عقيدتنا العسكرية بين الثبات والتطور

وإذا كانت العقيدة العسكرية تنبثق منالأهداف والغايات القومية العليا للدولة وعلى أساسها يتم تحديد الأسس العامةوالمبادئ الأساسية اللازمة للاستراتيجية العسكرية . فهل واءمت عقيدتنا العسكرية المنبثقة من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بين الغايات القومية للدولةالإسلامية كمطلب أساسى ، وبين مبادئ الاستراتيجية العسكرية ، والتى تعد وسيلةلتحقيق تلك الغايات ؟
وبمعنى آخر ....... هل سايرت عقيدتناالعسكرية بمصدريها ( الثابت والمتغير ) المفاهيم العسكرية الحديثة بأساليبهاالمتغيرة ونظرياتها العسكرية المتطورة ؟
إن جوهر العقيدة العسكرية الإسلاميةالتى شرعها الله للمجاهدين من أمة محمد rإلهية المصدر ، حيث يعد القرآن الكريم مصدرها الأساسى ، وقد حرص الرسول صلوات الله عليه فى تربيته للمجاهدين الأوائل على ألا يختلط هذا المصدر بغيره من المصادر ، لأنه كان يريدصنع جيل من الرجال الأقوياء أصفياء القلوب والشعور من أى مؤثر آخر . [7]
لذا فإن جوهر هذه العقيدة ثابت أصيل غيرمتطور فى ذاته مهما اختلف الزمان وتباينت الأماكن ، فهو منهج ثابت تتطور حركةالمسلم العسكرية فى إطاره حركة وأسلوباً ، وترتقى فى إدراكه وفى الاستجابة له ،وتظل تلك الحركة فى تطورها وارتقائها وتقدمها لأن فيه من المرونة ما يسعها دائماً. فهى حركة عسكرية نامية متطورة ولكنها مقوده منضبطة ، لأن المصدر الذى شرعها هونفسه المصدر الذى خلق الإنسان ويعلم طبيعته وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان.
والعقيدة العسكرية الإسلامية بهذا التطور الإسلامى تختلف عن جميع المذاهب والأنظمة العسكرية الوضعية التى تحتاجدائماً إلى التطوير والتغيير ، بل تحتاج إلى التبديل حين تضيق أنظمتها عن حاجاتالبشرية فى حجمها وأساليبها المتطورة آنذاك .
إن هذا الشق الثابت يمثل الجانب النظرىفى الحرب ونجده موجوداً فى جميع العسكريات منذ أن ظهرت الحرب البدائية حتى اليومفى الحروب المتطورة ، وتشمل : أسباب الحروب – المعاهدات – مبادئ الحرب - نظرياتالردع الاستراتيجية ـ معاملة الأسرى – معاملة الأمم المغلوبة – استعمال السموم –النيران بأنواعها – الإجهاز على القتلى – موقف المحاربين من الأطفال والنساءوالمستشفيات ودور العبادة إلى غير ذلك من أمور وقضايا لا خلاف حولها فى الثوابت . [8]
والمتأمل فى هذه القضية الثابتة في العقيدة العسكرية الإسلامية ، يجدها قد شرعها المولى سبحانه وتعالى وأوصى بهاالنبى r لصالح الإنسان مهما كانذلك الإنسان حتى ولو كان العدو ، فقد كان الرسول rيوصى القواد بعدم قتل الأطفال والشيوخ والنساء والمنقطعين للعبادة، وعدم إتلاف زرع أو حرق نخيل أو هدم بيوت ، فإن ذلك من قوانين الأمم المتحدةاليوم التى تتجاهلها الدول ولا يستجيب لها المقاتلون ولا أدل على ذلك من موقفإسرائيل مع الشعب الفلسطينى فلم تتورع من قتل الأطفال الأبرياء والشيوخ والنساء ،وكم من منازل هدمت على رؤوس أصحابها ، وكم من شباب نفوا عن وطنهم . وإذا كان لنامن تساؤل حول سبب هذا التناقض بين عقيدة عسكرية ترحم الإنسان حتى ولو كان خصماً ،فلا تبالغ فى القتل أو الضغط على