عزل ولاة عثمان وتعيين آخرين




(1) لماذا عزل الإمام علي ولاة عثمان ؟





تولي الإمامعلي الخلافة ونظر في أمر شغله هو وكثير من الصحابة وهو استتباب الأمر واستقرارأمور الدولة وانتظام أحوالها بعد هذا الهرج والمرج الذي حدث في المدينة والأمصارونظر الإمام علي فرأي أن أغلب عمال عثمان هم الولاة علي الأمصار ورأي أن أغلبهؤلاء الولاة كانت ميولهم أموية فقد كانوا أقارب عثمان بن عفان وأغلبهم من البيتالأموي وقد كان لا يستريح لهم كثير من الناس فصمم الأمام علي أن يعزل هؤلاء الولاةوأن يعين مكانهم ولاة آخرين . ومن هؤلاءالولاة الذين عزلهم الإمام علي : معاوية بن أبي سفيان والي الشام ، وعبد الله بنعامر والي البصرة ، وسعيد بن العاص والي الكوفة ، ويعلي بن منية والي اليمن . وأقرالباقي علي ولاياتهم فكان عماله علي النحو الآتي : علي مكة عبد الله بن الحضرميوعلي الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي و علي صنعاء يعلي بن منية وعثمان بن حنيف علي البصرة و عمارة بن شهاب عليالكوفة وعبيد الله بن عباس علي اليمن وقيس بن سعد علي مصر و سهل بن حنيف علي الشاموقد رفضه أهل الشام فرجع إلي عليّ ، أما في الشام فكان الوالي معاوية ابن أبيسفيان ، وكان ينوب عن معاوية في إدارة أقاليم الشام أمراء هم : عبد الرحمن بن خالدبن الوليد علي حمص ، وحبيب بن مسلمة علي قنسرين ، وأبو الأعور بن سفيان السلمي عليالأردن ، وعلقمة بن حكيم علي فلسطين وكان قائد البحرية عبد الله بن قيس الفزاريوكان قاضي بلاد الشام أبو الدرداء ( عويمر بن عامر ) . روي ابن جرير – رحمه الله –أن عثمان مات وعلي الكوفة أبو موسي الأشعري علي الصلاة والقعقاع بن عمرو علي حربها، وجابر بن عمرو المزني علي خراج السواد .


وأما عماله –رضي الله عنه – علي بلاد الفرس فهم : جرير بن عبد الله البجلي علي قرقيسياء ،والأشقر بن قيس علي أذربيجان ، وعنيبة بن النهاس علي حلوان ، ومالك بن حبيب عليماه ، والنسير علي همذان وسعيد بن قيس علي الري ، والسائب بن الأقرع علي أصبهان ،وخنيس علي ماسبذان . وكان والي بيت المال عقبة بن عامر وعلي خطة القضاء زيد بنثابت . ([1])


وقد كان للأمامعلي رضي الله عنه فلسفته في عزل هؤلاء الولاة السابق ذكرهم وقد أصر علي ذلك رغمنصح الناصحين له فقد نصحه المغيرة بن شعبة بأن يبقي علي عمال عثمان حتى يأخذوا لهالبيعة وتستقر أمور البلاد فإذا ما تم الاستقرار عزل من يشاء وأبقي من يشاء ويقالأن بن عباس قد أيد هذا الرأي بل عرض المغيرة علي الإمام علي عرضا وسطا حتى يسدعليه كل أبواب الفتنة فقال له إذا كنت مصمما علي عزل الولاة فأعزل من شأت وأتركمعاوية في وليته علي الشام وليس عليك حرج في ذلك وقد استعمله أبو بكر واقره عمر بنالخطاب علي ولايات الشام كلها فرفض علي وقال لا والله لا استعمل معاوية يومين أبدا([2]).


