أراء نقدية حول خالد وموقف الشيخين منه


( أولا )


تضارب الروايات فيما يتعلق بمالك بن نويرة وخالد بن الوليد .



لقد كثرت الأراء وتعددت حول مالك بن نويرة وخالد بن الوليد من جهة وبينخالد وعمر بن الخطاب وأبي بكر من جهة أخري وعلي المؤرخ أن يدع ميوله وأهوائه جانباوأن يلتزم الحياد ويصبوا إلي الحقيقة دائما ما اتخذ إلي ذلك سبيلا . وقد أثرت ميول المؤرخين وأهوائهم في كتاب عنخالد بن الوليد وبخاصة افتتانهم بشجاعته مما حدا بهم أن يخترعوا بعض جوانب الدفاععن خالد بن الوليد ويتلمسوا له الأعذار إذا واجه نقدا هنا وهناك وليس ذلك القائدالباسل في حاجة إلي دفاع هؤلاء عنه فقد تربي في مدرسة النبوة وغرف من معين هدينبيها صلوات الله عليه فقد هذبه الرسول في أكثر من موقف وشجعه في كثير من المواقفبل جعل من بعض تصرفاته نجاحا وفتحا مخالفا رأي بعض الصحابة في خالد وذلك لهدفتربوي سليم . وخالد بن الوليد بشر غير مقدس أو يوحي إليه فلابد ان يصيب ويخطا فماذا يحدث لو رصدنانجاحاته ورصدنا أخطائه بصفته بشرا فلا يأخذنا انبهارنا الشديد بخالد بن الوليد فيأن نتغاضى عن أخطائه وزلاته وهذا هو النقد التاريخي الذي ينبغي أن نلتزم به واننعيده كتابة تلك الحكمة من تاريخ المرتدين عن الإسلام ونبرز تصرفات هؤلاء المرتدينوتعاملهم مع قادة الإسلام فإن في سوء تصرفاتهم ما نراه اليوم وما نعانيه من بعضقادتنا وولاة أمورنا فلابد أذا ربط الماضي بالحاضر حتى تنتظم حركة الحياة في عصرناوتضح العظة والعبرة .


فبعدما انتهي خالد بن الوليد من معركة البزاخه توجه بجيشه إلي البطاح حيثيقيم مالك وأتباعه كما عرفنا سابقا ! وعندما أراد المسير أختلف معه الأنصار بحجةأن الخليفة أبا بكر لم يأمر بذلك ورفضوا الخروج إلي أن يأمرهم أبو بكر وحاول خالدبن الوليد إقناعهم بان الخليفة عهد إليه بالمضي إلي البطاح ولكنهم رفضوا ، فتركهمخالد واتجه ومن معه إلي البطاح وهذا أول خطأ يقع فيه الأنصار حيث بقوا ثلاثة أيام يتشاورونفيما بينهم ثم كتبوا إلي خالد لينتظرهم وليلحقوا به وهذا التصرف يعد انشقاق في جيشالمسلمين قد يؤدي إلي هزيمتهم ولكن الله سلم وهذا الخطأ يكمن في عدم الطاعةالموجبة لقائد الجيش .


وقد نفذ خالد أمر أبي بكر فحينما وصل إلي البطاح لم يجد فيها أحدا وذلك لانمالك بن نويرة قد وزع قومه وأدرك أنه لا قبل لهم بمنازلة خالد حتى أن إبل الصدقةالتي كان يجب عليه أن يجديها ويرسلها إلي المدينة قد وزعها علي أصحابها ووقف موقفالمتربص وإذا ما هزم طليحة يكون مع المسلمين .


بث خالد طلائعه وأمر أن يأذن وأن تقام للصلاة قبضت السرايا علي مالك ومعهمجموعة من الناس واختلفت السرايا في أمرهم حيث قال بعض الجند من هذه السرايا أنهملم يأذنوا ولم يصلوا وقال بعض أخر وفيهم أبو قتادة بل أقاموا الصلاة ووجد خالدنفسه أمام أمرين وكان لابد أن يتأكد بنفسه فأمر بحبسهم حتى ينظر في أمرهم فيالصباح .


