29 .

    5- المدينة المنورة فجر الإسلام ج2ص224 .

    1- تاريخ الطبري ج5 ص286 .

    2- المصدر السابقج5ص288 .

    3- تاريخ المدينة ، ابن شبة ،ص1037 .

    4- فتنة مقتل عثمانج1ص110 .

    5- تاريخ المدينة ص1036-1037 .

    6- الطبقات ، لابن سعد ج4ص226، 227 .

    7- فتنة مقتل عثمان ج1صـ111 .

    8- المصدرالسابق .

    9- فتنة مقتل عثمان ج1ص111 .

    10- منهاج السنة لابن تيمية ج6 ص183 .

    11- المصدرنفسه ج6ص271 ، 355 .

    12- تاريخ المدينةرقم 1037 .

    13- المصدر السابق .

    1- البخاري ، كتاب الزكاة رقم 1406 ، وكتاب عثمان بن عفانصـ324 .

    2- ويروي أن معاوية عمل سنتين كعمل عمر في شدته وبأسه ثمأبتعد عن ذلك النهج بعد ذلك. ومما لا شك فيه أن معاوية كان ذكيا لبيبا فقد عرضبثاقب نظره أن عصره يختلف عن عصر ما سبقه من الخلفاء ووجد أن للبيئة تأثيرهاالكبير في إدارة شئون الحكم فهي تؤثر في الحاكم وفي نظام الحكم حتى يتمكن من أنيتكيف مع الواقع ويدير حكمه وفقا لشريعة الله وهذا يتجلي في قوله تعالي : ( إنالله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ) (سورة الرعد الآية 18 ) وهناك فرقبين تطور البيئة وهو المراد ويتمثل في نظام الحكم وبين الإسلام الذي جاء في نصوصكلية ثابتة وأخرى فرعية متغيرة فالإسلام يطور البيئات المنحرفة ويصلح من شأنها لاليتطور أو يتلون معها .

    3- ولكن الصحيح هوأنه أعطي خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاءا له علي جهده وجهاده في أفريقياويقال أنه عاد فأسترد منه هذا الجزء فإن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرحبالزحف من مصر علي تونس لفتحها قال له إن فتح الله عليك غدا أفريقية فلك مما أفاءالله علي المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا فخرج بجيشه وخرج من أرض مصر وتوغل فيأرض أفريقية وفتحها وغنم غنائم كثيرة وقسم علي الجند فيئهم وأخذ خمس الخمس وبعثبأربعة أخماسه إلي عثمان وقد أشتكي بعض من جنده إلي عثمان مستكثرا عليه ما أخذهفقال لهم عثمان إني أمرت له بذلك فإن سخطتم فهو رد قالوا إنا نسخطه فأمر عثمان عبدالله بن سعد برده فرده إلي بيت مال المسلمين ورجع عبد الله إلي مصر وقد فتحأفريقية .

    1- وقد جاء فيأحكام الفقه الإسلامي في باب القطائع لكتاب الخراج ليحيي ابن أدم القرشي حيث ذكرالإمام الشعبي بعض الذين أقطعهم عثمان فقال أقطع الزبير وخباب وعبد الله بن مسعودوعمار بن ياسر وابن هبار . وقد فعل عثمان ذلك كما فعل عمر من قبل فقد اقطع عمرطلحة وجرير بن عبد الله والروبيل بن عمرو كما اقطع نافع أخا ذياد وأبي بكر أقطعلكل منهما أرضا في البصرة . ( انظر أيضا كتاب الخراج لأبي يوسف صـ61 ). كما اقطععليا كما يروي الطبري في ج4 صـ 148 كردوس بن هاني وسويد بن غفلة أرضا . إذا كيفينكرون علي عثمان هذا الفعل ويسكتون عن عمر وعلي .

    2- رواه البخاري في صحيحه، فتح الباري (2/ 563، 3/509)، ومسلم في صحيحه أيضاً (ص: 482 .

    3- رواه أحمد، المسند، بتحقيق أحمد شاكر (1/351)، ومن طريقه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (249- 250 ) وفيه عكرمة بنإبراهيم الباهلي . أنظر فتنة مقتل عثمان د/محمد بن عبد الله غبان الصبحي مرجع سابقصـ54 .

    1- أنظر المرجع السابق صـ 107 .

    1-قال ابن تيمية في منهاج السنة كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم يكن ممنيأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرببل هم الذين سعوا في قتله أي في قتل أمير المؤمنين عثمان ) ابن تيمية ج3 صـ188 .

    1- منهاج السنة ج3صـ189 .

    2- ولعل عمر بن الخطاب قد رائهم حينما كان يستعرض جيوشاوكان من الأشخاص الذين لم يسترح لهم أثناء ذلك العرض فقيل له ما يغضبك منهم فقالإني عنهم لمتردد وما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم فكان منهم سودان بن حمرانوخالد بن ملجم وكلاهما من البغاة علي عثمان .

    3- الأريس : بفتح الهمزة، وتخفيف الراء، هيبئر معروفة قريباً من مسجد قباء في المدينة (ابن منظور، لسان العرب 6/ 6 .

    1حجر، فتح الباري 10/ 329 .

    2- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري (10/ 328) .

    3- معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، حليف بنيعبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر،ومات في خلافة عثمان أو علي رضي الله عنهم ، وكان على خاتم عثمان رضي الله عنه(ابن حجر، الإصابة 3/ 451) .

    4- الحافظ ابن حجر، فتح الباري (10/ 328) .

    5- الطبري ج4 صـ281-283 .

    1- ابن عساكر: تاريخ دمشق ، ج29 ص: 263 .

    2- أنظر كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجع سابق .

    3- الطبري: المصدر السابق ، ج2 ص: 595 . و اليعقوبي: المصدر السابقج2ص:115.

    4- الطبري: المصدر السابق ، ج2 ص: 635 و ما بعدها .

    5- أنظر : نفس المصدر ، ج2 ص: 641، 647 .

    1- محمد الصادق عرجون : عثمان بن عفان ، ص : 84، 88 ، 138 .

    2- أنظر : ابن كثير : البداية ، ج7 ص: 170 و ما بعدها .و الطبري:المصدر السابق ، ج4 ص: 383 ،384 .و البخاري: الصحيح ، الجزائر دار الشهاب ، ج4 ص:196-197 .

    3- الصادق عرجون : المرجع السابق ، ص: 92 .

    1- تساوي البدرة عشرة آلاف درهم . و الأوقية كانت تساوي أربعيندرهما .ابن كثير : المصدر السابق ، ج 357، 337 .

    2- السيوطي : تاريخ الخلفاء ص: 156 .و اين عساكر : المصدر السابقج29 ص: 258 .

    3- رُوي أن عمر عزم على التسوية بين الناس في العطاء مستقبلا ، لكنالمنية وافته . ابن تيمية : منهاج السنة ، ط دار الكتب العلمية ، ج3 ص: 153 .

    1- نفسه ، ج3 ص: 153 .

    2- نفس المصدر ، ج3 ص: 154.

    3- نفس المصدر ، ج3 ص: 191 .

    4- نفس المصدر ، ج3 ص: 227 . و الطبري : المصدر السابق ، ج4 ص: 650.

    5- ابن تيمية : المصدر السابق ، ج3 ص: 190، وج4 ص: 204 .و ابنالعربي : العواصم من القواصم ، حققه محب الدين الخطيب ، د ن ، دت ، ص: 79 .

    6- تاريخ اليعقوبي ، ج 2ص: 116 .

    7- أنظر كتاب مقتل فتنة عثمان كمرجع سابق صـ 30

    1- انظر مثلا : الطبري : المصدر السابق ، ج 4ص: 254 .و ابن كثير :المصدر السابق ، ج7 ص: 152 .

    2- تاريخ اليعقوبي ، ج2 ص: 116 .

    3- الطبري المصدر السابق ج4 ص:254 .و ابن كثير : المصدر السابق ج7ص: 152، وانظر كتاب فتنة مقتل عثمان صـ30 .

    4- منهاج السنة ، ج3 ص: 190 .

    5- ابن العربي : المصدر السابق ،ص: 79 .

    1- تاريخ اليعقوبي ، ج2 ص: 118 .

    2- الطبري : المصدر السابق ، ج4 ص345:

    3- منهاج السنة النبوية ، ج 3ص: 237 ، و ج4 ص: 205 .

    1- عثمان بن عفان ، ص: 98 ، 101 .

    2- الطبري : المصدر السابق ، ج4 ص: 254 .

    1- ابن كثير: البداية ،ج7 ص: 161 .

    2- انظر : ابن الأثير : الكامل ، ج3 ص: 31 .و الطبري: المصدرالسابق .


  28. #28
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالخامسة )


    مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه


    (1)


    بداية الفتنة وقدوم أهل الأمصار



    تبدأ الفتنة منذ أن نجح المتمردون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفةثم تعيين أمير المؤمنين عثمان لسعيد بن العاص واليا جديدا مكانه ، وكان يكثر فيهذه البلدة الحاقدون والرعاع والغوغاء ، وقد كان لهؤلاء الأصناف توجهات مختلفةأدوا إلي اضطراب أحوال الكوفة ، مما دفع سعيد بن العاص أن يكتب إلي أمير المؤمنينعثمان يخبره بالأوضاع المتردية بالكوفة فطلب منه عثمان أن يعيد ترتيب أوضاع أهلالكوفة ويصنفهم علي أساس السبق والجهاد وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد علي غيرهم.


    فكتب إليه عثمان : أما بعد ؛ ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليهتلك البلاد ، وليكن ممن نزلها بسببهم تبعا لهم ؛ إلا ان يكونوا تثاقلوا عن الحق ،وتركوا القيام به وقام به هؤلاء . وأحفظ لكل منزلته ، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل . ([1])


    تأذي هؤلاء المتمردون من تلك الرسالة التي أرسلها أمير المؤمنين والتي يطلبفيها تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسةوالاستشارة ، وأخذوا يعيبون علي الخليفة حتى بالغوا في كره الخليفة والحنق عليالدولة ورفض أوامر واليهم سعيد بن العاص وأنطلقوا يثيرون الشائعات ضد عثمانويستغلون بعض الثغرات فيشهرون بها ويزيدون عليها أكاذيب وافتراءات . ولعلنا ندرك تلكالحال التي عليها الكوفة فهي مدينة تميز أهلها بالتمرد علي الخليفة وولاته والحنكوالثورة الدائمة وقد عرفنا سابقا ان عمر بن الخطاب كان دائم الشكوى من أهل الكوفة، فلا غرو أن يلاقي عثمان ما لقاه عمر .


    - بعد أن حرّض البغاة من السبأيين والمتمردين أهل الأمصار على الخليفة رضيالله عنه خرج القوم من مصر قاصدين المدينة، وبلغ خبر قدومهم عثمان رضي الله عنهقبل وصولهم وكان في قرية خارج المدينة –لم تحددها الروايات- فلما سمعوا بوجودهفيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها ويحدد المدائني تاريخ قدومهم بأنه كان في ليلةالأربعاء هلال ذي القعدة .


    التقى القوم بعثمان رضي الله عنه في هذه القرية فقالوا: ادع بالمصحف فدعا به،فقالوا: افتح السابعة، وكان يسمون سورة يونس السابعة فقرأ حتى أتى هذه الآية:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ([2]) .


    فقالوا له: قف. أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال:امضه، نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتزادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لِما زاد من إبل الصدقة، امضه، قال: فجعلوا يأخذونهبالآية، فيقول: امضه، نزلت في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطاً،وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة، ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين .


    وبذلك يتبين ضعف ما رُوي من أن عثمان رضي الله عنه أرسل خمسين راكباً أميرهممحمد بن مسلمة وفيهم جابر رضي الله عنه إلى وفد المصريين في ذي خشب، وأنهم وجدوارجلاً من القوم معلقاً المصحف في عنقه، تذرف عيناه دموعاً، وبيده السيف، وهو يقول:إلا إن هذا -يعني المصحف- يأمرنا أن نضرب بهذا -يعني السيف على ما في هذا- يعنيالمصحف - وأن محمدا بن مسلمة قال له: اجلس، فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك،فجلس، وأنه لم يزل يكلمهم حتى رجعوا ([3]) ونزل القوم في ذيالمروة، قبل مقتله بما يقارب شهراً ونصف. فأرسل عثمان إليهم علياً رضي الله عنهورجلاً آخر لم تسمه الروايات. والتقى بهمعلي رضي الله عنه فقال لهم: تعطون كتاب الله وتعتبون من كلّ ما سخطتم، فوافقوا علىذلك ([4]) . وفي رواية أنهمشادّوه، وشادّهم مرتين أو ثلاثاً، ثم قالوا: ابن عمّ رسول الله صلى الله عليهوسلم، ورسول أمير المؤمنين، يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا ([5]) . فاصطلحوا علىخمس: على أن المنفي يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذويالأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب. وأن يُردّ ابنُ عامر على البصرة، وأبو موسىالأشعري على الكوفة وأن يؤدى إلى كل ذي حقّ حقّه، ولم يكتبوا هذه، ثم انصرفواراجعين إلى الكوفة ([6]). هكذا اصطلحعثمان رضي الله عنه مع وفد كلّ مصرٍ على حده، ثم انصرف الوفدان إلى ديارهم راضين.


    وفي رواية أن عثمان اجتمع مع أهل الأمصار جميعاً، وأنه قاللهم: ليقم أهل كل مصر يسألوني صاحبهم، الذي يحبونه فأستعمله عليهم، وأعزل عنهمالذي يكرهون، فقال أهل البصرة: رضينا بعبد الله بن عامر، فأقره علينا، وقال: أهلالكوفة: اعزل سعيداً واستعمل علينا أبا موسى ففعل، وقال أهل الشام قد رضينابمعاوية فأقرّه علينا، وقال أهل مصر: اعزل عنا ابن أبي سرح، واستعمل علينا عمرو بنالعاص، ففعل، فما جاءوا بشيء إلا خرج من عللهم ومطالبهم إلا خرج منه أمير المؤمنينعثمان بن عفان ، فانصرفوا راضين .


    وبعد عقد الصلح، كتب عثمان رضي الله عنه كتاباً إلى أهل العراق، يقول فيه:"إن جيش ذي المروة نزلوا بنا فكان مما صالحناهم عليه: أن يؤدى إلى كل ذي حقٍّحقه، فمن كان له قِبَلنا حق فليركب إليه، فإن أبطأ أو تثاقل فليتصدق فإن الله يجزيالمتصدقين" ([7]) . وبعد هذا الصلحالعظيم وعودة أهل الأمصار جميعاً راضين، تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت،وأهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطاً آخر، يُذكي الفتنة ويحييها، ويدمر ماجرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان رضي الله عنه وقد تم ذلك علي النحو التالي : إن أهل مصر إبان عودتهمإلي مصر رأوا علي الطريق راكباً على جمليتعرض لهم، ويفارقهم -يظهر كأنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه،وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا همبكتاب على لسان عثمان رضي الله عنه وعليه خاتمه إلى عامل مصر، فتحوا الكتاب فإذافيه أمر بصلبهم أو قتلهم أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها .


    وقبل أن نخوض في محاولات لكشف شخصية كاتب هذا الكتاب وحامله ، هناك دلائل تشككفي صحة ما أشاعه أهل الأمصار من وجود هذا الرجل الذي يحمل هذا الكتاب، فلماذا لايكونون قد ألفوا كتاباً في أثناء الطريق وعادوا به مظهرين أنهم وجدوه مع رجل علىجمل؟
    ومما يقوي ذلك، أنه لم تنقل المصادر أنهم انتقموا من هذا الرجل الذي يحمل هذا الكتابالذي فيه هلاكهم، خاصة وأنهم قوم لم يتورعوا عن دم خليفتهم وأميرهم، فمن باب أولىأنهم لا يتورعون عن دم هذا الرسول. ولوافترضنا صحة هذا الزعم، فلِم يسلك هذا الرسول طريقهم؟ أليس هناك طرق إلى مصر غيرطريقهم؟ وإذا لم يكن هناك طرق أخرى ألا يستطيع أن ينحرف عن الطريق عند اقترابهمنهم، ثم يعود إلى الطريق نفسه؟. ولِم يتَعرض لهم ويفارقهم، ثم يرجع إليهم ثميفارقهم، فلِمَ هذه التصرفات التي تدعوهم إلى القبض عليه؟. وإذا كان مرسله عثمان رضي الله عنه أو أحد ممنهم حوله، ألا يرشدونه إلى هذه التعليمات التي تعينه على التملص من أهل مصر،وينبهونه إلى أن يتستر ويخفي مضمون هذا الكتاب ؟! بلى، هذا هو المتحطم من خلال هذاالموقف.
    ولكن انظر إلى هذا الرسول -المزعوم- عندما قبض عليه، قالوا له: مالك؟ قال: أنارسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه فإذا هم -كما في الرواية- بالكتاب علىلسان عثمان رضي الله عنه عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطعأيديهم وأرجلهم.



    ومن الذي يؤكد لنا أن الخاتم خاتم عثمان رضي الله عنه؟ فلم تنقل لنا المصادرأن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم قد رأى هذا الخاتم وأقر أنه خاتمه. عاد القومبعد ذهابهم يحملون هذه الأخبار، التي لا يستبعد إطلاقاً أن تكون ممثلة ملفقة،وقدموا المدينة .


    وتفصل بعض الروايات الضعيفة في ذهابهم إلى بعض الصحابة وعرض الكتاب عليهم، إلاأنه لم يصح في ذلك شيء من الروايات. وقد نفى عثمان رضي الله عنه أن يكون كتب هذاالكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني باللهالذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يُكتب الكتاب على لسان الرجلويُنقش الخاتم، فلم يصدقوه .


    ولا نشك نحن في صدق عثمان رضي الله عنه كما أنهم لا يشكون في ذلك، ولكنهم لميعبؤوا بهذا الحلف منه؛ لأنهم -ربما- يعرفون مسبقاً أنه ليس بكاتب الكتاب، وإنماهي حيلة لنقض العهد الذي أسفوا على إبرامه، أو أسف واغتاظ مشعلوا الفتنة علىوقوعه. إذا فرضنا أنهم وجدوا كتاباً فعلاً بخط كاتب عثمان رضي الله عنه وعليهخاتمه، فمن ذا الذي يكون قد باء بإثم تزويره؟! يتهم بعضهم مروان بن الحكم في ذلك، وأنه افتأت ([8]) .على عثمان رضيالله عنه بكتابته، وأستبعد ذلك جداً، لما تقدم من أن تفاصيل خطة إرسال هذا الكتابتدل على أن مرسله لم يكن يريد إيصاله إلى مصر، وإنما يهدف إلى إطلاع وفد أهل مصرعليه، كما أنه لا مصلحة لمروان بكتابة هذا الكتاب. والذي يبدو -والله أعلم- أن الذي زيف هذاالكتاب هو: عبد الله بن سبأ، أو أحدُ أعوانه، فهذه من عاداته القبيحة التياستخدمها في إشعال الفتنة، فليس هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد المزور في هذهالفتنة؛ بل زُوّر غيره على ألسنة بعض الصحابة رضوان الله عليهم كعائشة، وعلي رضيالله عنهما. بعد عودتهم هذه حاصروا الدار،وقاموا بأبشع المعاملة مع الخليفة عثمان رضي الله عنه، وتصرفوا أقبح التصرفات. وفيالباب الآتي تفصيل ما جرى أثناء الحصار.

    (2)


    حصار دار عثمان



    بدأ المحاصرون يتدفقون إلي المدينة كما عرفنا وتوالت الأحداثحتى تم حصار المتمردين لدار أمير المؤمنين عثمان بن عفان وقد اختلفت الروايات فيمدة الحصار فبعضها يري أنه أستمر أكثر من 20 يوما وبعضها الأخر انه أستغرق أكثر منشهر وقيل إنه ظل أربعين يوما كما ورد في .([9])


    وقد أعطتنا بعض الروايات وصفا لدار أمير المؤمنين عثمانالتي كان يسكنها في المدينة المنورة وقد يسميها الرواة بالقصر ويفضل أن نطلعالقارئ علي وصف لتلك الدار حتى يتخيل كيف وصل إليهم المحاصرون إلي الخليفة عثمان رضيالله عنه . إن هذه الدار تقع شرق مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم ويحدها من الشمالزقاق البقيع الذي يبلغ عرضه خمسة أذرع، ومن جهة الشرق داره الصغرى، التي تليها دار أبي حزم، ويقابل دارَهالصغرى دارٌ لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وبين الدار الكبرى، والمسجد النبوي: ساحة تسمى البلاط كانت ممتلئة بالمحاصرين أثناء الحصار .


    ولعل موضع هذه الدار قد دخل في المسجد النبوي في توسعة منالتوسعات التي وسع بها، ويبدو أنه المكان الذي بين قبر النبي صلى الله عليه وسلموبين جدار المسجد الشرقي مما يلي باب البقيع الذي فتح حديثاً مقابل باب السلام منالجهة الشرقية .([10])


    ويمكننا أن نعطي وصفا تقريبيا لتلك الدار من خلال بعضصفاتها التي وردت في الروايات المتعددة لعلها تساعدها علي فهم الأحداث وقد قدم لناالكاتب محمد بن عبد الله غبان الصبحي وصفا تقريبا لهذه الدار .


    أنها كانت مجاورة لدور متساوية معها من حيث العلو، ممايساعد على إمكانية التنقل بينها عن طريق سطحها . كما يجاورها دور أخرى غير ملتصقة بها، يمكن الانتقال إليها بواسطة خشب يوضعبينها . وللدار خوخة تطل على المسجد، أونافذة تطل على الشارع، يرى المطلع منها من في الشارع، أو من في المسجد كما يمكن عنطريقها أن يرى من في المسجد أو في الشارع من في الدار وفي الدار درج يصلها بسطحها.


    كما أن سعة الدار كبيرة جداً، بحيث تسع عدداً كبيراً منالناس وفيها: مدخل يسمع من يدخله كلام من على البلاط . ([11])



    لم توضح الروايات الصحيحة كيفية بدء وقوع الحصار، ولعلالأحداث التي سبقته تلقي شيئاً من الضوء على كيفية بدئه. فبينما كان عثمان رضي الله عنه يخطب الناس ذاتيوم إذا برجل يقال له أعين ([12]) يقاطعه ويقول له: يا نعثل ([13]) إنك قد بدلت، فقال عثمان رضي الله عنه: من هذا؟فقالوا: أعين، قال عثمان: بل أنت أيها العبد، فوثب الناس إلى أعين، وجعل رجل منبني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار ([14]) .


    وبعد قدوم المصريين – المرة الثانية (يروي أن حشود المصرينالتي جاءت إلي المدينة في أول الأمر والتي أقنعها علي والصحابة فرجعوا إلي مصروذلك قبل أن يدبر بن سبأ والمتمردون أمر الخطاب المدسوس علي عثمان والذي أرسل إليعبد الله بن أبي سرح بقتل بعضا من المتمردين . ) - وقبل اشتداد الحصار كان عثمان رضي الله عنه يستطيع الخروج إلى الصلاة،ويُدخل عليه من يشاء، ثم منعوه من ذلك ومن الخروج من داره، فكان رضي الله عنه لايستطيع الخروج لصلاة الفريضة ([15]). فكان يصليبالناس رجل من المحاصرين، من أئمة الفتنة، حتى أن عبيد الله بن عدي بن الخيار تحرجمن الصلاة خلفه، فاستشتار عثمان في ذلك؛ فأشار عليه بأن يصلي خلفه، وقال له:الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنبإساءتهم ([16]). وفي بعض الرواياتالضعيفة أن الذي كان يصلي بالناس هو أميرهم الغافقي ([17]) .ولا صحة لما روىالواقدي من أن علياً رضي الله عنه أمر أبا أيوب الأنصاري أن يصلي بالناس فصلى بهمأول الحصر، ثم صلى علي رضي الله عنه بهمالعيد وما بعده ([18]) . ومما يزيد في ضعف متن هذه الرواية؛ إضافة إلىضعف إسنادها: أنه لو كان علي أو أبو أيوب رضي الله عنهما هما اللذان يصليانبالناس، لما تحرج عبيد الله بن عدي بن الخيار من الصلاة خلفهما .

    (3)


    المفاوضات بين عثمان والمحاصرين لداره .




    وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون -على عثمان رضي اللهعنه- بالدار طلبوا منه خلع نفسه، أو يقتلوه ([19]) ، وهؤلاء الذينيطالبون الخليفة بخلع نفسه هم حثالة من الناس، وأوباشهم وأدناهم ديناً، وخلقاً،وعلماً وليسوا من أهل الحل والعقد. وبعرضهمهذا تحقق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه وحان وقت العملبوصيته صلى الله عليه وسلم له؛ لذا نري عثمان رضي الله عنه يرفض خلع نفسه، وقال:"لا أخلع سربالاً سربلنيه الله ([20]) "يشير إلى ما أوصاه به رسول الله صلى اللهعليه وسلم .


    بينما كانت قلة من الصحابة رضي الله عنهم يرون خلاف ما ذهب إليه، وأشار عليهبعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس رضي الله عنه، لكنهرفض ذلك.
    وفي أثناء وجود أصحاب هذا الرأي عند عثمان رضي الله عنه دخل عليهم ابن عمر رضيالله عنهما. فقال له عثمان رضي الله عنه: "انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون:اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا خلعتها أمخلد أنت فيالدنيا ؟ فقال عثمان رضي الله عنه: لا،قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟، قال عثمان رضي الله عنه: لا، قال:فهل يملكون لك جنة أو ناراً؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه اللهفتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه" (
    ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (359) . وفي رواية: فلا أرى أن تسن هذه السنة فيالإسلام، كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصاً قمصكه الله ([21]) .


    ولا يدل هذا الحوار على أن عثمان رضي الله عنه كان متردداً في الخلع وعدمه حتىأيده ابن عمر رضي الله عنهما لأن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له صريحة في عدمالخلع، إلا أن يكون قد نسيها ثم تذكرها بعد، والذي يبدو من عبارته رضي الله عنهالتي عبر بها عن رأيه في عدم الخلع أنه متذكر للوصية حيث استخدم معانيها. وهذاالموقف الذي أملته وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف حكيم، فإن الاستجابةلمطالب الثوار وهم فئة قليلة من الأمة، وليسوا من أهل الحل والعقد، ولا من رجالاتالإسلام، وفقهاء الشريعة ستكون لها آثار خطيرة على مسيرة الأمة، وهيبة الخلافة،وعلاقة الراعي بالرعية، وكان ثمن دفع هذه الآثار السيئة أن دفع الخليفة حياته، وهويعلم بمصيره ويستسلم له وهو أمر ثقيل على النفس، ولكنه قدم مصالح الأمة على مصلحتهالشخصية. مما يكشف عن قوة وعزيمة وشجاعةيتحلى بها ، ويرد به على تلك التهم التي وجهت إليه من ضعف في هذه الصفات. فإنه رضي الله عنه كان قادراً -بإذن الله- علىكبح الفتنة، ولكنه قدّر حدوث مفاسد أعظم من مصلحة كبحها ، فأعرض عن ذلك درءاً لها؛وبذلك يعلم خطأ من قال بأن قتل عثمان: "لا يوصف بأكثر من أنه (مشاغبة دهماء) لم تجد من يكبحها" ([22]) فإن في ذلك غمزاً في شخصية وشجاعة عثمان رضيالله عنه، وهي حقاً فتنة دهماء، ولكن عدم كبحها يعد منقبة لعثمان رضي الله عنه لمافيه من تضحية في سبيل الله، رجاء تحصيل مصلحة للأمة، وعملاً بوصية رسول الله صلىالله عليه وسلم.


    وبينما كان عثمان رضي الله عنه في داره، والقوم أمام الدار يحاصرونها، دخل ذاتيوم ذاك المدخل الذي قدمنا أن داخله يسمع كلام من على البلاط، فإذا هو يسمع توعدالمحاصرين له بالقتل، ويبدو أنه لم يكن يتوقع قبل هذا أن الأمر سيبلغ هذا المبلغ. فخرجمن المدخل، ودخل على من معه في الدار، ولونه منتقع، فقال: "إنهم ليتوعدوننيبالقتل آنفاً، فقالوا له: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، فقال ولم يقتلونني؟! وقدسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدىثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس" فواللهما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منذ هداني الله،ولا قتلت نفساً؛ ففيم يقتلونني؟" ([23]) .


    ثم أشرف على المحاصرين، وحاول تهدئة ثورتهم وثنيهم عن خروجهم على إمامهم،مضمناً كلامه الرد على ما عابوه به، وكشف الحقائق التي لبّسها القوم، عسى أن يفيقالمغرر بهم ويعودوا إلى رشدهم. فطلب من المحاصرين أن يُخرجوا له رجلاً يكلمه،فأخرجوا له شاباً يقال له: صعصعة بن صوحان، فطلب منه عثمان رضي الله عنه أن يبينله ما نقموه عليه . فقال صعصعة: أُخرجنامن ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله ([24]) فقالله عثمان رضي الله عنه: اتلُ أي: استدل بالقرآن، فقرأ: {أُذِنَ لِلَّذِينَيُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ([25]). فقال عثمان: ليست لك، ولا لأصحابك، ولكنها لي ولأصحابي، وفي رواية أنه قالله: كذبت لستم بأولئك، نحن أولئك، أخرجنا أهل مكة. فقرأ عثمان الآية التي استدل بها صعصعة ومابعدها مما يفسرها ويبين زيف استدلال صعصعة بها، فتلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَيُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوارَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍلَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُاللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَلَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَوَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِعَاقِبَةُ الأمُورِ} ([26]). وبذلك أستطاع عثمان رضي الله عنه أن يقنع الناسويفهمهم معني الآيات مبينا سبب النزول وفيمن نزلت حتي تبين للثائرين المعني المراددون لبس وحتى يكشف زيف هؤلاء المزيفون الذين استدلوا بمعني الآيات علي شيء أخرمضاد له . وقد قال بهذا الذي قاله عثمان رضي الله عنه أئمة التفسير من الصحابةوغيرهم؛ ابن عباس، ومجاهد والضحاك وغير واحد من السلف، فقالوا: بأنها نزلت فيالمهاجرين .


    وقد فسر عمر بن عبد العزيز معني قوله تعالي : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْفِي الأرْضِ} فإنها ليست علي الحاكم وحده ولكنها علي المحكومين والحاكم معا ثميبين عمر بن عبد العزيز الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية وذلك بأن يأخذ حقوقالله عليهم وأن يأخذ من بعضهم لبعض وأن يهديهم بالتي هي أقوي ما أستطاع لذلك سبيلاوقال إن نفي عثمان لمن نفاه إنما هو عمل بالآية التي استدل بها صعصعة، وعثمانخليفة المسلمين فنفيهم أمرا بالمعروف ونهي عن المنكر لما قاموا به من تعد علي حقوقالعباد وإثارة الفتنة ولو قتلهم عثمان لكان ذلك حق واجبا وعدلا لا جدال فيه لأنهممن المفسدين في الأرض والذي فرض الشرع حدا لهؤلاء وهو القتل أو الصلب أو تقطيعالأيدي والأرجل أو يغربوا كما يري الحاكم . ([27])


    يقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَوَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواأَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَالأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌعَظِيمٌ} ([28]) فهل كان استدلال صعصعة للآية التي ذكرها بمعناها الحقيقي يتناسبفيما جاءوا من اجله كما أن إخراجهم هل كان بسبب أنهم قالوا ربنا الله بطبيعة الحاللإجابة ستكون سلبية . وهكذا يتضح أن صعصعة قد حرك المعني ليوافق هواه ويشفي بهصدره السقيم فهل بعد ذلك يصلح صعصعة وأمثاله لمناظرة ذي النورين عثمان بن عفان . ([29])


    ولا عجب إذن أن نري عثمان رضي الله عنه بعد أن رد على هؤلاء، ذكّر الناسبمكانته، وبمكانة المحاصرين في الإسلام، وببعض فضائله مناشداً بالله من يعلمها أوسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبينها للناس . ومن جملة مناشدته لهم؛ناشدهم بالإقرار بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالشهادة وذلك في قولهصلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" ،وأنه كان معه إذ ذاك ([30]). ومعلوم أن عثمانليس بنبي، وأن الصديق هو أبو بكر، لاشتهاره بهذه الصفة، فلم يبق لعثمان ومن معه منالصحابة رضي الله عنهم إلا الصفة الثالثة وهي: (الشهادة)، وقد ذكَّر عثمان الناسبذلك، وعلَّم الجاهل منهم، ليتيقنوا أنه سيستشهد وأن قتله شهادة؛ فعسى أن يُنجي القوم أنفسهم من قتله، وليبين للناس ضلال مناتهمه بالتبديل؛ وليؤكد لهم أيضاً عصمة دمه، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلمله بحسن الخاتمة، فيفهموا أن ما ألصقوه به من معايب لا تبيح قتله؛ لأنه على أقلالأحوال لا يخرج عن كونه مسلماً معصوم الدم. ورداً على ما عابوه به من تخلف عن بيعة الرضوان، ذكّرهم وناشدهم ببعث رسولالله صلى الله عليه وسلم إياه إذ ذاك إلى المشركين من أهل مكة، ولما كانت البيعةقال: هذه يد عثمان فبايع له، فانتشد له رجال ([31]) . فعدم حضوره جسدياً للبيعة لا يعني فوات فضلها منه، كما أنعدم حضورها جسدياً ليس بمذمة تلصق به، بل دليل على فضله ومكانته من رسول الله صلىالله عليه وسلم حيث انتدبه لهذه المهمة العظيمة. ولمنع القوم له من الصلاة في مسجدرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكّرهم وناشدهم بما كان منه من توسعة للمسجد يوم قالرسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يوسع لنا هذا البيت في المسجد -يشير إلىبيت جانب المسجد- ببيت له في الجنة" وأنه ابتاعه من ماله فوسع به المسجد([32]). فمنعهم له من الصلاة في هذا المسجدظلمٌ ظاهر، فإنه مسلم له حق في المسجد كباقي المسلمين، وله زيادة أحقية فيه،لمساهمته الكبيرة في بنائه. وفي وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم له ببيت فيالجنة دليل ظاهر على حسن خاتمته، فلعل القوم يعون هذه الشهادة من رسول الله صلىالله عليه وسلم له ببيت في الجنة، فيعصمون دمه، ولعلهم يدركون أن ما كان يهبهعثمان رضي الله عنه لأهل قرابته لم يكن من بيت مال المسلمين، بل هو من ماله الخاص،الذي كان به جواداً سخياً قبل أن يلي بيت مال المسلمين.


    ولم تكن النفقة فيسبيل الله هي اليتيمة من نوعها، بل أنفق ما يفوقها كثرة، ولتذكيرهم بذلك ناشدهمبما كان من تجهيزه لجيش العسرة بكامله استجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من ينفق اليوم نفقة متقبلة" ([33]) وبشرائه بئر رومة التي كان ماؤها يباع من ابنالسبيل، فابتاعها من ماله وأباحها لابن السبيل. ففي منعهم الماء عنه جزاء بعكس ماأكرم هو به المسلمين، فذكَّرهم رضي الله عنه بما كان منه من التوسيع عليهم بوهبهإياهم بئر رومة، من اليهودي الذي كان يمتلك نصفه ثم أشتراه أخيرا كاملا ووهبهللمسلمين فتمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وسكانمدينته بهذا الماء العذب الزلال، وهم في ذلك الحصار يمنعونه من الماء، ويضطرونه إلى الشرب من بئرنتنة في بيته يرمي بها النتن والأوساخ ([34]). فلما رأىإصراراً منهم على العزم على قتله، حذرهم من ذلك ومن مغبته، فاطلع عليهم من كَوٍّة ([35]) وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني،فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلون جميعاً أبداً، ولا تجاهدون عدواً أبداً، لتختلفنحتى تصيروا هكذا؛ وشبك بين أصابعه


    ([36]). وفي رواية أنهقال: أيها الناس لا تقتلوني فإني والٍ وأخٌ مسلم، فوالله . إن أردت إلا الإصلاح مااستطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعاً أبداً، ولا تغزوا جميعاًأبداً، ولا يقسم فيئكم بينكم ([37]). وقال أيضاً:"فوالله لئن قتلوني لا يحابون بعدي أبداً، ولا يقاتلون بعدي جميعاً عدواًأبداً" ([38]). وقد تحقق ما حذرهم منه، فبعد قتله وقع كل ماقاله رضي الله عنه، وفي ذلك يقول الحسن البصري: "فوالله إن صلى القوم جميعاًإن قلوبهم لمختلفة" ([39]) ، كما حذرهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه من قتله ([40]). ثم أرسل عثمانإلى الصحابة رضي الله عنهم يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فأرسلإلى ابن سلام رضي الله عنه يشاوره في الأمر كما سيأتي في المبحث التالي .

    (4)


    محاولات من الصحابة للدفاع عن عثمان .



    1- فلما رأى عثمان رضي الله عنه أن تلك المحاولات السلمية لم تفد فيهم، واشتدحصارهم له، شاور عبد الله بن سلام رضي الله عنه في هذا الأمر، فأشار عليه بأن يكفعن قتالهم، ليكون ذلك أبلغ له في الحجة عند الله، فقد قال له: "الكف، الكف،فإنه أبلغ لك في الحجة" ([41]) .


    2) ولما رأى الصحابة رضوان الله عليهم قبح جرأة المحاصرين، وخشوا على عثمانرضي الله عنه منهم، جاء جمع منهم فعرضوا عليه الدفاع عنه فرفض، ثم جاءوه مرة ثانيةوأكدوا على عزمهم على الدفاع عنه فرفض بشدة، فلما رأوا أن الأمر سيبلغ مبلغاًخطيراً، استعدوا للقتال دفاعاً عنه، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان رضي الله عنه عزمعليهم بشدة، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعاً عنه مما حال بين رغبتهم الصادقةفي الدفاع عنه وبين تحقيقها.


    وفيما يلي توضيح لبعض عروض الصحابة على عثمان رضي الله عنهم للدفاع عنه، وموقفه من هذه العروض التي قدمت بسخاء منالصحابة وأبنائهم :


    أ- فقد جاءه حارثة بن النعمان رضي الله عنهما أثناء الحصارفقال له: إن شئت أن نقاتل دونك ([42])


    ب- وجاءه المغيرةبن شعبة رضي الله عنه، وأبدى له استعداد كثير من الناس للقتال دونه، واقترح عليهمقاتلتهم بمن معه من العدد والقوة، وذلك في قوله: إن معك عدداً وقوة، وأنت علىالحق، وهم على الباطل، فقال له عثمان رضي الله عنه: "لن أكون أول من خلف رسولالله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء" ([43]) .


    جـ- وقال له عبد الله بن الزبير رضي اللهعنهما: قاتلهم فوالله لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: لا والله لا أقاتلهمأبداً" ([44]) .


    د- وفي رواية: يا أمير المؤمنين، إنّا معك في الدار عصابةمستبصرة، ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال عثمان رضي الله عنه: أنشد اللهرجلاً أهرق فيَّ دمه ([45]) .


    هـ- ثم أمَّر (عبد الله بن الزبير ) على الدار، وقال: من كانت لي عليه طاعة،فليطع عبد الله ابن الزبير ولم تكشف لنا الروايات ما تضمنته هذه الإمارة منصلاحيات، كما أنه لم ينقل لنا أن ابن الزبير أصدر أمراً بعد تأمير عثمان له علىالدار، ولعل عثمان رضي الله عنه لما رأى موافقة وطاعة ابن الزبير رضي الله عنه فيعدم القتال، كلفه بنقل هذا الأمر إلى غيره، ولذلك أمر بطاعته. ولما اشتد الأمر لميكتف الصحابة بالعرض الأول، والاعتذار برفضه للقتال.


    و- ثم حث كعب بن مالك رضي الله عنه الأنصار على نصرة عثمانرضي الله عنه وقال لهم: يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصارعثمان رضي الله عنهم ووقفوا ببابه.


    ز- ودخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: هؤلاءالأنصار بالباب: إن شئت كنا أنصار الله مرتين فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلككفوا . وفي رواية أنهم قالوا له: يا أميرالمؤمنين ننصر الله مرتين، نصرنا رسولالله صلى الله عليه وسلم وننصرك، فرفض رضي الله عنه ([46]) .


    ح - وبينما كان عثمان رضي الله عنه يجلس على كرسي -فيالدار- وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير،وبين يديه مراكن مملوءة ماء ورياط مضرجة، إذا برسول الزبير بن العوام رضي الله عنهيدخل عليه، ويقرئه السلام من الزبير، ويقول له: إن الزبير يقول لك: إني على طاعتيلم أبدل، ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك، وكنت رجلاً من القوم، وإن شئت أقمت،فإنَّ بني عمرو بن عوف، وعدوني أن يصبحوا على بابي ثم يمضون على ما آمرهم به. فلماسمع عثمان رضي الله عنه الرسالة؛ كبر الله وحمده، وطلب من الرسول أن يقرئه السلامويقول له: إن يدخل الدار لا يكون إلا رجلاً من القوم، وإن مكانه أحب إليّ، وعسىالله أن يدفع بك عني. فهاتان طريقتان لعرض الصحابة على عثمان المناصرة في قتالالمحاصرين ، رفضهما رضي الله عنه بشدة مع شدة حاجته إلى النصرة ([47]) .


    ط- ولما رأى الصحابة أن الأمر استفحل، وأن السيل بلغ الزبى عزم بعضهم على الدفاع عنه دون استشارته، فدخل بعضهم الدار مستعداً للقتال، فقدكان ابن عمر معه في الدار ([48]). متقلداً سيفه لابساً درعه ليقاتل دفاعاً عنعثمان رضي الله عنه، ولكن عثمان عزم عليه أن يخرج من الدار خشية أن يتقاتل معالقوم عند دخولهم عليه فيقتل كما لبسه مرة أخرى أيضاً ([49]) .


    ي- وتقلد أبو هريرة رضي الله عنه سيفه، ودخل الدار علىعثمان رضي الله عنه يقول: يا أمير المؤمنين طاب الضرب ، فقال له: يا أبا هريرة أَيَسُرُّك أن تقتلالناس جميعاً وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قُتِلالناس جميعاً، فرجع ولم يقاتل ([50])وفي رواية: أن أباهريرة كان متقلداً سيفه حتى نهاه عثمان ([51]). وبعد رد عثمانعلى رسالة الزبير، قام أبو هريرة رضي الله عنه فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي منرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول: تكون بعدي فتن وأمور، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال:إلى الأمين وحزبه؛ وأشار إلى عثمان بن عفان. فقام الناس فقالوا: قد أمكنتناالبصائر فأذن لنا في الجهاد، فقال عثمان رضي الله عنه: أعزم على من كانت لي عليهطاعة ألا يقاتل. وانطلق الحسن، والحسين،وابن عمر، وابن الزبير، ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار. فقال عثمان:أعزم عليكم لما رجعتم، فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم وقطع كل فرصة عليهم بقوله:أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه فإن أفضلكم عندي غناءمن كف يده وسلاحه فرضي الله عنه وأرضاه ([52]) .


    ك- وجاءت أم المؤمنين صفية رضي الله عنها على بغلة يقودها مولاها كنانة، لتردعن عثمان رضي الله عنه فلقيها الأشتر، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ردوني،ولا يفضحني هذا الكلب ([53]). يقول سليط بنسليط: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها. ويقولابن أبي مليكة: كان مع عثمان في الدار عصابة مستبصرة، منهم عبد الله بن الزبير. ([54]) .


    ل - ويروي ابن سيرين: أنه كان مع عثمان في الدار سبعمائة رجل ، لو يدعهملضربوهم -إن شاء الله- حتى يخرجوهم من أقطارها؛ منهم ابن عمر، والحسن بن عليّ،وعبد الله بن الزبير ([55]) . ويقول أيضاً: لقد قتل عثمان -يوم قتل- وإن الدار لغاصة، منهم ابن عمر،وفيهم الحسن بن عليّ في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا ([56]) ، ويقول الحسن البصري: لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه ([57]) . ولكنهم تركوا الاحتكاك مع القوم استجابة لأمر الخليفة رضي الله عنه الذي أمرهمبكف أيديهم -كما تقدم .


    ومن العرض السابق يتضح لنا أن الصحابة لم يقصروا في الدفاععن عثمان وقد حاولوا المرة بعد المرة ولكن عثمان هو الذي كان يرفض ويصد ويقسمعليهم حتي لا يكون أول من سفك دماء المسلمين بعد موت النبي e .




    (5)


    أسباب رفض عثمان دفاع الصحابة عنه



    لاحظنا من الروايات السابقة كيف كانت الصحابة رضوان الله عليهم جادين فيالدفاع عن عثمان ولكن أمير المؤمنين عثمان هو الذي كان يرفض وكلما أشتد الصحابةوتمسكوا بالدفاع عنه كان يشتد رفضه ويصد ويقسم عليهم ألا يدافعوا عنه ولعلنا نوفقفي ذكر الأسباب التي دفعت أمير المؤمنين عثمان أن يرفض دفاع الصحابة .


    الأول: العمل بوصيةرسول الله صلى الله عليه وسلم التي سارّه بها، وبيَّنها عثمان رضي الله عنه يوم الدار،وأنها عَهْدٌ عُهِدَ به إليه وأنه صبر نفسه عليه .


    الثاني: ما جاء في قوله:"لن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفكالدماء"، أي كره أن يكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمتهبسفك دماء المسلمين وقتال بعضهم بعضا ([58]).


    الثالث: تيقن عثمان بأنالمتمردين لا يريدون أحدا غيره فكره أن يصيب الآخرون بالأضرار وفضل أن يعرض نفسهدون أمته .


    الرابع: علمه بأن هذهالفتنة ستنتهي بقتله، وذلك فيما أخبره به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تبشيرهإياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مضطبراًبالحق معطيه في فتنة والدلالات تدل على أن أوانها قد حان، وأكد ذلك تلك الرؤياالتي رآها ليلة قتله، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أفطر عندناالقابلة، ففهم رضي الله عنه أن موعد الاستشهاد قد قرب.


    الخامس: العمل بمشورةابن سلام رضي الله عنه له إذ قال له: "الكف، الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة . وتحققإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بأن عثمان رضي الله عنه يتولى الخلافة ثم يقتلوهو مضطبر بالحق معطيا القتل. وذلك فيمارواه عبد الله بن حوالة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مننجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات-: موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحقمعطيه" ([59])، ومن مواقف عثمان رضي الله عنه يوم الدار يتبين هدوء عثمان رضي الله عنه فيالتفكير، وأن شدة البلوى لم تحل بينه وبين التفكير الصحيح، وإبداء الرأي السليم،فقد تضافرت الأسباب لتحديد هذا الموقف المسالم من قتال الخارجين عليه.


    ولا شك أنه رضي الله عنه كان على الحق في مواقفه التي اتخذها، لما صح عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه أشار إلى وقوع هذه الفتنة، وشهد لعثمان، وأصحابه أنهم علىالحق فيها .([60]) وأما ما روي من أنه أخذ الحربة فنودي من السماء: أن مهلاًيا عثمان، فرمى بها، فإنه ضعيف الإسناد لا يحتج به .


    رغم محاولات أمير المؤمنين كف الصحابة عن قتال المحاصرين مرة تلو الأخرىمحاولا ألا يسفك دم بسببه من ناحية وصبرا علي هذا المكروه كما أخبره النبي صليالله عليه وسلم من جهة أخري وعلي الرغم من هذا الحرص الشديد فتذكر بعض الرواياتإلي أنه حدث احتكاك واشتباك خفيف أدي إلي جرح الحسن بن علي رضي الله عنه وحملهخارج الدار كما يقول ([61]) ،كما أخرج من الدار يوم قتل عثمان أربعة من شبان قريش ملطخينبالدم محمولين، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه، وهم: الحسن بن علي، وعبد اللهبن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم .([62])

    (6)


    أخبار الرسول باستشهاد عثمان



    ومن المفيد أن نفصل الحديث عن اليوم الأخير من الحصار-وهو اليوم الذي شهد مقتلأمير المؤمنين عثمان بن عفان إذ يروي الرواة أنه نام فرأي رؤيا فأصبح يحدث الناسعنها ويقول: ليقتلني القوم ثم قال رأيت النبي e وعمر فقال النبي e يا عثمان أفطرعندنا وأصبح صائما وقتل من يومه ورؤيا النبي e في المنام حق ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته كما ثبت في الصحيحعنه أنه قال من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي وقال أيضا إن الشيطان لا يتراءىبي وقال من رآني فقد رأي الحق فإن الشيطان لايتكونني وقد تبين من خلال هذا الحديث أن عثمان رضي الله عنه قد رأي النبي e في المنام فعلا وليس تمثلا منالشيطان لأن عثمان يعرف صورة النبي e التي لا يستطيع الشيطان التمثلبها . كما أن في هذه الرؤيا بشارة من النبي e لعثمان بالجنة وأنهمعه ينعم فيها . وفي هذه الصورة الرؤيا دليل علي أن عثمان رضي الله عنه لم يغيرولم يبدل بل ثبت وظل علي ثباته حتى أتاه اليقين . ([63])


    تروي الرواياتالصحيحة أن النبي e قد أخبر عثمان بوقوع هذه الفتنة التي يقتل فيها عثمان رضي الله عنه، يُعدّضمن قائمة كبيرة من الحوادث التي أخبر – عليه الصلاة والسلام- في حياته بأنها ستقعبعد وفاته ، ووقع عدد منها، وما بقي منها سيقع حتماً ولو بعد حين.
    ولا يدل ذلك على علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب فإن علم الغيب صفة من صفاتالله جل وعلا، ليست لأحد من خلقه، وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينهللناس، كما أمره أن يبين للناس أنه لا يعلم غيب المستقبل، وأنه لا اطلاع له علىشيء من الغيب إلا ما أطلعه هو عليه.
    وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَاشَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِوَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍيُؤْمِنُونَ
    } ([64])
    وهذه المشيئة منه سبحانه وتعالى تعمُّ الرسول الملكيوالبشري. وبذلك يفهم قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّبِمَا شَاءَ}. ([65]) ، وقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَىمِنْ رَسُولٍ} ([66]) .فمما صح عن رسولالله صلى الله عليه وسلم في وقوع فتنة يقتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه، مارواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليهوسلم فتنة، فمر رجل فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ، قال: فنظرت، فإذا هو عثمانبن عفان" ([67]) .


    ويروي كعب بن مرة البهزي رضي الله عنه قصة مشابهة لهذهالقصة، فقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرّ َبها: فمرّ عثمان مقنَّعاً فقال النبي صلى الله عليهوسلم، وهو يشير إلى عثمان: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى" . وسواء أكانت هاتان الروايتان لقصتين اثنتين أملواحدة، فإنَّ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عثمان رضي الله عنه في هذهالفتنة ثابت في كلتا القصتين، وتضيف رواية كعب بأنه وأصحابه على الحق في هذهالفتنة.
    مما دفع كعباً إلى زيادة التحري من الشخص المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلمفقام إلى هذا الرجل، وأخذ بضبعيه، فإذا هو عثمان بن عفان، فاستقبل به النبي صلىالله عليه وسلم وقال: هذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا
    .


    وقد تأخرت وفاة كعب رضي الله عنه إلى ما بعد الخمسين منالهجرة، ولم يرد أنه حضر اليوم الأخير للحصار الذي قتل فيه عثمان . ويبدو أنَّتحديث كعب للناس بهذا الحديث، لم يكن إلا بعد الفتنة بسنوات. ([68])


    نستشف ذلك من خلال رواته عنه، فقد رواه عنه كل من: محمد بن سيرين وعبد الله بنشقيق وأبو الأشعث الصنعاني . ومحمد بن سيرين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضيالله عنه، فإذا قدرنا سماعه منه وهو في الرابعة عشرة، فإنه يكون قد حدثه به بعدالفتنة باثنتي عشرة سنة.
    ج


    أما رواية أبي الأشعث فجزماً بأنها كانت، بعد الفتنة، فإن مضمون الرواية ينصعلى أنها كانت في خلافة معاوية رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق من طبقتهما. ومنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وذلكعندما استأذن عثمان يوم الدار للحديث، فلما أذن له قام فحمد الله وأثنى عليه، ثمقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تلقون بعدي فتنةواختلافاً، فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟، فقال: عليكم بالأمينوأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك" ([69]) .


    ومن الأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع استشهاد عثمانبن عفان رضي الله عنه ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى اللهعليه وسلم أمره أن يبشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه . ([70])


    وهناك رواية أخري وهي ما رواها أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى اللهعليه وسلم كان ذات يوم على أحد ومعهأبوبكر، وعمر، وعثمان، فرجف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسكن أحدفليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" .فالنبي والصديق معروفان، ولم يبق لعمروعثمان رضي الله عنهما إلا الصفة الثالثة، وهي الشهادة. فهذه شهادة من النبي صلىالله عليه وسلم صريحة لعثمان رضي الله عنه بالاستشهاد في سبيل الله . ([71])


    فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم علىحراء ومعه أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير فتحركت الصخرة، فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" . ([72]) ، وتحقق ما قالهصلى الله عليه وسلم فقد استشهد كل من عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير. ولعلمالنبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الفتنة – بإخبار الله له -، ولشدة محبتهلعثمان رضي الله عنه، وحرصه على مصالح الأمة بعده، دعاه – ذات يوم – وأخبره بأشياءتتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سرِّيتها، حتىإنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة لما قيل له:ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً، وإنيصابر نفسي عليه . ([73])




    ويظهر من قوله هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشده إلى الموقف الصحيح،عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذاً منه صلى الله عليه وسلم بحجز الفتنة أن تنطلق.


    وعلي ما يبدوا فإن هناك بعض الزيادات في بعض الأحاديث قد تكشف لنا عن طبيعةالسر الذي أسره الرسول صلي الله عليه وسلم في عثمان منها :-


    1- قال له:"وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل " فهذا العهديتعلق بالفتنة والرسول يوصيه بالصبر فيها وعدم الخلع كما تقدم وإن كان يفهم من هذهالإضافة بأنه سيكون الخليفة يوما ما ولعل الرسول صلي الله عليه وسلم كان حريصا عليكتمان هذا السر الذي أسره لعثمان يبين ذلكأنه أمر عائشة رضي الله عنها بالانصراف عندما أراد الإسرار بها لعثمان رضي اللهعنه.
    كما أنه أسرَّ إليه إسراراً، رغم خلو المكان من غيرهما، حتى تغير لونه، مما يدلعلى عظم المسرِّ به، وربط عائشة رضي الله عنها هذا الإسرار بالفتنة دليل واضح علىأن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها.



    فإنها رضي الله عنها كانت تسمع بعضاً منها، وفي ذلك تقول:فلم أحفظ من قوله إلا أنه قال: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجلفلا تفعل" . ([74]) ، وهذا دليل على أن الإسرار تضمن توجيهات منه صلى الله عليهوسلم، إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع عليه.


    2- وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر فيه على الإخباربوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك علانية – كما تقدم – فإسراره يدل على أن هذا الإسرار،تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظةعلى سريتها لحكمة اقتضت ذلك الله أعلم بها.
    وهذا الحديث يفسر لنا جلياً سبب إصرار عثمان على رفض القتال أثناء الحصار كما يفسرأيضاً سبب رفضه للتنازل عن الخلافة، وخلعها، عندما عرض القوم عليه ذلك.



    وهما موقفان طالما تساءل الباحثون عن السبب الذي أدى عثمانإليهما واستشكلوهما.
    وهذا كله يفرض علينا زيادة في الاحتياط، والتحفظ عند الحديث عن مواقف عثمان رضيالله عنه يوم الدار، إذ قد تكون تلك المواقف عملاً بنصائح وإرشادات النبي صلى اللهعليه وسلم، بل إن بعضها يُجزم بأنه كذلك، كما في رفض الخلع.



    ولا شك أن عثمان رضي الله عنه بعد سماعه لهذه الأحاديث،أيقن بتحقق ذلك يوماً ما، وإن طال الزمان، فكان ينتظر وقوعه بين حين وآخر. أنّهسيقتل ظلماً في فتنة تشتعل في خلافته، ويكون فيها على الحق هو وأصحابه، والنبي صلىالله عليه وسلم أوصى باتباعه عند وقوع هذه الفتنة، إنها أخبار تخص عثمان رضي اللهعنه تفرحه فرحة مشوبة بالقلق، فمتى وكيف سيكون ذلك؟ عثمان رضي الله عنه رجل عاقل، حيي – بل شديد الحياء -، لم ينازعفي الإمارة لا في جاهلية وفي إسلام، فلم ينازع أشراف مكة الرئاسة، ولم يطمع فيها،فإن خلقه، وسمته يأبيان عليه ذلك، ورغم ذلك فإنه سيكون أميراً، - وإن كره – لمتدفعه تلك الأخبار إلى التتوق، والتطلع إلى الخلافة، فلم يناقش، ولم ينازع عندماتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتقدم بما معه من أدلة على أنه سيكون خليفة–يوما ما- بإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم، بل بايع مع باقي المسلمين أبا بكرالصديق، ثم عمر رضي الله عنها؛ فإنه يعلم فضلهما عليه وأحقيتهما بالخلافة قبله،وأنه لم يحن وقته. وقضى أيام خلافتيهما، وهو على أحسن سيرة، حتى استشهد الخليفةالثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على يد مجوسي حاقد . وفي تلك الآونة بدأ المجتمع الإسلامي يصيبه بعضالتغيير، فالإسلام انتشر وغزا بلاد الفرس، والروم، وفتحت بلادهم، وتظاهر بعض منهمبالإسلام، وأبطنوا الكفر، وكانوا يخططون لهدم الإسلام، والوقيعة بأهله، فكان منذلك استشهاد عمر رضي الله عنه على يد أحدهم كما قلنا . وتتابعت الأحداث حتى وليعثمان الخلافة بالشورى التي أوصي بها عمر وقد خشي عثمان رضي الله عنه أن يتبرأ منهذا الأمر أن يكون بذلك قد عصا أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي قال فيه (وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمصك الله عز وجل فلا تفعل ) .


    اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة عثمان بن عفان بالخلافة، وفي ذلك يقولابن مسعود رضي الله عنه: "استخلفنا خير من بقي ولم نأله" . تولى الخلافةرضي الله عنه، وكان على خير حال، وعلى درجة قوية من الإيمان، فقد كان إذا وقف علىقبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة فلا تبكي! وتبكي من هذا؟ قال: إن رسولالله صلى الله عليه وسلم قال: "القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعدهأيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه" وكان يطيل التهجد . ولعله توقع قرب تحقق ما أخبر به النبي صلى اللهعليه وسلم، مما دفعه إلى أن يلين في سياسته مع الناس، ويتخذ من المسامحة منهجاً فيالتعامل مع الرعية، تجنباً للفتن، وتخفيفاً من وطأتها إن وقعت، لأنها ستقع حتماً،لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعها. سار رضي الله عنه على هذه السياسة طوال فترةخلافته، ومع ذلك تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت الفتنة المنتظرة . وذلك في آخر عام من خلافة عثمان رضي الله عنه. أترىكيف وقعت، وما موقف عثمان فيها؟ وما مواقف الصحابة رضي الله عنهم عند اشتعالها؟فيما يلي تفصيل لأحداث هذه الفتنة؛ مبنية على الروايات الصحيحة والحسنة الواردةفيها.










    (7)


    ما الصورة التي قتل عليها عثمان





    استمر الحصار إلى صبيحة يوم الجمعة؛ الموافق الثاني عشر منشهر ذي الحجة من السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة . وفي هذا الوقت كان عثمان بنعفان رضي الله عنه يجلس في داره ومعه عدد كبير ([75]) ، من الصحابة رضيالله عنهم وغيرهم، يريدون الدفاع عنه وحمايته من اعتداء المحاصرين منهم: الحسن بنعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ([76]) ، وعبد الله بن عامربن ربيعة رضي الله عنهم ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم ، وكثير بن الصلت ، ونائلةبنت الفرافصة، زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه كنانة مولى صفية رضي الله عنها ورجالمن بني عدي بن سراقة وابن مطيع علي نحو ما فصلنا سابقا ([77]) .


    وكان عثمان رضي الله عنه يأمرهم بالخروج، وينهاهم عن الدفاععنه، وهم مصرون على ذلك . وأخيراً استطاعأن يقنعهم، فخرجوا من الدار، وخُلِّي بينه، وبين المحاصرين فلم يبق في الدار إلاعثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع، ولا حامٍ من الناس، وفتح رضي اللهعنه باب الدار . فترى هل سيهاب القوم من خليفتهم فيحجموا عن إيذائه، فتزول كلالأحقاد لهول الموقف، أم أنهم أناس صادقون في غيرتهم ضالون عن جادة الحق يرون أنقتله واجب ديني؟ فسيقتلونه محسنين قتلته، لنترك بيان ذلك إلى الروايات الصحيحةالتي ستكشف لنا عن حقيقة القوم، وعن صفة دخولهم عليه وما فعلوه به. لتحكي لناأحداث تلك الساعة الحاسمة التي لم يمح ذكرها عبر العصور التي مضت منذ حدوثها إلىيومنا هذا، أي منذ ما يقارب الأربعة عشر قرناً.


    وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر رضيالله عنه المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه([78]) . وكان إذ ذاك صائماً فإذا برجل من المحاصرين - لم تسمه الروايات-يدخل عليه، فلما رآه عثمان رضي الله عنه قال له: "بيني وبينك كتابالله" فخرج الرجل، وتركه ، وما إن ولّى حتى دخل آخر، وهو رجل من بنيسدوس، يقال له: الموت الأسود؛ فخنقه وخنقه قبل أن يضرب بالسيف، فقال: والله"ما رأيت شيئاً ألين من خنّاقه، لقد رأيت خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان ترددفي جسده . ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاهعثمان رضي الله عنه بيده، فقطعها، وشك الراوي أبانها أو لم يبنها. ( يقطعها) ، فقالعثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل ، وذلك أنه كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف من إملاء من رسول الله صلى الله عليهوسلم فقُتل رضي الله عنه والمصحف بين يديه . وعلى أثر قطع اليد، انتضح الدم علىالمصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُاللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . ([79])


    وفي رواية: إن أول من ضربه رجل يسمى رومان اليماني، ضربهبصولجان ([80]) ، ولما دخلوا عليهليقتلوه أنشد قائلاً:

    أرى الموت لا يبقي عزيزاً ولم يدع ............. لعاد ملاذاً في البلاد ومرتقى



    وقال أيضاً:

    يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ............ ويأتي الجبال في شماريخها العلى



    ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: "إنتقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن" ([81]) .


    ولما فرغ قاتله -الرجل الأسود- من قتله رفع يده أو بسطها فيالدار وهو يقول: "أنا قاتل نعثل" . وكانت قتلته وحشية، حتى إن أبا هريرةرضي الله عنه كان كلما ذكر ما صُنع بعثمان رضي الله عنه بكى حتى ينتحب . ([82])


    وكان قتله رضي الله عنه صبيحة يوم الجمعة اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة منالسنة الخامسة والثلاثين كما يروي الطبري .([83]) قد استشهد رحمهالله وكان عمرة اثنتين وثمانين سنة علي أرجح الأقوال كما ورد في المصادر السابقة .


    أما قاتله فقد روي حوله الكثير ولم يتحدد القاتل بدقة فقد أتهم في قتله عدةأشخاص منها :- المقبول وأكثرها ضعيف وفي أصح الروايات أن قاتله رجل أسود من أهلمصر كان يقال له حمار وفي روايات أخري يقال له جبله أو جبلة بن الأيهل ومصدر هذهالروايات الثلاث :-


    1) وهو ما رواه كنانة مولي صفية رضي الله عنها وكما قلنا عن الأسود الذي دخلعلي عثمان رضي الله عنه وخنقه كان أسود أيضا وأن الراوي قال خنقه ثم خنقه قبل أنيضرب بالسيف ، إذا تأملنا ذلك دل علي أن هذا الرجل الذي قتل عثمان رحمه الله وهوجبلة لأنه أسود البشرة وفي قول الراوي قبل أن يضرب بالسيف دليلا علي أنه ضرببالسيف . ونخلص من هذا أن قاتل عثمان رضيالله عنه رجل مصري لم تفسح الروايات عن أسمه لكنها بينت أوصافه وهو سدوسي الأصلأسود البشرة لقب بجبلة لسواد بشرته كما لقب أيضا بالموت الأسود ([84]) .


    وبناء علي الصفات السابقة فقد ذهب محب الدين الخطيب إلى أنالقاتل: هو عبد الله بن سبأ حيث قال: "ومن الثابت أن ابن سبأ كان مع ثوار مصرعند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة، وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرصعلى أن يعمل من وراء ستار، فلعل (الموت الأسود) اسم مستعار له أراد أن يرمز بهإليه، ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام". ([85])


    وقد يشهد لما ذهب إليه:أن ابن سبأ أسود البشرة؛ فقد صح عن عليرضي الله عنه أنه وصفه بالخبث، وسواد البشرة، وذلك في قوله عنه: "الخبيثالأسود" . وأنه يعتبر من أهل مصرلتغلغل أفكاره في بعض أهلها، ولمكثه فيها آخر أمره، ولقدومه مع أهلها . وأن اللقبين اللذين وردا للقاتل يلتقيان معلقبه المشهور (ابن السوداء)، فإن الألقاب الثلاثة تشتمل على لون بشرته وهو السواد. وأن اللقب الذي لقب به القاتل (جبلة) اسم لرجليهودي يمني ورُوي أن ابن سبأ من يهود اليمن .


    ولا صحة لاتهام هؤلاءالأفراد بقتل عثمان كما وردت في الروايات الضعيفة الغير مقبولة ومنهم كنانة بن بشرالتجيبي الكندي ورجل من بني عبد الداريسمى نهران الأصبحي ، وأبي عمرو بن بديلالخزاعي ، وسودان بن رومان المرادي ، ورجل من بني أسد بن خزيمة يسمى رومان ، وسودان بن حمران ، ومحمد بن أبي بكرالصديق ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهبقتل عثمان رضي الله عنه. فكل ذلك رُوي بأسانيد ضعيفة، و متونها شاذة؛ لمخالفتهاللرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري يقال له: جبلة؛ لسواد بشرته.([86])


    وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر فإنه يضاف إلى ما تقدم أنه قد وردت رواية صحيحة الإسناد تبرئه من هذهالتهمة، وتكشف عن سبب اتهامه بها؛ يرويها لنا شاهد عيان، -حضر يوم الدار ورأىالقاتل- وهو كنانة مولى صفية رضي الله عنها فقد سأله محمد بن طلحة؛ هل ندى محمد بنأبي بكر بشيء من دمه -أي عثمان- فقال: معاذ الله، دخل عليه فقال له عثمان: يا ابنأخي لست بصاحبي، وكلمه بكلام فخرج ولم يند بشيء من دمه.


    وفي رواية صحيحةأخرى أن كنانة قال: لم يند محمد بن أبي بكر من دم عثمان بشيء، فقال له محمد بنطلحة: فلم قيل إنه قتله؟ قال:معاذ الله أن يكون قتله، إنما دخل عليه فقال لهعثمان...
    وبهاتين الروايتين الصحيحتين تظهر لنا براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان،براءة الذئب من دم يوسف، كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله عليه قبل القتل
    . ([87])


    وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه لما كلمه عثمان رضي اللهعنه استحيى، ورجع، وتندم، وغطى وجهه وحاجز دونه فلم تفد محاجزته . ([88])

    (8)


    الصلاة عليه ثم دفنه




    لم يصح مما ورد في الصلاة على عثمان رضي الله عنه، وجنازته،ودفنه إلا بعض من روايات ضعيفة، يقوّى بعضها بعضاً، فبعضها يقول أنه صُلِّي عليه([89]) ، وأن مالك بن أبي عامر كان ممن حمل نعشه، وسار في جنازته ([90])، وأنه دُفن فيحائط من حيطان المدينة يقال له: حش كوكب وحش كوكب: هو بستان بالقرب من بقيع الغَرْقد ([91]). هذه المعلوماتالتي صحت في هذه الموضوعات الثلاث، وأما الروايات الضعيفة التي رُويت في ذلك فإنهاتارة تتوافق، وتارة تتضارب.


    فقد اختلفت في وقوع منع الصلاة عليه رضي الله عنه، فقد رويتروايات ضعيفة جداً في أن الأنصار مُنعوا من أن يصلى عليه ([92]) ، وإسناده ضعيف ، وأن منهم: أسلم بنبجرة الساعدي، وأبو حية المازني . وفي رواية ضعيفة أيضاً أنه بقي ليلتين ويوماً لايصلون عليه، وأن أباحذيفة قال: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته، وفي لفظ آخر إنتمنعوا الصلاة عليه فقد صلى الله عليه وملائكته . ويروي ابن عساكر أنه لما قتل مكثثلاثاً لا يدفن، حتى هتف بهم هاتف، أن ادفنوه، ولا تصلوا عليه فإن الله قد صلىعليه ([93]) .