والحقيقة أنللسياسة الناجحة مسالكها لا يعرفها إلا أصحاب الخبرة الذين أثقلهم الحكم وأعبائهفقد كان رأي المغيرة وجيها لأن بيت المسلمين ودولتهم في حاجة إلي إعادة الترتيب منالداخل فمعاوية ينصب نفسه وليا للمطالبة بثأر عثمان ويلح في ذلك إلحاحا شديداويزداد أتباعه كل يوم حتى تضخم معسكره في الشام وأصبحت في يده قوة لا بأس بهاويتمتع بمكانة سامية في نفوس أهل الشام وعليّ رحمه الله رجل تقوى وورع وشجاعة ولكن تنقصه السياسة وإدارة دفة الحكمكما يقولون وهذا أمر سنفنده فيما بعد ، وأنظر إلي بن عباس وهو يخاطبه حينما صممعلي عزل معاوية وقال علي والله لا أعطيه إلا السيف فقال ابن عباس يا أمير المؤمنينأنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب ([3])فالمغيرة وابن عباس رضي الله عنهما كان يريدان من عليألا يتم عزل هؤلاء الولاة حتي تسكن الفتنة ويتيقن الأمر ويجتمع المسلمين علي خليفةواحد دون إراقة دماء أو اختلاف في الرأي ولكن علي ما يبدوا أن الإمام علي رحمهالله كان يكره صاحب الرأيين ويكره المداهنة والخداع فثبت علي موقفه وصمم علي عزلالولاة وكان من أسباب هذا التصميم :-


1) قد كان علييري أنه أمير المؤمنين ، وأن طاعته واجبة علي جيمع المسلمين ، وأن له القوة التييستطيع بها إرغام كل مخالف علي الدخول في الطاعة ، والتزام الجماعة ، فلماذا يداهنويلجأ إلي أسلوب الخداع ؟


2) أن معاويةوبقية العمال الذين عزم عليّ علي أن يعزلهم ، كانوا من أهم أسباب خروج الثائرينكما يقولون ، فبقاؤهم في أعمالهم يؤدي إلي التربص به والخوف منه وعدم الثقة به ،وحينئذ تستمر الأوضاع الأمنية في المدن قلة مضطربة كما هي فلا يستطيع أميرالمؤمنين أن يسكن الفتنة ، ولا يستقيم له أمر الناس بل إنه لا يأمن أن ينقض عليهالمتمردون حين يجدون منه سكوتا علي من خرجوا لعزلهم كما يزعمون .


3) أن أميرالمؤمنين أصبح في نظر عمال عثمان شريكا في دمه – وإن كان غير ذلك – فهم جميعايكنون ذلك له ، ويضمرونه في أنفسهم فهو لا يأمن أن يكيدوا له مهما ثبتهم ، ويعتقدأن بقاءهم في مناصبهم عون لهم علي تنفيذ خططهم ومآربهم ، وقد يلجئون إلي الخداعوالمداهنة ، ويتظاهرون بالقبول والرضي ثم يفسدون عليه أمره بعد أن يثبتوا فيأماكنهم ، وتستقر الأوضاع لهم ، فلا لوم علي أمير المؤمنين إذا استبعد هؤلاء ، بلفي اعتقاده أن استبعادهم وتولية رجال مخلصين له هو الأمر الذي لا مفر منه .


ويروي بنالأثير أنه لم تمض علي بيعة الإمام علي سوي خمسة أيام حتي أخذ يسير عماله إليالأقاليم والأمصار كلا وفق تعيينه وينبغي لنا أن نقف وقفة تأمل ونقد مع هؤلاءالعمال الجدد لنري كيف استقبلتهم الأمصار ونخرج من خلال ذلك برأي له أهميته .


- وجه الإمامعلي عبد الله بن عباس إلي الشام ليحل محل معاوية ولكن عبد الله آثر السلامة واعتذروأبدى رأيا وجيها وهو أن معاوية قد يقتله بابن عمه الخليفة المقتول وإذا لم يفعلوقد يحبسه عنده في الشام ويلقي عليه كل التبعات التي تلقي علي الإمام علي فتركهالإمام وأمر سهل بن حنيف أن يتوجه إلي الشام ووجه عثمان بن حنيف إلي البصرة وعمارةبن شهاب إلي الكوفة وعبيد الله بن عباس إلي اليمن وقيس بن سعد بن عبادة إلي مصركما وضحنا سابقا فماذا كان موقف الأمصار من هؤلاء الولاة وكيف استقبلوهم ؟


أ) توجه سهل بنحنيف والي الشام الجديد وقصد الشام وعند تبوك تصدي له فرسان يمتطون خيولهم وسألوهمن أنت وإلي أين تتوجه ؟ فقال أنا سهل ، أمير قالوا علي أي ؟ قال : علي الشامفقالوا له إن كان عثمان قد بعثك فأهلا بك وإن كان غيره فأرجع فرجع سهل إلي عليّدون أن يدخل الشام .