ثم يروي المؤرخون أن هؤلاء الأسري باتوا الليلة مكبلين وكانت الليلة شديدةالبرد فأمر خالد بإدفاء الأسري فناديمناديه ( دافئوا أسراكم فظن الحراس أن خالد يريد قتلهم فقتلوهم وسمع خالد صياحالقوم فخرج ليري ويعرف الخبر فوجدهم قد قتلوا فقال : إذا أراد الله أمرا كان .


وظاهر في هذه الرواية محاولة الدفاع عن خالد ومحاولة تبرئته من قتل مالك بننويرة إذ ان القتل وقع خطأ غير مقصود لا من خالد ولا من الحراس .


وبناء علي ذلك فيكون زواج خالد من امرأة مالك بن نويرة إنما أراد بهتعويضها عما فقدته ويكون هذا الزواج عزاء كما فعل سعد بن أبي وقاص مع زوجة المثنيبن حارثة الشيباني رضي الله عنه .


وهناك رواية أخري حيث يذكر المؤرخون أن خالد استدعي مالك ولامه علي مناصرتهبسجاح ومنع ابل الصدقة فقال له خالد ألم تعرف أن الزكاة قرينة للصلاة فقال مالك إنصاحبكم كان يزعم هذا فقال خالد أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟ ثم أمر ضرار بن الأزوربقتله قائلا يا ضرار أضرب عنقه فضرب ضرار عنقه وقد وردت هذه الرواية بصيغة أخريفإن خالد سال مالك عن منع الزكاة فقال مالك أني آتي الصلاة دون الزكاة فقال خالدأما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون الأخرى ؟ فقال مالك قد كانصاحبكم يقول ذلك فقال خالد أو ما تراه لك صاحبا ؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقهوتجادل الرجلان بالكلام وأطال الجدال فقال خالد أني قاتلك فأجاب مالك أو بذلك أمركصاحبك فقال خالد والله لأقتلنك وأمر بقتله .


يجمع كثير من المؤرخين علي هذه الرواية ولكنهم يرونها ناقصة فبعضهم يزعم أنخالد قتل مالك طمعا في امرأته كما قال اليعقوبي في تاريخه ويري بعضهم أنه كانيهواها في الجاهلية وأنه قتل مالك ليحصل علي زوجته كما يقول أبو الفرج الأصفهانيوأكدوا هذه الرواية بأن تصرف خالد مع مالك يناقض تصرفه مع بقية الزعماء الذينأثرهم وبعث بهم إلي المدينة ليري فيهم الخليفه رأيه فلهذا قتل مالك ولم يقتل غيرهإن هؤلاء المؤرخين لا يتصورن أن خالدا يقتل مالك لأنه يستحق القتل وإلا فلماذا إذنلم يقتل قرة بن هبيرة وعلقمة بن علافه وعليمه بن حصن وغيرهم من الزعماء المرتدينفهل لابد أن تكون ليلة ابنة تميم هي التي دفعت خالدا بجمالها لأن يقتل زوجها لينالما في مثابته .


إن هؤلاء الرواه يعلنون أقوالهم بان خالدا تزوج ليلة فعلا رغم ما سببته لهمن المتاعب وهذا الأمر لم يختلف فيه المؤرخون وإن الدارس لهذا الأمر والمتأمل فيهسيجد فرقا بين موضوع مالك وموضوع غيره من الزعماء الذين ارتدوا وساندوا المرتدينبل ظاهروهم علي المسلمين ذلك أن هؤلاء جميعا قد ندموا علي ما كان منهم وعادوا إليالإسلام وكذلك فعل هذا زعماء بني تميم عطارد بن حاجب ووقيع بن مالك وغيرهم وقدندموا علي ما فعلوا ودفعوا الزكاة فلم يصيبهم أذي من المسلمين .


أما مالك فقد ظل مضطربا في تفكيره حائرا في مصيره ماذا يفعل أيظل مرتداويصر علي منع الزكاة أم يعود لما كان عليه قبل تلك الفتنة أي كان يقف موقف المتربص.