الجيش المهزوم طالما وصل القائد إلى هدفه المشروع، وبين جيوش لا عهد لها ولا أمان وكيف تتفنن فى القتل والذبح على مسمع ومرأى منالناس أقول السبب فى ذلك يرجع إلى اختلاف مصدر كل من العسكريتين ، فإحداهما مصدره ربانى والآخر وضعى من صنع البشر . إذنً هذا هو الشق الأول من عقيدتنا العسكرية: وهو كما عرفنا شق ثابت خاص بالمبادىء ، وهو عبارة عن مجموعة الأصول العسكريةالتى جاءت بها نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة ليلتزم بها العسكريون المسلمونفى كل زمان ومكان بغض النظر عن درجة التطور العسكرى الذى وصلت إليه العسكريةالإسلامية وأساليبها المختلفة .
أما الشق الثانى من عقيدتنا العسكرية :وهو شق متغير خاص بالتطبيق وهو عبارة عن الأساليب والخطط الحربية والحلول العسكريةالتى يكشف عنها قادة المسلمين وذلك بهدف إحالة أصول العقيدة ( الشق الأول ) إلى واقع عسكرى عملى وهو يختلف باختلاف العصور والبيئات ، وقد حدث تطور هائل فى هذاالشق ، كما أختلف نصيب الدول فى درجات التقدم أو التخلف فيه ، وأعنى به السلاحوالخطط العسكرية .
وإذا كانت غاية كل تشريع تتجلى فىتطبيقاته ، فقد حث الإسلام على الاجتهاد وكافأ عليه أن أصاب المجتهد من القواد أوأخطأ . وقد أقر الرسول صلوات الله عليه والخلفاء الراشدون من بعده هذا المبدأوأعطوا قوادهم حق الاجتهاد لتطبيق مبادئ العقيدة العسكرية فى معاركهم حسب تقديرهمللموقف العسكرى وما يعترضهم من صعاب وعقبات ، وهم بذلك لا يشرعون حكماً من عندهم ،وإنما يكشفون عن حكم الله فيما يعترضونه حسب ظنهم واعتقادهم كما سنوضح فيمابعد .
إن هذه الخاصية " الحركة العسكريةداخل إطار أو محور ثابت " هى قدرة الله العجيبة وآية عظمته وسر معجزة عقيدتناالعسكرية التى توائم بين الأصول الثابتة منذ أربعة عشر قرناً من الزمان وبينالفروع المتغيرة تبعاً لظروف الزمان المكان .[9]
وفى اعتقادى . إن أبناء أمتنا العسكريينينقصهم الإلمام الكافى بشقى عقيدتنا العسكرية ، حتى نكون خير خلف لخير سلف ، فكيفنكون جنود الله ونجهل عقيدتنا ؟ وكيف نخوض معركة نبتغى فيها نصر الله ونحن غافلونعن عقيدتنا العسكرية ؟
لقد انتصر المسلمون الأوائل بعقيدتهمالتى تضطرم بها نفوسهم فميزتهم بصفات افتقر إليها أعداؤهم ، وكانت تلك الصفاتأسلحة بتارة فى المعارك تثبت الأقدام وتربط الجأش وتزلزل كيان العدو . إنها صفاتالمجاهدين التى غرستها العقيدة فى قلوب الرجال وتعهدها رسولنا الكريم بحكمته فاستحقوا أن يكونوا جند اللهوحاملى رسالته .
كيف تم التواؤم فى عقيدتنا العسكرية بينجانبى : النظرية والتطبيق ؟
والمتتبع للنشاط العسكرى كنظام من أنظمةالدولة الإسلامية يجده نشاطاً حراً يتحرك فى كل المحاور وعلى جميع المستويات ،ولكنه نشاط ذو حركة منضبطة حول محور عقائدى ثابت لا يخرج منه ولا ينفلت عنه ،لتبقى حركة صائبة مستهدية . ولتوضيح تلك الخاصية الهامة سنتناولها من خلال شقىالعقيدة الثابت والمتطور سالفى الذكر بطرح عدة أسئلة توضيحية لنرى كيف اتزنتالحركة العسكرية الإسلامية بين تلك الأصول " النظرية " وبين الجديد منواقعنا العسكرى الذى نعيشه " التطبيق " .
أولاً: الأصول الثابتة " النظريات "