ب) أما قيس بنسعد بن عبادة الذي ولاه الإمام عليّ علي مصر فما كاد يصل إلي أبله حتى تصدت لهخيلا وعليها فرسانها وسألوه كما سأل سهيل وقال قيس بن سعد وتركوه يمضي إلي مصرفدخلها ولكن الناس لم يجتمعوا عليه وتفرق أهل مصر إلي فرق منهم من بايع لعلي ومنهمرفض البيعة حتى يقتل قتلة عثمان ومنهم من قال نحن مع عليّ ما لم يقتص من أخوانناوأظهروا الطاعة ومن ثم تفرق أهل مصر إلي شيع وفرق لم يتمكن ذلك الوالي الجديد منتجميعها .


جـ) أما فيالبصرة فقد دخلها عثمان بن حنيف دون أن يرده أحد وكان قد سبقه إليها عبد الله بنعامر في عهد عثمان ولكن لم يكن له أثر في توجيه الرأي العام ووجد عثمان بن حنيفأهل البصرة متربصين بعضهم دخل في الطاعة والبعض الأخر تابعت المنشقين علي الإمامعليّ والفرقة الثالثة وقفت متربصة حتى تري كيف يستقر الحال مع أهل المدينة ومعالغالبية فيصنعوا صنيعها .


د) أما عبدالله بن عباس الذي ولاه الإمام عليّ علي اليمن ودخلها ولم يعارضه أحد ووجد أميرهاالسابق يعلي بن منية قد جمع الأموال والخراج إلي مكة واستقر بها وقد اكتنز هذاالمال لنفسه .


هـ) أما أميرالكوفة عمارة بن شهاب فقد لقيه طليحة بن خويلد في الطريق وهو والي عثمان عليالكوفة فقال له : أرجع فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلا فإن أبيت ضربت عنقك فرجععمارة إلي المدينة وأخبر الإمام علي بما سمعه من طليحة . وهكذا تري هؤلاء الولاةالذين خصهم الإمام علي ووالهم بدلا من ولاة عثمان نري تفرق أهل الأمصار وتذبذبالرأي العام عند الكثيرين منهم ([4]) ، فلم يكن هناك إجماع علي أميرا واحدا للمؤمنين بل كانوا فرق وأحزاب وشيعاوأدرك الإمام علي أن الفتنة توشك أن تندلع وتعم .


لا شك أن تغييرالولاة كان يهدف الإمام علي من ورائه إلي طمئنة النفوس ويريد أن يوحي إلي الناسبداية عهد جديد تعود فيه الحقوق إلي أهلها وتعاد للدولة هيبتها وللخلافة الإسلاميةشأنها المرموق ويبعث الأمل في قلوب المؤمنين الذين اعتزلوا الناس ووسعتهم فيبيوتهم خوفا من انغماسهم في الفتنة .


ومن هذاالمنطلق فلا بأس علي الإمام علي أن يغير من الولاة ما يشاء ويرضي ويعزل كل منيغتاب فيه أو يشك في أمره فهو الخليفة وهو المسئول أمام الله وأمام المسلمين عليما يضر المسلمين أو يسئ إليهم فكيف يتعامل مع ولاة يحكمون الأمصار والأطرافالبعيدة من الدولة وهو غير مطمئن إليهم ، وما فعله عمر إنما تفعله الدول الكبرىوالمتقدمة اليوم ففي أمريكا يأتي الرئيس الأمريكي الجديد بعد انتخاب ويختار وزرائهوعماله الذين يثق فيهم ويتم عزل باقي الموظفين الذين كانوا في الحكومة السابقةوذلك ضمان لاستمرارية الحيوية في الدولة وظهور التجديد وضخها دائما بدماء جديدة .