ولا نعجب إذا قلنا أن مالك ظل مضطربا وظل متربصا تائه الفكر حتى وهو بينيدي خالد حين كان يستجوبه فلم يقطع في الموضوع برأي وقد أدي هذا إلي إطالة النقاشوالجدال فهو واضح في أن يبقي علي صلاته ولكنه كان مترددا في موضوع الزكاة فهو بذلكمانع للزكاة مرتد بإنكار النبوة بعد أن آمن بها .


فهل يعقل أن يسوي خالد بن الوليد بين مالك بن نويرة الناكر لنبوة محمد والمانعللزكاة وبين زعماء القوم الذين أظهروا التوبة والندم وعادوا إلي الإسلام طائعين ؟


وربما يقول قائل إذا كان الأمر كذلك فلم ثار أبو قتادة الأنصاري وغضب غضباشديدا من أجل قتل مالك ؟ إن الأمر هذا هين وبسيط فإن مالك أقام الصلاة وأن خالد بنالوليد لم يقتل مالكا من أجل الصلاة وإنما قتله من أجل الزكاة التي امتنع عنهاوعلي إنكاره لنبوة محمد e فيعبر عنه بصاحبكم من هنايتبين أن تلك الثورة التي أحدثها أبو قتادة لم تكن في محلها فخالد بن الوليد ناظرمالك وقد هدده بالقتل لأنه أعترف بالصلاة وأنكر الزكاة وعلي ما يبدوا أن الخليفةأبو بكر لم يكن مقتنعا برأي أبو قتادة الذي جاء ليقابله ويشكوا إليه خالدا حيث رفضأن يقابله الصديق وأمر أن يعود إلي الجيش فيلتحق به وألا يخرج مرة أخري دون أذن منقائده .


أما ثورة أبي قتادة التي أثارت حفيظة عمر علي خالد والذي أسرع إلي أبي بكريطالبه بمعاقبة خالد فقد هاله أن يتزوج ليلي زوجة مالك ويبني بها بعد مالك وليس فيذلك غرابة ولعل خالد تزوجها تعويضا لها عن زوجها المشكور في قبيلته ويخفف عنها وقعالحادث فيشغلها عن التفكير فيه بأعباء الزوج الجديد الذي هز كيان المرتدين وأرجعهمإلي حظيرة الإسلام فهل يمكننا ان نلوم سعد ابن أبي وقاص الذي تزوج من زوجة المثنيبن حارثه وهو في مجال المعركة فهذه إذا عادة عربية قديمة .


إن مالكا مات مرتدا ويشهد بذلك أخوه متمم بم نويرة الذي ألتقي به عمر بنالخطاب وأنشد عمر بعض أبيات من الشعر رثي بها أخاه وقد سبق أن ذكرناها في محلهافليرجع إليها القارئ .


فلما سمع عمر ذلك قال : هذا والله التأبين ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخيزيدا بمثل ما رثيت به أخاك .


قال متمم : لو أن أخي مات علي ما مات عليه أخوك ما رثيته ،فسر عمر رضي اللهعنه لمقالة متمم وقال : ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني .


فزيد بن الخطاب مات علي الإسلام شهيدا في غزوة اليمامة ومتمم يحزنه أن أخاهمات علي غير ذلك ولو كان متمم مات كما مات زيد ما رثاه أبدا فقول متمم هذا يدل عليأن مالك لم يمت علي الإسلام .


فإذا تأكد لنا أن مالك قتل مرتدا ولم يمت علي الإسلام فإن زوجته لا تخلوامن أمرين : إما ان تكون متابعة له في ردته وحين إذ يحق لخالد أن يتخذها أمه لهيستحلها بأستبراء رحمها ثم يبني بها . وإما أن تظل علي إسلامها فتكون الردة قد فرقتبينهما فلا تحل ليلة آنذاك زوجة لمالك شرعا وحين إذن يحل لأي إنسان أن يتزوج بهابعد أن يستبرئ رحمها وعلي كل حال فإن زواج خالد بها لم يخالف بيه الشرع في كليالحالتين ويقول بن كثير : ( واصطفي خالد امرأة مالك بن نويرة فلما حلت بني بهاوالمعروف باللغة ان الصفية ما يختاره الرئيس أو القائد لنفسه من الغنائم . ([1])


أما موقف عمر بن الخطاب فقد ظهر واضحا جليا بعد أن كلمه قتادة في أن خالدقتل مالك بعد أن اقام الصلاة فغضب عمر لذلك ودخل في روعه ان خالد أرتكب خطأ لابدأن يأخذ به وأخذ يلح علي الخليفة أبي بكر في أن يعزل خالدا وقال له ( أعزله فإن فيسيفيه رهقا ) ولكن الصديق المقتدي للنبي e والذي أعلي من قدر خالد نراه يرد علي عمر قائلا والله لا أشيمسيفا سله الله علي الكافرين .