وهى الأصول والمبادئ التى جاء بهاالقرآن الكريم وأقرتها السنة النبوية ، وهى ربانية بحتة ، هبة الله لخلقه ، لايجوز الخلاف حولها كما قلنا .
وسوف أتناول قضية واحدة تعد أصلاً منأصول عقيدتنا العسكرية الثابت والتى جاءت كل المبادئ والأصول من أجل تحقيق هذهالغاية وهى "خلافة الإنسان فى الأرض"
لقد أعلت عقيدتنا العسكرية من شأنالإنسان فنظرت إليه على أنه مخلوق مكرم على سائر المخلوقات فى الأرض مستخلف منالله فيها ، وقد سخر له كل شىء فى تلك الأرض . ومن ثم فليست هناك قيمة مادية فيهاتعلو قيمة الإنسان وتهدر من أجلها كرامته، هذه حقيقة ثابتة وأصل من أصول عقيدتنا العسكرية ، فكيف تحرك الإنسان المسلمحركته العسكرية من خلاله ؟ [10]
انطلق الإنسان ليحقق خلافته فى الأرضويؤدى رسالته التى كلف بها بصور شتى من النشاط الزراعى والصناعى والتجارى وغير ذلكمن أنشطة تفى باحتياجاته الضرورية التى تعينه فى أداء تلك الرسالة .
فإذا ما ظهر ما يخالف هذه الحقيقة التى تعطلخلافة الإنسان فى الأرض أو يعوق حركته المؤدية إليها ويمتهن بها كرامته وإنسانيتهبأن يعتدى على أرضه التى بها مجال رزقه ومعاشه ، أو يروع أمنه وحماه أو تعاق حركةعقيدته من الانتشار ، كانت الحرب هى البلسم الذى يزيل عنه شقاءه ويرجع ثوب خلافتهليستعيد مكانته فى الأرض .
إذن.... الغاية التى شرعت من أجلها الحرب فى الإسلام هى تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض. ولو نظرنا نظرة يسيرة إلى بواعث الحروب الإسلامية حتى يومنا هذا لوجدناها من أجلتحقيق هذه الغاية ، فيوم أن انطلقت جنود الله إلى ميدانى الفرس والروم لم يكنهدفها الغزو أو التوسع ولكنها حملت مشعل الهداية فى يد ، والسيف لمن يعوق هدايتهفى يد أخرى لنشر الإسلام وتحرير الإنسان من ربقة العبودية ونير التسلط التى أثقلتكاهله بها أكاسرة الفرس وقياصرة الروم . هذه الحركة العسكرية وذلك النشاط العسكرىلم يكن له سوى هدف واحد هو تحقيق خلافة الإنسان فى الأرض .
ومنخلال هذه الغاية الفريدة جاء النشاط العسكرى الإنسانى لجيوش الإسلام لتفصل بينالنور والظلمات وبين الحق والباطل لتمكن الإنسان من دوره الرئيسى لعمارة الأرضوعبادة الله وقد نتج عن تلك الحقيقة بعض الأصول فى عقيدتنا العسكرية التزم بهاالمحاربون المسلمون فى كل زمان ومكان ومنها :-
  • قصرأسباب القتال فى الإسلام على أمرين هما :-
    أ ـ ردالعدوان . ب ـ إفساح الطريق لنشر الدعوة وضمان وصولها إلىشعوب الأرض وإخراج الإنسان من عبادة الإنسان إلى عبادة الله الواحد الأحد وبذلكتتحقق للإنسان إنسانيته وخلافته له على هذه الأرض بصورتها الصحيحة وبناء على هذاجاءت استراتيجية الجهاد فى سبيل الله دفاعية هجومية تجمع بين الدفاع والهجوم حسبمقتضيات الموقف والحلول المفتوحة لدى القائد المسلم [11]
    1. ـ عدم إكراه أحد علىالدخول فى الإسلام ، وإنما السبيل إلى ذلك الإقناع عن طريق الموعظة الحسنة وإيقاظالمشاعر ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ، إنربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )([12])
    2. ـ عدم الفرار منالزحف أمام العدو إلا لأمرين : الانضمام إلى قوة أخرى ، أو لرسم كمين يخدع بهالعدو . يقول الله تعالى : ( يأيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلاتولوهم الأدبار فمن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باءبغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )([13]).
    3. ـ إعداد القوةالعسكرية اللازمة لإرهاب العدو وإخافته من أن تسول له نفسه الاعتداء على حمى الإسلاموهو ما يسمى بنظرية الردع فى العرف العسكرى الحديث وهى نظرية سامية تحمل فى طياتهاالدعوة السلمية لحقن الدماء . قال الله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومنرباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهموما تنفقوا من شئ فى سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون )(3)
    4. ـ الحرص على الدخولفى السلم حيث أنه هو الغاية المرجوة من إعداد القوة قبل خوض أية حرب ، وقد دعتإليه عقيدتنا الإسلامية ! يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلمكافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين )(4)
    5. ـ فض المنازعات التىتقع بين المسلمين بالصلح والطرق السلمية أولا ، فإن لم تفلح الطرق السلمية يكونبالأخذ على أيدى الفئة الباغية التى لم تستجب لنداء الصلح حتى تعود إلى صوابهاورشدها ، ثم يتم الصلح بين الفئتين . قال الله تعالى " وإن طائفتان منالمؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغىحتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحبالمقسطون "(1)
      هذهبعض الأصول الثابتة فى عقيدتنا العسكرية تدور جميعها فى فلك واحد لتحقيق غاية فضلىهى " خلافة الإنسان فى الأرض " بالصورة التى يجب أن يكون عليها الإنسان. [14]
      وربما يسأل سائل وما جدوى هذه الأصول الثابتة التى تعد محوراثابتاً تدور فى فلكه الحركة العسكرية ونشاط قوتنا المسلمة ؟
      إنقيمة وجود هذه الأصول الثابتة فى عقيدتنا أن تكون بمثابة ضابط للحركة : لحركتناالعسكرية حتى لا تمضى شاردة على غير هدى أو وعى فتجر على الإنسانية عواقب وخيمة ،فهى الميزان الثابت والحساس الذى يقربها من الحق والصواب ، ويبعدها عن الباطلوالعبث ، وبذلك تظل حركتنا العسكرية فى دائرة الأمان بعيدة عن التيه والضلال ولاتمضى مع الشهوات والمؤثرات . قال الله تعالى ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماواتوالأرض ومن فيهن )(2)