ولنعود مرةأخري إلي الحديث عن الإمام علي وعماله حينما رجعوا إليه بعدما طردهم أهل الأمصاروقد كان أثر ذلك شديدا علي نفس الإمام علي فكيف يرجع إليه أمراؤه دون أن يتمكنوامن الإمارة في الشام والكوفة وكيف يتمكن عمال مصر والبصرة والكوفة بهذه الحالة منأخذ البيعة للإمام علي ؟ ودعا الإمام عليطلحة والزبير وقال لهما إن الذي كنت أحذركم قد وقع يا قوم وإن الأمر الذي وقع لايدرك إلا بإماتته ، وإنها فتنة كالنار ؛ كلما سعرت ازدادت واستنارت . فقالا له :فأذن لنا أن نخرج من المدينة ، فإما أن نكابر وإما أن تدعنا . فقال : سأمسك الأمرما استمسك ؛ فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي . ([5])


وهناك بعضالروايات تذكر أن أهل الكوفة قد بايعوا إلا نفرا قليلا منهم كما جاء في رسالة أباموسي الأشعري للإمام علي يبشره بتلك البيعة ( أبو موسي الأشعري كان والي عثمان بنعفان علي الصلاة بالكوفة بينما كان عمارة بن شهاب هو والي الكوفة للإمام علي) .


وقد هدأت نفسأمير المؤمنين بعض الشيء لمبايعة أهل الكوفة ولم يبق من عمال أمير المؤمنين عليرضي الله عنه وولاته إلا تلك الشخصية التي تقلقه وتقض مضجعه لما لها من ثقل عندالكثيرين ولاسيما بلاد الشام ألا وهي شخصية معاوية بن أبي سفيان والي الشامات كلهاوأميرها منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اجتمعت كلمة أهل تلك الناحية عليشخص معاوية وأجمعوا عليها لما وجدوا منه من سياسة حكيمة وود وتقارب واصطفاء لكبارالقواد والسابقين من الصحابة التابعين حتى صار معسكره أقوي وأكثر عددا وعدة منمعسكر علي بن أبي طالب آنذاك .


ورأي الأمامعلي أن البلاء والإبتلاء الذي سيحل بالمسلمين إنما سيكون من جهة أهل الشام فأغلبالولايات قد بايعت وأطاعت له .


لقد أرسلالإمام علي إلي معاوية رسالة مع سبرة الجهلي ودخل سبرة علي معاوية في الشام وسلمهرسالة أمير المؤمنين علي واستلمها معاوية ولكنه لم يجب عنها بشيء وظل سبره ثلاثةأشهر ينتظر الرد من معاوية ثم دعا معاوية برجل من بني عبس وأحد بني رواحة يدعيقبيصه فدفع إليه طومار([6]) ، مختوما عنوانه من معاوية إلي علي وقال له معاوية إذا دخلت المدينة فأقبضعلي أسفل الطومار ( ليظهر عنوان الرسالة ) وسرح رسول علي ولما قدم قبيصه المدينةودخلها رفع الطومار كما أمره معاوية وخرج الناس ينظرون إليه وقد علموا أن معاويةمعترض ، ومضي قبيصه حتى دخل علي عليّ فدفع عليه الطومار ففض خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة فقال للرسولما ورائك فطلب الأمان فأمنه علي وقال إن الرسل آمنة لا تقتل قال إني تركت قوما لايرضون إلا بالقود ([7]) ، قال : ممن ؟ قال : من خيط نفسك وتركت ستين ألف شيخ([8]) ، يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم ، قد ألبسوه منبر دمشق . فقال : منييطلبون دم عثمان ! ألست موتورا وترة عثمان ! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ؛نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله ، فإنه إذا أراد أمرا أصابه ([9]) . وهذا التصرفالذي بادر به معاوية فقد كان يتعمده حيث أخر الرد علي أمير المؤمنين ثلاثة أشهرحتى يتبين له الأمر ويعرف موقف الناس من الإمام علي فإن وجده مع علي بايع له وأطاعوإن وجدها ضده أصر وعارض . وقد واتتهالظروف علي ما يشتهي ويريد . وقد وصل إلي مسامعه ما تم الاتفاق عليه بين أمالمؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعهم نفرا من أهل مكة إذ قرروا جميعا الخروجوالمطالبة بدم عثمان ولكن إلي أين يتجهوا هذا ما سنعرفه بعد المهم أن هذا التصرفلأم المؤمنين عائشة ومن معها قد شجع معاوية علي رفض بيعة الإمام علي أو أن يتمهلفيها إلي حين .