وعلي ما يبدوا أن عمر بن الخطاب كان يري ما يراه أبو قتادة في أن المرء إذاصلي يعد مسلما ولا يجوز قتله إلا إذا أرتكب خصلة من ثلاث التي ذكرها الرسول فيقوله ( لا يحل دم أمريء مسلم إلا بأحدي ثلاث :- الثيب الزاني – والنفس بالنفس –والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ومالك فيرأيه لم يفعل شيئا من ذلك وكما يبدوا مرةأخري لعمر وأبي قتادة أن مالك لم يفعل شيئا من ذلك ولكن ظل عمر يلح علي الخليفةويطالبه بعزل خالد ولكن الصديق رحمه الله كان مقتنعا بسلامة تصرف خالد وأنه لميرتكب خطأ يعاقب عليه لذا نراه يقول لعمر : يا عمر أمسك لسانك عن خالد وهبهُ تأولفأخطأ.


وإنه لا يبدوا لنا أن الصديق لوثبت لديه خطأ خالد ما تركه مطلقا لحاسبه عليالفور وأقام عليه الحد فقد كان أبو بكر بمعاملته لخالد مقتديا بالرسول e الذي عفا عنه الرسول عندما قتل بعض أفراد من بني جزيمة بعد فتحمكة وكل ما قاله الرسول اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد قالها ثلاثا ولم يعزلهعن قيادة الجيش بل أرسله علي رأس سرية ليهدم العزى وهكذا فعل الصديق ولا غرابة فيذلك فقد كان رحمه الله مقتديا بالرسول ولهذا لم يعزل خالد بل أرسله علي رأس جيشليقاتل في اليمامة عدو الله مسيلمة وإتباعه .


وإزاء إلحاح عمر في عزل خالد أضطر أبو بكر بأن يستدعي خالدا إلي المدينةليسمع منه ويحكم عليه وقد دخل المسجد في هيئة قائد له صولجان وأختياله إذ دخلعليهم وعليه درعه من حديد قد ظهر فيها الصدأ من كثرة الدماء والحرب غرس في عمامتهأسهم مضمخة بالدماء واخذ يمشي إلي مجلس الخليفة فلما رآه عمر نهض إليه وأنتزعالأسهم من عمامته وحطمها وقال له في غضب قتلت امرءا مسلما ونزوت علي امرأته ؟والله لأرجمنك بالحجارة ولم ينطق خالد بكلمة ولكنه توجه مباشرة للخليفة فسأله عليحقيقة الأمر فأبانه واعتذر له بما يوضح وجهة نظره فعذره الخليفة وقبل منه إلا أنهلامه وعنفه علي زواجه من امرأة مالك الذي لم يجف دمه بعد فكيف يتزوج وهو لا يزالمشتغلا بالحرب مخالفا بذلك عادة العرب الذين كانوا يجتنبون النساء في أوقات الحربويرون القرب منهن عارا لا يمحوه شيء بل نري الخليفة يتحمل دية مالك من ماله الخاصليسكت به متمم أخا مالك وخرج خالد وقد رضي عنه الخليفة متجها إلي مجلس عمر وقال لههلم إليا يا ابن أم شمله يقولها وكأنه في نشوة النصر وعرف عمر من حديث خالد أنالخليفة قد عذره ورضي عنه فسكت عمر وكتم أمر خالد في نفسه إلي حين .

* * * *


( ثانيا )


اختلاف نظرة أبي بكر وعمر نحو قيادة خالد



والحقيقة أن كلا من الشيخين قد وقف من خالد موقفا مغايرا ولكن فيه شيء من الاجتهاد ابتغاء وجه الله وابتغاء مصلحةالمسلمين فكيف كان موقف كل منهما أو نظرة كلا منهما إلي خالد ؟ .