ثانياً: الأساليب المتغيرة " التطبيق "

أماالشق الثانى ، وهو المتغير والخاص بالتطبيق ، والذى يشمل الأساليب والخطط الحربيةوالحلول العسكرية التى يجتهد فيها قادة الحرب وفق ظروف المعركة وتقدير الموقف !وهذا ما يتعلق بإدارة العمليات الحربية وتوجيه القوات أثناء سير القتال وغير ذلكمن أمور تتعلق بالفن التكتيكى ، ففى هذا المجال متسع كبير أمام القادة حيث تبرزمهاراتهم الفنية ومقدرتهم العسكرية البارعة بما تتفتق عنه قريحتهم من أفكار وحيلفى طرق الحشد وادخار القوى والمباغتة والتعرض وخفة الحركة ، وسلامة قواتهم ،وتعاون مختلف القوات ، والمطاردة ، وغير ذلك من مبادئ الحرب والتى تعد المحكالأساسى للقائد الفذ حيث تظهر من خلالها مقدرته البارعة على الاستنباط والاجتهادلتطبيق مبادئ وأصول الحرب الأساسية . وسوف نتناول بعضاً من الأمثلة التطبيقية فىعقيدتنا العسكرية لنثبت من خلالها أنها وسائل مختلفة من عصر إلى عصر بقصد التطبيقوهى وسائل تتسع مساحاتها كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية وكلما اتسع مجال العلمالإنسانى فى المجال العسكرى .