    وذكر ابن الأثير وأعوانه منع الصلاة عليه بصيغة التضعيف وفيرواية لسيف أنه لم يمتنع أحد أن يصلي عليه من شيء، وأن مروان صلى عليه ([94])، وهذه الروايات التي تثبت منع الصلاةعليه، ويثبت بعضها عدم الصلاة عليه -كما تقدم- شديدة الضعف من حيث الإسناد، ويضافإلى ضعف أسانيدها إنكار متونها. فقد ثبت -كما تقدم- في الرواية الصحيحة أنه صُليعليه، بل وتفصل روايات يسيرة الضعف، فتذكر أسماء الذين صلوا عليه، وهم: جبير ابنمطعم وحكيم بن حزام وحويطب بن عبد العزى ([95]) .


    والزبير بن العوام ومالك بن أبي عامر كما تقدم، ومروان بنالحكم، والمسور بن مخرمة ، ونيار الأسلمي، وأبوجهم بن حذيفة العدوي ، ونائلة بنتالفرافصة الكلبية زوجته، وأم البنين بنت عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارية ([96]) .


    ولا شك أن الظروف التي كانت تحيط بجنازته والصلاة عليهودفنه، كانت حرجة للغاية، حيث إن الخارجين عليه كانوا محيطين بالدار، كما أنالصلاة عليه كانت ليلاً. وهذا يبين لناجلياً عذر من لم يصلِّ عليه ممن كان في المدينة إذ ذاك، على فرض صحة نقل ما يثبتذلك. ولم يرد أن أحداً من الصحابة رضيالله عنهم امتنع عن الصلاة عليه إلا ما روي بإسناد ضعيف عن بعض الأنصار، وإضافةًإلى ضعف الإسناد، فإن الرواية أبهمت أسماء هؤلاء الممتنعين عن الصلاة عليه، فلمتعيّن اسم واحدٍ منهم سوى شخصين اثنين، ويكفينا في ردّها أنها ضعيفة الإسناد. كماأنها لا تدل على أنه لم يصلّ عليه سوى من سمتهم الروايات، فلا نفي لصلاة كبارالصحابة عليه، كعلي وطلحة والزبير وغيرهم.

    متفرقات عن الفتنة







    أولا : ما أثر عن الصحابة في مقتل عثمانرضي الله عنه



    استشهد عثمان رضي الله عنه وفاز بالجنة على بلوى أصابته، كما أخبره النبي صلىالله عليه وسلم وأخبر الصحابة معه بفتنة قتله وبشيء من التفصيلات التي ستكون فيها.والروايات تثبت أنه أسرَّ إليه بشيء لم يكن يرغب عليه الصلاة والسلام إعلانه،فاختص عثمان به دون غيره .


    ولكن هل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الصحابة رضوان الله عليهمبأثر استشهاده رضي الله عنه على الأمة ؟. لم يصرح أحد من الصحابة بذلك فيما وصلإلينا من روايات، وقد روى بعضهم شيئاً من آثار استشهاده، فهل ذلك بإخبار منه صلىالله عليه وسلم أم مجرد تفرس وبعد نظر منهم رضوان الله عليهم؟.


    كلا الاحتمالين وارد، لأنهم ليسوا ممن يطلق للسانه العناندون وعي بما يقول، فيقولون بغير علم، كما أنهم أقوى الناس إيماناً بعد الأنبياءوالرسل، فالتفرس أقرب ما يكون إليهم من غيرهم. فمن ذلك ما قاله ثمامة بن عدي رضيالله عنه ([97]) ، لمّا بلغه قتل عثمان . رضي الله عنهوذلك في خطبة خطبها، بكى فيها بكاءً شديداً فلما أفاق واستفاق قال: "اليومانتزعت خلافة النبوة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصارت ملكاً وجبرية، من أخذشيئاً غلب عليه" ([98]). فقد عبر ثمامةعن معنى عميق، يتصل بفهم نظام الخلافة، وأنه شورى، وأن هدمه بالقوة يحوِّل نظامالحكم إلى ملك جبري. وكان إحساسه بخطورة التحول عميقاً، وألمه لذلك شديداً؛ ممايدل على وعي بالسنن الاجتماعية التي سنها الله في خلقه. وفعلاً وقع ما قاله ثمامةرضي الله عنه إلا أنه لم يقع بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه مباشرة، فقد تولىالخلافة من بعده علي ثم معاوية رضي الله عنهما، ولم تكن خلافتهما كذلك، بل وقع ذلكبعدها.


    كما ترتب على استشهاد عثمان رضي الله عنه مفاسد كثيرة :-


    1) فقد انكشفت حصون الإسلام، وسهل على الأعداء استهدافه، وفي ذلك يقول سمرة بنجندب رضي الله عنه ([99])


    "إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان، وإنهم شرطوا فيالإسلام شرطة، وإنهم لا يسدوا ثلمتهم -أو لا يسدونها- إلى يوم القيامة". ([100]) ، وحقاّ فإنالإسلام كان في حصن التآلف والمحبة، يجمع بين أبنائه الإيمان بالله جل وعلا. فلماتسلل إليه أعداؤه تحت ستار الإسلام، وفعلوا ما فعلوا بعثمان رضي الله عنه زالالحصن ووقع القتال بينهم . ولعل قول سمرة هذا كان بعد وقوع الفتن التي حدثت فيخلافة علي رضي الله عنه، لأن سمرة توفي سنة ثمان وخمسين بعد الهجرة.


    2) بدأ تدني وضعف المسلمين في التزامهم بالإسلام :


    ويبين حذيفة رضي الله عنه أثر قتل عثمان رضي الله عنه علىالتزام الناس بالإسلام وفهم معانيه بقوله لما بلغه قتل عثمان: "اليوم نزلالناس حافة الإسلام، فكم من مرحلة قد ارتحلوا عنه" . ولا شك أن ذلك قد وقع فعلاً فإنَّ المجتمع فيعهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان أقوىالتزاماً بالإسلام ومعانيه وفهمه. ويظهر من كلام حذيفة رضي الله عنه أنهم درجوا فيالضعف، والتدني، وعبر عن ذلك بالارتحال عن الإسلام مراحل، حتى وصلوا إلى حافته؛أي: طرفه، بعد قتل عثمان. ([101])


    - ولأقوال حذيفة رضي الله عنه في ذلك أهمية عظيمة جداً، لوعيه العميق بالفتن،ولم يكتف حذيفة رضي الله عنه بهذا الوصف لما حصل للإسلام بقتل عثمان رضي الله عنهبل صرح بأن قتله فتنة، وأنها أول الفتن ([102]) . وحقاً فإنها فتنةتوالت بعدها الفتن كما جزم رضي الله عنه بأن مصير قتلة عثمان رضي الله عنه فيالآخرة إلى النار . ويبين عبد الله بنسلام رضي الله عنه لقتلة عثمان رضي الله عنه أنهم لن يهرقوا محجماً من دم فيالفتنة إلا ازدادوا من الله بعداً، وذلك في قوله لهم: "والله لا تهرقونمحجماً من دم إلا ازددتم به من الله بعداً" ([103])

    * * * *


    ثانيا: أثر قتل أمير المؤمنين عثمان علي الأمةالإسلامية ؟



    لقد كان مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان سببا في ضعفالأمة الإسلامية ونقص في تمثلها لمعاني الدين، وقد جعل المسلمين آنذاك أكثر بعدا من الله .


    وقد أشار إلي ذلك عبد الله بن سلام وحذيفة رضي الله عنهمافقد وعي كلا منهما الموقف وعيا عميقا ووقفوا علي خطورة الفتنة ببصيرة نافذة ، وعبدالله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود وسادتهم قبل إسلامه، فقد أنزل اللهفيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ([104]) ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه سيموت وهو متمسك بالعروة الوثقى([105]) .


    فأقواله ومواقفه لها أهمية منبثقة من هاتين الشهادتين له،إذ هو محافظ على بصيرته الناقدة ومقاييسه الإسلامية في ظروف الفتنة التي عصفتبالكثيرين، ومن هنا فسر بعضهم أنه المقصود بقوله تعالى: {وَمَن عِنْدَهُ أُمُّالْكِتَابِ} ([106]) ، أي: التوراة، قال مجاهد: "هو عبدالله بن سلام". وبما أن أخباره هذهتتضمن أموراً غيبية، فإنّ ذلك يزيد التوثق من أن لها مصدراً موثوقاً عنده وإلا لماحدَّث بها.


    ومما ثبت عنه في ذلك أنه خرج يوماً على قتلة عثمان رضي اللهعنه ونهاهم عن قتله، وأخبرهم أنه لم يبق من أجله إلا القليل، وقال لهم:"اتركوا هذا الرجل أربعين ليلة، فوالله لئن تركتموه فليموتن إليها، فأبوا، ثمخرج عليهم بعد ذلك بأيام، فقال: اتركوه خمس عشرة ليلة، فوالله لئن تركتموه ليموتنإليها". وأقسم لهم بأنهم إن قتلوه فلا يصلون جميعاً أبداً ووقع فعلاً ما قالهابن سلام رضي الله عنه، من حيث تفرق قلوب القوم، حتى إن الحسن البصري يقول: فواللهإن صلى القوم جميعاً إن قلوبهم لمختلفة. ([107])


    ومما يثبت صحة هذا القول ظهور بعض البدع والفرق التي خرجت عن الصف المسلم مثلظهور الخوارج والرافضة والسبئيين وغيرهم وهذا أمر له خطورته علي العقيدة الإسلاميةالسمحاء .


    فلا غرو ان يؤدي إلي ضعفالأمة الإسلامية آنذاك وتمزيق كلمتها وتبعثر وحدتها هو ظهور الخوارج والرافضة كمايقول شيخ الأسلام بن تيمية وهما : بدعةالخوارج المفترين لعلي، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته، أو نبوته وإلوهيته"([108]) .


    كما حذر ابن سلام رضي الله عنه: من ذهاب الملائكة على إثر قتله، تلك الملائكةالتي أحاطت بالمدينة منذ قدمها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذهابهم هذا أبدياًفلن يعودوا بعد ذهابهم أبداً ([109]) ، ولم تبين الرواية أي الملائكة المقصودين بقوله،أهم ملائكة مخصوصون أم ماذا؟ فإنَّ الملائكة الذين يكتبون الحسنات وكذلك الذينيكتبون السيئات لن يذهبوا، إلا بخروج روح صاحب الجسد. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنالملائكة تحيط بالمدينة آخر الزمان حينما يحاول الدجال اقتحام المدينة، فعن أبيهريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "على أنقاب المدينة ملائكةلا يدخلها الطاعون ولا الدجال" وعن أبي بكرة عنه صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل المدينة رُعب المسيح الدجال ولها يومئذ سبعة أبواب على كل بابملكان" ([110]) ، وحذرهم أيضاً منانسلال سيف الله عليهم، فلا يُغمد أبداً أو: إلى يوم القيامة وقد كان مغموداًعنهم، وأخبرهم أيضاً بأنه لم يقتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً، ولا خليفة إلاقتل به خمسة وثلاثون ألفاً قبل أن يجتمع الناس، وذكر لهم أنه قُتل على دم يحيى بنزكريا سبعون ألفاً. وهذا التفصيل منه رضيالله عنه يؤكد لنا أنه لا يتحدث بذلك تخرصاً، ولا تفرساً، بل بعلم راسخ وأكيد.

    * * * *


    ثالثا : ثناء أهل البيت علي عثمان رضي الله عنه وبراءتهم من دمه :



    1) موقف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها :


    أ- عن فاطمة بنت عبد الرحمناليشكرية عن أمها ؛ أنها سالت عائشة ، وأرسلها عمها فقال : إن أحد بنيك يقرئكالسلام ويسألك عن عثمان بن عفان ، فإن الناس قد أكثروا فيه . فقالت : لعن الله منلعنه ، فوالله لقد كان قاعدا عند نبي الله r وإن رسول الله r مسند ظهره إلي ، وإن جبريل عليه السلام ليوحي إليه لقرآن وأنهليقول : اكتب عثمان فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما علي الله ورسوله ([111]) .


    ب- وعن مسروق عن عائشة قالتحين قتل عثمان : تركتموه كالثوب النقي من الدنس ، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبحإليه الكبش ، فقال لها مسروق : هذا عملك ، أنت كتبت إلي الناس تأمرينهم بالخروجإليه ، قالت عائشة : لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهمبسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا ([112]). وقد مر معنا كذب السبئيينو؟أنهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ونسبوها كذبا وزورا للسيدة عائشة رضي الله عنها .


    ج- ولما سمعت بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلي المدينة رجعت إلي مكةودخلت المسجد الحرام ، وقصدت الحجر فتسترت فيه ، واجتمع الناس إليها ، فقالت أيهاالناس إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وأهل المياه ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أنعاب الغوغاء علي هذا المقتول بالأمس الإرب ([113]) ، واستعمال من حدثت سنه ، وقد استعمل أسنانهم قبله ، ومواضع من الحميحماها لهم ، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها ، فتابعهم ، ونزع لهم عنهااستصلاحا لهم ، فما لم يجدوا حجة ولا غدرا خلجوا ([114]) ، وبادروا بالعدوان ، ونبا فعلهم عن قولهم ، فسفكا الدم الحرام ، واستحلواالبلد الحرام ، وأخذوا المال الحرام ، واستحلوا الشهر الحرام ، والله لإصبع عثمانخير من طباق الأرض أمثالهم ، فنجاة ([115]) ، من اجتماعكم عليه حتى ينكل ([116]) ، بهم غيرهم ، وشرد ([117])، من بعدهم ، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلصالذهب من خبثه ، أو الثوب من دونه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء . ([118])


    2- علي بن أبي طالب :


    كان علي يجل عثمان ويعترف بخلافته فكان : أول من بايعه بعد عبد الرحمن بن عوف وقال عن عثمان برجل قال فيه رسول الله( ألا استحيي ممن تستحيي منه الملائكة ) .([119]) . وشهد علي لعثمان بالجنة ويدعي ذا النورين ويكفيه أنهكان زوجا لابنتي رسول الله r وقد شهد علي له بحسن عمله حينما جمع الناس عليقراءة واحدة وقال علي : لو وليت الذي ولي لصنعت مثل الذي صنع وقد أنكر علي مقتلعثمان وتبرأ من دمه حيث كانت تتهمه الرافضة بقتل عثمان فكان يقول كما روي عن ابنعباس ( أن عليا قال والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله ولكني نهيت والله ما قتلتعثمان ولا أمرت ولكني غلبت قالها ثلاثا . ([120])


    3) ابن عباس رضي الله عنه


    كان حزينا علي مقتل عثمان وقد رويا عنه أنه قال لو اجتمع الناس علي قتلعثمان لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط .([121]) ، رحم الله أبا عمرو ، كانوالله أكرم الحفدة وأفضل البررة ، هجادا بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النارنهاضا عند كل مكرمة سباقا إلي كل منحة ، حبيبا أبيا وفيا ، صاحب جيش العسرة ، ختنرسول الله r فأعقب الله علي من يلعنه لعنةاللاعنين إلي يوم الدين . ([122])

    * * * *


    رابعا : أوليات عثمان رضي الله عنه.



    قال العسكري في كتابه { الأوائل } ([123]) ، إن لأمير المؤمنين عثمان رضي اللهعنه أوائل يعد هو أول من عملها أو سنها تخفيفا عن الناس وليست تجافي الشرع أوالعقيدة الإسلامية ومنها تلك الأوائل :


    - هو أول من أقطع القطائع للصحابة في الأمصار المفتوحة وغيرها


    - أول من حمي الحمي إذ وسعه وجعله مقصورا علي غنائم وخيول بيت المال .


    - أول من خفض صوته بالتكبير عند الصلاة .


    - أول من خلق المسجد أي طيبة بالخلوق .


    - أول من امر بالأذان الأول في الجمعة وأصبح للجمعة أذانان .


    - أول من رزق المؤذنين وجعل لهم رواتب من بيت المال .


    - أول من أُرتج ( عيب عليه في خطبته ) عليه في الخطبة فقال : أيها الناس ،إن أول مركب صعب ، وإن بعد اليوم أياما ، وإن أعش تأتكم الخطبة علي وجهها ، وماكنا خطباء وسيعلمنا الله .([124])


    - أول من قدّم الخطبة في العيد علي الصلاة .


    - أول من فوض إلي الناس إخراجزكاتهم ، بعد أن كانت الزكاة تجبي من المسلمين وتوضع في بيت المال ثم ينفق منهاعلي مخارج الزكاة من الفقراء والمساكين وما تحتاجه الدولة إلي غير ذلك .


    - أول من اتخذ صاحب شرطه .


    - أول من اتخذ المقصورة في المسجد خوفا أن يصيبه ما أصاب عمر هذا ما ذكرهالعسكري .


    - أول ما وقع الاختلاف بين الأمة فخطأ بعضهم بعضا في زمانه في أشياء نقموهاعليه ، وكانوا قبل ذلك يختلفون في الفقه ، ولا يخطي بعضهم بعضا .


    - أول من هاجر إلي الله بأهله من هذه الأمة كما تقدم .


    - أول من جمع الناس علي حرف واحد في قراءة القرآن الكريم .


    وخرج ابن عساكر عن حكيم بن عباد حنيف قال :-


    - أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهي سمن الناس ([125]): طيران الحمام ، والرمي عليالجلاهقات ([126])، فاستعمل عليها رجلا من بنيليث سنة ثمان من خلافته فقصها وكسر الجلاهقات ([127]) .

    * * * *


    خامسا: نقد بعض كتابات المعاصرين عن الفتنة ومقتل عثمان



    اختلفتأراء الرواة والكتاب المسلمون حول مقتل عثمان – رضي الله عنه – أخلافا بينا ومطولافمنهم من ألقي عليه باللوم لتراخيه مع العمال والولاة وما أتي به من أعمال لم يرضعنها كثيرا من الصحابة ، ومنهم من دافع عنه وأبرز مكانته السامية بين الصحابة باعتبارهرمزا من رموز الصحابة كما وأنه في خلافته يعد رمزا أيضا لهيبة الدولة وعزتهاوكرامتها فدافعوا عنه وبرروا لكثير من المواقف والتصرفات التي اجتهد فيها أميرالمؤمنين عثمان رحمه الله ، وسوف نعرض لكلا الرأيين :-

    (1)


    ألاراءالائمين لعثمان



    أولا : نقد العقاد :


    ألف العقاد كتاباً أسماه: "ذو النورين عثمان بن عفان"، وطبع الكتابعدة طبعات، وكان له رواج كبير بين بعض مثقفي العصر، لما للعقاد من تأثير فكريوأدبي في وجدان الأمة آنذاك . وصار هذا الكتاب مرجع رئيس لدي كثير من أساتذةومدرسي التاريخ الإسلامي .


    فقد أسهم الكتاب مساهمة فعالة قوية في تخيل صورة الفتنة في مجتمعنا المعاصر،فاستحق بذلك أن يُهتم به من حيث النقد والتصويب، لأن ذلك بمثابة تعديل لجزء كبيرمن صورة هذه الحادثة التاريخية في أذهان مثقفي عصرنا الحاضر.


    والحق أن المؤلف أصاب في بعض المسائل التي وقع فيها كثير ممن كتب عن الفتنة؛فنجده يعتدل إلى حد كبير في أكثر المسائل المتعلقة بشخصية عثمان رضي الله عنه، معوجود ملحوظات شذ فيها عن هذا الاعتدال سيأتي ذكرها.


    وقد أصاب العقاد في تفسير الفتنة، وأشار إلي بعض التفسيرات الخاطئة للفتنة.
    ووصف قتلة عثمان رضي الله عنه بأوصاف تليق بقبحهم، وفي الوقت نفسه برّأ الصحابة منهذه الفعلة الشنيعة، كما برأهم من تهمة التحريض على عثمان رضي الله عنهم، إلا أنهيقع أحياناً فيما يناقض ذلك، كما سيأتي . وردَّ على التهم التي وُجهت إلى عثمان رضي الله عنه بردود ضعيفة، ثم زلفنقض بعض هذه الردود كما سيأتي بيانه. وأطالفي الرد على من وصف شخصية عثمان رضي الله عنه بالضعف، وكان ينتهز الفرص من الأحداثليدفع هذه التهمة عن هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه، وهذا من الإيجابيات التي فيالكتاب.



    وقد أجاد العقاد " كعادته " إجادة رائعة سواء فيما يتعلق بمنهجالتأليف الذي ألتزم به أو لنقده لبعض الحقائق التاريخية ،وقد أخذ عليه أحد الكتاببعضا من الملاحظات لا تخل بقيمة الكتاب لأن العقاد ثقة فيما يكتب وإن كنا نود أنيتجه الكتاب إلي التمام والكمال فهو لم يذكر المصادر والمراجع التي رجع إليها فهيقليلة جدا ولا تكفي لبيان طبيعة المادة التاريخية وقد أدت هذه النقيصة إليالأختلاف الواضح والتصادم مع الرواة القدامي كالطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم، ومن هنا فيجعل القارئ غير متيقن من صحة الروايات ولا يستطيع أن يعرف درجة الخبرفيها إن كان قويا أو ضعيفا .


    كما أن روح الكتاب والصياغة فيها شيءمن البعد عن الصبغة الإسلامية الشرعية، ومما لوحظ عليه من ذلك عدم افتتاحهبالبسملة والحمدلة، وهذه سمة يتصف بها العقاد فيما اطلعت عليه من كتبه ولا شك أنانتهاج مثل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى تدين صاحبه، ومدى التزامه بالعاداتوالتقاليد الإسلامية، ولعل سبب ذلك هو التقليد الأعمى للغرب الذين تتلمذ عليهم. أمابعض الأخطاء العلمية التي وقفت عليها في هذا الكتاب فهي كما يلي:


    - لم يحقق المؤلف في مسألة الكتاب المزوَّر، واستعمل بعض العبارات المحتملةللتصديق والتكذيب، كقوله: "ثم بلغ الكتاب أجله، بقصة ذلك الكتاب الذي قيلأنهم وجدوه مع غلام لعثمان..."([128]) والحق أنه كتابمزوَّر على عثمان رضي الله عنه، فلم يكتبه ولم يأمر بكتابته، ولم يعلم به، كما تقدم إيضاح ذلك.


    - وذكر أن الكتاب المزوَّر المنسوب إلى عثمان رضي الله عنه أمراً منه بجلد عبدالرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمق، وعروة النباع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلببعضهم ([129]) ولعله اعتمد في ذلك على رواية الواقدي التيرواها الطبري في تاريخه، ونصها: "فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد،فإذا قدم عليك عبدالرحمن بن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسهحتى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك، وسودان بن حمران مثل ذلك، وعروةالنِّباع، مثل ذلك..." ([130]) ،والواقدي روايته ضعيفة لفقد الثقة فيه فيكون الإسناد ضعيفاً جداً. وتخالف رواية الواقدي هذه الرواية الأقوىوالأصح منها في بعض النقاط، فإنَّ فيها: "أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهموأرجلهم"([131]) .


    فليس في الرواية الصحيحة تعيين الأشخاص المراد تعذيبهم، وليس فيها الجلد ولاالحبس ولا حلق الرؤوس واللحى.


    وهذا الذي يبدو أنه الصحيح، فإنَّ مزوِّر الكتاب علي عثمان يبدو من براعته في التزويرأنه لا ينسب إلى عثمان رضي الله عنه هذه الترهات، ولكنه التمس تضليل الناس بأنعثمان رضي الله عنه رأى أن هؤلاء من المفسدين في الأرض، ويستحقون عقاب المفسدين فيالأرض، وهو الذي ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَيُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْيُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْخِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ([132]) ، فهذا المفتريالمزوِّر، يأمل أن تصدق كذبته التي قد يحكم بها عثمان رضي الله عنه معتمداً علىهذه الآية، أما إذا كانت بتلك الصورة فبعيد جداً أن يصدق نسبته إلى عثمان رضي اللهعنه أحدٌ من العقلاء، الذين يعرفون أن حدود التعزير في الإسلام لا تتجاوز نواهيالله جل وعلا، فليس للإمام أن يعزر بحلق اللحى، لأن حلقها معصية للرب، فقد تواترتالأدلة على تحريمه.


    - ويقول في آخر كتابه: "وإن وجبت كتابة السِّيَر، فأوجب ما يوجبها أن تكشف جانب الخير أغوار النفسالإنسانية، لا قصيدة مديح كما يقال، بل تحية صدق تمتحن بالنار والنور بين ظلماتالشرور. وهذه السيرة الرابعة من سير الخلفاء الراشدين لا نسميها بالعبقرية كماسمينا عبقرية عمر وعبقرية الإمام وعبقرية الصديق، لأننا نؤمن بالعبقرية لعثمان رضيالله عنه، ونؤمن في الحق أنه ذو النورين: نور اليقين ونور الأريحية والخلق الأمين.ومن أبى عليه ميزانه أن يحابي في كلمة تستدعيها المُجاراة لما سبقها من الكلماتينظم قصائد المديح في محراب التاريخ، فحسب النفس البشرية أملاً أنها غنية بالحق عنقصائد المديح في هذا المحراب..." انتهى كلامه وأنهى الكتاب بهذه العبارة ([133]).


    ثانيا:رأيالأستاذ فريد وجدي في مقتلعثمان


    نوردهنا ما كتبه الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف خاصًَّا بمقتلعثمان‏:‏


    ‏"‏إن الناظر في حادثة عثمان على ما أحاطها به المؤرخون منعباراتالتضليلالباعث عليه ضعف النقد، يعدها أمرًا جليلًا، وهي في حقيقتها أمر طبيعي،كانت نتيجتها لازمة لمقدماتسابقة‏.‏ ونحن لا نود أن نقول بأن عثمان ـ رضي اللَّهعنه ـ استحق أن يقتل‏.‏ ولكننانقول‏:‏ إنه استحق أن يعزل، ولكن الشكل الفذُّ الذيكانت عليه الحكومة إذ ذاك لميسمح إلا بحدوث هذه النتيجة المحزنة المريعة‏.‏ثم يبرر الأستاذ فريد وجديعزل أمير المؤمنين عثمان ولم يقل قتله للأسباب الآتية :-


    أولاـ ضياع هيبة الخلافة في عهده، إذ أجترأ رجل يطلق عليه ‏"‏جهجاه‏"‏ على كسر العصا التي كان يتوكأ عليها، وهوعلى المنبر، فلم يقوَّ علىمعاقبتهبما يستحق، أو بمؤاخذته بحيث لا يجترئ بمثلها‏ أحد وكانت تلك هي السابقة الوحيدةوالتي بدرت في عهد عثمان فقط .‏ ثم يوضح أن عثمان بن عفان كان كثير الخطأ كثيرالتوبة فيقول . وقد تبيَّن من تاريخ حياتهأنه كان يصعد المنبر فيتوب مما فعل،ويستغفراللَّه، ثم يعود سيرته الأولى من الخضوع لرأي فتية بني أمية‏.‏ وفي توبتهإقرار بأنه أخطأ، ثم في عودتهدليل محسوس على خضوعه للمؤثرين عليه، وكفى بهذامسقطًا لهيبة الخلافة، وهيالوظيفة التي كانت تعتبر تالية لمقام النبوة‏.‏


    ثانيًاـ وقوعه تحت تأثير قرابته، من أمثال عبد اللَّه بن أبي سرح،وعمرو بن العاص ([134])،وسعيدبن العاص، ومروان بنالحكم،ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وهم إما من الطلقاء الذين مَنَّ رسول اللَّهـ صلى اللَّه عليه وسلم ـعليهم بالعفو عند فتح مكة بعد أن كان تاريخهم في مكافحةالدعوة الإسلامية أقبحتاريخ‏.‏ وإما من الفتيان الذين لا حريجة لهم في الدين، ولاصفة لهم بين المؤمنين .([135])


    ثالثًاـ قد حرم المجتمع الإسلامي من مكونيهالأولين والناشئين لبعض أركانه أمثال علي بنأبيطالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بنعمر، وغيرهم من كبار الصحابة،واعتماده على فتيان بني أمية‏.‏ فكان يرسل إلىالولاياتالكبرى كمصر وسورية والعراقين والفرس من أولئك الفتية ممن لا يحسنونقيادة، ولا يعرفون سيادة‏.‏ويترك أمثال أولئك الكاملين عاطلين بلا عمل، وهم مكونوالمجتمعالإسلامي وأرواحه التي أقامته من المجتمعات البشرية‏.‏


    هذهالأمور الثلاثة وحدها كانت كافية لإهلاك المجتمع الإسلامي وحلِّالوحدة الدينية، وهي وحدهاكانت كافية لجمع المسلمين على خلع ذلك الخليفة، ولكن شكلتلك الحكومة آنذاك لم يكنيسمح لهم بخلعه، فحدثت الحادثة التي انتهت بقتله‏.‏


    كانعثمان يستطيع أن يتلافى الوقوع في شرِّ هذه الحوادث بتوليةأمثال علي وطلحة والزبيرالولايات الكبيرة‏، .‏ فإن هؤلاء النفر كان لهم من المقامالرفيع، والسوابق الجليلة،والحب في نفوس الناس ما كان يقيم الكافة على الطريقالسوِّي، ويوجد للمجتمعالإسلامي روحه المدبر، ولكن عثمان كان تحت تأثير مثل عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح ،ومروان بن الحكم وغيرهما من الغلمان والأحداث المكروهين من الناس غالبا دون أولئكالصحابة الأكرمين الذين استعان بهم النبي ـصلى اللَّه عليه وسلم ـ نفسهفي تكوين الأمة، واستعان بهم أبو بكر وعمر في تقويمما أعرج من الشؤون‏.‏ فكيف لاتنحرف عنه الأمة‏؟‏‏.‏ وكيف لا تسقط مهابة الخلافة‏؟‏‏.‏وكيف لا يجترئ الناسعليه‏!‏‏.‏


    إنقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ على حسن سوابقه وفضله في إقامةالدين، وبذله نفسه وماله فيمساعدة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، يعد منالأمور المريعة‏.‏ ولكنالثائرين طلبوا إليه أن يخلع نفسه فأبى فحاصروه ليحملوه علىذلك فأصر على الإباء‏.‏فدخلوا عليه وهددوه بالقتل فلم يزدد إلا إباءً فاستهدف نفسهبذلك لما حدث‏.‏


    هذارأينا ولكن إخواننا المؤلفين الأولين كانوا يذهبون في تعظيمالأشخاص مذهبًا لا يلائم نصَّالدين نفسه، فاستنكروا حادثة عثمان استنكارًا لميفعله معاصروهأنفسهم‏"‏‏.‏)[136])


    ثالثا:رأيالأستاذ رفيق العظم


    كتبالأستاذ رفيق العظم المؤرخ الشهير في ترجمته حياة عثمان بنعفان كلمة في هؤلاء الناقمينعلى عثمان وفي أهمية تاريخ الصحابة، ما يأتي‏:‏


    ‏"‏إنَّ من يطالع هذا الخبر من أسراء الاستبداد وأليفيالاستعباديعجبمن جرأة القوم وتجاوزهم حدود الحشمة مع وجود الصحابة، وأعجب منه عندهم أنيتجاوز عن القوم لا ينالهم([137])‏،أدنىعقاب على ما فعلوه سوى التوبيخ، إذ لوحدثمن غيرهم ما حدث منهم في حكومة أخرى غير الحكومة الإسلامية يومئذٍ لما كانجزاؤهم إلا القتل أو قضاءالحياة في أعماق السجون‏.‏ ولكن شأن العرب وشأن الإسلاموحكومته يومئذٍ لا يضاهيه شأنالأمم الأخرى وحكوماتها‏.‏ إذ العرب قد اعتادوا بأصلالفطرة حرية الفكر والقول‏.‏وشرائع الإسلام لم تكن مصادمة لتلك الفطرة، بل هيمعينة لها، داعية لتهذيبهاوارتقائها‏.‏ فالقرآن يأمر المسلمين عامة بقول الحق، وأنيقوموا بالقسط ويشهدوا بالحقولو على أنفسهم، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر‏.‏وفي هذا كله ما يجيز لهمالانتقاد على الأمراء والعمال ويطلق لهم العنان فيمااعتادته فطرتهم من حريةالقول، بشرط أن لا يترتب على قولهم حدُّ من الحدود الشرعيةكالقذف وكل ما يمسُّ بالشرفوالعرض ويدعو إلى إقامة الحدِّ،أوأية عقوبة من عقوباتالتعزير‏.‏لهذا قام هؤلاء الناس وغيرهم في الأمصار الإسلامية يظهرون الطعن علىعثمان وعماله باسم الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من يجرؤ على معاقبتهم، أوالضرب على أيديهم من العمال،لأنه حق من الحقوق التي خولتها لهم الفطرة والشرع‏.‏ولم يظهر عليهم النكير إلابعد أن ترتب على عملهم حق من حقوق اللَّه في قتل عثمانرحمه اللَّه ورضي اللَّه عنه .


    وهذاعين ما يشاهد الآن في الممالك الأوربيةذاتالحكومات الشورية من إطلاق ألسنة الانتقاد على الحكومات ومناقشة أهل الشورىللوزراء في كل جليل وحقير‏.‏وكثيرًا ما يلجأ الوزراء إلى اعتزال مناصبهم إذارأوا منهم ما يستدعي ذلك،فيعتزلونها صاغرين‏.‏ وشأنهم هذا شأن المسلمين في ذلكالعهد مع أمرائهم كما رأيت‏.‏وترى العبرة في عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعمالهونهوض الأمة لمؤاخذته علىأمور هي ولا نكران للحق أقل مما يأتيه أصغر عامل من عمالالدول المطلقة في هذا العصروفي كل عصر‏.‏ ومع هذا فقد أفضى الأمر إلى طرد عماله منالأمصار، ثم إجلاب الناس عليهبالخيل والرجل من كل مصر وقتله بين ظهراني إخوانه منالمهاجرين والأنصار‏.‏


    فليتشعري كيف نسي المسلمون تاريخ هذه النشأة التي نشأ عليهاأسلافهم وأهملوا أمور شريعتهمالتي عمل بها مؤسسو دولتهم فاستخذوا بعد ذلك للأمراءواستسلموا للقضاء حتى صارواأسراء الاستبداد، وتعبَّدهم الملوك في كل الأنحاء،وسامتهم الدول الحاكمة عليهممن إسلامية ومسيحية دروب الخسف‏.‏ وأذاقتهم أنواعالهوان‏.‏ وأين تلك الروحالبارَّة والنفس العالية التي كانت تأبى الضيم وتغضب للحقفترى أن الموت والحياة سيانفي سبيل الذود عن حقوقها والاحتفاظ بحريتها‏.‏لا جرم أن الأمة الإسلامية قدأُنسيت ذلك لأمرين‏:‏


    الأول:‏عدم العناية بوضع قواعد الشورى على الأصول الثابتة منذنشوء الدولة كما سبق بيان هذافي صدر هذا الجزء‏.‏


    والثاني‏:‏تحريم العلماء بإيعاز الأمراء الخوض في تاريخ الخلفاء ([138])،‏الراشدين ‏[‏قال‏:‏ نريد بالخوض هنا معناه اللغوي وهو من قولهم‏:‏ خاضالماء أي تغلغل فيه‏.‏ فإذاكان مراد القائلين بحرمة الخوض في أخبار الصحابة هذاالتغلغل فلا نسلم لهم بحرمتهوإذا كان مرادهم به المعنى المجاز كالخوض في الباطلونحوه فهذا ما لا ننكره عليهمبل هو مما نقول ونسلم به وأنا أريد الخوض هنا بالمعنىالأول‏.‏ فليتنبه له‏.‏‏]‏وأخبار الصدر الأول التي كلها حياة‏.‏ كلها عبر‏.‏حرية‏.‏ وليس في كل ما كانبين الصحابة من الأمور العظام، والفتن الجسام، ما يدعودينًا أو أدبًا إلى اجتنابالخوض في أخبارهم والنظر في تاريخهم تعظيمًا لهمواحترامًا لجنابهم، وتسليمًابسلامة مقاصدهم كما يذهب إليه خدام الأمراء من بعضالعلماء‏.‏ إذ لو كان فيأخبارهم ما يمنع من الخوض فيها دينًا، أو أدبًا لاستلزمأنها أعمال تحطُّ من منزلتهموتقلل من احترامهم‏.‏ وهذا باطل بالبداهة‏.‏


    والحقيقةهي أن هذا التحريم لم يكن إلا بإيعاز الأمراء الجبارينوالزعماء المستبدين‏.‏ لأنتاريخ الصدر الأول وأخبار الصحابة كلها تدل على حياةمنبثة في صدور القوم ومقاصدعالية تعلي شأن أولئك الرجال، وواللَّه ليس في تاريخ منتواريخ الأمم في بدء نشأتهاوإبان ظهورها ما في تاريخ الخلفاء الراشدين‏.‏ ووقائعالصحابة من الحوادث التي ترميكلها إلى غرض الحرية وتمحيص الحق مما قلَّ أن يكون فيأمة حديثة النشأة ودولة جديدةالتكوين‏.‏ أما أن فريقًا منهم أخطأ وفريقًا أصاب‏.‏وفريقًا بغى وفريقًا بغيعليه‏.‏ فهذا الحكم إنما هو تابع للمقاصد والمقاصد كانتكلها متجهة إلى تمحيص الحقوالرغائب العالية‏.‏ فمن العبث أن يحكم بخطأ فريق ما داميعتقد أنه على صواب‏.‏ ومثالههؤلاء المحرضون على عثمان، فإنا مع اعتقادنا أن عثمانـ رضي اللَّه عنه ـ خير منكثير ممن أتى بعده من الخلفاء‏.‏ ومع علمنا أنه لميأتِ من حبِّ النفس أو الأثرةبجزء مما يأتيه حتى أشهر من اشتهر بالعدل من الخلفاءالأمويين أو العباسيين، أوغيرهم فإن أولئك الثائرين على عماله الناقمين منه مهماكان الدافع لهم إلى ذلك العملفإن غايتهم التي يقصدون إليها بحسب الظاهر هي العدلبين الناس بعدم الاستئثاربمصالح المسلمين ومنافع الأمة كما تعودوا ذلك منالخليفتين السابقتين، وإنكانت سيرتهما في الخلافة وسياسة الملك فوق المستطاع لمنعداهما‏.‏ لهذا لم يستطع أنيمد إليهم العمال بسوء فهم إذا أوخذوا فإنما يؤاخذون منجهة أنهم كانوا يطلبون منعثمان فوق ما يستطاع بالنسبة إليه‏.‏ وأنهم غلوا في ذمسيرته تذرعًا لمحو الصبغةالأموية من الدولة غلوًا يلامون عليه ما دام ذلك الغلولغرض آخر يرمون إليه‏.‏


    وأماقتلته فإنهم أخزاهم اللَّه ليسوا بمؤاخذين وحسب بل هم ملعونونعلى لسان كبار الصحابة كحذيفةبن اليمان وأضرابه، وهو مسؤولون عن عملهم دونغيرهم‏.‏ وقد جنوا على الأمةفي مستقبلها جناية كبرى كما سنشير إليه بعد إن شاءاللَّه ([139])‏.‏


    ومنهذا المنطلق ينبغي أن يعلم أن أخبار الصحابة إنما حرم بعضهم الخوض فيها،لأنها أخبار قوم ملئت صدورهمبالحياة ونفوسهم بالعزة‏.‏ وهم بالضرورة قدوة الأمة،والمنادون منذ نشأت الدولةبصوت العدل والحرية والحق‏.‏ فوقوف الناس على أخبارهموالأخذ والردُّ فيما حدثبينهم يُحيي في القلوب روح الحرية، ويبعث على استظهار عامةالناس للحجة التي يصادمون بهاآلات الاستبداد من الخلفاء والملوك الذين حولواالخلافة إلى الملك العضوض،وأمعنوا في التمكُّن من رقاب الناس‏.‏ ولهذا السبب حينما كثر خوض الناس في أخبارالصحابة أرادوا إلهاءهم عنها بحجة حرمة الخوض فيها، فأوعزوا إلىالوضاع والقصاصين بوضع أخبارالمغازي، وقصة عنترة، وأشباهها في عصور مختلفة لا تعلمبالتحقيق، إلا إذا صحَّ نسبةأكثر تلك الكتب إلى الواقدي والأصمعي، فإنها تكون فيعصر العباسيين وذلك ليتلهىبها العامة عن التاريخ الصحيح الذي يبعث في النفوس روحالجرأة على قول الحق والتشبهبسلف الأمة ورجالها، ورافعي دعامة دولتها في مناهضةأرباب العتو والجبروت ومحبيالاستبداد وآلهة الملك‏.‏

    * * * *


    (2)


    آراء المدافعينعن عثمان






    قدعرفنا سابقا من خلال سياسة أمير المؤمنين عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ، ووقفنا عليالفتنة وأسبابها ، وما استوجب غضب الناس عليه وقتئذٍ، كما أننا ذكرنا ردَّهعلى منتقديه، لكنه ـ رضياللَّه عنه ـ عاد فتاب في خطبة له، وإن كان لم يغيّرسياسته بسبب تسلط أقاربهعليه، غير أن بعض المؤلفين تعرَّضوا لأسباب النقمةوفنَّدوها واحدة واحدة، ومعنىذلك أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وقد أجمعتتقريبًا عدا أقاربه على نقدخطته السياسية ، مع العلم بأن كبارالصحابة كانوا لا يرون رأيهوينقدون سياسته ونصحوا مرارًا بالإقلاع عنها، فالدفاععنه وتبرئته من كل خطأ أدىإلى هذه الكارثة التي أعقبتها كوارث من الأخطاء المناقضة لرأي الصحابةولتوبته الأخيرة‏.‏ ولا يتضحالحق بمثل هذا الدفاع، وقد نقل الأستاذ فريد وجدي بعضما كتبه أبو بكر محمد بن يحيىالأشعري في كتابه ‏"‏التمهيد والبيان في مقتل الشهيدعثمان‏"‏ دفاعًا عنهفليراجعه من أراد التفصيل والكتاب موجود بدار الكتب المصرية‏.


    وممندافعوا عنه أيضا الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه العواصم من القواصموالذي حققه الشيخ محب الدين الخطيب من صـ76 إلي صـ150 . وهي بطبيعة الحالي أعمالومواقف للخليفة عثمان رضي الله عنه أعترض عليها النقاد وآخذوه عليها وإذا كنانتعرض الآن للخليفة عثمان بن عفان ذو النورين بالنقد والتمحيص فإن محبته راسخة فيقلوبنا وعميقة في أنفسنا ولا يخالجنا شك في عقيدته وقوة إيمانه وحسن اقتدائه بمنسبقه بدءا من الرسول ثم أبي بكر وعمر ، ولكنه بشر وليس نبيا يوحي إليه من السماء والإنسانخطاء وخير الخطاءين التوابون وعثمان في حكمه وإدارته للدولة الإسلامية قد وفق فيجوانب ولم يوفق في جوانب أخري لعوامل أغلبها تشكل ضغوطا علي عثمان لم تكن موجودةإبان عصري أبي بكر وعمر وبعضها الأخر كان وفق سجيته وطبيعته وحبه لأهله وللمسلمينوقد أحصي الإمام أبو بكر بعض المأخذ التي أخذها النقاد علي عثمان ويري أن رواتهاكذابين ومن تلك المظالم والمناكير التي أخذت علي عثمان وقد سبق أن تحدثنها عنهابالتفصيل في موضع أسباب الفتنة في بحثنا هذا ويمكن الرجوع إليها وهي . وسف نذكرها عليسبيل الاختصار:-


    - ضربة لعمار ولابن مسعود ، جمع القرآن وحرق المصاحف . ، وحمي الحمي ،وأخرج أبا ذر إلي الربذة وأخرج أباالدرداء من الشام ، ورد الحكم إلي المدينة بعد أن نفاه رسول الله صلي الله عليهوسلم ، وولي أقاربه معاوية ، عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة ، وأعطي مروان خمسافريقية ، لم يحضر بدرا ، وانهزم يوم أحد ، وغاب عن بيعة الرضوان ، ولم يقتل عبيدالله بن عمر بالهرمزان ، علي علي درجة رسول الله بعدما أنحط عنها أبو بكر وعمر ،وأرسل كتابا سريا إلي ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه ([140]) .


    وسوفنتناول هذه القضايا بشيء من التبسيط لنري إن كان الخليفة عثمان علي حق أم لا ويتضحلنا أيضا سلوك هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين تأدبوا بأدب الرسول e وغرفوا من معين صفوه وهدايته .


    القضيةالأولي :-


    وتشملبعض المآخذ التي أخذت علي عثمان من قبل الناقمين عليه وهي في الحقيقة ليست مآخذوإنما تعد مناقب يقرظ ويمدح عليها ومن هذهالقضايا أنه عزل جمعا من الصحابة ، منهم أبو موسىعزله عن البصرة وولاها عبداللَّه بن عامر‏.‏ ومنهم عمرو بن العاص عزله عن مصروولاها عبد اللَّه بن سعد بنأبي سرح، وكان ارتد في حياة النبي e ولحق بالمشركين، فأهدرالنبي e دمه بعد الفتح أن أخذ له عثمان الأمان، ثمأسلم‏.‏ ومنهم عمار بن ياسر عزله عنالكوفة، ومنهم المغيرة بنشعبة عزله عن الكوفة أيضًا، ومنهم عبد اللَّه بن مسعودعزله عن الكوفة أيضًا وأشخصهإلى المدينة‏.‏


    ولو تأملنا أسباب عزل هؤلاء الولاة لأتضح لنا بعض الخيوط التي يجب أن نقفعندها ونتبصرها بالفكر والروح فأما أبو موسى فكان عذره فيعزله أوضح من أن يذكر فإنه لو لم يعزلهلاضطربت البصرة والكوفةوأعمالهما للاختلاف الواقع بين جند البلدين‏. ونحن لا ندافع هنا عن عثمان وإنماقصة هذا الرجل :‏ أنهكتبإلى عمر في أيامه يسأله المدد فأمده بجند الكوفة، فأمرهم أبو موسى قبل قدومهمعليه بالذهاب إلي (برامهرمز)فذهبوا إليها وفتحوها، وسبوا نساءها وذراريها، فحمدهم على ذلك، وكرهنسبة الفتح إلى جند الكوفةدون جند البصرة فقال لهم‏:‏ إني كنت أعطيتهم الأمانوأجلتهم ستة أشهر فردواعليهم، فوقع الخلاف في ذلك بين الجندين وكتبوا إلى عمر فكتبعمر إلى صلحاء جند أبي موسى،مثل البراء وحذيفة وعمران بن حصين وأنس بن مالك وسعيدبن عمرو الأنصاري وأمثالهموأمرهم أن يستحلفوا أبا موسى، فإن حلف أنه أعطاهم الأمانوأجلهم ردوا عليهم فاستحلفوهفحلف ورد السبي عليهم وانتظر لهم أجلهم وبقي الجندحانقين على أبي موسى، ثم رفععلى أبي موسى إلى عمر وقيل له‏:‏ لو أعطاهم الأمانلعلم ذلك، فأشخصه عمر وسألهعن يمينه فقال‏:‏ ما حلفت إلا على حق‏.‏ قال‏:‏ فَلِمَأمرت الجند حتى فعلوا مافعلوا وقد وكلنا أمرك في يمينك إلى اللَّه تعالى، فارجعإلى عملك‏.‏ فلم نجد الآن منيقوم مقامك، ولعلنا إن وجدنا من يكفينا عملكوليناه‏.‏ فلما مضى عمرلسبيله وولى عثمان شكا جند البصرة شح أبي موسى، وشكا جندالكوفة ما نقموه عليه، فخشيعثمان ممالأة الفريقين على أبي موسى فعزله عن البصرة،وولاَّها أكرم الفتيان عبداللَّه بن عامر بن كريز وكانمن سادات قريش ومن أقارب عثمان وهو الذي سقاهرسول اللَّه e ريقه حين حُمِلَ إليه طفلًا في مهده‏.


    وأماعمرو بن العاص فإنما عزله، لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وكانعمر قبل ذلك عزله لشيء بلغهعنه، ثم لما ظهرت توبته ردَّه، كذلك عزله عثمان لشكايةرعيته، كيف ذلك والرافضةيزعمون أن عمرًا كان منافقًا في الإسلام، وعلى زعمهم فقد أصابعثمان في عزله، فكيف يعترضونعلى عثمان بما هو مصيب فيه عندهم‏؟‏‏.‏


    -وأما تولية عبد اللَّه فمن حسن النظر عنده، لأنه تاب وأصلح عمله،وكانت له فيما ولاَّه آثارمحمودة، فإنه فتح من تلك النواحي طائفة كبيرة حتى انتهىفي إغارته إلى الجزائر التيفي بحر بلاد الغرب وحصَّل في فتوحه ألف ألف ديناروخمسمائة ألف دينار سوى ماغنمه من صنوف الأموال، وبعث بالخمس منها إلى عثمان،وفرَّق الباقي في جنده، وكانفي جنده جماعة من الصحابة ومن أولادهم، كعقبة بن عامرالجهني، وعبد الرحمن بن أبيبكر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص قاتلوا تحت رايته،وأدُّوا طاعته، ووجدوه أقدرعلى سياسة الأمر من عمرو بن العاص، ثم أبانعن حسن رأي في نفسه عند وقوعالفتنة فإنه حين قتل عثمان اعتزل الفريقين، ولم يشهدمشهدًا، ولم يقاتل أحدًا بعدقتال المشركين‏.‏


    وأماعمار بن ياسر فأخطؤوا في ظن عزله، فإنه لم يعزله وإنما عزلهعمر‏.‏ كان أهل الكوفة قدشكوه، فقال عمر‏:‏ من يعذرني من أهل الكوفة، إن استعملتعليهم تقيًا استضعفوه، وإناستعملت عليهم قويًا فجروه، ثم عزله وولَّى المغيرة بنشعبة، فلما ولِيَ عثمان شكواالمغيرة إليه، وذكروا أنه ارتشى في بعض أموره، فلمارأى ما وقرَّ عندهم منهاستصوب عزله عنهم، ولو كانوا مفترين عليه‏.‏


    والعجب منهؤلاء الرافضة كيف ينقمون علىعثمان عزل المغيرة وهم يكفرون المغيرة ؟ ! . على أننانقول‏:‏ ما زال ولاة الأمرقبله وبعده يعزلون من عمالهم من رأوا عزله ويولون منرأوا توليته بحسب ما تقتضيهأنظارهم‏.‏ عزل عمر خالد بن الوليد عن الشام وولى أباعبيدة، وعزل عمارًا عن الكوفةوولاَّها المغيرة بن شعبة، وعزل قيس بن سعد عنمصر وولاَّها الأشترالنخعي‏.‏ ألا ترى إلى معاوية وكان ممن ولى عمر لما ضبطالجزيرة وفتح البلاد إلى حدودالروم وفتح جزيرة قبرص وغنم منها مائة ألف رأس سوى ماغنم من البياض وأصناف المالوحمدت سيرته وسراياه أقره على ولايته‏.‏





    وأماابن مسعود فسيأتي الاعتذار عنه فيما بعد‏.‏


    هذاجواب المحب الطبري معتذرًا عن عثمان في المسألة الأولى التيذكرها‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنالخليفة له أن يعزل من شاء من الولاة ممن يرتكبون وزرًا،أو يشك في سيرتهم، ويعين منيثق بهم، لكنهم نقموا على عثمان أنه كان يراعي أقاربه،ويخصهم بالولاية، ويتسامحمعهم‏.‏ وإن الفتنة لم تنشأ عن شكوى خاصة بل عن عدة أموركانت في مجموعها سببًا فيالسخط العام‏.‏ فعبد اللَّه بن عامر الذي ولاَّه عثمانالبصرة مكان أبي موسى كان ابنخاله، وكان عمره خمسًا وعشرين عامًا وقتئذٍ معاعترافنا بفتوحه وشجاعته،وولى مصر عبد اللَّه بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه منالرضاعة، وكان كاتب الوحي، ثمارتد مشركًا، وأهدر رسول اللَّه دمه إلى أن أخذ عثمانله الأمان‏.‏ نعم إنه فتحشمال إفريقية لكن عمرًا بن العاص المعزول عن ولاية مصر، والذي لهالفضل في فتحها قد أغضبه أنيعزل فوجد مجالًا للطعن على الوالي الجديد من هاتينالناحيتين وغيرهما، وظلناقمًا طاعنًا على عثمان إلى النهاية، ولا يخفى أن عمرًاكان داهية في وسعه توسيعدائرة الفتنة‏ فأنظر إليه عندما أمر عثمان بمجئ الصحابة باستشارته فقال عمروبن العاص عندما سأله عثمان عن رأيه ( قاليا عثمان أنك قد ركدت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا فأعتدل أوأعتزل فإن أبيت فأعتزم عزما وأمضي قدما فقال له عثمانغاضبا ما لك قملا فروك ؟ أهذا الجد منك فسكت عمرو .


    أماعبد اللَّه بن مسعود الذي عزله عثمان عن الكوفة، فقد كان سيَّرهعمر بن الخطاب إلى الكوفةوكتب إلى أهلها‏:‏


    ‏"‏إنيقد بعثت عمار بن ياسر أميرًا، وعبد اللَّه بن مسعود معلمًاووزيرًا، وهما من النجباء منأصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ من أهلبدر فاقتدوا بهما وأطيعواواسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد اللَّه علىنفسي‏.‏‏"‏( عبد اللهبن مسعود من كبار علماء الصحابة ومن أجودهم قرائه لكتاب الله وقد اثني رسول الله e علي حسن تلاوته للقرآن وكان أبن مسعود منكتاب الوحي للرسول eوكان له مصحف خاص فيه كل ما نزل علي النبي e وربما كان هذا المصحف يختلف ترتيبه للآياتعما امتازت به مصاحف عثمان من الترتيب كما كان مصحف ابن مسعود قد فاتته بعض منالآيات خلاف ما فعله زيد بن ثابت من استقصائه لآيات القرآن كما كان يحفظها قراءالصحابة كما كان مصحف بن سعود يغلب عليه لهجة قومه من هزيل وهي لهجة خاصة ولكن منالأفضل أن يوحد المسلمون علي قراءة واحدة بلهجة واحدة وهي لهجة قريش .


    فهذههي شهادة عمر في عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مسعود‏.‏ وعمر لايحابي أحدًا ولا يقول غيرالحق‏.‏ فعزل عبد اللَّه بن مسعود أحدث استياء لما له منالعلم والفضل وعن زيد بن وهبقال‏:‏ لما بعث عثمان إلى عبد اللَّه بن مسعود يأمرهبالقدوم عليه بالمدينة وكانبالكوفة اجتمع الناس عليه فقالوا‏:‏ أقم ونحن معك نمنعكأن يصل إليك شيء تكرهه‏.‏فقال عبد اللَّه‏:‏ إن له عليّ حق الطاعة، وإنها ستكونأمور وفتن فلا أحب أن أكونأوّل من فتحها، فرد الناس وخرج إليه‏.‏


    ويرويصاحب العواصم من القواصم رواية أخري وهو يراها باطلة سندا ومتنا وهي أن عثمان ضربعمار حتي فتق أمعائه وبن مسعود وكسر أضلاعه ومنعه عطائه فهذا كلام كذبوافتراء ومما يجعلنا نستبعد هذه الروايةقول عبد الله بن مسعود نفسه حينما بويع عثمان فقال ( بايعنا خيرنا ولم نئل ) وقدرويت بمعني أخر ( ولينا أعلانا ذا فوق ولم نئل ) وعند ولاية عثمان كان بن مسعودواليا لعمر علي أموال الكوفة وسعد بن أبي وقاص واليا علي صلاتها وحربها وأختلف سعدوبن مسعود علي قرض استقرضه سعد ، فعزل عثمان سعدا وأبقي بن مسعود ، ونلمس من هذاالقول أن العلاقة بين بن مسعود وخليفته علي ما يرام وجاء الخلاف لسبب أخر وهوعندما عزم عثمان علي تعميم مصحف واحد يجمع أصحاب رسول الله والناس جميعا علي قرائهواحدة فكان بن مسعود يود أن يكتب المصحف بنفسه كما كان يتمني أن يبقي مصحفه الذيكان يكتبه لنفسه دون أن يحرقه عثمان ، فجاء عمل عثمان علي خلاف ما كان يريده بنمسعود في الحالتين وقد قام بكتابة المصحف لعثمان زيد بن ثابت هو الذي كتب مصحف أبي بكر فيما سبق .


    ولعلالخليفة عثمان كان علي حق في ذلك في إلغاء المصاحف الأخرى ومنها مصحف بن مسعود ولميبق إلا مصحفا واحدا حتى يجتمع المسلمون علي قراءة واحدة وكان غضب ابن مسعود ليسفي محله كما أنه لم يرد أي موارد تذكر أن عثمان ضرب ابن مسعود أو منعه عطاءه ومنهنا فإن هذه الرواية تتسم بالكذب والتحريض وعثمان بن عفان برئ منها . ([141])


    أماما رواه الطبري عن سعيد بن المسيب أن عثمان قد ضرب عمار حيث بينه وبين عباس بن عتبه بن أبي لهب خلاف حملعثمان علي أن يؤدبهما بالضرب ويري صاحب العواصم أن هذا الأمر ليس فيه بدعه وهذامما يفعله ولي الأمر قبل عثمان وبعده وكم فعل عمر مثل ذلك لأمثال عمار ومن هم خيرمن عمار لما له من حق الولاية علي المسلمين وهذا من قبيل التعذير . ومما يثبت ثقة عثمان في عمار أنه عندما اشيرعليه أن يرسل إلي الأمصار رجالا ذوي ثقة ليقصوا الأمور ويقفوا علي أسباب فتنةعثمان ، فأختار عثمان عمارا ليرسله إلي مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها ولكنعمار تخلف في مصر ولم يعود مع بقية الرفاق وألتف به السبأيون ليستميلوه إليهمفتدارك عثمان وعامله في مصر هذا الأمر وجيء بعمار إلي المدينة مكرما . ([142])،مما سبق يتضح لنا كذب هؤلاء الرواة في ضرب عثمان لعمار حتى فتق أمعائه وضربه ابنمسعود حتى كسر أضلاعه ، وإن تم ذلك فهلكان يعيشان هذان الصحابيان الكريمان .


    وممايتصل بعثمان في هذه القضية كما نوهنا سابقا أنهم أخذوا عليه حرق المصاحف وقد غالوافي هذا الأمر حتى أن عليا بن أبي طالب خطبهم قائلا : ] أيها الناس ، الله ، الله ، إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكمحراق المصاحف ، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، جمعنا وقال : ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها ، يلقي الرجلالرجل فيقول قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يجر إلي الكفر ؟ فقلنا : ما الرأي ؟ قال: أريد أن اجمع الناس علي مصحف واحد ، فأنكم أن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشداختلافا . فقلنا : نعم ما رأيت [ وهكذا رحم الله عثمان وجزاه الخير العميمفقد أحسن صنعا في كل ما نسب إليه من مآخذ فهي في الحقيقة تعد مناقب حسنة وميزاتيستحق عليها الثناء الجميل فجزاه الله خير الجزاء علي ما قام به في هذا الأمر.


    القضيةالثانية :-


    فهوما أدعوه من إسرافه في بيت المال حيث أعطي:-


    - الحكم بن العاص حينما ردَّه من الطائف إلىالمدينة، وقد كان النبي e طرده ووصله من بيت المال بمائة ألف درهم .


    -وجعل لابنه الحارث سوقالمدينةيأخذ منها عشور ما يباع فيها‏.‏


    -ومنها أنه وهب لمروان خمس أفريقية‏.‏


    - ومنهاأن عبد اللَّه بن خالد بن أسدبن أبي العاص بن أمية قدم عليه فوصله بثلاثمائة ألفدرهم‏.


    -‏ ومنها ما رواه أبو موسى قال‏:‏ كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهبوالفضة، لم يلبث أن يقسم بينالمسلمين حتى لا يبقى منه شيء‏.‏ فلما ولي عثمان أتيتبه فكان يبعث به إلى نسائهوبناته‏.‏ فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت‏.‏ فقال لي‏:‏ما يبكيك‏؟‏ فذكرت له صنيعهوصنيع عمر‏.‏ فقال‏:‏ رحم اللَّه عمر كان حسنة وأناحسنة ولكلٍ ما اكتسب‏.‏ قالأبو موسى‏:‏ إن عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي منأولاده فيردّه في مال اللَّهويقسّمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتكمجمرًا ‏([143])،منالذهب مكللًا باللؤلؤ والياقوت، وأعطيت الأخرىدرتين لا يعرف كم قيمتهما‏.‏فقال‏:‏ إن عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأناأعمل برأيي ولا آلو عنالخير‏.‏ وقد أوصاني اللَّه تعالى بذوي قراباتي، وأنا مستوصٍبهم وأبرّ برّهم‏.‏ ومنها ماقالوا إنه أنفق أكثر بيت المال في ضياعه ودوره التياتخذها لنفسه ولأولاده‏.‏وكان عبد اللَّه بن أرقم ومعيقيب على بيت المال في زمنعمر فلما رأيا ذلك استعفيافعزلهما، وولاَّه زيد بن ثابت وجعل المفاتيح بيده‏.‏فقال له يومًا‏:‏ قد فضل فيبيت المال فضلة خذها لك، فأخذها زيد فكانت أكثر من مائةألف درهم‏"‏‏.‏


    إنما ذكر عن إسراف عثمان في بيت المال فإن أغلبه يكتنفه افتراء كبير علي الرجل . فقدكان مجتهدا ، والمجتهد مثاب عند الله سواء أصاب أو أخطأ ، فما قيل عنه أنه ردالحكم إلي المدينة بعدما طرده النبي منها وقد ذكر عثمان انه استأذن النبي ـ صلىاللَّه عليهوسلمـ في ردّه إلى المدينة فوعده بذلك‏.‏ فلما ولى أبو بكر سأله عثمان ذلك فقال‏:‏كيف أرده إليها وقد نفاه رسولاللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏.‏ فقال له عثمانذلك‏.‏ فقال له‏:‏ إني لمأسمعه يقول لك ذلك، ولم تكن مع عثمان بينةعلى ذلك، فلما ولي عمر سألهذلك فأبى، ولم يريا الحُكم بقول الواحد، فلما ولى قضىبعلمه، وهو قول أكثر الفقهاء،وهو مذهب عثمان، وهذا بعد أن تاب الحكم عما كان طردهلأجله، وإعانة التائب مماتحمد‏.


    أما وصله للحكم بمائة ألف، فلم تصح، وإنماالذي صح أنهزوَّجابنه من ابنة الحارث بن الحكم، وبذل لها من مال نفسه مائة ألف درهم، وكان ـرضي اللَّه عنه ـ ذا ثروة فيالجاهلية والإسلام، وكذلك زوَّج ابنته أم أبان من ابنمروان بن الحكم، وجهَّزها منخاص ماله بمائة ألف لا من بيت المال، وهذه صلة رحميحمد عليها‏ من ماله الخاصوليست من بيت مال المسلمين .‏


    وأماقولهم أن عثمان أعطي خمس أفريقية لمروان بن الحكم فهوخطأ منهم، وإنما المشهور فيالقضية أن عثمان كان قد جهز ابن أبي سرح أميرًا على آلافمن الجند، وحضر القتالبأفريقية‏.‏ فلما غنم المسلمون أخرج ابن أبي سرح الخمس منالذهب وهو خمسمائة ألف دينارفأنفذها إلى عثمان، وبقي من الخمس أصناف من الأثاثوالمواشي مما يشق حمله إلىالمدينة فاشتراها مروان منه بمائة ألف درهم، نقد أكثرهاوبقيت منها بقية، ووصل عثمانمبشرًا بفتح أفريقية وكانت قلوب المسلمين مشغولة خائفةأن يصيب المسلمين من أفريقيةنكبة، فوهب له عثمان ما بقي عليه جزاء بشارته ،وللإمام أن يصل المبشرين منبيت المال بما رأى على قدر مراتب البشارة‏ علي ما تعود عليه حكام المسلمين .‏


    وأماقوله عن عطاء عثمان عبد اللَّه بن خالد بن أسد بثلاثمائة ألف درهمفإن أهل مصر عاتبوه على ذلكلما حاصروه، فأجابهم بأنه استقرض له من ذلك من بيتالمال، وكان يحتسب لبيت المالذلك من نفسه حتى وفَّاه‏.‏


    أماقولهم أنه جعل للحارث بن الحكم سوق المدينة يأخذ عشور ما يباعفيه فغير صحيح‏.‏ وإنما جعلإليه سوق المدينة ليراعي أمر المثاقيل والموازين فتسلطيومين أو ثلاثة على باعةالنوى واشتراه لنفسه، فلما رُفع ذلك إلى عثمان أنكر عليهوعزله وقال لأهل المدينة‏:‏إني لم آمره بذلك‏.‏ ولا عتب على السلطان في جور بعضالعمال إذا استدرك بعدعلمه‏.‏ وقد روي أنه جعل على سوق المدينة وجعل له كل يومدرهمين وقال لأهل المدينة‏:‏إذا رأيتموه سرق شيئًا فخذوه منه وهذا غاية الإنصاف‏.‏


    أماعزل ابن الأرقم ومعيقيب عن ولاية بيت المال، فإنهما قد وصلا من السن عتيا فقد كبراوهرما وضعفاعنالقيام بحفظ بيت المال‏.‏ وقد روي أن عثمان لما عزلهما خطب الناس وقال‏:‏‏"‏ألاإنعبد اللَّه بن الأرقم لم يزل على جرايتكم زمن أبي بكر وعمر إلى اليوم وأنه كبروضعف وقد ولينا عمله زيد بنثابت‏"‏‏.‏


    وممانسبوه إليه كذبا وبهتانا أيضا أنه كان يصرف من بيت مال المسلمين في عمارة دوره وضياعه المختصة ،والكذب هنا واضح تماما والحق أوضح منه فقد كان عثمان رحمه الله رجلا ثريا وصاحبتجارة واسعة وكان ينفق من أمواله في تجهيز جيوش المسلمين وشراء الآبار ليشرب منهاالظمأي من المسلمين ، فكيف يأخذ من مال المسلمين ليعمر بيته وضياعه ؟ . وكيف يخون ويغل وهو الذي وصفه الرسول بذيالنورين والمعروف بكثرة الحياء ؟ لقدرأي من صاحبيه حرصا شديدا في الحفاظ علي مال المسلمين ، فهو لا يستحل ذلك المال لنفسه أو لأحد منأهله .


    فيرويأن أبا موسى الأشعري أهدى لامرأة عمر ـ رضياللَّه عنه ـ طنفسة ‏[‏‏ بساط‏]‏قدرها ذراع وشبر، فدخل عليها عمر فرآهافقال‏:‏أنَّى لك هذه‏؟‏ فقالت‏:‏ أهداها لي أبو موسى الأشعري‏.‏ فأخذها، فضرب بهارأسها حتى نَغَضَ رأسها‏.‏ ثمقال‏:‏ عليَّ بأبي موسى الأشعري وأتعبوه‏.‏ فأُتي بهقد أتعب وهو يقول‏:‏‏"‏لا تعجل عليَّ أمير المؤمنين‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ ‏"‏ما يحملكعلى أن تهديلنسائي‏"‏‏؟‏ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال‏:‏ ‏"‏خذها فلا حاجةلنا فيها‏"‏‏.‏ إن عمررفض هذه الهدية البسيطة، وهي لا تساوي شيئًا اجتنابًا لكلشبهة حتى لا تسقط هيبته وتسوءسمعته، وقد قيل‏:‏ من وضع نفسه مواضع التهم فلايلومنَّ من أساء الظن به‏.‏


    أماقولهم‏:‏ إنه دفع إلي زيد بن ثابت ما بقيفي بيت المال تفضلا منه كما عرفنا سابقا فإن هذا كذب ، وإنما أمره بأن ينفق الألفدرهم الباقية وليست المائة ألف كما يقولون – أن ينفقها فيما يراه أصلح للمسلمين فأنفقها زيد على عمارة مسجد رسول اللَّه ـ صلىاللَّهعليهوسلم ـ بعد ما زاد عثمان في المسجد زيادة كبيرة وكل واحد منهما مشكور محمودعلى فعله‏.‏


    ولعلأفضل ما قيل دفاعا عن عثمان هو قول المحب الطبري الذي بدأ دفاعه من هذه المسألةبقوله‏:‏( إنأكثرما ادَّعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق، وماصحَّ عنه فعذره فيه واضح )‏ .‏ولاحظ معي أنه لم يقل‏:‏ إن كل ما نقل مفترى عليه ومختلق‏.‏ وكانعمر ـ رضي اللَّه عنه ـ لايدع شيئًا حتى يوزعه على المسلمين في الحال‏.‏ ونحن نودُّ أن يكون ما قيل عن عثمانمن التصرف في مال بيت المال غيرصحيح‏.‏


    وقدكان عبد اللَّه بن الأرقم على بيت المال زمن عمر، ثم ولاَّهعثمان بيت المال وأجازهبثلاثين ألفًا فأبى أن يقبلها وقال‏:‏ عملت للَّه وإنماأجري على اللَّه‏.‏ وكان عمريقول‏:‏ ما رأيت أخشى للَّه تعالى من عبد اللَّه بنالأرقم‏.‏ وجاء في أسد الغابةأنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه من غير أن يذكرالسبب‏.‏ على أن استعفاء عبداللَّه بن الأرقم مع ما عرف عنه من أمانة، واستعفاءمعيقيب هو الآخر أمر فيه نظر ‏. ‏ فهل كان كلاهما لا يصلح لبيتالمال لكبر سنه ‏؟‏ .