- نظر أبو بكر إلي خالد علي أنه رجل حرب من الطراز الأول فهو أبرع القواد ويمتلكمهارة فنية في وضع خطط الحرب تكفل له النصر وتحقق العزة للإسلام والمسلمين فما منمعركة دخلها إلا وقد أنتصر فيها وقد سماه الرسول صلي e من فرط إعجابه(سيف الله المسلول ) كما كان أسرع القواد جميعا فيتلبية أوامر الخليفة كما أن أبا بكر رأي أن عزل القواد أثناء الحروب فيه خطورة عليالجيوش الإسلامية المحاربة من جهة كما أن فيها ضياع لمصلحة المسلمين من جهة أخري وأنتلك الحقبة التي عاشها أبو بكر بعد موت النبي e كانت في حاجة شديدة إلي قيادة عسكرية محكمة تواجه القبائل المرتدةالتي غصت بها شبه الجزيرة العربية وامتنعت عن دفع الزكاة .


- بينما نظر عمر إلي خالد نظرة يتضح منها حرصه الشديد علي المثل العلياوالقيم العظيمة التي جاء بها الإسلام فهو يري أن تلك القيم ينبغي أن تكون خالصة منكل شائبة تشيبها فهو يأبي أن يتزوج خالد من امرأة مالك وهذا شيء مكروه عند العربأثناء الحروب حتى لا تلين قناتهم وتضيق بأسهم أثناء الحرب ويتفرغ القائد لمهامقيادته . كما انه لا يحب أن يري قوادهيعجبون بأنفسهم ويختالون بقوتهم فالخيلاء والكبر يؤدي إلي الهزائم لذا كان يري أنمن مصلحة الإسلام والمسلمين عزل خالد حتى لا يفتن به المسلمون به ، وأصبح في عرفهمما من جيش يقوده خالد إلا ولابد أن ينتصر لذا كان الجنود يسعون للانضمام إلي جيشه.


- كما كان لمنهج كل من الشيخين في الحكم أثر كبير نحو اختلاف نظرة الشيخينإلي خالد فأبي بكر كان ينهج منهج الاقتداء بالنبي e ويلتزم بأقواله وأفعاله في كل ما يواجهه من أعباء الحكم والسياسةوالقيادة إلي غير ذلك . وكان أبو بكرمحقا في تلك النظرة فهو لا يريد ان يشعر المسلمين بثمة تغير حدث بعد موت النبي e علي يدي أبي بكر وقد كان أناس آنذاك مفطورين علي تلك السياسة التينهجها رسول الله e فهم لا يودون أن يحيدوا عنهاقيد أنملة لذا نري أن أبا بكر يقرر وجوب الاحتفاظ بقيادة خالد للانتفاع بقوته وانيبقي عليه لإعجاب الرسول e به فقد أخطأ في عهد الرسول عندفتح مكة حينما قتل بعض أفراد من جذيمة ومع ذلك فإن الرسول لم يعزله بل أستعملهوولاه قيادة أكثر من جيش . فأبو بكر ينتفع بقوة خالد علي أن يكفكفه إذا تجاوزالقصد في الحرب أو تجاوز الحد في أمر من أمور نفسه فعنفه حين تزوج امرأة مالكوعنفه حين تزوج بنت مجاعة بعد واقعة اليمامة وعنفه أيضا حينما ترك الجيش أثناء فتحالعراق وذهب للحج سرا ولم يعلم بذلك إلا خاصته ثم عاد إلي جيشه بالحيرة وعندما علمأبو بكر بذلك كتب إليه كتابا يعنفه ووعظه ونهاه أن يأخذه العجب والتيه بحسن بلائهوقتاله للعدو فإن ذلك العجب يفسد عليه عمله ونصحه أن يبغي بكل ما يفعل وجه الله عزوجل فهو وحده المجزي علي الأعمال .