مثاليجمع بين النظرية والتطبيق :







وممايجدر التنبيه إليه ، أن أساليب التطبيق هذه مهما اختلفت صورها وأشكالها باختلافوجهات النظر وآراء المجتهدين فإنها تدور فى فلك المبادئ والأصول العامة للعقيدةالعسكرية الإسلامية فى مجال إدارة الحرب فمثلا من الأصول النظرية الثابتة هو" الثبات أمام العدو " وعدم تولية الأدبار مهما كانت الظروف إلا فىحالتين تركهما الشارع جل وعلا لطبيعة الموقف ونوعية الظروف التى تواجهه المحاربين. يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذ لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهمالأدبار ، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضبمن الله ومأواه جهنم وبئس المصير )([15])
فثباتالمسلمين أمام العدو أصل ثابت وغير قابل للتغيير أو التبديل ، لأنه السبيل إلىالنصر . ونظراً لاختلاف قوى الجيشين عدة وعديداً ، فقد أباح الله طرق حل مفتوحةأمام القائد بأن يفر أو ينسحب من مواجهة العدو ، إما لإعادة الحشد وانضمام جنودهإلى جنود أخرى ليستأنف القتال ، أو ينسحب لصنع كمين عسكرى وإحراز نصر سريع بمفاجأةتكتيكية يحسم بها أمر المعركة .
وإزاءهذا الأصل الثابت أمام العدو سنطرح مثالين مختلفين لقائدين من قواد المسلمين اجتهدكل منهما فأخطأ الأول ، وأصاب الثانى :-
المثالالأول : فى موقعة الجسر فى بلاد فارس

كانتتلك المعركة فى عصر الخليفة عمر بن الخطاب ، والتى كان يقودها القائد أبو عبيدة بنمسعود الثقفى . الذى أمر بعبور جنوده الجسر المقام على النهر لملاقاة أعدائه ، فقدكان يرى أنه الأولى بالعبور لملاقاة العدو وكان موقفه معقدا حرجا بين عدو منالأمام فى تعبئة جديدة لم يألفها المسلمون ، حيث اعتمدوا على الفيلة التى تنفرمنها خيول المسلمين ، وبين نهر من الخلف لا سبيل لهم إلا الغرق فيه . فكيف تصرفذلك القائد ؟ أنه أمر بهدم الجسر وفرض واقعاً جديداً أمام جنده : إما الشهادة ، أوالظفر وبدافع من عقيدته وإيماناً بقضيته خاض معركة غير متكافأة راح ضحيتها العديدمن المسلمين وفر الباقى إلى المدينة تفيض أعينهم بالدمع وتجهش صدورهم بالبكاء ، لاخوفاً من معرة الهزيمة ، ولكن خوفاً من غضب الله ، حيث أنهم فروا من أمام العدودون مبرر . فهم حينئذ أمام أصل من أصول العقيدة " عدم الفرار " وبينواقع مرير قد يودى بهم جميعاً إذا ثبتوا فى مواجهة الفرس بجموعهم الغفيرة . فكيفقابل الخليفة عمر بن الخطاب هذه الفئة الفارة ؟ ([16])
إنهوقف بجانبهم يخفف عنهم ويرق لحالهم وقال لهم إنكم لم تفروا ولكنكم انحزتم إلىّوسأكون فئتكم ثم بكى طويلاً وقال رحم الله أبا عبيدة لو كان انحاز إلى لكنت فئته .ثم أمر بتعبية الجيوش من جديد وولى عليها سعد بن أبى وقاص فانضمت تلك الفئة الفارةبعد الهزيمة إلى كتائبه وعاودوا حرب الفرس من جديد وسجلوا نصراً باهراً فى معركةالقادسية . أليس هذا اجتهاداً فى التطبيق من أبى عبيدة وعمر حول أصل من أصولعقيدتهم بما يتلاءم وطبيعة الموقف الجديد ؟
المثالالثانى : فى موقعة اليرموك فى ممالك الروم