    ومماأُخِذَ على عثمان أنه لما حمل إليه خمس غنائم أفريقية اشتراهمروان بن الحكم بمبلغ 500.000دينار فوضعها عند عثمان بدلًا من أن يفرق الخمس علىالمسلمين جريًا على سنةصاحبيه في توزيع الغنائم‏.‏


    ولعلفيما ذكرناه في هذا الصدد فيه قدر كاف ، يكشف عن طبيعة امير المؤمنين عثمان بنعفان ويبرز شفافيته وصفاء قلبه وحبه للإسلام والمسلمين وإن كان هناك ثمة خطأ فهومن جهة أقاربه فقد ذهب ضحية هؤلاء الأهل اللذين تسلطوا عليه ببعض الآراء التي بهامسحة من جاهلية حينا ومسحة من التعصب العرقي حينا آخر وكلفوا ذلك الرجل ما لايطيق‏ فكان هدفا لسهام المارقين وطعمة سائغة للمتمردين علي الإسلام وعلي رمزهالأعلى وهي الخلافة الإسلامية التي أهانوها في شخصية أمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمه الله .‏


    -ولعله من المفيد هنا أن نبرز رأيا في تلك الفتنة الكريهة وفي تلك الغمة الممقوتةفأقول كما قال الشيخ محمد الخضري في تلك المحنه أن كل ما نقموه علي عثمان أمر لاحرج على الإمام فعلها،منهاتوليته أقاربه وليس في هذا أدنى عيب، لأن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلمـ ولَّى عليًا وهو ابن عمه‏.‏ولو كانت تولية القريب عيبًا لنهى عنها عليه السلامولم يفعلها‏.‏ ومع ذلكفالإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد‏.‏ فالأمرموكول لرأي الإمام الذي ألقيتإليه مقاليد الأمة، فإن ولَّى من حاد عن الدين شكوناإليه، فإن لم يقبل صبرنا كماأمر بذلك رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، لأنشق عصا الجماعة من مصائبالأمم التي تسرع إليها الخراب وليس في الشرع ما يبيح خلعالإمام إلا كفره الصراح‏"‏‏.‏


    هذاهو رأي الأستاذ الخضري رحمه اللَّه في كتابه المشار إليه فهوممن يبررون عمل عثمان ويرونأنه اتبع الشرع والسنة‏.‏ وإنا نقول‏:‏ إن تولية عثمانأقاربه أحدثت سخطًا عامًَّا،وأخذ السخط يتسع على مرِّ الأيام، وكان في وسعه تجنبذلك، لكنه ـ رضي اللَّه عنه ـكان يتوب ويعد بعزلهم، ثم لا يفعل شيئًا‏.‏ إن عثمانإذًا كان يريد مساعدة أهلهوأقاربه برًَّا بهم، فقد كان هناك وسائل غير توليتهمالأمصار الكبيرة التي يشترطفيمن يتولاها الكفاية وحسن السمعة ونقاء الماضي، وكانكثير من الصحابة كما قدمناحائزين لهذه الصفات والمؤهلات، ومع ذلك ضرب عنهم صفحًاولم يسند هذه المراكز وقدقيل‏:‏ من الحكمة وضع الأشياء في مواضعها‏.‏ فلما ولَّىأقاربه اعترض الناس بطبيعةالحال وامتعضوا ورموه بأنه لم يراع المصلحة العامة، بلراعى أقاربه وقدمهم فيالوظائف الكبيرة على من هم أهل لذلك ممن يجلهم ويحترمهمالجمهور، وكان بين هؤلاءالأقارب المتهم في دينه وتقواه‏.‏ ثم إنه عزل من سبق لهالفضل في الفتح لإحلال القريبمحله‏.‏


    وإذاكان الإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد فكانالواجب إذن يقضي على الخليفةباختيار من يصلح لا إيثار القريب لقرابته بغض الطرف عنالمصلحة العامة التي هي فوقكل مصلحة .


    نعمإن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لم يَنه عن توليةالقريب لكن على أن يكون هذاالقريب شخصًا ممتازًا حكيمًا‏.‏ وهذا ما فعله رسولاللَّه ـ صلى اللَّه عليهوسلم ـ فإنه باعتراف جميع المؤرخين من عرب وعجم لم يخطئفي تولية أحد القيادة، أوالحكم، فكان عارفًا بأقدار الرجال‏.‏ وكان عمر ـ رضياللَّه عنه ـ إذا تبين له أنهلم يوفق في تولية أحد وظهر فيما بعد ضعفه، أو عجزه،أو ارتكب أمرًا شائنًا عزلهفي الحال وولى غيره، كي تنتظم الأمور ويقام العدل وتهابالرعية الوالي‏.‏ لكن عثمان ـرضي اللَّه عنه ـ بالرغم من سخط الناس من ولاتهواعتراض كبار الصحابةالمشهورين بأصالة الرأي وبعد النظر والتقوى ظل متمسكًا بهمإلى النهاية حتى قتل، ولميعزل غير سعيد بن العاص بعد أن بلغت الفتنة أشدها فيالكوفة‏.‏


    كاتبالناس بعضهم بعضًا في الأمصار، وتبادلوا الرسائل التي تطعن علىعثمان وعلى ولاة عثمان،وأخيرًا قامت الثورة، وكان جمهور المسلمين قسمين‏:‏ ثائرًونيريدون عزل الخليفة، فإن لميعتزل يقتل، وقسمًا آخر غير راضٍ عن سياسته، ويودُّ أن يعتزلحسمًا للنزاع وقمعًا للفتنة،لكنه التزم الحياد ولم يبق في صف عثمان غير أهلهوأقاربه، حتى قيل‏:‏ إن عبدالرحمن بن عوف وهو صهره ندم على اختياره خليفة، بل وزادعلى ذلك أنه نقض بعض ما عملهعثمان‏.‏ فقد جاء في الطبري أن إبلًا من إبل الصدقةجيء بها على عثمان فوهبهالبعض ولد الحكم ابن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوففأخذها وقسَّمها بين الناسوعثمان في داره‏.‏ وعلى ذلك كان السواد الأعظم في ذلكإما ناقمًا عليه أو غير راضٍعن خطئه، ولولا ذلك لوجد عثمان من يدافع عنه ويصدّ عنهغارة طائفة خرجت عليه، ولفدوهبأرواحهم بل ما نهض من كل مصر جيش يطالب بخلعه‏.‏


    نعمإن عبد اللَّه بن سبأ كان عاملًا قويًا في نشر الفتنة، لكن عبد اللَّه هذا لميقدم على نشر دعايته الواسعةالنطاق إلا لما علم أن الناس يستمعون له، وأن النفوسمستعدة لقبول كلامه‏.‏ ولوتصوَّرنا أن عثمان لم يكن يعلم اتجاه الرأي العام ضدهلكان معذورًا لكن حصره أربعينأو خمسين يومًا لا يؤيد ذلك، بل الثابت أنه أيقنأخيرًا بخطورة الحال لما طالالحصار وأحرقوا بابه وألقوا النار في منزله ومنعوا عنهالماء‏.‏ إلا أن قتله كانجرمًا شنيعًا وخطبًا مريعًا، فإن القتلة قد استعجلواالقدر وكان قد بلغ سنالشيخوخة وضعفت قواه، وعلى كل حال لم يبرر أحد قتله، بل عدَّهعقلاء الأمة نكبة عليهاوفاتحة للخلاف والانقسام‏.‏


    وقالمحمد الخضري ،في كتابه تاريخ الأمم الإسلامية‏"‏ ص395‏]‏‏:‏


    ‏"‏فقد كانوا يعيبون معاوية، وهذا لم يوجده عثمان، بل ولاَّهرسولاللَّهـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وولاَّه أبو بكر، وولاَّه عمر، ولم نرَ من العمالمن استمر موثوقًا به من عمرفي حياته كلها إلا أفرادًا قلائل منهم معاوية بن أبي سفيان، فقد كان واليًا من أولحياة عمر إلى آخرها، وكانت الشام أعدلولاياتالمسلمين وأهدأها‏"‏‏.‏


    وإنانجد الجواب على ذلك في ردِّ عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ حين قالله عثمان‏:‏ ‏"‏هل تعلمأن عمر ولَّى معاوية خلافته كلها‏؟‏‏.‏ فقد وليته‏"‏‏.‏فأجابه عليٌّ‏:‏‏"‏أنشدك اللَّه‏!‏ هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأغلام عمر منه‏؟‏ قال‏:‏نعم‏.‏ قال عليٌّ‏:‏ فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنتتعلمها، فيقول للناس‏:‏ هذاأمر عثمان فيبلغك، ولا تُغَيِّر على معاوية‏"‏‏.‏ فسكتولم يجب‏.‏


    فمعاويةما كان يستطيع أن يقطع أمرًا وينسبه إلى الخليفة في زمنعمر، لأنه كان يخشاه، كما كانيخشى غلام عمر، لكنه في زمن عثمان كان يفعل ما يشاءلاطمئنانه إليه، فإن اعترضعليه معترض ادَّعى أن ذلك بأمر الخليفة، وكان عثمان إذابلغه ذلك لم يؤاخذه‏.‏ فالقولبأن معاوية ولاَّه عمر وأقرَّه طول حياته لا يبررأعمال معاوية زمن عثمان‏.‏



    1- الطبري ج4 ص279 .

    1- سورة يونس ، الآية59.

    2- رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(321) من رواية جابر رضي الله عنه ، ثم روى نحوه من رواية ابن سعد عن الواقدي .

    3- رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(ص: 328 ) .

    4- المرجع السابق وأنظر أيضا كتاب فتنة مقتلعثمان ج1 صـ155 .

    5- رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(ص: 328) .

    1- رواه ابن عساكر بإسناد حسن (تاريخ دمشق،ترجمة عثمان رضي الله عنه 362، 487- 488) .

    1- افتأت: أي اختلق (ابن منظور، لسان العرب2/64) .

    2- البداية والنهاية لأبن كثير ج7 صـ184 .

    1- وهذا هو الباب الذي فتحة خادم الحرمين الشريفينالملك فهد بن عبد العزيز بتاريخ 1/9/1408 . ابن سعد، الطبقات (3/ 67) ، وابنعساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (351) . نقلا عن كتاب فتنة مقتل عثمان مرجع سابقصـ 167 ، 168 .

    2- موضع بجانب المسجد النبوي مبلط بالحجارةأنظر ياقوت الحموي معجم البلدان ج1 صـ 479) وأنظر وصف الدار كما وصفها الكاتب محمدبن عبد الله في كتابه فتنة مقتل عثمان مرجع سابق ج1 صـ168 .

    3- أعين بن ضبيعة بن ناجية بن غفال التميمي الحنظليالدارمي، ابن أخي صعصعة بن ناجية جد الفرزدق. وكان شهد الجمل مع علي، وهو الذي عقر الجمل الذي كانت عائشة -رضي الله عنها-عليه، ويقال: إنها دعت عليه بأن يُقتل غيلة فكان كذلك،وذلك سنة ثمان وثلاثين.(ابن حجر، الإصابة -القسم الأول: 1/ 55، ) .

    1- هو لقب أطلقه الخارجون على عثمان رضيالله عنه، نقل ابن عساكر عن ابن الكلبي أنه قال: "إنما قيل له نعثل؛ لأنه كانيشبّه برجل من أهل مصر اسمه نعثل، وكان طويل اللحية، فكان عثمان إذا نيل منه وعيبيشبّه بذلك الرجل لطول لحيته، لأنه لم يجدوا عيبا في عثمان غير ذلك . وقال بعضهم:إن نعثلاً من أهل أصبهان، ويقال في نعثل إنه الذكر من الضباع" [ تاريخ دمشق،ترجمة عثمان (331) . وأنظر أيضا كتاب فتنة مقتل عثمان مرجع سابق صـ173 .

    2- وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (247) .

    3- والطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/ 383)،وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (341-342) أنظر صحة هذا الخبر في كتاب فتنةمقتل عثمان مرجع سابق صـ 174 .

    4- رواه البخاري في صحيحه ، فتح الباري 2/ 188 .

    5- رواه الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/ 353-35) .

    6- الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/423) نقلا عن كتاب فتنة مقتل عثمان مرجع سابق صـ 174 .

    1-أنظر ابن سعد،الطبقات (3/ 66، 72)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (409)، والطبري، تاريخالأمم والملوك .

    2- انظر المصادر السابق .

    3-ابن سعد، الطبقات (3/ 66) وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (359) .


    1- أنظر قول العقاد، في كتابه ذو النورينعثمان بن عفان (ص: 122) .

    2- أنظر الطبقات لابن سعد (3/ 67)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (351) .

    3- وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(350) .

    4- سورة الحج الآية (39) .

    5- سورة الحج الآيات: (39-41) .

    1- أنظر ابن كثير،تفسير القرآن العظيم (3/ 226) .

    2- سورة المائدة، الآية (33) .

    3- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم المصدر السابقونفس الصفحة .

    4- وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(342-343) ،وأنظر كتاب فتنة مقتل عثمان مرجع سابق صـ 183 .

    1-وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (342-343) ،وأنظر كتابفتنة مقتل عثمان مرجع سابق صـ 183 .

    2-الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/383)، وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (341-342). وأنظر أيضا كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجع سابق صـ184 .

    3-أنظر مسند الإمام أحمد( بتحقيق أحمد شاكر ) وابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (343-344) .

    4-هذا من كلام نائلةبنت الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنه أنظر ذلك في تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمةعثمان من رواية النعمان بن بشير عن نائلة سالفة الذكر .

    1-الكَوُّ هو: الخرق في الحائط، والثقب في البيت أنظر (ابنمنظور، لسان العرب 15/ 236) .

    2- أنظر ابن سعد، الطبقات (3/ 71)، وابنعساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (351-352) .

    3- ابن سعد الطبقات (3/ 67-68) وأنظر بن سعدالمصدر السابق ونفس الصفحة ، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان .

    4- أنظر المصادر السابقة .

    5- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(351) .

    6- أنظر ما قاله بن سلام لعلي عند الحصارفيما سيأتي من الحديث .

    7- ابن سعد، الطبقات (3/ 71)، وابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (351-352) .

    1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(240) .

    2- المصدر السابقصـ(387-388) .

    3- ابن سعد، الطبقات (3/ 70)، و ابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (399-400) .

    4- المصدران السابقان .

    1-أنظرالطبقات لابن سعد، (3/ 70)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (400-401) .

    2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (374)وأنظر كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجع سابق صـ196 .

    3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(397-398) .

    4- المصدر السابق .

    5- ابن سعد، الطبقات (3/70)، وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (401-402) .

    6- المصدر السابق .

    1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (374- 401 – 396 – 402 - 403) وابن سعد، الطبقات (3/ 70) .

    2- ابن سعد، الطبقات (8/ 128) .

    3- ابن سعد، الطبقات (3/ 70)، ابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (400) .

    4- ابن سعد، الطبقات (3/71)، ابن عساكر،تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (400) .

    5- رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(395) .

    6- فتنة مقتل عثمان ج1صـ200 .

    1-ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (387-388) .

    2- مسند أحمد، (4/105، 109 -110، 5/ 33، 288) ، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (289) .

    1- أنظر خبر وقوعالفتنة التي أشار إليها الر سول وخبر استشهاد عثمان كما بشره خير الخلق في الصفحاتالتالية .

    2- البخاري فيالتاريخ الصغير ج7 صـ237 وابن سعد الطبقات ج8 صـ 128 .

    3- أنظر كتاب فتنة مقتل عثمان مرجع سابق صـ203 .

    4- أنظر رؤيا عثمان للنبي e ابن عساكر تاريخ دمشق ترجمة عثمان صـ 390 . وطبقات بن سعد (ج3 صـ75 ) . ومسند احمد ( تحقيق أحمدشاكر ) ج1 صـ 388 ، 389 .

    1- سورة الأعراف، الآية: (188).

    2- سورة البقرة، الآية: (255) .

    3- سورة الجن، الآية: (27) .

    4- رواه أحمد،في المسند (2/ 115)، وبتحقيقأحمد شاكر (8/ 171) .

    5- أنظر كتاب فتنة مقتل عثمان للدكتور محمد بن عبد اللهغبان الصبحي . الطبعة الثانية . مصدرالكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية http://www.raqamiya.org صـ50 .

    1- رواه أحمد، المسند (4/ 105، 109ـ110، 5/33) بإسناد صحيح، أيضاً ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، 289.

    2- وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان،12، 122، 129، 133، 137-138، 140، 144، والذهبي، سير أعلام النبلاء (15/ 415) .

    3- البخاري في صحيحه، فتح الباري (7/ 22،42، 53) .

    4- أنظر كتاب فتنة مقتل عثمان صـ 54 .

    1- رواه أحمد، المسند (1/ 57-58، 69)،وبتحقيق أحمد شاكر (1/ 334، 377 )والترمذي ، وابن سعد، الطبقات (3/66-67)، وابنعساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (283- 285) .

    2- فقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"تنحي"، ومعنى التنحي الانصراف. القاموس المحيط (4/ 396) .

    1- وابن سعد، الطبقات(3/ 71) .

    2- وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (396) .

    3- ابن سعد، الطبقات (3/70) .

    4- ابن سعد، الطبقات(3/70-75) و ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (389-391) ، والطبري، تاريخ الأمموالملوك (4/383–384) .

    1- سورة البقرة الآية:137 .

    2- والصولجان هو: العود المعوج، أو المحجن،الفيروزآبادي، القاموس المحيط (1/204) وابن منظور، لسان العرب (2/ 310).

    3- ابن سعد، الطبقات (3/ 76) ، وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (227-228).

    4- ابن سعد، الطبقات (3/ 81 ، و أنظر أيضاصفة قتله في ابن عساكر تاريخ دمشق ترجمة عثمان صـ 228- 391 ومن 396 - 400. وابنسعد الطبقات ج3 صـ70 ، 71 ،75 ،76 ،81 ، والطبري تاريخ الأمم والملوك ج 4 صـ 383 ،384 . وكذلك يرجع إلي كتاب فتنة مقتل عثمان المرجع سابق الصفحات ًصـ 223 – 235 وقدأعتمدنا عليه في هذا الصدد بتصرف .

    5- تاريخ الأمم والملوك ج4 ص416 .

    1- طبقات بن سعد ج 3 صـ 83 ، 84. وابن عساكر تاريخ دمشق ترجمة عثمان صـ417 ،418 .

    2- أنظر العواصم منالقواصم الحاشية 1، 2 صـ141 .

    3- أنظر الطبري تاريخ الأمم والملوك ج4صـ340،341و العواصم من القواصم الحاشية 1،2 صـ141وانظر كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجعسابق صـ253،254 الجزء الأول حيث يرجح القاتل وهو ذلك الرجل الأسود ويبرئ الصحابةومحمد بن أبي بكر وغيره .

    1- أنظر كتاب فتنة مقتل عثمان كمرجع سابق صـ256 .

    2- البداية والنهاية (7/ 193-194).

    3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/413)،ابن عساكر عن ابن إسحاق، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (533)

    4- ابن سعد، الطبقات (3/79)

    5- وقد أدخل هذا البستان في البقيع، فهواليوم في جهته الشمالية الغربية؛ وبالتحديد مقابل طرف عمارة الأوقاف رقم (2)الجنوبي الغربي .

    1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/413-414)

    2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (542) والطبري المصدرالسابق .

    3- أسد الغابة (3/491) ، ابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (538).

    4- الطبقات 3/ 78-79) ،وأيضاً ابن عساكر عنابن إسحاق، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (533) .

    5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك (4/415) ،ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان 532،428 ، 411 )، وابن سعد، الطبقات (3/ 79) .

    1- ثمامة بن عديالقرشي، كان أمير صنعاء لعثمان -رضي الله عنهما - وقال الطبري: كان من المهاجرينوشهد بدراً .

    2- رواه ابن سعد، الطبقات (3/ 80)،والبخاري، التاريخ الكبير (2/ 176) .

    1- سمرة بن جندب بن هلالالفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور، له أحاديث، مات في البصرة سنة 58?، ع(التقريب/2630) وأنظر أيضا فتنة مقتل عثمان صـ269 .

    2- الثلمة فرجة المكسور والمهدوم ، شرطوا: الشرط بزغ الحجامبالشرط بنزول الدم ، 4 رواه ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (493) بإسنادحسن .

    3- حذيفة بن اليمان، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، صح في مسلم أن رسولالله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيأيضاً، استشهد بأحد، ومات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة 36 ع(التقريب/1156)، والمقصود من قول الحافظ: "أعلمه بما كان..." أي: منأمور الفتن، فإن علم الغيب لا يعلمه إلا الله .

    4- وابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (459) .

    1- رواه ابن سعد، الطبقات (3/81)، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (490) .

    2- رواه البخاري، الجامع الصحيح (مع فتحالباري 7/ 128)، والآية (10) من سورة الأحقاف، وسير أعلام النبلاء ج2 صـ414 .

    3- (رواه البخاري،الجامع الصحيح (مع فتح الباري 7/129، 12/401)، ومسلم، الجامع الصحيح (4/1931) .

    4- سورة الرعد، الآية (43) .

    5- الذهبي، سير أعلام النبلاء (2/ 418)، وابن كثير،تفسير القرآن العظيم (2/521) وذكر ابن كثير أن في ذلك خلافاً،ابن عساكر، تاريخدمشق، ترجمة عثمان (353-354)، ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (351) .

    1- منهاج السنة النبوية (6/231) .

    2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة عثمان(354-356) .

    3- البخاري، الجامع الصحيح (فتحالباري:13/90) .

    1- تحقيق مواقف الصحابة (1/378). المسند (6/250 ، 261)،والبداية والنهاية (7/219) .

    2- فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (1/391) وتاريخ خليفة ،ص176 ، إسناده صحيح إلي عائشة رضي الله عنها .

    3- الأرب : الحاجة والدهاء والفطنة والعقل .

    4- خلجوا : تحركوا واضطربوا .

    5- نجاة : اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم .

    6- ينكل بهم غيرهم : حتى يردعهم ويروع بهم غيرهم .

    7- يشرد : يفرق ، ويبدد جمعهم .

    8- تاريخ الطبري ج5 صـ473، 474 .

    1- أنظركتاب فضائل الصحابة رقم 2401

    2- انظر البداية والنهاية ج7 صـ202 .

    3- أنظر فضائل الصحابة ج1 صـ563 ،746 .

    4- العقيدة في أهل البيت ،ص234 . مروج الذهبللمسعودي (3/64) .

    5- تاريخ دمشق صـ203، 204 .

    1- أخرجه بن سعد في الطبقات3/62 .

    2- تناهي وسعهموأثروا .

    3- الجلاهقات جمعجلاهق وهو البندق الذي يرمي به الطير .

    4- انظر تلكالأوليات في تاريخ الخلفاء للسيوطي ط . دار صادر سنة 1997 م صـ197 .

    1- أنظر ذو النورين عثمان بن عفان (ص: 147) .

    2- ذو النورين عثمان بن عفان (ص: 147) .

    3- تاريخ الأمم والملوك (4/373) .

    1- المصدر السابق .

    2- سورة المائدة، الآية (33) .

    3- أنظر كتاب ذو النورين صـ148 .

    1- ‏يلاحظ أن عمرو بن العاص كانناقمًا على عثمان بعد أن عزله عنولايةمصر سابقًا غير أن عثمان كان مع ذلك يستشيره‏ .

    2- دائرة المعارف ‏[‏ص 198‏] . ‏

    1- أنظر دائرة المعارف السابقذكرها .

    2- دائرةالمعارف ‏[‏ص 199‏]

    1- ‏[‏دائرة المعارف ص 200‏] .

    1- ‏[دائرة المعارف ‏ص 201‏]‏ .

    1- للتوسعة في هذه القضايا ينظرفي كتاب العواصم من القواصم صـ76 – 150 .

    1- ( العواصم من القواصم صـ77 ، 78 ) .

    1- ( أنظر ذلك في كتاب ابن عساكرفي تاريخ دمشق جزء 7 صـ429 والطبري ج5 صـ99 ، والعواصم صـ78 ) .

    1- [‏المجمر والمجمَّرة‏:‏ التييوضع فيها الجمر مع المدخنة‏.‏ ‏[‏القاموسالمحيط،مادة‏:‏ جمر‏‏‏] .


  29. #29
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالسادسة )


    طبيعة عصر الإمام ( عصر الثنائية والاختلاف )


    كيف واجه الإمام تلك الثنائية


    تميز عصر الإمام علي بن أبي طالب بظاهرة اجتماعية أختصبها ذلك العصر دون عصور الخلفاء من قبله فعصر أبي بكر كان هو عصر الذي شهد نشأةالدولة الإسلامية بعد موت النبي e إذ كان عصر النبي هو عصر المتصل بالسماء ( الوحي ) ، ثم جاء عصرعمر وهو عصر التمكين الذي تم فيه استقرار الدولة وأتساعها وامتدادها وتمكينالعقيدة في أنفس المسلمين .


    أما عصر عثمان وهو العصر ( المجتمع الإسلامي ) وأقولالمجتمع الإسلامي إذ شهد المجتمع المسلم نشاطا جديدا لم يكن مألوف من قبل حيث ظهرفيه تغيرات جديدة وشبه أنظمة مبتكرة علي أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحةوالتي أدت إلي ظهور نعومة الحياة بعد تقشفها والاستمتاع بالطيبات بعد الحرمان منهاوالتوسع في الأرزاق بعد ضيق الأيدي منها فلا غرو أن يتباين أسلوب المجتمع في عصرأمير المؤمنين عثمان عن عصر أبي بكر وعمر من قبله ويعيش الناس حياة لم يألفوها منقبل رضي بها من رضي وسخط عليها من سخط وبدت تلك الثنائية تسري وتتغلغل في نفوسرجال الدولة وظهر نتيجتها في عصر الإمام علي بن أبي طالب وقد أفرزت تلك الثنائيةاضطراب في المجتمع بدا واضحا جليا لا يمكن أنكاره لأن ذلك كان بمثابة بناء جديدافي سبيل اكتمال الدولة ولم يكن في نفس الوقت بناء متداعي كله هدم واندثار .


    وهكذا لا غرو أن ينقسم المجتمع في عصر علي بن أبي طالب إليقسمين متباينين ولكن في كلا منهما كل عوامل الرضا عن النظام الاجتماعي والرغبة فيبقائه وتدعيمه . وفي الأخر كل عواملالتذمر من النظام الاجتماعي والتحفظ لهدمه وتحويله .


    ولو دققنا وتأملنا بعض الشيء لوجدنا أنصار القسم الأولوهم الراضون عن النظام الإجتماعي كان يتزعمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فيالشامات كلها وما جاورها . بينما أنصارالخصم الآخر وهو قسم التذمر كان علي رأسه الإمام علي بن أبي طالب في المدينة ومكةوالجزيرة العربية جميعها .


    والحقيقة أن معاوية بن أبي سفيان بل البيت الأموي بأكملهكان علي صلة قوية بالشام قبل الإسلام وعندما قامت دعوة الإسلام توثقت العلاقة بينالبيت الأموي وبين الشام وقد تولها زيد بن أبي سفيان من قبل الخليفة أبي بكرالصديق ثم خلفه أخوه معاوية من قبل الخليفة عمر وقد أستحوذ علي ثقة الخليفة آنذاكحتى ولاه الشامات كلها وظل عليها بضع عشرة سنة حتى مبايعة علي بن أبي طالببالخلافة وقد تمكن معاوية طوال هذه المدة أن يؤسس سلطانا أمويا قويا لا ينازعه فيهالناس ومن أجل هذا الهدف أخذ يصطنع الأعوان المؤيدين له ولا يقصر في استرضاء رجلقد ينفعه ويدعمه في ملكه فلا يبخل عليه بالأموال كما أنه لم يوجه عنايته ورعايتهإلي الشرفاء فقط بل شمل برعايته الأتباع والأجناد وبالفعل وقد وسعت ثروة الشام كلمن أستقطبهم من القواد وأصحاب الزعامات حتى أقارب علي رضي الله عنه وقد شملهمبرعاية فائقة علي وجه الخصوص حتى يظهر ما جبر عليه من كرم وعطاء وهذا أمر يعرفه الإمامعلي رضي الله عنه وقد كان جادا لا يفرط في الأموال العامة التي تخص المسلمين وكانينفق منها علي ما هو أجدر بالاستحقاق وقد أشار المسعودي إلي قصة طريفة أوضحت مابين المعسكرين : معسكر علي ، ومعاوية من أوجه التباين والتناقض وقد توجه إليمعاوية أقرب الناس إلي علي بن أبي طالب ومنهم عقيل أخو علي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن زمعه ، وعمرو بن العاص ، وأناس آخرون منطبقة الشرفاء الذين كان في حوزة معسكر علي .


    وقد أراد عقيل من أخيه مالا يأخذه من بيت المال فأبيالإمام علي لانه ليس له حق في ذلك فتركه عقيل وأقبل علي معاوية وهو يقول إن أخيخير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي وهذا مجرد مثال نقيس عليه صفات زعيم كلامن المعسكرين فقد كان معاوية رحمه الله علي قدر كبير من النباهة والذكاء واستقطابالشرفاء وتعلم كيف يرضي العامة من الناس كما كان يرضي الشرفاء ويروي المسعودي أنهبلغ من أحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهلالكوفة دخل علي بعير له إلي دمشق في حال منصرفهم عن صفين ، فتعلق به رجل من دمشقفقال : هذه ناقتي أخذت مني بصفين فارتفع أمرهما إلي معاوية وأقام الدمشقي خمسينرجلا بينه يشهدون أنها ناقته .. فقضي معاوية علي الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه. فقال الكوفي : أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة فقال معاوية : هذا حكم قد مضي .ودس إلي الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره فدفع إليه ضعفه وبره وأحسنإليه ، وقال له : (( أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل ! )) .([1])


    وعلي هذا النحو جد معاوية رضي الله عنه في اجتلاب أسباب التمكين والتدعيم لملكهكما كان شديد الحظر لاتقاء أسباب التمرد أو الإخلال بنظم مملكته الناشئة وكان يميلدائما إلي استخدام اللين والملاطفة لتسكين المتمردين عليه وقلما خرج عن سجيته تلكولجأ إلي الشدة والعنف فما سمع صيحة فتنة إلا بادر إليها بما يسكن أهلها ويردهمإلي طلب الاستقرار والدوام فمن أفاد معه المال أسكته المال بل أغدق عليه إغداقاوإن بدرت صيحة العبادة والزهد في الدنيا وهي صفة ألتزم بها بعض الصحابة رضوان اللهعليه فكان يسعي إلي إبعادهم عن الشام بحيلة أو بأخرى حتى يؤلب عليه الفقراء فقدكتب إلي الخليفة عثمان يشكو من هؤلاء الصحابة الذين تمسكوا بالزهد والتقشف وحرصواعلي الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : ( أنه قدم عليّ أقوام ليستلهم عقول ولا أديان ، أضجرهم لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجه إنما همهمالفتنة وأموال أهل الذمة والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكونأحدا إلا مع غيرهم ) ([2])


    ومن هؤلاء الذين أخرجهم أبو ذر الغفاري الذي أخذ يناديالأغنياء بالإنفاق في سبيل الله وحذرهم من كنز الذهب والفضة ويقول العقاد أنمعاوية أرسل إلي أبي ذر ألف دينار يسكته بها إذ ظنه ممن يسكتهم الغني والمال ، فماطلع النهار حتى وزع أبو ذر تلك الدنانير علي المعوزين الذين يشكون الفقر . ثم صليمعاوية الصبح وأرسل إلي أبي ذر رسوله الذي حمل إليه الدنانير يقول له أنقذ جسدي منعذاب معاوية فإنه أرسلني إلي غيرك فأخطأت بك . وقال له يا بني قل له والله ما أصبحعندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتي نجمعها . فعلم معاوية أن الرشوةعند أبي ذر لا تغني عن القسوة وكتب إلي الخليفة أن أبا ذر أعضل به فلا طاقة لهبالصبر عليه . فأتاه الأذن بنفي أبي ذر من الشام إلي المدينة بل ضاقت به المدينةأيضا فنفي منها إلي قرية من أرباضها . ([3])


    أما الإمام علي فقد كان علي شاكلة تخالف ما كان عليهامعاوية وقد كان يخشي الله في مال المسلمين وكان يوزعه عليهم بالتساوي ونهج نهج عمربن الخطاب رضي الله عنه في هذا الجانب ويقال أنه أنتزع أملاكا كان عثمان أقطعهاجماعة من المسلمين وهم بني أمية بغير حق وكان يقسم المال بالتساوي ولم يفضل أحداعلي أحد ([4])، ولعل هذا المسلك قد أنعكس على الإمام علي بن أبيطالب وأتباعه حيث قلت فيه دواعي الرضا والاستقطاب أو الإغراء بالمال أو المنصب إلاأنهم قد عضوا علي الدين بالنواجذ والتفوا حول زعيم لهم لا يعرف في الحق لومة لائمهذا وإذا أضفنا إلي ذلك أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم واللذين كانوا بمثابةأهل العقد والحل إبان خلافة أبي بكر وعمر قد رحلوا عن المدينة وتوزعوا في الأمصارومن هنا نظر إلي بن أبي طالب فلم يجد حوله في المدينة إلا أغلب المتردين الثائرينعلي عثمان وقد كثروا في المدينة وضاق بهم المقام وأدرك الإمام علي رضي الله عنه أنالمدينة لم تعد له مقاما كما كانت علي عهد الخلفاء السابقين فتركها وأوي إليالكوفة وأتخذها حاضرة لخلافته .


    فقد كان أبو بكر وعمر يمسكان كبار الصحابة بالحجازويحذرانهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا علي الدنيا ويدب بينهم النزاع ويفتتن بهمالمسلمون وتتصدع الأمة ويتمزق شملها .


    فلما صارت الخلافة إلي عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمةوشق عليه أنه يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره فانطلقوا في الأمصار حيثوجدوا القطائع واستحوذوا علي الأملاك وذاقوا متع الحياة الدنيا . وبخلو المدينة من كبار الصحابة يكون عثمان رضيالله عنه قد أخطأ خطأ كبيرا حيث خلا مجلس الخليفة من أهل الحل والعقد الذين يعتمدعليهم الحاكم ويستشيرهم في كل أمر ، ولهذا اضطربت أمور الحكم وزاغت أمور السياسةمع أمير المؤمنين عثمان لأنه لم يجدبجانبه هؤلاء الصحابة يساندونه ويشيرون عليه لما هو أهدي سبيلا وجاء علي بن أبيطالب فكان الوضع أشق وأشد صعوبة ومن ثم ظهر الاضطراب والتنازع وانقسام المسلمينبين معسكرين مما أفضي إلي كارثة رهيبة ذهب علي بن أبي طالب ضحية لها كما ذهب عثمانرضي الله عنه من قبل .


    ويروي المسعودي أنه (( في أيام عثمان اقتني الصحابة الضياع والمال ، فكانلعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعةبوادي القري وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف أبلا وخيلا كثيرة ، وبلغ الثمنالواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف ألف فرس وألف أمة .وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك . وكان عليمربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ الربع منمتروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا ، وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كانيكسر بالفئوس غير ما خلف من الأموال والضياع . وبني الزبير داره بالبصرة وبني أيضابمصر والكوفة والاسكندرية ... وكذلك بني طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينةوبناها بالجص والآجر والساج ، وبني سعد بنأبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل علي أعلاها شرفات ، وبنيالمقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن ، وخلف يعلي بن منبه خمسين ألفدينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم )) . ([5])


    ولا شك أن هؤلاء قد شكلوا في معسكر علي عنصرا من عناصرالقلق والتبرم بالحكومة الجديدة خلافا لما ينعم به أمثالهم في معسكر معاويةفالمعروف أن أصحاب الثروات في كل مجتمع هم أصحاب السلطة وهم مالكو القرار وبذلكنراهم قد خالفوا ما ألفه المسلمون في مجتمع أبي بكر وعمر وقد عرفوا عليا من قبلفلو تمكن منهم فلن يقره علي ما هم فيه بل سوف يحاسبهم ما جمعوه من المال قد عرفواذلك عن علي في حسابه لولاته فلا غرو أن نري علي بن أبي طالب كان دائم العتاب لأميرالمؤمنين عثمان لأنه أباح للعمال وللولاة ما ليس لهم ورأي أن هذا الثراء وتلكالأموال والإقطاعيات كانت سببا في ترف الكثير من المسلمين مما جعلهم يركنون إليالدنيا ويبتعدون عن روح الآخرة وعن وحي النبوة وهديها المنير كل هذا كان يشكل ثقلافي معسكر علي بن أبي طالب بينما كان معسكر معاوية بن أبي سفيان لم يكن فيه فتنة أوتنازع بل كان فيه دعامات التمكين والتأييد لحكم معاوية وخلاصة القول أن عصر علي بنأبي طالب كان عصرا ملئ بالقلق والانزعاج والتمرد نتيجة لما أفضي إليه مقتل عثمانرضي الله عنه من ناحية ولما حدث لصف المسلمين من انقسام ثنائي بين الإمام عليومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ولا شك كان علي نموذجا أعلي لأصحابه وكانمعاوية أيضا نموذجا أعلي لأصاحبه وكان كل منهما يعمل علي شاكلته ويعمل بكل مايستطيع لخدمة الإسلام ورعاية الدولة الناشئة ولا غرابة في ذلك فقد كان الرجلانصاحبين للنبي e تربيا فيكنفه وغرفا من معين هديه فلا غرو إن قلنا أننا غير قادرين علي وزن الرجلين ولا عليالمقابلة بينهما في الرأي والعمل والعقيدة وثبات الهمة ولا نستطيع إلا أن نقول كماقال العقاد أن احدهما كان يعمل والحوادث حربا عليه ، وأن الآخر كان يعمل والحوادثعدة في يديه .

    * * * *


    (2)


    خصوصية تاريخ علي بن أبي طالب





    إن دارسة شخصيةالإمام علي تعد من أهم الدراسات الإنسانية لان في دراستها مغزي وعبر وبطولة وفداءوحكم وعلم وإيمان فسيرة هذا الرجل ملتقي جيد لكل ما ذكرناه ولا غرو في ذلك فإنتاريخ ذلك الرجل وأبنائه من بعده تعد سلسلة واحدة من مصارع الجهاد في سبيل اللهأفرزت تاريخا للأفراد والبطولات والثورات والدول .


    وقد كان الإمامعلي رحمه الله موسوعة كبري تلتقي فيها كل موارد المعرفة فقد كان صاحب آراء فيالتصوف والشريعة والأخلاق وقد كان اسم ذلك الرجل غوثا للملهوف وصيحة تنادي بها كلطالب للإنصاف وقد قامت باسمه الدول بعد موته .


    ويقترن بهذاالاسم الشجاعة وأخص شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم ولا تكون شجاعة الفروسية إلا إذا اقترنت بالثقةأو الاعتزاز وقد يسميها بعض الناس زهوا وخاصة عند مواطن النزال وقد يكون الزهومذموما لا خير فيه وهو لون خادع يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة وقد يبدوا عليالجبان كما يبدوا علي الشجاع ولكننا نريد هنا أن الاعتزاز أو الثقة التي يتمتع بهاالإمام علي هي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لأنه لا يستغني عنها .


    كما من أخلاقهالحميدة عدم التكلف في إظهار الأشياء أو إخفائه وهو لا يقبل التكلف حتي من مادحيهقد كان للإمام علي صفات ومزايا فكرية وخلقية لم يختلف عليها أحد من خصومه أولأنصاره إذ أتفقوا جميعا علي بلاغته وعلي علمه وفطنته وإن كانوا يغبنون في رأيهعند علاج الأمور ودهائه في سياسية الرجال .


    ومما لا شك فيهأن الإمام علي كان علي نصيب بالغ من الفطنة النافذة فقد أشار علي عمر وعثمان أحسنالمشورة في مشكلات الحكم والقضاء ، وأنه كان أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبينأصحاب الحكمة وبداهة التفكير وقد انقسم الناس حول علمه وإبداء رأيه متحزمين شانئينأو متحزمين راضين والحقيقة إنصافا لذلك الرجل أنه كان عند العمل لا يري ما تقتضيبه الساعة الحازبة ولا ينتفع بما يراه ويقول أناس بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانهولا يقيدان أعدائه فهل كان أقل من معاوية دهاءا وسياسة كما يقول كارهوه ، إن لا يري ذلك بل يري رأي أخر لا يقل بها عن معاويةفيقول ( والله ما معاوية بأدهي مني ولكنه يغدر ويفجرولولا كراهية الغدر لكنت من أدهي الناس ) فعلي رحمه الله لا يسوس الناس بالدهاءكما يفعل معاوية لأنه يري الدهاء نفاق لا يتمشي وطبيعة الإيمان لأن المؤمن لا يغدرولا ينافق .


    وعلي العموم أنأجل صفة يتمتع بها الإمام علي والتي باتت تأثر فيما حوله أخذا وعطاءا هي صفةالفروسية وآل بها حيث كان معروفا بالنخوةوالرجولة والشجاعة ولن أكون مبالغا إذا قلت أن النخوة كانت طبعا أصيلا في الإمامعلي فطر عليها تري نخوة الفروسية في معاملته للضعفاء من الرجال والنساء ، لقد أصابعلي عدوه في مقتل مرات ومرات ومع ذلك لم يغتنم تلك الفرصة السانحة بين يديه ويقتلخصمه فهو يريد أن يغلب عدوه غلبة الشجاع الشريف ففي واقعة صفين استحوذ معاويةوأنصاره علي الماء وأرادوا أن يمنعوا عليا وأصحابه منه يقول جنود علي : ففزعنا إلي أمير المؤمنين فخبرناهبذلك فدعا صعصعة بن صوحان فقال له : ائت معاوية وقل له أنا سرنا مسيرنا هذا إليكمونحن نكره قتالكم قبل الاعذار إليكم ، وانك قدمت إلينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أننقاتلك وبدأتنا ، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك ، وهذه أخرى قدفعلتموها إذ حلتم بين الناس وبين الماء . والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إليأصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا حتي ننظر فيما بيننا وبينكم وفيماقدمنا له وقدمتم له .....)) ([6]) .


    فالإمام عليهنا قد أشار عليه أصحابه ينتصر علي رجال معاوية ويستحوذ علي الماء وكان في مقدروهأن يمنعهم منه وأن يغلبهم بالظمأ ولكنه رفض ذلك وصاح بهم خذوا من الماء حاجتكموأرجعوا إلي عسكركم وخلوا عنهم فإن الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم ،وهكذا تراه يعفوا ويسمح عند المقدرة وهذه صفات الفارس العربي الشجاع صاحب النخوةوالرجولة وهناك مثال آخر يدل علي فروسيته وعلي نخوته فقد كان يبارز عمرا بن العاصوهو من حلفاء معاوية واثناء المبارزة وقع علي الأرض فانكشفت سوأته دون أن يدري وقد تمكن منه وكان في مقدوره أنيقتله ولكنه صدف عنه وتركه وأنصرف ، ومن تمام أخلاقه أنه كان لا يعادي امرأة ولارجلا موليا ولا جريحا عاجزا عن النضال .






    1- أنظر مروج الذهب للمسعودي ج2 ، عبقرية الإمامعلي صـ44 .

    1- العقاد عبقرية الإمام علي طبعة دار الهلال صـ45 .

    2- المرجع السابق ونفس الصفحة .

    3- أنظر مروج الذهب للمسعودي ج2صـ350 .

    1- العقاد فيعبقرية الإمام علي صـ49 .


    1- العقاد في عبقرية الإمام علي ص29 .



  30. #30
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة السابعة )



    الظروف الصعبة التي أحاطت لبيعة الإمام علي


    لقد كانت الفترة التي تمت فيها مبايعة أمير المؤمنين عليبن أبي طالب للخلافة فترة حرجة أشد الحرج فقد أعقبت فتنة مقتل عثمان بن عفان وأصبحت المدينة مستنقع شديد لتلك الفتنة فالثوار المتمردون قتلة عثمان يبحثون عنخليفة يولونه مكان عثمان وقد كانت الآراء مختلفة آنذاك فكان أهل مصر يريدون علياوأهل الكوفة يريدون الزبير وأهل البصرة كانوا يريدون طلحة فالآراء مختلفة والميولمتباينة ولكن علي الرغم من هذا الاختلاف فقد كان هناك ثلاثة ربما ينعقد عليهم أمرالخلافة وهم الثلاثة سالف الذكر .


    وعلي الرغم من وجود بعض أكابر الصحابة من السابقينالأولين إلا أنهم كانوا عازفين عن الخلافة ومتاعبها وإذا أضفنا إلي ما سبق أن أغلبأصحاب النبي كانوا قد هاجروا إلي الأمصار ([1]) ، فإنه لم يبق أحد أجدر بتوليالخلافة من علي بن أبي طالب فهو من أوائل المسلمين وابن عم رسول الله r وزوج فاطمة بنت محمد r ولم يكن كل هذه السمات هي التي أهلته ليختاره الناس لتولي الخلافةولكن عليا كان جديرا بها لرجاحة عقله وشجاعته وإقدامه وحزمه وصلابته في الحق وحسنتصريفه للأمور.


    وعلي الرغم من كل هذه المزايا والسمات التي تميز بهاالإمام علي إلا أن الظروف المحيطة به كانت ظروفا حرجة وربما تكون أشد حرجا من فترةالردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فهي لا تقل عنها بل ربما تزيد إذ كانت حركةالردة خروج علي نظام الدين القائم . من هنا سهل علي الصديق أن يحاربهم وينتصرعليهم ويردهم إلي حظيرة الإسلام حيث كانت القبائل المرتدة معروفة ومميزة ، أماالفترة التي تولي فيها الإمام علي الخلافة فكانت فترة متميزة بالنفاق والتخفيوالمداهنة ، فقد كان الخوارج يتمسحون في الإسلام والسبئية يظهرون الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر وهم ينخرون في عظام الدولة لإضعافها كما أن المسلمون قد تفرقواشيعا وأنصارا وهذا خلاف ما كانوا عليه في عصر الصديق وعمر رضي الله عنهما فقد أجمعالمسلمون علي بيعة أبي بكر وعمر وعثمان عن طريق الشورى والبيعة في مسجد رسول الله r.


    أما بيعة علي فإنها تمت في ظروف صعبة قد سيطر فيهاالمتمردون علي العاصمة واعتدوا علي الخليفة عثمان فقتلوه وأصبح للأسف الشديد لهمالأمر والنهى وأخذوا يجتمعون لاختيار الخليفة ويتخبطون هنا وهناك فيذهبون إلي عليليقبل الخلافة فيفر منهم ويطردهم ويذهبون لطلحة ويلحون عليه أن يقبل هذا الأمرفيرفض ولا يستمع إليهم ثم ينصرفون إلي الزبير فيجافيهم ويصرفهم عنه ويصور الطبريتلك الفتنة الخطيرة التي قام بها هؤلاء المتمردون في تخبطهم في إختيار خليفة وقدحاولوا أن يولوا سعدا بن أبي وقاص فبعثوا إليه وقالوا إنك من أهل الشورى ، فرأينافيك مجتمع فأقدم نبايعك فبعث إليهم أني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لنا فيها ثمأتوا ابن عمر عبد الله فقالوا : أنت ابن عمر ، فقم بهذا الأمر .


    فقال : إن لهذا الأمر انتقاما ، والله لا أتعرض له ،فالتمسوا غيري . يقول ابن جرير : فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم ([2]) .


    - تواترتالروايات علي أن عليا – رضي الله عنه – رفض أن يتولي أمر المسلمين بعد مقتل عثمان، وكلمه الناس في ذلك فقال : ولا تفعلوا ، لأن أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا .وبقي الناس علي ذلك بغير أمير ثلاثة أيام أو خمسة ، والناس يبحثون عمن يلي أمرهموكلما ذهبوا إلي شخص يطلبون منه قبول البيعة رفض وهرب منهم . يروي ابن جرير أنهمكانوا إذا لقوا طلحة أبي فيقولون : إنكلتوعدنا فيقومون ويتركونه . فإذا لقوا الزبير وأرادوه ، أبي: فيقولون : إنكلتواعدنا فإذا لقوا عليا ، وأرادوه أبي .فيقولون: إنك لتوعدنا فيقومون ويتركونه ([3]) .


    عندئذ حاروا في أمرهم ، ثم قالوا : إن نحن رجعنا إليأمصارنا بقتل عثمان من غير أمير اختلف الناس في أمرهم ، ولم نسلم ، فرجعوا إلي عليوألحوا عليه ([4]). ولكن علياكان يري أن الأمر ليس إلي هؤلاء الشراذم ، بل الأمر في اختيار الخليفة يرجع إليأهل الحل والعقد ، وأعضاء مجلس الشورى الذين عينهم عمر – رضي الله عنه – وارتضاهمالمسلمون ، لهذا كان يرفض عرضهم ، ويهرب منهم ويختبئ في بساتين المدينة ([5]) .


    ولما رأي المتمردون امتناع الناس ، وعدم طاعتهم لهمهددوا بالقتل إذا لم تتم البيعة بعد يومين قالوا : دونكم يا أهل المدينة ، فقدأجلناكم يومين ، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدا عليا وطلحة والزبير وأناساكثيرين .


    فتكاثر الناس علي الإمام علىّ بن أبي طالب وقالوا :نبايعك فقد ترى ما نزل بالمسلمين ، وما ابتلينا به من ذوي القربى . فقال علي :دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان ، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول . فقالوا : ننشدكالله ، ألا تري ما نرى ؟ ألا تري الإسلام ؟ ألا ترى الفتنة ؟ ألا تخاف الله ؟ ([6]) ، فقال علي : ( قد أجبتكم لما أري ، وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلموإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، ثمافترقوا علي ذلك واتعدوا الغد ([7]). وانصرف الناس وهم مشغولون بما سيأتي به الغد ، هل ستتم البيعة ، وتخرجالمدينة من هذه الأزمة ؟ هل سيبايع طلحة والزبير أم سيفران إلي مكة بغير بيعة ؟وهل ستتم بيعة عليّ دون أن يبايع طلحة والزبير ؟


    وهكذا كان الأمر أخطر مما كان يتصوره الناس أن المدينةبغير إمام والمسلمون فوضي لم يستقروا علي حال والمتمردون يهددون . كل هذا وضعالإمام علي أمام قدره فقبل البيعة وانعقدت له وعزم عليه المهاجرون والأنصار ورأيذلك فرضا عليه فانقاد إليه .


    ويروي الطبري أن الناس أتوا عليا وهو في سوق المدينةوقالوا له أبسط يدك نبايعك قال لا أجلوا فإن عمر كان رجلا مباركا وقد أوصي بهاشورى فأمهلوا ليجتمع الناس ويتشاورون فأرتد الناس عن علي ثم قال بعضهم إن رجعالناس إلي أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمل اختلاف الناسوفساد الأمة فعادوا إلي علي وأخذ الأشتر بيده فقبضها علي فقال أبعد ثلاثة ؟ أماوالله لئن تركتها لتعصرنّ عينيك عليها حينا . فبايعته العامة وأهل الكوفة . ([8])


    ومن هنا اتسق الأمر في البيعة لعلي بن أبي طالب وبويعبالخلافة يوم الجمعة 25 من ذي الحجة وألقي خطبته ، وكانت البيعة عامة وهكذا تمتالبيعة لعلي رغم هذه الظروف الصعبة وتحت وطأة المتمردين والتي كان يحذرها الإمامعلي فقد وصفها بقوله ( فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم له القلوبولا تثبت عليه العقول ) ولكنه وافق لينقذ الإسلام وأهله وبعدما هدد المتمردونبقتله هو وطلحة والزبير وأناسا كثيرين .


    وقد بايع أغلب المسلمين آنذاك الإمام عليا وإن لم يكنجميعهم ، ولكن كما تذكر بعض الروايات أن الناس تخاوفوا ألا يبايع طلحة والزبيرفهما من الشخصيات السباقة في الإسلام ولهما ثقلهما في هذا الصدد وكما ذكرنا سابقاأنهما من الشخصيات التي كانت محببه لدي بعض المسلمين في توليهم الخلافة فإن بعضالناس كان يريدوا طلحة وبعضهم كان يريدوا الزبير فهما الشخصيتان المنافستان لعليفي هذا الأمر آنذاك .


    ولعل مبايعة طلحة والزبير للإمام علي رضي الله عنه عليوجه الخصوص تؤكد البيعة الكاملة والشرعية من المسلمين ، ويذكر الطبري أن وفدا منأهل البصرة يتزعمهم حكيم بن جبلة العبديأنهم أحضروا الزبير بن العوام وبايع لعلي والسيف علي رأسه بينما أرسل أهل الكوفةالأشتر النخعي ومعه نفرا من أهل الكوفة فأتوا بطلحة بن عبيد الله فبايع مجبرا ولكنعلي ما يبدوا أن هاتين الروايتين ضعيفتان فقد روي محمد بن شيرين أن عليا جاء إليطلحة وقال له أبسط يدك يا طلحة لأبايعك فقال طلحة أنت أحق وأنت أمير المؤمنينفأبسط يدك فبسط علي يده فبايعه طائعا . وهذه هي الرواية الأدق وقد ذكرها الطبري (ج4 صـ434 ) وهذا هو العمل الطيب الذي يمكن أن يقال وهي المسئولية التي يدركهاأصحاب النبي r إذ وكانوارضوان الله عليهم يؤثرون بعضهم علي بعض ولم تعرف قلوبهم الحقد ولا النفاق ولاالكراهية فقد حضر الناس يوم الجمعة في المسجد وجاء الإمام علي فصعد المنبر وقال: ( أيها الناس إن هذا أمركم ليس لأحد فيهحق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس علي أمر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكونعليكم ألا وأنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي وليس لي أن آخذ درهم دونكم فإنشئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد علي أحد فقالوا نحن علي ما فارقناك عليه بالأمس قال :(اللهم أشهد .................. ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا نبايععلي إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل فبايعهم ثم قام العامةفبايعوا وسار الأمر أمر أهل المدينة وكأنه كما كانوا فيه وتفرقوا إلي منازلهم . ([9])


    وقد ذكرت الروايات بعض أسماء المتخلفين عن بيعة الإمامعلي بعضهم من المهاجرين والبعض الأخر من الأنصار فمن المهاجرين عبد الله بن عمروالمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص وقدامة ابن مظعون وأسامة بن زيد ، وصهيب ابنسنان . أما المتخلفون عن بيعة علي من الأنصار فهم : عبد الله بن سلام ، وسلمة بنسلامة بن وقش ، وحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وأبو سعيد الخدري ، ومسلمة بن مخلج، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وفضالة بنعبيد ([10]).


    كما أن بعض أفراد من بني أمية قد هربوا فتركوا المدينةإلي مكة منهم الوليد ابن عقبة وسعيد بن العاص وتبعهم مروان بن الحكم . ([11])


    وإذا كان هناك من تفسير لعدم بيعة هؤلاء الصحابة فعلي مايبدوا أنهم كانوا متخوفين من الفتنة التي عمت وغمت وخافوا أن يخوضوا فيها حتى لايتورطوا في موضوع تلك البيعة التي لم تتضح أبعادها كاملة بعد ، ويرجح ذلك القول أنقتلة عثمان مازالوا يغشون شوارع المدينة وهم الذين يعملون جاهدين علي تنصيب خليفةللمسلمين في المدينة يخلف عثمان حتى لا يفتضح أمرهم وتنكشف خطتهم وقد صلي الغافقيعدة أيام في مسجد رسول الله وهو مسعر الفتنة وباعثها من مكمنها كلما هبطت ثم أضفإلي ذلك قيام أهل عثمان وأوليائه بطلب القصاص سريعا بعد أتمام البيعة مباشرة وقبلأن تستتب أمور الخلافة في يد الإمام علي وهذا ما جعله يؤجل القصاص ولا يلغيه . لعلكل هذه الظروف دفعت هؤلاء الصحابة إلي عدم التسرع في البيعة لعليّ حتى تنجليوتتكشف الأمور فلما اتضح الأمر بعد ذلك اجتمع الناس علي بيعة علي وبايع هؤلاءالمتخلفون ولم يتخلف منهم إلا من فر إلي الشام أو إلي مكة ويروي الطبري مؤكداإجماع الصحابة علي بيعة علي ( ولم يتخلف أحد من الأنصار إلا بايع فيما نعلم) ([12]) .









    1- من المعروف أن الفاروق عمر كان يمنعصحابة رسول الله وبخاصة السابقون من أن يهاجروا إلي الأمصار خوفا عليهم من فتنةالدنيا ومتاعها من ناحية وحتى لا يفتتن بهم الناس من ناحية أخري كما كان الفاروقيرجع إليهم في الاستشارة وفي تنفيذ بعض الأعمال فكان لا يستغني عنهم أما في عهدعثمان فقد سمح لهم بالهجرة فهاجر الكثيرون منهم وتركوا المدينة إلي الأمصار وبلاشك فإن خلوا المدينة من هؤلاء السابقين كان له أثره الكبير في إثارة الفتنة ودواماتصالها .

    1- الطبري ج4 صـ432 .

    2- أنظر الطبري ج4 صـ434 ، الكامل ج3صـ98 .

    3- ابن كثير ج7 صـ227 .

    4- المصدر السابق .

    1- الكامل في التاريخ ابن الاثير ج3صـ193 .

    2- الطبري ج4صـ434 .

    3- أنظر الطبري ج5 صـ156 .

    1- المصدر السابق صـ 193 ، 194 .

    2- أنظر بن الأثير ج3 صـ191 ، 192 ،والطبري ج4 صـ433 ،434 .

    1- الطبري ج4 صـ433 ،434 .

    2- الطبري ج4 صـ439 .

  31. #31
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثامنة )


    الحيرة بين البيعة و المطالبة بقميص عثمان





    تمت البيعة لعلي بعد نكبة من أفجع النكبات الدموية فيتاريخ الإسلام تلك التي أريق فيها دم الخليفة عثمان بن عفان وهو في وهن شيخوختهوأيامه الأخيرة بعد أن حاصره المتمردون في داره ومنعوا عنه الماء حتى كاد يقتلهالظمأ وهو الذي أنعم عليهم بفيض كرمه حيث أشتري بئر رومة ووهبه لهم وكأن لسان حالهيقول :


    يارب هل يرضيك هذا الظمأ والماء ماء ينساب أمامي زُلالا


    والغريب في هذا الحادث الأليم أنه لا يعرف المسئولين عنهفهم كثيرون متفرقون في كل بلد وفي كل مصر وتكالب عليه الشر من كل جانب .


    لقد مضي عثمان في خلافته أثنى عشر عاما كان نصفها الأولعلي خير ما يكون ويرجي ثم تغيرت الأحوال فجأة في نصفها الآخر، وكان هذا التغيير منجانب الخليفة ومن جانب رعيته لأسباب قد تكون غير واضحة في أولها ولكنها ظهرت فيمابعد ، وتعددت وتبلورت أمام الرواة فأخذوا يحصون تلك المآخذ وكتبت فيها الأخبارالطوال منهم من يبرأ الخليفة في تلك المآخذ ويفسرها تفسيرا يتناسب مع مكانته ومنهممن جعلها عيوبا تقدح في مسلك ذلك الرجل .


    وقد سبق أن بيناتلك المآخذ التي هي بمثابة الأسباب التي أثارت الثوار والمتمردين ضد عثمان وهيأسباب تتعلق بمخالفته لبعض سنن النبي e وإيثاره لأقاربه بالمناصب في الدولة والأموال وضربه لبعض الصحابةإلي غير ذلك من مآخذ يمكن للقارئ الكريم أن يرجع إليها في الفصول المتعلقة بفتنةعثمان بن عفان .


    وقد تباين موقف أمير المؤمنين عثمان من تلك المآخذ فكانأحيانا لا يدرأ الفتنة في مهدها ويصر علي أعماله التي أخذها عليه الصحابة وانتقدوهفيها وتروي المراجع أن بعض الناس تألبوا علي الخليفة فأرسل إلي الإمام علي ليصرفهموتصادف أن بعض المال جاء إلي بيت المال عاجلا فأستأذن علي فأعطاهم بعض الرفد لذلكالمال فأذن له فأنصرفوا هؤلاء المتمردون عنه .


    ثم توافد المتذمرون من الولايات إلي المدينة مجندين وغيرمجندين وتولي زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة ، كتبواصحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين علي مآخذ الخليفة .... فلما حملها عمار بنياسر إليه ، غضب وزيره مروان بن الحكم ، وقال له : (( أن هذا العبد الأسود قد جرأعليك الناس ... وإنك أن قتلته نكلته من وراءه )) فضربوه حتى غشي عليه .


    بينما نري الخليفة عثمان يصغي إلي شكايات الناس ويدركمدي ما الخطأ الذي أجترحه أعوانه وولاته إما بعلمه أو بغير علمه ويعترف بذلك أمامالصحابة اللذين أستقدمهم للتشاور معهم أو لإيجاد الحلول اللازمة وحينما كان يدركخطأه يعلن توبته إلي رعاياه ويؤكد للصحابة مرة تلو المرة بأنه سوف يتخلص ويقصيأولئك الأعوان ليرضي الله ويرضي المسلمين . ولكن سرعان ما يتغلب هؤلاء الأعوان بمعسول الكلام أو بالمنافقة والدهاءفيبقيهم حيث كانوا وعلي رأس هؤلاء مروان بن الحكم الذي كان يمجه المسلمون ولايأنسوا إليه في عمل أو رأي . وكان بعضالوفود يشكون ولاتهم فإذا أنصرفوا من عند الخليفة وعادوا إلي بلادهم تلقتهم الولاةبالأذى والقتل ضربا علي الملأ .


    ونحن لا نود أن نسترسل في الحديث عن عثمان فقد سبقالحديث عنه ولكن المراد هنا أن نوضح موقف الإمام علي من محنة الخليفة عثمان .


    ولكن قد يبدوا هناك تساءل يدعوا إلي العجب لماذا يركزالرواة علي موقف علي من محنة أمير المؤمنين عثمان وهناك من الصحابة من يستطيعون أنيقوموا بدور الحماية ودرء الفتنة عن ذلك الخليفة المقتول ؟ فمعاوية بن أبي سفيانعلي سبيل المثال لو شاء الأمير عثمان أن يستمع إلي بعض الناصحين إليه وقد كانمعاوية واليا علي الشام له قوته وشوكته وكان في استطاعته أن يرسل جنده إلي الخليفةفيحميه ويذود عنه في تلك الشدة ولعل هذا القول له وجاهته فقد كان لمعاوية حلول عندالخليفة لم يكن لعلي مثله . وفيالحقيقة كان موقف علي صعبا بل أصعب ما يكون في تلك الأزمة التي حفت بالمصاعبوالمكارة فكان أول من يطالب بالغوص كلما هجم الثوار علي الخليفة وكان الثوارينظرون إلي علي علي أنه هو المسئول عن السعي في الإصلاح بينما كان الخليفة ينظرإليه علي أنه أول مسئول عن تهدئه الحال وكف أيدي الثوار ([1]) .


    وكم نصح الخليفة وكم انتقدت بطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه ولكن دونجدوى فقد كان عثمان في أغب الحالات يصم الآذان عن الناصحين له .


    وعلي الرغم من أن عليا لم يكن من المقربين وأصحاب الحظوةعند عثمان فكان غالبا ما يتجاهل آراءه علي الرغم من صحتها وصوابها ، بينما كانيصغي تمام الإصغاء إلي مروان بن الحكم الذي كان يوقع في روعه أن عليا وإخوانه من أكابر الصحابة هم الساعون بينالناس بالكيد له وتأليب الثائرين عليه . ([2])


    ومما يؤكد هذه النظرة أن المؤتمر الذي جمعه الخليفةللتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة ، لم يكن علي مدعوا ولا منظورا إليه بعينالثقة والمودة ... بل كان المدعون إلي المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه ... وهممعاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص ،وهم في جملتهم أولئك الولاة الذين شكاهم علي وجمهرة الصحابة ، وبرمت بهم صدورالمهاجرين والأنصار .


    قال لهم عثمان : (( إن لكل امرئ وزراء ونصحاء ، وانكم وزرائي ونصحائي وأهلثقتي . وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميعما يكرهون إلي ما يحبون ... فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي )) . ([3])


    قال معاوية : (( أري لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك علي الكفاية لماقبلهم ، وأنا ضامن لك ما قبلي )) .


    وقال عبد الله بن عامر : (( رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ،وأن تجمرهم في المغازي حتى يدلوا لك ... فلا تكون همة أحدهم إلا نفسه ....)) ([4]) .


    رأي رجل يريد أن يشغل الناس عن الشكوي ولا يريد أنيزيلها ، ثم هو لا يبالي أن يخلق جهادا فيه الدماء في غير جهاد مطلوب وقال عبدالله بن سعد : (( أري يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع ، فأعطهم من هذا المال تعطف عليكقلوبهم ))


    رأي رجل يشتري الرضا بالرشوة ، ويستبقي ما في يديه منهاوقال عمرو بن العاص ، وهو بين السخط علي ولاية فاتها والطمع في ولاية يرجوها : (( أري أنك قدركبت الناس بما يكرهون ، فاعتزم ان تعدل ... فان أبيت ، فاعتزم أن تعتزل ....فانأبيت ، فاعتزم عزما وامض قدما )) ...


    رأي رجل عينه علي الخليفة وعينه علي الثوار ، ولهذا بقيحتى تفرق المجتمعون ... ثم قال للخليفة حيث لا يسمعه أحد غيره : (( والله يا أميرالمؤمنين لأنت أعز علي من ذلك ... ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا ،فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي ... فأقود إليك خيرا وأدفع عنك شرا ...)) ([5]) .


    فكيف يتصرف علي إذن مع عثمان وتلك العصبة من أقاربه وقدالتفوا حوله يحجبون عنه نصح الناصحين فما عسي أنه يفعله حين أذن ، ومع ذلك فأنه لميقصر وكان يواجه الثوار الآتين من مصر ويصرفهم عن الخليفة ويناقشهم ويدافع عنهمولم ينخلع بخطتهم وبخطابهم المزعوم وأحتار علي بين مطالب الخليفة ومطالب الثواروأحتار أيضا بين التقريب والإبعاد فكان يأمره عثمان تارة بترك المدينة ليكف الناسعن الهتاف بأسمه ويستدعي إلي المدينة تارة أخري ليرجع الناس عن مهاجمة الخليفةوهكذا كان علي بين إقبال وإدبار حتي ضج بذلك ، قال لابن عباس الذي حمل إليه رسالةعثمان بالخروج إي ماله في ينبع : (( يا ابن عباس ... ما يريد عثمان الا أن يجعلنيجملا ناضحا بالغرب – أي الدلو – أقبل وأدبر ... بعث إلي أن أخرج ، ثم بعث إلي أنأقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج .. والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما)) ..


    ثم بلغ السيل الزبى ، كما قال عثمان رضي الله عنه ، فكتبإلي علي يذكر له ذلك ويقول : (( أن أمر الناس ارتفع في شأني فوق قدره ... وزعمواانهم لا يرجعون دون دمي ، وطمع في من لا يدفع عن نفسه


    فان كنت مأكولا فكن خير آكل والا فأدركني ولما أمزق ([6]) .


    ومع هذا فإن الإمام علي لم يقصر جهدا في إنقاذ الخليفةالمتردية أحواله وكم وعد ذلك الإمام بتغير الأحوال وتغير البطانة التي حوله وقدصدقت امرأته السيدة نائلة بنت الفرافصة حيث أشارت عليه باسترضاء علي والإعراض عنهذه البطانة ولكن مروان كان يعارض ذلك ويقول له : (( والله لاقامة علي خطيئةتستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها )) ...