ولعل ذكاءمعاوية رضي الله عنه ظهر واضحا في استغلال قميص عثمان في الشام وفي إثارة عواطفالمسلمين وتحريك مشاعرهم نحو المطالبة بدم عثمان وقد حمل القميص النعمان بن بشيرملطخا بدمه ومعه أصابع نائلة زوجة الخليفة الراحل عثمان والتي بترت أصابعها مع جزءمن كفها وهي تدافع عن عثمان بن عفان وأخذ معاوية القميص وعلق أصابع نائلة في كمهووضعه علي المنبر ليراه الناس وأخذ الناس يبكون حول المنبر سنة كاملة وقد أدركمعاوية أن كل الأمور تسير ضد الإمام علي وأن قميص عثمان قد أثار الناس ضده جاء ردمعاوية علي رسالة الإمام علي الذي تطالبه بالدخول في الطاعة والتزام جماعةالمسلمين ولنتأمل معا رسالة علي المقتضبة والمختصرة إلي معاوية يقول فيها : ( أمابعد .. فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان رضي الله عنه واجتماع الناس عليّومبايعتهم لي فدخل في السلم أو أئذن ) .


وكان رد معاويةقاسيا وقد أدركه الإمام علي وفهم ما ينطوي عليه من تمرد أو خروج عن الطاعة وقدفهمنا سابقا أنه أمر بطومارين ووصل أحدهما بالأخر ولم يكتب فيهما شيء إلا بسم اللهالرحمن الرحيم فلما فضه علي لم يجد فيه شيء فسأل حامله ما ورآك فقال إني قد خلفتبالشام خمسين ألف شيخ خضبوا لحاهم بدموعهم تحت قميص عثمان رافعيه علي أطراف الرماحعاهدوا الله ألا يغمدوا سيوفهم حتى يقتلوا قتلته أو تلحق أرواحهم لله .


إن هذا القولالذي لقنه معاوية لحامل الطومار قد أدركه وأدرك معانيه وبغيته أصحاب علي منذ أنوصل كلام حامل الرسالة إلي مسامعه فقام خالد بن زفر وقال لحامل الطومار بئس اللهوافد الشام أنت ! أتخوف المهاجرينوالأنصار بجنود أهل الشام وبكائهم علي قميص عثمان ؟ فوالله ما هو بقميص يوسف ولابحزن يعقوب ولئن بقوا عليه بالشام فقد خذلوه بالعراق .


واستمع إلي ردالإمام علي ذلك الرجل التقي والورع حينما سمع ذلك قال أمنًّي يطلبون دم عثمان ؟ألست موتورا كترة عثمان ؟ اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان . نجا والله قتلة عثمان، إلا أن يشاء الله فإنه إذا أراد شيئا أصابه ثم ألتفت إلي حامل الرسالة ذاك فقالله اخرج . وحينما خرج صاحت السبئية قائلين هذا الكلب هذا وافد الكلاب أقتلوه فناديمستغيثا يا آل مضر يا آل قيس منعته مضر وجعل يقولون له أسكت فيقول لا والله لايفلح هؤلاء أبدا فلقد آتاهم ما يوعدن فيقولون له أسكت فيقول لقد حل بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم . ([10])