ويري الدكتور طه حسين أن بلاء خالد في العراق كان جديرا أن يدفعه إلي العجبوإلي التيه فقد تمكن من قهر عرب العراق في أكثر من موقع وأن يقهر جموع الفرس الذينجاءوا لإنجاد عرب العراق وأستطاع خالد أن يواجه تلك الجموع وأن يظفر بها فكانتالحرب شرسة وكان علي خالد أن يواجه الحرب في العراق من جهه وجموع الفرس الذينجاءوا للاحتفاظ به من جهة أخرى ولعل شدة المقاومة الفارسية أحفظت خالدا وأثارتغضبه فأقسم قسما عظيما لإن أظفره الله عليهم ليقتلنهم قتلا حتى يجري دماءهم فينهرهم وقد نصره الله عليهم نصرا عزيزا . ([2])


وواضح في هذه الرواية الإسراف والمبالغة وهذه الرواية أعتقد أنها تشير إلي خالد وتهز صورته في إبراز قسوته وتشفيهمن العدو لأنه لو فعل ذلك لكان مخالفا لنصح الخليفة رضوان الله عليه ولتعاليم دينهالحنيف .


ولكن بصفة عامة نستطيع ان نقول أن خالد بن الوليد رحمه الله قد استخلصالعراق العربي من أيدي الفرس وكان يتمني لو أذن له أبو بكر في أن يستكمل فتوحاتهلمهاجمة بلاد فارس ولكن علي ما يبدو أن أبا بكر الذي كان يفضل ألاناة والصبر عليالتقدم والإيغال في بلاد العدو وقد مر علي ذلك عاما كاملا دون أن يأذن لخالد بالقتال حتى مل خالد مقامهفي العراق بدون حرب فسمي تلك السنة سنة النساء . (2) وظل هكذا حتىاستدعاه أبو بكر الصديق إلي ميدان الشام ليساند المسلمين هناك حيث أجتمع عليهمالروم .


أما عمر بن الخطاب فقد نهج منهجا فيه شيء من المغايرة عن منهج الصديق رحمهالله في الحكم فقد عاش معه كوزيره الخاص ومستشاره الذي لا يمل وعرف قيمة الاقتداءبنهج النبي e في الحكم ولكنه أضطر أن يجددبعض الشيء وأن يجتهد لمواجهة التحديات الطارئة والمشاكل المستحدثة والدارس لتاريخعمر يقف علي تلك الحقيقة ويدرك كيف كان الفاروق حاكما مجددا مع حرصه الشديد عليالاقتداء بسنة النبي e وعدم الخروج عنها إلا عند بعضالنواحي المستعصية التي لا سند لها في القرآن أو السنة كما أنه كان لا يجتهد إلابمشورة الصحابة فكان يستمع إليهم ويأخذ بأفضل الآراء .


ولعل هذا المنهج جعله ينظر نظرة مخالفة لقيادة خالد بن الوليد فالقوادكثيرون وميادين الحرب منتشرة في كل مكان وهو في حاجة إلي قيادة ذات دماء جديدةتظهر بجانب خالد بن الوليد الذي كلف بهالجند أشد الكلف واعتبروه القائد الذي لا يهزم وارتفعوا به إلي مكانة كانت أقربإلي التقديس فكل هذه الأسباب مع أسباب أخري سترد فيما بعد كان يري عمر ضرورة عزلخالد .


ومما يؤسف له أنه علي الرغممن أن عمر وخالدا شخصيتان يعتد بهما الإسلام ويعتز وتشرأب لهما أعماق المسلمينفخرا وعزا وقد عرف عن الرجلين الشجاعة وقوة البأس والعبقرية كلا في مجاله . مماحدا ببعض الرواة أن يشوه تاريخ هذين الصحابيين حسدا عليهما وبغضا لهما فراحوايألفون الروايات ويحيكون الأكاذيب حولهماولنأخذ بعض الأمثلة علي ذلك التشويه الخطير الذي يسيء إلي الصحابيين .

