رأي أمير المؤمنين علي وأصحابه تأجيل القصاص لعثمان



لقد تبلور رأيالإمام علي رضي الله عنه وأصبح واضحا إلا أنهم لم يستمعوا له ولم يأخذوا بحجتهفكان يري أن يؤجل القصاص من قتلة عثمان حتى تستقر أمور الخلافة الجديدة فإذا مااستقرت نظر في هذا الأمر وأخذ بالثأر من قاتلي أمير المؤمنين عثمان بن عفان وقدخاطب الزبير وطلحة والسيدة عائشة وقال لهم أن الظروف غير مواتيه للأخذ بالثأر فإنقتلة عثمان مازالوا في المدينة وأنه غير راض عن هؤلاء القتلة السفاكين وقد مالعليّ إلي أختيار قاعدة فقهيه وهي( اختيار أخف الضررين ) حيث رأي أن المصلحة العامةللدولة تقتضي تأخير القصاص وفي ذلك اقتداء بالنبي r أيضا حيث كان إذا تضارب أمران أخذ أخفهما ضررا. ففي حادثة الأفك حينما تكلم مجموعة من الناس فيعرض السيدة عائشة رضي الله عنها وقد روج هذا الخبر وأشاعه عبد الله بن أبي سلولرأس المنافقين في المدينة وقد ترك الرسول إقامة الحد عليه حيث رأي أن ذلك منالمصلحة العامة ودرء المفسدة فقد رأي النبي r أن جلبه أكثر فسادا من تركه وهكذا رأي أمير المؤمنين عليّ أنتأخير القصاص من قتلة عثمان أقل مفسدة من تعجيله وذلك لضخامة عدد المتمردينالمتهمين بقتل عثمان ولهؤلاء المتهمين قبائل تنافح عنهم وقد تقوم الفتنة آنذاكودرء تلك الفتنة يتطلب تأخير القصاص .


لقد أنكر عليّرضي الله عنه قتل عثمان وتبرأ من دمه وقد كان ذلك ظاهرا في خطبه وقد أدعت الرافضة خلافذلك وقالوا انه كان راضيا عن قتل عثمان ويروي عنه انه قال ( اللهم إني أبرء إليكمن دم عثمان ) ([12]) . بل يروي عن عليّ رضي الله عنهأنه لم يول أحدا منهم في ولاياته أو ضمن عماله ، ونظرة يسيرة إلي عماله كما ذكرهمالطبري تجد صدق ما نقوله . ([13])


ومما سبق يتضححكمة الإمام علي رضي الله عنه وأنه كان إماما ورعا وأن الخارجين عليه بغاة وأنقتالهم واجب حتى ينقادوا إلي الحق . ومن هنا كان موقفة من أصحاب الجمل الذين لميزعنوا لرأيه وكان الواجب عليه قتالهم ولكنه عاملهم معاملة كريمة وعمل علي أن يرجعأم المؤمنين عائشة إلي بيتها مكرمة ومعززة .


لقد كان خروجطلحة والزبير إلي مكة ولقائهما أم المؤمنين عائشة وقد كان همهم الأوحد هو التفاوضمعها وقد أحزنهم أن يقتل أمير المؤمنين عثمان في بلد رسول الله r وحاضرة الدولة الإسلامية دون أن يفعلوا شيئاً يضمنون به سلامةعثمان من القتل وقد شعروا إنهم خذلوا ذا النورين عثمان وأنهم رأوا أنه لا تكفير لذنوبهم إلا بخروجهم للمطالبة بدم عثمانوإثارة الرأي العام لهذه القضية التي ربما إذا سكت عنها تناساها الناس ونجا قتلةعثمان ، فلا غرو أن تردد السيدة عائشة قولها أن عثمان قتل مظلوما والله لأطالبنبدمه كما كان يقول طلحة أنه لا يكفر عنه هذا الذنب إلا أن يسفك دمي في طلبه ،والزبير كان يقول أيضا ننهض الناس فيدرك بهذا الدم حتى لا يبطل لأنه لو بطل لوهنسلطان الله إلي الأبد ، وقد شاعت هذه الأقوال ولم يبق أمامهم إلا أن يقتلوهويقتصوا من قتلة عثمان وقد تحركت الناس معهم وخرجوا جميعا للثأر وكان يوما مشهوداوقد بكي الجميع عند خروجهم لطلب الثأر حتى سمي ذلك اليوم يوم النحيب وكان خروجهؤلاء إلي البصرة للمطالبة بدم عثمان ما هو إلا إعلان للناس جميعا لما فعل هؤلاءالمتمردون ودعوة إلي حث الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصبح القصاص منقتلة عثمان في أعين الناس حدا لابد أن يقام ولم يكن الهدف منها هو النيل من بيعة عليّ ولكن الهدف الاسمي هو الإصلاحوإيجاد رأي إسلامي عام موحد في مواجهة هؤلاء الأوباش الظلمة الذين اجترءوا عليهيبة الخلافة وقتلوا خليفة المسلمين وكما كانوا يرون انه لم يعاد للدولة هيبتهاإلا بالأخذ علي أيد هؤلاء القتلة وتصفية المدينة والأمصار من عبثهم .