لقد أدركالإمام علي مراد معاوية وأحس أيضا أن أهل الشام قد أثر فيهم قميص عثمان تأثيراكبيرا وأن أهل الشام ومعهم معاوية لن يهدأ لهم بال إلا بثورة عارمة ضد الإمام عليوقد تصل هذه الثورة إلي مقر عاصمة الدولة وما البكاء علي قميص عثمان إلا خروج عليالخليفة نفسه وتمزيق وحدة المسلمين لهذا بادر الإمام علي بالزحف إلي الشام حين إذنكتب الخليفة إلي عماله في الأقاليم يتأهبوا ويستعدوا للخروج فكتب إلي قيس بن سعدفي مصر وإلي أبي موسي الاشعري في الكوفة وإلي عثمان بن حنيف بالبصرة وطالبهم أنيستنفروا الناس بحرب أهل الشام وأن يقفوا بجانب الإمام لنصرته في تلك الحرب فرفضأمير المؤمنين يقول للناس وينظم صفوفهم وولي الأمراء علي ميمنة وميسرة الجيش وحملمحمد بن الحنفية اللواء وعزم علي أن يقاتل هؤلاء الذين عصوه وأدوا إلي فرقة المسلمين واختلاف كلمتهم .


وهذه الحرب وإنكانت مع مسلمي الشام الذين تمردوا علي الإمام علي وشقوا عصا الطاعة وخرجوا عنالجماعة فحق له أن يقاتلهم ليعيدهم إلي الجماعة ويوحد كلمة المسلمين والأمر هناأكبر بكثير من خروج جماعة ولم تبايع أو جماعة تخالف جماعة في الرأي ولكن الأمرأكبر من ذلك بكثير فإن معاوية وأهل الشام ومن يؤازرهم قد اتهموا الإمام علي بأنهضالع بقتل عثمان وأنه يأوي قتلته ويحميهم . وهم بذلك لم يكفهم طلب الثأر إنما هميريدون الانتقام من علي . فلا عجب أن يتضحمعني قول العبسي حامل الطومار : ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود وحينماسأله الإمام علي من منّ ؟ قال من خيط رقبتك إذن فالأمر ليس اختلاف في الرأي ولاأمر بيعة إنما هو انتقام من علي وقطع رقبته فهل يسكت الإمام علي رضي الله عنهعليهم حتى يقتلوه كما قتلوا عثمان بالأمس .


وإن كان دمالمسلم علي المسلم حرام والقاتل والمقتول في النار إلا أن الإمام علي كان يكرهالخروج في مثل تلك الحرب القذرة التي كان لا يتمناها وقد دخل عليه أبنه الحسن رضيالله عنه حينما رآه يستعد لقتال أهل الشام : يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماءالمسلمين ووقوع الخلاف بينهم . ([11])


كما حاول أهلالمدينة أن يثنوا عليا عما عزم عليه ويجنبوه حرب أهل الشام وأن يستعمل معهم الرفقواللين في بادئ الأمر فرفض الإمام علي هذا العرض إذ أن أهل الشام استعدوا له كماانه وجد من جرئه وسعي به نحو الفتنة في الشام حيث خيل إليه إنه لا يحسم هذا الأمرإلا القوة وقد تفرغ لذلك تماما ولكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فما الذيحدث وما الذي غير وجهته .

* * * *


(2)


محاسبة علي لولاته





عرفنا سابقا فيالحديث عن الفاروق عمر أنه كان شديدا مع ولاته يحاسبهم أولا بأول علي تقصيرهم فيخدمة العباد أو ظلمه لأحد من الرعية . كما كان دقيقا في محاسبة ولاته لبيت مالالمسلمين فكان لا يسمح لأحد منهم أن تمتد يديه إلي ذلك المال وكان من عادته عندتولية الولاة أن يحصي أموالهم أولا ثم يحصيها مرة أخرى عند عزله أو عندما يعلمباغتناء أحدهم بالأموال غناءا ملحوظا أكثر مما يستحق فكان يحاسبهم علي ذلك وإذاثبت اختلاسهم لأموال بيت المال أو أشتغلوا بالتجارة فكان يقاسمهم نصف أموالهم ولقدروي في ذلك روايات كثيرة تدل علي اهتمام عمر بمحاسبة الولاة ليضمن العدلوالاستقرار والطمأنينة للمسلمين ولاسيما الأمصار البعيدة عن المدينة وإن كان هذاالحديث لا موضع له هنا لأنه سبق الإشارة إليه ، إلا أنني أردت أن أبين قضية مهمةفي هذا المجال ؛ فإن طول المدة التي قضاها عمر في خلافته كانت تناهز الثلاثة عشرعاما وهي مدة منفسحه إذا قيست بمدة الإمام علي في خلافته التي لا تتجاوز الأربعسنوات .