* * * *


( ثالثا )


مكانة خالد بن الوليد عند كلمن الشيخين






كان أبو بكر معجبا بقوة خالدوبأسه وحسن بلائه وبراعته الرائعة في الحرب ، وكان خالد يصدق ظن أبي بكر به في كلموطن من مواطن الشدة والبأس . فهو قد فض جموع طليحة ورد من بقي من بني حنيفة إليالإسلام ، وأبلي في هذين الموطنين أعظم بلاء ما أبلاه أحد من قواد أبي بكر في حربالردة ، وهو قد أتي بالأعاجيب في فتح العراق كما سنري ، ولولا أن أبا بكر كانيكفكفه ويهدئ من روعه في القتال لتعجل بعض المواقع التي كانت أيام عمر بينالمسلمين والفرس . ومن يدري لعله كان يسبق سعد بن أبي وقاص إلي فتح المدائن عاصمةالأكاسرة .


ولكن أبا بكر كان يعرف حدته ، وكان يؤثر الأناة؛ فكان يشدد علي خالد ،ويضطره إلي الوقوف ، حين كان المضي في الحرب أحب شيء إليه لو مالك أمره .([3])


وقد حوله أبو بكر عن العراقوأرسله إلي الشام منجدا للمسلمين هناك ، وأميرا عليهم ، فكان بلاؤه في الشام أبعدأثرا وأعظم خطرا من بلائه في العراق ؛ فلا غرابة في ان يثق به أو بكر ويعرض عن عمرحين ألح عليه في عزله فهو يري أن خالدا بطلا عجزت النساء علي ان تلدن مثله وكيفيعزله وأبو بكر رحمه الله خير من يقتدي بالنبي w فمنهجه الذي سنه في الحكم وسار عليه مدة خلافته القصيرة هو أنهمتبع ومقتدي بالنبي w وليس بمبتدع فلا غرابة أن يرفض عزل خالد وأن يتمسك به وهو الذيسمي خالدا سيف الله المسلول .


لكن عمر – رحمه الله – كانينظر إلي الأمور نظرة أخري ؛ كان يريد من القواد أن يسمعوا ويطيعوا ، وألا يجاوزواالقصد في أمر من الأمور ، وألا يعرضواأنفسهم للوم جنودهم لهم وإنكارهم عليهم ، فضلا عن لوم المسلمين وإنكارهم . وكانيريد أن يكون القواد حراصا أشد الحرص علي العدل والنصفة ، وأبعد عن السرف والجور .وكان أمر الدين ومثله العليا آثر عنده من أمر الحرب وما يكون فيها من انتصار أوهزيمة ، وما يكون فيها وفي أعقابها من إخافة الناس وترهيبهم .


فلما رأي خالدا قتل رجلايشهد بعض المسلمين العدول من أصحاب النبي بأنه كان مسلما ، ولما رأي أن خالدا أسرعبعد قتل هذا الرجل إلي التزوج من امرأته ؛ ألقي في روعه أنه لم يقتله في ذات الله، وإنما قتله استجابه لما في طبعه من العنف أولا ، وابتغاء لمتعة من متع الحياةالدنيا ، وفي اتخاذ امرأة مالك لنفسه زوجا ثانيا ، فثار لذلك أشد ثورة وأعنفها ،وأشار علي أبي بكر بعزل خالد ؛ فلما امتنع عليه أبو بكر سمع وأطاع ، وكظم ما فينفسه ولم يغير رأيه في وجوب عزل خالد . ولما رأي أن جماعة من خيار أصحاب رسول اللهمن المهاجرين والأنصار قد قتلوا في حرب اليمامة ، وأن قتلي المسلمين في تلك الحربقد بلغوا إحدي عشرة أو اثنتي عشرة مائة ، ثم رأي أن هذا المصاب الفادح لم يمنعخالد من أن يتزوج بنت مجاعة مع أن العهد لم يبعد بتزوجه أم تميم بعد قتل زوجها مالك.


لما رأي عمر هذا كله بلغ الغضب منه غايته ، وكأنه راجع أبا بكر في أمر خالد، فلم يزد أبو بكر علي تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه آنفا . ([4])

* * * *
















1- أنظر بن كثير ج6 صـ 322 .


1- الشيخان ط دار المعارفالطبعة الثانية صـ 79 .
2- المصدر السابق .


1- الشيخان صـ75 .


1- الشيخان صـ77 .


Hvhx kr]dm p,g ohg] ,l,rt hgadodk lki