وفىموقعة اليرموك : نرى مثالاً آخر للاجتهاد الصائب من القائد الفذ خالد بنالوليد ، حيث إنه وجد جيوش المسلمين قد تكالبت عليها قوى الروم وحشدوا لهم صفوفاًمتلاحقة كالموج الغاضب ، والمسلمون يقاتلون متفرقين متساندين كل أمير يحارب فى جهة، بينما جيوش الروم كلها تجتمع فى صعيد واحد . فجمع الأمراء وعرض رأيه فى توحيدالقيادة على أن تكون بالتناوب ، فوافق الأمراء على رأيه وأمروه عليهم .
وكانأول ما فكر فيه خالد بن الوليد بعد أن تولى القيادة كيف يواجه تلك الأعداد الغفيرةمن جنود الروم وجيوش المسلمين لا تزيد على أربعة وعشرين ألف مقاتل وهو المسئول عنسلامة جنده ؟ أيثبت بهم إلى أن يفنوا عن أخرهم ، أم يفر من مواجهة العدو وكلاالأمرين مُر؟ هنا تفتقت قريحته عن تكتيك جديد لم تألفه الروم ، وتعبئة جديدة تصمدأمام كثرة جنود الروم فقد ترك نظام الصف الذى ألفه المقاتلون المسلمون وكذلك الروموعبأ جيوشه على نظام الكراديس ، فكانت مفاجأة عجيبة للروم وأحرز بها نصراً عظيماًقضى به على دابر الروم فى ميدان الشام ([17]).
ومنيتتبع معارك الإسلام حتى تلك المعارك المعاصرة يجدها جميعاً على نفس النظام .مبادئ وأصول لا خلاف حولها تمثل "عقيدة الأمة الإسلامية عسكريا " وهى الأهداف والغايات العليا التى تضعهاالقيادة العليا على مستوى قومى ، ثم أساليب تطبيقية تختلف باختلاف الزمان والمكانحسب نوعية السلاح ومدى تطوره وتقدير موقف العدو ومدى استعداداته . وهذه الأساليبالتطبيقية ليس لها صورة معينة يلتزم بها القائد ، بل يجتهد وفق ظروف المعركةوتقديره للموقف العسكرى إن هذا النظام قائم فى جميع أنواع المعارك سواء البسيطةمنها أم المعقدة القائمة على مخترعات علمية حديثة .
هذهعجالة عن خاصية من خواص عقيدتنا العسكرية ما أحرانا نحن العسكريين أن نتدبرهالنعرف وجه عقيدتنا المشرق الذى واكب أجدادنا بالأمس ، فكانوا رجال حرب ورحمة ودعاةحق ومروءة ، ويوم أن أغمضنا أعيننا عن إشراقتها ، وغاب عنا هديها ضللنا طريقالرشاد وذهبنا نتلمس البديل فى أنظمة الغرب واستراتيجياته محمومين ببريق حضارتهالزائفة ، نأخذها بحذافيرها وعلاتها ، ونحن لا أصالة لنا فيها ولا حكم لنا عليها ،إنما نحن – كما يقول العلامة أبو الحسن الندوى – متطفلون على مائدتها ، نغرف منبحرها وتغمرنا موجتها حتى نغرق إلى الأذان .
ونحنالعسكريين مناط أمل أمتنا والذائدين عن حماها ، ما أحرانا اليوم أن نعود إلىعقيدتنا العسكرية نستجلى كوامن عظمتها وسر خلودها ، فهى درعنا الواقى وملاذناالوحيد عندما يشتد الخطب وتلم بنا الملمات . ورحم الله ( عبد الله بن رواحه )القائد المسلم وهو يغرس هذه المعانى فى قلوب رجاله قائلاً . " ما نقاتل الناسبعدد ولا قوة ولا كثرة ، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى كرمنا الله به ،فانطلقوا .. فإنما هى إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة .[18]

* * * *

1- الأنفال،آية :60 .

1- البقرة آية:214 .
2- آل عمران،آية:186 .
3- البقرة،آية:251 .


1- هود آية:100-102.
2- الإسراء آية:16 .


1- الفجر آية:14 .
2- النازعات آية:25،26 .
3- الرعد آية:11 .


1- الأنعام،آية: 6 .


1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ لإبراهيم شعوط 151.











1ـ النحل الآية 125 2ـالأنفال الآية 15 ـ 16
3ـ الأنفال الآية 60 4 ـالبقرة الآية 208



1 ـ الحجرات الآية 9
2 ـ المؤمنين الآية 71

1ـ الأنفال 15 – 16


1 ـ انظرموقعة الجسر فى البداية والنهاية المجلد 4 الجزء السابع ص 28 طبعة 1988م دارالريان للتراث .

2 ـ انظر البدايةوالنهاية _ مرجع سابق ص 7 – 9



urd]jkh hgus;vdm fdk hgefhj ,hgj',v