إن طول مدةالخلافة عند عمر وكذلك عثمان قد مكنت كلامنهما أن يقنن ويحدد سياسته الخارجية والداخلية وقد اتضحت السياسة الخارجية فيتعامل أبو بكر وعمر وعثمان مع أعداء الدولة الإسلامية في مجالي : الفرس والروموكيف أنتشر الفتوحات وأنتشر معها الدعوة الإسلامية شرقا وغربا .


أما خلافةالإمام علي فقد كانت قصيرة الأمد وقد أنشغل فيها الإمام بالفتنة الداخلية ومسائلأخرى أرهقته كثيرا من المتمردين والخارجين عليه إلي غير ذلك فلا غرو إن قلنا أنخلافة الإمام علي لم يتضح لها أبعاد واضحة في مجال السياسة الخارجية إذ أنشغلالإمام كما قلنا في مواجهة المشاكل التي واجهته والتي استغرقت سني خلافته كلها ،ويمكننا أن نطلق عليها السياسة الداخلية المتمثلة في أعمال الحكومة ومراقبة الولاةومحاسبتهم ثم إعداد الجيوش تلو الجيوش لمواجهة الخارجين علي الخلافة .


إن السياسةالداخلية للإمام علي إنما هي سياسة الخلافة الدينية في مواجهة الملك العضوض فيالشام والتي بات يسري بعض أنظمتها ربوع البلاد مما حدا بالإمام علي أن يقاوم ذلكالاتجاه الدنيوي بكل ما يملك حتى كاد فداءا للخلافة الدينية ومن ملامح السياسةالداخلية التي اتبعها أمير المؤمنين علي :


1- المساواة :فالناس في الحقوق عنده سواء لا فرق بين قوي وضعيف أو عربي وأعجمي لذا نراه يعمدإلي القطائع التي وزعها من كان قبله علي المقربين والرؤساء فينتزعها ويردها إليبيت مال المسلمين لتوزع علي من يستحقه ويقول الإمام علي في هذا الصدد ..... فإن فيالعدل سعه : وإن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق .


2- كما فرضالرفق بالرعية فلا يرهقوا الناس ولا يستغلوا ثرواتهم ويقضوا لهم حوائجهم وكاندائما يوصي ولاته : ( أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعيةولا تحسنوا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته .


وكان رحمه اللهعندما يشرع بعض التشريعات التي تنظم امور الدولة فكاد يوضح أسباب ذلك ويعتنيبتفسير روح القانون كما يقولون فأنظر إليه وهو يوصي عماله عند تحصيل الخراجوالصدقات ( .. امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ، ولا تخدعبالتحية لهم ، ثم تقول : عباد الله . أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حقالله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم حقفتؤدوه إلي وليه ؟ فان قال قائل : لا ، فلا تراجعه ... وإن أنعم لك منعم ، فانطلقمعه من غير ان تخيفه وتتوعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة ،فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا باذنه ، فإن أكثرها له .... فإذا أتيتهافلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به ... ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها ، ولاتسوءن صاحبها فيها ، وأصدع المال صدعين ، ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لماأختاره ، فلا تزال كذلك حتى يبقي ما فيه وفاء حق الله في ماله فاقبض حق الله منه ،فإن استقالك فأقله ...) . ([12])


وقد كان لعليبن أبي طالب فلسفته في تحصيل الضرائب المفروضة علي الناس حيث كان يري أن عمارةالأرض أفضل من النظر في تحصيل الضريبة فاستمع إليه وهو ينصح واليه ( .. تفقد أمرالخراج بما يصلح أهله .. فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمنسواهم إلا بهم ... لان الناس كلهم عيال علي الخراج وأهله وليكن نظرك في عمارةالأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن جلبالخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقيم أمره إلا قليلا ، وإنمايؤتي خراب الأرض من اعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها اسراف الولاة الجمع ، وسوءظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر..).([13])