    وكان هو يأذن له أن يخرج ليكلم الناس ، فلا يكلمهم الابالزجر والإصرار ... كما قال لهم يوما : (( ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب .شاهت الوجوه جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا... ارجعوا إلي منازلكم ، فأنا والله ما نحن مغلوبين علي ما في أيدينا .





    أنئذ بطلت الرؤية ، ولم يبق الا لحظة طيش لا يدري كيفتبدأ ولا يؤتي لأحد أذا هي بدأت أن يقف دون منتاها . ([7])


    لقد اشتدت وطأة الثوار علي باب الخليفة عثمان فمنعهمأبناء الصحابة منهم الحسن بن علي ، وبن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وسعيد بن العاص ،وآخرون ولكن أمير المؤمنين عثمان رفض أن يدافعوا عنه وقال لهم أنتم في حل من نصرتيواضطربت الأمور وأقتحم الثوار دار عثمان من سطوح الدور المجاورة لها وقتل الرجل وعندما علم علي بن أبي طالب بخبرقتله أسرع إلي دار الخليفة المقتول فلطم الحسن وضرب الحسين ، وشتم محمد بن طلحة ،وعبد الله بن الزبير ، ثم وجه السؤال إلي ولده قائلا : كيف قتل أمير المؤمنينوأنتما علي الباب فأجاب طلحة : لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن لو دفعمروان إلي الثائرين ما قتل .


    وخلاصة ما يمكن قوله عن موقف الإمام علي من محنة أميرالمؤمنين عثمان هو ما رواه ابن الاثير إذ يحدثنا أن عليا كان شريكا لعثمان فيمحنته ، وأنه وقف معه ضد وفد مصر . وما زال علي بالمصريين حتى رجعوا عن عزمهم فيعزل عثمان أو قتله . ولكن بني أمية حاولوا إثارة الخواطر ، وتشجيع عثمان عليموافقة من كل التصرفات ، التي ثارت من أجلها جماهير المسلمين في الأمصار . فرجع عنسماع نصيحة علي ، وعاد إليهم .


    وكلما ذهب علي إلي الثوار برأي وعاد ، يجد الخليفة قدرجع عن هذا الرأي . حتى ضاقت نفس علي رضي الله عنه ، فقام في الناس وقال : أي عبادالله . يا للمسلمين ! إني إن قعدت في بيتيقال لي عثمان : تركتني وقرابتي وحقي . وإني تكلمت فجاء ما يريد ، يلعب به مروان :يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن ، وصحبة رسول الله e ! . ([8])


    قتل الخليفة عثمان وأصبح مركز الخلافة شاغرا واضطربتالأمور ومن العجائب أن يتولي الغافقي بن حرب إمارة المدينة ويصلي بالناس خمسة أيام، ومن مظاهر الاضطراب والهرج ما نراه عندما أخذ يتلمس الناس إقامة خليفة آخرفالمصريون يلحون علي الإمام علي ليبايعوه وهو يهرب إلي البساتين والحقول ، ويطلبأهل الكوفة الزبير ليبايعوه خليفة فلا يجدونه ، وأهل البصرة يطلبون طلحة ليبايعوهفلا يجيبهم فقالوا فيما بينهم لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة ومضوا إلي سعد بن أبيوقاص ليبايعوه فلم يقبل منهم ثم ذهبوا إلي ابن عمر فأبي عليهم وقد أحتاروا بالأمروأدركوا إذا رجعوا إلي بلادهم بقتل عثمان من غير تنصيب خليفة فسوف يختلف الناس فيأمرهم ولن يسلموا هم من القتل فرجعوا إلي علي بن أبي طالب فألحوا عليه وأخذ الأشتر بيده فبايعه ثم بايعهالناس . ([9])


    وإن كان هناك نزاع بين علي ومعاوية فهو بلا شك نزاع خاضفيه الكثيرون منذ منشئة وقد ساعد علي إشعاله عوامل كثيرة تحدثت عنها الرواياتفمنها من يسند الروايات إلي نزاع قبلي عرقي بين بيتين من أعرق بيوت العرب بين بنيهاشم وبني أمية ، ومنهم من يرجعه إلي عواملالتدين والاقتداء بالرسول e وبصاحبيه أبي بكر وعمر فقد كان الإمام علي شديد الاقتداءبالخليفتين من قبل بينما كان معاوية قد ركن إلي شيء من التجديد يلاءم الزمانوالمكان . وهكذا تعددت الآراء وكثرتالروايات المتضاربة حول ذلك النزاع والذي فهمه بعض المؤرخين السابقين فهما خاطئا .إذ لم يقفوا ويحيطوا بجوانب هذا النزاع الباطنة قبل الظاهرة ونري ظلال هذا الفهمقد أنعكس علي كثيرا من كتابنا ومؤرخينا المعاصرين .


    فلم يكن الخلاف بين علي ومعاوية مسألة واحدة أو شيء واحدمحدود يمكن أن يحسم فيه النزاع لانتصار طرف علي طرف ولكن هذا الصراع كان يمثلخلافا بين نظامين متقابلين ، وعالمين متنافسين ، صراعا بين الخلافة ومرجعيتها الدينية وقد تمثلت ذلك في الإمام علي بن أبيطالب ، والدولة ( الدنيوية ) بمفهوم جديد يجمع بين الدين والحياة كما تمثلت فيمعاوية بن أبي سفيان فالحسم هنا لم يرجع إلي قوة الجيوش أو كثرتها أو قلتها ولكنيرجع لتغليب المبادئ التي يقوم عليها كل نظام فأيهما يتغلب يكون له الحسم ، أيتغلبمبادئ الخلافة وبأنظمتها الدينية الموروثة عن أبي بكر وعمر ، أم يتغلب مبادئ الملكأو مبادئ الخلافة بأنظمة جديدة ؟ وأقول أن الأمر هنا ليس في يد علي أو معاوية وإنما يرجع الأمر إلي تلكالثورة الاجتماعية التي بدأت تطل علي الخلافة الإسلامية لأغصانها وورودها وأريجها.


    إن تلك النزعة الاجتماعية لم تكن وليدة ذلك الوقت بلكانت تبدوا حينا وتختفي حينا في عهد عثمان ، حيث كانت مظاهر الخلافة بتبعاتهاالدينية ملتبسة بمظاهر الملك ومتشابكة إي تشابك ، فقد عاش المسلمون في عهد عثمانبعضهم ينعم بنعيم الملك ، والبعض الآخر يعيش في ظلال الخلافة الدينية وأخذت تلكالظاهرة الاجتماعية تنمو وتتضح حتى أتت أكلها في ذلك الصراع الذي دار بين عليومعاوية وسوف يظل هذا الصراع قائماومستظلا حتي تكتب الغلبة بمبدأ من المبدأين أو لنظام من النظامين وليس لعلي أومعاوية علي وجه الخصوص فالأنظمة الاجتماعية تبدأ من أسفل الهرم علي الصعيد الشعبيوليس غلبة النظام الاجتماعي يأتي في يوم او ليلة ولكنه نظام يسري في نفوس أتباعهإلي أن يتكاثرون به ويشتد عوده حين أذن يكون الغلبة لمن أشتد عوده وأبعد عنك ثائرالأسباب التي تأولها الناس للصراع فاغلبها لم يكن لها تأثيرا يذكر وخذ مثال عليذلك قميص عثمان الذي أتخذ منه معاوية حجة يعلل بها ثورته حيث أتهم علي بتقصيره فيالقود من الثائرين قتلة عثمان فكيف يتم ذلك وهم ألوف يحملون السلاح ، وأن الإمامعلي لم يسكن بعد أو يستقر سلطانا حتى يتمكن من القود من هؤلاء الألوف المسلحين .فلو وجهنا السؤال إلي الوجهة الأخرى إلي معاوية رضي الله عنه وقلنا ماذا صنعمعاوية بقتلة عثمان حين صار الملك إليه ؟ ووجب عليه أن ينفذ العقاب الذي من أجله ثار ؟ إنه لم يفعل شيء بل فعل كمافعل علي ورفض الثأر من هؤلاء القتلة بل ذكروه به وألحوا عليه ومع ذلك غاضي عنهحرصا علي استقرار ملكه واستمع إليه وهو يحاور عائشة أبنت عثمان وهي تبكي وذلك يومذار المدينة ودخل بيت عثمان فقالت : ( وا أبتاه ) فلم تزده هذه الصيحة المثيرة إلاإصرارا علي الإغضاء والإعفاء . وقال لها يعزيها : ( يا ابنة أخي .... إن الناسأعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا ، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب ، واظهروا لنا طاعةتحتها حقد ، ومع كل إنسان سيفه وهو يري مكان أنصاره .... فان نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرا من أن تكونيامرأة من عرض المسلمين ....) . ([10])


    ومن ناحية أخرى يقول أن الثورة كلها من أجل عثمان لم تكنخالصة لأنها لو كانت خالصة لما انتهت بهذا التسليم المشكوك فيه فأين هو من محاولةالاقتصاص من عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان وقد كان عثمان رحمه الله جادا في هذاالصدد وكم بذلت من أجلهم محاولات الشورى والتشاور حتى أنتهي الأمر إلي حل مقبول .


    أما الثورة من أجل دم عثمان فلم تأخذ الصدق أو المصداقيةالكافية فقد ثار من أجله طلحة الذي أخذ يطالب بدم عثمان وهم لم يدفعوا عنه الثواروقد كانوا قادرين علي ذلك فهل كان عثمان راضيا عن طلحة كل الرضا . فكان كثيرا مايقول رضي الله عنه ( ويلي من طلحة : أعطيته كذا وكذا ذهبا وهو يروم دمي : اللهم لاتمتعه به ولقه عواقب بغيه ) . ([11])


    بل كما يذكر العقاد أن طلحة قد تحدث البعض بأنه رآه يوممقتل عثمان يرمي الدار ويقود بعض الثائرين إلي الدور المجاورة ليهبطوا منها إليدار عثمان ، إن هذا الحديث قد يحتاج إلي سند يقويه ولكنه يدل في النهاية علي نوعيةصداقة طلحة للخليفة عثمان المقتول . ([12])


    أما عمرو بن العاص الذي كان من المطالبين بدم عثمانوالثائرين من أجله فقد كان لا يكن حبا لعثمان بن عفان وقد كان أول الناصحين له بالاعتزال وحاول أنيسترضي الناس علي حساب عثمان فكان يصيح به من صفوف المسجد : ( أتق الله يا عثمانفإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك : فتب إلي الله نتب ) . فكل هذه العلل أو الأسبابالتي تبدوا إلي بعض الرواة أنها أسباب للثورة على الإمام علي فإنها أسباب واهيةبلا شك لا تصل إلي الأسباب الأساسية التي ذكرناها أنفا وهي الأسباب التي أدت إليخلاف المسلمين بين مبادئ الخلافة الدينيةومبادئ الملك ( الدولة الدنيوية ) .


    وقد أتبع الإمام علي رحمه الله منذ أن ولي الخلافة سياسةتتناسب والخلافة الدينية التي كان يحرص عليها وقد كان صاحباه : أبو بكر وعمرالقدوة التي أتبعاها وقد ساس الناس في خلافته بالصدق في الرأي والتقوى الدائمةوالخوف من الله مع الشجاعة الفائقة التي مبعثها اليقين من الله وعدم النفاق أوالتمسح ومنذ اليوم الأول يعزل الولاة الذين استباحوا الغنائم واغلوا بأيديهم فيماحرمه الله وركنوا إلي الدنيا وطمعوا في بيت مال المسلمين وكان من نتائج ذلك أن ردالقطائع التي وزعتها بطانة عثمان بين المقربين وذوي الرحم وانفق الأموال في إصلاحأحوال العباد والعمل علي الإنصاف والعدل والمساواة بين أبناء رعيته وترسم خطة أبيبكر وعمر في تجنيب الصحابة الطامحين إلي الإمارة فتنة الدنيا والخوف علي غوايتهممنها علي عكس ما كان يفعله عثمان إذ سمح لكبار الصحابة بالهجرة إلي الأمصار بينمارفض علي ذلك وقد قال لطلحة والزبير عندما طالبا بولاية العراق واليمن فقال لهما : ( بل تبقيان معي لآنس بكما ) وسأل ابن عباس : (ما تري ؟) فأشار بتولية الزبير البصرة وتولية طلحة الكوفة . قال علي : ( ويحك ...إن العراقين بهما الرجال والأموال ... ومتي تملكا رقاب الناس يستميلان السفيهبالطمع ، ويضربان الضعيف بالبلاء ، ويقويان علي القوى بالسلطان ولو كنت مستعملاأحدا لضره أو نفعه لاستعملت معاوية علي الشام ، ولولا ما ظهر من حرصهما عليالولاية لكان لي فيهما رأي ) . ([13])


    بعد أن تمت البيعة لعلي بن أبي طالب جاءه في بيته طلحةوالزبير ومعهما جمع من الصحابة وقالوا له يا علي إننا قد اشترطنا إقامة الحدود وأنهؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم . ففهم ما يرمون إليه وهوإقامة الحد علي قتلة عثمان وهو مطلب صعب في ذلك الوقت فما زال المتمردون يزاحمونويهيمنون علي كل شيء في المدينة وقد يؤديهذا الطلب آنذاك إلي مزيد من الفتنة والارتباك وأن أمر الخلافة لم يستتب بعد ، فكان يري أن يؤجل هذا الأمر إلي حين أن يستبأمور الدولة . وتأمل معي رد علي فقال لهم: ( يا أخوتاه ، إني لست أجهل ما تعلمون ، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ([14]) ، ولا نملكهم ! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم ،وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعا لقدرة علي شيء مما تريدون ؟ قالوا: لا ، قال : فلا والله لا أري إلا رأيا ترونه إن شاء الله ؛ إن هذا الأمر أمرجاهلية ) وهكذا كان رد الإمام علي يتميز بالحصافة والذكاء والخبرة في كيفيةالتعامل مع الواقع فقد كان رضي الله عنه يفهم أبعاد الموقف تماما ويعرف ما يجب أنيقدم وما يجب أن يؤخر في مثل هذه الظروف والأحوال فهو لا ينكر إقامة الحد لأنإقامة الحدود واجبة ولكن الغير مستساغ هو زمن إقامة الحد في أعقاب البيعة مباشرةفأن قتلة عثمان مازالوا يسيطرون علي الوضع وعرفنا سابقا كيف كانت لهم قوة بطش فيدفع علي لقبول البيعة وكيف كان سطوتهم مع طلحة والزبير إن صحت تلك الرواية الضعيفةالتي رويت في طريقة أداء البيعة للإمام علي رضي الله عنه ، وقد رأي أمير المؤمنينعلي أن يتعامل مع هؤلاء المتمردين تعاملا خاصا وأن يلين لهم الجانب ويحسن الحديثإليهم حتى لا يرتابوا في أمره ويثيروا عليه رعاع الناس ولكن للأسف الشديد أن هؤلاءالناس الذين طالبوا بإقامة الحد علي قتلة الخليفة قد انساقوا وراء عواطفهم ولمينصاعوا لرأي الإمام علي وظنوا به الظنون بل اتهموه بأنه ضالع مع هؤلاء القتلة فيسفك دماء عثمان رضي الله عنه .


    والحقيقة إن الإصرار علي الأخذ بالثأر وإقامة الحد عليقتلة عثمان منذ اليوم الأول لتولية أمير المؤمنين علي إنما هو مطلب صعب وحجر عثرةفي طريق إحكام قبضة الخليفة الجديد علي الدولة فإن مطالب هؤلاء القوم وإلحاحهمالشديد في أول يوم لخلافة علي ليس من الحكمة في شيء وهي علي كل حال وإن حال فيهاالعقل وأحتال ليست إلا مطالب خبيثة والإصرار عليها في ذلك الوقت أشد خبثا ودهاءفقد أثار هذا المطلب غضب الكثيرين من الناس الذين أحزنهم أن يراق دم عثمان دون أنيقدم له إي عون حقيقي وهذا أمر لو تم سيستغله أعداء الإسلام من الخوارج والسبئيةلتحريك الثورة في نفوس الناس ويثورون علي الخليفة الجديد كما ثاروا من قبل عليعثمان وتظل الفتنة مشتعلة ويظل الاضطراب والفوضي تسودان البلاد فلا يستقيم للمسلمين دولة ولا يقوم لهم قائمةبعد ذلك . وقد كان علي رحمه الله ذكيا ملهما ذا بصيرة نافذة حيث أدرك الأمر وأدركتبعاته فقرر أن يؤجله إلي حين أن تستقر أمور الخلافة ومما يؤيد قولنا أن المسلمينفي المدينة قد انقسموا علي أمرهم فبعضهميري أن عليا علي حق فيعضد رأيه والبعض الآخر نفض يده من عليّ وطالبوا بالثأروالقتل من قتلة عثمان ورأوا ألا يؤخروا هذا الأمر مهما كانت الظروف .


    وقد ثارت الأعراب وحاول أمير المؤمنين أن يردهم إليأماكنهم التي خرجوا منها فقال أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههمفأبت السبئية وأطاعهم الأعراب فدخل علي بيته ودخل عليه طلحة والزبير وعدة من أصحابالنبي r فقال دونكمثأركم فاقتلوه فقالوا عشوا عن ذلك فقال هم والله بعد اليوم أعشى وقال :


    ولو أن قومي طاوعتني سراتهم أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا ([15])


    وهنا أظهر هؤلاء المطالبون بالثأر عجزا عن القيامبأنفسهم بأخذ هذا الثأر إذ لمسوا قوة الثائرين وعنف حركة الأعراب من حولهم . ولكنطلحة والزبير قد عرض علي الإمام علي استعمال القوة مع هؤلاء الثائرين وذلك بأنيولي طلحة أمر البصرة وأن يولي الزبير أمر الكوفة وسوف يعودان بجنود لا حصر لهاليقوي بها الإمام عليّ علي هؤلاء المتمردين ويكسر شوكتهم . ([16])


    ولكن الإمام علي رأي أن في هذا شطط وتسرع وأنه له تحفظبألا يولي طلحة والزبير عملا لهم فرفض اقتراحهما وتبين للمطالبين بتسليم قتلةعثمان أن هذا الأمر في ذلك الوقت علي وجه الخصوص غير مستطاع ومع ذلك فهم لا يكفونعن المطالبة بدم عثمان .


    وعلي ما يبدوا ان بني أمية كانوا أشد الناس حرصا عليالأخذ بالثأر من قتلة عثمان ويحكي رسول الإمام علي عن معاوية كيف رفض معاوية تركالولاية ولجأ إلي إثارة أهل الشام للثورة والمطالبة بقتل قتلة عثمان وقد جاء رسولمعاوية ودخل علي عليّ وعندما سأله ما وراءك فقال : أني تركت قوما لا يرضون إلابالقود ، قال : ممن ؟ قال : من خيط نفسك وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمانوهو منصوب لهم ، قد ألبسوه منبر دمشق . فقال : مني يطلبون دم عثمان ! ألست موتوراكسرة عثمان ! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ؛ نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاءالله ، فإنه إذا أراد أمرا أصابه . وهذا القميص الذي رفعه معاوية هو ما عرف فيالتاريخ بقميص عثمان ([17]) .


    ونظرا لأهمية هذه القضية وخطورتها في تاريخ أمتناالإسلامية إذ تمس جوانب عديدة في فكر الأمة وفي ثقافتها يفضل أن نوضح مواقف صحابةالنبي r من هذهالقضية حتى يتبين لنا موقف علي بن أبي طالب منها وهل كان علي حق أم كان علي خطأويدرك المسلم كيف كان الصحابة يواجهون الخطوب وكيف كانوا يقرعون النوازل .












    1- العقاد عبقرية الإمام علي صـ59 .

    1- عبقرية الإمامعلي صـ60 .

    2- الطبري ج3 صـ333 .

    3- الطبري المصدر السابق .

    1- الطبري ج3صـ333 .

    2- عبقرية الإمام علي صـ62 .

    1- عبقرية الإمام علي للعقاد صـ63 .

    2- الكامل ج3 صـ84 ط منير وراجع التاريخالسياسي للدولة العربية للدكتور عبد المنعم ماجد .

    1- عبقرية الإمام علي صـ64 .

    1- عبقرية الإمامعلي للعقاد صـ68 .

    2- المصدر السابق صـ67 .

    3- نفس المصدر صـ68 .

    1- عبقرية الإمام علي للعقاد ص70 .

    2- كذا في ابن الأثير ،وفي الطبري :" يملكونها" .

    1- ابن الاثير ج3 صـ192 .

    1- الطبري ج4 صـ438 .

    2- أنظر الطبري ج4 صـ 444وابن الأثير ج3 صـ203 ،204 .

  32. #32
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالتاسعة )


    اختلاف وجهات نظر الصحابة حول الأخذ بالقصاص




    مما لا شك فيه أن منشأ الخلاف بين أمير المؤمنين عليّوبين الثلاثة المطالبين بالقصاص من جهة أخري ليس منشؤه أنهم يرفضون خلافة أميرالمؤمنين علي أو يطعنون فيها وإنما هم معترفون بأحقيته بالخلافة وأنه أفضل منيتولاها آنذاك وكان هذا بلا ريب محل إجماع من الجميع .


    وقال ابن تيمية : ومعاوية لم يدع الخلافة لنفسه ، ولم يبايع له بها حين قاتل الإمام عليّ ، ولميقاتل علي أنه خليفة ، أو أن يستحق الخلافة ، ويقرون له بذلك ، وقد كان معاوية يقربذلك لمن سأله عنه ، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدأ عليا وأصحابه بالقتال ،وما فعلوا ذلك .. وقال أيضا ... وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليسمعاوية كفؤا لعلي في تولي الخلافة ، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ، فإنفضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة كفضلإخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . ويمكننا تفنيد موقف الصحابة منالمطالبة بدم عثمان علي النحو التالي : ([1]).

    * * * *


    (1)


    موقف المطالبين بدم عثمان قبل كل شيء:



    - معاوية بنأبي سفيان رضي الله عنه :-


    - طلحة والزبيررضي الله عنهما :-


    - أم المؤمنينعائشة رضي الله عنها :-


    من الرواياتالكاذبة في التاريخ والتي سار وراءها المستشرقون وصارت تدرس في مناهج التعليم حتىاستقرت في العقلية المسلمة آنذاك هو ما أشيع أن الخلاف بين عليّ ومعاوية رضيالله عنهما كان سببه تتطلع معاوية إليالخلافة وطمعه فيها ولكن الحقيقة غير ذلك تماما فقد لعبت الميول السياسيةوالخصومات في هذا الشأن لعبا كثيرا أدي إلي تشويه الحقيقة ولكن الحقيقة أن الخلافالذي نشب بينهما كان له سبب آخر وهو المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان بن عفان رضيالله عنه حيث اختلفت الآراء في هذا الأمر فقد أرجأ معاوية البيعة لعليّ بعد توقيعالقصاص علي قتلة عثمان وأن هذا الأمر كما يري معاوية ليس من أمر الخلافة في شيءحيث قال أهل الشام أن يقتص علي من قتلة عثمان ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة له . ([2])


    وإذا نظرت إليموقف كلا من أهل العراق وأهل الشام وما ينادون به لوجدت التباين واضحا فأهل العراقيدعون لعليّ بالبيعة وتأليف الكلمة علي الإمام ، بينما أهل الشام يدعون إلي القصاصمن قتلة عثمان ويقولون لا نبايع من يأوي القتلة ([3]). ومن هنا فإن أهل السنة والجماعة قد أنعقد رأيهم علي أن الحروب التي نشأتبين معاوية وعليّ رضي الله عنهما لم يكن سببها هو منازعة معاوية رضي الله عنهللإمام عليّ في الخلافة وذلك للإجماع علي أحقية الخلافة لعليّ بن أبي طالب .


    وينبغي عليناأن ندرك طيب نوايا الصحابة وصدقهم وعفتهم فلو افترضنا أن عليا أقتص من قتلة عثمانفهل كان معاوية سيغدر به ويرفض البيعة إن هذا أمر ينبغي أن ينظر إليه بعناية شديدةوخاصة أنه يتعلق برجل له مكانته وفضله من صحابة النبي r وأنه كان من كتاب الوحي المعدودين وقد رضي عنه رسول الله r وعلي تمام خلقه فدعا له بقوله : ( اللهم أجعله هاديا مهديا وأهدبه ) ([4]) .


    أما فيما يختصطلحة والزبير وخروجهما بأم المؤمنين عائشة وقد سبق الحديث عنهما فإنهما لم يحرضاعائشة , كما أن السيدة عائشة لم تسطوا عليهما بفكرها ومكانتها الروحية والأدبيةولكن الثلاثة خرجوا للإصلاح بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذعلي يد قتلة عثمان الذين اندسوا وساحوا في البلاد يعيثون فيها فسادا .


    كما أن الثلاثةلم يخرجوا للتشفي من عليّ أو الخروج عن بيعته . وإلي هذا ذهب الحافظ بن حجر في فتحالباري (18 : 41/42) حيث نقل عن كتاب أخبار البصرة لعمر بن شيبه قول المهلب ( أن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعواعليا في الخلافة ولا دعوا إلي أحد منهم يولوه تلك الخلافة . ([5])


    ويقول الإمامبن العربي أنهم خرجوا ليس بقصد خلع عليّ حيث لا يكون الخلع إلا بعد الإثباتوالبيان وإذا قيل أنهم خرجوا في أمر قتلة عثمان فهذا أمر ضعيف لأن الأصل قبلهتأليف الكلمة .


    ويمكننا أننجمع بين الأمرين وهو الذي كاد يقع بالفعل لولا أن أنصار بن سبأ والمتمردين أحبطوه، كما أن تغيب الثلاثة عن المدينة كان قطعا للشغب بين الناس فقد كان رجاؤهم أنيرجع الناس إلي أمهم ( عائشة ) ويرعوا حرمة نبيهم وقد احتجوا عليها بقول اللهتعالي : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) ([6]) ، وبذلك خرجت أم المؤمنين ترجوا المثوبة واغتنمت الفرصة لتأمر بالمعروفوتلم شعث الأمة . ([7])


    وقد يقولالقائل ولماذا إذن اندلعت حرب الجمل وهم قد خرجوا يدعون بالأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر ؟ والحقيقة التي لا مراء فيهاأنهم قد تراضوا علي أن يجتمعوا ليصطلحوا وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال وحينماقدم عليّ رضي الله عنه البصرة وتدانوا ليتفاهموا فيما بينهم أنهم ليسوا دعاة حربوإنما جاءوا للإصلاح إلا أن قتلة عثمان باتوا تتقطع قلوبهم من الغيظ وقد اجتمعوايتشاورون ليلتهم حتى اجتمعوا علي إنشاب الحرب في السر وأخذوا يتهامسون به فيمابينهم وهم يخشون أن يلتفت إليهم أحد ثم غدوا عند الفجر وما يشعر بهم أحد وانسلواانسلالا حفيفا وقد وصف ذلك بن جرير حيث أنشبوا الحرب بين عليّ وأخويه الزبير وطلحةفظن أصحاب الجمل أن عليا غدر بهم وظن عليّ أن إخوانه غدروا به وكلا منهم أتقي اللهمن أن يفعل ذلك في الجاهلية فكيف بعد أن بلغوا أعلي المنازل من أخلاق القرآن ([8]) .


    ولما ظهر عليّرضي الله عنه جاء إلي أم المؤمنين رضي الله عنها فقال لها : (( غفر الله لك )) قالت : (( ولك . ما أردت إلا الإصلاح )).


    ثم أنزلها دارعبد الله بن خلف وهي أعظم دار في البصرة علي سنية بنت الحارث أم طلحة الطلحات ،ووصلها ورحبت به وبايعته وجلس عندها .


    فقال : رجل :يا أمير المؤمنين أن بالباب رجلين ينالان من عائشة ، فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلدكل منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل ([9]) ،ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاعوأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا .


    ولما كان اليومالذي ارتحلت فيه جاء علي رضي عنه فوقف علي الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعتالناس ودنت لهم وقالت : (( يا بني لايغتب بعضكم بعضا . إنه والله ما كان بيني وبين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فيالقديم إلا ما يكون بين المرأة واحمائها . وإنه لمن الاخيار )) فقال علي رضي الله عنه :


    (( صدقت ، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وأنها زوجةنبيكم صلي الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة . وسار معها مودعا أميالا سرحبيته معها بقية ذلك اليوم . ([10])


    فهل يعقل أننجاري الوضاعين الذين أدعوا أن خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل كان انتقاما منعليّ رضي الله عنه لأنه حض الرسول r علي طلاقها في حادثة (الإفك)لما رأي من حزن النبي r وسمع كلام المنافقين فهل يعقلذلك ؟ . إن أفضل الأقوال ما قاله بن تيمية رحمه الله إذ قال : أن عائشة لم تقاتل ،ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين . وظنت أن في خروجها مصلحةللمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولي ، فكانت كلما ذكرت تبكي حتىتبل خمارها . وهكذا عامة المسلمين ندموا علي ما دخلوا فيه من القتال ، فندم طلحةوالزبير رضي الله عنهم أجمعين ، ولم يكن لهؤلاء قصد في القتال ، ولكن وقع القتالبغير اختيارهم ([11]) .

    * * * *




    (2)


    رأي أمير المؤمنين وأصحابه تأجيلالقصاص :



    لقد تبلور رأيالإمام علي رضي الله عنه وأصبح واضحا إلا أنهم لم يستمعوا له ولم يأخذوا بحجتهفكان يري أن يؤجل القصاص من قتلة عثمان حتى تستقر أمور الخلافة الجديدة فإذا مااستقرت نظر في هذا الأمر وأخذ بالثأر من قاتلي أمير المؤمنين عثمان بن عفان وقدخاطب الزبير وطلحة والسيدة عائشة وقال لهم أن الظروف غير مواتيه للأخذ بالثأر فإنقتلة عثمان مازالوا في المدينة وأنه غير راض عن هؤلاء القتلة السفاكين وقد مالعليّ إلي أختيار قاعدة فقهيه وهي( اختيار أخف الضررين ) حيث رأي أن المصلحة العامةللدولة تقتضي تأخير القصاص وفي ذلك اقتداء بالنبي r أيضا حيث كان إذا تضارب أمران أخذ أخفهما ضررا. ففي حادثة الأفك حينما تكلم مجموعة من الناس فيعرض السيدة عائشة رضي الله عنها وقد روج هذا الخبر وأشاعه عبد الله بن أبي سلولرأس المنافقين في المدينة وقد ترك الرسول إقامة الحد عليه حيث رأي أن ذلك منالمصلحة العامة ودرء المفسدة فقد رأي النبي r أن جلبه أكثر فسادا من تركه وهكذا رأي أمير المؤمنين عليّ أنتأخير القصاص من قتلة عثمان أقل مفسدة من تعجيله وذلك لضخامة عدد المتمردينالمتهمين بقتل عثمان ولهؤلاء المتهمين قبائل تنافح عنهم وقد تقوم الفتنة آنذاكودرء تلك الفتنة يتطلب تأخير القصاص .


    لقد أنكر عليّرضي الله عنه قتل عثمان وتبرأ من دمه وقد كان ذلك ظاهرا في خطبه وقد أدعت الرافضة خلافذلك وقالوا انه كان راضيا عن قتل عثمان ويروي عنه انه قال ( اللهم إني أبرء إليكمن دم عثمان ) ([12]) . بل يروي عن عليّ رضي الله عنهأنه لم يول أحدا منهم في ولاياته أو ضمن عماله ، ونظرة يسيرة إلي عماله كما ذكرهمالطبري تجد صدق ما نقوله . ([13])


    ومما سبق يتضححكمة الإمام علي رضي الله عنه وأنه كان إماما ورعا وأن الخارجين عليه بغاة وأنقتالهم واجب حتى ينقادوا إلي الحق . ومن هنا كان موقفة من أصحاب الجمل الذين لميزعنوا لرأيه وكان الواجب عليه قتالهم ولكنه عاملهم معاملة كريمة وعمل علي أن يرجعأم المؤمنين عائشة إلي بيتها مكرمة ومعززة .


    لقد كان خروجطلحة والزبير إلي مكة ولقائهما أم المؤمنين عائشة وقد كان همهم الأوحد هو التفاوضمعها وقد أحزنهم أن يقتل أمير المؤمنين عثمان في بلد رسول الله r وحاضرة الدولة الإسلامية دون أن يفعلوا شيئاً يضمنون به سلامةعثمان من القتل وقد شعروا إنهم خذلوا ذا النورين عثمان وأنهم رأوا أنه لا تكفير لذنوبهم إلا بخروجهم للمطالبة بدم عثمانوإثارة الرأي العام لهذه القضية التي ربما إذا سكت عنها تناساها الناس ونجا قتلةعثمان ، فلا غرو أن تردد السيدة عائشة قولها أن عثمان قتل مظلوما والله لأطالبنبدمه كما كان يقول طلحة أنه لا يكفر عنه هذا الذنب إلا أن يسفك دمي في طلبه ،والزبير كان يقول أيضا ننهض الناس فيدرك بهذا الدم حتى لا يبطل لأنه لو بطل لوهنسلطان الله إلي الأبد ، وقد شاعت هذه الأقوال ولم يبق أمامهم إلا أن يقتلوهويقتصوا من قتلة عثمان وقد تحركت الناس معهم وخرجوا جميعا للثأر وكان يوما مشهوداوقد بكي الجميع عند خروجهم لطلب الثأر حتى سمي ذلك اليوم يوم النحيب وكان خروجهؤلاء إلي البصرة للمطالبة بدم عثمان ما هو إلا إعلان للناس جميعا لما فعل هؤلاءالمتمردون ودعوة إلي حث الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصبح القصاص منقتلة عثمان في أعين الناس حدا لابد أن يقام ولم يكن الهدف منها هو النيل من بيعة عليّ ولكن الهدف الاسمي هو الإصلاحوإيجاد رأي إسلامي عام موحد في مواجهة هؤلاء الأوباش الظلمة الذين اجترءوا عليهيبة الخلافة وقتلوا خليفة المسلمين وكما كانوا يرون انه لم يعاد للدولة هيبتهاإلا بالأخذ علي أيد هؤلاء القتلة وتصفية المدينة والأمصار من عبثهم .


    وإذا قيل أنهؤلاء المتمردين من الغوغائيين والسبئيين لهم وجود في جيش علي أقول نعم كان لهموجود وتسلط شديد علي التأثير في مجريات الأمور آنذاك ومن هنا كان صعب علي الإمامعلي أن يجردهم ويواجههم خوفا علي أهل المدينة من ناحية وعلي العبث والفوضى الذيسيحدثونه من ناحية أخرى .


    إذن فأصحالأقوال هنا أن نقول أن خروج أم المؤمنين والزبير وطلحة إنما هو للإصلاح العاموإيجاد رأي عام إسلامي شامل وتقول السيدة عائشة مؤكدة هذا الاتجاه فهذا شئننا إليمعروف نأمركم به ونحضكم عليه ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم علي تغيره ([14]) . ويقول ابن تيمية رحمه الله في الرد علي الرافضة في هذه المسألة : فهيرضي الله عنها – لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولي ، والأمر بالاستقرار في البيوت لاينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج والعمرة ، أو خرجت مع زوجها فيسفره ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي r وقد سافر بهن رسول الله r بعد ذلك كما سافر في حجةالوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ،وأعمرها من التنعيم ، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي r بأقل من ثلاثة أشهر ، بعد نزول هذه الآية ، ولهذا كان أزواج النبيr يحججن بعده كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره ،وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان ، أو عبد الرحمن بن عوف ، وإذا كان سفرهن لمصلحةفيكون جائزا أيضا . فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك ([15]) .


    ومن هنا نستطيعالقول مطمأنين أن خروج السيدة عائشة أم المؤمنين خروجا للإصلاح وللأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر عملا بقوله تعالي : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةأو معروف أو إصلاح بين الناس ) ([16]) ، فالأمر بالإصلاح هنا امر لكل المسلمين يستوي في ذلك الذكور والإناثوالأحرار والعبيد وهي حينما خرجت لم تكره علي هذا الخروج من أحد لا من عبد الله بنالزبير ولا طلحة ولا أحد غيرهما كما أنها حينما خرجت لم تستغل مكانتها كأمالمؤمنين وزوج النبي r وتتسلط علي أحد من الصحابةلتدفعه للخروج ولم تأمر أحدا ممن كان معها لخلاف ما زعمه ذلك المستشرق الخبيث ([17]) ، حيث قال أن عائشة كانت امرأة متسلطة حركت الناس ودفعتهمبتسلطها وبما لها من كلمة ونفوذ روحي ووجداني .


    أما موقف أزواجالنبي r في ذلك الخروج فالمعلوم أنهنخرجن إلي مكة بقصد الحج في هذا العام وقد خرجنّ منها بعد أداء الحج ولكنهن عدنإليها حينما علمن بمقتل عثمان . وقد ذكرت بعض الروايات أن أمهات المؤمنين وافقنعائشة في أول الأمر ولكنهن خالفنها علي السير إلي البصرة ورفضن السير لغير المدينة. فالخروج من أجل الثأر والقصاص من قتلة عثمان أمر أجمع عليه أمهات المؤمنين ولاغبار في ذلك ولكنهن اختلفن حين تغيرت الوجهة من المدينة إلي البصرة فنرى عبد اللهبن عمر يمنع أخته أم المؤمنين حفصة من السير إلي البصرة فاعتذرت لعائشة وكذلك أمسلمة فأمتنعت عن الخروج ولكنها أيدت عليّ حيث أرسلت إليه ابنها عمر بن أبي سلمةقائلة ( والله لهو أعز عليّ من نفسي يخرج معك فيشهد مشاهدك ) .


    وبصفة عامة فإنأمهات المؤمنين كن يعلمن أن هذا الخروج للإصلاح بين الناس وهو فضل كفاية إذا أداهالبعض سقط إثمه عن الآخرين وقد قامت أم المؤمنين عائشة في هذه الناحية خير قياموأدت دورها المنوط بها فقد أعطت المسلمين من واسع علمها ومما تعلمته من رسول الله r .


    وقد كانتالسيدة عائشة رحمها الله حريصة علي أن توضح الحق للناس وخاصة أهل الأمصار الذينأستبد بهم السبئيون وقتلة عثمان وأحدثوا ارتباكا شديدا في مفهوم الناس فنري أم المؤمنينوالحالة كذلك تبث برسائلها إلي الأمصار تخبرهم بما صنعوا وبما عزموا عليه وتأملمعي ما كتبته لأهل الشام إذ كتبت تقول : ( إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب اللهعز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع ، والكثير والقليل ، حتي يكون الله عز وجلهو الذي يردنا عن ذلك . فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم ، وخالفنا شرارهمونزاعهم ، فردونا بالسلاح ، وقالوا فيما قالوا نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتهمبالحق وحثتهم عليه ، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة ، حتى إذا لميبق حجة ولا عذر استبسل قتلة عثمان أمير المؤمنين ، فلم يفلت منهم إلا حرقوص بنزهير والله مقيده . وإنا نناشدكم الله سبحانه في أنفسكم إلا ما نهضتم بمثل مانهضنا به ، فنلقي الله عز وجل وتلقونه ، وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا ([18]) .

    * * * *


    (3)


    الصحابة واعتزال الفتنة :



    أصابت الحيرةكثيرا من الصحابة إلي أي معسكر ينتمون أإلي معسكر علي ( أهل العراق ) أم إلي معسكرمعاوية ( أهل الشام) ؟ إذ اشتدت الفتنة وكثرت الشائعات وأدلي السبئيون بدلوهم فأخذالمسلمون يبحثون عن ملجئ يلجئون إليه أو عن مغارة يعتصمون بها فكيف يتصرفون ومع منيقفون وهم يعلمون أن القاتل والمقتول في النار ؟


    وقد تذكر الناسقول النبي r(( أنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيرا من الجالس ،والجالس فيها خيرا من القائم ، والقائم فيها خيرا من الماشي والماشي فيها خيرا منالساعي ، قالوا : يا رسول الله ، ما تأمرنا ؟ قال : من كانت له إبل فليلحق بإبله ،ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه )) قالوا فمن لم يكن له شيء من ذلك ؟ قال : (( يعمد إلي سيفه فيضرب بحده علي حرة ، ثم ليتبع ما استطاع النجاء )) وتذكروا أيضا قوله r : (( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفربدينه من الفتن )) ([19]) .


    وعلي ما يبدواأن أكابر الصحابة وأسنهم لم ينحازوا إلي أيٍ الفريقين ، وقد استدل هؤلاء المعتزلينبالنصوص الكثيرة عن النبي r في درأ القتال وقت الفتنةوقالوا أن هذا قتال فتنة ([20]) .


    وإذا كانالإمام علي قد بويع بالخلافة فإن بعض الصحابة قد اعتزلوه ولم يقفوا بجانبه مع أنهممعترفين بخلافته وذلك لأنهم رأوا أن مشاركتهم في القتال بجانب الإمام عليّ إنما هوقتال الفئة الباغية وحكمه أنه فرض كفاية وليس فرض عين وبذلك تخلف بعض أكابرالصحابة .


    ومن هؤلاءالصحابة المعتزلين : أبو موسي الأشعري – عبد الله بن عمر – محمد بن مسلمة – سعد بنأبي وقاص – أسامة بن زيد – سعيد بن العاص – سلمة بن الأكوع – عمران بن حصين – عبدالله بن سعد بن أبي السرح – عبد الله بن عمرو بن العاص – سعيد بن سنان – أبو هريرة– أبو أيوب الأنصاري . وسوف نذكر بعضآراء هؤلاء الصحابة في تلك الفتنة حتى نقف علي أسباب اعتزالهم وما أنطوي عليهطبيعة هذا الموقف وهل هو يتلاءم مع الدين الإسلامي أم يجافيه ؟


    - فأبو موسيالأشعري كان أول من نهي عن تلك الفتنة حيث دخل عليه الناس وقد جزعوا من قبل لمقتلعثمان , وها هم اليوم يجزعون لتلك الفتنة الماضية بشررها نحو الإمام عليّ ونحوالخلافة كرمز ديني ونحو استقرار الأمة الإسلامية فقال لهم وقد كان أمير الكوفةآنذاك ، وقد تمثل قوله في النهي عن الفتنة والأمر بالجلوس في البيوت . وأخرجالطبري في قصة قدوم ابن عباس والأشتر إلي الكوفة لاستنفار الناس أن أبا موسي قام وكانيومها أميرا علي الكوفة – فدعا الناس إليلزوم البيوت ، ووضع السيوف في أغمادها ، وكان مما قاله يومئذ : ..... فإنها فتنةصما ، النائم فيها خير .... وإن هذه الفتنة باقرة كداء البطن ، تجري بها الشمالوالجنوب والصبا والدبور ، فتسكن أحيانا ، فلا يدري من أين يؤتي ، تذر الحليم كابنأمس ، شيموا سيوفكم ، وقصوا رماحكم ، وأرسلوا سهامكم ، واقطنوا أوتاركم ، والزموابيوتكم ([21])، وكان أبو موسي يستدل لمواقفه بما رواه عن رسول الله r من النهي عن الدخول في الفتنة والأمر بتكسير القسي ، وتقطيعالأوتار ، وضرب السيوف بالحجارة ، والرضا بمنزلة ابن آدم المقتول ، فعن أبي موسيالأشعري ، أن رسول الله r قال : ((إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والماشي فيها خير منالساعي ، فكسروا قوسكم ، وقطعوا أوتاركم ، واضربوا بسيوفكم الحجارة ، فإن دخل –يعني علي أحد منكم – فيكن كخير ابني آدم ([22]).


    - أما أسامة بن زيد فقد أهتدي بهديالرسول rوالذي أدرك من خلال تجربته حين قتل الأنصاري الذي نطق بالشهادة وقد عاتبه فيهاالنبي rحينما قال أسامة إنما قالها تعوذا من القتل وقال له من لك يا أسامة بلا إله إلاالله وقد أخذ عليه النبي r عهدا ألا يقتل رجلا يقول لا إله إلا الله ومن هنا نراه يعتزل تلكالفتنة ويأبي بنفسه أن ينحاز إلي أحد الرجلين .


    ويروي أن أسامة أرسل رجلا إلي عليّ وقالإنه سيسألك الآن ،فيقول ما خلف صاحبك ؟ فقل له : يقول لك : لو كنت في شدق الأسد ،لأحببت أن أكون معك فيه ، ولكن هذا أمر لم أره ([23])،قال ابن حجر : فاعتذر بانه لم يتخلف ضنا منه بنفسه عن علي ، ولا كراهة له ، وإنهلو كان في أشد الأماكن هولا لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه ، ولكنه إنما تخلفلأجل كراهيته في قتال المسلمين ، وفي رواية أخرى عند الذهبي ، عن الزهري قال : لقيعلي أسامة بن زيد ، فقال : ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة ، فلم لا تدخل معنا؟ قال : يا أبا حسن إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد ، لأخذت بمشفر الأخر معك ، حتىنهلك جميعا أو نحيا جميعا ، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه ، فو الله لا أدخل فيهأبدا ([24]).


    - أما رأي طلحة في هذه الفتنة : قالعلقمة بن وقاص الليثي : لما خرج طلحة والزبير وعائشة ، رأيت طلحة وأحب المجالسإليه أخلاها – وهو ضارب بلحيته علي صدره فقلت : يا أبا محمد ، أري أحب المجالسإليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك علي صدرك ، إن كرهت شيئا فأجلس . قال : فقال لي : ياعلقمة ، بينما نحن يد واحدة علي من سوانا ، إذ صرنا جبلين من حديد ، يطلب بعضناالآخر ... إنه كان مني في عثمان شيء . ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه . ([25])


    أما عن رأي الزبير هو الاخر في هذهالفتنة : قال يوما لمولاه : إنها الفتنة التي كنا نتحدث عنها . فقال مولاه :أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟ قال الزبير : ويلك .. إننا نبصر ولا نبصر ... ما كانأمر قط إلا وأنا اعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ... فإني لا أدري أمقبل أنا فيهأم مدبر ؟ ([26]).

    * * * *


    (4)


    خروج علي إلي الكوفة واتخاذها عاصمةله .



    إن خروج أميرالمؤمنين علي إلي الكوفة تاركا المدينة عاصمة الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان كانأمرا مخالفا فيه أكثر الصحابة رضوان الله عليهم وقبل أن نخوض في هذه القضية نتبينأولا رأي أمير المؤمنين عليّ لماذا يريد ترك المدينة عاصمة الرسول ليتخذ من الكوفةعاصمة جديدة لخلافته ؟ إن الإمام عليّ كان يري بعد فتنة عثمان أن المدينة لم تعدتصبح عاصمة قوية للدولة فقد فقدت أغلب المقومات التي تجعل منها حاضرة قوية وخاصةفي ذلك الوقت الذي عاشه أمير المؤمنين فهو يري أن أكثر الصحابة ولاسيما الأكابرمنهم قد هاجروها إلي الأمصار والمدنالجديدة ، وأن المدينة أصبحت مرتعا للثوارولمثيري الفساد والفتن كما أن مجموعة من الصحابة وخاصة من بني أمية قد هجروها إليمكة وهكذا فكر علي بأن يترك المدينة ويتجه نحو الكوفة ويتخذ منها عاصمة لدولته حيثفيها أشياعه وأنصاره ومحبوه كما أن من أسباب خروج الإمام علي إلي الكوفة هو رغبتهالشديدة في مراقبة معاوية وأن يكون قريبا من أهل الشام كما أنه استاء من أهلالمدينة لأنه كلما دعاهم للخروج إلي الشام لنصرته فإنهم يتثاقلون . ويروي الطبريأن عليا رضي الله عنه كان إذا دعاهم أن يخرجوا إلي الشام فإن أهل المدينة قالوالابد من التروي والتأني وإن تلك الفتنة مشتبهة علينا وأحجموا عن المشاركةوالنصرة . ([27])


    فقد حاول عددمن الصحابة أن يثني الإمام علي عن الخروج إلي الكوفة فقد حاول عبد الله بن سلام إذأتاه وهو يستعد للمسير وأبدى خوفه عليه وحذره أن يقدم إلي العراق قائلا : أخشي أنيصيبك زباب السيف ثم أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله r فلن يراه أبدا بعد ذاك وكان الإمام علي يدرك ذلك جيدا كما فهم منالنبي r قبل وفاته .


    ولم يكن عبدالله بن سلام هو الناصح الوحيد بل نصحه أبنه الحسن فعندما خرج الإمام علي منالمدينة وبلغ الربذة ([28]) ، وعسكر فيها جاءه أبنه الحسن وهو يبكي حزينا علي ما أصاب المسلمين من فرقةوتمزق وقال لوالده : قد أمرتك فعصيتني ، فتقتل ، غدا بمضيعة لا ناصر لك ، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية ، وما الذي أمرتني فعصيتك ؟ قال : أمرتك يوم أحيطبعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولسنا بها ، ثم أمرتك يوم قتل ألاتبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر ، ثم أمرتك حين فعلا هذانالرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتىيصطلحوا ، فإن كان الفساد كان علي يدي غيرك ، فعصيتني في ذلك كله . قال : أي بني ،أما قولك : لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان ، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك : لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار ، فإن الأمر أمر أهل المدينة ،وكرهنا أن يضيع هذا الأمر ، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير ، فإن ذلك كان وهناعلي أهل الإسلام ، والله مازلت مقهورا مذوليت ، منقوصا لا أصل إلي شيء مما ينبغي ، وأما قولك : أجلس في بيتك فكيف لي بماقد لزمني ، أو من تريدني ؟ أتريدني أن أكون مثل الضباع التي يحاط بها ، ويقال :دباب دباب ( دعاء الضبع للضبع )، ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها ثم نخرج ، وإذا لمأنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه ، فكف عنك أي بني ([29]) .


    وهناك موقفلأبي موسي الأشعري ينبغي ذكره في هذا المقام وكان أمثاله كثيرون ممن اعتزلواوحاولوا تثبيط الفتنة وقد أرسل الإمام عليّ وهو بالربذة لأهل الكوفة يستنفرهمويدعوهم إلي نصرته وقد أرسل محمد بن أبي بكر الصديق وحنبل بن جعفر ولكنهما لميوفقا في استنفار الناس إن أبا موسي الأشعري وهو والي الكوفة من قبل قد عمل عليتثبيط همم الناس ونهاهم عن الخروج والاشتراك في الفتنة واستعان ببضعة أحاديث مماسمعها عن النبي r . ([30])

    * * * *


    (5)


    مسلك الإمام عليّ مع أعدائهوالمخالفين له في الرأي :





    لقد كان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب يعمل بكل وسعه علي ألا يضطر إلي الحرب والقتال فقدكانوا يختلفون في الرأي ويتبادلون الحجة بالحجة ومع ذلك فإن اختلافات الصحابة فيالرأي لم تؤثر في أهوائهم أو ميولهم فتحرفهم وتشرد بهم إلي طريق الغلو والشططوتأمل معي حوار الإمام عليّ مع وفد الكوفة حينما جاءه وأخذ يسأله عن سبب قدومه وقدتحدث نيابة عنهم الأعور بن بنان المنقري إذ قال له يا أمير المؤمنين ماذا تريد مناوما سبب خروجنا وقدومنا إليك وقال له عليّ الإصلاح وإطفاء النائرة ( العداوة ) لعلالله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حرضهم وقد أجابوني قال : فإن لم يجيبونا قال تركانهم ما تركونا قال :فإن لم يتركونا قال : دفعناهم عن أنفسنا . قال : فهل لهم مثل ما عليهم من هذا ؟قال : نعم ([31]) .


    سأله أبو رفاعةبن رافع بن مالك بن العجلان حيث سأل أمير المؤمنين قائلا يا أمير المؤمنين أي شيءتريد وإلي أين تذهب بنا فقال أما الذي نريد وننوي فالإصلاح ، إن قبلوا مناوأجابونا إليه ، قال : فإن لم يجيبونا إليه : قال ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال : فإن لم يرضوا ؟ قال ندعهم ما تركونا ، قال : فإن لم يتركونا ؟ قال امتنعنامنهم ، قال : فنعم إذن ، فسمع تلك السلسلة من الأسئلة والإجابات فأطمأن إليهاوارتاح لها ، وقال : لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول . ([32])


    إذن لم يكن هدفأمير المؤمنين إلا الإصلاح ما استطاع إلي ذلك سبيلا وإطفاء الفتنة وأن القتال ماهو إلا أخر مرحلة من مراحل العلاج فهو يشبه الكي ولا يحب أن يضطر إليه مطلقا فهويدرك خطورة قتال المسلم لآخوه المسلم فعندما سأل عن أيهما في الجنة وقال إنيلأرجوا ألا يقتل أحد نقي قلبه لله منا ومنهم إلا أدخله الله الجنة ويقول في موضعأخر كما روي الطبري عندما سأله مالك ابن حبيب ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القومقال : قد بان لنا ولهم أن الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر فإن بايعونا نبارك فإن أبووأبينا إلا القتال فصبع لا يلتئم قال فإن إبتلينا فما بال قتلانا ؟ قال : من أراد اللهعز وجل نفعه ذلك وكان نجائه .



    1- مجموع الفتاوي (35/72) .

    1- أنظر البداية والنهاية ج8 صـ129 .

    2- أنظر الإمام بن العربي في العواصم من القواصم صـ162-166 .

    3- أنظر صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 3018(3/236) .

    4- أنظر العواصم من القواصم صـ155 .

    1- { النساء : 114 } .

    2- ( أنظر العواصم من القواصم صـ156) .

    3- ( أنظر هذا الأمر في الطبري ج5 صـ202،203 . ومنهاج السنة لابن تيمية ج2 صـ185 ، ج3 صـ225 ، 241 ) .

    1- الطبري ج 5صـ 223 .

    2- العواصم من القواصم صـ164 .

    3- المصدرالسابق .


    1- البداية والنهاية ج7 صـ202

    2- انظر الطبري ج5 صـ470 .

    1- الطبري ج5 صـ489 .

    1- منهاج السنة ج4 صـ317- 570 .

    2- النساء 144 .

    3- بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية من 111– 117 .

    1- ( تاريخ الطبري ج5 صـ501) .

    1- البخاري ، ك الفتن 7088 .

    2- أنظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/55 .

    3- الطبري عن كتاب علي بن أبي طالب للصلابي ج2 ص28 ، 29 باقرة :مفرقة ، الصبا : الريح الشرقية .

    1- علي محمد الصلابي عليّبن أبي طالب من سلسلة تاريخ الخلفاء الراشدين ج2 صـ28 ،29 ، ابن الأثير ج3 ص228 .

    2- المرجع السابق ونفسالصفحة .

    3- المرجع السابق صـ32 .

    4- الكامل ج3 صـ113 .

    1- الكامل ج3 صـ113 .

    2- الطبري ج4 445 .

    1- مدينة تقع شرق المدينة المنورة وتبعد حوالي200كم .

    2- تاريخ الطبري ج4 ص456 .

    3- المصدر السابق ص456 وما بعدها .

    1- أنظر البداية والنهاية ج7 صـ250 .

    2- أنظر الطبري ج4 ص479 ، 480 .


  33. #33
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالعاشرة )


    عزل ولاة عثمان وتعيين آخرين .

    (1)


    لماذا عزل الإمام علي ولاة عثمان ؟



    تولي الإمامعلي الخلافة ونظر في أمر شغله هو وكثير من الصحابة وهو استتباب الأمر واستقرارأمور الدولة وانتظام أحوالها بعد هذا الهرج والمرج الذي حدث في المدينة والأمصارونظر الإمام علي فرأي أن أغلب عمال عثمان هم الولاة علي الأمصار ورأي أن أغلبهؤلاء الولاة كانت ميولهم أموية فقد كانوا أقارب عثمان بن عفان وأغلبهم من البيتالأموي وقد كان لا يستريح لهم كثير من الناس فصمم الأمام علي أن يعزل هؤلاء الولاةوأن يعين مكانهم ولاة آخرين . ومن هؤلاءالولاة الذين عزلهم الإمام علي : معاوية بن أبي سفيان والي الشام ، وعبد الله بنعامر والي البصرة ، وسعيد بن العاص والي الكوفة ، ويعلي بن منية والي اليمن . وأقرالباقي علي ولاياتهم فكان عماله علي النحو الآتي : علي مكة عبد الله بن الحضرميوعلي الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي و علي صنعاء يعلي بن منية وعثمان بن حنيف علي البصرة و عمارة بن شهاب عليالكوفة وعبيد الله بن عباس علي اليمن وقيس بن سعد علي مصر و سهل بن حنيف علي الشاموقد رفضه أهل الشام فرجع إلي عليّ ، أما في الشام فكان الوالي معاوية ابن أبيسفيان ، وكان ينوب عن معاوية في إدارة أقاليم الشام أمراء هم : عبد الرحمن بن خالدبن الوليد علي حمص ، وحبيب بن مسلمة علي قنسرين ، وأبو الأعور بن سفيان السلمي عليالأردن ، وعلقمة بن حكيم علي فلسطين وكان قائد البحرية عبد الله بن قيس الفزاريوكان قاضي بلاد الشام أبو الدرداء ( عويمر بن عامر ) . روي ابن جرير – رحمه الله –أن عثمان مات وعلي الكوفة أبو موسي الأشعري علي الصلاة والقعقاع بن عمرو علي حربها، وجابر بن عمرو المزني علي خراج السواد .


    وأما عماله –رضي الله عنه – علي بلاد الفرس فهم : جرير بن عبد الله البجلي علي قرقيسياء ،والأشقر بن قيس علي أذربيجان ، وعنيبة بن النهاس علي حلوان ، ومالك بن حبيب عليماه ، والنسير علي همذان وسعيد بن قيس علي الري ، والسائب بن الأقرع علي أصبهان ،وخنيس علي ماسبذان . وكان والي بيت المال عقبة بن عامر وعلي خطة القضاء زيد بنثابت . ([1])


    وقد كان للأمامعلي رضي الله عنه فلسفته في عزل هؤلاء الولاة السابق ذكرهم وقد أصر علي ذلك رغمنصح الناصحين له فقد نصحه المغيرة بن شعبة بأن يبقي علي عمال عثمان حتى يأخذوا لهالبيعة وتستقر أمور البلاد فإذا ما تم الاستقرار عزل من يشاء وأبقي من يشاء ويقالأن بن عباس قد أيد هذا الرأي بل عرض المغيرة علي الإمام علي عرضا وسطا حتى يسدعليه كل أبواب الفتنة فقال له إذا كنت مصمما علي عزل الولاة فأعزل من شأت وأتركمعاوية في وليته علي الشام وليس عليك حرج في ذلك وقد استعمله أبو بكر واقره عمر بنالخطاب علي ولايات الشام كلها فرفض علي وقال لا والله لا استعمل معاوية يومين أبدا([2]).


    والحقيقة أنللسياسة الناجحة مسالكها لا يعرفها إلا أصحاب الخبرة الذين أثقلهم الحكم وأعبائهفقد كان رأي المغيرة وجيها لأن بيت المسلمين ودولتهم في حاجة إلي إعادة الترتيب منالداخل فمعاوية ينصب نفسه وليا للمطالبة بثأر عثمان ويلح في ذلك إلحاحا شديداويزداد أتباعه كل يوم حتى تضخم معسكره في الشام وأصبحت في يده قوة لا بأس بهاويتمتع بمكانة سامية في نفوس أهل الشام وعليّ رحمه الله رجل تقوى وورع وشجاعة ولكن تنقصه السياسة وإدارة دفة الحكمكما يقولون وهذا أمر سنفنده فيما بعد ، وأنظر إلي بن عباس وهو يخاطبه حينما صممعلي عزل معاوية وقال علي والله لا أعطيه إلا السيف فقال ابن عباس يا أمير المؤمنينأنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب ([3])فالمغيرة وابن عباس رضي الله عنهما كان يريدان من عليألا يتم عزل هؤلاء الولاة حتي تسكن الفتنة ويتيقن الأمر ويجتمع المسلمين علي خليفةواحد دون إراقة دماء أو اختلاف في الرأي ولكن علي ما يبدوا أن الإمام علي رحمهالله كان يكره صاحب الرأيين ويكره المداهنة والخداع فثبت علي موقفه وصمم علي عزلالولاة وكان من أسباب هذا التصميم :-


    1) قد كان علييري أنه أمير المؤمنين ، وأن طاعته واجبة علي جيمع المسلمين ، وأن له القوة التييستطيع بها إرغام كل مخالف علي الدخول في الطاعة ، والتزام الجماعة ، فلماذا يداهنويلجأ إلي أسلوب الخداع ؟


    2) أن معاويةوبقية العمال الذين عزم عليّ علي أن يعزلهم ، كانوا من أهم أسباب خروج الثائرينكما يقولون ، فبقاؤهم في أعمالهم يؤدي إلي التربص به والخوف منه وعدم الثقة به ،وحينئذ تستمر الأوضاع الأمنية في المدن قلة مضطربة كما هي فلا يستطيع أميرالمؤمنين أن يسكن الفتنة ، ولا يستقيم له أمر الناس بل إنه لا يأمن أن ينقض عليهالمتمردون حين يجدون منه سكوتا علي من خرجوا لعزلهم كما يزعمون .


    3) أن أميرالمؤمنين أصبح في نظر عمال عثمان شريكا في دمه – وإن كان غير ذلك – فهم جميعايكنون ذلك له ، ويضمرونه في أنفسهم فهو لا يأمن أن يكيدوا له مهما ثبتهم ، ويعتقدأن بقاءهم في مناصبهم عون لهم علي تنفيذ خططهم ومآربهم ، وقد يلجئون إلي الخداعوالمداهنة ، ويتظاهرون بالقبول والرضي ثم يفسدون عليه أمره بعد أن يثبتوا فيأماكنهم ، وتستقر الأوضاع لهم ، فلا لوم علي أمير المؤمنين إذا استبعد هؤلاء ، بلفي اعتقاده أن استبعادهم وتولية رجال مخلصين له هو الأمر الذي لا مفر منه .


    ويروي بنالأثير أنه لم تمض علي بيعة الإمام علي سوي خمسة أيام حتي أخذ يسير عماله إليالأقاليم والأمصار كلا وفق تعيينه وينبغي لنا أن نقف وقفة تأمل ونقد مع هؤلاءالعمال الجدد لنري كيف استقبلتهم الأمصار ونخرج من خلال ذلك برأي له أهميته .


    - وجه الإمامعلي عبد الله بن عباس إلي الشام ليحل محل معاوية ولكن عبد الله آثر السلامة واعتذروأبدى رأيا وجيها وهو أن معاوية قد يقتله بابن عمه الخليفة المقتول وإذا لم يفعلوقد يحبسه عنده في الشام ويلقي عليه كل التبعات التي تلقي علي الإمام علي فتركهالإمام وأمر سهل بن حنيف أن يتوجه إلي الشام ووجه عثمان بن حنيف إلي البصرة وعمارةبن شهاب إلي الكوفة وعبيد الله بن عباس إلي اليمن وقيس بن سعد بن عبادة إلي مصركما وضحنا سابقا فماذا كان موقف الأمصار من هؤلاء الولاة وكيف استقبلوهم ؟


    أ) توجه سهل بنحنيف والي الشام الجديد وقصد الشام وعند تبوك تصدي له فرسان يمتطون خيولهم وسألوهمن أنت وإلي أين تتوجه ؟ فقال أنا سهل ، أمير قالوا علي أي ؟ قال : علي الشامفقالوا له إن كان عثمان قد بعثك فأهلا بك وإن كان غيره فأرجع فرجع سهل إلي عليّدون أن يدخل الشام .


    ب) أما قيس بنسعد بن عبادة الذي ولاه الإمام عليّ علي مصر فما كاد يصل إلي أبله حتى تصدت لهخيلا وعليها فرسانها وسألوه كما سأل سهيل وقال قيس بن سعد وتركوه يمضي إلي مصرفدخلها ولكن الناس لم يجتمعوا عليه وتفرق أهل مصر إلي فرق منهم من بايع لعلي ومنهمرفض البيعة حتى يقتل قتلة عثمان ومنهم من قال نحن مع عليّ ما لم يقتص من أخوانناوأظهروا الطاعة ومن ثم تفرق أهل مصر إلي شيع وفرق لم يتمكن ذلك الوالي الجديد منتجميعها .


    جـ) أما فيالبصرة فقد دخلها عثمان بن حنيف دون أن يرده أحد وكان قد سبقه إليها عبد الله بنعامر في عهد عثمان ولكن لم يكن له أثر في توجيه الرأي العام ووجد عثمان بن حنيفأهل البصرة متربصين بعضهم دخل في الطاعة والبعض الأخر تابعت المنشقين علي الإمامعليّ والفرقة الثالثة وقفت متربصة حتى تري كيف يستقر الحال مع أهل المدينة ومعالغالبية فيصنعوا صنيعها .


    د) أما عبدالله بن عباس الذي ولاه الإمام عليّ علي اليمن ودخلها ولم يعارضه أحد ووجد أميرهاالسابق يعلي بن منية قد جمع الأموال والخراج إلي مكة واستقر بها وقد اكتنز هذاالمال لنفسه .


    هـ) أما أميرالكوفة عمارة بن شهاب فقد لقيه طليحة بن خويلد في الطريق وهو والي عثمان عليالكوفة فقال له : أرجع فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلا فإن أبيت ضربت عنقك فرجععمارة إلي المدينة وأخبر الإمام علي بما سمعه من طليحة . وهكذا تري هؤلاء الولاةالذين خصهم الإمام علي ووالهم بدلا من ولاة عثمان نري تفرق أهل الأمصار وتذبذبالرأي العام عند الكثيرين منهم ([4]) ، فلم يكن هناك إجماع علي أميرا واحدا للمؤمنين بل كانوا فرق وأحزاب وشيعاوأدرك الإمام علي أن الفتنة توشك أن تندلع وتعم .


    لا شك أن تغييرالولاة كان يهدف الإمام علي من ورائه إلي طمئنة النفوس ويريد أن يوحي إلي الناسبداية عهد جديد تعود فيه الحقوق إلي أهلها وتعاد للدولة هيبتها وللخلافة الإسلاميةشأنها المرموق ويبعث الأمل في قلوب المؤمنين الذين اعتزلوا الناس ووسعتهم فيبيوتهم خوفا من انغماسهم في الفتنة .


    ومن هذاالمنطلق فلا بأس علي الإمام علي أن يغير من الولاة ما يشاء ويرضي ويعزل كل منيغتاب فيه أو يشك في أمره فهو الخليفة وهو المسئول أمام الله وأمام المسلمين عليما يضر المسلمين أو يسئ إليهم فكيف يتعامل مع ولاة يحكمون الأمصار والأطرافالبعيدة من الدولة وهو غير مطمئن إليهم ، وما فعله عمر إنما تفعله الدول الكبرىوالمتقدمة اليوم ففي أمريكا يأتي الرئيس الأمريكي الجديد بعد انتخاب ويختار وزرائهوعماله الذين يثق فيهم ويتم عزل باقي الموظفين الذين كانوا في الحكومة السابقةوذلك ضمان لاستمرارية الحيوية في الدولة وظهور التجديد وضخها دائما بدماء جديدة .


    ولنعود مرةأخري إلي الحديث عن الإمام علي وعماله حينما رجعوا إليه بعدما طردهم أهل الأمصاروقد كان أثر ذلك شديدا علي نفس الإمام علي فكيف يرجع إليه أمراؤه دون أن يتمكنوامن الإمارة في الشام والكوفة وكيف يتمكن عمال مصر والبصرة والكوفة بهذه الحالة منأخذ البيعة للإمام علي ؟ ودعا الإمام عليطلحة والزبير وقال لهما إن الذي كنت أحذركم قد وقع يا قوم وإن الأمر الذي وقع لايدرك إلا بإماتته ، وإنها فتنة كالنار ؛ كلما سعرت ازدادت واستنارت . فقالا له :فأذن لنا أن نخرج من المدينة ، فإما أن نكابر وإما أن تدعنا . فقال : سأمسك الأمرما استمسك ؛ فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي . ([5])


    وهناك بعضالروايات تذكر أن أهل الكوفة قد بايعوا إلا نفرا قليلا منهم كما جاء في رسالة أباموسي الأشعري للإمام علي يبشره بتلك البيعة ( أبو موسي الأشعري كان والي عثمان بنعفان علي الصلاة بالكوفة بينما كان عمارة بن شهاب هو والي الكوفة للإمام علي) .