وإذا قيل أنهؤلاء المتمردين من الغوغائيين والسبئيين لهم وجود في جيش علي أقول نعم كان لهموجود وتسلط شديد علي التأثير في مجريات الأمور آنذاك ومن هنا كان صعب علي الإمامعلي أن يجردهم ويواجههم خوفا علي أهل المدينة من ناحية وعلي العبث والفوضى الذيسيحدثونه من ناحية أخرى .


إذن فأصحالأقوال هنا أن نقول أن خروج أم المؤمنين والزبير وطلحة إنما هو للإصلاح العاموإيجاد رأي عام إسلامي شامل وتقول السيدة عائشة مؤكدة هذا الاتجاه فهذا شئننا إليمعروف نأمركم به ونحضكم عليه ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم علي تغيره ([14]) . ويقول ابن تيمية رحمه الله في الرد علي الرافضة في هذه المسألة : فهيرضي الله عنها – لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولي ، والأمر بالاستقرار في البيوت لاينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج والعمرة ، أو خرجت مع زوجها فيسفره ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي r وقد سافر بهن رسول الله r بعد ذلك كما سافر في حجةالوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ،وأعمرها من التنعيم ، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي r بأقل من ثلاثة أشهر ، بعد نزول هذه الآية ، ولهذا كان أزواج النبيr يحججن بعده كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره ،وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان ، أو عبد الرحمن بن عوف ، وإذا كان سفرهن لمصلحةفيكون جائزا أيضا . فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك ([15]) .


ومن هنا نستطيعالقول مطمأنين أن خروج السيدة عائشة أم المؤمنين خروجا للإصلاح وللأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر عملا بقوله تعالي : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةأو معروف أو إصلاح بين الناس ) ([16]) ، فالأمر بالإصلاح هنا امر لكل المسلمين يستوي في ذلك الذكور والإناثوالأحرار والعبيد وهي حينما خرجت لم تكره علي هذا الخروج من أحد لا من عبد الله بنالزبير ولا طلحة ولا أحد غيرهما كما أنها حينما خرجت لم تستغل مكانتها كأمالمؤمنين وزوج النبي r وتتسلط علي أحد من الصحابةلتدفعه للخروج ولم تأمر أحدا ممن كان معها لخلاف ما زعمه ذلك المستشرق الخبيث ([17]) ، حيث قال أن عائشة كانت امرأة متسلطة حركت الناس ودفعتهمبتسلطها وبما لها من كلمة ونفوذ روحي ووجداني .


أما موقف أزواجالنبي r في ذلك الخروج فالمعلوم أنهنخرجن إلي مكة بقصد الحج في هذا العام وقد خرجنّ منها بعد أداء الحج ولكنهن عدنإليها حينما علمن بمقتل عثمان . وقد ذكرت بعض الروايات أن أمهات المؤمنين وافقنعائشة في أول الأمر ولكنهن خالفنها علي السير إلي البصرة ورفضن السير لغير المدينة. فالخروج من أجل الثأر والقصاص من قتلة عثمان أمر أجمع عليه أمهات المؤمنين ولاغبار في ذلك ولكنهن اختلفن حين تغيرت الوجهة من المدينة إلي البصرة فنرى عبد اللهبن عمر يمنع أخته أم المؤمنين حفصة من السير إلي البصرة فاعتذرت لعائشة وكذلك أمسلمة فأمتنعت عن الخروج ولكنها أيدت عليّ حيث أرسلت إليه ابنها عمر بن أبي سلمةقائلة ( والله لهو أعز عليّ من نفسي يخرج معك فيشهد مشاهدك ) .


وبصفة عامة فإنأمهات المؤمنين كن يعلمن أن هذا الخروج للإصلاح بين الناس وهو فضل كفاية إذا أداهالبعض سقط إثمه عن الآخرين وقد قامت أم المؤمنين عائشة في هذه الناحية خير قياموأدت دورها المنوط بها فقد أعطت المسلمين من واسع علمها ومما تعلمته من رسول الله r .


وقد كانتالسيدة عائشة رحمها الله حريصة علي أن توضح الحق للناس وخاصة أهل الأمصار الذينأستبد بهم السبئيون وقتلة عثمان وأحدثوا ارتباكا شديدا في مفهوم الناس فنري أم المؤمنينوالحالة كذلك تبث برسائلها إلي الأمصار تخبرهم بما صنعوا وبما عزموا عليه وتأملمعي ما كتبته لأهل الشام إذ كتبت تقول : ( إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب اللهعز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع ، والكثير والقليل ، حتي يكون الله عز وجلهو الذي يردنا عن ذلك . فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم ، وخالفنا شرارهمونزاعهم ، فردونا بالسلاح ، وقالوا فيما قالوا نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتهمبالحق وحثتهم عليه ، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة ، حتى إذا لميبق حجة ولا عذر استبسل قتلة عثمان أمير المؤمنين ، فلم يفلت منهم إلا حرقوص بنزهير والله مقيده . وإنا نناشدكم الله سبحانه في أنفسكم إلا ما نهضتم بمثل مانهضنا به ، فنلقي الله عز وجل وتلقونه ، وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا ([18]) .

* * * *



vHd Hldv hglclkdk ugd ,Hwphfi jH[dg hgrwhw guelhk