3- وكان ينظمعلاقات الولاة والعمال بما فيه النفع للإسلام والمسلمين وقد كتب إلي الأشتر النخعيمحددا له كيفية التعامل مع الناس فيقول له : (( انظر في أمور عمالك ، فاستعملهم اختبار ولا تولهم محاباة واثرة ... فانهمجماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتاتالصالحة والقدم في الإسلام ، فانهم أكثر أخلاقا واصح اعراضا وأقل في المطامعاسرافا ، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا .... ثم اسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوةلهم علي استصلاح أنفسهم ، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفواأمرك أو ثلموا أمانتك ، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والعيون عليهم.... فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الأمانة والرفق بالرعية )) . ([14])


وكان الإمامعلي دائم الاستطلاع لأحوال الولاة والعمال وكان يوصيهم بعدم كشف معائب الناس ( ..فإن في الناس عيوبا ، الوالي أحق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك كما كان يأمرولاته باتخاذ بطانة حسنة وينهيهم عن بطانة السوء استمع إليه وهو يوصي محمد بن أبيبكر (( لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور ، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور ... فان البخلوالجبن والحرص غرائز شتي يجمعها سوء الظن بالله ... أن شر وزرائك من كان للأشرارقبلك وزيرا ، ومن شركهم في الآثار فلا يكونن لك بطانة ، فانهم أعوان الاثمة واخوانالظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ... وليس عليه مثلآصارهم وأوزارهم )) .


وقد مال الإمامعلي رضي الله عنه إلي تعيين أقاربه في الولايات وبعض الوظائف فأقام عبد الله بنعباس علي البصرة ، وعبيد الله بن العباس علي اليمن ، ومحمدا بن أبي بكر بن زوجتهعلي مصر وهؤلاء أقرباؤه فهو ذلك يصنع ما أنكره علي عثمان حين آثار أقاربهبالولايات . فكيف يرضي الإمام بأمر ينقبة علي الآخرين ؟


الحقيقة إنالأمر مختلف والمقارنة غير منضبطة وذلك لاختلاف الظروف والغايات والمبررات فهناكفارق كبير بين تعين عثمان وتعين الإمام علي فبنو هاشم أقارب علي لم يكون لهم متسعلعمل أو ولاية إلا في حكومة الإمام فلم يستعن بهم عثمان من قبل ولا عمر كما أنالإمام علي قد أعتمد عليهم اعتمادا كليا بعد أن حاربته قريش وشاعت الفرقة والشغببين أعوانه من أبناء الأمصار وهم مع ذلك لم يستأثروا بالولايات كلها ولم يؤثرواأنفسهم بالمال والثراء دون الناس بل كانالإمام يضيق عليهم ويراقبهم ويحاسبهم علي ما في أيديهم أشد الحساب ولسنا في حاجةإلي أن نؤكد محاسبة الإمام علي لولاته وخاصة أقاربه فقد وصل به الحال أنه كانيحاسبهم علي حضور الولائم التي لا يجمل بهم أن يحضروها وقد كتب إلي عثمان بن حنيفالأنصاري عاملة علي البصرة : (( أما بعد يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلي مأدبة ...فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان . وما ظننت أنك تجيب إلي طعامقوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو ، فانظر إلي ما تقضمه من هذا المقضم ... فما اشتبهعليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه )) .([15])



1- أنظر بن الأثير ج3 صـ189 .

2- الطبري ج4 صـ441 .

3- أنظر ابن الأثير ج3 صـ197 .

1- أنظر في توزيع الإمام علي عماله علي الأمصارالطبري ج4 صـ442 وما بعدها وابن الأثير ج3 صـ202 ،203 ،204 .

1- ( الطبري ج4 صـ443) .

1- ورق مكتوب فيه .

2- القود : القاتل بالقتيل .

3- ورد في البداية والنهاية ج7 صـ240 أنه ترك ورائهسبعين ألف شيخ .

4- الطبري ج4 صـ444 .

1- الطبري ج4 صـ444 .

1- ابن الأثير ج7 صـ230 .

1- العقاد عبقريةالإمام علي صـ122 .

2- المصدر السابقونفس الصفحة .


1- العقاد عبقريةالإمام علي صـ123 .


1- أنظر العقاد عبقرية الإمام علي صـ124 .




u.g ,ghm uelhk ,juddk Novdk