    وقد هدأت نفسأمير المؤمنين بعض الشيء لمبايعة أهل الكوفة ولم يبق من عمال أمير المؤمنين عليرضي الله عنه وولاته إلا تلك الشخصية التي تقلقه وتقض مضجعه لما لها من ثقل عندالكثيرين ولاسيما بلاد الشام ألا وهي شخصية معاوية بن أبي سفيان والي الشامات كلهاوأميرها منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اجتمعت كلمة أهل تلك الناحية عليشخص معاوية وأجمعوا عليها لما وجدوا منه من سياسة حكيمة وود وتقارب واصطفاء لكبارالقواد والسابقين من الصحابة التابعين حتى صار معسكره أقوي وأكثر عددا وعدة منمعسكر علي بن أبي طالب آنذاك .


    ورأي الأمامعلي أن البلاء والإبتلاء الذي سيحل بالمسلمين إنما سيكون من جهة أهل الشام فأغلبالولايات قد بايعت وأطاعت له .


    لقد أرسلالإمام علي إلي معاوية رسالة مع سبرة الجهلي ودخل سبرة علي معاوية في الشام وسلمهرسالة أمير المؤمنين علي واستلمها معاوية ولكنه لم يجب عنها بشيء وظل سبره ثلاثةأشهر ينتظر الرد من معاوية ثم دعا معاوية برجل من بني عبس وأحد بني رواحة يدعيقبيصه فدفع إليه طومار([6]) ، مختوما عنوانه من معاوية إلي علي وقال له معاوية إذا دخلت المدينة فأقبضعلي أسفل الطومار ( ليظهر عنوان الرسالة ) وسرح رسول علي ولما قدم قبيصه المدينةودخلها رفع الطومار كما أمره معاوية وخرج الناس ينظرون إليه وقد علموا أن معاويةمعترض ، ومضي قبيصه حتى دخل علي عليّ فدفع عليه الطومار ففض خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة فقال للرسولما ورائك فطلب الأمان فأمنه علي وقال إن الرسل آمنة لا تقتل قال إني تركت قوما لايرضون إلا بالقود ([7]) ، قال : ممن ؟ قال : من خيط نفسك وتركت ستين ألف شيخ([8]) ، يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم ، قد ألبسوه منبر دمشق . فقال : منييطلبون دم عثمان ! ألست موتورا وترة عثمان ! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ؛نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله ، فإنه إذا أراد أمرا أصابه ([9]) . وهذا التصرفالذي بادر به معاوية فقد كان يتعمده حيث أخر الرد علي أمير المؤمنين ثلاثة أشهرحتى يتبين له الأمر ويعرف موقف الناس من الإمام علي فإن وجده مع علي بايع له وأطاعوإن وجدها ضده أصر وعارض . وقد واتتهالظروف علي ما يشتهي ويريد . وقد وصل إلي مسامعه ما تم الاتفاق عليه بين أمالمؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعهم نفرا من أهل مكة إذ قرروا جميعا الخروجوالمطالبة بدم عثمان ولكن إلي أين يتجهوا هذا ما سنعرفه بعد المهم أن هذا التصرفلأم المؤمنين عائشة ومن معها قد شجع معاوية علي رفض بيعة الإمام علي أو أن يتمهلفيها إلي حين .


    ولعل ذكاءمعاوية رضي الله عنه ظهر واضحا في استغلال قميص عثمان في الشام وفي إثارة عواطفالمسلمين وتحريك مشاعرهم نحو المطالبة بدم عثمان وقد حمل القميص النعمان بن بشيرملطخا بدمه ومعه أصابع نائلة زوجة الخليفة الراحل عثمان والتي بترت أصابعها مع جزءمن كفها وهي تدافع عن عثمان بن عفان وأخذ معاوية القميص وعلق أصابع نائلة في كمهووضعه علي المنبر ليراه الناس وأخذ الناس يبكون حول المنبر سنة كاملة وقد أدركمعاوية أن كل الأمور تسير ضد الإمام علي وأن قميص عثمان قد أثار الناس ضده جاء ردمعاوية علي رسالة الإمام علي الذي تطالبه بالدخول في الطاعة والتزام جماعةالمسلمين ولنتأمل معا رسالة علي المقتضبة والمختصرة إلي معاوية يقول فيها : ( أمابعد .. فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان رضي الله عنه واجتماع الناس عليّومبايعتهم لي فدخل في السلم أو أئذن ) .


    وكان رد معاويةقاسيا وقد أدركه الإمام علي وفهم ما ينطوي عليه من تمرد أو خروج عن الطاعة وقدفهمنا سابقا أنه أمر بطومارين ووصل أحدهما بالأخر ولم يكتب فيهما شيء إلا بسم اللهالرحمن الرحيم فلما فضه علي لم يجد فيه شيء فسأل حامله ما ورآك فقال إني قد خلفتبالشام خمسين ألف شيخ خضبوا لحاهم بدموعهم تحت قميص عثمان رافعيه علي أطراف الرماحعاهدوا الله ألا يغمدوا سيوفهم حتى يقتلوا قتلته أو تلحق أرواحهم لله .


    إن هذا القولالذي لقنه معاوية لحامل الطومار قد أدركه وأدرك معانيه وبغيته أصحاب علي منذ أنوصل كلام حامل الرسالة إلي مسامعه فقام خالد بن زفر وقال لحامل الطومار بئس اللهوافد الشام أنت ! أتخوف المهاجرينوالأنصار بجنود أهل الشام وبكائهم علي قميص عثمان ؟ فوالله ما هو بقميص يوسف ولابحزن يعقوب ولئن بقوا عليه بالشام فقد خذلوه بالعراق .


    واستمع إلي ردالإمام علي ذلك الرجل التقي والورع حينما سمع ذلك قال أمنًّي يطلبون دم عثمان ؟ألست موتورا كترة عثمان ؟ اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان . نجا والله قتلة عثمان، إلا أن يشاء الله فإنه إذا أراد شيئا أصابه ثم ألتفت إلي حامل الرسالة ذاك فقالله اخرج . وحينما خرج صاحت السبئية قائلين هذا الكلب هذا وافد الكلاب أقتلوه فناديمستغيثا يا آل مضر يا آل قيس منعته مضر وجعل يقولون له أسكت فيقول لا والله لايفلح هؤلاء أبدا فلقد آتاهم ما يوعدن فيقولون له أسكت فيقول لقد حل بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم . ([10])


    لقد أدركالإمام علي مراد معاوية وأحس أيضا أن أهل الشام قد أثر فيهم قميص عثمان تأثيراكبيرا وأن أهل الشام ومعهم معاوية لن يهدأ لهم بال إلا بثورة عارمة ضد الإمام عليوقد تصل هذه الثورة إلي مقر عاصمة الدولة وما البكاء علي قميص عثمان إلا خروج عليالخليفة نفسه وتمزيق وحدة المسلمين لهذا بادر الإمام علي بالزحف إلي الشام حين إذنكتب الخليفة إلي عماله في الأقاليم يتأهبوا ويستعدوا للخروج فكتب إلي قيس بن سعدفي مصر وإلي أبي موسي الاشعري في الكوفة وإلي عثمان بن حنيف بالبصرة وطالبهم أنيستنفروا الناس بحرب أهل الشام وأن يقفوا بجانب الإمام لنصرته في تلك الحرب فرفضأمير المؤمنين يقول للناس وينظم صفوفهم وولي الأمراء علي ميمنة وميسرة الجيش وحملمحمد بن الحنفية اللواء وعزم علي أن يقاتل هؤلاء الذين عصوه وأدوا إلي فرقة المسلمين واختلاف كلمتهم .


    وهذه الحرب وإنكانت مع مسلمي الشام الذين تمردوا علي الإمام علي وشقوا عصا الطاعة وخرجوا عنالجماعة فحق له أن يقاتلهم ليعيدهم إلي الجماعة ويوحد كلمة المسلمين والأمر هناأكبر بكثير من خروج جماعة ولم تبايع أو جماعة تخالف جماعة في الرأي ولكن الأمرأكبر من ذلك بكثير فإن معاوية وأهل الشام ومن يؤازرهم قد اتهموا الإمام علي بأنهضالع بقتل عثمان وأنه يأوي قتلته ويحميهم . وهم بذلك لم يكفهم طلب الثأر إنما هميريدون الانتقام من علي . فلا عجب أن يتضحمعني قول العبسي حامل الطومار : ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود وحينماسأله الإمام علي من منّ ؟ قال من خيط رقبتك إذن فالأمر ليس اختلاف في الرأي ولاأمر بيعة إنما هو انتقام من علي وقطع رقبته فهل يسكت الإمام علي رضي الله عنهعليهم حتى يقتلوه كما قتلوا عثمان بالأمس .


    وإن كان دمالمسلم علي المسلم حرام والقاتل والمقتول في النار إلا أن الإمام علي كان يكرهالخروج في مثل تلك الحرب القذرة التي كان لا يتمناها وقد دخل عليه أبنه الحسن رضيالله عنه حينما رآه يستعد لقتال أهل الشام : يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماءالمسلمين ووقوع الخلاف بينهم . ([11])


    كما حاول أهلالمدينة أن يثنوا عليا عما عزم عليه ويجنبوه حرب أهل الشام وأن يستعمل معهم الرفقواللين في بادئ الأمر فرفض الإمام علي هذا العرض إذ أن أهل الشام استعدوا له كماانه وجد من جرئه وسعي به نحو الفتنة في الشام حيث خيل إليه إنه لا يحسم هذا الأمرإلا القوة وقد تفرغ لذلك تماما ولكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فما الذيحدث وما الذي غير وجهته .

    * * * *


    (2)


    محاسبة علي لولاته





    عرفنا سابقا فيالحديث عن الفاروق عمر أنه كان شديدا مع ولاته يحاسبهم أولا بأول علي تقصيرهم فيخدمة العباد أو ظلمه لأحد من الرعية . كما كان دقيقا في محاسبة ولاته لبيت مالالمسلمين فكان لا يسمح لأحد منهم أن تمتد يديه إلي ذلك المال وكان من عادته عندتولية الولاة أن يحصي أموالهم أولا ثم يحصيها مرة أخرى عند عزله أو عندما يعلمباغتناء أحدهم بالأموال غناءا ملحوظا أكثر مما يستحق فكان يحاسبهم علي ذلك وإذاثبت اختلاسهم لأموال بيت المال أو أشتغلوا بالتجارة فكان يقاسمهم نصف أموالهم ولقدروي في ذلك روايات كثيرة تدل علي اهتمام عمر بمحاسبة الولاة ليضمن العدلوالاستقرار والطمأنينة للمسلمين ولاسيما الأمصار البعيدة عن المدينة وإن كان هذاالحديث لا موضع له هنا لأنه سبق الإشارة إليه ، إلا أنني أردت أن أبين قضية مهمةفي هذا المجال ؛ فإن طول المدة التي قضاها عمر في خلافته كانت تناهز الثلاثة عشرعاما وهي مدة منفسحه إذا قيست بمدة الإمام علي في خلافته التي لا تتجاوز الأربعسنوات .


    إن طول مدةالخلافة عند عمر وكذلك عثمان قد مكنت كلامنهما أن يقنن ويحدد سياسته الخارجية والداخلية وقد اتضحت السياسة الخارجية فيتعامل أبو بكر وعمر وعثمان مع أعداء الدولة الإسلامية في مجالي : الفرس والروموكيف أنتشر الفتوحات وأنتشر معها الدعوة الإسلامية شرقا وغربا .


    أما خلافةالإمام علي فقد كانت قصيرة الأمد وقد أنشغل فيها الإمام بالفتنة الداخلية ومسائلأخرى أرهقته كثيرا من المتمردين والخارجين عليه إلي غير ذلك فلا غرو إن قلنا أنخلافة الإمام علي لم يتضح لها أبعاد واضحة في مجال السياسة الخارجية إذ أنشغلالإمام كما قلنا في مواجهة المشاكل التي واجهته والتي استغرقت سني خلافته كلها ،ويمكننا أن نطلق عليها السياسة الداخلية المتمثلة في أعمال الحكومة ومراقبة الولاةومحاسبتهم ثم إعداد الجيوش تلو الجيوش لمواجهة الخارجين علي الخلافة .


    إن السياسةالداخلية للإمام علي إنما هي سياسة الخلافة الدينية في مواجهة الملك العضوض فيالشام والتي بات يسري بعض أنظمتها ربوع البلاد مما حدا بالإمام علي أن يقاوم ذلكالاتجاه الدنيوي بكل ما يملك حتى كاد فداءا للخلافة الدينية ومن ملامح السياسةالداخلية التي اتبعها أمير المؤمنين علي :


    1- المساواة :فالناس في الحقوق عنده سواء لا فرق بين قوي وضعيف أو عربي وأعجمي لذا نراه يعمدإلي القطائع التي وزعها من كان قبله علي المقربين والرؤساء فينتزعها ويردها إليبيت مال المسلمين لتوزع علي من يستحقه ويقول الإمام علي في هذا الصدد ..... فإن فيالعدل سعه : وإن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق .


    2- كما فرضالرفق بالرعية فلا يرهقوا الناس ولا يستغلوا ثرواتهم ويقضوا لهم حوائجهم وكاندائما يوصي ولاته : ( أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعيةولا تحسنوا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته .


    وكان رحمه اللهعندما يشرع بعض التشريعات التي تنظم امور الدولة فكاد يوضح أسباب ذلك ويعتنيبتفسير روح القانون كما يقولون فأنظر إليه وهو يوصي عماله عند تحصيل الخراجوالصدقات ( .. امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ، ولا تخدعبالتحية لهم ، ثم تقول : عباد الله . أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حقالله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم حقفتؤدوه إلي وليه ؟ فان قال قائل : لا ، فلا تراجعه ... وإن أنعم لك منعم ، فانطلقمعه من غير ان تخيفه وتتوعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة ،فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا باذنه ، فإن أكثرها له .... فإذا أتيتهافلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به ... ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها ، ولاتسوءن صاحبها فيها ، وأصدع المال صدعين ، ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لماأختاره ، فلا تزال كذلك حتى يبقي ما فيه وفاء حق الله في ماله فاقبض حق الله منه ،فإن استقالك فأقله ...) . ([12])


    وقد كان لعليبن أبي طالب فلسفته في تحصيل الضرائب المفروضة علي الناس حيث كان يري أن عمارةالأرض أفضل من النظر في تحصيل الضريبة فاستمع إليه وهو ينصح واليه ( .. تفقد أمرالخراج بما يصلح أهله .. فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمنسواهم إلا بهم ... لان الناس كلهم عيال علي الخراج وأهله وليكن نظرك في عمارةالأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن جلبالخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقيم أمره إلا قليلا ، وإنمايؤتي خراب الأرض من اعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها اسراف الولاة الجمع ، وسوءظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر..).([13])


    3- وكان ينظمعلاقات الولاة والعمال بما فيه النفع للإسلام والمسلمين وقد كتب إلي الأشتر النخعيمحددا له كيفية التعامل مع الناس فيقول له : (( انظر في أمور عمالك ، فاستعملهم اختبار ولا تولهم محاباة واثرة ... فانهمجماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتاتالصالحة والقدم في الإسلام ، فانهم أكثر أخلاقا واصح اعراضا وأقل في المطامعاسرافا ، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا .... ثم اسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوةلهم علي استصلاح أنفسهم ، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفواأمرك أو ثلموا أمانتك ، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والعيون عليهم.... فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الأمانة والرفق بالرعية )) . ([14])


    وكان الإمامعلي دائم الاستطلاع لأحوال الولاة والعمال وكان يوصيهم بعدم كشف معائب الناس ( ..فإن في الناس عيوبا ، الوالي أحق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك كما كان يأمرولاته باتخاذ بطانة حسنة وينهيهم عن بطانة السوء استمع إليه وهو يوصي محمد بن أبيبكر (( لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور ، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور ... فان البخلوالجبن والحرص غرائز شتي يجمعها سوء الظن بالله ... أن شر وزرائك من كان للأشرارقبلك وزيرا ، ومن شركهم في الآثار فلا يكونن لك بطانة ، فانهم أعوان الاثمة واخوانالظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ... وليس عليه مثلآصارهم وأوزارهم )) .


    وقد مال الإمامعلي رضي الله عنه إلي تعيين أقاربه في الولايات وبعض الوظائف فأقام عبد الله بنعباس علي البصرة ، وعبيد الله بن العباس علي اليمن ، ومحمدا بن أبي بكر بن زوجتهعلي مصر وهؤلاء أقرباؤه فهو ذلك يصنع ما أنكره علي عثمان حين آثار أقاربهبالولايات . فكيف يرضي الإمام بأمر ينقبة علي الآخرين ؟


    الحقيقة إنالأمر مختلف والمقارنة غير منضبطة وذلك لاختلاف الظروف والغايات والمبررات فهناكفارق كبير بين تعين عثمان وتعين الإمام علي فبنو هاشم أقارب علي لم يكون لهم متسعلعمل أو ولاية إلا في حكومة الإمام فلم يستعن بهم عثمان من قبل ولا عمر كما أنالإمام علي قد أعتمد عليهم اعتمادا كليا بعد أن حاربته قريش وشاعت الفرقة والشغببين أعوانه من أبناء الأمصار وهم مع ذلك لم يستأثروا بالولايات كلها ولم يؤثرواأنفسهم بالمال والثراء دون الناس بل كانالإمام يضيق عليهم ويراقبهم ويحاسبهم علي ما في أيديهم أشد الحساب ولسنا في حاجةإلي أن نؤكد محاسبة الإمام علي لولاته وخاصة أقاربه فقد وصل به الحال أنه كانيحاسبهم علي حضور الولائم التي لا يجمل بهم أن يحضروها وقد كتب إلي عثمان بن حنيفالأنصاري عاملة علي البصرة : (( أما بعد يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلي مأدبة ...فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان . وما ظننت أنك تجيب إلي طعامقوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو ، فانظر إلي ما تقضمه من هذا المقضم ... فما اشتبهعليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه )) .([15])



    1- أنظر بن الأثير ج3 صـ189 .

    2- الطبري ج4 صـ441 .

    3- أنظر ابن الأثير ج3 صـ197 .

    1- أنظر في توزيع الإمام علي عماله علي الأمصارالطبري ج4 صـ442 وما بعدها وابن الأثير ج3 صـ202 ،203 ،204 .

    1- ( الطبري ج4 صـ443) .

    1- ورق مكتوب فيه .

    2- القود : القاتل بالقتيل .

    3- ورد في البداية والنهاية ج7 صـ240 أنه ترك ورائهسبعين ألف شيخ .

    4- الطبري ج4 صـ444 .

    1- الطبري ج4 صـ444 .

    1- ابن الأثير ج7 صـ230 .

    1- العقاد عبقريةالإمام علي صـ122 .

    2- المصدر السابقونفس الصفحة .


    1- العقاد عبقريةالإمام علي صـ123 .


    1- أنظر العقاد عبقرية الإمام علي صـ124 .


  34. #34
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالحادية عشر )


    الاتجاه إلي البصرة وإطفاء الفتنة





    أستأذن طلحةوالزبير الإمام علي أن يذهبا إلي العمرة فأذن لهما وقد التقت بهما أم المؤمنينعائشة وتجمع حولهم جموع من المسلمين واتفقوا علي أن يتوجهوا إلي البصرة ليبدؤاالطلب بدم عثمان حينئذ وجد الإمام علي أن الوقوف أمام هذه الجبهة أولى من الحرب فيالشام ولأنهم خرجوا يحرضون المسلمين علي دم عثمان وأن المطالبة بدم عثمان أولي منحرب أهل الشام وإذا كان أهل الشام بفضل معاوية مستقرين في ديارهم فإن هذا الميدانالذي اتجه إليه المطالبون بدم عثمان وهو البصرة فإنهم يريدون أن يغمروه بالفتنةولم يسبق لأحد منهم أن اتجه إليه كما أنهم ليسوا من أهل البصرة وهم بهذا التصرف قدخرجوا عن أوامر أمير المؤمنين وعن أوامر الدولة حيث أقر أمير المؤمنين ضرورة الأخذبالثأر من قتلة عثمان ولكنه أجل هذا الأمر لحين استقرار أمور الدولة وهم بهذايكونون قد أحدثوا حدثا يستحقون به المقاومة .


    ويروي أن أمالمؤمنين قد عرفت بمقتل عثمان بعد أن قضت عمرة محرم فعادت إلي مكة وقصدت المسجدالحرام وتسترت في الحجر وأجتمع عليها الناس وأتاها أمير مكة وسألها ما ردك يا أمالمؤمنين إلي هنا قالت ردني أن عثمان قتل مظلوما وأن الأمر لا يستقيم ولهذهالغوغاء أمر فطالبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام . ([1])فكان أول من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي وذلك أولمن تكلمت من بني أمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم وقام معهم سعيد بن العاص والوليد بنعقبة وسائر بني أمية وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة ويعلي بن أمية مناليمن وطلحة والزبير من المدينة واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمرهم علي البصرةوقالت عائشة أيها الناس ، إن هذا حدث عظيم وأمر منكر ، فأنهضوا فيه إلي إخوانكم منأهل البصرة فأنكروه فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم ، لعل الله عز وجل يدرك لعثمانوللمسلمين بثأرهم . ([2]) وقد نادي بعضهم بالتوجه إليالمدينة ليطالبوا عليا بتسليمهم قتلة عثمان وكان كثير من الصحابة قد تركوا المدينةورجعوا إلي مكة ليجاوروها ويستقروا بجوارها بعيدا عن الفتنة ولكن طلحة والزبيرأعترض علي الذهاب إلي المدينة وأعترض معهم عبد الله بن عامر وقال لهم كفاكم الشاممن يستمر في حوزتي يعني بذلك معاوية .


    أما أمهاتالمؤمنين رضي الله عنهن كن يردن الانضمام إلي عائشة والخروج معها إلي المدينة فلماأصرت عائشة علي الخروج إلي البصرة لم يوافقنها .


    وأخذت تلكالدعوة طابعها الجدي فتدفقت عليهم الأموال اللازمة للإنفاق فقد عاد يعلي بن منيةوالي اليمن ومعه كل ما جباه من أموال فضل أن ينفقها وأن يجهز بها حملة أم المؤمنينعائشة وكذلك عبد الله بن عامر بذل مالا كثيرا أنفقه لإعداد تلك الحرب ، ويقال أنيعلي أرسل إلي عائشة ستمائة بعير وستمائة ألف درهم ونادي المنادي : من أراد إعزازالإسلام وقال المحليين والطلب بثار عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت فجهزوا بذلكستمائة رجل وخرج مع أم المؤمنين من أهل المدينة ومكة ألف رجل ولحق بهم في الطريقمتطوعون كثيرون قدرهم بن كثير بثلاثة ألاف رجل .([3])


    غادرت أمالمؤمنين ومن معها المكان إلي البصرة وكان بصحبتها أمهات المؤمنين وعندما وصلواإلي ذات عرق فإذ بأمهات المؤمنين تفارقن عائشة متوجهات إلي المدينة وهن يبكينلوداعها وقد بكي الناس معهن بكاء شديد ولعل هذا البكاء يعبر عما كان يدور في أذهانالمسلمين آنذاك وما سوف يقع لهم من قتال وإراقة دماء وتفرق الكلمة وهذا موضع لايليق بأم المؤمنين عائشة أن تغشاه فقد كانت أمهات المؤمنين الحزينات علي عائشةيعرفن أن الخروج في ذلك الموقف معصية لا تليق بهن كأمهات للمؤمنين ولعل ما قالتهالسيدة أم سلمة رضي الله عنها يعد دليلا علي ذلك فأرسلت إلي علي رضي الله عنه رسالةتقول فيها يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله عز وجل وأنك لا تقبله مني لخرجت معك([4]). وهذا أبن عمر والله لهو أعز عليا من نفسي يخرج معك ويشهد مشاهدك ([5]) .


    وكانت أمالمؤمنين عائشة رضي الله عنها تركب جملا وفوقه هودج أعد لها وخرجوا إلي البصرةومعهم دليلا يدلهم علي الطريق ويحكي بن كثير أنهم حينما مروا بمكان ماء يعرفبالحوأب ([6]) ، وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة ذلك الأسم من الدليل صرختوقالت إنا لله وإنا إليه راجعون إني لاهية سمعت رسول الله r يقول وقد اجتمعت نساؤه ليت شعري آيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثم ضربتعضد بعيرها فأناخته وقالت ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب ([7]) ، وقد وردت عند ابن الأثير رواية ضعيفة لا نقبلها وسوفنفندها فيما بعد حيث تقول وظل بها عبد الله بن الزبير يقنعها إنه كذب ولكنها لمتصغ له ولم تقتنع فقال حينئذ النجاء لقد أدرككم علي بن أبي طالب فارتحلوا نحوالبصرة ([8]). وأقترب موكب عائشة من البصرة وحينئذ أرسل عثمان بنحنيف والي البصرة عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤري ليسألا أم المؤمنين عن سببقدومها فأخبرتهما بأنها قدمت تطالب بدم عثمان لأنه قتل مظلوما ثم خرج عمران وأبوالأسود الدؤلي إلي طلحة وسأل عن سبب قدومه فقال : الطلب بدم عثمان فقالا له أمابايعت عليا ؟ قال بلى والسيف علي عنقي ولا أستقيم له إن هو لم يخل بيننا وبين قتلةعثمان .


    وكذلك ذهبا إليالزبير فسأله عن سبب قدومه قال : الطلب بدم عثمان فسأله : أما بايعت عليا قال بليوالسيف علي عنقي ([9]) ، ورجع عمران وأبو الأسود إلي عثمان بن حنيف وأخبراه بماسمعا فقال عثمان بن حنيف إنا لله وإنا إليه راجعون دارت رحى الإسلام ورب الكعبة ([10]) .


    لقد تأكدلعثمان بن حنيف أنهم جاءوا يطلبون النصرة من أهل البصرة فعزم علي ألا يتصرف حتىيأتي أمير المؤمنين ونادي في الناس يأمرهم بالاستعداد للحرب ولبس السلاح لرد هؤلاءالقوم ولكن ظهر من بين القوم من تعاطف معه وقد قام الأسود بن سريع وأظهر حقيقةمجيء القوم فقال أنهم لا يزعمون أننا قتلةعثمان وإنما أتوا يستعينون بنا علي قتلة عثمان فالاستعانة منا ومن غيرنا ومن هناتبين أن بالبصرة أعوانا يريدون الثأر لعثمان وتقدمت السيدة عائشة وعسكرت ومن معهابالمربد وقد أنضم إليهم من أهل البصرة نفرا ممن أرادوا نصرتها ثم عسكر عثمان بنحنيف بجيش البصرة مقابلا لذلك الجيش وقد انضم بعض الناس إلي جيش عائشة بعد أنتكلمت وحرضت الناس علي الحرب والقتال وأقبلت ( جارية بن قدامة ) إلي أم المؤمنينعائشة وقال لها : والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك علي هذا الجملالملعون عرضة للسلاح ، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنه من رأي قتالك فإنه يري قتلك ، وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلي منزلك وإنكنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس ([11]).


    ثم أقبل ( حكيمبن جبلة ) ويروي انه ممن باشر قتل عثمان وقد اسند إليه بن حنيف قيادة الخيل فأنشبالقتال وهاجمهم هجوما شديدا فلجأ أصحاب أم المؤمنين عائشة فشرعوا رمحاهم ([12])لكي يكفوا عن قتالهم ويرجعوا عنهم ومع ذلك فلم يرجع عنهم فأمرت عائشة رضيالله عنها من معها أن يميلوا نحو مقبرة وقضوا ليلتهم يعانون من الجراح ولما اشتدتعليهم الحرب طلبوا الصلح علي أن يبعثوا رسولا إلي المدينة يسأل ويري هل بايع طلحةوالزبير مكرهين أم طائعين فإن كانا بايعا إكراها ترك ابن حنيف لهم البصرة وخرجمنها وإن كانا بايعا طائعين رجعوا عن البصرة ([13]) .


    وذهب بضعةأفراد فيهم كعب بن سور ليستطلعوا الخبر من المدينة فاجتمع عليه الناس وسأل كعب أهلالمدينة قائلا أنا رسول أهل البصرة إليكم جئت أسألكم هل بايع طلحة والزبير طائعينأم مكرهين ؟ وسكت الناس ولم يتكلم أحد إلا أسامة بن زيد قائلا إنما بايعا مكرهينفوثب الناس علي أسامة وكادوا يقتلونه لولا أن أبا أيوب الأنصاري وعصيبا ونفرا منأصحابهما قالوا نعم فترك الناس أسامة ورجع رسول البصرة وبلغ الخبر بما سمع وبمارأي فلما رجع كعب بن سور وأخبر طلحة والزبير بما علم . كتب إلي عثمان بن حنيف أن يخلي لهم البصرة ولكنعثمان رفض وأحتج بجواب جاءه من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث كتب إلي بن حنيفوالله ما أكرها علي فرقة ، ولقد أكرها علي جماعة وفضل ، فإن كانا يريدان الخلع فلاعذر لهما ، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا ([14]) .


    وعلي ما يبدوافإن طلحة والزبير وأتباعهما قد اقتحموا المدينة واستولوا عليها بعد قتالا بينالفريقين قتل فيه أربعون من أهل البصرة وقد أمرت عائشة بالعفو عن عثمان بن حنيفوولوا علي بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر ووزعوا الأموال علي الناس وخصوابالزيادة من أطاعهم ودخل في حلفهم .


    وتروي بعضالروايات أن بعض الناس الذين اشتركوا فيقتل عثمان قد غضبوا لذلك وجمعوا ثلاثمائة رجل وتقدمهم حكيم بن جبلة وقاتلوا طلحةوالزبير ومن معهم وقتل حكيم وقتل معه سبعون ممن اشتركوا في قتل عثمان وكان هذاقصاصا عادلا من هؤلاء المتمردين الذين خرجوا علي الخليفة عثمان بن عفان وسفكوا دمهدون ذنب .


    وقوي بذلك شوكةطلحة والزبير في البصرة حتى قيل أن الناس بايعوهما وكتبوا بذلك إلي أهل الشاميبشرونهم ومن عجيب ما روي ابن كثير أن أم المؤمنين عائشة كتبت إلي زيد بن صوحانتدعوه إلي نصرتها والقيام معها فإن لم يجئ فليكف يده وليلزم منزله ولا يكون عليهاولا لها فقال أنا في نصرتك ما دمت في منزلك وأبى أن يطيعها في ذلك وقال رحم اللهأم المؤمنين ، أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل ، وخرجت من منزلها ،وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا ([15]) .




    * * * *





    (1)


    لماذا أتجه الإمام علي إلي البصرة بدلا من الشام ؟



    كانت أم الفضل بنت الحارث أم عبد الله بن عباس تراقب كلما يدور في مكة منذ أن جاءها طلحة والزبير وأم المؤمنين وتترقب في حذر علي أي شيءسيجتمعون فلما قرروا الخروج نحو البصرة استأجرت أم الفضل رجلا من جهينة اسمه ظفروبعثته إلي المدينة ليخبر الإمام علي بما أجمع عليه الناس في مكة ووصلت رسالتهاإلي الإمام علي ووقف علي محتواها فعزم علي أن يغير وجهته ووجهة الجيش الذي قامبتعبئته نحو البصرة بدلا من الشام وقد اطمأن الإمام علي حينما عرف أنهم اتجهوا إليالبصرة وقد صدهم الله عن الكوفة لأنالكوفة فيها رجال العرب وسادتهم ويأمل علي في نصرتهم له بينما كان بن عباس لا يريما يراه الإمام علي فإن عرب الكوفة لهم طموحات ولديهم تطلعات يعرفها ابن عباسويحكي ابن الأثير أن أهل المدينة تثاقلوا علي الخروج مع الإمام علي حينما دعاهملنصرته ولكن استجاب له أربعة من كبار الصحابة هم :- أبو الهيثم بن التيهام ، وأبوقتادة الأنصاري ، وزياد بن حنضلة ، وخذيمة بن ثابت .([16])


    وإذا كانالإمام علي قد خرج من المدينة بجيشه متجها إلي البصرة ليقاتل من تمرد عليه وليطفئنار الفتنة في مهدها فالإمام علي ومن معه يمثل طرفا من المسلمين وطلحة والزبير وأمالمؤمنين عائشة ومن معهم من المسلمون يمثلون الطرف الآخر وهم المطالبون بدم عثمانوالرافضون التمهل إلي حين أن تستقر أحوال البلاد كما رأي الإمام علي رحمه الله وقدخشي الصحابة في المدينة المنورة أن يقتتل المسلمون بعضهم بعضا وتتأجج نار الفتنةفتأمل معي هؤلاء الصحابة الذين تقدموا بالنصيحة للإمام علي :


    أ) حينما همّعلي بالخروج من المدينة متجها إلي البصرة دخل عليه أشراف الأنصار لينصحوهوتكلم عقبه بن عامر وهو ممن شهد بدر فقال: يا أمير المؤمنين ، إن الذي يفوتك من الصلاة في مسجد رسول الله r والسعي بين قبره ومنبره أعظم مما ترجو من العراق ، فإن كنت تسيرفإنما تسير لحرب الشام ، فقد أقام عمر فينا ، وكفاه سعد بن أبي وقاص زحف القادسية، وأبو موسي زحف الأهواز ، وليس من هؤلاء رجل إلا ومثله معك ، والرجال أشباهوالأيام دوال . فقال علي : إن الأموالوالرجال بالعراق ، ولأهل الشام وثبه أحب أن أكون قريبا منها .


    ب) بينما كانعلي يغادر المدينة ومعه سبعمائة رجل يسرع بهم ليرد طلحة والزبير قبل أن يصلوا إليالبصرة فلقيه عبد الله بن سلام فاستمهلهم وقال يا أمير المؤمنين لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها ولايعود إليها سلطان المسلمين أبدا فأساء إليه أصحاب علي ولكن الإمام علي زجرهم وقالدعوا الرجل فنعم الرجل إنه من أصحاب رسول الله rثم صار علي حتى أنتهي إلي الربذة فوجدهم قد فاتوهفقرر المسير إليهم واللحاق بهم . ([17])


    ج) بعدما أتمأمير المؤمنين صلاة الصبح جماعة أقبل عليه ابنه الحسن رضي الله عنه فجلس أمامهودار بينهما الحوار الآتي : قال الحسن : أمرتك فعصيتني وتقتل غدا بمضيعة لا ناصرلك فيها . فقال له علي : إنك لا تزال تحنحنين الجارية ، وما الذي أمرتني فعصيتك ؟


    قال الحسن :أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها ، ثم أمرتك يوم قتل ألاتبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان مافعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا ، فإن كان الفساد كان علي يدي غيرك ؛ فعصيتني فيذلك كله . قال : أي بني ، أما قولك : لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان ؛ فواللهلقد أحيط بنا كما أحيط به . وأما قولك : لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار ، فإنالأمر أمر أهل المدينة ، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر . وأما قولك حين خرج طلحةوالزبير ، فإن ذلك كان وهنا علي أهل الإسلام ، ووالله ما زلت مقهورا مذ وليت ،منقوصا لا أصل إلي شيء مما ينبغي . وأما قولك : اجلس في بيتك ، فكيف لي بما قدلزمني ! أو من تريدني ؟ أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ويقال : دباب دباب( كقطام : والدباب دعاء الضبع ) ليست ها هنا حتى عرقوباهم ثم تخرج ؛ وإذا لم أنظرفيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه ! فكف عنك أي بني .([18])


    وقد أرسل عليإلي أهل الكوفة يستحثهم بنصرته وأرسل إلي المدينة فجلب منها السلاح والدواب ثم خطبخطبة طلب فيها أن يلتزموا بدينهم ويهتدوا بهدي نبيهم وخرج الجيش نحو البصرة وقامبن رفاعة بن رافع الأنصاري وخاطب أمير المؤمنين علي وقال لهم يا أمير المؤمنين أيشيء تريد ؟ وإلي أين تذهب بنا قال علي : أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوامنا وأجابوا إليه قال فإن لم يجبوا إليه قال علي ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبرقال فإن لم يرضوا ؟ قال علي : ندعهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا ؟ قال علي :امتنعنا منهم قال نعم إذن . وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال لأرضينك بالفعل كماأرضيتني بالقول والله لأنصرن الله عز وجل كما سمانا الأنصار ([19]) .


    وانطلق عليلتعبئة جيشه وزحف وبه سبعمائة وستين مقاتلا يتقدمهم الإمام علي وقد عرضت عليه قبيلتا طيء وأسد أنفسهم فقالألزموا قراركم في المهاجرين كفاية .


    وقد أكد الإمامعلي نيته من تلك الحرب فما فتئ يردد بأنه لا يريد إلا الإصلاح فقد قدم عليه عامربن مطر الشيباني ودار حديثا بينهما فلما سأله عن أبي موسي الأشعري قال عامر : إنأردت الصلح فأبو موسي صاحب ذلك وأن أردت القتال فأبو موسي ليس بصاحب ذلك فرد عليهعلي قائلا والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يرد علينا ([20]) .


    ويروي بنالأثير أن أبا موسي الأشعري غير راض عن تلك الحروب التي تؤدي إلي الفتنة بينالمسلمين فقد أرسل أمير المؤمنين كتابا مع محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر إلي أبيموسي بالكوفة ليستنهضا الناس حتى يدخلوا في طاعة الإمام علي فلم يستجب لهم فأرسلإليه الأشتر النخعي ، وابن عباس ، فلم يستجب لهما ، فأرسل الإمام علي ابنه الحسنوعمار بن ياسر فقدما الكوفة ودخلا المسجد وخرج إليهما أبو موسي فقال لعمار يا أبااليقظان أعدوت علي أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار فقال عمار لمأفعل ولم يسؤني فقال الحسن لأبي موسي لم تثبط الناس عنا ؟ فوالله ما أردنا إلاالإصلاح ومثل أمير المؤمنين لا يخاف علي شيء فقال أبو موسي : صدقت بأبي أنت وأمي ،ولكن المستشار مؤتمن ، سمعت رسول الله r يقول : إنها ستكون فتنة القاعدفيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب ، وقد جعلناالله إخوانا وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا . ([21])


    وغضب عمار بنياسر وأرتفع صوت الناس في المسجد بعضهم يريد الخروج والآخرون يريدون القعود وحينئذقام القعقاع بن عمرو – رضي الله عنه – فقال : إني لكم ناصح ، وعليكم شفيق ، أحبلكم أن ترشدوا ولأقولنّ لكم قولا هو الحق ، أما ما قال الأمير – أبو موسي – فهوالحق لو أن إليه سبيلا ، وأما ما قال زيد ، فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه ،والقول الذي هو الحق أنه لا بد من إمارة تنظم الناس ، وتزع الظالم ، وتعز المظلوم، وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولى ، وقد أنصف في الدعاء ، وإنما يدعو إلي الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأي ومسمع ([22]) .


    وهكذا كان أبوموسي يري أنها فتنة لا ينبغي السعي فيها فكان يأمر الناس بالقعود والعزلة وأختلطالأمر علي الناس ولم يعد يتبينون الصالح من الطالح فكلما هم جماعة بالخروج ثبطهمأبو موسي وحبب إليهم القعود عندئذ قام إليه الحسن وأمره أن يغادر المسجد فغادروأخذ الحسن يحث الناس للخروج مع أمير المؤمنين وانه يطلب منهم أن يسيروا معه عليالإصلاح فإن وجدوه مظلوما أعانوه وإن كان ظالما أخذوا منه ([23]) ، فاستجاب لهم الناس ونشطوا للخروج وخرج معه في رفقة أميرالمؤمنين تسعة ألاف وستمائة وخمسين رجلا اجتمعوا بذي قار ووضعوا أنفسهم رهن الإمام) . وتذكر بعض الروايات أن الخارجين معه كانوا تسعة ألاف فقط خرج منهم في البر ستةألاف ومائتان وخرج في الماء ألفان وثمانمائة وقد تميزوا بقبائلهم ([24]) ، وكان رؤساء القادمين من الكوفة والمناصرين للإمام عليالقعقاع بن عمرو ، وسعد بن مالك ، وهند بن عمرو ، والهيثم بن شهاب ، وزيد بن صوحان، والأشتر ، وعدي بن حاتم ، والمسيب بن نجية ، ويزيد بن قيس ، وحجر بن علي ،وأمثالهم . ([25])


    فلما دخلوا عليأمير المؤمنين رحب بهم وقال لهم ( يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتمجموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذي نريدهوإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدءوا بظلمنا ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا أثرناه عليما فيه الفساد إن شاء الله ) .وتأمل كلمات أمير المؤمنين علي التي يعامل بها خصومه، فهو لا يريد استخدام القوة أو اللجوء إلي الحرب مطلقا وإنما هدفه الوحيد هوالدعوة إلي الإصلاح وجمع كلمة المسلمين بأية طريقة سليمة ولم يلجأ إلي الحرب إلامضطرا . ([26])

    (2)


    الإمام علي يطلب الصلح






    وقع اختيارالإمام علي على القعقاع ليكون واسطة سلام بينه وبين طلحة والزبير وأم المؤمنينوطلب منه أن يدعوهم إلي الألفة والجماعة وأن يعظم عليهم الفرقة . وخرج القعقاع حتىقدم البصرة والتقي أولا بأم المؤمنين فألقي عليها السلام وقال يا أمه ما أشخصك وماأقدمك إلي هذه البلاد ؟ قالت أي بني إصلاح بين الناس . قال : فابعثي إلي طلحةوالزبير حتي تسمعي كلامي وكلامهما . فبعثت إليهما فجاءا ، فقال القعقاع : إني سألت أم المؤمنين ، ما أشخصهاوأقدمها هذه البلاد ؟


    فقالت : إصلاحبين الناس ، فما تقولان أنتما ؟ أمتابعان أم مخالفان ؟ قالا : متابعان .


    قال القعقاع :فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح ؟ فوالله لئن عرفنا لنصلحن ، ولئن أنكرنا لا نصلح .


    قالا : قتلةعثمان – رضي الله عنه – فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن وإن عمل به كان إحياءللقرآن .


    قال : قدقتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة ، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلي الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلا رجلا ، فغضب لهم ستة آلاف ، واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم ،وطلبتم ذلك الذي أفلت – يعني حرقوص بن زهير – فمنعه ستة آلاف وهم علي رجل واحد .


    عندئذ قالت أمالمؤمنين : فما تقول أنت ؟


    قال القعقاع :أقول هذا الأمر دواؤه التسكين ، وإذا سكن اختلجوا ، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشر رحمة ودرك بثأر هذا الرجل ، وعافية وسلامة لهذه الأمة ، وإن أنتمم أبيتمإلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر ، وبعثه الله في هذهالأمة وهزها هزا ، فآثروا العافية ترزقوها ، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا وإياكم .


    وأيم الله ،إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإنني لخائف ألا يتم حتى يأخذ الله – عز وجل – حاجتهمن هذه الأمة التي قل متاعها ، ونزل بها ما نزل . قالوا : قد أصبت وأحسنت فارجع ، فإن قدم عليٌّ وهو علي مثل رأيك صلح الأمر. ([27])

    * * * *


    (3)


    بشائر النصر



    لقد نجحت وساطةالقعقاع بن عمرو حيث عاد وأخبر علي بما تم من عمله وبأن القوم موافقون علي الصلحكما يري أمير المؤمنين الإمام علي وتلاقت وفود البصرة مع وفود الكوفة وأيقن الجميعبعد مناقشة وحوار أنهم لا يريدون إلا الإصلاح ولم يختر علي الهم بالقتال ولميكتفوا بهذا الحد إنما دخل القادمون من أهل البصرة علي أمير المؤمنين ونقلوا إليهوجهة نظر زملائهم وأنهم لن يريدوا قتلا حينئذ سارع الإمام علي بتحريك جيشه إليجاني البصرة وهو لا ينوي قتالا إنما ينوي الإصلاح لأنه علم ان طلحة والزبير قد خندقا هناكوقد سكن الجميع فترة حيث وفقهم الله لإرادة الصلح وقد عبر عن ذلك صراحة وفودالبصرة ووفود الكوفة وقد رجع القعقاع منالبصرة يحمل بشائر الصلح وعاد أهل البصرة كذلك يحملون إلي إخوانهم تلك البشائرالعطرة والقي الإمام علي خطبة بليغة بهذه المناسبة .


    وقد عرض في تلكالخطبة بقتلة عثمان وقال ألا وإني راحل غدا فارتحلوا ولا يرتحلن أحد أعان عليعثمان بشيء من أمور الناس وليغنّ السفهاء عني أنفسهم ([28]) .


    لقد وقعت تلكالكلمة علي مسامع الخارجين علي عثمان والمجندين في جيش علي منزل الصاعقة ووقعت فيأنفسهم موقع الهلاك وتيقنوا بسوء مصيرهم وما ينتظرهم من عقاب وأنضم إليهم بن السوداء( بن سبأ ) ومعه بعض المصريين والمتمردين أمثال خالد بن ملجم وأخذوا يتشاورن فيمابينهم ماذا يفعلون وأن القوم قد أوشكوا علي الصلح فكيف يتصرفون وهم أقل منهم عدداوأزل نفرا فأخذوا يفكرون في مصيرهم وما ينتظرهم من سوء العاقبة فقال الأشتر نقتلعلي فنلحقه بعثمان فتكون فتنة قد يرتضي بها القوم فيسكتون .


    فقال بن سبأبئس الرأي هذا ، أنتم قلة والقوم مشتاقون إلي قتالكم قال أحدهم ننصرف عنهم فيصبحونبذلك قلة أمام عدوهم فيكونوا عدوهم أقوي عليهم . وقال بن سبأ بئس ما رأيت ، ودوالله الناس أنكم تنفردون ولم تختلطوا بقوم برءاء وحينئذ يتخطفكم الناس .


    وقد أقترحعليهم بن سبأ أخيرا أن يختلطوا بالناسفإذا ألتقي الناس غدا فأنشبوا القتال قبل أن يصطلحوا علي شيء ، من معكم يمتنع ومنعليكم يقاتلكم ، ويشغل الله طلحة والزبير وعلي عن رأيهم فلا تجيدون شيء مما تكرهونوينصرفون عما يحبون . أرتاح قتلة عثمان لذلك الرأي واجتمعوا عليه وصمموا عليتنفيذه في غفلة من الناس ويشير بن الأثير إلي محاولة قتلة عثمان أن ينفذوا رأي بنسبأ فقد ارتحل الإمام علي بجيشه من ذي قار حتى وصل إلي البصرة وكذلك صار طلحةوالزبير للقاء علي ونزلوا عند قصر عبيد الله بن زياد وتلاحقت الجيوش وظلوا في هذاالمكان ثلاثة أيام والرسل تغدوا وتروح بين علي وطلحة والزبير وإذ ببعض من الناسيشيروا علي طلحة والزبير بانتهاز فرصة الأمان تلك ويميلون علي قتلة عثمان ويتخلصونمنهم فرفض طلحة والزبير رضي الله عنهما وأدركا خطورة الإقدام علي هذه الفعلة وقالاإن عليا قد أشار بتسكين هذا الأمر وقد بعثنا إليهم بالمصالحة علي ذلك ألا تري حكمةطلحة والزبير في هذا الموقف والتي أبطلت نارا كانت سوف تنشب وتأتي علي الأخضرواليابس ([29]) .


    وقام علي فيالناس خطيبا ، فقام إليه الأعور المنقري وسأله عن سبب إقدامه علي البصرة فقال علي: الإصلاح وإطفاء الثائرة ، ليجتمع الناس علي الخير ، ويلتئم شمل هذه الأمة .


    قال الأعور :فإن لم يجيبونا ؟ . قال علي : تركناهم ما تركونا . قال : فإن لم يتركونا ؟ قال :دفعناهم عن أنفسنا . قال : فهل في هذا الأمر مثل الذي لنا ؟. قال : نعم .


    وقام إليه أبوسلام الدالاني فقال : هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادواالله في ذلك ؟. قال علي : نعم . قال : فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك ؟. قال : نعم .قال : فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا ؟. قال : إني لأرجو ألا يقتل منا ومنهم أحدنقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة .


    فلما تراءيالجمعان خرج الزبير بن العوام علي فرسه وعليه سلاحه وخرج في عقبة طلحة بن عبيدالله ، فخرج إليهما علي بن أبي طالب- رضي الله عنهم اجمعين – وتقاربوا حتى اختلفتأعناق دوابهم .


    فقال علي :لعمري لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ، فاتقياالله ، ولا تكونا ( كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ) ([30])، ألم أكن أخاكما في ديتكما تحرمان دمي وأحرم دمكما ، فهلمن حدث أحل لكما دمي ؟ قال طلحة : ألبتعلي عثمان .


    قال علي : (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ) ([31]) ، يا طلحة ، تطلب بدم عثمان ؟ لعن الله قتلة عثمان ، يا طلحة ، أجئت بعرسرسول الله r تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ؟ أما بايعتني؟ قال طلحة : بايعتك والسيف علي عنقي .


    والتفت علي إليالزبير وقال له : يا زبير ما أخرجك ؟ قال : أنت ، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ، ولاأولي به مني .


    قال علي : ألستله أهلا بعد عثمان ؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرقبيننا . ([32]) وأخذ علي يذكر الزبير بأشياء ، ويحاول أن يقنعه بأنه لا يحل له قتاله ولاالخروج عليه بعد البيعة ثم ذكره بحديث رسول الله r .



    1- الطبري ج4 صـ449 .

    2- الطبري ج4 صـ450 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ208 .

    2- الطبري ج4صـ451 .

    3- المصدر السابق صـ451 ،452 .

    4- البداية والنهاية ج7 صـ242 .

    5- الطبري ج4 صـ457 .

    1- أنظر الكامل لابن الأثير ج3 صـ210 .

    2- الطبري ج4صـ462وما بعدها .

    3- البداية والنهاية ج7 صـ242 وابن الأثير ج3 صـ212.

    4- الطبري ج4صـ465 .

    5- الطبري ج4 صـ466 .

    1- أنظر الوثيقة التي اصطلحوا عليها الطبري ج4صـ467 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ215 .

    1- البداية والنهاية ج7 صـ244 .

    2- ابن الكثير ج7 صـ244 .

    1- الطبري ج4صـ455 .

    1- الطبري ج4 ص456 .

    2- الطبري ج4 صـ474 ،480 .

    3- أنظر الطبري ج4 صـ480 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ227 ،228 .

    2- المصدر السابق صـ279 .

    3- المصدر السابق ج3 صـ230 .

    4- بن الأثير ج3 صـ232 .

    5- البداية النهاية ج7صـ248 .

    1- المصدر السابق .

    1- الطبري ج4 صـ488 ،489 وابن الأثير ج3 صـ232 ،233والبداية والنهاية ج7 صـ238 .

    1- الكامل بن الأثير ج3ص234 ،235 .

    2- بن الأثير ج3 صـ235، 236 .

    1- سورة النحل الآية (92) .

    2- سورة النور الآية (25) .

    3- ابن الأثير ج3 صـ239 .


  35. #35
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلةالثانية عشر )


    قتلة عثمان وتدبير معركة الجمل



    (1)


    جماعة ابن سبأ وتدبير الفتنة لنقضالصلح



    عرفنا فيما سبقفرحة المسلمين بقرب وقوع الصلح وبدأ الفريقان يمهدان الطريق لذلك الصلح فأرسلالإمام علي عبد الله بن عباس إلي طلحة والزبير كما أرسل الأخيران محمد بن طلحةالمعروف بالسجاد ([1]) ، وتقارب الفريقان وشعر الجميع بالفرحة الغامرة .


    أما قتلة عثمانفقد صمموا علي إنشاب القتال وإثارة الحرب بغلس قبل أن يبدو النهار ، ونهض كل فريقمنهم إلي جماعتهم ، فهجموا علي المعسكرين في آن واحد بالسيوف وهم نائمون يحلمونبالأمن والعافية وبددوا أحلامهم ، وعكروا صفوهم ، واستيقظوا مذعورين تلاحقهم ضرباتقاتلة من أولئك الفجرة وهم لا يعرفون ، فهرعوا إلي سيوفهم ، ودافعوا عن أنفسهم ،وردوا الغادرين علي أعقابهم .


    لقد ظن أهلالبصرة أن أتباع علي – رضي الله عنه – قد بيتوهم علي غرة ، وخدعوهم بكلمة الصلحالذي أعلنوه ، وشعر علي بضجة وجلبه فسأل ، ما هذا ؟ فأجابه أحد المتآمرين بأن أهلالبصرة بيتوهم وخدعوهم فتألم علي لما حدث ، واتهم كل فريق الآخر ، وسرت فيالمعسكرين لوثة الغدر والخيانة وقامت الحرب علي قدم وساق وتبارز الفرسان وتواقفالفريقان وقد اجتمع مع الإمام علي نحو عشرون ألاف ، والتف علي معسكر عائشة ومنمعها نحو من ثلاثين ألفا والسبئية أصحاب بن السوداء ماضون في القتل وبعث الإمامعلي مناديه أن ينادي آلا كفوا آلا كفوا فلا يسمع له وجاء كعب بن سوار قاضي البصرةإلي أم المؤمنين وقال لها يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس فجلست في هودجهافوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع وجاءت ورأت الناس وهم يتبارزون وكان من جملةالمتبارزين الزبير وعمار فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلنييا أبا اليقظان فيقول : لا يا أبا عبد الله وتركه الزبير وهو قادرا عليه لقول رسولالله r لعمار تقتلك الفئة الباغيةولهذا كف عنه وقد كان من سنة المسلمين في هذا اليوم ألا يجهز علي جريح ولا يتبعمدبر وقد قتل في هذه الجولة خلق كثير ([2]) .


    ولا غرو في ذلكوقد كان ظهور أم المؤمنين في ساحة الحرب أشبه بالنار تحت الرماد حيث أشتد كل فريقفي طلب الأخر فكل من الفريقين أتخذ منها دعامة تقوي موقفها وتشجعه علي الاستمرارفي المعركة لقد كان إنشاب القتال في غفلة من الفريقين سببا في ارتفاع عدد القتلىوبذلك ضاعت صيحات أمير المؤمنين في إيقاف القتال سدي ، لقد نجح قتلة عثمان في إنفاذ أمرهم حيث كان الفريقان متفقين عليألا يقتتلوا حتى يجدوا الحجة المسوغة للقتال وقد غضب الإمام عليّ لتعرض الخصوملقتلاه وقولهم أتحلوا لنا دماؤهم ولا يحل لنا سلمهم فقال علي القوم أمثالكم من صفحعنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني علي الصبر والنحر . ([3])


    ويروي بن كثيرأن عائشة أم المؤمنين لما رأت كثرة القتلي وسفك الدماء أعطت كعب بن سور مصحفا ،وقالت : أدعهم إليه ([4]). والزبير بن العوام فقد رجع وترك القتال كما قلنا حينذكره علي بقول رسول الله r : (( لتقاتلنه وأنت له ظالم )) أما طلحة فقد قتل في الجولة الأولي من المعركة جاءه سهم غرب – طائش – لا يدريمن راميه فشك رجله مع فرسه ، وظل ينزف حتى مات ، وتساقطت الرؤوس ، وملأت الأرضبجثث القتلي ، ولم يكن حينئذ بد من الدعوة إلي وقف القتال .


    من هنا أعطيتام المؤمنين كعبا المصحف وقالت : أدعهم إليه ولكن هل استجاب قتله عثمان لتلكالدعوة الكريمة ؟ لا ، إنهم لم يكن لديهم الاستعداد لقبولها إذ لو كان عندهم نيةلقبول الصلح ما أنشبوا القتال حينما كان الناس من الصلح قاب قوسين أو ادني .


    وتقدم السبئيونوكانوا في مقدمة جيش أمير المؤمنين ليفسدوا عليه كل فكرة للصلح ، وهم الذين قتلواكعب بن سور ومسلم العجلي ، وتقدموا وهم لا يقصدون إلا أم المؤمنين ، وقد رمواهودجها ، وهي تذكرهم الله واليوم الآخر ، وهم يأبون إلا الهجوم عليها والإضرار بها، حينئذ رفعت صوتها وقالت : أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم .


    وأخذت تدعو – وكانتجهورية الصوت – فضج الناس بالدعاء حتى سمع دعاؤهم في أنحاء المعسكر رغم شدة القتالوصياح المتقاتلين ، وسمع علي الضجة فسأل : ما هذا فقالوا : عائشة تدعو علي قتلةعثمان وأشياعهم . فقال علي : اللهم العنقتلة عثمان . واشتد هجوم السبئيين علي الجمل ، وتأكدت أم المؤمنين أنهم يريدونهاهي .




    (2)


    عنف القتال في معركة الجمل



    لقد أدركت امالمؤمنين عائشة أنها المقصودة للنيل منها فأرسلت إلي عبد الرحمن بن عتاب وعبدالرحمن ابن الحارث بن هشام أن اثبتا مكانكما ، وأخذت تحرض الناس علي القتالوالثبات ، وكان لتحريضها تأثير شديد في النفوس فهاجت المشاعر ، وثارت النفوس والتفالناس حول الجمل ، ودافعوا بحمية لم تعهد من قبل ، وحمت مضر البصرة حتى عصفت بمضرالكوفة ، وزعزعت صفوفها ، وتراجع الناس حتى زحموا عليا رضي الله عنه فقال لابنهمحمد – وكان معه الراية – احمل ، فتقدم بها حتى لم يجد متقدما إلا علي سنان الرمح، فأخذ الإمام علي الراية من ابنه ، وتقدم ([5]). ودارت رحي الحرب عنيفة ضاربه ،وكانت سجالا يوما لأهل البصرة ويوما عليهم ، وتزاحم الناس حول الجمل ، ولا يأخذبخطامه إلا شجاع معروف ويعرف بنفسه قبل أن يأخذ الخطام فيقول فلان بن فلان ، وكلماقتل رجل حل محله آخر حتى قتل من بني ضبة أربعون رجلا قتلوا جميعهم علي خطام الجمل، وأخذ الخطام بعد بضعة رجال من قريش قتل منهم سبعون رجلا كلهم كل واحد منهم يقتلوهو آخذ بخطام الجمل ([6]).


    وأخذ الأبطالمن الجانبين يتحدي بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا حتي أكلتهم الحرب ، وفرغ من المتقاتلين الصبر ،فتنادوا يوصي بعضهم بقطع الأطراف لعل الناس عندما تقطع أطرافهم يمسكون عن القتال ،وتطايرت الأكف والأذرع والأرجل حتى يقول ابن كثير – رحمه الله – ولم تر وقعة أكثرمن قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة . ([7])


    واخذ السبئيونيرمون الهودج بالنبال حتى صار مثل القنفذ لكثرة ما رشق فيه منها . وهنا أترك الحديث لابن الأثير يروي لنا ما دارفي هذا اليوم بين الفريقين يقول : وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة ، فكان لايأخذ الخطام أحد إلا قتل ، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد ،وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه .


    وأخذ الخطامعبد الله بن الزبير ولم يتكلم ، فقالت : من أنت ؟ فقال : ابنك ابن أختك قالت :واثكل أسماء ، وانتهي إليه الأشتر فاقتتلا فضربه الأشتر علي رأسه فجرح جرحا شديدا، وضربه عبد الله ضربه خفيفة ، واعتنق كل رجل صاحبه ، وسقطا إلي الأرض يعتركان ،فقال ابن الزبير : اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي فلو يعلمون من مالكا لقتلوه ،إنما كان يعرف بالأشتر ، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما ، وأما الأشتر النخعيفيصف ما لقيه أثناء المعركة فيقول : لقيتعبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأروغه ما لبث أن قتلته ولقيت الأسود بن عوففلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته ، ولحقني جندببن زهير الغامدي فضربته فقتلته .


    قال : ورأيتعبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش ، وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما –يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه ، وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل وهوقرشي أيضا ، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته ، وهوأزدي ، وجرح مروان ابن الحكم ، وجرح عبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة منطعنة ورمية . ([8])


    قال عبد اللهبن الزبير : مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنه وما رأيت مثل يومالجمل قط ، ما ينهزم منا أحد ، وما نحن إلا كالجبل الأسود ، وما يأخذ بخطام الجملأحد إلا قتل . ([9])


    ورأي علي أنالناس يسقطون في الميدان كورق الشجر ، وكلما أبيدت فرقة لاذ بالجمل فرقة أخرى ،وتأكد أمير المؤمنين بأن السر في احتدام الأمر وتشبث الناس بالقتال هو بقاء الجملفي المعركة ، فنادي في الناس : اعقروا الجمل فأنه إن عقر تفرقوا ([10]) .


    ثم تحين بجيربن دلجة الضبي – وهو من أهل الكوفة – فرصة ، وضرب عرقوب الجمل فخر وسقط يقول ابنالزبير : فما سمعت صوتا قط أشد من عجيج الجمل .


    وقيل لبجير :لم عقرته ؟ فقال : رأيت قومي يقتلون ، فخفت أن يفنوا ورجوت إن عقرته أن يبقي لهمبقية ([11]).


    وكانت فكرة عقرالجمل فكرة عبقري الهمه الله ذلك حتى تحقن هذه الدماء التي تهدر هدر وكانت عند أصحابهاأرخص من الهواء الذي يستنشقونه ، فما كان لأهل الكوفة أن يفروا من المعركة وهم ماحضروا إلا لنصرة أمير المؤمنين ، وكيف يفرون وهم يرون الحق معهم ؟ والفرار فينظرهم استسلام للباطل الذي مع خصمهم .


    وما كان لأهلالبصرة أن يتركوا أم المؤمنين وحيدة في الميدان ، وهي قد لجأت إليهم ولاذت ببلدهم، وإنهم ليرون نصرتها لرسول الله r فكيف يفرون ويتركون أمهم أمامخصم عنيد ؟ وقد كان حبهم لأم المؤمنين – رضي الله عنها – يدفعهم إلي الدفاع عنهاحتى الموت ([12]) .


    لقد كان الجملفي هذه المعركة رمزا للتضحية ، صرخة بالمتقين حوله تحثهم علي الثبات والصبرومجالدة الخصم ، ولهذا فقد اتفق رأي علي والقعقاع وبجير علي أن الوسيلة الوحيدةلأنهاء هذه المعركة هي عقر هذا الجمل .


    ولم يكد بجيربن دلجة ينفذ الخطة ، ويضرب عرقوب الجمل فيهوي صريعا ، ولم يكد الهودج يسقط من فوقالجمل حتى تفرق الناس ، وكان الهودج هو الذي كان يشدهم جميعا إلي القتال بغيرتفكير ولا تدبير .


    وليس المقصودمن عقر الجمل هو إنهاء القتال فقط ، ولكنه كان تعبيرا صادقا عن المحافظة علي حياةأم المؤمنين ، حيث كان هودجها غرضا اتخذه السبئيون لرميهم ، ولم يكن له من وراءذلك غاية إلا قتل أم المؤمنين ، والتخلص منها ، وبخاصة وأنهم قد تخلصوا من طلحةوالزبير ، فلم يكن هناك من يخيفهم ويقلق بالهم إلا وجودها ، فلو أنهم تخلصوا منهالخلا لهم الجو ، ولم يعد هناك من يطلب بثأر عثمان منهم .


    صحيح أن وجودمعاوية بالشام قد يعكر عليهم ذلك الحلم الجميل الذي يؤملون العيش فيه ولو إلي حين، ولكنهم كانوا يعتقدون أن معاوية لن يطلبهم إلا إذا طلبوه ، وما داموا لم يحركواإليه قوة ، ولم يطلبوا منه بيعة ، فإنه سيرضي بذلك ، وسيقنع بحكم الشام حتى تحينفرصة التوسع .


    ولكن عقر الجملوسقوطه إلي الأرض قد أنهي المعركة من جهة وفوت علي السبئيين غرضهم وأحبط كيدهمالخبيث من جهة أخرى .


    وبسقوط الجملتفرق الناس ، وانتهت المعركة ، وأمر الإمام علي محمد ابن أبي بكر أن يحمل الهودجهو وعمار بن ياسر ، ويخرجاه من وسط القتلى والجرحى ، ويضربا علي أم المؤمنين قبة ([13]) .


    وقد قال الإمامعلي لمحمد بن أبي بكر انظر ، هل وصل إليها شيء من الجراح ، فنظر محمد إلي داخلالهودج وهي لم تعرفه ، فقالت : من أنت ؟ ويلك . قال : أنا أبغض أهلك إليك .


    قالت : ابنالخثعمية ؟ قال : نعم . قالت : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي عافاك ([14]) .


    وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه ؟ قالت : لست لك بأم . قال عمار : بلي وإن كرهت. قالت عائشة : فخرتم إن ظفرتم ، وأتيتممثل الذي نقمتم ، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه .


    وأقبل وجوهالناس علي عائشة – رضي الله عنها – وفيهم القعقاع ابن عمرو ، فسلم عليها . فقالت : إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزابكذا فهل تعلم كوفيك ؟ قال القعقاع : نعم، ذلك الذي قال : ( أعق أم نعلم ، وكذب، إنك لأبر أم نعلم ولكن لم تطاعي ) . قالت : والله لوددت أني مت قبل هذا اليومبعشرين سنة ([15]) .


    وجاء علي بنأبي طالب إليهما مسلما : كيف أنت يأماه ؟ قالت : بخير ، فقال يغفر الله لك ، قالت: ولك ([16]) .


    ورأي عليالقتلى يعدون بالآلاف فحزن وتألم لذلك ألما شديدا ، وقال لابنه الحسن يا حسن ، ليتأباك مات منذ عشرين سنة فقال له الحسن : يا أبت : كنت أنهاك عن هذا ، قال علي : يا بني إني لم أرأن الأمر يبلغ هذا ، وضم الحسن إليه ثم قال : إنا لله يا حسن ، أي خير يرجي بعدهذا ([17]).


    لقد كان الإمامعلي – رضي الله عنه – حقيقا بان يندم علي ما كان ، وكيف وهو يري خيرة الناس قتليفي الميدان ؟ فها هو ذا يقف علي كعب بن سور ويقول : أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء ،وهذا الخبر قد ترون ؟ ولما رأي عبد الرحمن بن عتاب قال : هذا يعسوب القوم لأنهم قدرضوه يجتمعون عليه لصلاتهم – ورأي طلحة بن عبيد الله صريعا فقال : لهفي عليك ياأبا محمد إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لقد كنت اكره أن أري قريشا صرعي ، أنتوالله كما قال الشاعر : ([18]) .


    فتي كان يدينهالغني من صديقه إذ ما هواستغني ويبعده الفقر


    وجعل كلما مربرجل قتيل فيه خير قال : زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابدالمجتهد فيهم . وقد بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ([19])، وقيل ثلاثة عشر ألفا ([20])نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة . قتل من ضبة ألف رجل ، ومن بني عدي سبعون رجلاحول الجمل كلهم قد قرأ القرآن ([21]) .


    والحق أنالمعركة كانت رهيبة مفزعة ، وقد وصفها من حضرها عن قرب فقالوا :


    - قال القعقاع: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين ، لقد رأيتناندافعهم بأسنتنا ، ونتكئ علي أزجتنا ، وهم مثل ذلك ، حتى لو أن الرجال مشت عليهالاستقلت بهم .


    وقال عبد اللهبن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماححتى تكسرت، وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت ، ثم قال علي: السيوف يا بني المهاجرين ، فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.([22])


    وطارت أنباءالمعركة إلي أهل المدينة عن طريق النسور ، فقد مر بالمدينة قبل أن تغرب الشمس نسريطوف بماء هناك ، ورأي الناس معه شيئا معلقا ، فلما دنوا منه فإذا هو كف فيه خاتم منقوش عليه : عبد الرحمن ابن عتاب .


    وعلم من بينمكه والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام وصليعليُّ – رضي الله عنه – علي القتلي من الفريقين ، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم.


    وجمع ما كان فيالمعسكر مما ترك القتلي ، وبعث به إلي مسجد البصرة ، وقال : من عرف شيئا فليأخذهإلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.


    وسألت عائشة –رضي الله عنها – عمن قتل من الفريقين ، فكلما نعي واحد من الجميع قالت : يرحمهالله ، فقيل لها : كيف ذلك ؟. قالت :كذلك قال رسول الله r فلان في الجنة ، وفلان في الجنة. وقال علي – رضي الله عنه : إني لأرجو ألا يكون أحد نقي قلبه لله من هؤلاء إلاأدخله الله الجنة ([23]).


    وشيع علي – رضيالله عنه – عائشة ، بعد أن جهزها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك واختارلها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، وأذن علي لمن نجا من الجيش ممن كان قدم معها أن يرجع معها إلا أن يحب المقام .


    فلما كان يومالرحيل جاء علي فوقف بالباب ، وحضر الناس ، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس، ودعت لهم ، وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض أنه والله ما كان بيني وبينعلي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار .


    فقال علي :صدقت والله ، ما كان بيني وبينها إلا ذاك ، وإنها لزوجة نبيكم r في الدنيا والآخرة .


    وسار علي معهامشيعا ومودعا أميالا ، ثم سرح بنيه معها بقية اليوم ، وكان ذلك يوم السبت قرة رجبسنة ست وثلاثين ، واتجهت في مسيرها إلي مكة فأقامت بها إلي أن حجت في ذلك العام ،ثم رجعت إلي المدينة – رضي الله عنها وأرضاها ([24]). ولإظهار الحقأود أن أبرز بعض الملاحظات المهمة :-


    الأولي : علي الرغم منتلك المعركة وما نالته السيدة عائشة من جرائها فإن الإمام علي أمنها وحفظ عليهاكرامتها ولم يسمح لأحد بالتطاول عليها فقد أخبر علي بأن رجلين علي الباب ينالان منعائشة قال أحدهما جزيت عنا أمنا عقوقا وقال الآخر يا أمي توبي وقد أخطئتي فبعثالإمام علي القعقاع بن عمرو وأمسك بالرجلين وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهمامائة سوط وأخرجهما من ثيابهما . ([25])


    الثانية : ومن مظاهرعدل الإمام وحيدته التامة هو تعامله مع أهل البصرة الذين خرجوا عليه فبعد انتصارهعليهم فقد تحرى من يوليه عليها ليحسن إدارتها ويصلح أهلها فولي عليها ابن عباس كماأشار أبو بكرة وأختار معه زياد بن أبيه وهو مما أعتزل القتال ولم يشترك فيه وعينهعلي الخراج وبيت المال ليعيد بذلك الطمأنينة لأهل البصرة . وقد وفق أمير المؤمنين في اختياره ذلك الرجلحيث كان محايدا لم يشترك في حرب ويناصر أحد الطرفين وهكذا نري حنكة أمير المؤمنينعلي في إدارة الأمور واحترامه لحق الغير ومحافظة علي حرمات المسلمين وكذلك نراه فيهذه المعركة يختصم لله تعالي يغضب للحق وليس لطرف علي طرف ولا حزبا دون حزب فهويجلد الرجلين اللذين أساءا لزوجات النبي حرصا علي حرمات المسلمين وتأدبا مع أمهاتالمؤمنين وزوجات النبي r .


    الثالثة : هي موقف أميرالمؤمنين من الخصومة التي دارت بينه وبين وطلحة والزبير وأم المؤمنين جهة أخرى وقد كان الهدف الأسمى هو الإصلاح مااستطاع إليه سبيلا فهو يرغب بتصحيح وضع ظهر من قتلة عثمان ومع ذلك فهو لم يستبح أنينال أحدا من الطرف الآخر أو أن يحقر من شأنه بل نراه يحافظ علي مكانة أم المؤمنينوطلحة والزبير باعتبارهما من السباقين في الإسلام .


    رابعا : ومن المواقفالمثيرة موقف عمار بن ياسر ذلك الصحابي الجليل وهو من المؤيدين لأمير المؤمنين عليوقد وقف موقفا مع الزبير بن العوام الذي كان من خصوم أمير المؤمنين علي رضي اللهعنه ، وقد بارز كلا منهما الآخر وأخذ يتبارزان وجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كافعنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظان فيقول له عمار لا يا أبا عبد الله . لا أدريمدي صحة تلك الرواية ولكن مما يلفت النظر أن هؤلاء المقاتلين سرعان ما يثوبون إليرشدهم إذا ذكروا بقول من أقوال الرسول e ، فمن الثابت أن الزبير رضيالله عنه يعلم من الرسول e أن عمارا ستقتله الفئة الباغيةولما رآه أنضم إلي الإمام علي فوجد نفسه هو الفئة الباغية فسرعان ما أنسحب منالمعركة . ([26])

    * * * *




    (3)


    تخرصات وأباطيل حول موقعة الجمل



    ورد حول موقعةالجمل روايات كثيرة متضاربة قد يضيع فيها وجه الحق وقد يصعب علي الباحثين الوصولإلي الحقيقة المنشودة فالمدينة تضطرم بالمتمردين والسبئيين ومنهم من خرج يطالببالثأر بقتلة عثمان ومنهم من وقف بجانب علي بن أبي طالب لتثبيت أركان الخلافة أولاثم القصاص بعد ذلك من قتلة عثمان ومنهم من لزم الحياد واعتزل الحياة ومن خلال هذا الخضم وذلك المستنقع سوف نتحدث عنبعض الروايات المتضاربة ليتضح للقارئ المسلم بعض الروايات الصحيحة وأن يستنبط وجهالحق منها أو يقترب من ذلك الوجه إن عجز إلي ذلك سبيلا :


    أولا : منصاحبة الجمل ، وماذا قيل عنها ؟


    صاحبة الجمل :هي السيدة عائشة بنت أبي بكر وزوج رسول الله w وقد خرجت من مكة بعد أداء عمرة تريد المدينة فلما كانت عند مكانيعرف بسرف لقيها عبيد الله بن أبي سلمة فقال ما وراءك ؟ قال : اجتمعوا علي بيعةعلي . وأريدك أيها القارئ أن تنتبه إلي رد السيدة عائشة كما صورته بعض المراجع :


    يقول ابن الأثير أنها قالت : ليت هذه انطبقت علي هذهوتعني انطباق الأرض علي السماء إن تم الأمر لصاحبه . ردوني : فانصرفت إلي مكة وهيتقول : قتل مظلوما والله لأطالبن بدمه فقال لها : ولم ؟ ثم قال لها ما معناه واللهإن أول من أظهر العيب علي عثمان لأنت تقولين : أقتلوا نعثلا ([27]) ، لقد كفر ! . " فيبدوا هنا تناقضها حول مقتل عثمان" . ولكنها قالت : إنهم استتابوه ثمقتلوه فقد قلت وقول الأخير خير من قول الأول فقال لها عبيد الله ابن أبي سلمة : ([28]) .

    فمنك البداءومنك الغيـر ومنك الرياحومنك المطر


    وأنت أمرت بقتلالإمام وقلت لـنـا إنه قـدكفر



    ويروي صاحبكتاب الإمامة والسياسة أن عائشة خرجت باكية تقول قتل عثمان رحمه الله مظلوما وقاللها عمار : بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكينه ([29]).


    ويقول ابنالأثير : فانصرفت إلي مكة فقصدت الحجر فتسترت به فاجتمع الناس حولها فقالت : أيهاالناس ، إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وعبيد أهل المدينة ، اجتمعوا علي هذا الرجلظلما ، ونقموا منه استعماله من حدثت سنة . وقد استعمل أمثالهم من كان قبله : فلمالم يجدوا حجة ولا عذرا سفكوا الدم الحرام ، واستحوا البلد الحرام ، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام ([30]) .


    فاجتمع الناس ،ثم ذهبوا إلي البصرة ، ليحرضوا أهلها ضد علي بن أبي طالب . وقالوا : إن عائشة كانتتحمل في نفسها كراهية لعلي بن أبي طالب ، من يوم أن قال لرسول الله في حادث الإفك (( النساء كثيرات )) ([31]).


    ثانيا : هللمثل السيدة عائشة وهي في مكانتها المرموقة أن تأتي بهذه الأخطاء ؟


    اعتقد أن ماروي عن السيدة عائشة في هذا الصدد انما هو مجرد كذب واحتال فهذا لا يليق بأمالمؤمنين عائشة رحمها الله فما كانت لتتهور في مواقف متناقضة كتلك التي رويت وهيالتي رشحها الرسول w ليغرف من علمها المؤمنونوليهتدوا بهدي ما أثرته عن النبي w فهل يعقل أن تتناقض في قولهاوتأمر بقتله فإذا ما تم ذلك تكون علي رأس من يطالب بدمه وهل هذه أخلاق أمهاتالمؤمنين ؟ وليس ما روي عنها هذا يثير الضحك والدهشة حينما قالوا عنها لقد قلتوقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول وهي التي تعرف عن عثمان الكثير وتحفظ له مقامه أليست هي القائلة عنهحينما سألوها ان الناس يشتمون عثمانا فقالت ( لعن الله من يلعنه والله لقد كانقاعدا عند نبي الله وأن رسول الله مسند ظهره إلي وأن جبريل ليوحي إليه القرآن وإنيلأمسح العرق عن جبين رسول الله وإنه ليقول لعثمان أكتب يا عثيم فما كان الله لينزلتلك له الا كريما علي رسول الله) . ([32])


    أما قول هؤلاءالرواة أن عائشة كانت تحقد علي الإمام على ولا تذكره إلا باسمه فإن هذا أيضا مجردكذب وبهتان فما كانت السيدة عائشة ينطوي قلبها علي الحقد علي أيا من أصحاب النبي w وهي الصديقة بنت الصديق الذي تمثلت بأخلاق أبيها وزوجها النبيالهادي فكيف تحقد وقد نزل فيهم آيات من القرآن الكريم تشير بفضلهم وتأمرهم بأنيعفوا ويتسامحوا يقول الله تعالي ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتواأولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أنيغفر الله لكم والله غفور رحيم ) ([33]) . وسمعها أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : (( إني لأحب أن يغفر الله لي )) وأعطي مسطحاأكثر مما كان يعطيه من قبل ...


    ثالثا : لماذا خرجت السيدة عائشة إلي البصرة ؟


    بعد الذيذكرناه مما يعرف لأم المؤمنين من السداد في الرأي والحكمة في التصرف – بعد هذا –يخطر في بال المتتبع للحوادث هذا السؤال ؟ فلماذا إذن . خرجت أم المؤمنين ومعها طلحة والزبير إلي البصرة إذا لم يكنهدفهم المطالبة بدم عثمان ، بدافع البغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟


    والجواب عليهذا السؤال ، لا نعتمد فيه علي العاطفة والاستنتاج ولا نستغل حبنا لأم المؤمنينرضي الله عنها ، نستعمل تقديرنا للصحابيينالجليلين : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، اللذين بشرهما رسول اللهبالجنة ... – لا نعتمد علي شيء من ذلك ... وإنما نضع بين عيني القارئ نصوصاوأخبارا ، رواها المؤرخون في غمار هذه الفتنة ، ولكنها تضاءلت وغطاها ركام الأغراضالخبيثة ، وما غمر كتب التاريخ من شائعات ، كانت مرتعا خصبا لخيال القصاص والشعراء. إقرأوا معي – إن شئتم – هذه الروايات :


    1- وروي ابنالأثير في كتاب ( الكامل ج3 ص108 ) أنعثمان ابن حنيف أمير البصرة أرسل إلي أم المؤمنين ، رجلين يسألانها عن سبب مسيرها؟ فقالت : والله ، ما مثلي يغطي لبنيه الخبر .. وإن الغوغاء ونزاع القبائل ، غزواحرم رسول الله e ، وأحدثوا فيه ، وآوو المحدثين، فاستوجبوا لعنة رسول الله e ، مع ما نالوا من قتل إمامالمسلمين ، بلا ترة ولا عذر ، فاستحلوا الدم الحرام فسكفوا ، وانتهبوا المالالحرام ، وأحلوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ... فخرجت في المسلمين أعلمهم ماأتي هؤلاء وما الناس فيه وراءنا ، وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القضية ... وقرأت : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بينالناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف تؤتيه أجرا عظيما { ([34]) .


    2- ومن أوضحالأدلة علي أن أم المؤمنين ، لم تكن تقصد – بخروجها – تفريق الجماعة ولا شفاء حقدبينها وبين علي : ان الذين طلبوا منها الخروج – وهم طلحة والزبير ومن معهما –كانوا يعلقون آمالا علي خروجها ، في حسم النزاع وجمع الشمل .


    وفي ذلك يقولابن العربي في العواصم من القواصم ص152 : (( فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها ، رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم ، فيراعوا حرمة نبيهم ، واحتجواعليها عندما حاولت الامتناع – بقول الله تعالي : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بينالناس { ([35]). ثم قالوا لها : إن النبي قد خرج في الصلح وأرسل فيه .


    قال ابن العربي: (( فرجت المثوبة ، واغتنمت الفرصة ، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها )) .


    3- يروي الطبري( الأمم والملوك ج5 ص169 والكامل ج3 ص119 -120 ) أن عليا ، عندما وصل إلي البصرة ،أرسل القعقاع بن عمرو ، ليقوم بالوساطة بينه وبين أصحاب الجمل ، فلما رجع القعقاع، أخبر أنه قد استجاب له أصحاب الجمل ، وبعث إلي طلحة والزبير يقول : (( إن كنتمعلي ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو ، فكفوا ، حتى نزل فنظر في الأمر ... ))فأرسلا إليه : (( إنا علي ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس )) .


    قال الحافظ ابنكثير ( الكامل لابن الأثير ج3 ص123) : (( واطمأنت النفوس وسكنت ، فرجع كل فريقبأصحابه من الجيشين ، فلما أمسكوا بعث علي (( عبد الله بن عباس )) إليهم ، وبعثوا(( محمد بن علي السجاد )) إلي علي ، وعولوا – جميعا – علي الصلح ... وباتوا بخيرليلة ، ولم يبيتوا بمثلها للعافية ، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوهاقط ، قد أشرفوا علي الهلكة ، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا – في السر– علي إنشاب الحرب .


    ويقول ابنالأثير ( الكامل ج3 ص 120) إن الأشتر النخعي ([36]) ، قال : (( قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا . وأما علي فلمنعرف رأيه اليوم ، ورأي الناس فينا واحد فإن يصطلحوا مع علي ، فعلي دمائنا .فهلموا بنا نثب على علي رضي الله عنه وطلحة فنلحقهما بعثمان ، فتعود فتنة يرضيفيها منا بالسكون . يعني أنهم يفلتون بها من الحد في دم عثمان رضي الله عنه .


    هكذا كانت فكرةالصلح ، هي المسيطرة علي عقول القوم من الطرفين ، كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه، حتى في وقت استعدادهم للقتال .





    وفي أثناءتنظيم الجيوش ، قال ابن الأثير ( الكامل ج5 ص122) :


    ولما خرج طلحة، نزلت مضر جميعا وهم لا يشكون في الصلح ، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون فيالصلح ، ونزلت اليمن أسفل منهم وهم لا يشكون في الصلح ثم يقول : فكان بعضهم يخرجإلي بعض ، لا يذكرون إلا الصلح .


    وكان أصحاب عليعشرين ألفا ، وخرج علي وطلحة والزبير ، فتوافقوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ،ووضع الحرب فافترقوا علي ذلك ... الخ .


    واقرأوا أيضا ،رد السيدة عائشة علي السيدة أم سلمة ، حيث قالت لها (( ما أقبلني لوعظك وأعلمنيبنصيحتك ، ولنعم المطلع مطلع فزعت فيه إلي فئتان متناحرتان ([37]) .


    4- يروي القاضي ابن العربي في كتابه ( العواصم من القواصم ) ص 151 أنهيحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان .


    5- ويروي هذا المرجع أنه يمكن أن يكونوا قد خرجوا في جمع طوائف المسلمينوضم نثرهم وردهم إلي قانون واحد ، حتى لا يضطربوا فيقتتلوا .


    وهذا هو الصحيح . لا شيء سواه .. وبذلك وردت صحاح الأخبار .


    6- يروي ابن حجر في ( فتح الباري ) ج13 ص41 ، فيقول : (( إن أحدا لم ينقلأن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا لأحد منهم ، ليولوه الخلافة)) .


    7- ويروي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (( مختصر سيرة الرسول )) ص141فيقول : وبلغ الخبر عائشة – وهي حاجة – ومعها طلحة والزبير ، فخرجوا إلي البصرةيريدون الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة .


    8- ويقول القاضي ابن العربي ، في معرض الرد علي من قال : إن أهل البصرة لماعرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير ، خرجوا ليقاتلوهم وعلي رأسهم (( حكيم بن جبلة ))... قال ابن العربي – في شأن حكيم بن جبلة – (( عن أي شيء كان يدافع ؟ وهم ماجاءوا مقاتلين ولا ولاة ... وإنما جاؤوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة؟ فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقاصدهم كما يفعل في سائر الأسفاروالمقاصد . ([38])


    9- لقد أدرك المفسدون ، أن الصلح سيسلم رقابهم لسيف أمير المؤمنين .


    وانتهزها – كذلك – دعاة السوء من منافقي اليهود ، الذين ما تزال صدورهمتغلي حقدا علي الإسلام والمسلمين – انتهزوها فرصة العمر – فوقف عبد الله بن سبأ ،المعروف (( بابن السوداء )) يقول . ( يا قوم ، إن عزكم في خلطة الناس . فصانعوهم .فإذا التقي الناس غدا ، فأنشبوا القتال ، ولا تفرغوهم للنظر . فمن أنتم معه ، لايجد بدا من أن يمتنع – أي عن الصلح – ويشغل الله عليا ، وطلحة . والزبير ، ومن رأيرأيهم .. عما تكرهون ... فأبصروا الرأي ، وتفرقوا عليه ، والناس لا يشعرون )) ! .


    الحلقة المفقودة


    هي التي يمكنناان نقرأها ، من بين السطور المضطربة في هذه الحقبة المظلمة في كتب التاريخ ، إذاانتزعنا أنفسنا من عصرنا هذا ، وعشنا مع هؤلاء القوم في حقبتهم وبيئتهم ، التي لايزال يتلألأ في جوانبها نور النبوة وضياء الإيمان .


    كان المحورالذي يدور حوله الخلاف بين علي رضي الله عنه وكل المخالفين عليه ، هو أمر قتلةعثمان . فكل المسلمين – في هذه اللحظة –مجمعون علي وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان . وإن الذي تولي الحديث عن المقتول هو معاوية بنأبي سفيان ، ولما طلب إليه أن يبايع عليا ، لم يمانع في البيعة ، ولكنه اشترط أولا: تسليم قتلة عثمان أو إقامة الحد عليهم .


    ويؤيدنا في ذلكما رواه إمام الحرمين في كتابه : ( لمع الأدلة ) حيث يقول : ومعاوية – وإن قاتلعليا – فإنه لا ينكر إمامته ، ولا يدعيها لنفسه .... وإنما كان يطلب قتلة عثمانرضي الله عنه ، ظانا أنه مصيب وكان مخطئا ([39]) .


    ولم يسبق إليذهن أحد من المسلمين في المدينة ، أن هذا الطلب اتخذ ستارا للوصول بمعاوية إليالخلافة ، ولم تكن فكرة (( قميص عثمان )) قد اتخذت مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعللبغيره للوصول إليه . وإنما كان مفهوم هذا الطلب صريحا : انه إقامة حد من حدود الله، لا ينبغي التفريط فيه ... لا من الرعية ولا من الراعي .


    وكان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، يري هذا الرأي ولا ينكره وإنما شرح أسباب تأجيل النظرفيه حتى يتم له الأمر ، وتبايعه الأمصار الإسلامية كلها . وحينئذ ، يستطيع أن ينفذحكم الله في المجرمين . فقال في أول يوم من بيعته ، عندما سأله طلحة والزبير –ومعهما جمع من الصحابة – في أمر قتلة عثمان : (( يا أخوتاه لست أجهل ما تعملون ،ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ ها هم هؤلاء قد صارت معهم عبدانكم ،وثابت إليهم أعرابكم . وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعا لقدرة علي شيءمما تجدون ؟ قالوا : لا قال : فوالله ، لا أري إلا رأيا ترونه – إن شاء الله – إنهذا الأمر أمر جاهلية – يعني الثأر – وإن لهؤلاء مادة فأهدأوا عني حتي يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها ، وتؤخذ الحقوق ([40]) .


    كان هذا رأيعلي بن أبي طالب ، بسبب الظروف التي أحاطت بأهل المدينة وقتئذ ، وبسبب تمكن الثوارمن الدفاع عن أنفسهم بينما كانت وجهة نظر معاوية والمطالبين بدم عثمان : أنه لا بدمن القصاص أولا . ثم البيعة بعد ذلك .. فأصبح الرأيان لا يلتقيان أبدا . وفي الأمةحرص شديد علي الوحدة وجمع الصفوف .


    فإذا يكون الحلإذن ، وكلا الطرفين مصر علي رأيه لا يتزحزح عنه قيد أنملة ؟ .


    ومع هذاالتعقيب والإصرار ، يبدو للناس الوجهان وجيهان . فالذين يلتقون بعلي يقتنعونبسلامة رأيه . والذين يلتقون بمعاوية ، يعتقدون أن الحق معه .. فما هو المخرج منهذه القضية التي سلم الناس بسلامة طرفيها ؟.. إذن ، لابد من التماس الحل الذي يمكنأن يلتقي الطرفان في دائرته .


    ولقد بحث هذاالأمر قطبان من أقطاب الإسلام ، بشرهما رسول الله بالجنة وهما : طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام ، فوجدا الحل عند أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله وأقرب نسائهإلي قلبه ، والمصدر الصادق الذي يثق المسلمون به رسول الله w .


    واصبح الأمر –في نظر طلحة والزبير – وقد ذللت كل العقبات في الطريق إذا تولته أم المؤمنينبنفسها . فمتي علم المسلمون أن أمهم يهماوحدة المسلمين ، ويغضبها تفرقهم وأن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا إذا تم القبض عليالمجرمين الذين قتلوا عثمان – سواء كانوا في البصرة أو في الكوفة ، أو في مصر –وأن أم المؤمنين إذا نادت بهذا فستجد من المسلمين جوابا واحدا ، هو القبض علي كلالمتهمين بقتل عثمان – عند ذلك تكون المشكلة قد انحلت من أساسها ، وتكون قد أعفتعليا من حرب داخلية ، كان يخشاها ، فيعود المسلمون في سيرهم الطبيعي ، الذي كانوا يسيرونهفي عهد عمر وعهد عثمان .


    الله يشهد أنهذا الهدف – أو قريبا منه – هو الذي ينبغي أن تشد إليه أم المؤمنين رحالها إليالبصرة من مكة . وكانت تعتقد أنها – هي تمثل رسول الله في تحقيق المعني المقصود منالآية الكريمة } لا خير في كثير من نجواهم إلامن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس { ([41]) – كانت تعتقد أنها إنما تقوم بواجبها كاملا ، في القضاء علي خلاف عجزالمسلمون عن التغلب عليه ، كما كان طلحة والزبير كذلك ، يعتقدان أنهما تقربا إليالله بإقناع ام المؤمنين ليجتمع الشمل تحت رايتها ، ويستجيب المسلمون لها : تقديسالحرمة رسوله الله في شخص أم المؤمنين .


    ويؤيدنا في هذاالاتجاه ، ما رواه ابن الأثير ، من ان القعقاع بن عمرو ، بعثه علي رضي الله عنهإلي البصرة ، فوجد هناك ام المؤمنين ، فسألها وقال : أي أمة ، ما أشخصك وما أقدمكهذه البلدة ؟ فقالت : أي بني ، الإصلاح بين الناس . قال : فابعثي إلي طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما . فبعث إليهما ، فجاءا فقال لهما إني سألت أم المؤمنينما اقدمها . فقالت : الإصلاح بين الناس . فما تقولان أنتما ؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا : بل متابعان . قال : فاخبراني ما وجه هذا الصلاح ؟ فوالله لئن عرفناهلنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح . قالا قتلة عثمان ، فإن هذا – إن ترك – كان تركاللقرآن ... الخ . ([42])


    رابعا : هلبايع معاوية عليا أم تزرع بقميص عثمان ؟


    إن أسبابالخلاف التي دارت بين علي ومعاوية تكاد تتركز جميعها حول موضوع ( قتلة عثمانوضرورة القود وهذا أمر لا يحتاج إلي تدليل أو تأكيد فكل المسلمين آنذاك كانوايطالبون بإقامة الحد وتنفيذ القصاص من قتلة عثمان وأن ولي عثمان والذي طالب بالثأركان متمثلا في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .


    وتختلفالروايات حول أمر بيعة معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ومها أختلفت تلكالروايات فأغلبها ضعيف وأسانيدها ضعيفة لكن الذي نميل إليه أن معاوية لم يرفض بيعةعلي وإنما أشترط أن يسلم إليه قتلة عثمان أو يقيم الخليفة الحد عليهم ، وإن كان معاوية قد قاتل عليا وأعتقد أنه قاتلهلا لأنه ينكر إمامته او خلافته أو يدعهيا لنفسه وإنما قاتله بسبب عدم تسليم قتلةعثمان ولم يكن القتال اعتراضا علي إمامة علي حتي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يري ذلك الرأي ولا ينكره وإنماشرح للمسلمين أسباب تأجيل القصاص حتى تستقر له أمور الخلافة وتبايعه الأمصار كلهاحين أذن يكون لديه من القوة والهيبة ما يمكنه من القصاص من قتلة عثمان ولاسيماأنهم كثيرون وتغص بهم شوارع المدينة وهم متحكمون في شئون الخلافة ومهيمنون عليكثير من السذج والرعاع ، وقد طمأنهم أمير المؤمنين علي انه سوف يأخذ بثأر عثمانوترد الحقوق إلي أهلها وقد عبرنا قبل ذلك في أكثر من موضع بكلام أمير المؤمنين عليفي هذا الشأن . ([43])


    أما ما قيل عنقميص عثمان والذي سار مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعلل بغيره للوصول إليه إنما هذا فيهظلم إلي معاوية بن أبي سفيان فقد كان الرجل واضحا في طلب الثأر وليس في حاجة إليأن يعلق قميص عثمان في الشام ليثير المسلمين ضد علي .


    ويري الدكتورإبراهيم شعوط أن المخرج من هذه القضية والحل الناجع هو ما قامت به أم المؤمنينعائشة وقد رأيا اثنان من صحابة النبي ومن المبشرين بالجنة وهم طلحة بن عبيد اللهوالزبير بن العوام إذ وجدا الحل هو ما قامت به أم المؤمنين أقرب نساء النبي إليقلبه إذ قامت بالأمر بنفسها تلم شعث المسلمين وتجمع فرقتهم وتدعوا إلي القبض عليقتلة عثمان .


    خامسا : ماموقف الصحابة من تلك الحيرة وهل كانوا ايجابيين في مواجهة تلك الشدة ؟


    لقد اشتدتالفتنة وعمق المخاض فيها واشتبهت الأمور علي الصحابة فصار كل فريق منهم يعملباجتهاده ووفق ما يراه . فالذين تساوي لديهم الطرفان ولا يرجح أحدهم علي الآخر وقدوقفوا موقف الحياد مثل أبي موسي الأشعري الذي قال حينما جاءه من يطلب منه الانضمامإلي علي بن أبي طالب قال : ( هذه فتنة صماء النائم فيها خيرا من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خيرمن الماشي ، فلا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنةواقطعوا الأوتار ، وأووا المظلوم المضطهد ، حتى يلتئم الأمر وتنجلي هذه الفتنة ([44]).


    كما كان هناك من الصحابة من ظهر لهم أنالحق في جانب علي بن أبي طالب فوقفوا معه إحقاق للحق وإيمانا منهم بأنهم مسئولونأمام الله إذ تخلفوا عن نصرة الإمام علي مثل أبن عباس وعمار بن ياسر وغيرهما . أماالصنف الأخير من الصحابة الذين اعتقدوا أن الحق في جانب المطالبين بدم عثمانوبضرورة إقامة الحد والقصاص أولا . فإنهم حاربوا ضد علي بن أبي طالب بدافع الإيمانوالصدق لا بدافع الضغائن الشخصية والمنافع الدنيوية الزائلة .


    ويؤيد ما قلناه أن الصحابة كل صاحبي كانيعمل من منظور إيماني يراه هو الأولي ، وما قاله الإمام علي عند وصوله إلي البصرةإذ سأله الأعور بن بيان المنقري عن سبب إقدامه فقال له علي : ( الإصلاح وإطفاءالثائرة ، لعل الله يجمع الشمل في هذه الأمة بنا ...... ثم سأله أبو سلامة الدلانيفقال : ( أتري هؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أراد الله بذلك ؟ قال نعم ، قال :أتري لك حجة بتأخيرك ذلك ؟ قال : نعم ، إن الشيء إذا كان لا يدرك ، فإن الحكم فيهأحوطه وأعمه نفعا – قال : فما حالنا وحالهم ، إذا ابتلينا غدا ؟ قال : إني لأرجوأن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله ، إلا أدخله الله الجنة ([45]).


    وكان الإمام علي رحمه الله يتوجع كثيراعلي القتلى ويشتد حزنه ويترحم عليهم فكان يقول إن من قاتل فقتل وهو لا يريد بقتالهإلا الحق ولا يبغي إلا رضا الله فهو شهيد ويقال أنه حينما جيء إليه بسيف الزبيردعا علي من قتله ، وأخذ يشيد بمواقفه يوم أحد ، وحينما تفقد القتلى ووجد طلحة بنعبيد الله صريع ملقى علي الأرض فقال : ( لهفي عليك يا أبا محمد إن لله وإن إليهراجعون والله لقد كنت أكره أن أري قريشا صرعى : أنت والله كما قال الشاعر :




    فتي كان يدينه الغني من صديقة إذا ما هو استغني ويبعده الفقر ([46]) .


    (4)


    تعليق عام علي معركة الجمل :



    1) إن حصادالمعركة مر مرارة لا يستسيغها أحد من المنتصرين أو المنهزمين فمسلم يقاتل مسلمافما قيمة النصر هنا او الخسارة هناك إن القتل الكثير التي فاقت العشرة آلاف منزهرة شباب المسلمين لتجعلنا دائما في حسرة لا تنقطع ولك أن تتخيل الصراخ والمآتمالتي أقيمت هنا وهناك دون فائدة تعود علي المسلمين وقد عبر طلحة عن تلك المأساةالكبرى حين سأله علقمة بن وقاص حينما رآه مطرق الرأس يحب الانزواء والابتعاد عنالناس فقال له علقمة يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتكعلي صدرك أن كرهت شيء يطلب فجلس فأجاب طلحة يا علقمة بينما نحن يد واحدة علي منسوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا . ([47])


    لقد قالها طلحةووعاها جيدا من نبيه الكريم إن وحدة المسلمين كانت دائما أشد علي عدوهم من السلاحلقد توزعت العشرة آلاف قتيل علي القبائل أغلبهم قد حفظ القرآن وعلمه لغيره إنهالفجيعة كبري إذ نري من هؤلاء القتلى طلحة بن عبيد الله الذي أثني عليه رسولناالكريم وسماه طلحة الخير والزبير بن العوام حواري رسول الله r ومحمد بن طلحة المعروف بالسجاد لكثرة سجوده وعلامتها علي وجههوكعب بن سور قاضي البصرة ومن أجل هذا نري الأمام علي يبادر ليوقف شلال الدم وأنيقضي علي تلك الفتنة وأن يعيد الوحدة للمسلمين تلك الوحدة التي فرضها الإسلام .ولإتمام هذا الأمر يسارع الإمام علي بأخذ البيعة ممن لم يبايع من قبل فقد دخلالبصرة كما يقول بن الأثير وجاء الناس علي غايتهم فبايعوه ولم يتخلف عن البيعة احدولم يستكره أحد في بيعته . ([48])


    2) لقد كانتتلك المعركة سببا في إن اجترأ المسلم علي أخيه المسلم وقد عرف المسلمون من قبل أنحمل المسلم للسلاح علي أخيه المسلم يؤدي به إلي النار فالرسول الكريم يقول ( إذاالتقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) ([49]). فقد تغير هذا الفهم الصحيح الذي أفضي بالمسلمين إليتلك النكبات وقد قام المدلسون والكذابونفنسجوا أحاديث كاذبة نسبوها إلي رسول الله r وألف بعضهم خطبا نسبوها إليالإمام علي وجد فيها المستشرقون والحانقون علي الإسلام مادة خصبه للطعن في الإسلاموفي صحابة النبي r .


    3) وكما ينبغيأن ندرك تماما ونحن في صدد تحليل تلك الأحداث أو التعليق عليها أن ندرك تماما أنالصحابة والتابعين بشر ، فهم ليسوا معصومين من الخطأ ويجب ألا نضعهم موضع التقديس، ولكنهم رجال لهم زمانهم ولهم بيئتهم الجغرافية المختلفة عن غيرها والإنسان دائماابن زمانه ومكانه فهؤلاء الصحاب خاضوا تجارب عديدة حتى استقامت لهم أنظمتهمالاجتماعية وهم يخططون وقد يوفقون وقد يخطئون وهذه هي طبيعة البشر ولكنهم تعلموامن نبيهم الكريم أن يكونوا دائما مجتهدين أعمالهم كلها لله فإن أصابوا فلهم أجرانوإن أخطئوا فلهم أجر الاجتهاد .


    4) وما علينانحن المسلمين أبناء اليوم إلا أن نتأمل تجاربهم التي نجحوا أو أخطئوا فيها حتىنأخذ العظة والعبرة التي تصحح طريق الحياة وأعود فأكرر أن الصحابة بشر ينبغي عليناأن نتصورهم هكذا ، والرسول r هو مثلنا الأعلي حينما أشارالقرآن بقوله ( قل إنما أنا بشرا مثلكم يوحى إلي أنما إلهاكم إله واحد ) ([50]) ، فهذه الحقيقة التي تسري علي الرسول ينبغي أن تنسحب علي أصحابه الكرام الذينآووا ونصروا كما أننا حينما ندرك أنهم بشر فينبغي علينا أن نحترمهم وأن نجلأقدارهم لأنهم أصحاب النبي r وحواريه وهم المثل العلياوالشموع التي انصهرت لتهدي الناس وهم الذين أظهروا الصواب والخطأ لذا حذرنا الرسولr من الوقوع فيهم ، يقول النبي r : ( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أنأحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) ([51]) .


    ومن هذاالمنطلق ومن خلال نظرتنا للصحابة علي أنهم بشر يصيبون ويخطئون ومن خلال تربيتهم فيمدرسة النبوة علي صاحبها الصلاة والسلام يمكننا أن نحلل موقف أم المؤمنين عائشةرضي الله عنها وخروجها إلي البصرة . فما الأسباب التي دفعتها إلي ذلك الخروج وهلهي أسباب كافية لخروجها بصفتها رمز من الرموز الكبرى لعصر النبوة .

    * * * *


    (5)





    خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها


    أسبابه ودوافعه ومراميه





    لقد خرجت أمالمؤمنين عائشة للإصلاح ولم الشمل ولم تكن من دعاة الفتنة ، فبعد ذهابها إلي مكةلأداء العمرة استمعت إلي رأي لطليحة والزبير وعبد الله بن عامر حيث قال لها يا أمالمؤمنين ، دعي المدينة فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها ، ،واشخصيمعنا إلي البصرة ، فإنا نأتي بلدا مضيعا ، وسيحتجون علينا فيه ببيعة عليّ بن أبيطالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة ثم تقعدين ، فإن أصلح الله الأمر كان الذيتريدين وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد . ([52])


    والحقيقة أنخروج أم المؤمنين التي تعد أسوة حسنة للمؤمنين جميعا ، وانسياقها وراء الصاحبينالجليلين يعد خطأ في حقها ؛ ولم يكن لخروجها وجه شرعي كما يري كثير من الكتابوالمؤرخين . وكانت أم المؤمنين – أم سلمة – رضي الله عنها – أصرح الناس في عتابهالعائشة حين خرجت مع طلحة والزبير إلي البصرة ، فلم تهادنها ، ولم تسكت علي خروجهافي غير وجه شرعي بل كتبت إليها وذكرتها بواجبها في مثل هذا الموقف المشتبه فقالت :( أما بعد فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته ، وحجابك مضروب علي حرمته ، قد جمعالقرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه ، وسكن عقيرتك فلا تصحريها ، الله من وراء هذهالأمة ، قد علم رسول الله r مكانك لو أراد أن يعهد إليك ،وقد علمت ان عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن انصدع ) .


    حماديات النساءغض الأبصار وضم الذيول ، ما كنت قائلة لرسول الله r لو عارضها بأطراف الجبال والفلوات علي قعود من الإبل من منهل إليمنهل ؟ . إن بعين إله مهواك ، وعلي رسول الله r تردين وقد هتكت حجاله الذي ضرب الله عليك ، وتركت عهيداه ، ولوأتيت الذي تريدين ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحيت أن ألقي الله هاتكة حجابا قد ضربعلىّ ، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصانك ، فابغيه منزلا لك حتى تلقيه فإن أطوع ماتكونين إذا ما لزمته ، وأنصح ما تكونين إذا قعدت فيه ولو ذكرتك كلاما قاله رسولالله r لنهشتني نهش الحية ، والسلام ([53]) .


    وقد تلقت أمالمؤمنين تلك الرسالة بأدب جم ثم بينت سبب مسيرها إلي البصرة وقالت ما أقبلنيلوعظك ، وأعلمنني بنصحك ، وليس مسيري علي ما تظنين ، ولنعم مطلع فزعت فيه إليفئتين – متناجزتين ، فإن أقدر ففي غير حرج ، وإن أحرج فلا غني بي عن الازدياد منهوالسلام ([54]) .


    وهكذا نفهم منرد أم المؤمنين عائشة علي رسالة أم سلمة أنها خرجت تبغي الإصلاح بين المسلمين وأنتقرب بين الفئتين المتنازعتين ويمكننا أن نعفيها من اللوم ونوجهه إلي طلحة والزبيراللذين أدخلا أم المؤمنين في هذا المستنقع الذي لا يليق بها أبدا كزوجة لرسول اللهمن ناحية ولكونها أم المؤمنين من ناحية أخري .


    كما أننا ينبغيأن نأخذ تصرف هؤلاء الثلاثة علي المحمل الحسن والنية الطيبة في خروجهم للاقتصاص منقتلة عثمان ، وهذا هو التصرف اللائق في هذا الموقف فقد قتل عثمان مظلوما دون أنيدفع عنه أحد أو يقف إلي جواره فشعروا بالتقصير والندم ودفعهم هذا الشعور إليالنهوض ليكفروا عن أنفسهم هذا الصمت وذلك الركون المشيب في حق خليفة المسلمين فقدكانوا يرون أنه لم يكفر هذا الذنب إلا أن يسيل دم قتلة عثمان أو يموتوا دون ذلكالهدف فاستمع إلي طلحة بن عبيد الله وهو يعبر عن ذلك فيقول : إنه كان مني في عثمانشيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه . والزبير بن العوام يقول ( إنها فتنةوإنه لا يعرف موضع قدمه منها ولا يدري أمقبل هو أم مدبر فيها ([55]) .


    وإذا كانلطليحة والزبير بعض المطالب عند أمير المؤمنين علي وقد كان طليحة يطمع في ولاية البصرة والزبير يطمع في ولاةالكوفة وقد رفض الإمام علي ذلك فإنني أري أن هذا الرفض لن يؤثر في نفسية هذينالصحابيين الجليلين بل كان علي العكس من ذلك فلو ولاهما لضبط بهما أمور البصرةوالكوفة واستقرت أحوال الخلافة وقد كان بلا شك هذان الصحابيان جديرين لطلب الولايةلكلا منهما وما العيب في ذلك إذا أدرك الإنسان أنه متميز يتقن ويجيد بعض نواحيالحياة أو بعض شئونها فلا بأس أن يقدم نفسه ويعرضها علي أولي الأمر فقد فعل ذلكالنبي يوسف عليه السلام حينما قال لعزيز مصر أجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم([56]) .


    ومما يؤيد ماتنطوي عليه سريرة كلا منهما من خير فإنهما كانا لا يريدان إلا قتلة عثمان فهمراضون عن خلافة الإمام علي وكان المؤيدون له يريدون إخضاعهم للبيعة التي تمت حتىيلتئم شمل المسلمين .





    الأدلة التي تثبت حسن نية أم المؤمنين ومن معها :


    لا شك أن أمالمؤمنين – رضي الله عنها – قد ركبت في خروجها مركبا صعبا لا يزلله لها من خرج معها مهما كانت شخصياتهم ، ومهماكان عددهم ، ولقد كان الأليق بها ، والأوفق لمكانتها أن يلوم ما ألتزم به غيرهاوأن تقر في بيتها كما أمرها الله – عز وجل – في قوله – تعالي : ( وقرن في بيوتكن )([57]) ، ولكن يبدو أن شعورها بالتقصير في حق عثمان – رضي الله عنه – دفعها إليالخروج لعلها تصيب بذلك تكفيرا عما بدر منها ، وبخاصة وأنها قد رأيت طلحة والزبير– رضي الله عنهما – قد خرجا لهذا الأمر بل إن خروجهما هو الذي شجعها علي أن تسيرمعهما هذا المسير ولعل كلامها الذي ردت به علي بعض من اعترض علي خروجها يبرر لناموقفها هذا ، فقد قالت : غضبا لكم من سوط عثمان ، أفلا نغضب لعثمان من سيوفكم .


    ومع ما ترتبعلي هذا الخروج من أمور خطيرة أهمها إراقة دماء المسلمين وتفريق كلمتهم فإن الذينارتكبوا ذلك لم يكن قصدهم الحقيقي إلا إهدار دماء قتلة عثمان حتى لا يجترئ الناسعلي ذلك ويستمر الأمر عليه كلما غضب الناس علي أمير خرجوا عليه وقتلوه واستحلوادمه .


    ولم يكن مرادهمالإطاحة بعلي ، أو التمرد علي إمارته وإن فهم هو ذلك ، كما فهم كثير من المؤمنين ،لأن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد أشاروا جميعهم بمبايعة علي – رضي الله عنه –حينما سئلوا عن ذلك وعثمان محصور في بيته .


    يروي ابن جرير– رحمه الله – عن الأحنف ابن قيس قال : فلقيت طلحة والزبير فقلت : من تأمراني به ،وترضيانه لي . فإني لا أري هذا الرجل – يعني عثمان – إلا مقتولا . قال علي ؛ قلتأتأمراني به وترضيانه له . قالا : نعم .


    فانطلقت حتىقدمت مكة ، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان – رضي الله عنه – وبها عائشة – أمالمؤمنين – رضي الله عنها – فلقيتها فقلت : من تأمرينني أن أبايع ؟ قالت : علي .


    قال : فمررتعلى الإمام علي بالمدينة فبايعته ([58]) .


    إن إجماع أمالمؤمنين وطلحة والزبير علي أحقية علي بالبيعة بعد قتل عثمان ، وإن نصيحتهم الأحنفابن قيس بذلك بدون تردد ؛ لدليل واضح علي اعترافهم الصريح بتقديم علي في هذا الأمردون منازع ، وهما وإن أجبرا علي بيعة علي بعد موت عثمان فذلك لأن الناس عجلوا بهماولعلهما كانا ينتظرون ليريا ماذا سيفعل الناس فيفعلان كما يفعل الناس وهما ليسابدعا في ذلك فقد وقف هذا الموقف بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرومحمد بن مسلمة وغيرهم .


    ولعل الذي دعاإلي الإتيان بهما ليبايعها في أول الناس هو أن أهل المدينة كانوا يعتقدون أنالبيعة بدونهما لا تتم حتى قالوا : إذا دخل طلحة والزبير في هذا الأمر فقد استقام ([59]) ، ولو أنهم أمهلوهما حتى يتبين لهما الأمر ، وتستقر الأوضاع كما فعل علينفسه مع سعد وابن عمر لبايعا برضاهما كما بايع غيرهما .


    والذي يؤيد ذلكأن الأشتر النخعي لما ذهب إلي طلحة ليحضره للبيعة قال طلحة : دعني أنظر ما يصنعالناس . ([60])


    إن طلحةوالزبير قد بايعا قبل أن يطمئنا إلي إجماع الناس على عليّ وشعرا وهما يبايعانبأنهما مكرهان علي البيعة وذلك ولا شك يدعو إلي الغضب ، ويثير في النفس الشعوربالإهانة ولهذا قالا : إننا بايعنا مكرهين ، وكان علي – رضي الله عنه – يري أنالإكراه في مثل تلك الحالة لا بأس به ، حيث يكون الإكراه علي فعل الخير وليس عليفعل شيء من الشر ، وقد وضح ذلك في كتابه لعامله علي البصرة عثمان بن حنيف حين قال: والله ما أكرها إلا كرها علي فرقة وقد أكرها علي جماعة وفضل ، فإن كانا يريدانالخلع فلا عذر لهما ، وإن كان يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا . ([61])


    لم يكن عتبطلحة والزبير علي بيعة علي وتوليته الأمر ، وإنما كان لأنهما لم يتركا ليبايعا بعدأن يتبين لهما الأمر ويجتمع المسلمون علي بيعة علي .


    إن الثلاثةالمطالبين بدم عثمان لم يريدوا قتل الأبرياء ولا تفريق كلمة المسلمين ، ولكنهمقصدوا المارقين المعتدين دون غيرهم من المسلمين ولقد برهنوا علي صدق اتجاههم هذاحين تصدى لهم حكيم بن جبلة وهم واقفون –بالمربد ، وأنشب القتال ، وشرع أصحاب عائشة رماحهم ، وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه ،فلم ينته بل قاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم ([62]) .


    إن إمساك أصحابأم المؤمنين عن القتال وهم قادرون عليه دليل علي أنهم لا يريدون الحرب ولم يخرجواللقتال ، وإنما خرجوا يطلبون تسليم قتلة عثمان ليقيموا عليهم حد الله وحكيم بنجبلة وإن كان من قتلة عثمان إلا أنه كان معه من الأبرياء من لا يستحل هؤلاء دماءهمفأمسكوا عنهم .


    بل هناك ما هوأكثر من ذلك وضوحا في التدليل علي ذلك فإن أم المؤمنين والمعركة علي أشدها حولالجمل والناس يسقطون قتلي وصرعي يعدون بالآلاف ، ويستفتيها محمد بن طلحة السجادفيقول . وقد أخذ بزمام الجمل : يا أماه ، مريني بأمرك ، فتقول : آمرك أن تكون خيرابني آدم إن تركت ، فجعل لا يحمل علي أحد إلا إذا حمل عليه ([63]) .


    هذه الوصية لاتصدر إلا عن إرادة خيرة تبغي الخير ولا تحيد عنه ، إذ الموقف يقتضي أن يضرب محمدكل من يراه يقترب من الجمل سواء حمل عليه أم لم يحمل ، بل يقتضي ما هو أكثر من ذلكوهو ضرب كل من كان في متناول سيفه ، ولكن أم المؤمنين تأمر محمد بن طلحة أن يكفعمن كف إلا الإصلاح ، وتتورع عن التدمير والإفساد .


    وهذا المعني هوالذي دعا أم المؤمنين أن تأمر أتباعها بأن لا يقتلوا إلا من قاتلهم ، وذلك حين أصرحكيم بن جبلة علي القتال ، وحينئذ نادي الناس : من لم يكن من قتلة عثمان فليكف عنا، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ، ولا نبدأ أحدا ([64]) .


    ولكن حكيما لميبال بالنداء ، وأنشب القتال ، وكان الناس قد رجعوا عنه ، ولم يبق معه إلا قتلةعثمان ، فقال طلحة والزبير : الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة ، اللهملا تبق منهم أحدا وأقدر عليهم اليوم فاقتلهم .


    واشتد القتالبين الطرفين حتى صرع حكيم ومات ، وقتل من كان معه إلا حرقوص بن زهير في نفر منأصحابه فروا إلي قومهم ، وعندئذ نادي منادي طلحة والزبير : ألا من كان فيهم منقبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم ، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب ، فقتلوافما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا إلا حرقوص بن زهير فإن بني سعد منعوه ([65]) .


    إن أصحاب طلحةوالزبير قد أمسكوا أولا عن القتال لأن الناس كانوا مختلطين فيهم البريء وفيهمالأثيم ، ونادت عائشة لا تقتلوا إلا من قاتلكم حتى لا تبدأ بقتال ، فلما تميزالناس ورجعوا وتركوا قتلة عثمان وحدهم في الميدان أتيحت الفرصة للقصاص وطاب للقومالقتال فقتلوهم وأخذوا بثأر عثمان ، وشفي الله صدور المؤمنين ، ولم يعد لهم فيالبصرة مأرب ولا طلبة .


    وكتبوا لأهلالكوفة يخبرونهم بما تم ، ويطلبون منهم أن يقيدوا من قتلة عثمان كما فعلوا همبالبصرة ولكن قتلة عثمان من أهل الكوفة كانوا مع جيش علي – رضي الله عنه – ولميتركوه لحظة خشية أن يدبر أمره ويقتص منهم لعثمان – رضي الله عنه .


    وكانت أمالمؤمنين تخشي ان ينضم أهل الكوفة إلي جيش الخليفة ، ويؤازروا إخوانهم من قتلةعثمان ، فيشتد القتال ، ويستحر القتل في المسلمين ، وتقوي شوكة القتلة حين يجدونمن يحميهم ، ويدفع عنهم ، لهذا كتبت إلي أهل الكوفة تخبرهم بأنباء البصرة ، وتطلبمنهم ألا ينضموا إلي القتلة ، وأن يثبطوا الناس عن الخروج معهم ، وأن يلزموابيوتهم ([66]) .


    وهذه الرسالةتعطي مدلولا واضحا حيث لم تطلب أم المؤمنين من أهل الكوفة الانضمام إلي جيشهاللتقوي بهم وتكثير أنصارها ، ولو كانت المسألة شهوة قتال ، ودعوة إلي التدمير لماأمرت الناس بالكف إلا عن قتلة عثمان ، ولطلبت منهم الانضمام إلي أنصارها لتقاتلبهم عدوها .


    وهناك منالمؤرخين من يزعم أن قتال أم المؤمنين ، وقيادتها جيش طلحة والزبير إنما كان لشيءفي نفسها من علي – رضي الله عنه – ويعزون ذلك إلي موقف علي من عائشة – رضي اللهعنها – يوم حادثة الإفك ، وذلك حين سأل رسول الله r عليا ليأخذ رأيه في عائشة ، واستشاره في فراقها فقال علي : لم يضيقالله عليك ، والنساء كثير ، وقد أحل الله لك وأطاب ، فطلقها وأنكح غيرها ([67]) .


    والحق أنه رأيخطير ، وموقف يوغر النفوس ، ويقطع القلوب ، ويضيق به صدر الحليم ، ولكن إذا عرفسبب ذلك لا يستغرب أن يقول عليّ تلك الكلمة مع خطورتها ، لقد رأي ما حل برسول اللهr من الغم والهم بسبب ذلك ،وعز عليه أن يظل رسول الله في هذا الكرب ، وقد أبطأ الوحي ، ولم يكن هناك حسم لمثلهذا الموقف إلا عن طريقه ، فأراد أن يسري عن رسول الله ، ويذكر بأن الله قد وسععليه ، فلم يضيق علي نفسه ؟


    ونحن نلاحظ فيكلام علي – رضي الله عنه – أنه لم يجرح السيدة عائشة الطاهرة المطهرة ، ولم يذكرهابكلمة تنال من شرفها لا تصريحا ولا تلميحا ، ولو كان كذلك لأقام عليه رسول الله r حد القذف كما أقامه عليحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة ، فعليّ – رضي الله عنه – لم يتهمعائشة ، ولم يشك في براءتها وطهارتها – رضي الله عنها . ([68])


    قال النووي –رحمه الله : رأي علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي r واعتقد ذلك لما رآه من انزعاجه ، فبذل جهده في النصيحة لإرادةراحة خاطره ([69]) .


    إذن فعليّ لم يرد ذلك الكلام تجريح عائشة أو النيل منهاومن مكانتها عند الرسول r ولكنه علم أن في ذلك الكلامتخفيفا من قلقه وإراحة لنفسه ، علي أنه لم يقطع بفراقها حيث قال : وسل الجاريةتصدقك ، فكان إدخال الراحة علي نفس رسول الله أحب إليه من أن يقول كلاما مكرراقاله أسامة بن زيد ، وزينب بنت جحش ، وبريرة جارية عائشة ، ومع ذلك لم يخفف ذلك منانزعاجه r .


    وأود في هذهالعجالة أن أثير انتباه المسلمين إلي أن قصة الإفك هذه علي ما جاءت به تعطي معنيعقديا لا ينبغي ان يغيب عن عقل المؤمن ، وهو أن الله – عز وجل – قد احتفظ بعلمالغيب وحده ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولو كان رسول الله يعلم الغيب لما وقفمن حديث الإفك هذا الموقف الذي يستطيع فيه أن يجزم ببراءة عائشة أو إدانتها حتىنزل القرآن الكريم فبرأها بعشر آيات تتلي إلي يوم القيامة .


    ولعل ما قلناهفي حادث الإفك هذا يكون فيه ردا علي كلام هؤلاء الذين يزعمون أن عائشة خرجت لتقاتلعليا لأنه عرض علي الرسول أن يطلقها في حادث الإفك ولكن استمع إلي قول عائشة نفسهاحين جهزها الإمام علي في البصرة لتذهب إلي المدينة ، وقد حضر الناس لوداعهافودعتهم ودعت لهم وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض ، إنه والله ما كان بينيوبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار.


    فقال علي: صدقتوالله ،ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ([70])


    إن هذا الكلامالرقيق والبليغ الذي صدر من أم المؤمنين عائشة حين كان يودعها الإمام علي في لحظةالوداع ليدل بإخلاص علي أن عائشة لم تخرج غضبا لنفسها ولم تحرك فتنة ضد الإمام عليولا ضد أحد من المسلمين ، ولكنها أرادت فقط قتلة عثمان ، ثم إن عائشة لم تكن ضعيفةرغم ما نزل بجيشها ، ولم تكن جبانة تخشي أن تقول ما في نفسها ولكنها قالت الحقالذي تؤمن به وتدين الله عليه .


    ولم يختلف موقفطلحة والزبير – رضي الله عنهما – من تلك الحرب بل كانت كموقف أم المؤمنين منهاولقد كان حديثهما عنها ، وتشككهما فيما يفعلان من أمرهما دليلا واضحا علي أنالموضوع كان محل اجتهاد منهما فهما مثابان وإن أخطآ كما عرفوا من نبيهم الكريمفكان يترك قواده وقضاته يحكمون بكتاب الله وسنته الشريفة فإن لم يجدوا فيجتهدواولا يقصروا .


    ويوضح موقفالزبير من الحرب أنه حينما ذكره الإمام علي بحديث رسول الله r(( أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم )) .


    قال الزبير :والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله r ثم ذكرته الآن ، والله لاأقاتلك ، ورجع الزبير وترك الحرب ولم يشترك فيها فهل هناك وفاء لرسول الله r مثل هذا الوفاء وهل هناك اقتداء بهديه مثل ذلك الأهتداء ؟ !


    وقد كان موقف طلحة يختلف عن موقف الزبير ، حيث كان منطلحة تقصير عظيم في حق عثمان لم يكن من الزبير مثله ، ولهذا استمر طلحة في الحربلعله يقتل فيكون في ذلك تكفير لهذا التقصير ، ولذلك لما بدأت المعركة ، وأوشكالناس علي القتال كان يصيح قائلا : اللهم إن كنا قد داهنا في أمر عثمان وظلمناه ،فخذ له اليوم منا حتى ترضي . ([71]) ، ويروي ابنجرير أن طلحة كان يقول في هذا اليوم : اللهم اعط عثمان مني حتى يرضي ([72]) .


    لقد كان طلحة في حيرة من أمره ، ولا يدري ماذا يصنع ،أينصرف كما انصرف الزبير أم يباشر المعركة مقاتلا قتلة عثمان ؟ فإن نجا فهو قد بذلجهده للانتصار للخليفة المظلوم وإن قتل يكون قد بذل دمه في سبيل ذلك ، وفي كلاالحالين فهو يرجو أن يكفر الله عنه ما وقع منه في جانب عثمان – رضي الله عنه .


    ومن هذا المنطلق كان طلحة والزبير لهما رغبة صادقة في واستتباب الأمن ، فقد جاءهما كعب بن سور ،وقد أقبل علي بجيشه فقال كعب : ما تنتظرون يا قوم بعد توردكم أوائلهم ؟ اقطعوا هذاالعنق من هؤلاء . قالوا : يا كعب ، إنأمر بيننا وبين إخواننا ، وهو أمر ملتبس ، لا والله ما أخذ أصحاب محمد r مذ بعث الله نبيه طريقا إلا علموا أين مواقع أقدامهم ، حتى حدثهذا ، فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون ؟


    إن الشيء يحسنعندنا اليوم ، ويقبح عند إخواننا ، فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم ، وإنالنحتج عليهم بالحجة فلا يرونها حجة ، ثم يحتجون بها علي أمثالها ، ونحن نرجو الصلحإن أجابوا إليه وتموا ، وإلا فإن آخر الدواء الكي . ([73])


    ويذهب أبوالجرباء إلي الزبير بن العوام ، ويحرضه علي مفاجأة علي بجيشه يصبحه ويمسيه قبل أنينضم إليه بقية جيشه . فيقول الزبير : ياأبا الجرباء ، إنا لنعرف أمور الحرب ، ولكنهم أهل دعوتنا ، وهذا أمر حدث في أشياءلم تكن قبل اليوم .


    هذا أمر من لميلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة ، ومع ذلك إنه قد فارقنا وفدهم علي أمروأنا أرجو أن يتم لنا الصلح ([74]).


    - عرفنا سابقاأن النصر كان في جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث أستسلم المقاتلون وقتلطلحة والزبير وقد قتل الزبير بعيدا عن المعركة كما سقط هودج أم المؤمنين وأمرالإمام علي بحملها إلي دار ابن خلف بالبصرة ثم أمر بتجهيزها وأخذ يمشي بجانبهودجها يشيعها إلي المدينة حتى وصلت إلي مكة أمنه ومطمأنة مستقرة ويقال أنها بقيت في مكة حتى حجت ثم اتجهت إليالمدينة واستقرت بها .


    أما أمير المؤمنين علي فقد أستتب له الأمر بالبصرة وبدأعهده بالعفو عن الأسري ومن ثم بدأ يهتم بتنظيم الدولة .


    ثم أصدر الإمام علي أمراً إلي ابن عباس وكان واليا عليالبصرة بان يطفئ الفتنة التي أحدثها حسك ابن عتاب مع جمع كبير من الخوارج وأرسلابن عباس ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر وأمدهم بأربعة ألاف جنديواستطاع الرجلان أن يقتل حسك ويمزق شمل أصحابه وأصبح ربعي واليا علي سجستانواستقرت الأمور في ميدان فارس وخاصة الكوفة أو البصرة ولم يبق أمام الإمام عليأحدا ينازعه سوي معاوية في الشام .


    وقبل أن نتحدث عما يستجد من أحداث ونخوض معركة صفين أننبرز موقف عمرو بن العاص ذلك الصحابي الجليل والذي أساءت إليه بعض الرواية المغرضةوقد كان هذا الرجل يلزم الحق وكان ذا بصيرة نافذة وسياسيا ماهرا وقد روي الطبري أنعمرا بن العاص حينما حصر عثمان في بيته غضب غضبا شديدا وترك المدينة وتوجه إليالشام وهو يقول والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلاضربه الله عز وجل بالذل ، من لم يستطع نصره فليهرب .([75]) وأرتحل عمرو وهو يبكي قائلا واعثماناه أنعي الحياء والدين ! .


    فينبغي عليقارئ التاريخ الإسلامي أن يفند الروايات ويأخذ أقواها سندا والمتفقه مع الفكرةالإسلامية والمتسقة مع الشخصية وأن عمرا بن العاص قبل أن يكون صحابيا جليلا أقبسمن نور النبوة وكان من سادات قريش الذي عرف بالشهامة والرجولة ويبعد عن مواطن الشكوالريب ولعل انضمامه إلي معاوية في الشام ووقوفه بجانبه في معركة صفين أقول : أنهذا لا يقدح في أمانة الرجل ونزاهته فقد عز عليه أن يجترأ علي منصب الخلافة منخلال حفنة من الرعاع ويستمدون بذي النورين عثمان بن عفان ويحاصرونه ثم يقتلونه دونأن يجد مناصرة أو تأييد من أحد لعل هذا هو الذي دفعه إلي أن يلجئ إلي معسكر معاويةليثأر من قتلة عثمان ولم يقدح من بيعته لعلي . هذا أفضل ما يقال في عمرو بن العاص وموقفه من تلك القضية .

    * * * *







    1- البداية والنهاية ج7صـ250 .

    1- البداية والنهاية ج7 صـ251 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ259 .

    3- ابن كثير ج7صـ242 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ245 .

    2- ابن الأثير ج3صـ249 .

    1- البداية والنهاية ج7صـ243 .

    2- ابن الأثير ج3صـ250 ،251 .

    3- الطبري ج4 صـ519 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ251 .

    2- الطبري ج4 صـ523 .

    3- ويشهد لذلك ما رواه ابن جرير من أن رجلا منالأزد أخذوا بعر الجمل وفتوه وشموه ، وقالوا : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك وهذافي عرف العامة الجهلة من الناس لأنه ليس من الدين في شيء . ( الطبري ج4صـ523 ) .

    1- ابن كثير ج7صـ245 .

    2- الطبري ج4صـ519 .

    1- ابن الأثيرج3صـ254 .

    2- الطبري ج4صـ534 ، وابن الاثير ج3 ص554 .

    3- ابن كثير ج7صـ241 .

    4- ابن الأثير ج3 ص256 .

    5- ابن الأثير ج3صـ256 .

    6- ابن سعد ج3صـ32 .

    7-ابن الأثير ج3 صـ256 .


    1- المصدر السابقص260 .

    2- المصدر السابقصـ260 .


    1- ابن كثير ج7 صـ246 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ257 .

    1- جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ507 .

    1- نعثل بفتح النون وفتح الثاء رجل يهودي كانالثوار يشبهون عثمان به .

    2- ابن الأثير ج3 صـ207 ط بيت الأفكار الدولية .

    3- ابن قتيبة الإمامة والسياسة صـ41 .

    4- الكامل ج3 صـ105 والإمامة والسياسة ص52 .

    1- أنظر المراجع السابقة وأنظر أيضا تفسير سورةالنور عند ابن كثير .

    2- كتاب سمط النجوم العوالي ج2 صـ420-421 ) عبدالملك بن عسي العصامي المالكي نقلا عن أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ188 .

    3- سورة النور الآية 22 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    2- وهو من قتلة عثمان الذين لا يريدون الصلح .

    1- الأمامة والسياسة ص57 .

    1- العواصم من القواصم صـ154 .

    2- راجع كتاب لمع الأدلة لأمام الحرمين عبد الملكالجويني ص115 .

    1- الكامل لابن الأثير ج3 ص100 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    2- الكامل ج3 ص119 .

    1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ إبراهيم شعوط صـ196 ، ص239 ، 289 .

    1- تاريخ الطبري ج5 صـ513 ، الكامل لابن الأثير ج3 صـ113 .

    2- الكامل لابن الأثير ج3ص121 .

    3- ابن الأثير ج3 ص256 .

    1- أنظر بن الأثيرج3 صـ220 .

    2- الكامل ج3 صـ256 .

    3- رواه أبو داوودوالنسائي .

    1- الكهف الآية (110) .

    2- رواه مسلم .

    1- الطبري ج4صـ451 .

    1- الطبري ج4 صـ451 ، والإمامة والسياسة لا قتيبةج1 ص56 ، 57 نقلا عن جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين .

    2- المصادر السابق .

    3- ابن الأثير ج3 صـ220 .

    1- سور يوسف الآية 55 .

    2- الأحزاب الآية (33) .

    1- الطبري ج4 صـ496 ،497 .

    2- الطبري ج4صـ434 .

    3- المصدرالسابق .

    1- نفس المصدرصـ468 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ214 .

    3- المصدر السابق صـ249 .

    1- الطبري ج4 صـ470 .

    2- المصدر السباق صـ472 .

    3- المصدر السابق صـ473 .

    1- المقريزي : إمتاع الأسماع ج1 صـ208 .

    2- جولة في تاريخالخلفاء الراشدين كمرجع سابق صـ531 .

    3- فتح الباري ابن حجر ج7 صـ 468 نقلا عن المرجعالسابق ونفس الصفحة .

    1- ابن كثير ج7صـ246 .

    1- ابن قتبية الإمامة والسياسة نقلا عن جولة في عصرالخلفاء صـ533 .

    2- الطبري ج4 صـ527 .

    3- الطبري ج4 ص495 .

    1- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    2- تاريخ الطبري ج4 صـ558 .


  36. #36
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثانية عشر )


    قتلة عثمان وتدبير معركة الجمل



    (1)


    جماعة ابن سبأ وتدبير الفتنة لنقض الصلح



    عرفنا فيما سبق فرحة المسلمين بقرب وقوع الصلح وبدأ الفريقان يمهدان الطريق لذلك الصلح فأرسل الإمام علي عبد الله بن عباس إلي طلحة والزبير كما أرسل الأخيران محمد بن طلحة المعروف بالسجاد ([1]) ، وتقارب الفريقان وشعر الجميع بالفرحة الغامرة .


    أما قتلة عثمان فقد صمموا علي إنشاب القتال وإثارة الحرب بغلس قبل أن يبدو النهار ، ونهض كل فريق منهم إلي جماعتهم ، فهجموا علي المعسكرين في آن واحد بالسيوف وهم نائمون يحلمون بالأمن والعافية وبددوا أحلامهم ، وعكروا صفوهم ، واستيقظوا مذعورين تلاحقهم ضربات قاتلة من أولئك الفجرة وهم لا يعرفون ، فهرعوا إلي سيوفهم ، ودافعوا عن أنفسهم ، وردوا الغادرين علي أعقابهم .


    لقد ظن أهل البصرة أن أتباع علي – رضي الله عنه – قد بيتوهم علي غرة ، وخدعوهم بكلمة الصلح الذي أعلنوه ، وشعر علي بضجة وجلبه فسأل ، ما هذا ؟ فأجابه أحد المتآمرين بأن أهل البصرة بيتوهم وخدعوهم فتألم علي لما حدث ، واتهم كل فريق الآخر ، وسرت في المعسكرين لوثة الغدر والخيانة وقامت الحرب علي قدم وساق وتبارز الفرسان وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع الإمام علي نحو عشرون ألاف ، والتف علي معسكر عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفا والسبئية أصحاب بن السوداء ماضون في القتل وبعث الإمام علي مناديه أن ينادي آلا كفوا آلا كفوا فلا يسمع له وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة إلي أم المؤمنين وقال لها يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع وجاءت ورأت الناس وهم يتبارزون وكان من جملة المتبارزين الزبير وعمار فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظان فيقول : لا يا أبا عبد الله وتركه الزبير وهو قادرا عليه لقول رسول الله r لعمار تقتلك الفئة الباغية ولهذا كف عنه وقد كان من سنة المسلمين في هذا اليوم ألا يجهز علي جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل في هذه الجولة خلق كثير ([2]) .


    ولا غرو في ذلك وقد كان ظهور أم المؤمنين في ساحة الحرب أشبه بالنار تحت الرماد حيث أشتد كل فريق في طلب الأخر فكل من الفريقين أتخذ منها دعامة تقوي موقفها وتشجعه علي الاستمرار في المعركة لقد كان إنشاب القتال في غفلة من الفريقين سببا في ارتفاع عدد القتلى وبذلك ضاعت صيحات أمير المؤمنين في إيقاف القتال سدي ، لقد نجح قتلة عثمان في إنفاذ أمرهم حيث كان الفريقان متفقين علي ألا يقتتلوا حتى يجدوا الحجة المسوغة للقتال وقد غضب الإمام عليّ لتعرض الخصوم لقتلاه وقولهم أتحلوا لنا دماؤهم ولا يحل لنا سلمهم فقال علي القوم أمثالكم من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني علي الصبر والنحر . ([3])


    ويروي بن كثير أن عائشة أم المؤمنين لما رأت كثرة القتلي وسفك الدماء أعطت كعب بن سور مصحفا ، وقالت : أدعهم إليه ([4]). والزبير بن العوام فقد رجع وترك القتال كما قلنا حين ذكره علي بقول رسول الله r : (( لتقاتلنه وأنت له ظالم )) أما طلحة فقد قتل في الجولة الأولي من المعركة جاءه سهم غرب – طائش – لا يدري من راميه فشك رجله مع فرسه ، وظل ينزف حتى مات ، وتساقطت الرؤوس ، وملأت الأرض بجثث القتلي ، ولم يكن حينئذ بد من الدعوة إلي وقف القتال .


    من هنا أعطيت ام المؤمنين كعبا المصحف وقالت : أدعهم إليه ولكن هل استجاب قتله عثمان لتلك الدعوة الكريمة ؟ لا ، إنهم لم يكن لديهم الاستعداد لقبولها إذ لو كان عندهم نية لقبول الصلح ما أنشبوا القتال حينما كان الناس من الصلح قاب قوسين أو ادني .


    وتقدم السبئيون وكانوا في مقدمة جيش أمير المؤمنين ليفسدوا عليه كل فكرة للصلح ، وهم الذين قتلوا كعب بن سور ومسلم العجلي ، وتقدموا وهم لا يقصدون إلا أم المؤمنين ، وقد رموا هودجها ، وهي تذكرهم الله واليوم الآخر ، وهم يأبون إلا الهجوم عليها والإضرار بها ، حينئذ رفعت صوتها وقالت : أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم .


    وأخذت تدعو – وكانت جهورية الصوت – فضج الناس بالدعاء حتى سمع دعاؤهم في أنحاء المعسكر رغم شدة القتال وصياح المتقاتلين ، وسمع علي الضجة فسأل : ما هذا فقالوا : عائشة تدعو علي قتلة عثمان وأشياعهم . فقال علي : اللهم العن قتلة عثمان . واشتد هجوم السبئيين علي الجمل ، وتأكدت أم المؤمنين أنهم يريدونها هي .




    (2)


    عنف القتال في معركة الجمل



    لقد أدركت ام المؤمنين عائشة أنها المقصودة للنيل منها فأرسلت إلي عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام أن اثبتا مكانكما ، وأخذت تحرض الناس علي القتال والثبات ، وكان لتحريضها تأثير شديد في النفوس فهاجت المشاعر ، وثارت النفوس والتف الناس حول الجمل ، ودافعوا بحمية لم تعهد من قبل ، وحمت مضر البصرة حتى عصفت بمضر الكوفة ، وزعزعت صفوفها ، وتراجع الناس حتى زحموا عليا رضي الله عنه فقال لابنه محمد – وكان معه الراية – احمل ، فتقدم بها حتى لم يجد متقدما إلا علي سنان الرمح ، فأخذ الإمام علي الراية من ابنه ، وتقدم ([5]). ودارت رحي الحرب عنيفة ضاربه ، وكانت سجالا يوما لأهل البصرة ويوما عليهم ، وتزاحم الناس حول الجمل ، ولا يأخذ بخطامه إلا شجاع معروف ويعرف بنفسه قبل أن يأخذ الخطام فيقول فلان بن فلان ، وكلما قتل رجل حل محله آخر حتى قتل من بني ضبة أربعون رجلا قتلوا جميعهم علي خطام الجمل ، وأخذ الخطام بعد بضعة رجال من قريش قتل منهم سبعون رجلا كلهم كل واحد منهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل ([6]).


    وأخذ الأبطال من الجانبين يتحدي بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا حتي أكلتهم الحرب ، وفرغ من المتقاتلين الصبر ، فتنادوا يوصي بعضهم بقطع الأطراف لعل الناس عندما تقطع أطرافهم يمسكون عن القتال ، وتطايرت الأكف والأذرع والأرجل حتى يقول ابن كثير – رحمه الله – ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة . ([7])


    واخذ السبئيون يرمون الهودج بالنبال حتى صار مثل القنفذ لكثرة ما رشق فيه منها . وهنا أترك الحديث لابن الأثير يروي لنا ما دار في هذا اليوم بين الفريقين يقول : وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة ، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل ، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد ، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه .


    وأخذ الخطام عبد الله بن الزبير ولم يتكلم ، فقالت : من أنت ؟ فقال : ابنك ابن أختك قالت : واثكل أسماء ، وانتهي إليه الأشتر فاقتتلا فضربه الأشتر علي رأسه فجرح جرحا شديدا ، وضربه عبد الله ضربه خفيفة ، واعتنق كل رجل صاحبه ، وسقطا إلي الأرض يعتركان ، فقال ابن الزبير : اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي فلو يعلمون من مالكا لقتلوه ، إنما كان يعرف بالأشتر ، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما ، وأما الأشتر النخعي فيصف ما لقيه أثناء المعركة فيقول : لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأروغه ما لبث أن قتلته ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته ، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته .


    قال : ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش ، وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما – يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه ، وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل وهو قرشي أيضا ، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته ، وهو أزدي ، وجرح مروان ابن الحكم ، وجرح عبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية . ([8])


    قال عبد الله بن الزبير : مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنه وما رأيت مثل يوم الجمل قط ، ما ينهزم منا أحد ، وما نحن إلا كالجبل الأسود ، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل . ([9])


    ورأي علي أن الناس يسقطون في الميدان كورق الشجر ، وكلما أبيدت فرقة لاذ بالجمل فرقة أخرى ، وتأكد أمير المؤمنين بأن السر في احتدام الأمر وتشبث الناس بالقتال هو بقاء الجمل في المعركة ، فنادي في الناس : اعقروا الجمل فأنه إن عقر تفرقوا ([10]) .


    ثم تحين بجير بن دلجة الضبي – وهو من أهل الكوفة – فرصة ، وضرب عرقوب الجمل فخر وسقط يقول ابن الزبير : فما سمعت صوتا قط أشد من عجيج الجمل .


    وقيل لبجير : لم عقرته ؟ فقال : رأيت قومي يقتلون ، فخفت أن يفنوا ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقية ([11]).


    وكانت فكرة عقر الجمل فكرة عبقري الهمه الله ذلك حتى تحقن هذه الدماء التي تهدر هدر وكانت عند أصحابها أرخص من الهواء الذي يستنشقونه ، فما كان لأهل الكوفة أن يفروا من المعركة وهم ما حضروا إلا لنصرة أمير المؤمنين ، وكيف يفرون وهم يرون الحق معهم ؟ والفرار في نظرهم استسلام للباطل الذي مع خصمهم .


    وما كان لأهل البصرة أن يتركوا أم المؤمنين وحيدة في الميدان ، وهي قد لجأت إليهم ولاذت ببلدهم ، وإنهم ليرون نصرتها لرسول الله r فكيف يفرون ويتركون أمهم أمام خصم عنيد ؟ وقد كان حبهم لأم المؤمنين – رضي الله عنها – يدفعهم إلي الدفاع عنها حتى الموت ([12]) .


    لقد كان الجمل في هذه المعركة رمزا للتضحية ، صرخة بالمتقين حوله تحثهم علي الثبات والصبر ومجالدة الخصم ، ولهذا فقد اتفق رأي علي والقعقاع وبجير علي أن الوسيلة الوحيدة لأنهاء هذه المعركة هي عقر هذا الجمل .


    ولم يكد بجير بن دلجة ينفذ الخطة ، ويضرب عرقوب الجمل فيهوي صريعا ، ولم يكد الهودج يسقط من فوق الجمل حتى تفرق الناس ، وكان الهودج هو الذي كان يشدهم جميعا إلي القتال بغير تفكير ولا تدبير .


    وليس المقصود من عقر الجمل هو إنهاء القتال فقط ، ولكنه كان تعبيرا صادقا عن المحافظة علي حياة أم المؤمنين ، حيث كان هودجها غرضا اتخذه السبئيون لرميهم ، ولم يكن له من وراء ذلك غاية إلا قتل أم المؤمنين ، والتخلص منها ، وبخاصة وأنهم قد تخلصوا من طلحة والزبير ، فلم يكن هناك من يخيفهم ويقلق بالهم إلا وجودها ، فلو أنهم تخلصوا منها لخلا لهم الجو ، ولم يعد هناك من يطلب بثأر عثمان منهم .


    صحيح أن وجود معاوية بالشام قد يعكر عليهم ذلك الحلم الجميل الذي يؤملون العيش فيه ولو إلي حين ، ولكنهم كانوا يعتقدون أن معاوية لن يطلبهم إلا إذا طلبوه ، وما داموا لم يحركوا إليه قوة ، ولم يطلبوا منه بيعة ، فإنه سيرضي بذلك ، وسيقنع بحكم الشام حتى تحين فرصة التوسع .


    ولكن عقر الجمل وسقوطه إلي الأرض قد أنهي المعركة من جهة وفوت علي السبئيين غرضهم وأحبط كيدهم الخبيث من جهة أخرى .


    وبسقوط الجمل تفرق الناس ، وانتهت المعركة ، وأمر الإمام علي محمد ابن أبي بكر أن يحمل الهودج هو وعمار بن ياسر ، ويخرجاه من وسط القتلى والجرحى ، ويضربا علي أم المؤمنين قبة ([13]) .


    وقد قال الإمام علي لمحمد بن أبي بكر انظر ، هل وصل إليها شيء من الجراح ، فنظر محمد إلي داخل الهودج وهي لم تعرفه ، فقالت : من أنت ؟ ويلك . قال : أنا أبغض أهلك إليك .


    قالت : ابن الخثعمية ؟ قال : نعم . قالت : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي عافاك ([14]) .


    وقال لها عمار : كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه ؟ قالت : لست لك بأم . قال عمار : بلي وإن كرهت . قالت عائشة : فخرتم إن ظفرتم ، وأتيتم مثل الذي نقمتم ، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه .


    وأقبل وجوه الناس علي عائشة – رضي الله عنها – وفيهم القعقاع ابن عمرو ، فسلم عليها . فقالت : إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعلم كوفيك ؟ قال القعقاع : نعم ، ذلك الذي قال : ( أعق أم نعلم ، وكذب، إنك لأبر أم نعلم ولكن لم تطاعي ) . قالت : والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ([15]) .


    وجاء علي بن أبي طالب إليهما مسلما : كيف أنت يأماه ؟ قالت : بخير ، فقال يغفر الله لك ، قالت : ولك ([16]) .


    ورأي علي القتلى يعدون بالآلاف فحزن وتألم لذلك ألما شديدا ، وقال لابنه الحسن يا حسن ، ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له الحسن : يا أبت : كنت أنهاك عن هذا ، قال علي : يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا ، وضم الحسن إليه ثم قال : إنا لله يا حسن ، أي خير يرجي بعد هذا ([17]).


    لقد كان الإمام علي – رضي الله عنه – حقيقا بان يندم علي ما كان ، وكيف وهو يري خيرة الناس قتلي في الميدان ؟ فها هو ذا يقف علي كعب بن سور ويقول : أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء ، وهذا الخبر قد ترون ؟ ولما رأي عبد الرحمن بن عتاب قال : هذا يعسوب القوم لأنهم قد رضوه يجتمعون عليه لصلاتهم – ورأي طلحة بن عبيد الله صريعا فقال : لهفي عليك يا أبا محمد إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لقد كنت اكره أن أري قريشا صرعي ، أنت والله كما قال الشاعر : ([18]) .


    فتي كان يدينه الغني من صديقه إذ ما هو استغني ويبعده الفقر


    وجعل كلما مر برجل قتيل فيه خير قال : زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم . وقد بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ([19])، وقيل ثلاثة عشر ألفا ([20])نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة . قتل من ضبة ألف رجل ، ومن بني عدي سبعون رجلا حول الجمل كلهم قد قرأ القرآن ([21]) .


    والحق أن المعركة كانت رهيبة مفزعة ، وقد وصفها من حضرها عن قرب فقالوا :


    - قال القعقاع : ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين ، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ، ونتكئ علي أزجتنا ، وهم مثل ذلك ، حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم .


    وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت، وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت ، ثم قال علي : السيوف يا بني المهاجرين ، فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.([22])


    وطارت أنباء المعركة إلي أهل المدينة عن طريق النسور ، فقد مر بالمدينة قبل أن تغرب الشمس نسر يطوف بماء هناك ، ورأي الناس معه شيئا معلقا ، فلما دنوا منه فإذا هو كف فيه خاتم منقوش عليه : عبد الرحمن ابن عتاب .


    وعلم من بين مكه والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام وصلي عليُّ – رضي الله عنه – علي القتلي من الفريقين ، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم .


    وجمع ما كان في المعسكر مما ترك القتلي ، وبعث به إلي مسجد البصرة ، وقال : من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.


    وسألت عائشة – رضي الله عنها – عمن قتل من الفريقين ، فكلما نعي واحد من الجميع قالت : يرحمه الله ، فقيل لها : كيف ذلك ؟. قالت : كذلك قال رسول الله r فلان في الجنة ، وفلان في الجنة . وقال علي – رضي الله عنه : إني لأرجو ألا يكون أحد نقي قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة ([23]).


    وشيع علي – رضي الله عنه – عائشة ، بعد أن جهزها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر ، وأذن علي لمن نجا من الجيش ممن كان قدم معها أن يرجع معها إلا أن يحب المقام .


    فلما كان يوم الرحيل جاء علي فوقف بالباب ، وحضر الناس ، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ، ودعت لهم ، وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض أنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار .


    فقال علي : صدقت والله ، ما كان بيني وبينها إلا ذاك ، وإنها لزوجة نبيكم r في الدنيا والآخرة .


    وسار علي معها مشيعا ومودعا أميالا ، ثم سرح بنيه معها بقية اليوم ، وكان ذلك يوم السبت قرة رجب سنة ست وثلاثين ، واتجهت في مسيرها إلي مكة فأقامت بها إلي أن حجت في ذلك العام ، ثم رجعت إلي المدينة – رضي الله عنها وأرضاها ([24]). ولإظهار الحق أود أن أبرز بعض الملاحظات المهمة :-


    الأولي : علي الرغم من تلك المعركة وما نالته السيدة عائشة من جرائها فإن الإمام علي أمنها وحفظ عليها كرامتها ولم يسمح لأحد بالتطاول عليها فقد أخبر علي بأن رجلين علي الباب ينالان من عائشة قال أحدهما جزيت عنا أمنا عقوقا وقال الآخر يا أمي توبي وقد أخطئتي فبعث الإمام علي القعقاع بن عمرو وأمسك بالرجلين وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما . ([25])


    الثانية : ومن مظاهر عدل الإمام وحيدته التامة هو تعامله مع أهل البصرة الذين خرجوا عليه فبعد انتصاره عليهم فقد تحرى من يوليه عليها ليحسن إدارتها ويصلح أهلها فولي عليها ابن عباس كما أشار أبو بكرة وأختار معه زياد بن أبيه وهو مما أعتزل القتال ولم يشترك فيه وعينه علي الخراج وبيت المال ليعيد بذلك الطمأنينة لأهل البصرة . وقد وفق أمير المؤمنين في اختياره ذلك الرجل حيث كان محايدا لم يشترك في حرب ويناصر أحد الطرفين وهكذا نري حنكة أمير المؤمنين علي في إدارة الأمور واحترامه لحق الغير ومحافظة علي حرمات المسلمين وكذلك نراه في هذه المعركة يختصم لله تعالي يغضب للحق وليس لطرف علي طرف ولا حزبا دون حزب فهو يجلد الرجلين اللذين أساءا لزوجات النبي حرصا علي حرمات المسلمين وتأدبا مع أمهات المؤمنين وزوجات النبي r .


    الثالثة : هي موقف أمير المؤمنين من الخصومة التي دارت بينه وبين وطلحة والزبير وأم المؤمنين جهة أخرى وقد كان الهدف الأسمى هو الإصلاح ما استطاع إليه سبيلا فهو يرغب بتصحيح وضع ظهر من قتلة عثمان ومع ذلك فهو لم يستبح أن ينال أحدا من الطرف الآخر أو أن يحقر من شأنه بل نراه يحافظ علي مكانة أم المؤمنين وطلحة والزبير باعتبارهما من السباقين في الإسلام .


    رابعا : ومن المواقف المثيرة موقف عمار بن ياسر ذلك الصحابي الجليل وهو من المؤيدين لأمير المؤمنين علي وقد وقف موقفا مع الزبير بن العوام الذي كان من خصوم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وقد بارز كلا منهما الآخر وأخذ يتبارزان وجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظان فيقول له عمار لا يا أبا عبد الله . لا أدري مدي صحة تلك الرواية ولكن مما يلفت النظر أن هؤلاء المقاتلين سرعان ما يثوبون إلي رشدهم إذا ذكروا بقول من أقوال الرسول e ، فمن الثابت أن الزبير رضي الله عنه يعلم من الرسول e أن عمارا ستقتله الفئة الباغية ولما رآه أنضم إلي الإمام علي فوجد نفسه هو الفئة الباغية فسرعان ما أنسحب من المعركة . ([26])

    * * * *




    (3)


    تخرصات وأباطيل حول موقعة الجمل



    ورد حول موقعة الجمل روايات كثيرة متضاربة قد يضيع فيها وجه الحق وقد يصعب علي الباحثين الوصول إلي الحقيقة المنشودة فالمدينة تضطرم بالمتمردين والسبئيين ومنهم من خرج يطالب بالثأر بقتلة عثمان ومنهم من وقف بجانب علي بن أبي طالب لتثبيت أركان الخلافة أولا ثم القصاص بعد ذلك من قتلة عثمان ومنهم من لزم الحياد واعتزل الحياة ومن خلال هذا الخضم وذلك المستنقع سوف نتحدث عن بعض الروايات المتضاربة ليتضح للقارئ المسلم بعض الروايات الصحيحة وأن يستنبط وجه الحق منها أو يقترب من ذلك الوجه إن عجز إلي ذلك سبيلا :


    أولا : من صاحبة الجمل ، وماذا قيل عنها ؟


    صاحبة الجمل : هي السيدة عائشة بنت أبي بكر وزوج رسول الله w وقد خرجت من مكة بعد أداء عمرة تريد المدينة فلما كانت عند مكان يعرف بسرف لقيها عبيد الله بن أبي سلمة فقال ما وراءك ؟ قال : اجتمعوا علي بيعة علي . وأريدك أيها القارئ أن تنتبه إلي رد السيدة عائشة كما صورته بعض المراجع :


    يقول ابن الأثير أنها قالت : ليت هذه انطبقت علي هذه وتعني انطباق الأرض علي السماء إن تم الأمر لصاحبه . ردوني : فانصرفت إلي مكة وهي تقول : قتل مظلوما والله لأطالبن بدمه فقال لها : ولم ؟ ثم قال لها ما معناه والله إن أول من أظهر العيب علي عثمان لأنت تقولين : أقتلوا نعثلا ([27]) ، لقد كفر ! . " فيبدوا هنا تناقضها حول مقتل عثمان " . ولكنها قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه فقد قلت وقول الأخير خير من قول الأول فقال لها عبيد الله ابن أبي سلمة : ([28]) .

    فمنك البداء ومنك الغيـر ومنك الرياح ومنك المطر


    وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لـنـا إنه قـد كفر



    ويروي صاحب كتاب الإمامة والسياسة أن عائشة خرجت باكية تقول قتل عثمان رحمه الله مظلوما وقال لها عمار : بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكينه ([29]).


    ويقول ابن الأثير : فانصرفت إلي مكة فقصدت الحجر فتسترت به فاجتمع الناس حولها فقالت : أيها الناس ، إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وعبيد أهل المدينة ، اجتمعوا علي هذا الرجل ظلما ، ونقموا منه استعماله من حدثت سنة . وقد استعمل أمثالهم من كان قبله : فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا سفكوا الدم الحرام ، واستحوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ، وأخذوا المال الحرام ([30]) .


    فاجتمع الناس ، ثم ذهبوا إلي البصرة ، ليحرضوا أهلها ضد علي بن أبي طالب . وقالوا : إن عائشة كانت تحمل في نفسها كراهية لعلي بن أبي طالب ، من يوم أن قال لرسول الله في حادث الإفك (( النساء كثيرات )) ([31]).


    ثانيا : هل لمثل السيدة عائشة وهي في مكانتها المرموقة أن تأتي بهذه الأخطاء ؟


    اعتقد أن ما روي عن السيدة عائشة في هذا الصدد انما هو مجرد كذب واحتال فهذا لا يليق بأم المؤمنين عائشة رحمها الله فما كانت لتتهور في مواقف متناقضة كتلك التي رويت وهي التي رشحها الرسول w ليغرف من علمها المؤمنون وليهتدوا بهدي ما أثرته عن النبي w فهل يعقل أن تتناقض في قولها وتأمر بقتله فإذا ما تم ذلك تكون علي رأس من يطالب بدمه وهل هذه أخلاق أمهات المؤمنين ؟ وليس ما روي عنها هذا يثير الضحك والدهشة حينما قالوا عنها لقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول وهي التي تعرف عن عثمان الكثير وتحفظ له مقامه أليست هي القائلة عنه حينما سألوها ان الناس يشتمون عثمانا فقالت ( لعن الله من يلعنه والله لقد كان قاعدا عند نبي الله وأن رسول الله مسند ظهره إلي وأن جبريل ليوحي إليه القرآن وإني لأمسح العرق عن جبين رسول الله وإنه ليقول لعثمان أكتب يا عثيم فما كان الله لينزل تلك له الا كريما علي رسول الله) . ([32])


    أما قول هؤلاء الرواة أن عائشة كانت تحقد علي الإمام على ولا تذكره إلا باسمه فإن هذا أيضا مجرد كذب وبهتان فما كانت السيدة عائشة ينطوي قلبها علي الحقد علي أيا من أصحاب النبي w وهي الصديقة بنت الصديق الذي تمثلت بأخلاق أبيها وزوجها النبي الهادي فكيف تحقد وقد نزل فيهم آيات من القرآن الكريم تشير بفضلهم وتأمرهم بأن يعفوا ويتسامحوا يقول الله تعالي ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) ([33]) . وسمعها أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : (( إني لأحب أن يغفر الله لي )) وأعطي مسطحا أكثر مما كان يعطيه من قبل ...


    ثالثا : لماذا خرجت السيدة عائشة إلي البصرة ؟


    بعد الذي ذكرناه مما يعرف لأم المؤمنين من السداد في الرأي والحكمة في التصرف – بعد هذا – يخطر في بال المتتبع للحوادث هذا السؤال ؟ فلماذا إذن . خرجت أم المؤمنين ومعها طلحة والزبير إلي البصرة إذا لم يكن هدفهم المطالبة بدم عثمان ، بدافع البغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟


    والجواب علي هذا السؤال ، لا نعتمد فيه علي العاطفة والاستنتاج ولا نستغل حبنا لأم المؤمنين رضي الله عنها ، نستعمل تقديرنا للصحابيين الجليلين : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، اللذين بشرهما رسول الله بالجنة ... – لا نعتمد علي شيء من ذلك ... وإنما نضع بين عيني القارئ نصوصا وأخبارا ، رواها المؤرخون في غمار هذه الفتنة ، ولكنها تضاءلت وغطاها ركام الأغراض الخبيثة ، وما غمر كتب التاريخ من شائعات ، كانت مرتعا خصبا لخيال القصاص والشعراء . إقرأوا معي – إن شئتم – هذه الروايات :


    1- وروي ابن الأثير في كتاب ( الكامل ج3 ص108 ) أن عثمان ابن حنيف أمير البصرة أرسل إلي أم المؤمنين ، رجلين يسألانها عن سبب مسيرها ؟ فقالت : والله ، ما مثلي يغطي لبنيه الخبر .. وإن الغوغاء ونزاع القبائل ، غزوا حرم رسول الله e ، وأحدثوا فيه ، وآوو المحدثين ، فاستوجبوا لعنة رسول الله e ، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين ، بلا ترة ولا عذر ، فاستحلوا الدم الحرام فسكفوا ، وانتهبوا المال الحرام ، وأحلوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ... فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتي هؤلاء وما الناس فيه وراءنا ، وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القضية ... وقرأت : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف تؤتيه أجرا عظيما { ([34]) .


    2- ومن أوضح الأدلة علي أن أم المؤمنين ، لم تكن تقصد – بخروجها – تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي : ان الذين طلبوا منها الخروج – وهم طلحة والزبير ومن معهما – كانوا يعلقون آمالا علي خروجها ، في حسم النزاع وجمع الشمل .


    وفي ذلك يقول ابن العربي في العواصم من القواصم ص152 : (( فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم ، فيراعوا حرمة نبيهم ، واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع – بقول الله تعالي : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس { ([35]). ثم قالوا لها : إن النبي قد خرج في الصلح وأرسل فيه .


    قال ابن العربي : (( فرجت المثوبة ، واغتنمت الفرصة ، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها )) .


    3- يروي الطبري ( الأمم والملوك ج5 ص169 والكامل ج3 ص119 -120 ) أن عليا ، عندما وصل إلي البصرة ، أرسل القعقاع بن عمرو ، ليقوم بالوساطة بينه وبين أصحاب الجمل ، فلما رجع القعقاع ، أخبر أنه قد استجاب له أصحاب الجمل ، وبعث إلي طلحة والزبير يقول : (( إن كنتم علي ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو ، فكفوا ، حتى نزل فنظر في الأمر ... )) فأرسلا إليه : (( إنا علي ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس )) .


    قال الحافظ ابن كثير ( الكامل لابن الأثير ج3 ص123) : (( واطمأنت النفوس وسكنت ، فرجع كل فريق بأصحابه من الجيشين ، فلما أمسكوا بعث علي (( عبد الله بن عباس )) إليهم ، وبعثوا (( محمد بن علي السجاد )) إلي علي ، وعولوا – جميعا – علي الصلح ... وباتوا بخير ليلة ، ولم يبيتوا بمثلها للعافية ، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط ، قد أشرفوا علي الهلكة ، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا – في السر – علي إنشاب الحرب .


    ويقول ابن الأثير ( الكامل ج3 ص 120) إن الأشتر النخعي ([36]) ، قال : (( قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا . وأما علي فلم نعرف رأيه اليوم ، ورأي الناس فينا واحد فإن يصطلحوا مع علي ، فعلي دمائنا . فهلموا بنا نثب على علي رضي الله عنه وطلحة فنلحقهما بعثمان ، فتعود فتنة يرضي فيها منا بالسكون . يعني أنهم يفلتون بها من الحد في دم عثمان رضي الله عنه .


    هكذا كانت فكرة الصلح ، هي المسيطرة علي عقول القوم من الطرفين ، كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه ، حتى في وقت استعدادهم للقتال .





    وفي أثناء تنظيم الجيوش ، قال ابن الأثير ( الكامل ج5 ص122) :


    ولما خرج طلحة ، نزلت مضر جميعا وهم لا يشكون في الصلح ، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ، ونزلت اليمن أسفل منهم وهم لا يشكون في الصلح ثم يقول : فكان بعضهم يخرج إلي بعض ، لا يذكرون إلا الصلح .


    وكان أصحاب علي عشرين ألفا ، وخرج علي وطلحة والزبير ، فتوافقوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ، ووضع الحرب فافترقوا علي ذلك ... الخ .


    واقرأوا أيضا ، رد السيدة عائشة علي السيدة أم سلمة ، حيث قالت لها (( ما أقبلني لوعظك وأعلمني بنصيحتك ، ولنعم المطلع مطلع فزعت فيه إلي فئتان متناحرتان ([37]) .


    4- يروي القاضي ابن العربي في كتابه ( العواصم من القواصم ) ص 151 أنه يحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان .


    5- ويروي هذا المرجع أنه يمكن أن يكونوا قد خرجوا في جمع طوائف المسلمين وضم نثرهم وردهم إلي قانون واحد ، حتى لا يضطربوا فيقتتلوا .


    وهذا هو الصحيح . لا شيء سواه .. وبذلك وردت صحاح الأخبار .


    6- يروي ابن حجر في ( فتح الباري ) ج13 ص41 ، فيقول : (( إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا لأحد منهم ، ليولوه الخلافة )) .


    7- ويروي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (( مختصر سيرة الرسول )) ص141 فيقول : وبلغ الخبر عائشة – وهي حاجة – ومعها طلحة والزبير ، فخرجوا إلي البصرة يريدون الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة .


    8- ويقول القاضي ابن العربي ، في معرض الرد علي من قال : إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير ، خرجوا ليقاتلوهم وعلي رأسهم (( حكيم بن جبلة )) ... قال ابن العربي – في شأن حكيم بن جبلة – (( عن أي شيء كان يدافع ؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة ... وإنما جاؤوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة ؟ فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقاصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد . ([38])


    9- لقد أدرك المفسدون ، أن الصلح سيسلم رقابهم لسيف أمير المؤمنين .


    وانتهزها – كذلك – دعاة السوء من منافقي اليهود ، الذين ما تزال صدورهم تغلي حقدا علي الإسلام والمسلمين – انتهزوها فرصة العمر – فوقف عبد الله بن سبأ ، المعروف (( بابن السوداء )) يقول . ( يا قوم ، إن عزكم في خلطة الناس . فصانعوهم . فإذا التقي الناس غدا ، فأنشبوا القتال ، ولا تفرغوهم للنظر . فمن أنتم معه ، لا يجد بدا من أن يمتنع – أي عن الصلح – ويشغل الله عليا ، وطلحة . والزبير ، ومن رأي رأيهم .. عما تكرهون ... فأبصروا الرأي ، وتفرقوا عليه ، والناس لا يشعرون )) ! .


    الحلقة المفقودة


    هي التي يمكننا ان نقرأها ، من بين السطور المضطربة في هذه الحقبة المظلمة في كتب التاريخ ، إذا انتزعنا أنفسنا من عصرنا هذا ، وعشنا مع هؤلاء القوم في حقبتهم وبيئتهم ، التي لا يزال يتلألأ في جوانبها نور النبوة وضياء الإيمان .


    كان المحور الذي يدور حوله الخلاف بين علي رضي الله عنه وكل المخالفين عليه ، هو أمر قتلة عثمان . فكل المسلمين – في هذه اللحظة – مجمعون علي وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان . وإن الذي تولي الحديث عن المقتول هو معاوية بن أبي سفيان ، ولما طلب إليه أن يبايع عليا ، لم يمانع في البيعة ، ولكنه اشترط أولا : تسليم قتلة عثمان أو إقامة الحد عليهم .


    ويؤيدنا في ذلك ما رواه إمام الحرمين في كتابه : ( لمع الأدلة ) حيث يقول : ومعاوية – وإن قاتل عليا – فإنه لا ينكر إمامته ، ولا يدعيها لنفسه .... وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ، ظانا أنه مصيب وكان مخطئا ([39]) .


    ولم يسبق إلي ذهن أحد من المسلمين في المدينة ، أن هذا الطلب اتخذ ستارا للوصول بمعاوية إلي الخلافة ، ولم تكن فكرة (( قميص عثمان )) قد اتخذت مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعلل بغيره للوصول إليه . وإنما كان مفهوم هذا الطلب صريحا : انه إقامة حد من حدود الله ، لا ينبغي التفريط فيه ... لا من الرعية ولا من الراعي .


    وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، يري هذا الرأي ولا ينكره وإنما شرح أسباب تأجيل النظر فيه حتى يتم له الأمر ، وتبايعه الأمصار الإسلامية كلها . وحينئذ ، يستطيع أن ينفذ حكم الله في المجرمين . فقال في أول يوم من بيعته ، عندما سأله طلحة والزبير – ومعهما جمع من الصحابة – في أمر قتلة عثمان : (( يا أخوتاه لست أجهل ما تعملون ، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ ها هم هؤلاء قد صارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم . وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعا لقدرة علي شيء مما تجدون ؟ قالوا : لا قال : فوالله ، لا أري إلا رأيا ترونه – إن شاء الله – إن هذا الأمر أمر جاهلية – يعني الثأر – وإن لهؤلاء مادة فأهدأوا عني حتي يهدأ الناس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتؤخذ الحقوق ([40]) .


    كان هذا رأي علي بن أبي طالب ، بسبب الظروف التي أحاطت بأهل المدينة وقتئذ ، وبسبب تمكن الثوار من الدفاع عن أنفسهم بينما كانت وجهة نظر معاوية والمطالبين بدم عثمان : أنه لا بد من القصاص أولا . ثم البيعة بعد ذلك .. فأصبح الرأيان لا يلتقيان أبدا . وفي الأمة حرص شديد علي الوحدة وجمع الصفوف .


    فإذا يكون الحل إذن ، وكلا الطرفين مصر علي رأيه لا يتزحزح عنه قيد أنملة ؟ .


    ومع هذا التعقيب والإصرار ، يبدو للناس الوجهان وجيهان . فالذين يلتقون بعلي يقتنعون بسلامة رأيه . والذين يلتقون بمعاوية ، يعتقدون أن الحق معه .. فما هو المخرج من هذه القضية التي سلم الناس بسلامة طرفيها ؟.. إذن ، لابد من التماس الحل الذي يمكن أن يلتقي الطرفان في دائرته .


    ولقد بحث هذا الأمر قطبان من أقطاب الإسلام ، بشرهما رسول الله بالجنة وهما : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، فوجدا الحل عند أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله وأقرب نسائه إلي قلبه ، والمصدر الصادق الذي يثق المسلمون به رسول الله w .


    واصبح الأمر – في نظر طلحة والزبير – وقد ذللت كل العقبات في الطريق إذا تولته أم المؤمنين بنفسها . فمتي علم المسلمون أن أمهم يهما وحدة المسلمين ، ويغضبها تفرقهم وأن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا إذا تم القبض علي المجرمين الذين قتلوا عثمان – سواء كانوا في البصرة أو في الكوفة ، أو في مصر – وأن أم المؤمنين إذا نادت بهذا فستجد من المسلمين جوابا واحدا ، هو القبض علي كل المتهمين بقتل عثمان – عند ذلك تكون المشكلة قد انحلت من أساسها ، وتكون قد أعفت عليا من حرب داخلية ، كان يخشاها ، فيعود المسلمون في سيرهم الطبيعي ، الذي كانوا يسيرونه في عهد عمر وعهد عثمان .


    الله يشهد أن هذا الهدف – أو قريبا منه – هو الذي ينبغي أن تشد إليه أم المؤمنين رحالها إلي البصرة من مكة . وكانت تعتقد أنها – هي تمثل رسول الله في تحقيق المعني المقصود من الآية الكريمة } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس { ([41]) – كانت تعتقد أنها إنما تقوم بواجبها كاملا ، في القضاء علي خلاف عجز المسلمون عن التغلب عليه ، كما كان طلحة والزبير كذلك ، يعتقدان أنهما تقربا إلي الله بإقناع ام المؤمنين ليجتمع الشمل تحت رايتها ، ويستجيب المسلمون لها : تقديسا لحرمة رسوله الله في شخص أم المؤمنين .


    ويؤيدنا في هذا الاتجاه ، ما رواه ابن الأثير ، من ان القعقاع بن عمرو ، بعثه علي رضي الله عنه إلي البصرة ، فوجد هناك ام المؤمنين ، فسألها وقال : أي أمة ، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة ؟ فقالت : أي بني ، الإصلاح بين الناس . قال : فابعثي إلي طلحة والزبير ، حتى تسمعي كلامي وكلامهما . فبعث إليهما ، فجاءا فقال لهما إني سألت أم المؤمنين ما اقدمها . فقالت : الإصلاح بين الناس . فما تقولان أنتما ؟ أمتابعان أم مخالفان ؟ قالا : بل متابعان . قال : فاخبراني ما وجه هذا الصلاح ؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح . قالا قتلة عثمان ، فإن هذا – إن ترك – كان تركا للقرآن ... الخ . ([42])


    رابعا : هل بايع معاوية عليا أم تزرع بقميص عثمان ؟


    إن أسباب الخلاف التي دارت بين علي ومعاوية تكاد تتركز جميعها حول موضوع ( قتلة عثمان وضرورة القود وهذا أمر لا يحتاج إلي تدليل أو تأكيد فكل المسلمين آنذاك كانوا يطالبون بإقامة الحد وتنفيذ القصاص من قتلة عثمان وأن ولي عثمان والذي طالب بالثأر كان متمثلا في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .


    وتختلف الروايات حول أمر بيعة معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ومها أختلفت تلك الروايات فأغلبها ضعيف وأسانيدها ضعيفة لكن الذي نميل إليه أن معاوية لم يرفض بيعة علي وإنما أشترط أن يسلم إليه قتلة عثمان أو يقيم الخليفة الحد عليهم ، وإن كان معاوية قد قاتل عليا وأعتقد أنه قاتله لا لأنه ينكر إمامته او خلافته أو يدعهيا لنفسه وإنما قاتله بسبب عدم تسليم قتلة عثمان ولم يكن القتال اعتراضا علي إمامة علي حتي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يري ذلك الرأي ولا ينكره وإنما شرح للمسلمين أسباب تأجيل القصاص حتى تستقر له أمور الخلافة وتبايعه الأمصار كلها حين أذن يكون لديه من القوة والهيبة ما يمكنه من القصاص من قتلة عثمان ولاسيما أنهم كثيرون وتغص بهم شوارع المدينة وهم متحكمون في شئون الخلافة ومهيمنون علي كثير من السذج والرعاع ، وقد طمأنهم أمير المؤمنين علي انه سوف يأخذ بثأر عثمان وترد الحقوق إلي أهلها وقد عبرنا قبل ذلك في أكثر من موضع بكلام أمير المؤمنين علي في هذا الشأن . ([43])


    أما ما قيل عن قميص عثمان والذي سار مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعلل بغيره للوصول إليه إنما هذا فيه ظلم إلي معاوية بن أبي سفيان فقد كان الرجل واضحا في طلب الثأر وليس في حاجة إلي أن يعلق قميص عثمان في الشام ليثير المسلمين ضد علي .


    ويري الدكتور إبراهيم شعوط أن المخرج من هذه القضية والحل الناجع هو ما قامت به أم المؤمنين عائشة وقد رأيا اثنان من صحابة النبي ومن المبشرين بالجنة وهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام إذ وجدا الحل هو ما قامت به أم المؤمنين أقرب نساء النبي إلي قلبه إذ قامت بالأمر بنفسها تلم شعث المسلمين وتجمع فرقتهم وتدعوا إلي القبض علي قتلة عثمان .


    خامسا : ما موقف الصحابة من تلك الحيرة وهل كانوا ايجابيين في مواجهة تلك الشدة ؟


    لقد اشتدت الفتنة وعمق المخاض فيها واشتبهت الأمور علي الصحابة فصار كل فريق منهم يعمل باجتهاده ووفق ما يراه . فالذين تساوي لديهم الطرفان ولا يرجح أحدهم علي الآخر وقد وقفوا موقف الحياد مثل أبي موسي الأشعري الذي قال حينما جاءه من يطلب منه الانضمام إلي علي بن أبي طالب قال : ( هذه فتنة صماء النائم فيها خيرا من اليقظان ، واليقظان فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، فلا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار ، وأووا المظلوم المضطهد ، حتى يلتئم الأمر وتنجلي هذه الفتنة ([44]) .


    كما كان هناك من الصحابة من ظهر لهم أن الحق في جانب علي بن أبي طالب فوقفوا معه إحقاق للحق وإيمانا منهم بأنهم مسئولون أمام الله إذ تخلفوا عن نصرة الإمام علي مثل أبن عباس وعمار بن ياسر وغيرهما . أما الصنف الأخير من الصحابة الذين اعتقدوا أن الحق في جانب المطالبين بدم عثمان وبضرورة إقامة الحد والقصاص أولا . فإنهم حاربوا ضد علي بن أبي طالب بدافع الإيمان والصدق لا بدافع الضغائن الشخصية والمنافع الدنيوية الزائلة .


    ويؤيد ما قلناه أن الصحابة كل صاحبي كان يعمل من منظور إيماني يراه هو الأولي ، وما قاله الإمام علي عند وصوله إلي البصرة إذ سأله الأعور بن بيان المنقري عن سبب إقدامه فقال له علي : ( الإصلاح وإطفاء الثائرة ، لعل الله يجمع الشمل في هذه الأمة بنا ...... ثم سأله أبو سلامة الدلاني فقال : ( أتري هؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أراد الله بذلك ؟ قال نعم ، قال : أتري لك حجة بتأخيرك ذلك ؟ قال : نعم ، إن الشيء إذا كان لا يدرك ، فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعا – قال : فما حالنا وحالهم ، إذا ابتلينا غدا ؟ قال : إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله ، إلا أدخله الله الجنة ([45]).


    وكان الإمام علي رحمه الله يتوجع كثيرا علي القتلى ويشتد حزنه ويترحم عليهم فكان يقول إن من قاتل فقتل وهو لا يريد بقتاله إلا الحق ولا يبغي إلا رضا الله فهو شهيد ويقال أنه حينما جيء إليه بسيف الزبير دعا علي من قتله ، وأخذ يشيد بمواقفه يوم أحد ، وحينما تفقد القتلى ووجد طلحة بن عبيد الله صريع ملقى علي الأرض فقال : ( لهفي عليك يا أبا محمد إن لله وإن إليه راجعون والله لقد كنت أكره أن أري قريشا صرعى : أنت والله كما قال الشاعر :




    فتي كان يدينه الغني من صديقة إذا ما هو استغني ويبعده الفقر ([46]) .


    (4)


    تعليق عام علي معركة الجمل :



    1) إن حصاد المعركة مر مرارة لا يستسيغها أحد من المنتصرين أو المنهزمين فمسلم يقاتل مسلما فما قيمة النصر هنا او الخسارة هناك إن القتل الكثير التي فاقت العشرة آلاف من زهرة شباب المسلمين لتجعلنا دائما في حسرة لا تنقطع ولك أن تتخيل الصراخ والمآتم التي أقيمت هنا وهناك دون فائدة تعود علي المسلمين وقد عبر طلحة عن تلك المأساة الكبرى حين سأله علقمة بن وقاص حينما رآه مطرق الرأس يحب الانزواء والابتعاد عن الناس فقال له علقمة يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك علي صدرك أن كرهت شيء يطلب فجلس فأجاب طلحة يا علقمة بينما نحن يد واحدة علي من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا . ([47])


    لقد قالها طلحة ووعاها جيدا من نبيه الكريم إن وحدة المسلمين كانت دائما أشد علي عدوهم من السلاح لقد توزعت العشرة آلاف قتيل علي القبائل أغلبهم قد حفظ القرآن وعلمه لغيره إنها لفجيعة كبري إذ نري من هؤلاء القتلى طلحة بن عبيد الله الذي أثني عليه رسولنا الكريم وسماه طلحة الخير والزبير بن العوام حواري رسول الله r ومحمد بن طلحة المعروف بالسجاد لكثرة سجوده وعلامتها علي وجهه وكعب بن سور قاضي البصرة ومن أجل هذا نري الأمام علي يبادر ليوقف شلال الدم وأن يقضي علي تلك الفتنة وأن يعيد الوحدة للمسلمين تلك الوحدة التي فرضها الإسلام . ولإتمام هذا الأمر يسارع الإمام علي بأخذ البيعة ممن لم يبايع من قبل فقد دخل البصرة كما يقول بن الأثير وجاء الناس علي غايتهم فبايعوه ولم يتخلف عن البيعة احد ولم يستكره أحد في بيعته . ([48])


    2) لقد كانت تلك المعركة سببا في إن اجترأ المسلم علي أخيه المسلم وقد عرف المسلمون من قبل أن حمل المسلم للسلاح علي أخيه المسلم يؤدي به إلي النار فالرسول الكريم يقول ( إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) ([49]). فقد تغير هذا الفهم الصحيح الذي أفضي بالمسلمين إلي تلك النكبات وقد قام المدلسون والكذابون فنسجوا أحاديث كاذبة نسبوها إلي رسول الله r وألف بعضهم خطبا نسبوها إلي الإمام علي وجد فيها المستشرقون والحانقون علي الإسلام مادة خصبه للطعن في الإسلام وفي صحابة النبي r .


    3) وكما ينبغي أن ندرك تماما ونحن في صدد تحليل تلك الأحداث أو التعليق عليها أن ندرك تماما أن الصحابة والتابعين بشر ، فهم ليسوا معصومين من الخطأ ويجب ألا نضعهم موضع التقديس ، ولكنهم رجال لهم زمانهم ولهم بيئتهم الجغرافية المختلفة عن غيرها والإنسان دائما ابن زمانه ومكانه فهؤلاء الصحاب خاضوا تجارب عديدة حتى استقامت لهم أنظمتهم الاجتماعية وهم يخططون وقد يوفقون وقد يخطئون وهذه هي طبيعة البشر ولكنهم تعلموا من نبيهم الكريم أن يكونوا دائما مجتهدين أعمالهم كلها لله فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر الاجتهاد .


    4) وما علينا نحن المسلمين أبناء اليوم إلا أن نتأمل تجاربهم التي نجحوا أو أخطئوا فيها حتى نأخذ العظة والعبرة التي تصحح طريق الحياة وأعود فأكرر أن الصحابة بشر ينبغي علينا أن نتصورهم هكذا ، والرسول r هو مثلنا الأعلي حينما أشار القرآن بقوله ( قل إنما أنا بشرا مثلكم يوحى إلي أنما إلهاكم إله واحد ) ([50]) ، فهذه الحقيقة التي تسري علي الرسول ينبغي أن تنسحب علي أصحابه الكرام الذين آووا ونصروا كما أننا حينما ندرك أنهم بشر فينبغي علينا أن نحترمهم وأن نجل أقدارهم لأنهم أصحاب النبي r وحواريه وهم المثل العليا والشموع التي انصهرت لتهدي الناس وهم الذين أظهروا الصواب والخطأ لذا حذرنا الرسول r من الوقوع فيهم ، يقول النبي r : ( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) ([51]) .


    ومن هذا المنطلق ومن خلال نظرتنا للصحابة علي أنهم بشر يصيبون ويخطئون ومن خلال تربيتهم في مدرسة النبوة علي صاحبها الصلاة والسلام يمكننا أن نحلل موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وخروجها إلي البصرة . فما الأسباب التي دفعتها إلي ذلك الخروج وهل هي أسباب كافية لخروجها بصفتها رمز من الرموز الكبرى لعصر النبوة .

    * * * *


    (5)





    خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها


    أسبابه ودوافعه ومراميه





    لقد خرجت أم المؤمنين عائشة للإصلاح ولم الشمل ولم تكن من دعاة الفتنة ، فبعد ذهابها إلي مكة لأداء العمرة استمعت إلي رأي لطليحة والزبير وعبد الله بن عامر حيث قال لها يا أم المؤمنين ، دعي المدينة فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها ، ،واشخصي معنا إلي البصرة ، فإنا نأتي بلدا مضيعا ، وسيحتجون علينا فيه ببيعة عليّ بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة ثم تقعدين ، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد . ([52])


    والحقيقة أن خروج أم المؤمنين التي تعد أسوة حسنة للمؤمنين جميعا ، وانسياقها وراء الصاحبين الجليلين يعد خطأ في حقها ؛ ولم يكن لخروجها وجه شرعي كما يري كثير من الكتاب والمؤرخين . وكانت أم المؤمنين – أم سلمة – رضي الله عنها – أصرح الناس في عتابها لعائشة حين خرجت مع طلحة والزبير إلي البصرة ، فلم تهادنها ، ولم تسكت علي خروجها في غير وجه شرعي بل كتبت إليها وذكرتها بواجبها في مثل هذا الموقف المشتبه فقالت : ( أما بعد فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته ، وحجابك مضروب علي حرمته ، قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه ، وسكن عقيرتك فلا تصحريها ، الله من وراء هذه الأمة ، قد علم رسول الله r مكانك لو أراد أن يعهد إليك ، وقد علمت ان عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن انصدع ) .


    حماديات النساء غض الأبصار وضم الذيول ، ما كنت قائلة لرسول الله r لو عارضها بأطراف الجبال والفلوات علي قعود من الإبل من منهل إلي منهل ؟ . إن بعين إله مهواك ، وعلي رسول الله r تردين وقد هتكت حجاله الذي ضرب الله عليك ، وتركت عهيداه ، ولو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحيت أن ألقي الله هاتكة حجابا قد ضرب علىّ ، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصانك ، فابغيه منزلا لك حتى تلقيه فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته ، وأنصح ما تكونين إذا قعدت فيه ولو ذكرتك كلاما قاله رسول الله r لنهشتني نهش الحية ، والسلام ([53]) .


    وقد تلقت أم المؤمنين تلك الرسالة بأدب جم ثم بينت سبب مسيرها إلي البصرة وقالت ما أقبلني لوعظك ، وأعلمنني بنصحك ، وليس مسيري علي ما تظنين ، ولنعم مطلع فزعت فيه إلي فئتين – متناجزتين ، فإن أقدر ففي غير حرج ، وإن أحرج فلا غني بي عن الازدياد منه والسلام ([54]) .


    وهكذا نفهم من رد أم المؤمنين عائشة علي رسالة أم سلمة أنها خرجت تبغي الإصلاح بين المسلمين وأن تقرب بين الفئتين المتنازعتين ويمكننا أن نعفيها من اللوم ونوجهه إلي طلحة والزبير اللذين أدخلا أم المؤمنين في هذا المستنقع الذي لا يليق بها أبدا كزوجة لرسول الله من ناحية ولكونها أم المؤمنين من ناحية أخري .


    كما أننا ينبغي أن نأخذ تصرف هؤلاء الثلاثة علي المحمل الحسن والنية الطيبة في خروجهم للاقتصاص من قتلة عثمان ، وهذا هو التصرف اللائق في هذا الموقف فقد قتل عثمان مظلوما دون أن يدفع عنه أحد أو يقف إلي جواره فشعروا بالتقصير والندم ودفعهم هذا الشعور إلي النهوض ليكفروا عن أنفسهم هذا الصمت وذلك الركون المشيب في حق خليفة المسلمين فقد كانوا يرون أنه لم يكفر هذا الذنب إلا أن يسيل دم قتلة عثمان أو يموتوا دون ذلك الهدف فاستمع إلي طلحة بن عبيد الله وهو يعبر عن ذلك فيقول : إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه . والزبير بن العوام يقول ( إنها فتنة وإنه لا يعرف موضع قدمه منها ولا يدري أمقبل هو أم مدبر فيها ([55]) .


    وإذا كان لطليحة والزبير بعض المطالب عند أمير المؤمنين علي وقد كان طليحة يطمع في ولاية البصرة والزبير يطمع في ولاة الكوفة وقد رفض الإمام علي ذلك فإنني أري أن هذا الرفض لن يؤثر في نفسية هذين الصحابيين الجليلين بل كان علي العكس من ذلك فلو ولاهما لضبط بهما أمور البصرة والكوفة واستقرت أحوال الخلافة وقد كان بلا شك هذان الصحابيان جديرين لطلب الولاية لكلا منهما وما العيب في ذلك إذا أدرك الإنسان أنه متميز يتقن ويجيد بعض نواحي الحياة أو بعض شئونها فلا بأس أن يقدم نفسه ويعرضها علي أولي الأمر فقد فعل ذلك النبي يوسف عليه السلام حينما قال لعزيز مصر أجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم ([56]) .


    ومما يؤيد ما تنطوي عليه سريرة كلا منهما من خير فإنهما كانا لا يريدان إلا قتلة عثمان فهم راضون عن خلافة الإمام علي وكان المؤيدون له يريدون إخضاعهم للبيعة التي تمت حتى يلتئم شمل المسلمين .





    الأدلة التي تثبت حسن نية أم المؤمنين ومن معها :


    لا شك أن أم المؤمنين – رضي الله عنها – قد ركبت في خروجها مركبا صعبا لا يزلله لها من خرج معها مهما كانت شخصياتهم ، ومهما كان عددهم ، ولقد كان الأليق بها ، والأوفق لمكانتها أن يلوم ما ألتزم به غيرها وأن تقر في بيتها كما أمرها الله – عز وجل – في قوله – تعالي : ( وقرن في بيوتكن ) ([57]) ، ولكن يبدو أن شعورها بالتقصير في حق عثمان – رضي الله عنه – دفعها إلي الخروج لعلها تصيب بذلك تكفيرا عما بدر منها ، وبخاصة وأنها قد رأيت طلحة والزبير – رضي الله عنهما – قد خرجا لهذا الأمر بل إن خروجهما هو الذي شجعها علي أن تسير معهما هذا المسير ولعل كلامها الذي ردت به علي بعض من اعترض علي خروجها يبرر لنا موقفها هذا ، فقد قالت : غضبا لكم من سوط عثمان ، أفلا نغضب لعثمان من سيوفكم .


    ومع ما ترتب علي هذا الخروج من أمور خطيرة أهمها إراقة دماء المسلمين وتفريق كلمتهم فإن الذين ارتكبوا ذلك لم يكن قصدهم الحقيقي إلا إهدار دماء قتلة عثمان حتى لا يجترئ الناس علي ذلك ويستمر الأمر عليه كلما غضب الناس علي أمير خرجوا عليه وقتلوه واستحلوا دمه .


    ولم يكن مرادهم الإطاحة بعلي ، أو التمرد علي إمارته وإن فهم هو ذلك ، كما فهم كثير من المؤمنين ، لأن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد أشاروا جميعهم بمبايعة علي – رضي الله عنه – حينما سئلوا عن ذلك وعثمان محصور في بيته .


    يروي ابن جرير – رحمه الله – عن الأحنف ابن قيس قال : فلقيت طلحة والزبير فقلت : من تأمراني به ، وترضيانه لي . فإني لا أري هذا الرجل – يعني عثمان – إلا مقتولا . قال علي ؛ قلت أتأمراني به وترضيانه له . قالا : نعم .


    فانطلقت حتى قدمت مكة ، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان – رضي الله عنه – وبها عائشة – أم المؤمنين – رضي الله عنها – فلقيتها فقلت : من تأمرينني أن أبايع ؟ قالت : علي .


    قال : فمررت على الإمام علي بالمدينة فبايعته ([58]) .


    إن إجماع أم المؤمنين وطلحة والزبير علي أحقية علي بالبيعة بعد قتل عثمان ، وإن نصيحتهم الأحنف ابن قيس بذلك بدون تردد ؛ لدليل واضح علي اعترافهم الصريح بتقديم علي في هذا الأمر دون منازع ، وهما وإن أجبرا علي بيعة علي بعد موت عثمان فذلك لأن الناس عجلوا بهما ولعلهما كانا ينتظرون ليريا ماذا سيفعل الناس فيفعلان كما يفعل الناس وهما ليسا بدعا في ذلك فقد وقف هذا الموقف بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم .


    ولعل الذي دعا إلي الإتيان بهما ليبايعها في أول الناس هو أن أهل المدينة كانوا يعتقدون أن البيعة بدونهما لا تتم حتى قالوا : إذا دخل طلحة والزبير في هذا الأمر فقد استقام ([59]) ، ولو أنهم أمهلوهما حتى يتبين لهما الأمر ، وتستقر الأوضاع كما فعل علي نفسه مع سعد وابن عمر لبايعا برضاهما كما بايع غيرهما .


    والذي يؤيد ذلك أن الأشتر النخعي لما ذهب إلي طلحة ليحضره للبيعة قال طلحة : دعني أنظر ما يصنع الناس . ([60])


    إن طلحة والزبير قد بايعا قبل أن يطمئنا إلي إجماع الناس على عليّ وشعرا وهما يبايعان بأنهما مكرهان علي البيعة وذلك ولا شك يدعو إلي الغضب ، ويثير في النفس الشعور بالإهانة ولهذا قالا : إننا بايعنا مكرهين ، وكان علي – رضي الله عنه – يري أن الإكراه في مثل تلك الحالة لا بأس به ، حيث يكون الإكراه علي فعل الخير وليس علي فعل شيء من الشر ، وقد وضح ذلك في كتابه لعامله علي البصرة عثمان بن حنيف حين قال : والله ما أكرها إلا كرها علي فرقة وقد أكرها علي جماعة وفضل ، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما ، وإن كان يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا . ([61])


    لم يكن عتب طلحة والزبير علي بيعة علي وتوليته الأمر ، وإنما كان لأنهما لم يتركا ليبايعا بعد أن يتبين لهما الأمر ويجتمع المسلمون علي بيعة علي .


    إن الثلاثة المطالبين بدم عثمان لم يريدوا قتل الأبرياء ولا تفريق كلمة المسلمين ، ولكنهم قصدوا المارقين المعتدين دون غيرهم من المسلمين ولقد برهنوا علي صدق اتجاههم هذا حين تصدى لهم حكيم بن جبلة وهم واقفون – بالمربد ، وأنشب القتال ، وشرع أصحاب عائشة رماحهم ، وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه ، فلم ينته بل قاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم ([62]) .


    إن إمساك أصحاب أم المؤمنين عن القتال وهم قادرون عليه دليل علي أنهم لا يريدون الحرب ولم يخرجوا للقتال ، وإنما خرجوا يطلبون تسليم قتلة عثمان ليقيموا عليهم حد الله وحكيم بن جبلة وإن كان من قتلة عثمان إلا أنه كان معه من الأبرياء من لا يستحل هؤلاء دماءهم فأمسكوا عنهم .


    بل هناك ما هو أكثر من ذلك وضوحا في التدليل علي ذلك فإن أم المؤمنين والمعركة علي أشدها حول الجمل والناس يسقطون قتلي وصرعي يعدون بالآلاف ، ويستفتيها محمد بن طلحة السجاد فيقول . وقد أخذ بزمام الجمل : يا أماه ، مريني بأمرك ، فتقول : آمرك أن تكون خير ابني آدم إن تركت ، فجعل لا يحمل علي أحد إلا إذا حمل عليه ([63]) .


    هذه الوصية لا تصدر إلا عن إرادة خيرة تبغي الخير ولا تحيد عنه ، إذ الموقف يقتضي أن يضرب محمد كل من يراه يقترب من الجمل سواء حمل عليه أم لم يحمل ، بل يقتضي ما هو أكثر من ذلك وهو ضرب كل من كان في متناول سيفه ، ولكن أم المؤمنين تأمر محمد بن طلحة أن يكف عمن كف إلا الإصلاح ، وتتورع عن التدمير والإفساد .


    وهذا المعني هو الذي دعا أم المؤمنين أن تأمر أتباعها بأن لا يقتلوا إلا من قاتلهم ، وذلك حين أصر حكيم بن جبلة علي القتال ، وحينئذ نادي الناس : من لم يكن من قتلة عثمان فليكف عنا ، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ، ولا نبدأ أحدا ([64]) .


    ولكن حكيما لم يبال بالنداء ، وأنشب القتال ، وكان الناس قد رجعوا عنه ، ولم يبق معه إلا قتلة عثمان ، فقال طلحة والزبير : الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة ، اللهم لا تبق منهم أحدا وأقدر عليهم اليوم فاقتلهم .


    واشتد القتال بين الطرفين حتى صرع حكيم ومات ، وقتل من كان معه إلا حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فروا إلي قومهم ، وعندئذ نادي منادي طلحة والزبير : ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم ، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب ، فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا إلا حرقوص بن زهير فإن بني سعد منعوه ([65]) .


    إن أصحاب طلحة والزبير قد أمسكوا أولا عن القتال لأن الناس كانوا مختلطين فيهم البريء وفيهم الأثيم ، ونادت عائشة لا تقتلوا إلا من قاتلكم حتى لا تبدأ بقتال ، فلما تميز الناس ورجعوا وتركوا قتلة عثمان وحدهم في الميدان أتيحت الفرصة للقصاص وطاب للقوم القتال فقتلوهم وأخذوا بثأر عثمان ، وشفي الله صدور المؤمنين ، ولم يعد لهم في البصرة مأرب ولا طلبة .


    وكتبوا لأهل الكوفة يخبرونهم بما تم ، ويطلبون منهم أن يقيدوا من قتلة عثمان كما فعلوا هم بالبصرة ولكن قتلة عثمان من أهل الكوفة كانوا مع جيش علي – رضي الله عنه – ولم يتركوه لحظة خشية أن يدبر أمره ويقتص منهم لعثمان – رضي الله عنه .


    وكانت أم المؤمنين تخشي ان ينضم أهل الكوفة إلي جيش الخليفة ، ويؤازروا إخوانهم من قتلة عثمان ، فيشتد القتال ، ويستحر القتل في المسلمين ، وتقوي شوكة القتلة حين يجدون من يحميهم ، ويدفع عنهم ، لهذا كتبت إلي أهل الكوفة تخبرهم بأنباء البصرة ، وتطلب منهم ألا ينضموا إلي القتلة ، وأن يثبطوا الناس عن الخروج معهم ، وأن يلزموا بيوتهم ([66]) .


    وهذه الرسالة تعطي مدلولا واضحا حيث لم تطلب أم المؤمنين من أهل الكوفة الانضمام إلي جيشها للتقوي بهم وتكثير أنصارها ، ولو كانت المسألة شهوة قتال ، ودعوة إلي التدمير لما أمرت الناس بالكف إلا عن قتلة عثمان ، ولطلبت منهم الانضمام إلي أنصارها لتقاتل بهم عدوها .


    وهناك من المؤرخين من يزعم أن قتال أم المؤمنين ، وقيادتها جيش طلحة والزبير إنما كان لشيء في نفسها من علي – رضي الله عنه – ويعزون ذلك إلي موقف علي من عائشة – رضي الله عنها – يوم حادثة الإفك ، وذلك حين سأل رسول الله r عليا ليأخذ رأيه في عائشة ، واستشاره في فراقها فقال علي : لم يضيق الله عليك ، والنساء كثير ، وقد أحل الله لك وأطاب ، فطلقها وأنكح غيرها ([67]) .


    والحق أنه رأي خطير ، وموقف يوغر النفوس ، ويقطع القلوب ، ويضيق به صدر الحليم ، ولكن إذا عرف سبب ذلك لا يستغرب أن يقول عليّ تلك الكلمة مع خطورتها ، لقد رأي ما حل برسول الله r من الغم والهم بسبب ذلك ، وعز عليه أن يظل رسول الله في هذا الكرب ، وقد أبطأ الوحي ، ولم يكن هناك حسم لمثل هذا الموقف إلا عن طريقه ، فأراد أن يسري عن رسول الله ، ويذكر بأن الله قد وسع عليه ، فلم يضيق علي نفسه ؟


    ونحن نلاحظ في كلام علي – رضي الله عنه – أنه لم يجرح السيدة عائشة الطاهرة المطهرة ، ولم يذكرها بكلمة تنال من شرفها لا تصريحا ولا تلميحا ، ولو كان كذلك لأقام عليه رسول الله r حد القذف كما أقامه علي حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة ، فعليّ – رضي الله عنه – لم يتهم عائشة ، ولم يشك في براءتها وطهارتها – رضي الله عنها . ([68])


    قال النووي – رحمه الله : رأي علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي r واعتقد ذلك لما رآه من انزعاجه ، فبذل جهده في النصيحة لإرادة راحة خاطره ([69]) .


    إذن فعليّ لم يرد ذلك الكلام تجريح عائشة أو النيل منها ومن مكانتها عند الرسول r ولكنه علم أن في ذلك الكلام تخفيفا من قلقه وإراحة لنفسه ، علي أنه لم يقطع بفراقها حيث قال : وسل الجارية تصدقك ، فكان إدخال الراحة علي نفس رسول الله أحب إليه من أن يقول كلاما مكررا قاله أسامة بن زيد ، وزينب بنت جحش ، وبريرة جارية عائشة ، ومع ذلك لم يخفف ذلك من انزعاجه r .


    وأود في هذه العجالة أن أثير انتباه المسلمين إلي أن قصة الإفك هذه علي ما جاءت به تعطي معني عقديا لا ينبغي ان يغيب عن عقل المؤمن ، وهو أن الله – عز وجل – قد احتفظ بعلم الغيب وحده ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولو كان رسول الله يعلم الغيب لما وقف من حديث الإفك هذا الموقف الذي يستطيع فيه أن يجزم ببراءة عائشة أو إدانتها حتى نزل القرآن الكريم فبرأها بعشر آيات تتلي إلي يوم القيامة .


    ولعل ما قلناه في حادث الإفك هذا يكون فيه ردا علي كلام هؤلاء الذين يزعمون أن عائشة خرجت لتقاتل عليا لأنه عرض علي الرسول أن يطلقها في حادث الإفك ولكن استمع إلي قول عائشة نفسها حين جهزها الإمام علي في البصرة لتذهب إلي المدينة ، وقد حضر الناس لوداعها فودعتهم ودعت لهم وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض ، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار .


    فقال علي: صدقت والله ،ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ([70])


    إن هذا الكلام الرقيق والبليغ الذي صدر من أم المؤمنين عائشة حين كان يودعها الإمام علي في لحظة الوداع ليدل بإخلاص علي أن عائشة لم تخرج غضبا لنفسها ولم تحرك فتنة ضد الإمام علي ولا ضد أحد من المسلمين ، ولكنها أرادت فقط قتلة عثمان ، ثم إن عائشة لم تكن ضعيفة رغم ما نزل بجيشها ، ولم تكن جبانة تخشي أن تقول ما في نفسها ولكنها قالت الحق الذي تؤمن به وتدين الله عليه .


    ولم يختلف موقف طلحة والزبير – رضي الله عنهما – من تلك الحرب بل كانت كموقف أم المؤمنين منها ولقد كان حديثهما عنها ، وتشككهما فيما يفعلان من أمرهما دليلا واضحا علي أن الموضوع كان محل اجتهاد منهما فهما مثابان وإن أخطآ كما عرفوا من نبيهم الكريم فكان يترك قواده وقضاته يحكمون بكتاب الله وسنته الشريفة فإن لم يجدوا فيجتهدوا ولا يقصروا .


    ويوضح موقف الزبير من الحرب أنه حينما ذكره الإمام علي بحديث رسول الله r(( أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم )) .


    قال الزبير : والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله r ثم ذكرته الآن ، والله لا أقاتلك ، ورجع الزبير وترك الحرب ولم يشترك فيها فهل هناك وفاء لرسول الله r مثل هذا الوفاء وهل هناك اقتداء بهديه مثل ذلك الأهتداء ؟ !


    وقد كان موقف طلحة يختلف عن موقف الزبير ، حيث كان من طلحة تقصير عظيم في حق عثمان لم يكن من الزبير مثله ، ولهذا استمر طلحة في الحرب لعله يقتل فيكون في ذلك تكفير لهذا التقصير ، ولذلك لما بدأت المعركة ، وأوشك الناس علي القتال كان يصيح قائلا : اللهم إن كنا قد داهنا في أمر عثمان وظلمناه ، فخذ له اليوم منا حتى ترضي . ([71]) ، ويروي ابن جرير أن طلحة كان يقول في هذا اليوم : اللهم اعط عثمان مني حتى يرضي ([72]) .


    لقد كان طلحة في حيرة من أمره ، ولا يدري ماذا يصنع ، أينصرف كما انصرف الزبير أم يباشر المعركة مقاتلا قتلة عثمان ؟ فإن نجا فهو قد بذل جهده للانتصار للخليفة المظلوم وإن قتل يكون قد بذل دمه في سبيل ذلك ، وفي كلا الحالين فهو يرجو أن يكفر الله عنه ما وقع منه في جانب عثمان – رضي الله عنه .


    ومن هذا المنطلق كان طلحة والزبير لهما رغبة صادقة في واستتباب الأمن ، فقد جاءهما كعب بن سور ، وقد أقبل علي بجيشه فقال كعب : ما تنتظرون يا قوم بعد توردكم أوائلهم ؟ اقطعوا هذا العنق من هؤلاء . قالوا : يا كعب ، إن أمر بيننا وبين إخواننا ، وهو أمر ملتبس ، لا والله ما أخذ أصحاب محمد r مذ بعث الله نبيه طريقا إلا علموا أين مواقع أقدامهم ، حتى حدث هذا ، فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون ؟


    إن الشيء يحسن عندنا اليوم ، ويقبح عند إخواننا ، فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم ، وإنا لنحتج عليهم بالحجة فلا يرونها حجة ، ثم يحتجون بها علي أمثالها ، ونحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتموا ، وإلا فإن آخر الدواء الكي . ([73])


    ويذهب أبو الجرباء إلي الزبير بن العوام ، ويحرضه علي مفاجأة علي بجيشه يصبحه ويمسيه قبل أن ينضم إليه بقية جيشه . فيقول الزبير : يا أبا الجرباء ، إنا لنعرف أمور الحرب ، ولكنهم أهل دعوتنا ، وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم .


    هذا أمر من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة ، ومع ذلك إنه قد فارقنا وفدهم علي أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح ([74]).


    - عرفنا سابقا أن النصر كان في جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث أستسلم المقاتلون وقتل طلحة والزبير وقد قتل الزبير بعيدا عن المعركة كما سقط هودج أم المؤمنين وأمر الإمام علي بحملها إلي دار ابن خلف بالبصرة ثم أمر بتجهيزها وأخذ يمشي بجانب هودجها يشيعها إلي المدينة حتى وصلت إلي مكة أمنه ومطمأنة مستقرة ويقال أنها بقيت في مكة حتى حجت ثم اتجهت إلي المدينة واستقرت بها .


    أما أمير المؤمنين علي فقد أستتب له الأمر بالبصرة وبدأ عهده بالعفو عن الأسري ومن ثم بدأ يهتم بتنظيم الدولة .


    ثم أصدر الإمام علي أمراً إلي ابن عباس وكان واليا علي البصرة بان يطفئ الفتنة التي أحدثها حسك ابن عتاب مع جمع كبير من الخوارج وأرسل ابن عباس ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر وأمدهم بأربعة ألاف جندي واستطاع الرجلان أن يقتل حسك ويمزق شمل أصحابه وأصبح ربعي واليا علي سجستان واستقرت الأمور في ميدان فارس وخاصة الكوفة أو البصرة ولم يبق أمام الإمام علي أحدا ينازعه سوي معاوية في الشام .


    وقبل أن نتحدث عما يستجد من أحداث ونخوض معركة صفين أن نبرز موقف عمرو بن العاص ذلك الصحابي الجليل والذي أساءت إليه بعض الرواية المغرضة وقد كان هذا الرجل يلزم الحق وكان ذا بصيرة نافذة وسياسيا ماهرا وقد روي الطبري أن عمرا بن العاص حينما حصر عثمان في بيته غضب غضبا شديدا وترك المدينة وتوجه إلي الشام وهو يقول والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بالذل ، من لم يستطع نصره فليهرب .([75]) وأرتحل عمرو وهو يبكي قائلا واعثماناه أنعي الحياء والدين ! .


    فينبغي علي قارئ التاريخ الإسلامي أن يفند الروايات ويأخذ أقواها سندا والمتفقه مع الفكرة الإسلامية والمتسقة مع الشخصية وأن عمرا بن العاص قبل أن يكون صحابيا جليلا أقبس من نور النبوة وكان من سادات قريش الذي عرف بالشهامة والرجولة ويبعد عن مواطن الشك والريب ولعل انضمامه إلي معاوية في الشام ووقوفه بجانبه في معركة صفين أقول : أن هذا لا يقدح في أمانة الرجل ونزاهته فقد عز عليه أن يجترأ علي منصب الخلافة من خلال حفنة من الرعاع ويستمدون بذي النورين عثمان بن عفان ويحاصرونه ثم يقتلونه دون أن يجد مناصرة أو تأييد من أحد لعل هذا هو الذي دفعه إلي أن يلجئ إلي معسكر معاوية ليثأر من قتلة عثمان ولم يقدح من بيعته لعلي . هذا أفضل ما يقال في عمرو بن العاص وموقفه من تلك القضية .

    * * * *







    1- البداية والنهاية ج7صـ250 .

    1- البداية والنهاية ج7 صـ251 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ259 .

    3- ابن كثير ج7صـ242 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ245 .

    2- ابن الأثير ج3صـ249 .

    1- البداية والنهاية ج7صـ243 .

    2- ابن الأثير ج3صـ250 ،251 .

    3- الطبري ج4 صـ519 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ251 .

    2- الطبري ج4 صـ523 .

    3- ويشهد لذلك ما رواه ابن جرير من أن رجلا من الأزد أخذوا بعر الجمل وفتوه وشموه ، وقالوا : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك وهذا في عرف العامة الجهلة من الناس لأنه ليس من الدين في شيء . ( الطبري ج4صـ523 ) .

    1- ابن كثير ج7صـ245 .

    2- الطبري ج4صـ519 .

    1- ابن الأثيرج3صـ254 .

    2- الطبري ج4صـ534 ، وابن الاثير ج3 ص554 .

    3- ابن كثير ج7صـ241 .

    4- ابن الأثير ج3 ص256 .

    5- ابن الأثير ج3صـ256 .

    6- ابن سعد ج3صـ32 .

    7- ابن الأثير ج3 صـ256 .


    1- المصدر السابق ص260 .

    2- المصدر السابق صـ260 .


    1- ابن كثير ج7 صـ246 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ257 .

    1- جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ507 .

    1- نعثل بفتح النون وفتح الثاء رجل يهودي كان الثوار يشبهون عثمان به .

    2- ابن الأثير ج3 صـ207 ط بيت الأفكار الدولية .

    3- ابن قتيبة الإمامة والسياسة صـ41 .

    4- الكامل ج3 صـ105 والإمامة والسياسة ص52 .

    1- أنظر المراجع السابقة وأنظر أيضا تفسير سورة النور عند ابن كثير .

    2- كتاب سمط النجوم العوالي ج2 صـ420-421 ) عبد الملك بن عسي العصامي المالكي نقلا عن أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ188 .

    3- سورة النور الآية 22 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    2- وهو من قتلة عثمان الذين لا يريدون الصلح .

    1- الأمامة والسياسة ص57 .

    1- العواصم من القواصم صـ154 .

    2- راجع كتاب لمع الأدلة لأمام الحرمين عبد الملك الجويني ص115 .

    1- الكامل لابن الأثير ج3 ص100 .

    1- سورة النساء الآية 114 .

    2- الكامل ج3 ص119 .

    1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ إبراهيم شعوط صـ 196 ، ص239 ، 289 .

    1- تاريخ الطبري ج5 صـ513 ، الكامل لابن الأثير ج3 صـ113 .

    2- الكامل لابن الأثير ج3 ص121 .

    3- ابن الأثير ج3 ص256 .

    1- أنظر بن الأثير ج3 صـ220 .

    2- الكامل ج3 صـ256 .

    3- رواه أبو داوود والنسائي .

    1- الكهف الآية (110) .

    2- رواه مسلم .

    1- الطبري ج4 صـ451 .

    1- الطبري ج4 صـ451 ، والإمامة والسياسة لا قتيبة ج1 ص56 ، 57 نقلا عن جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين .

    2- المصادر السابق .

    3- ابن الأثير ج3 صـ220 .

    1- سور يوسف الآية 55 .

    2- الأحزاب الآية (33) .

    1- الطبري ج4 صـ496 ،497 .

    2- الطبري ج4 صـ434 .

    3- المصدر السابق .

    1- نفس المصدر صـ468 .

    2- ابن الأثير ج3 صـ214 .

    3- المصدر السابق صـ249 .

    1- الطبري ج4 صـ470 .

    2- المصدر السباق صـ472 .

    3- المصدر السابق صـ473 .

    1- المقريزي : إمتاع الأسماع ج1 صـ208 .

    2- جولة في تاريخ الخلفاء الراشدين كمرجع سابق صـ531 .

    3- فتح الباري ابن حجر ج7 صـ 468 نقلا عن المرجع السابق ونفس الصفحة .

    1- ابن كثير ج7 صـ246 .

    1- ابن قتبية الإمامة والسياسة نقلا عن جولة في عصر الخلفاء صـ533 .

    2- الطبري ج4 صـ527 .

    3- الطبري ج4 ص495 .

    1- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    2- تاريخ الطبري ج4 صـ558 .


  37. #37
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي


    ( النازلة الثالثة عشر )


    الإمام علي ومعركة صفين




    عرفنا سابقا أن الإمام علي رضي الله عنه قد استقرت له الأمور في ميدان العراق والفرس ولم يبق أمامه من الولاة المنازعين له سوي معاوية بن أبي سفيان والي الشام وحينما اقبل علي عزل ولاة عثمان نصحه بعض المقربين إليه بأن يبقيهم إلي أن يستقر أمره وتنتظم أمور الخلافة حتى أن بعضهم قال له إذا كنت مصمما علي عزل الولاة فاعزل من شأت وابق معاوية . والحقيقة أن هذه النصيحة كانت نصيحة غالية وواضحة فمعاوية بن أبي سفيان ليس كباقي الولاة وقد استعمله من قبل عمر بن الخطاب وظل ما يقرب من العشرين عاما يحكم جميع بلاد الشام وهذه المدة كافية بلا شك لأن يألف الناس ويألفوه ويقبلوا عليه ويتعلقوا به فقد كان سياسيا ماهرا وحاكما بصيرا لأمور الناس وأمور الحكم . ومن ثم اتسع معسكر معاوية وأصبح أشد تلاحما وولاء له وأكثر عددا وعدة . وذلك لأمرين :


    - لأن معاوية صاهر بعض شيوخ القبائل اليمنية الموجودين ببلاد الشام فتوثقت العلاقات بينه وبين تلك القبائل فأصبحوا يقفون خلفه وينافحون عنه .


    - حسن سياسة معاوية وحلمه وسخائه فقد كان له قدرة عجيبة علي استقطاب القواد ورؤساء القبائل والزعماء إلي جانبه .


    والحقيقة أن معاوية رضي الله عنه ظل يثير الناس ويحرضهم علي القتال من أجل دم عثمان ويدخر القوة اللازمة لمواجهة جيش أمير المؤمنين الإمام عليّ إن تطلب الأمر ذلك ، فكان حريصا علي ألا يهزم وقد كانت موقعة الجمل مؤشرا مرعبا لكل من يحاول الخروج علي الإمام علي أو نبز سلطانه


    قد كان الإمام عليّ رحمه الله مثيراً للعجب والاحترام الشديدين إذ قام يجيش الجيوش ويؤمر الأمراء لوحدة المسلمين ومع ذلك فهو حريص كل الحرص علي ألا يراق دم طاهر بغير حق ؛ وفضل المراسلة علي إزهاق الأرواح فأرسل إلي معاوية جرير بن عبد الله البجلي لما بينه وبين معاوية من سابقة ود وقال له : إيت معاوية بكتابي فإن دخل في ما دخل فيه المسلمون وإلا فأنبذ إليه وأعلمه أني لا أرضي بإمارته وإن العامة لا ترضي به خليفة . ([1]) فكيف كان رد معاوية علي الإمام عليّ ؟ يروي الطبري أنه ماطله وتركه ثم دعا عمرو بن العاص فاستشاره فيما كتب به إليه فأشار عليه أن يرسل إلي وجه الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم ففعل ذلك معاوية . ([2])


    وفي رواية أخري يقول الطبري أن أهل الشام حينما جاء رسول معاوية وجدهم يبكون علي عثمان ويقولون إن عليا قتله وآوى قتلته وإنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه ([3]). ووجد جرير أن معاوية مصمم علي الأخذ بالثأر من قتلة عثمان ورأي بأم عينية أهل الشام وهم يعاهدون معاوية ويبايعونه علي أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم وقوفا بجانب معاوية وتأكد الإمام علي أن معاوية وأهل الشام لن يدخلوا في الطاعة دون حربا أو قتال فخرج بجيشه حتى عسكر بمكان يسمي النخيله وقد لحق به عبد الله بن عباس ومعه جيش من أهل البصرة وعلم معاوية بخروج علي فنهض هو أيضا علي رأس جيش كبير وعقد اللواء لعمرو بن العاص وقد أظهرت تلك المعركة أبناء هؤلاء الصحابة حيث اشتركوا فيها .


    وأخذ أمير المؤمنين علي يبعث الطلائع ليستطلع أسرار القوم حتى وصل إلي الرقة ثم عبر النهر وتقدمت جيوش الإمام علي نحو جيش الشام وقد عين عليها جميعا الأشتر .([4]) وطالبه الإمام علي أن يكون عادلا رحيما وقال له لا يحملك بغضك علي قتالهم إن تعليمات الإمام علي في الحروب لها قيمتها فهذه أخلاقيات الحرب عند المسلمين وقد تحلت بها جيوش الإمام عليّ هل كانت جيوش معاوية تتحلي بهذه الآداب ؟


    والتقي الجيشان وتقاتلوا وطلب الأشتر مبارزة أبي الأعور قائد جيوش معاوية ولكنه رفض ووقف الجيشان بلا قتال وواصل جيش علي بعد ذاك المسيرة من الكوفة إلي صفين ([5]). وقد لاقي الجيش كثيرا من المتاعب أثناء رحلته إذ حطوا رحالهم في مكان يندر فيه الماء واستحوذ معاوية وجيشه علي أماكن مغمورة بالمياه وقد صمم معاوية علي منع الماء عن جنود عليّ وسمع علي بما فعل وأمر جنده أن يقاتلوهم علي الماء وأقترب جيش أمير المؤمنين بقيادة الأشعث من جيش معاوية بقيادة الأعور وقد اقتتلوا وأشتد القتال وتمكن جيش أمير المؤمنين من زحزحة جيش معاوية والسيطرة علي الماء . ولنقف وقفة أخرى مع أخلاقيات الحرب التي ظهرت مع قيادة الإمام علي فبعدما سيطر أتباعه علي الماء أقسموا ألا يسقوا أهل الشام من الماء ولكن عليا لم يوافق علي ذلك فأرسل إليهم أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنه فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم . ([6])


    وتأمل معي أيها القارئ الكريم عما ترتب عليه من آثار من جراء رأي أمير المؤمنين السديد الرحيم الودود فهو لا يحارب كفارا وإنما جاء ليجمع الأمة ولا يفرقها فقد كانت دعوته إلي الماء ليشرب منه الجميع أنها وصلت رجال المعسكرين بعضهم ببعض وأزالت الكثير من أسباب الحنق والغضب والكراهية فقد كان يلقي المسلمون المحاربون من المعسكرين فيلقي كل منهما السلام علي الأخر وفشا بينهم السلام والأمن والطمأنينة وكان الناس هنا وهناك يفزعون ويتدخل القراء والصالحون فيكفونهم عن القتال وظلت المناوشات بين الجيشين مقصورة علي بعض من الفرق هنا وهناك وقد توقف الفريقان عن القتال عندما أهل هلال شهر رجب وبدأت تظهر الوساطات والمراسلات بين الفريقين .


    وقد ذكرت الروايات أن معاوية حاول أن يغري جريرا بن عبد الله البجلي فعرض عليه أن يستقل بالشام ومصر جباية في عهد علي حتى إذا مات لم يجعل أحد في عنق معاوية بيعة علي أن يسلم معاوية الأمر إلي عليّ ويكتب له بالخلافة ولكن عليا لم يجد في كلام معاوية ما يدل علي أنه سيبايع وأن هذه حيلة يريد أن يخرج منها من بيعة عليّ . ومع ذلك فقد لاحت فرصة من فرص السلام حيث كان الإمام علي يفضل جانب المسالمة علي إراقة الدماء .


    لقد ذهبت رسل علي إلي معاوية وطلبوا منه أن يتقي الله وأن يعمل علي جمع الصف ويبايع لمن بايع له المهاجرون والأنصار وأن يلزم الجماعة ولا يفرق أمرهم وقال معاوية لرسل علي : هل أوصيت بذلك صاحبك ؟


    قال أبو عمرة : إن صاحبي ليس مثلك ، صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول الله r . ورفض معاوية ما عرض عليه بحجة أنه بذلك يطل دم عثمان ، وأقسم ألا يفعل ذلك أبدا ، وقال للرسل : انصرفوا من عندي ، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف ([7]).


    وتشير بعض الروايات إلي سعي القراء بين علي ومعاوية لإيقاف تلك الحرب والإصلاح بين الفريقين وحقن دماء المسلين ويروي ابن كثير رواية لا أدري مدي صحتها أن معاوية خشي أن تبايع القراء كلهم عليا فلجأ إلي حيلة حيث كتب علي سهم من عبد الله الناصح ( يا معشر أهل العراق إن معاوية يرد أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم ورمي به في جيش أهل العراق فأخذه الناس فقرأوه وتحدثوا به وذكروه لعلي فقال إن هذا ما لا يكون ولا يقع ولكي تنطلي الحيلة علي جند علي بعث معاوية مأتي فاعل يحفرون في جنب نهر الفرات فبلغ الناس ذلك وأحدثوا هرجا كثيرا فقال لهم علي ويحكم إنه يريد خلعكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لأنه خير من مكانه ولكنهم صمموا علي الرحيل من هذا الموقع فرحلوا منه وجاء معاوية فنزل بجيشه فيه . ([8])


    وظل الحال هكذا تتقاتل الفرق بين الصفوف ولم يقو أحد الجيشين علي خوض الحرب الشاملة إنما اقتصروا علي المناوشات مرة أو مرتين في اليوم وكان هم أمير المؤمنين علي أن يتم الصلح وأن يحقن الدماء ولكن دون جدوى ولما طال به المقام أرسل رجلا فنادي في الناس عند غروب الشمس : ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق ، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا وإني قد نبذت إليكم علي سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ([9]). ففزع أهل الشام وأيقنوا أن الحرب قائمة وأخذ الجيشان يستعدان وينظم كل منهما كتائبه استعدادا لهذا اللقاء العنيف والقتال الشديد وأود أن أنوه إلي أننا أطلنا الحديث عن بدايات الحرب لنثبت للقارئ الكريم أن الإمام عليّ كان هدفه من إطالة تلك الحرب الإصلاح بين الناس وجمع شمل المسلمين واستقرار أمور الدولة دون اللجوء إلي الحرب ولم يكن حريصا علي القتال في حد أو كهدف أساسي ذاته ، ومما يدلل علي ذلك أنه كان يوصي جنوده بألا يبدءوا القتال حتى يبدأ الخصم وتأمل ما كان يقوله لجنوده : ( لا تقتلوا القوم حتى يبدأوكم ، فأنتم بحمد الله علي حجة ، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا علي جريح ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فإذا وصلتم إلي رحال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في معسكر ، ولا تهيجوا امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوي والنفس . ([10])هذه هي أخلاقيات حرب المسلمين وأدائها يحرص عليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأن المتقاتلين مسلمون ولا داعي للإيغال في العقوبة أو التخريب في أرض المسلمين .


    وظل الجيشان يقتتلان فرقة فرقة ستة أيام لم يبد فيها منتصرا أو منهزما وكان أغلب المبارزين من رؤساء هذه الفرقة إما آباء أو أبناء قد غطاهم الحديد ولم يعرفوا إلا عندما تنكشف الدروع وأغطية الوجه عن الوجوه وفي اليوم الأخير خرج الإمام علي بعد صلاة الصبح مبكرا يقود أصحابه وزحف علي أهل الشام بجيش كثيف ووقف معاوية تحت القبة التي ضربها له أهل الشام ويحف بها الحرس من كل جهة وهجمت الجيوش بعضها علي بعض وكانت الحرب سجالا .


    وقد هجمت ميمنة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه علي ميسرة معاوية وزحزحتها عن مواقعها ومازالوا يضغطون عليها حتى لجئوا إلي خيمة معاوية ([11]) ، وانعكس الأمر علي ميمنة أهل العراق وصارت الضربات سجالا وشارك أمير المؤمنين علي في المعركة بنفسه وأخذ يشجع حاملي الرايات ويثبتهم ويمنيهم بالنصر وزحف الأشتر علي ميمنة أهل الشام وظل يقاتل وقتل أربعة صفوف من الذين بايعوا معاوية علي الموت ولم يبقي حول معاوية إلا صف واحد وكاد معاوية أن ينهزم بل فكر في الفرار ولكنه ثبت وأثبت عبد الله بن البديل شجاعة فائقة إذ تقدم برجاله نحو أهل الشام وترك رجاله يقاتلون بينما أخذ هو يشق جمع صفوف الشام لا يلوي علي شيء حتى وصل إلي مكان معاوية فألتف أصحاب معاوية يدافعون عنه وأمرهم أن يقذفوا بالحجارة لأن السيوف لا تنفع فأتوا بالصخر وأخذوا يضربون به عبد الله بن البديل حتى قتل . رأي معاوية جرأة أهل العراق الذين اجترأوا عليه أكثر من مرة يريدون قتله . وفكر معاوية في قتل أمير المؤمنين علي فحرض عليه عمرو بن العاص حريثا مولي معاوية وأخذ يزين له شرف قتل أمير المؤمنين وفي الصباح كان الإمام عليّ يتفقد القتلى فجاءه حريث وطلب منه أن يبارزه فبارزه عليّ فقتله .


    ولم يكن علي فرحا سعيدا بقتل المسلمين من أهل الشام بل كان يحزنه أشد الحزن أن تسقط زهرة شباب المسلمين وحكمة شيوخهم صرعى بأيدي المسلمين أنفسهم إخوانهم في الدين والعروبة والإسلام في حاجة لهؤلاء القتلى ليصد بهم المتربصين له والحانقين عليه ولكن الله سلم وقد كانت تبدوا من أمير المؤمنين علي بعض التصرفات التي تدل علي عمق إيمانه وكراهيته للقتل وللحروب وحرصه علي الود بين أصدقائه ، وإضافة كما سبق يروي بن كثير أن عمرو بن العاص صمم علي أن يخرج ليبارز عليا وفي الصباح وقف عمرو ينادي يا أبا الحسن أخرج إلى أنا عمرو بن العاص وخرج إليه علي وتبارز الرجلان دون أن يتمكن أحدهم من الآخر ولكن الإمام علي حمل عليه ولما رأي عمرو أنه مقتول لا محالة والسيف علي رقبته ألقي بنفسه إلي الأرض ورفع رجله فبدت عورته فصرف علي وجهه وتركه فلما سأل أصحاب علي مالك رجعت عنه ؟ فقال هذا عمرو بن العاص تلاقني بسوءته فذكرني بالرحم فرجعت عنه وفهمها معاوية فقال لعمرو أحمد الله وأحمد إستك ([12]) .


    ودارت المعارك رهيبة بين الطرفين تكسرت فيها الرماح والسيوف وقد تكسر لعلي أكثر من سيف وتسربلت الأجسام والوجوه بالدماء وتنادي الناس من كل ناحية يا معشر العرب من للنساء والأولاد ؟ الله الله في الحرمات وظل الأمر هكذا حتى أقترب أهل العراق من مكان معاوية واضطر أن يخلي سرادقه واستمرت المعارك علي النحو أياما وليالي ([13]) .

    * * * *





    (1)


    تقتله الفئة الباغية



    يروي الطبري أن عمار بن ياسر رحمه الله حينما اشتدت المعركة واستحر القتل قال أين من يبتغي رضوان الله عليه ، ولا يثوب إلي مال ولا ولد ! فأتته عصابة من الناس ، فقال :أيها الناس ، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان ، ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله ما طلبتهم بدمه ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم أن قالوا : إمامنا قتل مظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا ، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم .


    لقد كان عمار ممتلئا حماسة وإنصافا للحق وأهله فأسمع إليه يقول لعمرو بعد أن دنا منه ( يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك تبا ! طالما بغيت في الإسلام عوجا وقال لعبيد الله بن عمر بن الخطاب صارعك الله بعت دينك من عدو الإسلام وابن عدوه قال : لا ولكن أطلب بدم عثمان بن عفان فقال له أشهد علي علم فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فأنظر إذ أعطي الناس علي قدر نياتهم ما نيتك . ([14])


    فقد أخبر رسول الله r في مقتل عمار بن ياسر فقد يروي محمد بن فضيل عن مسلم الأعور عن حبة بن جوين العرني قال : انطلقت أنا وأبو مسعود إلي حذيفة بالمدائن ، فدخلنا عليه ، فقال : مرحبا بكما ، ما خلفتما من قبائل العرب أحدا أحب منكما . فأسندته إلي أبي مسعود ، فقلنا : يا أبا عبد الله ، حدثنا فإنا نخاف الفتن ؛ فقال : عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية ، إني سمعت رسول الله r يقول : (( تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق ، وإن آخر رزقه ضياح ( الضياح بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء ) من لين )) . قال حبة : فشهدته يوم صفين وهو يقول : ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا ، فأتي بضياح من لبن في قدح أروح ( (روح ، أي فيه سعة ) له حلقة حمراء ، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة فقال :

    اليوم ألقي الأحبة محمدا وحزبه



    والله لو ضربنا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا علي الحق وأنهم علي الباطل ، وجعل يقول : الموت تحت الأسل ، والجنة تحت البارقة ([15]) .


    وقد كان لمقتل عمار أثر كبير ودوي هائل في المعسكرين العراقي والشامي حيث أن مقتل عمار كما أخبر رسول الله r حينما قال له تقتلك الفئة الباغية فقد تبين لأصحاب عليّ أنهم علي حق وأن معاوية باغ وقد وقع الإثم وقد تحدث عمرو بن العاص عما أخبر به الرسول r لعمار ( تقتلك الفئة الباغية وأخر شربه تشربها صاع لبن ) وكان الرجال يؤتون إلي معاوية مفاخرين كلا يدعي أنه قتل عمارا وقد كان الناس يخلطون في الحديث حتي جاء قاتله وسأله عمرو فقال سمعته يقول ( اليوم ألقي الأحبة محمدا وحزبه فقال عمرو أنت صاحبه ثم قال رويدا والله ما ظفرت يداك ولقد أسخبت ربك ) ([16])وقد كان لمصرعه دوي هائل عند أهل العراق وأهل الشام معا حيث أقبلت همدان والأنصار وربيعة وطئ واختلطت القبائل بعضها علي بعض وحمي وطيس المعركة واشتد القتال وحطمت همدان أهل الشام حتى قذفته إلي معاوية وأمر عليّ الأشتر أن يتقدم باللواء إلي أهل حمص وأهل قنسرين فأكثر القتلى في أهلهما وصرع علي أيديهم المرقال وقد حزن عليه عليّ رضي الله عنه ([17]) .


    وإذا كان الإمام علي وأصحابه واثقين من أنهم بريئون من البغي علي عمار فإن معسكر معاوية قد اضطرب لهذا الأمر حتى فكر معاوية كيف يخرج من الفئة الباغية ، يروي الطبري عن المسلمين ومعهم الرسول r وهم يبنون المسجد والناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لينة وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين ، فخشي عليه ، فأتاه رسول الله r فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : ( ويحك ابن سمية . الناس ينقلون حجرا حجرا ، ولبنة لبنة ، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر وأنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية ([18]) .


    ولم يكد عمرو يسمع هذا من ولده حتى دفع صدر فرسه ، ثم جذب معاوية إليه فقال : يا معاوية ، أما تسمع ما يقول عبد الله ؟ قال : وما يقول فأخبره الخبر .


    فقال معاوية : إنك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك أو نحن قتلنا عمارا ؟ إنما قتل عمارا من جاء به .


    فخرج الناس يرددون تلك الكلمة ويقولون : إنما قتل عمارا من جاء به . ([19]) وهذه خدعة أثارها معاوية ليخدع بها الناس .


    وهذا القول بعيدا عن الحقيقة وعارِ منها تماما فيذكر بن كثير أن معاوية لم يكتف بذلك القول الظالم بل لجأ إلي وصف عمار وجماعته بالفئة الباغية فكان يقول إنما نحن الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان ([20]).


    لقد طالت أمد الحرب بين العراقيين والشام ولكن كفتها بدأت تميل نحو الإمام عليّ وقد بلغ الإعياء والجهد مبلغه في رجال معاوية ولقد كان قتل عمار بن ياسر مثيرا لأصحاب عليّ فدفع الأشتر النخعي أن يقتل علي أمير المؤمنين ويقول له وهو جريح ( خيل كخيل ورجال كرجال ولنا الفضل إلي ساعتنا هذه فعد مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يطلبونك حيث تركوك ) فامتطر الإمام علي فرسه وتعصب بعمامة رسول الله السوداء وأثار حمية الرجال وقال إن هذا يوما له ما بعده وقاد أثني عشر ألاف من خيرت معسكره وحمل بهم علي معسكر أهل الشام واستطاع أن يمزق صفوفهم وأن يقتل منهم خلقا كثيرا وظلوا طوال الليل يتقاتلون حتى نفذت الرماح وفنيت النبال وفلت السيوف واضطروا إلي الالتحام والتقاتل بالأيدي والحجارة وحثوا التراب في الوجوه واستمر الحال علي ذلك حتى أصبح الناس وقد انكشف معسكر أهل الشام ومال النصر لأمير المؤمنين عليّ فلما رأي عمرو بن العاص أن معسكرهم قد وهم وأهل الشام قد اشتدوا خاف الهلاك وقال لمعاوية هل لك من أمر أعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة قال:نعم . قال : نرفع المصاحف ونطلب التحكيم إلي كتاب الله والحقيقة أن تلك الفكرة قد قبلها كلا من المعسكرين. ([21]) .

    * * * *


    (2)


    رفع المصاحف وطلب التحكيم :



    لقد أدرك الإمام عليّ مغزى هذه الفكرة التي ألقي بها عمرو بن العاص وحاول أن يثني أصحابه عن قبولها وألح في ذلك إلحاحا كثيرا وقال لأصحابه أنهم نادوا بهذه الفكرة لتثبيط همم المقاتلين إذ أوشكنا أن نحرز النصر ولكن أتباع عليّ أجبروه علي قبول التحكيم وهددوه وقالوا له يا عليّ أجب إلي كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك إلي القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان أنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك ، والغريب في الأمر والباعث للدهشة إن الذين أجبروا عليا علي قبول التحكيم هم الذين يعرفون بالقراء وهم الذين كفروا عليا بعد ذلك لأنه قبل التحكيم وهؤلاء القوم هم الذين كانوا نواة خرج من رحمها الخوارج فماذا قال لهم الإمام علي بعد أن أجبروه علي وقف القتال وقبول التحكيم ولكن الإمام عليّ كرر عليهم قوله حتى قال: ( فأحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم؟ ([22]).


    ويري المسعودي أن رفع المصاحف كان خدعة لعليّ وأصحابه حتى يوقفوا القتال إذ كان الأشتر قائد ميمنة جيش عليّ قد أشرف علي الفتح ونادت مشيخة أهل الشام يا معشر العرب : الله الله في الحرمات والنساء والبنات ونظر معاوية إلي عمرو بن العاص وقال له قد هلكنا يا ابن العاص وتطلب من ولاية مصر ومازلت تذكرها فقال عمرو : أيها الناس من كان معه مصحف فليرفعه علي رمحه فكثرت في الجيش رفع المصاحف وارتفعت الضجة ونادوا كتاب الله بيننا وبينكم من لثغور الشام بعد أهل الشام ؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق ؟ ومن لجهاد الروم ؟ ومن للترك ؟ ومن للكفار ؟ ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف ، وفي ذلك يقول النجاشي ابن الحارث :


    فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا عليها كتاب الله خير قرآن


    ونادوا علينا : يا ابن عم محمد أما تتقي أن يهلك الثقلان ؟ ([23])


    لقد تبين لنا أن عليا وقومه في انتصار وغلبة وأوشكوا علي النهاية ولكن الخدعة التي لجأ إليها عمرو بن العاص وأقنع بها معاوية كانت محكمة فكيف يعرض علي القوم التحكيم بالقرآن الكريم وهم يرفضون ومن هنا أصر القوم إصرار شديدا علي وقف القتال وقبول التحكيم ورأي الإمام علي أن الأمر خرج من يده وإنه إذا لم يطع هؤلاء القوم فسوف تحدث فتنة لا تحمد عواقبها من هنا نزل أمير المؤمنين علي رغبتهم وطلبوا منه ان يرسل إلي الأشتر ليوقف القتال فرفض الأشتر لأنه كان واثقا من النصر القريب فكيف يوقف القتال ويضيع كل شيء ولكن الإمام علي نزولا علي رغبة هؤلاء القوم أمر بأنه يأتيه الأشتر ويشير بن كثير إلي معني الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين والأشتر وهؤلاء القوم فالأشتر قد جاء وهو يتململ ويتحرق غيظا فهو يريد أن يمهلوه قليلا حتى يتحقق النصر فبادر يزيد بن هانيء الأشتر قائلا أيهما أحب إليك أن تسمع وتطيع أم يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان فقبل ذلك وقلبه ينفطر من الغيظ فقال يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم ظهرا وظنوا أنكوا لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلي ما فيها وقد تركوا والله ما أمر الله به فيها وتركوا سنة نبيه r فلا تجيبوه ([24]).


    وأخذ الأشتر يحاورهم ويقول : فخبروني عنكم ، متى كنتم محقين ؟ أحين تقاتلون وخياركم يقتلون ؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم أنتم الآن محقون ؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار .


    قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم لله ، وندع قتالهم لله .


    قال : خدعكم فانخدعتم ، ودعيتم إلي وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ، كنا نظن صلاتكم زهاده في الدنيا وشوقا إلي لقاء الله ، فلا أري مرادكم إلا الدنيا ، ألا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون ([25]) .


    وتساب الأشتر والقراء وضربوا وجه دابته وضرب وجوه دوابهم حتى صاح بهم علي فكفوا وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما فجاء الأشعث بن قيس إلي عليّ وأخبره أن الناس قد رضيت وسرهم دعوتهم إلي تحكيم القرآن فإن شأت أتيتُ معاوية فسألته ما يريد فقال له الإمام أئته إن شأت فسله . فجاءه وقال يا معاوية لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟ قال لنرجع نحن وأنتم إلي ما أمر الله عز وجل به في كتابه ؛ تبعثون منكم رجلا ترضون به ونبعث منا رجلا ثم نطلب منهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يحيدا عنه ثم نتبع ما اتفقنا عليه . ثم رجع الأشعث وأخبر الإمام عليّ وقد أختار أهل الشام عمرو بن العاص ممثلا لهم .


    بينما أختلف أهل العراق ومعهم الإمام عليّ في أختيار من يمثلهم من الحكام وقد وقع أختيار عليّ علي بن عباس وكان حجته أن عمرو بن العاص حكم معاوية رجلا له مكانته في قريش فلا بد للحكم الأخر أن يكون في مستواه من قريش ولهذا السبب أختار بن عباس . فرفض القوم وقال الأشعث بن قيس قد رضينا بأبي موسي فقال عليّ لست أثق برأي أبي موسي ولا بحزمه إنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي لا نرضي إلا به فإنه ما كان يحذرنا منه وقعنا فيه . فقال الإمام عليّ إن أبا موسي قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر ، فاجعلوا هذا الأمر لابن عباس قالوا لا بل نريد رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلي أحد منكم بأدنى منه إلي الأخر ، ثم أشار عليهم علي أن يختاروا الأشتر ، وقالوا وهل سعر هذه الحرب إلا الأشتر ([26]). فقال علي إذن فاصنعوا ما أحببتم وبعث الناس إلي أبي وموسي وأخبروه ودخل علي الإمام عليّ ورضوا به فقبله الإمام وهو مغلوب علي أمره . ([27])


    والمعروف بداهة أن الحكميين لابد أن يكونا علي قدر متماثل في الحيطة والحكمة والذكاء والشرف والعدل وهذا ما يفهمه العرب تماما . وعلي ما يبدوا أنه قد أنعدم التكافؤ بين الحكمين وقد يؤدي ذلك إلي وقوع الظلم علي أحدهما وهذا ما لاحظه الأحنف إذ جاء بالإمام عليّ وقال رأيه في أبي موسي الأشعري : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميت بحجر الأرض ، وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا ، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدة أعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها . فأبي الناس إلا أبا موسي والرضا بالكتاب ؛ فقال الأحنف : فإن أبيتم إلا أبا موسي فأدفئوا ظهره بالرجال . ([28])

    * * * *


    (3)


    وثيقة التحكيم :



    نص الوثيقة : } بسم الله الرحمن الرحيم {


    هذا ما تقاضي عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي عليّ علي أهل الكوفة ( صفين : العراق ) ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية علي أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين ، إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه ، ولا يجمع بيننا غيره ، وإن كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته إلي خاتمته ، نحي ما أحيا ، ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل – وهما أبو موسي الأشعري عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي – عملا به ، وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق ( ابن الأثير والنويري " المواثيق " ) والثقة من الناس ، أنهما آمنان علي أنفسهما وأهلهما ، والأمة لهما أنصار علي الذي يتقاضيان عليه ، وعلي المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا علي ما في هذه الصحيفة ، وأن قد وجبت قضيتهما علي المؤمنين ، فإن الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أنما ساروا علي أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، وشاهدهم وغائبهم . ([29])





    اجتماع الحكمين :


    1- عمرو بن العاص : هو الحكم الذي يمثل معاوية بن أبي سفيان .


    2- أبو موسي الأشعري: وهو الحكم الذي وقع عليه الاختيار من قبل أهل العراق وأمير المؤمنين وقد وافق مكرها .


    - اتفق علي أن يحكما بكتاب الله أولا فإذا لم يجدا فيه أتجها إلي سنة رسول الله r ولا يتبعان في ذلك الهوى أو الشبهات وأن يحيي الحكمان ما أحي القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، ولا يداهنان في شيء من ذلك فإن فعلا فلا حكم لهما ، والمسلمون من حكمهما براء ، قال عليّ للحكمين حين أكره علي أمرهما ورد الأشتر وكان قد أشرف في ذك اليوم علي الفتح فأخبره مخبر بما قالوا في علي وأنه إن لم يرده سلم إلي معاوية يفعل به ما فعل بابن عفان ، فانصرف الأشتر خوفا على عليّ فقال لهما علي : علي أن تحكما بما في كتاب الله ، وكتاب الله كله لي ، فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكم لكما .


    3- مكان الاجتماع: وهو دومة الجندل : وهو مكان ارتضاه الحكمان لأنه في موقع متوسط بين العراق والشام .


    4- تاريخ الوثيقة: يوم الأربعاء السابع عشر من شهر صفر سنة سبع وثلاثين وأقام الناس في صفين سبعة وسبعين يوما . ([30])

    * * * *





    أتفق الجمعان علي أن يوافي عليّ ومعاوية دومة الجندل في رمضان ليسمعا ما توصل إليه الحكمان وقد لجئ كل منهما إلي إطلاق سراح أسراهم .


    وفي شهر رمضان من عام ثمان وثلاثين كان التقاء الحكمين في دومة الجندل وحضر الاجتماع مجموعة كبيرة من الصحابة رضوان الله عليهم كشهود علي ما يتفق عليه فحضر علي سبيل المثال عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن عبد يغوث وعبد الرحمن بن الحارث والمغيرة بن شعبة وأبو جهم بن حذيفة . ([31])


    وكان من المفروض أن يحضر الطرفان الأساسيان الإمام عليّ ومعاوية فرفض الإمام عليّ الحضور لأنه غير راض عن الحكم وقد أجبره أتباعه علي القبول بينما حضر معاوية جلسة التحكيم وقد تجنب بعض الصحابة الحضور وفضلوا الاعتزال كما فعل سعد بن أبي وقاص فقد حاول ابنه أن يبلغه بحضور الصحابة في صفين وأن يشهد معهم علي التحكيم فقال لأبنه لا أفعل إني سمعت رسول الله r يقول : ( أنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي ) والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا . ( المصدر السابق ) ولنترك ما قيل من مساجلات حول الشهود وما بدر من معاوية وأنصاره وعليّ وأنصاره أقول لنطرح ذلك جانبا ولنستمع إلي قول الحكمين وما اجتمع عليه فقد تردد حول التحكيم أراء كثيرة متباينة فيما بينها وفي أغلبها إجحاف وظلم للصحابة رضوان الله عليهم وقد بدأ الحكمان في المداولة واتفقا علي ألا يكتب إلا ما اتفق عليه القاضيان معا .


    ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هذا ما تقاضي عليه أبو موسي عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص تقاضيا علي أنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون ، ثم قال عمرو ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله r بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه وقد أدي الحق الذي عليه قال أبو موسي اكتب ثم قال في عمر مثل ذلك ثم قال عمرو أكتب ( وأن عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر علي اجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله r ورضا منهم وأنه كان مؤمنا ) قال أبو موسي ليس هذا مما قعدنا له قال عمرو لابد والله من أن يكون مؤمنا أو كافرا قال أبو موسي أكتب ، قال عمرو فظالما قتل عثمان أو مظلوما ، قال أبو موسي: بل قتل مظلوما ، قال عمرو : أفليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطانا يطلب بدمه ، قال أبو موسي : نعم ، قال عمرو فهل تعلم لعثمان وليا أولي من معاوية ، قال أبو موسي : لا ، قال عمرو أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان أو يعجز ، قال أبو موسي : بلي ، قال عمرو : للكاتب اكتب وأمره أبو موسي فكتب ثم قال أبو موسي هذا أمر قد حدث في الإسلام وإنما اجتمعنا لله فهلم إلي أمر يصلح الله به أمة محمد ، قال عمرو: ما هو قال أبو موسي قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا فهل نخلعها جميعا ونستخلف عبد الله بن عمر ، قال عمرو : أيفعل ذلك عبد الله بن عمر؟ قال : نعم نعم إذا حمله الناس علي ذلك فعل ؛ فقال له عمرو : هل لك في سعد قال لا فعدد له جماعة كلهم يأباه أبو موسي ولا يرضي إلا بعبد الله بن عمر ، فأخذ عمرو الصحيفة بعد أن ختما عليها جميعا ولم يتفق الحكمان علي من يولياه أمر هذه الأمة لأن أبا موسي رضي بخلع علي ومعاوية ولم يختر للخلافة إلا عبد الله بن عمر وعمرو ابن العاص لم يرضه فافترقا علي ذلك ولم يحصل بينهما غير ما كتب في الصحيفة كما حكاه المسعودي في رواية له ، فأما أبو موسي فأنه استحيا أن يقابل عليا بعد أن أقر علي خلعه من الخلافة فلحق بمكة وأما عمرو ابن العاص فرأي أن الأمر صار شوري بين المسلمين حسبما سطر في الصحيفة ورضي به كلاهما فتوجه هو وأهل الشام إلي معاوية فبايعوه بالخلافة لأنهم رأوه أهلا لأن يقوم بأعبائها أما أمير المؤمنين علي فإنه رأي أن الحكمين لم يفيا بما تعهدا به من الحكم بالقرآن بل اتبع كل منهما هواه فصمم علي حرب معاوية مرة أخري ([32]) .


    ويروي الطبري حنكة عمرو بن العاص وكيفية التعامل مع أبي موسي الأشعري وكان يقدم أبا موسي في كلام ويدفعه إلي ما يريد من القول فكان يقول له أنت أسن منا وصاحب رسول الله ولك الفضل وبذلك عوده أن يتقدم في كل شيء وكان ذلك تمهيدا ليقدمه فيبدأ بخلع علي ويبدوا من المفاوضات إصرار أبي موسي علي تشجيع عبد الله بن عمر ولو استجاب له عمرو بن العاص لكان فيه اتفاق علي تعيين الخليفة وبذلك يتم الاستغناء عن علي ومعاوية وأخذ عمرو بن العاص يعرض عليه بعض الشخصيات فيرفضها عرض عليه معاوية فرفض ثم عرض عليه أبنه عبد الله فرفضه فألح عليه أن يختار ابنه عبد الله قال له عرضت أبنك للفتنة فخاض فيها وبذلك رفض ، وبعد مداولات قال أبو موسي أري أن نخل هاذين الرجلين ونجعل الأمر شوري بين المسلمين فأستحب عمرو هذا الرأي وهو قريب من ميوله ورغباته فقال الرأي ما رأيت وأقبل أبو موسي وعمرو علي الناس وهم مجتمعون يتلهفون لسماع نتيجة المداولات وإذ بعمرو يقول يا أبا موسي أعلمهم بأن رأينا قد اجتمعا واتفقا فتقدم أبا موسي فحمد الله عز وجل واثني عليه ثم قال : ( أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ، ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه ؛ وهو أن نخلع عليا ومعاوية ، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم ، وإني قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم ، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ؛ ثم تنحي . وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه ، فحمد الله وأثني عليه وقال : إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه . فقال أبو موسي : ما لك لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ! . ([33])


    وهناك رواية أخرى ذكرها المسعودي قال أنه لم يكن بينهما غير ما كتب في الصحيفة وإقرار أبي موسي بأن عثمان قتل مظلوما وغير ذلك مما قدمنا ، وإنهما لم يخطبا ، وذلك أن عمرا قال لأبي موسي : سم من شئت حتى أنظر معك ، فسمي أبو موسي ابن عمر وغيره ثم قال لعمرو : قد سميت أنا فسم أنت ، قال : نعم ، أسمي لك أقوي هذه الأمة عليها ، وأسدها رأيا ، وأعلمها بالسياسة ، معاوية بن أبي سفيان ، قال : لا والله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟ قال : أبو عبد الله عمرو بن العاص ، فلما قالها علم أبو موسي أنه يلعب به ، فقال : فعلتها لعنك الله ، فتسابا ، فلحق أبو موسي بمكة . ([34])


    ويفضل في هذا الرأي أن نستطرد في ذكر بعض أراء من الرواة والكتاب والمفكرين في شأن التحكيم فإن أغلب هذه الروايات كما قلت قد أساءت إلي الصحابة رضوان الله عليهم فهم النجوم التي نهتدي بها في الليلة الظلماء ولا يحق لنا أن نسير وراء تلك الآراء وننخدع بها وأن نردد تلك الأقوال بدون أدارك أو وعي وكما قلنا أن الصحابة بشر فهم يخطئون ويصيبون ولكن هؤلاء خلفاء راشدون ونحن مطالبون أن نقتدي بهم ولا نسيء إليهم .


    وفي اختلاف الحكمين والمحكمة يقول بعض من حضر ذلك في أبي موسي حيث يقول ابن أعين : ([35]) .


    أبا موسي ، بليت وأنت شيـخ قريب العفـو محزون اللسان


    وما عمرو صفاتك يا أبن قيس فيـا لله مـن شيـخ يمـاني


    فـأمسيت العشيـة ذا اعتـذار ضعيف الركن منكوب الجنان


    تعض الكف من نـدم ، وماذا يـرد عليك عضـك للبنان ؟


    هناك عدة ملاحظات ينبغي علينا الوقوف عندها وقفة تأمل :-


    1- خرج أبو موسي من هذا التحكيم غاضبا مستاءا من عمرو بن العاص حيث علم أنه يلعب به فقال فعلتها لعنك الله أنظر هذا الرأي فيما سبق .


    2- بعدما أنصرف أبو موسي دعا معاوية عمرا إليه فرفض أن يذهب وقال من له حاجة فيذهب إلي الأخر حيث أن الحاجة أصبحت إلينا وعلم معاوية مآرب عمرو بن العاص وأعمل الحيلة وبعد غداء طويل دعيا إليه أهل ابن العاص ومواليه وبعدما تناولوا الغداء وخرجوا جاء أصحاب معاوية وشيعته ليتناولوا الغداء وبعد ما تم الغداء أغلق الباب وأصبح معاوية وعمروا وجه لوجه فقال له عمرو : فعلتها ، فقال : إي والله بيني وبينك أمران فاختر أيهما شئت : البيعة لي ، أو أقتلك ، ليس والله غيرهما ، قال عمرو : فأذن لغلامي وردان حتي أشاوره وأنظر رأيه ، قال : لا تراه والله ولا يراك إلا قتيلا أو علي ما قلت لك ، قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر ، قال : هي لك ما عشت ، فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه ، وأحضر معاوية الخواص من أهل الشام ، ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو ، فقال لهم عمرو : قد رأيت أن أبايع معاوية ، فلم أر أحدا أقوى علي هذا الأمر منه ، فبايعه أهل الشام ، وانصرف معاوية إلي منزله خليفة ([36]) .


    3- ولما بلغ عليا ما كان من أمر أبي موسي وعمرو إني كنت تقدمت إليكم في هذه الحكومة ونهيتكم عنها فأبيتم إلا عصياني ، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم علي ؟ . والله إني لأعرف من حملكم علي خلافي والترك لأمري ، ولو أشاء أخذه لفعلت ، ولكن الله من ورائه يريد بذلك الأشعث بن قيس والله أعلم ، وكنت فيما أمرت به كما قال أخو بني خثعم :


    أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحي الغد


    من دعا إلي هذه الحكومة فاقتلوه قتله الله ولو كان تحت عمامتي هذه ، ألا إن هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم الله ، وحكم بهوي أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أماته ، واختلف في حكمهما كلامهما ، ولم يرشدهما الله ولم يوفقهما ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فتأهبوا للجهاد واستعدوا للمسير ، وأصبحوا في عساكركم إن شاء الله تعالي ([37]) .


    لقد أختلف كثير من الفرق في الحكمين وقالوا فيهما أقاويل كثيرة منها ما قالته المعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم ومنها قول علي بن أبي طالب وخطبه في هذا الأمر فأنظر إلي كلام أبي موسي في تخليله الناس وتحريضهم علي الجلوس وتثبيطهم عن أمير المؤمنين عليّ في حروبه ومسيره إلي الجمل وغير ذلك فقال : وقد زعمت قريش أن ابن أبي طالب شجاع ولكنه لا علم له بالحرب ، تربت أيديهم ! وهل فيهم أشد مراسا لها مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد أربيت علي نيف وستين ، ولكن لا رأي لمن لا يطاع . ([38])


    ومن أراء الكتاب والمؤرخين المحدثين في شأن التحكيم نذكر تلك الآراء :


    - يري الدكتور: محمد السيد الوكيل أن هذا الموضوع إذا نظرنا إليه بنظرة سطحية ضيقة لوجدنا أن اقتراح أبي موسي التخلص من الرجلين دون أن يتفق علي خليفة جديد سيؤدي ذلك إلي مزيد من سفك الدماء وإلي حروب لا يعرف نهايتها إلا الله ، وسوف تكون البلاد مرتعا خصبا لفتنة السبئين وقتلت عثمان والخوارج الذين خرجوا من الإسلام وقد يثار كل الخلافات القديمة والحديثة وتبدأ دورة المطالبة بدماء عثمان التي لم تجف بعد وقميصه الذي لم يزل في ذاكرة الناس بل قد يتسلل أحد هؤلاء المتمردين الفجرة ويقبضون علي ذمام الأمر وتصير إليهم مقاليد الأمور .


    - إذن الأمر يحتاج إلي نظرة أعمق وموضوعية أقوي من النظرة السطحية السابقة فإن ترك الأمور علي هذا الشأن دون اختيار خليفة لأمر فادح وخطير فهل هناك رجل أفضل من الرجلين في هذا الوقت أي هناك شخص ثالث يمكن أن يختاره المسلمون خيرا من عليّ ومعاوية ؟


    ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد يقول البعض ربما يتفق المسلمون ولكن ما الذي يجعلهم يتفقون وقد مروا بتجربة خطيرة بعد وفاة رسول الله r عرفوها في سقيفة بني ساعده وقد عصمهم الله حينما اختاروا أبا بكر فكانت رحمة من الله . وعرفوها يوم مات أبو بكر وقد رشح عمر حتى تجتمع كلمة المسلمين ثم تمت البيعة العامة بعد ذلك وعرفوها أيضا يوم قتل عمر حيث رشح ستة من المبشرين بالجنة وجعل أمر الخلافة فيهم وذلك حتى لا تتفرق كلمة الله وقد عصمهم الله باختيار عثمان وهنا اليوم اضطربت الأمور وقتل عثمان ولابد من خليفة يعصم أمر المسلمين ويوحد كلمتهم ولعل هذا المعني هو الذي أدركه عمرو بن العاص حين لم يخلع معاوية وثبته بعد أن خلع أبو موسي عليا ولا غرو في ذلك فإن أبا موسي كان غير راض عن الرجلين ولا يود أحدهما أن يكون خليفته حيث دخل كلا منهما في الفتنة وإراقة دماء المسلمين ، إذن لابد للمسلمين من إمام يجمع شملهم ويوحد صفهم ويحقن دمائهم في تلك الظروف الصعبة التي مازالت دماء الفريقين تنزف ولم تجف بعد . فكانت النظرة الصائبة والعميقة لعمرو بن العاص حين يبقي أحد الرجلين خليفة يجتمع حوله المسلمون ، وإذا كان أبو موسي قد خلع عليا فلابد أن يبقي معاوية ولعل هذا هو السر في أن وقف عمرو بن العاص فثبت صاحبه حين قال : ( إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه واثبت صاحبي معاوية ) . فلا عجب أن يكون هذا التصرف من عمرو بن العاص هو التصرف الوحيد الذي يمكن ان يحفظ جماعة المسلمين ويبقي علي تماسكهم ([39]) .


    ومن الجدير بالذكر هنا أن نفرد مساحة لرأي الإمام أبي بكر بن العربي صاحب العواصم من القواصم فهو يري كل ما روي حول التحكيم وقد تحكم فيه الناس وقالوا مالا يرضي الله ولا يليق بالصحابة رضوان الله عليهم والذي يصح هو ما رواه الأئمة كخليفة بن خياط والدار قطني أنه لما خرجت الطائفة العراقية في مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفا ونزلوا علي الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء علي الماء فغلب أهل العراق عليه .


    ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة ( سبع وثلاثين ) ويوم حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعوتين بالحق ، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلي الصلح ، وتفرقوا علي أن تجعل كل طائفة أمرها إلي رجلٍ هما : أبو موسي من جهة عليّ ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص . ([40])


    ويتعجب القاضي بن العربي من تلك الرواية التي ذكرت دهاء عمرو بن العاص حتى ضرب به الأمثال وصنفوا في ذلك حكايات تدل علي فساد الرجل وقد بنوا ذلك علي أن عمرا لما غدر أبا موسي في قصة التحكيم صار له المثل الأعلى والذكر في الدهاء والحقيقة أنهما حينما اجتمع القاضيان في دومة الجندل وتفاوضا أتفقا علي أن يخلعا الرجلين فقال عمرو لأبي موسي : اسبق بالقول فتقدم فقال : إني نظرت فخلعت عليا عن الأمر ، ولينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعت سيفي هذا من عاتقي – وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر ، كما أثبت سيفي هذا في عاتقي . وتقلده : فأنكره أبو موسي ، فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمع علي ذلك من الاختلاف . ([41])


    ويمكننا القول مما سبق أنه حينما قال عمرو بن العاص إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما اثبت سيفي هذا في عاتقي فالأمر هنا المراد به الاستمرار في إدارة البلاد التي تحت يده فإن هذا الأمر ماض علي معاوية وعليّ معا فكلا منهما باق للحكم علي ما تحت يده . وإذ كان المراد بالأمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماما أي لم يكن خليفة حتى يثبته عمرو كما كان وهذه هي نقطة المغالطة التي أشاعها الأفاكين من المؤرخين حيث أوهموا الناس بان هناك خليفتين أو أميرين للمؤمنين وأن الاتفاق بين الحكمين كان علي خلعهما معا وأن أبا موسي خلع الخليفتين تنفيذا للاتفاق وأن عمرو خلع أحدهما وأبقي الآخر خليفة خلافا للاتفاق وهذا كله كذب وإفك وبهتان والذي فعله عمرو هو نفسه الذي فعله أبو موسي لا يفترق عنه قيد أنملة وبقي أمر الإمام والخلافة أو إمارة المؤمنين معلقا علي نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا .


    وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من الحكمين فهما قد قاما بمهمتهم وفق اجتهادهما واقتناعهما .


    فعمرو بن العاص أشرف من أن يقال فيه أنه داهية وقد أشاد به النبي r وأثني عليه حينما قال : ( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ) ([42]) .


    كما لا يفوتنا في هذا المقام ان نتحدث عن النتائج والآثار التي نجمت عن التحكيم الذي اختلف حوله المؤرخون فما النتائج والآثار التي ترتبت علي التحكيم ؟ وللإجابة علي هذا التساؤل يقودنا إلي بسط قضية مهمة في التاريخ الإسلامي وهي قضية شاذة ينبغي النظر إليها بحذر والمراد بهذه القضية قضية ( الخوارج ) فما سبب تسميتهم بهذا الاسم وما أفكارهم واعتقاداتهم الدينية وما خطورة تلك الاعتقادات .


    اسم الخوارج جاء من جماعة خرجوا علي عليّ بن أبي طالب وصحبه لأنه قبل الأخذ بالتحكيم وحجتهم في ذلك أن حكم الله واضح لا يحتاج إلي هذا التحكيم وكان شعارهم (( لا حكم إلا لله )) ويسمون أيضا بالحرورية نسبة إلي قرية في الكوفة تسمي ( حروراء ) خرجوا إليها . وقد حاربهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الوقعة الشهيرة بوقعة ( النهروان ) وهزمهم وقتل منهم كثيرا ، ولكنه لم يستطيع أبادتهم إبادة تامة ، حتى دبروا له مكيدة قتلة علي يد عبد الرحمن ابن ملجم عليه من الله ما يستحق .


    وقد حاربت الخوارج الدولة الإسلامية ابتداء من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كما حاربت الخوارج الدولة الأموية واقلقوا راحتها في حروب متواصلة بحجة انها مغتصبة للخلافة بزعمهم ولكنها استطاعت أن تنهك قواهم وتعثر وجودهم ، غير أنها لم تستطع استئصالهم .


    والخوارج يقولون بتكفير عثمان لما غير وبدل بزعمهم ، وبتكفير عليّ لقبوله التحكيم وطعنوا في أصحاب الجمل وكل ذلك من جهلهم وضلالهم .


    أما من نظريتهم في الخلافة أن الخلافة تكون باختيار حر من المسلمين ؛ وقد خالفوا بذلك الشيعة القائلين بانحصار الخلافة في بيت النبي r . وهم بذلك يخالفون أهل السنة القائلين بأن الخلافة من قريش إذا وجدوا وتحققت فيهم الجدارة . وهو الحق .


    والخوارج علي الرغم من ضلالهم وانحرافهم إلا أنهم يتسمون بصفة واحدة وهى أنهم ، لم يعرفوا بالكذب كالرافضة الذين ينكرون الأحاديث الصحيحة ويضعون الأحاديث المكذوبة علي لسان رسول الله r ويؤولون آيات القرآن الكريم حسب أهوائهم ! ...


    وقد روي الإمام بن العربي أن النبي r قد ذكر في الفتن وأشار وبين . واخذ ينذر بظهور فرقة خارجة عن الدين وكانت هذه الفرقة هي الخوارج وقال تقتلهم أدنى الطائفتين إلي الحق وفي صحيح مسلم ك 12 ح150 ج3 صـ113 من حديث أبي سعيد الخدري ( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولي الطائفتين بالحق) ([43])


    وهكذا نجم عن التحكيم فجوات وزلات وانحراف في العقيدة ولعل خروج هذه الطائفة كانت سببا في تدهور معسكر العراقيين الذي يقوده الإمام عليّ بن أبي طالب فقد أفتروا افتراءا عظيما علي عليّ بن أبي طالب وخرجوا من طوعه لأنه قبل التحكيم وقالوا أن الحكم لله وحده ولا يجوز تحكيم الرجال فماذا يريدون بذلك هل هم ينتظرون وحيا من السماء ينزل بقرآن جديد ! لقد أنتهي عصر النبوة وأنقطع الوحي بنزول القرآن الكريم المادة الخصبة للتحكيم في كل شيء ولم يمت الرسول إلا بعد اكتمال الدين وأحكامه ونصرته وهذا نزاع بين طائفتين وحكمه في القرآن الكريم واضح جلي ، فلابد أن يتدخل الناس للإصلاح بينهما ولكن عميت القلوب وأغلقت الأذهان وبلغ العناد أقصاه حينما رموا المسلمين بالكفر وساءت الأحوال أمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أيقاتل أهل الشام الذين رفضوا الدخول في جماعة المسلمين والخضوع لطاعته أم ينبري لقتال تلك الفئة الباغية فأشار عليه أصحابه أن قتال المكفرين أولئك أولي وأهم من قتال المخالفين من أهل الشام فوافق علي ذلك وقد راسلهم وأعذرهم قبل القتال وإليك كتابه إلي الخوارج ورد الخوارج عليه :


    أولا : كتاب عليّ إلي الخوارج: ( بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلي زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس ، أما بعد ، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمهما خالفا كتاب الله ، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكما فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون ) .


    فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلي عدونا وعدوكم ، ونحن علي الأمر الذي كنا عليه والسلام ) ([44]) .


    ثانيا : كتاب رد الخوارج علي عليّ أمير المؤمنين: ( أما بعد ، فإنك لم تغضب لربك ، وإنما غضبت لنفسك ، فإن – شهدت علي نفسك بالكفر ، واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك ، وإلا فقد نابذناك علي سواء إن الله لا يحب الخائنين ([45]) .


    يئس الإمام علي من القوم بعد أن قرأ كتابهم ، وعلم أنهم لن يرجعوا عن غيهم وأجابهم بقوله : أصابكم حاصب ، وما بقي منكم وابر ، أبعد إيماني برسول الله r وهجرتي معه ، وجهادي في سبيل الله أشهد علي نفسي الكفر ؟ لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ([46]) .


    وإذا كان انتهي علي من أمر الخوارج بعد حروب طويلة وقاسية ، وقضي علي رؤوسهم ولكنه لم يستطيع القضاء علي أفكارهم التي سرت في النفوس الضعيفة المتوترة مسري النار في الهشيم وتمثل ذلك في أناس كانوا مصدر قلق واضطراب بما كانوا يثيرون من القتال الحين بعد الحين .


    وأخذ علي يحرض أصحابه علي الخروج لقتال أهل الشام ، ولكنهم تثاقلوا عن الخروج ولم تتهيأ له فرصة ليواجه قوات الشام فقعد ولم يخرج وبقي الوضع كما هو طوال عام 38 هـ حيث شغل علي بظهور فتنة جديدة وهي فتنة الخريت بن راشد .


    وهناك ملاحظة جديرة بالإشارة إليها من خلال تلك الفتنة التي فشت وتغلب المتآمرين علي الناس وإعلاء كلمتهم وهم علي الباطل فقد أرغموا عليّ علي قبول الخلافة بل هددوه فالمنصف هنا يستطيع أن يتبين أن السلاح الذي قتل عثمان بن عفان مازال باقيا وهو نفس السلاح الذي بات يتهدد حياة عليّ بن أبي طالب فمن الذي يعصمه ومدينة النبي r عاصمة الدولة الإسلامية صارت مستكينة تحت وطأة الإرهاب وقد عشش فيها أصحاب الفكر الشعوبي الذي يريدون به تخريب الإسلام وعقيدة المسلمين فليس الأمر فرقة من الناس خرجت وليس الأمر في مجموعة ابن سبأ التي تواطأت وليس الأمر في هؤلاء الغوغائيين الرعاع ولكن الأمر أفدح من ذلك وأخطر وهي تلك السموم التي يبثونها وتلك الأفكار التي يتبنونها والتي وجدت طريقها لتعشش في عقول بعض المسلمين وقد أجهدت تلك الفرق الضالة الحكومات المسلمة المتتابعة في حربها والقضاء عليها ولكنها مع ذلك انتقلت لتنتشر في الأمصار الإسلامية ولتصبح غذاء جديدا لعقول المسلمين فيها .


    أما قتلة عثمان المنتشرون في معسكر علي فهي حقيقة ملموسة بل إن الأشتر وهو من رؤوس البغاة علي عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله r سواء في معسكر علي أو في معسكر معاوية . ولما طالب عليّ معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم أو أن يسلمهم اليهم فيقيموا عليهم حد الله وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، فكان عليّ يري – إبراز لهذه الحقيقة للصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله r طلحة والزبير فأذعنوا لها وعذروا عليا ووافقوا علي التفاهم معه علي ما يوصله إلي الخروج من هذه الفتنة ، ولكن ما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين . فالمطالبون بإقامة حد الله علي قتلة معذورون لأنهم يطالبون بحق ، سواء كانوا من أصحاب الجمل ، أو من أهل الشام . وتقصير عليّ في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة ، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن انشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين ، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين .


    وكان سبط رسول الله r الحسن بن علي كارها خروج ابيه من المدينة إلي العراق لأن ذلك سيؤدي إلي نشوب الحرب مع أهل الشام . ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة استعدادا لهذا القتال لما حرك معاوية فيه ساكنا قالا شيخ الاسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 219) : (( لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء )) .


    ومع ذلك فان هذه الحرب قد ظهر فيها بعض الجوانب الإنسانية في التاريخ التي جري فيها المتحاربان معا علي مبادئ الفضائل التي يتمني حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ونحن في القرن الحادي والعشرين وأن كثيرا من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب ، ولله في كل أمر حكمة . ([47])






    1- الطبري ج4 صـ561 .

    1- المصدر السابق صـ561 ،562 .

    2- المصدر السابق .

    3- أنظر الطبري ج4 صـ567 وابن الأثير ج3 صـ282 .

    4- وصفين هذه قرية خربه من بناء الروم قريبة من الفرات .

    1- أنظر بن الأثير ج3 صـ285 ، والبداية والنهاية ج7 صـ266 ،267 .

    2- الطبري ج4 صـ573 ، 574 .

    1- البداية والنهاية ج7 صـ270 .

    2- ابن كثير ج7 صـ270 .

    3- الطبري ج5 صـ11) .

    1- ابن الأثير ج3 صـ297 .

    1- الإستك : هو الدبر . أنظر بن كثير ج7 صـ274 .

    2- ( أنظر بن كثير ج7 صـ274 ،275) .

    1- الطبري ج5 صـ40، 39 .

    2- تاريخ الطبري ج5 صـ38 ، 39 .

    3- ابن الاثير ج3 صـ310 ويذكر المسعودي أن الذي قتل عمار أبو العادية العامري من اليمن وابن جون السكسكي وأختلف في سلبه فأحتكما إلي عبد الله بن عمرو بن العاص قال لهما: أخرجا عني ، فإني سمعت رسول الله e يقول ، أو قال قال رسول الله e وولعت قريش بعمار (( ما لهم ولعمار ؟ يدعوهم إلي الجنة ويدعونه إلي النار )) وكان قتله عند المساء وله ثلاث وتسعون سنة وقبره بصفين وصلي عليه علي عليه السلام ولم يغسله ، وكان يغير شيبه أي يصبغ شعره ( أنظر مروج الذهب ج2 صـ379 تحقيق سعيد محمد اللحام . دار الفكر ) .


    1- أنظر مروج الذهب ج2 صـ379 تحقيق سعيد محمد اللحام . دار الفكر .

    2- الطبري ج5 صـ41 .

    3- المصدر السابق وابن كثير ج7 صـ271 .

    4- انظر ما قاله بن كثير بهذا الصدد البداية والنهاية ج7 صـ279 وما يليها .

    1- الطبري ج5 صـ48 -50 ، وابن كثير ج7 صـ284 وما بعدها .

    2- ابن كثير البداية والنهاية ج7 صـ284 وما بعدها .

    1- مروج الذهب ج2 صـ387 .

    2- أنظر بن كثير صـ284 وما بعدها، تاريخ الطبري ج5 صـ50 .

    1- ابن الأثير ج3 صـ318 ، وكذلك المصدر السابق ونفس الصفحة .

    2- الطبري ج5 صـ51 .

    3- أنظر مروج الذهب للمسعودي ج2 صـ388 .

    1- الطبري ج5 صـ52 .

    2- الطبري ج5 صـ54 .

    1- ابن كثير البداية والنهاية ج7 صـ 285 .

    1- مروج الذهب ج2 صـ392 .

    1- أنظر كتاب إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري صـ235، 236، 237وهناك حوارات أخري للحكمين بصيغ متقاربة ومختلفة بعض الشيء أنظر حوار الحكمين للطبري ج5 صـ68 ، البداية والنهاية ج7 صـ293 وما بعدها ومروج الذهب ج2 صـ394 ، 395 .


    1- الطبري ج5 صـ71 .

    2- مروج الذهب ج2 صـ396 .

    3- مروج الذهب ج2 صـ396 .

    1- مروج الذهب ج2 صـ397 .

    2- مروج الذهب ج2 صـ398 .

    1- المصدر السابق صـ399 .

    1- جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ593، 594 .

    2- كان أبو موسي الأشعري من الشخصيات الوفية بالدين والمحببة إلي الصحابة فقد كان واليا علي الكوفة ولم يشارك في تلك الفتنة وقد جاءه الدعاء يتلون منه الاستعداد للقتال مع عليّ في واقعة الجمل فرفض أبو موسي أن يحرض الناس خوفا أن تسفك دماء المسلمين هدرا وذكرهم بقول النبي r في الفتنة القاعد فيها خيرا من القائم فتكرهم الأشتر يتحدث مع الناس وصارع باحتلال دار الإمارة وعزله عنها وقال له أعتزل إمارتنا فأعتزل وأقام في قرية بعيدا عن الفتن وسفك الدماء فلما حدث التحكيم واضطروا إلي اختيار القضاة فأختار أهل العراق أبا موسي الأشعري لصلاحه وتقواه وللحالة التي كان يعيش عليها فهو لم يخض الفتنة بل عاش معتزلا وقد زعمت بعض الروايات التاريخية الضعيفة أنه كان أبله ضعيف الرأي ) .


    1- العواصم من القواصم صـ178 .

    2- وهو حديث حسن كما جاء في الأحاديث الصحيحة 2/64 وأنظر العواصم من القواصم صـ181 .


    1- أنظر تفاصيل ذلك في العواصم من القواصم صـ172 .

    1- الطبري ج5 صـ 78 .

    2- المصدر السابق صـ84 .

    3- المصدر السابق ونفس الصفحة .

    1- أنظر العواصم من القواصم صـ168 ، 169 الهامش .


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كتاب معجم قبائل مصر للدكتور أيمن زغروت
    بواسطة محمد محمود فكرى الدراوى في المنتدى مجالس قبائل مصر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-01-2019, 12:16 AM
  2. من أقوال الخلفاء الراشدين ,,,
    بواسطة حسن جبريل العباسي في المنتدى الاسلام باقلامنا
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 01-02-2016, 12:23 AM
  3. زوجات الخلفاء الراشدين
    بواسطة معلمة أجيال في المنتدى الأنساب في السيرة النبوية
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03-12-2015, 09:43 PM
  4. اخيرا. النوازل الكبرى للدكتور فتحى زغروت
    بواسطة محمد محمود فكرى الدراوى في المنتدى الدراسات التاريخية
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 14-12-2014, 03:31 PM
  5. اخيرا.النوازل الكبرى لفتحى زغروت
    بواسطة محمد محمود فكرى الدراوى في المنتدى مكتبة الانساب
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 14-12-2014, 03:31 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum